فقالت بمباهاة: أتقدم في عملي كما ترى، وتعاونني في تربية الطفلين امرأة طيبة، وهو يمدني بالنفقة الشرعية.
ولما قامت ثورة يوليو بذرت في ساحة صداقتنا الهادئة بذور خلاف عنيد لأول مرة، فاتهمتها بأنها ثورة رجعية، أو لون جديد من الفاشستية، أو انقلاب برجوازي صغير يشبع تطلعات أمثالي من البرجوازيين الصغار! وأصرت على رأيها حتى اتجهت الثورة إلى الكتلة الشرقية؛ فأخذ عنادها يلين ورأيها يتغير، وساءتني وحدتها كثيرا، وشعرت بأنها تعاني منها مرارة حادة، ولكنها رفضت دائما رغبات الزملاء الجامحة العابثة انتظارا للحب الحقيقي الذي تعبده كما قالت لي من قديم، وبصراحتها العذبة قالت لي مرة: خدعت مرة واحدة! - لا أصدق. - طبيب أطفالي عليه اللعنة! - ولكن كيف .. ؟ - وكان أيضا متزوجا! - ولكن الرجل المتزوج .. ؟! - خطأ حقيقة ولكنه الحب، وأفهمني أنه غير سعيد وأنه سيطلق لأسباب لا تتعلق بي! - وصدقته؟ - ما أفظع الخداع، إنه أنكر من القتل، وسلمت بدون قيد ولا شرط. - شيء فظيع حقا. - عليه اللعنة، وكانت أيامه سوداء كخداعه فكنا نلتقي في عيادته في جو غارات الاعتداء الثلاثي.
ومنذ تلك التجربة المريرة استقر سوء الظن في أعماقها فتضاعف شعورها بوحدتها، وحنينها إلى الحب الحقيقي، ومضى يغزوها الزمن حتى بلغت اليوم الخمسين من عمرها، وقد تزوجت ابنتها، وسافر ابنها للعمل في إذاعة الكويت، فغرقت في الوحدة والكهولة حتى قمة الرأس. وما زالت حتى اليوم محافظة على رشاقة قدها، ومسحة من جمالها، وإذا دعيت إلى التلفزيون فهي تستأثر بالأنظار والأسماع بقوة شخصيتها ومرونة منطقها وغزارة معلوماتها، وإذا خلوت إليها خيل إلي أني استمع إلى وحوحة تند من أعماقها.
وما زالت مواظبة على زيارة أستاذها القديم الدكتور زهير كامل، كما نشأت صداقة حميمة بينها وبين زوجته الجديدة الصغيرة نعمات عارف، ولا شك أنها علمت بعلاقتها بالدكتور صادق عبد الحميد، ولكنها تجاهلت ذلك تماما، وتمنت ألا تنكشف الحقيقة لأستاذها أبدا. وعلمت أخيرا - وسعدت بذلك جدا - أنها ستقوم برحلة صحفية لزيارة بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط فقلت لعلها تجد فيها تسلية عن وحدتها وتجديدا لحياتها ومادة طريفة لقلمها.
ناجي مرقص
لا أنسى هذا الاسم أبدا، لم يمح من ذاكرتي كأنه اسم علم من الأعلام، رغم أنني لم أزامله إلا ثلاثة أعوام من حياتي، ما بين 1925 و1928 في المدرسة الثانوية. أمضى فترة الدراسة الابتدائية في السودان حيث كان يعمل والده، ولما عاد الرجل إلى مصر أقام في العباسية وألحق ابنه بمدرستنا، وقال ناجي لي يوما: كنا إخوة أربعة، مات ثلاثة، وبقيت أنا.
وقال لي مرة أخرى: أمي حزينة لا تضحك أبدا.
وكان رشيقا طويلا وسيم الوجه لطيفا مهذبا ورزينا لدرجة لا تناسب سنه، ولعله كان الوحيد في سنة أولى الذي يلبس بنطلونا طويلا، وربما كان أنبغ تلميذ صادفته في حياتي. كان لكل تلميذ مجال في تفوقه إن وجد، فتلميذ يتفوق في اللغات وآخر يتفوق في الرياضيات وهكذا، أما ناجي مرقص فكان متفوقا في جميع المواد، في العربية والإنجليزية والفرنسية والحساب والجبر والهندسة والطبيعة والكيمياء والتاريخ والجغرافيا، وكان الأول دون نزاع، وكان المدرسون على اختلاف جنسياتهم من مصريين وإنجليز وفرنسيين يحترمونه ويعاملونه كأنه رجل لا تلميذ، وكان بدر الزيادي يسميه عبد الحليم المصري تشبيها لتفوقه بقوة المصارع الشهير. وسألته يوما: كيف تفوقت في جميع المواد؟
فأجاب بأدبه الجم: أنتبه في الفصل وأذاكر من أول يوم في السنة الدراسية.
وسأله جعفر خليل: ألا تذهب إلى السينما كل خميس؟ - في الأعياد والمواسم فقط.
অজানা পৃষ্ঠা