الكتاب الأول
الكتاب الثاني
الكتاب الأول
الكتاب الثاني
مرآة الإسلام
مرآة الإسلام
تأليف
طه حسين
الكتاب الأول
1
অজানা পৃষ্ঠা
في أواسط القرن السادس للمسيح كانت الأمة العربية متخلفة أشد التخلف بالقياس إلى الأمم التي كانت تجاورها، لها في الجنوب بقايا حضارة كانت قد درست، ولم يكن أهل الجنوب أنفسهم يعلمون من أمرها إلا أخلاطا هي إلى الأساطير أقرب منها إلى الحق.
كانوا يذكرون حمير وملوكها من التبابعة، وكانوا يذكرون سبأ، وكانوا يذكرون الأذواء، بل كان الأذواء ما يزالون يحتفظون بشيء من سلطانهم، يعيشون في حصونهم ويتسلطون على أهلها وعلى من حولها في حواضر الجنوب وبواديه.
وكانت هناك مع ذلك قبائل متبدية لا تخضع لأحد منهم، وإنما تعيش عيشة الأعراب في بواديهم. وكانت في الجنوب مدن كبار أو صغار فيها بقية من حضارة، ولكنها لا تغني عن أصحابها شيئا. ولم يكن الجنوب العربي خالصا للعرب، وإنما كان الحبشة يتسلطون على جزء عظيم منه، وعجز العرب عن إجلاء هؤلاء المحتلين فاستعانوا بالفرس على ذلك وأعانهم الفرس، ولكن لا ليردوا عليهم سلطانهم ولا ليخلصوا لهم وطنهم، بل ليقوموا مقام الحبشة الذين أجلوهم.
وكان أهل الجنوب مع ذلك قد وصلت إليهم دعوة الدينين: اليهودي والمسيحي. وأكبر الظن أن يهوديتهم ومسيحيتهم كانتا تتأثران بجهلهم وغلبة البداوة عليهم. كالذي سنراه حين نتحدث عن شمال الجزيرة.
ومهما يكن من شيء فمن الإسراف في الخطأ أن نظن أن أهل جنوب الجزيرة العربية في ذلك الوقت قد كانوا على شيء ذي خطر من الحضارة بمعناها الصحيح. ولكنهم على كل حال كانوا يحيون حياة خيرا من الحياة التي كان يحياها سائر الأمة العربية في قلب الجزيرة وشمالها.
كانت لهم بقية من زراعة وكانت تصل إليهم تجارة الهند وأشياء من تجارة الحبشة والفرس، وكان أهل الشمال كما سنرى يلمون بهم كل عام فينقلون ما عندهم من التجارة لينشروها في العالم المتحضر. وكان هذا كله يتيح لهم شيئا من ثراء، فلم يكن عيشهم قاسيا ولا غليظا كعيش غيرهم من العرب.
وكان ما ورثوا من بقايا حضارتهم الدارسة وما وصل إليهم من الديانتين السماويتين وما أتيح لهم من هذا الثراء المتواضع؛ كان كل ذلك قد جعلهم أرق قلوبا وأصفى طباعا من أهل الشمال. ولكنهم على هذا كله كانوا متخلفين بالقياس إلى الأمم المتحضرة، فكانت كثرتهم الكثيرة أمية وكان أقلهم يكتبون ويقرءون.
فإذا تركنا الجنوب إلى قلب الجزيرة العربية - أي إلى نجد - فالحياة القاسية والعيش الغليظ والجهالة المطبقة، ونظام القبائل الذي يقوم على العصبية أكثر مما يقوم على أي شيء آخر.
ولم يكن حال الشمال من تهامة والحجاز خيرا من حال نجد، وإن وجدت في الحجاز مدن أو قرى، كما كان يقال في تلك الأيام، وإن عاش أهل هذه المدن أو القرى عيشة الاستقرار والدعة لا يرحلون عن مدنهم أو قراهم تتبعا للغيث والتماسا للكلأ، وإنما يرحلون تجارا إلى الجنوب في الشتاء وإلى الشمال في الصيف، كما يحدثنا بذلك القرآن الكريم عن قريش.
كان لأهل الطائف وأهل يثرب شيء من زراعة، ولكن حياتهم كانت تقوم على زراعتهم هذه اليسيرة وعلى تجارتهم أيضا، وكانت حياة مكة تقوم على التجارة من جهة وعلى الحج من جهة أخرى، يفد إليها العرب من أقطار الجزيرة في موسم الحج فيقضون نسكهم ويتجرون أيضا وتنتفع مكة بما يحملون من ألوان التجارة.
অজানা পৃষ্ঠা
ومن حول هذه المدن أو القرى كانت البوادي بما فيها من شظف العيش وقسوة الحياة والتنقل في التماس المراعي، والخصومات المتصلة التي تثيرها العصبية بين القبائل، والتي تنتج عنها الغارات والحروب. ومع ذلك فلم يستطع أهل هذه المدن أو القرى أن يبرءوا من العصبية، ولا أن يعيشوا عيشة المتحضرين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وإنما كانت العصبية قوام حياتهم، يعيشون عيشة القبائل في البادية، وقد تثار بينهم الخصومات، وقد تشب بينهم الحروب.
وكان هذا كله يستتبع كثيرا من جفاء الأخلاق وغلظ القلوب، بحيث لم تكن حياة أهل القرى تمتاز من حياة أهل البادية إلا بشيء من ثراء كانت تستأثر به قلة من الأغنياء، الذين يتسلطون على من يعيش معهم من الناس تسلطا لا يخلو من عسف وظلم وأثرة واستعلاء. وكانت اليهودية قد استقرت في شمال الحجاز لأسباب لا نحققها ولا يبينها التاريخ؛ فإلى جانب الأوس والخزرج في يثرب كانت تعيش قبائل يهودية، وفي خيبر كذلك. وهذه القبائل اليهودية كانت تحيا نفس الحياة التي كان العرب يحيونها من حولها، قليل من حضارة وكثير من بداوة.
وكانت كثرة اليهود في الحجاز أمية كالعرب، لا يقرأ ولا يكتب منهم إلا أحبارهم. وكان هؤلاء الأحبار أقرب إلى الجهل منهم إلى العلم، وقليل منهم من كان يحسن العلم بدينه فكيف بسائر اليهود!
وسنرى فيما يأتي من هذا الحديث كيف صور القرآن الكريم جهل اليهود من أهل الحجاز دينهم وكتابهم. ولسنا نعلم على سبيل التحقيق متى وصلت بعض القبائل العربية إلى أطراف الشام وأطراف العراق.
ولكن المحقق أن العرب في ذلك العصر الذي نتحدث عنه كانوا قد جاوزوا الجزيرة العربية شمالا إلى الشام واستقروا في أطرافه، وأنهم كذلك كانوا قد جاوزوا جزيرة العرب شرقا إلى العراق وإلى الجزيرة. وغلبت النصرانية على أولئك وهؤلاء، ولكنها كانت نصرانية خاصة يجهل أصحابها حقائقها ولا يكادون يعرفون منها إلا مظاهر وصورا.
وكما أن الإمبراطورية البيزنطية قد حمت هؤلاء العرب في الشام واتخذت منهم حرسا للحدود بينها وبين الجزيرة العربية وجعلت منهم ملوكا وسادة، وأجزلت لهم العطاء ويسرت لهم سبل العيش؛ فكذلك صنعت الإمبراطورية الفارسية بالعرب الذين استقروا في العراق، اتخذتهم حرسا للحدود بينها وبين الجزيرة العربية وجعلت منهم ملوكا وسادة، وملكت بعضهم الأرض وأغدقت عليهم العطاء.
2
وإذن فقد عرف العرب النصرانية في الشام والعراق، وربما عرفوها في مكة أيضا وفي الطائف بفضل التجارة من جهة، وبفضل من كان يصل إليهم من الرقيق من جهة ثانية، وبفضل بعض التجار الذين غامروا بأنفسهم وبتجارتهم فوصلوا إلى مكة واستقروا فيها، وكذلك عرف العرب المسيحية في الجنوب في مدينة نجران التي اضطهد المسيحيون من أهلها وعذبوا في دينهم كما يحدثنا المؤرخون، وعرف العرب اليهودية في جنوب الجزيرة وشمالها.
فليس صحيحا إذن أن الأمة العربية في ذلك العصر كانت تعيش في عزلة لا تعرف من أمر الأمم المجاورة لها شيئا؛ فاليهودية والمسيحية لم تتنزلا على أهل الجنوب ولا على أهل الشمال من السماء، وإنما جاءتا أولئك وهؤلاء من الاتصال بالأمم المتحضرة المجاورة.
وليس من شك في أن بعض العرب الذين جاوروا الفرس وخضعوا لسلطانهم خضوعا ما قد عرفوا المجوسية الفارسية واتخذوها لهم دينا. وقد يقال إن أهل البادية في نجد وتهامة والحجاز كانوا بمعزل من هذا كله، قد انقطعوا لأنفسهم وفرغوا لحياتهم تلك الغليظة القاسية، ولكن هذا أيضا لا يستقيم؛ فمن عرب البادية والقرى ظهر شعراء كانوا يلمون بعرب الشام وعرب العراق ويأخذون جوائز ملوكهم وسادتهم، ويعودون بعد ذلك إلى قومهم في البادية فيحدثونهم بما رأوا وما سمعوا.
