ولا أكاد أشك في أن وثنية أهل مكة لم تكن صادقة ولا خالصة، وإنما كانوا يتجرون بالدين كما كانوا يتجرون بالعروض التي كانوا يجمعونها من الجنوب ومن أنحاء الجزيرة العربية لينقلوها إلى أقطار أخرى من الأرض كانت محتاجة إليها. فهم كانوا أذكى قلوبا وأنفذ بصيرة وأكثر ممارسة لشئون الحياة في قريتهم تلك وفي غيرها من المواطن التي كانوا يختلفون إليها بتجارتهم. وهم كانوا بحكم ممارستهم للتجارة يتصلون بأمم متحضرة في الشام ومصر وفي العراق وبلاد الفرس أيضا. وكانوا يرون مذاهب هذه الأمم في الحياة ومذاهبهم في الدين أيضا؛ فلم يكن من الممكن أن يؤمنوا لهذه السخافات التي كان يؤمن بها العرب الوثنيون.
فإذا أضفت إلى ذلك أن الكعبة كانت في ظهرانيهم، وأن العرب كانوا يحجون إلى هذه الكعبة من جميع أنحاء الجزيرة، وأنهم لم يكونوا يأتون مكة للحج وحده، وإنما كانوا يأتون للحج والتجارة أيضا في تلك الأسواق التي كانت تقام كل عام تقريبا من قريتهم؛ عرفت أنهم إنما كانوا يظهرون الإيمان بتلك الوثنية والتعظيم لتلك الآلهة ترغيبا للعرب في الحج وتحقيقا لمنافعهم منه.
والذي نراه من حياة قريش قبيل الإسلام وحين بعث النبي
صلى الله عليه وسلم
فيهم يدلنا أوضح الدلالة وأقواها على أنهم لم يكونوا أهل إيمان ولا أصحاب دين، وإنما كانوا قبل كل شيء أصحاب تجارة يسعون فيها عامهم كله، تسافر قوافلهم في جميع العروض ثم تعود فتستقر في مكة وقتا لتسافر بعد ذلك بهذه العروض تحملها إلى الآفاق. ولم يكونوا يؤثرون على تجارتهم شيئا، ولم يكن يشغلهم إلا التفكير في جمع المال من أغنيائهم وأوساطهم وفقرائهم أيضا لجلب العروض ثم بيعها وجلب عروض أخرى لبيعها في الجزيرة العربية نفسها وفي توزيع الأرباح التي تحققها التجارة على أصحاب الأموال. فكانوا ينفقون عامهم في أخذ وعطاء وانتقال واستقرار يتحدثون في المال والتجارة إذا لقي بعضهم بعضا، ويفكرون في المال والتجارة إذا خلوا إلى أنفسهم، وإذا شغفت النفوس بالمال وجدت في جمعه واستثماره شغلت به عن كل شيء وملك عليها أمرها كله، وأوشك أن يكون لها إلها تعبده وحده لا تشرك به شيئا.
والمال فتنة لقلوب الرجال يفسد عليها كل شيء ويوشك أن يصرفها عن كل خير. وكذلك كانت قريش في ذلك العصر: مؤمنة بالمال مذعنة لسلطانه، لا يعنيها إلا أن تستثمره وتكثره وتضيف بعضه إلى بعض، وتستمتع أثناء ذلك بما يمكن أن يتيح لها من طيبات الحياة وخبائثها أيضا. فقريش كانت تحب الترف بمقدار ما يتاح لمثلها منه، وتحب التسلط بشرط أن لا ينقص من مالها شيئا.
وإذا أردت أن تصور مكة كما كانت في ذلك العصر، فاذكر مدينة من مدن الفينيقيين الذين لم يكن يعنيهم إلا التجارة والمال، واذكر بعد ذلك أن المدن الفينيقية لم يكن في واحدة منها بيت يجمع الناس إليه من الآفاق كما كانت الحال في مكة.
وكان سكان مكة في ذلك العصر يأتلفون من طبقات ثلاث: طبقة لها كل الحقوق وهي قريش، تستند حقوقها إلى ما كانت ترى من شرف أصولها أولا ومن أنها صاحبة البيت ثانيا، وكانت هذه الطبقة الشريفة المستأثرة بالحقوق كلها تنقسم في نفسها إلى: فئة الأغنياء أولي الثراء العريض، وفئة الذين يملكون من المال ما يتيح لهم أن يتجروا سواء سافروا للتجارة أو اكتفوا بإعطاء أموالهم للمتجرين، وفئة أخرى فقيرة قد تملك القليل وتتجر فيه وقد لا تملك شيئا فهي مضطرة إلى أن تعمل لتعيش.
وهذه الفئات الثلاث من قريش كلها متساوية في الشرف وفي الاستمتاع بالحقوق، وهي من أجل ذلك تكون فئة ممتازة لطبقة السادة.
وتأتي بعدها طبقة أخرى هي طبقة الحلفاء، وهم ناس من العرب على اختلاف قبائلهم آووا إلى مكة ليأمنوا فيها؛ فهي مدينة حرام يأمن اللاجئ إليها مهما تكن جنايته وجرائره على قومه، وناس من العرب آخرون تسامعوا بغنى قريش ودعة الحياة في مكة فأقبلوا يبتغون فضلا من رزق. وكل هؤلاء وأمثالهم لم يكن يتاح لهم المقام المطمئن في مكة إلا إذا حالفوا حيا من أحياء قريش أو فردا من أفرادها. فهم أحرار إذا حفظوا حق الحلف والجوار، تحميهم قريش فيأمنون ويسعون في الرزق، ولكنهم ليسوا من قريش، وإنما هم طبقة دونها تعيش في ظلها ولا تشارك في حقوقها.
অজানা পৃষ্ঠা