অজানা পৃষ্ঠা
وهذه التجارة المتصلة بين أهل القرى وبين الأمم المجاورة كانت جديرة أن تعرف العرب كثيرا من شئون الفرس والروم والحبشة أيضا. ولأمر ما تنصر أفراد من قريش كورقة بن نوفل وزيد بن عمرو، ولأمر ما نجد فيما ينسب إلى بعض الشعراء في ذلك العصر من الشعر ما يدل على أنهم قد عرفوا أطرافا من المسيحية واليهودية كالذي نجده عند النابغة الذبياني وعند زهير وعند الأعشى وعند أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه النبي
صلى الله عليه وسلم
فيما روى الشيخان: «كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم.»
ونحن لا نجد عند الشعراء هذه الأطراف من الديانتين اليهودية والمسيحية فحسب، وإنما نجد عندهم - إن صح ما ينسب إليهم من الشعر - وصفا لأطراف من حضارة تلك الأمم كوصفهم لمجالس اللهو والشراب والغناء وغير ذلك.
فعزلة الأمة العربية إذن سخف من السخف لا ينبغي أن يقبل أو يطمأن إليه. وكل ما في الأمر أن قلب الجزيرة العربية وشمالها لم يخضعا لسلطان أمة متحضرة، وإنما خلي بينهما وبين الحياة الحرة يحياها أهلهما كما يريدون أو كما يستطيعون. فعاشوا عيشتهم تلك الغليظة الجافية لم تصل إليهم الحضارة وإنما وصلت إليهم أطراف منها. فهموا بعضها وقصروا عن فهم بعضها الآخر؛ فسيطرت عليهم جاهليتهم بكل ما فيها من الآثام والشرور والمنكرات.
3
وكان لهم دين غليظ كحياتهم هو هذه الوثنية الساذجة الغليظة التي لم تفكر فيها عقولهم ولم تمتزج بقلوبهم، وإنما كانت أخلاطا ورثوها عن آبائهم فلم يغيروا منها شيئا، بل أنكروا كل من حاول أن يغير منها شيئا كالذي صنعت قريش بزيد بن عمرو حين أظهر السخط على دينها. وإذا أردنا أن نحلل هذا الدين الذي كانت العرب تدين به في غير فقه ولا تعمق، فسنرى أولا أنهم لم يكونوا ينكرون أن للسموات والأرض وما فيهن خالقا هو الإله الأعظم. واقرأ إن شئت قول الله عز وجل:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله .
ثم اقرأ إن شئت هذا البيت الذي أحبه النبي
صلى الله عليه وسلم
অজানা পৃষ্ঠা
من شعر لبيد فيما روى الشيخان:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
ولكن علمهم بوجود الله كان ساذجا لم يبلغ أعماق قلوبهم ولم يصل إلى دخائل ضمائرهم ولم يمتزج بنفوسهم، فاتخذوا من دون الله آلهة قريبة منهم يرونها بأبصارهم ويلمسونها بأيديهم، بل قد يصنعون كثيرا منها بأيديهم كهذه الأصنام التي كانوا يتخذونها من الحجارة أو من الخشب، وكهذه الأشجار التي كانوا يعظمونها ويطيفون بها. ثم لم يكتفوا بذلك بل اعتقدوا أن الأرض التي يعيشون عليها ليست خالصة لهم، وإنما يعيش عليها معهم كائنات أخرى حية هي أقوى منهم قوة وأشد منهم بأسا، كائنات لا يرونها ولكنهم قد يسمعونها، وقد يخيل إليهم أنهم يرون آثارها، وهي كانت - فيما زعموا - تخالط آلهتهم وتجري على أيديها بعض الأحداث، وربما خالطت أفرادا منها فأنطقتهم بأشياء فيها إنباء بما كان وإنباء بما سيكون، وهذه الكائنات هي الجن؛ أي الكائنات المستخفية المستورة التي لا يراها الناس ولكنهم يرون - فيما زعموا - بعض ما تفعل ويتلقون منها - فيما زعموا أيضا - بعض ما تقول.
ربما اعتقدوا أن الآلهة التي كانوا يتخذونها ليست في أنفسها خالقة لشيء ولا مدبرة لشيء، ولكنها واسطة بينهم وبين الإله الأعظم الذي خلق السموات والأرض والذي يدبر الأمر كله؛ فهم لا يعبدون هذه الآلهة لأنها تستطيع وحدها أن تنفعهم أو تضرهم، وإنما يعبدونها لتشفع لهم عند الله ولتقربهم إلى الله زلفى كما نقرأ في القرآن الكريم.
فهم مشركون لا يجحدون الله ولا يعبدونه وحده، وإنما يعبدون معه آلهة أخرى يتخذونها واسطة بينهم وبينه.
وتمضي القرون على هذا النحو من الوثنية فتضاف إليه على مر الزمان الخرافات والسخافات، وإذا هم يقربون إلى آلهتهم كأنهم يرشونها لتشفع لهم عند الله، وهم يستشيرونها في أكثر أمرهم ويستقسمون عندها بالأزلام، وهم يرضون عنها حين ترضيهم ويسخطون عليها حين تسخطهم لا يخطر لهم أنها أعجز من أن ترضى أو تسخط، وإنما يحاولون الأمر ويستعينون بآلهتهم، فإن تم لهم ما حاولوا من الأمر رضوا وزعموا أن الآلهة قد سمعت لهم وأجابتهم إلى ما طلبوا، وإن لم يتم ما حاولوا سخطوا وزعموا أن آلهتهم لم تستجب لهم ولم تعنهم.
كذلك كانت هذه الوثنية ساذجة إلى أقصى حدود السذاجة، سخيفة إلى أبعد غايات السخف. ولم يفكر هؤلاء العرب الوثنيون فيما يمكن أن يكون بعد الموت، بل قدروا أن لهم حياتهم هذه التي يحيونها على الأرض، وأن آلهتهم وسطاء بينهم وبين الله على أن يقضوا آرابهم وينفقوا حياتهم هذه كأحسن ما يحبون، فإذا أدرك الموت جيلا منهم مضى لسبيله وجاء جيل بعده وقد ورث عنه دينه وآراءه في الله الذي خلق السموات والأرض، وفي هذه الآلهة التي تسعى لهم عند الله فيما يريدون من الخير، وفي رد ما يخافون من الشر والمكروه.
وكثير من هؤلاء العرب الوثنيين كانوا يتصلون بالمسيحيين واليهود يسمعون منهم ويقولون لهم ويعاملونهم في شئون الحياة على اختلافها، ولكنهم على ذلك لا يتأثرون بما يرون من دينهم ومن مذاهبهم في الحياة.
4
অজানা পৃষ্ঠা
ولا أكاد أشك في أن وثنية أهل مكة لم تكن صادقة ولا خالصة، وإنما كانوا يتجرون بالدين كما كانوا يتجرون بالعروض التي كانوا يجمعونها من الجنوب ومن أنحاء الجزيرة العربية لينقلوها إلى أقطار أخرى من الأرض كانت محتاجة إليها. فهم كانوا أذكى قلوبا وأنفذ بصيرة وأكثر ممارسة لشئون الحياة في قريتهم تلك وفي غيرها من المواطن التي كانوا يختلفون إليها بتجارتهم. وهم كانوا بحكم ممارستهم للتجارة يتصلون بأمم متحضرة في الشام ومصر وفي العراق وبلاد الفرس أيضا. وكانوا يرون مذاهب هذه الأمم في الحياة ومذاهبهم في الدين أيضا؛ فلم يكن من الممكن أن يؤمنوا لهذه السخافات التي كان يؤمن بها العرب الوثنيون.
فإذا أضفت إلى ذلك أن الكعبة كانت في ظهرانيهم، وأن العرب كانوا يحجون إلى هذه الكعبة من جميع أنحاء الجزيرة، وأنهم لم يكونوا يأتون مكة للحج وحده، وإنما كانوا يأتون للحج والتجارة أيضا في تلك الأسواق التي كانت تقام كل عام تقريبا من قريتهم؛ عرفت أنهم إنما كانوا يظهرون الإيمان بتلك الوثنية والتعظيم لتلك الآلهة ترغيبا للعرب في الحج وتحقيقا لمنافعهم منه.
والذي نراه من حياة قريش قبيل الإسلام وحين بعث النبي
صلى الله عليه وسلم
فيهم يدلنا أوضح الدلالة وأقواها على أنهم لم يكونوا أهل إيمان ولا أصحاب دين، وإنما كانوا قبل كل شيء أصحاب تجارة يسعون فيها عامهم كله، تسافر قوافلهم في جميع العروض ثم تعود فتستقر في مكة وقتا لتسافر بعد ذلك بهذه العروض تحملها إلى الآفاق. ولم يكونوا يؤثرون على تجارتهم شيئا، ولم يكن يشغلهم إلا التفكير في جمع المال من أغنيائهم وأوساطهم وفقرائهم أيضا لجلب العروض ثم بيعها وجلب عروض أخرى لبيعها في الجزيرة العربية نفسها وفي توزيع الأرباح التي تحققها التجارة على أصحاب الأموال. فكانوا ينفقون عامهم في أخذ وعطاء وانتقال واستقرار يتحدثون في المال والتجارة إذا لقي بعضهم بعضا، ويفكرون في المال والتجارة إذا خلوا إلى أنفسهم، وإذا شغفت النفوس بالمال وجدت في جمعه واستثماره شغلت به عن كل شيء وملك عليها أمرها كله، وأوشك أن يكون لها إلها تعبده وحده لا تشرك به شيئا.
والمال فتنة لقلوب الرجال يفسد عليها كل شيء ويوشك أن يصرفها عن كل خير. وكذلك كانت قريش في ذلك العصر: مؤمنة بالمال مذعنة لسلطانه، لا يعنيها إلا أن تستثمره وتكثره وتضيف بعضه إلى بعض، وتستمتع أثناء ذلك بما يمكن أن يتيح لها من طيبات الحياة وخبائثها أيضا. فقريش كانت تحب الترف بمقدار ما يتاح لمثلها منه، وتحب التسلط بشرط أن لا ينقص من مالها شيئا.
وإذا أردت أن تصور مكة كما كانت في ذلك العصر، فاذكر مدينة من مدن الفينيقيين الذين لم يكن يعنيهم إلا التجارة والمال، واذكر بعد ذلك أن المدن الفينيقية لم يكن في واحدة منها بيت يجمع الناس إليه من الآفاق كما كانت الحال في مكة.
وكان سكان مكة في ذلك العصر يأتلفون من طبقات ثلاث: طبقة لها كل الحقوق وهي قريش، تستند حقوقها إلى ما كانت ترى من شرف أصولها أولا ومن أنها صاحبة البيت ثانيا، وكانت هذه الطبقة الشريفة المستأثرة بالحقوق كلها تنقسم في نفسها إلى: فئة الأغنياء أولي الثراء العريض، وفئة الذين يملكون من المال ما يتيح لهم أن يتجروا سواء سافروا للتجارة أو اكتفوا بإعطاء أموالهم للمتجرين، وفئة أخرى فقيرة قد تملك القليل وتتجر فيه وقد لا تملك شيئا فهي مضطرة إلى أن تعمل لتعيش.
وهذه الفئات الثلاث من قريش كلها متساوية في الشرف وفي الاستمتاع بالحقوق، وهي من أجل ذلك تكون فئة ممتازة لطبقة السادة.
وتأتي بعدها طبقة أخرى هي طبقة الحلفاء، وهم ناس من العرب على اختلاف قبائلهم آووا إلى مكة ليأمنوا فيها؛ فهي مدينة حرام يأمن اللاجئ إليها مهما تكن جنايته وجرائره على قومه، وناس من العرب آخرون تسامعوا بغنى قريش ودعة الحياة في مكة فأقبلوا يبتغون فضلا من رزق. وكل هؤلاء وأمثالهم لم يكن يتاح لهم المقام المطمئن في مكة إلا إذا حالفوا حيا من أحياء قريش أو فردا من أفرادها. فهم أحرار إذا حفظوا حق الحلف والجوار، تحميهم قريش فيأمنون ويسعون في الرزق، ولكنهم ليسوا من قريش، وإنما هم طبقة دونها تعيش في ظلها ولا تشارك في حقوقها.
অজানা পৃষ্ঠা
وطبقة ثالثة هي الرقيق الذي لا حق له حتى في نفسه، يملكه سيده كما يملك ما في بيته من أداة، ويسخره فيما يريد من أمره كما يشاء، ليس له أن ينكر ولا أن يعترض، وإنما عليه أن يسمع ويطيع. وسيده يملك أن يحرره بالعتق كما يملك أن يبيعه أو يهبه، كما يملك أن يعاقبه أشد العقوبة وأيسرها، وله عليه حق الموت والحياة، ولكن قريشا لم تكن تغلو في استعمال هذا الحق.
وإلى جانب هذه الطبقات الثلاث كان يعيش بمكة شذاذ من الآفاق ليسوا عربا ولكنهم عجم من أمم مختلفة، أقبلوا متجرين بتجارة تحتاج إليها الطبقة الغنية والوسطى. بعض هؤلاء كان يتجر باللهو: يسقي الخمر، ويسمع الغناء، ويلهي من احتاج إلى اللهو من شباب قريش بألوان من المتاع ليس من السهل أن يوجد في البيئات العربية، وبعضهم كان يتجر بالنقد يصرف الدنانير والدراهم ويقوم الذهب والفضة بهذين النقدين.
وكان هؤلاء الأجانب يعيشون في أمن لا يعرض لهم أحد بمكروه لمكان الحاجة إليهم، وأكثرهم كانوا من المسيحيين أقبلوا من بلاد الروم، وربما كانوا ينفعون قريشا بما يحدثونهم من أحاديث بلادهم، وبما يفتحون لهم في هذه الأحاديث من أبواب التجارة والربح.
كذلك كانت تعيش مكة في ذلك العصر، يضطرب فيها هؤلاء السكان على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم وأجناسهم. وواضح أن أكثر الرقيق لم يكونوا عربا فلم تكن قريش صاحبة حرب؛ لأن المال والتجارة لا يحبان الحرب.
فكانت تشتري هؤلاء الرقيق فيما كانت تشتري من العروض، وربما اتجرت فيهم أحيانا. ولكنها كانت تشتريهم في أكثر الأحيان لمنافعها ومآربها وحاجاتها المختلفة، وواضح أن هؤلاء الرقيق لم يكونوا يدينون دين سادتهم، وإنما كان منهم المسيحي واليهودي والمجوسي حسب البلاد التي نشئوا فيه واجتلبوا منها. ومن الطبيعي أن أغنياء قريش وأهل الطبقة المتوسطة منهم لم يكونوا يعملون في التجارة، فكان الرقيق يكفونهم حاجاتهم اليومية: يرعون عليهم ما كانوا يملكون من الإبل والغنم، ويعنون بما كانوا يملكون من الخيل، ويعملون فيما كانوا يملكون من الأرض خارج مكة في الطائف أو في غيرها، ويقومون بخدمتهم في دورهم، ويخدمونهم في أسفارهم في الصيف والشتاء، وربما كان بعضهم يحسن حرفة من الحرف، فكان سادتهم يسخرونهم في اصطناع حرفهم هذه والاكتساب منها، على أن يكون كسبهم لسادتهم لا يملكون لأنفسهم شيئا إلا ما يقوتهم ويقيم أودهم.
وكذلك اجتمعت في مكة أجناس مختلفة من الناس وألوان مختلفة من الديانات، وكان من الطبيعي أن يؤثر هذا كله في حياة قريش. وليس شيء أشد تأثيرا في حياة الناس من اتصالهم بالأجناس المختلفة ذوي الحضارات والديانات المختلفة، وهذا هو الذي يفسر لنا ما امتازت به قريش من العرب كافة - في ذلك العصر - من ذكاء القلوب وسعة الحيلة ونفاذ البصيرة وبعد النظر وحسن السياسة لأمورها كلها والبراعة في القيام على المال واستثماره، وفي فهم الناس والنفوذ إلى أعماقهم.
ولكن قريشا على ذلك كانت تسكن قرية في واد غير ذي زرع، قرية منقطعة انقطاعا تاما من البلاد المتحضرة. كل شيء كان يؤهل قريشا وقريتهم للحضارة وللحضارة الممتازة لولا هذا الانقطاع الذي فرض عليها.
ومن الحق أن قريشا كانت تتصل اتصالا منتظما بالبلاد المتحضرة بحكم أسفارها في التجارة، ولكن الحضارة لا تنقل من مكان إلى مكان كما تنقل العروض، وإنما تنشأ في بيئة من البيئات تنبت من الأرض ثم تقوى وتشتد ويزيدها الاتصال بالأمم المتحضرة نموا وازدهارا.
5
كذلك كانت تعيش قريش في القرن السادس للمسيح، ليس من اليسير أن نحدد لها نظاما من نظم الحكم التي يعرفها الناس؛ فلم يكن لها ملك ولم تكن جمهورية أرستقراطية بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، ولم تكن جمهورية ديمقراطية بالمعنى المألوف لهذه الكلمة أيضا، ولم يكن لها طاغية يدبر أمورها على رغمها، وإنما كانت قبيلة عربية قد احتفظت بكثير من خصائص القبائل البادية. فهي منقسمة إلى أحياء وبطون وفصائل، والتنافس بين هذه الأحياء والبطون والفصائل قائم يشتد حينا ويلين حينا آخر، ولكنه لا يصل إلى الخصومات الدامية كما كانت الحال في البادية، وأمور الحكم - إن صح أن يذكر لفظ حكم - تجري كما كانت تجري في القبيلة البادية. وكل ما وصلت إليه قريش من التطور في شئون الحكم هو أنها لم يكن لها سيد أو شيخ يرجع إليه فيما يشكل من الأمر، وإنما كان لها سادة أو شيوخ يلتئم منهم مجلس في المسجد الحرام أو في دار الندوة، وأمام هذا المجلس تعرض مشكلات التجارة وتعرض المشكلات التي تكون بين أحيائها، وقد تعرض المشكلات التي تثار بين الأفراد إن بلغت من الخطر أن تثير خصومة بين حيين أو أكثر.
অজানা পৃষ্ঠা
ومضى أمر قريش على هذا النحو إلى آخر العصر الجاهلي. وكأنها أحست قبيل البعثة أن هذا النظام لا يكفل العدل الشامل الذي يطمئن إليه الأقوياء والضعفاء جميعا، وإنما يكفل العدل بين السادة وأنصاف السادة، ويخلي بين هؤلاء وبين شيء من الظلم يقع على الضعفاء من الحلفاء وممن أووا إلى مكة ليقيموا فيها إقامة تقصر أو تطول.
ومن أجل هذا اجتمعت طائفة من خيار هؤلاء السادة وأقويائهم، وتحالف أعضاؤها على أن يرفعوا الظلم ويقوموا دون المظلوم حتى ينتصف من الظالم ودون الضعيف حتى يأخذ حقه من القوي. وهذا الحلف هو المعروف بحلف الفضول الذي شارك فيه النبي
صلى الله عليه وسلم
فيمن شارك فيه من بني هاشم قبل البعثة. وقد ذكر النبي بعد ذلك هذا الحلف وأثنى عليه.
6
وكانت ثقيف تعيش نحو هذه العيشة في الطائف إلا أن أمرها لم يكن كأمر قريش على الحج والتجارة؛ فلم يكن إلى الطائف حج لمكان الكعبة من مكة.
وكانت ثقيف قد رزقت شيئا من الخصب فاصطنعت الزراعة وزراعة الفاكهة خاصة، واعتمدت - أو كادت تعتمد - في تجارتها على قريش؛ فكانت قريش تشتري عروض الطائف وتنشرها فيما تنشر من تجارتها، وربما أسهم بعض الأغنياء من ثقيف بأموالهم في تجارة قريش، فكانوا كغيرهم من أهل مكة في ذلك.
على أن شيئا من حسن الصلة كان قائما بين قريش وثقيف، فكان بينهم الصهر من جهة، وربما اشترى بعض الأغنياء من قريش أرضا بالطائف واغترس فيها الحدائق والكروم، وربما اتخذ بعض الأغنياء من قريش لأنفسهم دورا في الطائف يفزعون إليها من مكة؛ بحيث نستطيع أن نقطع بأن قريشا وثقيفا كان بينهما شيء يشبه الحلف ويقوم على المصالح المشتركة في الزراعة والتجارة جميعا.
ولم تكن ثقيف - على قوتها في الجاهلية - تمتاز بمثل ما كانت تمتاز به قريش من ذكاء القلوب ونفاذ البصيرة، وإنما كانت ثقيف تمتاز بشيء من القوة والمنعة، وتمتاز بالمكر والدهاء وحسن المداورة والبراعة في الكيد للخصم أو العدو.
7
অজানা পৃষ্ঠা
أما يثرب فقد كان شأنها يختلف عن شأن هاتين القريتين اختلافا شديدا؛ فهي أولا بعيدة عنهما بعدا يحول بينها وبين مشاركتهما في كثير أو قليل من الأمر، وهي ثانيا لم تكن خالصة لقبيلة واحدة كما كانت مكة خالصة لقريش وكما كانت الطائف خالصة لثقيف، وإنما كان يسكنها قبيلتان من العرب ترجعان إلى أصل يمني واحد، ولكنهما تختصمان دائما ويشتد التنافس بينهما أحيانا حتى يورطهما في حرب تتصل وقتا طويلا.
وهاتان القبيلتان هما الأوس والخزرج، وكانت كل قبيلة منهما تمضي أمورها على طريقة القبائل لا يفرق بينهما وبين أهل البادية إلا أنهما مستقرتان في مدينتهما لا تنتجعان الغيث وإنما تنتظرانه، ولا تتنقلان في التماس الكلأ. وكلتا القبيلتين كانتا تعيشان على الزراعة وعلى استثمار النخل خاصة.
ثم هناك فرق آخر بين يثرب من جهة وبين مكة والطائف من جهة أخرى، وهو أن يثرب لم تكن خالصة لأهلها من العرب، وإنما كان اليهود يشاركونهم فيها. وكانت المعاملات في الزراعة والتجارة تجري بين اليهود وبين هاتين القبيلتين بحكم الجوار والاشتراك في الأرض والمصالح على اختلافها، وكان لكل قبيلة من الأوس والخزرج حلفاؤها من اليهود يحاربون معها إن حاربت ويسالمون معها إن سالمت.
ومن أجل هذا كله كان الفرق عظيما بين أهل يثرب من العرب وأهل مكة والطائف، فأهل يثرب أصحاب زراعة متصلة يزرعون ليعيشوا ولا يكادون يتجرون خارج الجزيرة إلا قليلا، وهم بعد ذلك مخالطون لأهل الكتاب من اليهود مخالطة متصلة.
فلا غرابة في أن يؤثر هذا كله في أخلاقهم وفي طبائعهم فيجعلهم ألين عريكة وأرق شمائل وأسمح أخلاقا. ولكنهم على ذلك ظلوا كغيرهم من العرب مشركين يعبدون الأوثان ويؤمنون بكثير مما كان أهل البادية يؤمنون به من السخافات والخرافات، وظلوا كغيرهم من العرب يعظمون البيت الحرام بمكة ويمجدونه في الموسم مع غيرهم من الحجيج.
وكانوا في هذا العصر الذي نتحدث عنه قد بلغ منهم الجهد لكثرة الاختلاف بين القبيلتين وما كان ينشأ عن ذلك من الخصومات والحروب، ثم لأن اليهود على ما كان بينهم وبين القبيلتين من الجوار واشتراك المصالح كانوا يستظهرون على هؤلاء العرب الجهال الأميين، يستظهرون عليهم بما عندهم من كتاب، وبما لهم من دين مهما يكن أمره فقد كان أرقى من هذه الوثنية الغليظة التي كان العرب يدينون بها.
8
وليس غريبا - بعد هذا الذي عرض عليك في إيجاز من شئون الأمة العربية في وبرها ومدرها - أن تنشأ عن هذه الحياة التي كانوا يحيونها أخلاق غليظة كغلظ هذه الحياة، وعادات منكرة كنكر هذه الحياة أيضا، فهؤلاء الذين يعبدون الأصنام التي يصنعونها بأيديهم، ويعبدون الأشجار التي لا يتحرجون من أن ينتفعوا بثمارها وغصونها إن احتاجوا إلى ذلك، لا ينتظر منهم أن تصفو طبائعهم وتمتاز أخلاقهم وتلين قلوبهم وتحسن شمائلهم، بل عكس هذا كله هو الذي ينتظر منهم.
فإذا أضفت إلى ذلك ما كانت البداوة تفرض على أهلها من الفقر والعوز وقسوة الحياة، وأن أهل القرى إنما هم قوم عاشوا بداة أولا ثم استقروا في قراهم بعد ذلك دون أن يضيعوا من خصائص البداوة إلا أقلها، فليس غريبا بعد هذا كله أن نعرف من عادات هؤلاء العرب ما نعرف من الغلظة والقسوة والجفاء، وليس غريبا أن نعرف أنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر والإملاق، ويئدون بناتهم خشية الفقر والإملاق والعار أيضا. وليس غريبا أن نعرف أن العلاقة بين رجالهم ونسائهم لم تكن مهذبة ولا نقية ولا مبرأة مما يعاب، إلى غير ذلك من العادات الكثيرة التي غيرها الإسلام وحفظ الشعر منها شيئا غير قليل.
ومن الطبيعي أن أهل القرى كانوا أرق طباعا من أهل البادية إلى حد ما؛ فلسنا نعرف أن أهل مكة أو الطائف أو يثرب كانوا يقتلون أبناءهم أو يئدون بناتهم، حال بينهم وبين هذا ما أتيح لهم من لين العيش وسعة ذات اليد، ولكن أهل القرى كانوا قلة ضئيلة بالقياس إلى أهل البادية فلا ينبغي أن يتخذوا عنوانا لهم.
অজানা পৃষ্ঠা
ومهما يكن من شيء فقد كان أهل الوبر وأهل المدر سواء في وثنيتهم تلك الغليظة، لم يكادوا يتأثرون تأثرا ذا بال بمن جاورهم من اليهود والنصارى، وعسى أن يكون اليهود والنصارى الذين استقروا بين العرب هم الذين تأثروا بالحياة العربية وغلظها وما كان يشوبها من العادات والأخلاق.
فقد يكون من النافع حقا أن نقيس نصرانية نجران إلى النصرانية التي كانت منتشرة في البلاد المتحضرة، وأن نقيس يهودية يثرب وخيبر إلى يهودية اليهود الذين كانوا متفرقين في البلاد المتحضرة أيضا. كلا الدينين انقطعت الصلة أو كادت تنقطع بينه وبين الذين كانوا يقومون عليه من الأحبار فتبدى، وإن استقر في هذه القرى؛ لأن هذه القرى نفسها كانت أقرب إلى البداوة منها إلى الحضارة.
وعلى كل حال فلم يكد العرب ينتفعون بما كان بينهم وبين اليهود والنصارى من اتصال، وإنما ظلوا كما كانوا حتى جاءهم دينهم الجديد.
9
وكان بين قريش رجل من أشرافهم يتجر كما يتجرون، ويحضر مجالسهم في المسجد وفي دار الندوة، هو عبد المطلب بن هاشم، ولكنه كان يمتاز من قومه بكثير من الوقار وميل إلى الدين والنسك، يعظم ما كان قومه يعظمون من هذه الآلهة، ولكن عن إخلاص وصدق لا عن تكلف ورياء. وقد أتيحت له أشياء زادته امتيازا من قومه فخاصموه أول الأمر ثم أكبروه بعد ذلك؛ فهو قد احتفر بئر زمزم.
وحدث أصحاب الأخبار بأنه لم يحتفرها من عند نفسه وإنما أتاه آت في نومه فأمره باحتفارها وبين له مكانها، فأقبل على ما أمر به حتى أنفذه.
ويقول أصحاب الأخبار إنه وجد كنزا أثناء احتفار البئر قبل أن يصل إلى الماء فخاصمته فيه قريش؛ فجعله للكعبة ولم يأخذ هو ولا غيره منه شيئا، ثم أنبط الماء فخاصمته فيه قريش ترى أن البئر لها، ويرى هو أنها له؛ لأنه احتفرها بيده وأنبط ماءها بحهده . ولجت قريش في الخصومة - فيما يقول أصحاب الأخبار - حتى أجمعوا إلى أن يحتكموا إلى أحد الكهان فأوفدوا مع عبد المطلب وفدا يخاصمونه إلى ذلك الكاهن، ولكنهم لم يحتاجوا إلى هذا الاحتكام؛ لأن آية ظهرت لهم في الطريق أقنعتهم بأن عبد المطلب ليس متكذبا ولا متكلفا.
قال الرواة: وفي أثناء هذه الخصومة أحس عبد المطلب أنه وحيد ليس له من الولد من ينصرونه؛ فنذر لئن أتيح له عشرة منهم ليقربن أحدهم إلى الآلهة.
وقد أتيح له عشرة من الولد فأزمع أن يقرب أحدهم وهم بذلك، ولكن قريشا أبت عليه؛ لأنها استبشعت عمله هذا. وما زالت به حتى أقنعته بأن يقرع بين ابنه وبين عشرة عشرة من الإبل، فجعل كلما أقرع خرج السهم على ابنه حتى بلغت الإبل مائة فقربها إلى الآلهة ونجا ابنه ذاك الفتى.
فإذا صورت هذه القصة شيئا فإنما تصور نزوع عبد المطلب إلى شيء من الدين وإخلاصه فيه وإسماحه في سبيله بالولد والمال جميعا، وتصور كذلك عزوف قريش عن المفظع من الأمر، وإنكارها في عنف وإلحاح هذا القربان البشع الذي يضحى فيه بالإنسان للآلهة.
অজানা পৃষ্ঠা
على أن ذلك الفتى الذي افتداه أبوه بالإبل فأغلى في الفداء لم يعمر، وإنما زوجه أبوه ثم أرسله إلى الشام مع قومه للتجارة، فذهب ولم يعد، أدركه الموت بيثرب في عودته من الشام، وقد ولد بعد موته صبي هو الذي اختاره الله ليأتي العرب بدينهم الجديد.
وفي تلك الأيام نفسها تعرضت مكة لخطر شديد: أقبل الحبشة إليها من اليمن غزاة يريدون أن يملكوا الحجاز كما ملكوا اليمن، وأن ينشروا في الحجاز دين المسيح كما حاولوا نشره في اليمن بعد أن انتقموا لتلك المدينة المسيحية «نجران»، وكانوا بالطبع مزمعين أن يهدموا الكعبة وأن يحطموا ما نصب عليها من الأوثان، ولكن الله بالغ أمره قد جعل لكل شيء قدرا؛ فهو يصد الحبشة عن مكة ويمنعهم أن يدخلوها ويردهم إلى اليمن مدحورين قد بلغ منهم الجهد وأصابهم ما أصابهم من الشر الذي صوره الله عز وجل أروع تصوير في السورة الكريمة:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول .
وما أحب أن أعرض لتأويل هذه الطير الأبابيل التي رمت الحبشة بحجارة من سجيل فجعلتهم كعصف مأكول؛ لأني أوثر دائما أن أقبل النص وأفهمه كما قبله وفهمه المسلمون الأولون حين تلاه عليهم النبي
صلى الله عليه وسلم .
وفي هذه الموقعة أظهر عبد المطلب من الصبر والجلد ومن الشجاعة والثقة ما لم يظهره غيره من أشراف قريش، فضلا عن أوساطها وعامتها؛ ذلك أنه أشار على قريش أن تخلي مكة وتلوذ بشعاف الجبال وتخلي بين هذا الجيش العظيم وبين ما يريد، فسمع له قومه وتجنبوا الحرب وأقام هو بمكة لم يعتزلها فيمن اعتزلها، وإنما قام عند الكعبة يدعو الله ويستنصره.
ويقول الرواة: إن الجيش أغار فيما أغار على إبل قريش فاحتازها وجاء عبد المطلب حتى استأذن على أبرهة عظيم الحبشة وقائد جيشها، فلما أدخل عليه لم يكلمه إلا في إبل له أخذها الجيش فيما أخذ من إبل قريش.
قال الرواة: فصغر عبد المطلب في نفس أبرهة، وقال له: كنت أظن أنك جئت تكلمني في شأن مكة وفي شأن بيتكم هذا الذي تعظمونه، فإذا أنت لا تسألني إلا أن أرد عليك إبلك!
قال عبد المطلب: فإني أكلمك في مالي الذي أملكه، فأما البيت فإن له ربا يحميه إن شاء.
فردت عليه إبله وعاد إلى مكانه من الكعبة يدعو الله ويستنصره.
অজানা পৃষ্ঠা
قال الرواة: وأصبح أبرهة من غد مزمعا دخول مكة وهدم البيت، ولكن الله حال بينه وبين ذلك بما أرسل عليه وعلى جيشه من تلك الطير الأبابيل التي رمتهم بحجارة من سجيل فجعلتهم كعصف مأكول.
وعادت قريش إلى مكة موفورة لم ترزأ شيئا، فازداد إكبارهم لعبد المطلب وشجاعته وثقته وثباته؛ حيث لم يثبتوا وإنما فروا فلاذوا بشعاب الجبال.
في نفس هذا العام - الذي سمته قريش وسماه الرواة بعد ذلك عام الفيل - ولد هذا الصبي يتيما كما رأيت آنفا، فسماه عبد المطلب محمدا وكفله واسترضعه في بني سعد من هذيل، حتى إذا تم الرضاعة واحتفظت به المرضع بعد رضاعه وقتا ردته إلى أمه، فجعل ينشأ بمكة في ظل جده الشيخ. ثم سافرت به أمه - حين كان في السادسة من عمره - إلى يثرب تريد أن تزور وأن تزير الصبي قبر أبيه عبد الله بن عبد المطلب، ولكنها خرجت من مكة ولم تعد إليها كما خرج زوجها عبد الله من قبل فلم يعد إلى وطنه.
أدركها الموت في بعض الطريق منصرفها من يثرب عائدة إلى مكة، وعادت بالصبي حاضنته بركة - التي عرفت في الإسلام بأم أيمن - فقامت على خدمته في ظل جده وأصبح الصبي يتيما لأبيه وأمه جميعا. على أنه لم يبلغ السابعة حتى فقد جده أيضا فأخذه اليتم من جميع أقطاره: فقد أباه وأمه وجده، ولكن الله آواه كما يقول في سورة الضحى:
ألم يجدك يتيما فآوى .
وكفل الصبي بعد موت الشيخ عمه أبو طالب فكان له نعم الكافل ونعم الولي. وكان أبو طالب صاحب سفر في التجارة كغيره من أشراف قريش وأوساطها.
فيقول الرواة: إنه هم بالسفر في تجارته إلى الشام ذات عام والصبي في الثانية عشرة من عمره، فتعلق به الصبي وألح في أن يصحبه في سفره ذاك، ورق له قلب عمه فحمله معه إلى الشام.
ويقول الرواة: إنه لم يكد يبلغ به مشارف الشام حتى عاد به مسرعا إلى مكة عن أمر راهب من رهبان النصارى علم من أمر الصبي ما لم يعلم عمه، فأوصاه أن يرده إلى وطنه وأن يحرزه في مكة من مكر النصارى واليهود.
وشب الصبي في كفالة عمه، حتى إذا بلغ الرابعة عشرة من عمره شهد حرب الفجار التي كانت في حرم مكة بين قيس وقريش.
شهد الحرب ولكنه لم يشارك فيها؛ كان أصغر سنا من ذلك، فكان ينبل على أعمامه. وأكبر الظن أنه حين أينع جعل يسعى في رزقه فكان يرعى الغنم على قومه حتى إذا نيف على العشرين سلكت الحياة به طريقا أخرى.
অজানা পৃষ্ঠা
10
كان فقيرا لا يكاد يملك شيئا، وكان يكسب قوته من رعي الغنم، ولكنه فتى من قريش ومن أشرافها، ورعي الغنم قد يليق بالصبية وبأمثالهم من الذين لم يتقدم بهم الشباب، فأما إذا شبوا واستتموا قوتهم فليس لهم بد من أن يسلكوا طرقا أخرى إلى الرزق. وعمه صاحب تجارة، وقد مات أبوه تاجرا، وجده كان صاحب تجارة أيضا، فما يمنعه أن يسلك الطريق التي ألفت قريش سلوكها؟
وقد أقبل عليه عمه ذات يوم فأنبأه بأن خديجة بنت خويلد - امرأة غنية من أكثر قريش مالا وأوسطهم نسبا - قد جهزت تجارة ضخمة إلى الشام، ونصح له بأن يكون رسولها بتجارتها تلك، وأنبأه بأنه يستطيع أن يسعى له في ذلك عند خديجة إن صح عزمه على السفر، فقبل الفتى ورضيت خديجة، ورأته مكة ذات يوم خارجا في قافلتها إلى الشام يصحبه غلام لخديجة يقال له «ميسرة»، وقد بلغ الشام فباع واشترى وعاد مع القافلة فأدى إلى خديجة تجارتها وأدى إليها مع هذه التجارة ربحا لم يتح لها في تجارة قط. وكأن الله لم يجعل هذه التجارة إلا وسيلة لشيء آخر وراءها؛ فقد وقع الفتى من قلب خديجة وإذا هي ترسل إليه مغوية له بخطبتها، وإذا هو يخطبها ثم يصبح لها زوجا، وهي تكبره بخمس عشرة سنة فيما يقول الرواة.
ومنذ ذلك اليوم عاش في مكة عيشة الموفورين لا يشكو حاجة ولا يجد ضيقا كما قال له الله عز وجل في سورة الضحى:
ووجدك عائلا فأغنى .
وقد أتيح له من خديجة الولد وأتيح له معها الأمن والدعة، ولكنه في ذلك الطور من أطوار حياته ظهرت فيه خصال لم تكن مألوفة في شباب قريش؛ فهو شديد النفرة من اللهو وشديد النفرة من اللغو أيضا، وهو أبعد الناس عن التكلف وأقربهم إلى الإسماح واليسر، وهو أبغض الناس لهذه الأوثان التي كان قومه يعبدونها مخلصين أو متكلفين، وهو أصدق الناس إذا تكلم، وأوفاهم إذا عامل، وأبعدهم من كل ما يزري بالرجل الكريم. وهو بعد ذلك أوصل الناس للرحم وأرعاهم للحق وأشدهم إيثارا للبر؛ فهو يجد عمه الذي كفله صبيا ويافعا قد كثر ولده وقل ماله، ويريد أن يعينه دون أن يؤذيه؛ فيأخذ منه صبيه عليا ويرد عليه من العناية واللطف والبر بعض ما أدى إليه أبوه حين كان صبيا يتيما. وقد شاعت عنه هذه الأخلاق، وعرف بهذه الخصال حتى أحبته قريش وسمته الأمين وعاملته على أنه الأمين حقا.
وفي ذات عام همت قريش أن تعيد بناء الكعبة فعزمت بعد تردد، ونقضت البناء وأخذت في إعادته، وشاركها الأمين فيما فعلت، حتى إذا بلغت موضع الحجر الأسود اختلفت أحياء قريش فيمن يضع هذا الحجر في موضعه، يرون أن من يتاح له ذلك سيظفر بشرف أي شرف. وما هي إلا أن يتحول الخلاف إلى خصومة تشتد وتعنف حتى يخشى شرها، ولكن ذوي أحلامهم وأولي رأيهم يشيرون عليهم بالتحكيم وبأن يحكموا أول داخل عليهم فيحكمونه، فيقضي بينهم قضاء يرضيهم ويكون له مع ذلك ما بعده؛ يبسط رداءه ويضع الحجر في وسطه ثم يأمرهم بأن يأخذوا بأطراف الرداء فيحملوه ويمشوا به حتى إذا بلغوا البناء أخذ الحجر فأقره بيده في موضعه.
على أنه قد أخذ يميل إلى العزلة شيئا فشيئا، ثم اشتد عليه حب العزلة فجعل يترك مكة بين حين وحين ويمضي وقد تزود لعزلته، حتى إذا بلغ غار حراء خلا فيه إلى نفسه الأيام والليالي، فإذا انقضى زاده أو كاد ينقضي عاد إلى أهله فتزود من جديد ورجع إلى غاره فأوى إليه ومكث فيه ما شاء الله أن يمكث. أصبحت هذه الخلوة له عادة ولكنه يعود إلى أهله ذات يوم ولهان مفجعا شديد الاضطراب ويقص على خديجة شيئا عجبا.
11
أنبأها بأنه كان خاليا إلى نفسه في غار حراء، ولكنه ينظر فيرى شخصا أمامه ويسمع فإذا هذا الشخص يكلمه يقول له: «اقرأ.» قال: «ما أنا بقارئ.» يريد: لا أعرف القراءة، فضمه ضما شديدا - أو غطه غطا شديدا، كما يقول حديث الشيخين فيما يرويان عن عائشة - حتى بلغ منه الجهد، ثم أسلمه وقال: «اقرأ.» قال: «ما أنا بقارئ.» فغطه غطا شديدا حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال:
অজানা পৃষ্ঠা
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم .
ثم استخفى حتى لا يرى النبي
صلى الله عليه وسلم
شيئا ولا يسمع شيئا، فيخرج من الغار وقد أخذه روع أي روع وهو في طريقه مسرع إلى أهله، ولكنه يسمع صوتا يناديه فينظر أمامه فلا يرى شيئا وينظر عن يمينه فلا يرى شيئا، وينظر عن شماله فلا يرى شيئا، وينظر خلفه فلا يرى شيئا؛ فيرفع رأسه فيرى ذلك الشخص الذي أتاه في الغار جالسا على كرسي بين السماء والأرض فيبلغ به الروع أقصاه، ويمضي أمامه لا يلوي على شيء حتى يأتي أهله مرتاعا مذعورا، يقول: «زملوني زملوني - أو دثروني دثروني - وصبوا علي ماء باردا.» فتفعل خديجة ما طلب إليها حتى يذهب عنه الروع. فيقول لزوجه بعد أن أنبأها نبأه: «لقد خشيت على نفسي.» تقول له خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
قال المحدثون ورواة السيرة: فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة - وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي - فقالت له خديجة: يابن عم اسمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة: يابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بخبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى
صلى الله عليه وسلم ، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أومخرجي هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
অজানা পৃষ্ঠা
وكأنه لزم داره واجتنب غار حراء منتظرا ما يكون من أمره بعد ما رأى وما سمع، فأوحى إليه:
يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر .
ومنذ ذلك الوقت ظهر له ما يراد به، فلم يكن ما جاءه في الغار إلا إيذانا له بأن مهمة ثقيلة خطيرة قد ألقيت على عاتقه، وأن عليه أن يؤديها صبورا جلدا محتملا في سبيل أدائها ما قد يعرض له من العنت والمشقة والأذى، وهو على كل حال مكلف أمرين ليس أحدهما بأقل خطرا من الآخر؛ فأما أولهما: فهو أن يجاهد نفسه ويأخذها راضية أو كارهة بما سيدعو الناس إليه من تكبير الله بالقلوب والألسنة، ومن التطهير من كل دنس ظاهر أو خفي، ومن هجر الرجز واجتناب المن واستكثار ما يأتي من طاعة الله والاجتهاد في ذاته، ومن الصبر لربه على ما يبلوه به من ألوان البلاء، وعلى ما يكلفه حمله من ثقال الأعباء.
وأما ثانيهما: فهو أن ينذر الناس بأن حياتهم التي يحيونها ليست كما يظنون لهوا ولعبا واستمتاعا بما يتاح لهم من اللذات واحتمالا لما يعرض لهم من الآلام والمحن والخطوب، إنما هي شيء وراءه أشياء وله ما بعده. فليس لهم بد إذن من أن يحتاطوا لما وراء حياتهم من الأمر، ومن أن يأخذوا له أهبتهم ويتزودوا بما ينبغي من الزاد.
12
وقد تجرد النبي
صلى الله عليه وسلم
لأداء ما كلف به من مهمة، وما حمل من أمانة، فأخذ نفسه بأشد ما يأخذ الرجل به من الجهد والمشقة في ذات الله، وأنفذ أمر الله في نفسه فيما اختصه به من التكاليف كما أنفذ أمر الله في كل ما كلف أن يأمر الناس به، وقد بدأ بأهله وذوي قرباه فأنذرهم وبشرهم واستجاب له منهم من استجاب وأبى عليه من أبى. ثم أمر بتعميم دعوته فأنذر قومه وبشرهم ودعاهم إلى الإيمان والبر والمعروف؛ فلم يستجب له منهم إلا أقلهم، وامتنع عليه أكثرهم، ثم لم يكتفوا بالامتناع بل لم يلبثوا أن ضاقوا به وبدعوته وجعلوا يردونه ردا رفيقا أحيانا ويردونه ردا عنيفا في أكثر الأحيان. ثم تألبوا عليه وجعلوا يؤذونه في نفسه وفيمن تبعه من الناس بأيديهم وألسنتهم. ثم أصبحت الحياة بينه وبين قومه جهادا متصلا عنيفا أشد العنف وأقواه. ولكنه صبر لهذا الجهاد كما أمر أن يصبر واحتمل فيه من ألوان المشقة ما ينوء بالرجال أولي العزم كما أمر أن يحتمل، وجعل يصبر أصحابه ويهون عليهم ما كانوا يلقون، وما أكثر ما كانوا يلقون من ضروب الفتنة والعذاب!
وفي أثناء ذلك كان الوحي يتنزل عليه من السماء، فيعلن كل ما يوحي إليه به يتلوه على من آمن معه وعلى من لم يؤمن؛ فهو مكلف أن يبلغ رسالات ربه، وهو يبلغها أمينا عليها مجتهدا في تبليغها يبشر وينذر، ويرغب ويرهب، ويجادل المخاصمين ويقرع حجتهم بحجة الله لا وانيا ولا مستأنيا ولا مقصرا.
وقد هابت قريش أن تؤذيه إيذاء ثقيلا أو أن تخرجه من وطنه أو أن تقتله مخافة أن يغضب له قومه من بني عبد مناف فيفسد عليها أمرها كله. فجعل حلماء قريش يصانعونه ويرفقون به؛ يعرضون عليه أن يملكوه عليهم إن كان يفعل ما يفعل ابتغاء الملك، ويعرضون عليه أن يعطوه صفو أموالهم إن كان يفعل ما يفعل ابتغاء الغنى، ويعرضون عليه التماس الطب له إن كان له رئي من الجن يأتيه بهذا الكلام الذي يتلوه عليهم وبهذا الأمر الذي يدعوهم إليه. فلم يكن يجيبهم إلا بأن يتلو عليهم بعض ما كان ينزل عليه من القرآن.
অজানা পৃষ্ঠা
وكان حلماء قريش والمنصفون منهم يسمعون القرآن حين يتلى عليهم فيبهرهم بألفاظه ومعانيه ونظمه ورقته حين يرق وشدته حين يشتد، ولكنهم على ذلك لا يؤمنون له، بعضهم يمنعه الحسد، وبعضهم تمنعه الكبرياء، وكلهم يشتد عليهم ما كانوا يدعون إليه من البر والمعروف والعدل والمساواة وإنصاف الفقراء من الأغنياء والضعفاء من الأقوياء، ومن ترك آلهتهم وعاداتهم وكثير من الأخلاق التي وجدوا عليها آباءهم وتوارثتها أجيالهم جيلا بعد جيل. وقد استيأسوا منه فلجأوا إلى عمه ذاك الذي كفله صبيا ويافعا والذي قام دونه يحميه منذ جعل يدعو دعوته هذه الجديدة وطلبوا إليه أن يراجع ابن أخيه لعله يكف عن ذم آلهتهم وتسفيه أحلامهم وإنكار ما تعارفوا عليه من عاداتهم وأخلاقهم، ومن إفساد عبيدهم وإمائهم وحلفائهم عليهم.
وقد قبل منهم أبو طالب فراجع ابن أخيه وعرض عليه ما يقول قومه وما يعرضون عليه من الملك وكرائم الأموال، وما ينذرونه به من البطش والعذاب؛ فلم يكن جوابه لعمه إلا أن قال مقالته تلك المشهورة: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أرجع عن هذا الأمر ما رجعت.»
وعاد أبو طالب إلى مشيخة قريش بقول ابن أخيه، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا وإصرارا واستكبارا، فعمدوا إلى إيذائه في أصحابه وفي الرقيق والضعفاء منهم خاصة؛ لعلهم أن يصدوهم عن الإقبال عليه ويردوهم بعد إيمانهم كفارا، ولعله حين يرى ذلك أن يحس ما يشقى به أصحابه فيؤثر لهم ولنفسه العافية؛ فجعلوا يعذبونهم بالضرب حينا وبالماء حينا وبالنار حينا وبالموت حينا آخر. ولكنهم لم يبلغوا بذلك منه ولا من أصحابه شيئا؛ قتلوا ياسرا وزوجه سمية ذات يوم وابنهما عمار يرى فلم يصرفوا الأبوين ولم يصرفوا ابنهما عما أراد الله لهما من الكرامة بالإيمان، وإنما كان ياسر وزوجه نموذجا رائعا للصبر والجلد واحتمال الأذى في غير شكاة ولا تضعضع. ويقال: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
مر بآل ياسر وهم يعذبون فلم يزد ياسر على أن يقول: الدهر هكذا يا رسول الله.
ويحدث رواة السيرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال لهم: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة.» وكان ياسر وامرأته سمية أول شهيدين في الإسلام، فلم يجزع عمار ولم يجد الوهن إلى نفسه سبيلا، بل ازداد إيمانا مع إيمانه وصبرا إلى صبره حتى استيأس منه معذبوه واضطروا إلى أن يرفعوا عنه العذاب.
ويتحدث الرواة أن عمار بن ياسر كان أول من اتخذ مسجدا في بيته وفيه نزلت هذه الآية من سورة الزمر:
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب .
অজানা পৃষ্ঠা
وعذبوا «بلالا» أشد العذاب ونكلوا به أعظم التنكيل وجعلوه هزؤا للصبية والسفهاء، فلم يرفع عنه العذاب حتى اشتراه أبو بكر وكان رقيقا فأعتقه.
وعذبوا كثيرا غير هؤلاء - تجد أسماءهم في كتب السيرة - ألوانا من العذاب وفتنوهم ضروبا من الفتنة، مكثوا على ذلك أعواما لا يرقبون في هؤلاء المستضعفين عهدا ولا ذمة ولا تعطفهم عليهم رحمة.
وكان موقف قريش من المسلمين مختلفا، فأما ضعفاؤهم وفقراؤهم فكانوا يصبون عليهم العذاب صبا لا يخافون في تعذيبهم لوما ولا إنكارا، وأما أولو الشرف منهم الذين يأوون من قومهم إلى ركن شديد فكانوا يؤذونهم بألسنتهم ويؤذونهم بالقطيعة ويغرون قومهم أن يشتدوا عليهم، ويفتنوهم عن دينهم ما استطاعوا إلى فتنتهم سبيلا. ولكنهم على ذلك لم يبلغوا منهم شيئا ولم يصدوهم عن دينهم وإنما وجدوا منهم صبرا وجلدا واحتمالا، ووجدوا من بعضهم مقاومة وتحديا وردا عنيفا، كالذي كانوا يجدونه من عمر بن الخطاب ومن حمزة بن عبد المطلب.
وكذلك مضى الأمر بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه القليلين وبين قريش ذات العدد والقوة والثراء، لا يهن النبي ولا يضعف ولا يستخفى بدعوته، وأصحابه منهم القوي الذي يجالد عن دينه ومنهم الضعيف الذي يلقى العذاب صابرا عليه. ومنهم الغريب الذي يستحب الأذى يراه قربة إلى الله، فيتصدى لمجالس قريش ويعلن إليهم إسلامه ويحتمل منهم إيذاءهم له، كالذي كان من «أبي ذر» حين أسلم وهو غريب في مكة، فلم يرضه إلا أن يغيظ قريشا ويتلقى منهم اللكز والوكز واللطم والصفع حتى يغشى عليه، يفعل ذلك مرة ومرة حتى يأمره النبي أن يعود إلى قومه ويظل بينهم حتى يأتيه أمره.
وقد علمت قريش أنها لن تبلغ من النبي شيئا بهذه الفتنة؛ فأزمعت أن تؤذي بني هاشم كلهم، على أنهم لم يكونوا قد أسلموا جميعا ولكنهم أولو عصبية النبي ورهطه الأدنون. فأجمعوا ألا يبايعوهم وألا يصهروا إليهم وألا يزوجوهم وألا تكون بينهم وبين بني هاشم معاملة ما. واضطر بنو هاشم إلى شعبهم يعيشون فيه عيشة المحاصرين لا يكلمهم أحد ولا يعاملهم أحد، ولا تصل أرزاقهم إليهم إلا بعد المشقة الشاقة والعسر العسير.
وكتبت قريش بهذه المقاطعة صحيفة جعلتها عهدا بين أحيائها حتى يخلع بنو هاشم محمدا ويسلموه إليها، ولكن بني هاشم صبروا على الحصار، واحتملوا الجهد والمشقة والعناء إيثارا لأحسابهم. ومكثوا على ذلك عاما وعاما وعاما حتى شق ذلك على الذين يحاصرونهم أنفسهم وسعى بعضهم إلى بعض في إلغاء هذا العهد الآثم، وجعل أفراد منهم ترق قلوبهم لإخوانهم هؤلاء الذين يحاصرون ظلما فيجتهدون في أن يوصلوا إليهم أرزاقهم يستخفون بذلك من قومهم.
وإنهم لفي ذلك وإذا أبو طالب يغدو على قريش ذات يوم فيحدثهم - فيما يقول أصحاب السيرة - بأن ابن أخيه قد زعم له أن صحيفتهم تلك التي كتبوها بينهم وأودعوها جوف الكعبة قد أدركها البلى وعدت عليها الأرضة فلم تبق فيها مما كتبوا إلا اسم الله الذي ذكروه في أولها. قال أبو طالب: فانظروا يا معشر قريش إلى صحيفتكم تلك، فإن وجدتموها كما ذكر ابن أخي كان هذا إيذانا لكم بأنكم تعتدون على فريق من قومكم بغير الحق، وتظلمونهم ظلما منكرا، وبأن قد آن لكم أن ترفعوا هذا الظلم وتكفوا عن ذلك العدوان وتثوبوا إلى المعدلة بينكم وبين إخوانكم، وإن وجدتم صحيفتكم تلك كهيئتها يوم كتبتموها ووضعتموها في جوف الكعبة أسلمنا إليكم محمدا تصنعون به ما تشاءون.
فتسارع الذين رقت قلوبهم لبني هاشم يقولون: يا معشر قريش، لقد أنصفكم أبو طالب وأعطاكم الرضى فالتمسوا صحيفتكم تلك وانظروا؛ فإن كانت كما قال محمد فأجيبوا أبا طالب إلى رفع الظلم عن إخوانكم وإلا فقد آذنكم بأنه سيسلم إليكم ابن أخيه.
অজানা পৃষ্ঠা
وتنظر قريش في الصحيفة فإذا كل ما كتب فيها قد محي، ذهبت به الأرضة، إلا اسم الله فإنه كما كتبوه، هنالك يرفع الحصار ويعود القوم إلى العافية.
ولكن هذا كله إن خفف عن بني هاشم فلم يخفف عن المسلمين من أصحاب النبي شيئا ؛ فإيذاؤهم متصل وفتنتهم ماضية على عهدها.
ثم يمتحن النبي امتحانا شاقا فيفقد زوجه خديجة تلك التي كانت أول من نصرته وآزرته وأجابته إلى دعوته. ثم يفقد عمه أبا طالب ذلك الذي كفله صبيا ويافعا، وقام دونه يحميه ويذب عنه وإن كان لم يؤمن له ولم يرجع عن دين آبائه، وإنما فعل ما فعل حبا لابن أخيه وعطفا عليه وأداء لحق العصبية والحسب.
ويشتد البلاء على المسلمين وتطمع قريش في النبي، فيأذن النبي للمسلمين في أن يهاجر من استطاع الهجرة منهم إلى بلاد الحبشة؛ حيث يستطيعون أن يعبدوا الله آمنين لا يلقون فتنة ولا عذابا. فيهاجر منهم من استطاع، ويأمنون على دينهم في تلك الأرض البعيدة، ويبقى النبي ومن أبى فراقه من أصحابه بمكة يلقون ما يلقون من الشدة والبأس، لا تزيدهم الفتنة إلا إيمانا وتثبيتا.
وفي ذات يوم يخرج النبي من مكة إلى الطائف يرجو أن يجد عند ثقيف من العون والجوار ما يمكنه من أداء رسالته، ولكنه لا يلقى من ثقيف إلا أعنف الرد وأثقله، وإذا هم لا يكتفون برده والإعراض عنه، وإنما يغرون به السفهاء والصبيان يؤذونه حتى يجهدوه وحتى يضطروه إلى ظل بستان ليستريح.
وكان في البستان صاحباه - رجلان من قريش هما عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة - يريان النبي وقد بلغ منه الجهد وأوى إلى ظل بستانهما يستريح مما أدركه من العناء.
قال أصحاب السيرة: فيرق قلب هذين القرشيين له، ولكنهما متحفظان على ذلك، لا يؤويانه فتغضب قريش، فيدعوان «عداسا» غلاما لهما ويرسلانه إليه بطبق فيه عنب. ولكن «عداسا» لا يكاد يتحدث إلى النبي ويسمع منه حتى يراه سيداه مغرقا في البكاء مكبا على النبي يقبله ويتلطف له، فإذا عاد إلى سيديه سألاه، فإذا هو قد مال إلى ما يدعو إليه هذا الرجل الذي آذته ثقيف وأبى سيداه أن يضيفاه. وقد رجع النبي إلى مكة فلم يستطع أن يدخلها حتى استجار بشريف من أشرافها - هو مطعم بن عدي - فأجاره.
ثم جعل النبي يترقب موسم الحج يعرض نفسه فيه على قبائل العرب أيها يؤويه ويمنعه حتى يبلغ رسالات ربه، فترده قبائل العرب جهلا منها أولا، وكراهة أن تعادي قريشا ثانيا، حتى إذا كان في موسم من المواسم عرض نفسه على قوم من أهل يثرب فوجد عندهم ميلا إليه وإيثارا له فيضرب لهم موعدا من قابل، ويصبر عامه ذاك على الأذى ثم يلقى وفد يثرب فيبايعونه على أن يؤووه ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، وقد استوثق العهد بينه وبينهم وعاد إلى مكة راضيا محبورا.
ثم جعل يأذن لأصحابه في الهجرة إلى يثرب فيهاجرون أرسالا، يهاجر الضعفاء منهم خفية ويهاجر الأقوياء منهم جهرة، وقد فشا الإسلام في يثرب، وقرئ القرآن في كثير من دورها، والنبي مع ذلك مقيم في مكة لا يبرحها، ينتظر أن يؤذن له في الهجرة، وقد استأذنه صاحبه أبو بكر في أن يكون صاحبه في سفره فقبل منه. وقد عرفت قريش ما كان من العهد بينه وبين أهل يثرب وما كان من هجرة أصحابه إليها، فكرهوا أن يهاجر النبي فيصبح هو وأهل يثرب لهم عدوا؛ فاجتمعوا وتشاوروا وانتهى رأيهم إلى أن يرصدوا له عند بيته ليلا نفرا من أحياء قريش على اختلافها ليقتلوه، يضربونه ضربة رجل واحد فيضيع دمه في القبائل ولا يستطيع قومه من بني عبد مناف أن يثئروا لدمه.
قال الرواة: وقد أرصد هذا النفر من قبائل قريش عند بيت النبي ليلا وآذنه الله بمكر قريش فلم ينم في فراشه ليلته تلك، وإنما أمر ربيبه وابن عمه «عليا» أن ينام في فراشه ويتسجى ببرده وخرج على النفر الذين أرصدوا له، فإذا هم قد غشيهم النعاس.
অজানা পৃষ্ঠা
قال الرواة: فوضع على رءوسهم شيئا من تراب ومضى لميعاده مع أبي بكر. فخرجا من مكة مستخفيين حتى انتهيا إلى غار ثور، فأويا إليه ينتظران أن ينقطع طلب قريش لهما، ومكثا في الغار ثلاثة أيام يأتيهما قوتهما كل يوم.
قال أصحاب السيرة: وأصبح الرصد فعلموا أن النبي قد خرج وأنه قد فاتهم، فسقط في أيديهم، وجدت قريش في طلب النبي وصاحبه.
ويتحدث أصحاب السيرة بأن فريقا من الذين جدوا في طلبهما قد بلغوا غار ثور، ذاك الذي أويا إليه، فلم يخطر لهم أنهما يستخفيان فيه، ولو قد نظروا تحت أقدامهم لرأوهما.
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن أبا بكر قد كان قلقا في الغار يخشى أن يدركهما الطلب، وأن النبي كان يهدئ من روعه، بذلك جاءت الآية الكريمة في سورة التوبة:
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم .
وكان أبو بكر قد أعد للسفر كل شيء، فلما قدرا أن طلب قريش لهما قد انقطع مضيا في طريقهما إلى يثرب فبلغاها، واستقبل النبي فيها أحسن استقبال، فرح به أنصاره من الأوس والخزرج في يثرب، وفرح به أصحابه الذين هاجروا قبله إليها. ومنذ ذلك اليوم الذي بلغ النبي فيه يثرب، فتحت أمامه وأمام دعوته طريق جديدة.
13
كان مقام النبي
صلى الله عليه وسلم
بمكة منذ نبئ إلى أن هاجر ثلاث عشرة سنة - فيما يقول جمهور الرواة - لقي فيهن من الجهد ما لقي، وصبر فيهن على الجهد ما صبر، وتأسى به أصحابه ما استطاعوا إلى التأسي به سبيلا، وأنزل فيهن عليه من القرآن شيء كثير.
অজানা পৃষ্ঠা
كان في مكة يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك ويأمر بالعدل وينهى عن الجور، ويجهر بأن الناس جميعا سواء عند الله لا يمتاز بعضهم من بعض إلا بالبر والتقوى، ويحذر الذين يشركون بالله ويجعلون له أندادا عذابا شديدا بعد الموت، وينبئ بأن لهذه الدنيا التي يعيش الناس فيها نهاية لا بد من أن تبلغها يوم تقوم الساعة، ويهول من أمر الساعة هذه تهويلا شديدا تنخلع له القلوب، وينبئ بقربها وبأنها تفجأ الناس على حين غفلة منهم؛ فتذهل الآباء والأمهات عن أبنائهم، وتنسي الإنسان كل شيء إلا نفسه، ويضطرب لها الكون اضطرابا أي اضطراب، فالسماء منفطرة، والكواكب منتثرة، والبحور مفجرة، والقبور مبعثرة، ويومئذ تعلم كل نفس ما قدمت من عمل وما أخرت.
وعلى هذا النحو كان يهول من أمر الساعة وما يكون بعدها من حساب الناس على ما قدموا وما أخروا من أعمالهم، وقد سجل كل عمل أتاه الإنسان في كتاب ينشر أمامه يحصي له حسناته وسيئاته، والنار معروضة عليه والجنة مزلفة له؛ فهو يرى الجحيم كأبشع ما يكون ويرى النعيم كأروع ما يكون، يتمنى هذا ويشفق من ذاك، ولكن كتابه قد نشر بين يديه يحكم له بالنعيم أو يحكم عليه بالجحيم، لا يظلم مثقال ذرة مما عمل، تضاعف له حسناته ولا تضاعف له سيئاته وإنما تحصى عليه كما هي لا يزاد فيها، وقد ينقص منها إن ثقل ميزان الحسنات. فالإنسان على نفسه بصيرة وإن ألقى معاذيره. ويومئذ يروع الكافرون حين يرون الكتاب منشورا فيقولون:
يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا .
فإذا قضي بين الناس بمقدار أعمالهم ذهب أصحاب النعيم إلى نعيمهم خالدين فيه أبدا، وذهب أصحاب الجحيم إلى جحيمهم خالدين فيه أبدا إن كانوا مشركين بالله لا يخلصون له قلوبهم ولا نفوسهم ولا ضمائرهم، وماكثين فيه دهرا يقصر أو يطول لا يقاس ذلك إلا بعفو الله عن الذين أذنبوا واقترفوا السيئات بعد أن آمنوا.
وكانت قريش تسمع هذا كله فتنكره أشد الإنكار وتبغض من يتلوه عليهم أشد البغض؛ فهو ينبئهم بأن المشركين من آبائهم مخلدون في العذاب، وبأنهم سيلحقونهم في النار ويشاركونهم في هذا العذاب المقيم إن لم يجحدوا آباءهم ويجحدوا دينهم هذا ويؤمنوا بالله وحده لا يشركون به شيئا ولا يجعلون له ندا، ويؤمنوا بأن محمدا هذا الذي يتلو عليهم ما يتلو من القرآن رسول الله قد جاءهم من عنده بالحق والبينات. وليس لهم بد بعد هذا الإيمان من أن يلائموا بين حياتهم وبينه ومن أن يأتوا ما يأمرهم به النبي ويجتنبوا ما ينهاهم عنه، فإن خالفوا عن ذلك فالله لهم بالمرصاد والنار لهم معدة يسلكون فيها مع المشركين من آبائهم لا يقبل منهم عدل ولا صرف ولا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون.
وكان العتاة منهم والجبارون ربما سخروا من النبي ومما يتلو عليهم، وربما سألوه أن يأتيهم بآية تثبت لهم صدقه، فكان يتلو عليهم من القرآن ما يرد على سخريتهم، وكان ينبئهم بأنه لا يأتيهم بآية إلا هذا القرآن الذي يتلوه عليهم والذي جاءه من عند ربه، ويتحداهم هو فيسألهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وكان عجزهم عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن هو الدليل على أنه ليس من كلام الناس، وإنما هو من كلام الله الذي لا سبيل إلى تقليده ولا إلى محاكاته، فضلا عن الإتيان بمثل ما يأتي به، وكان يتلو عليهم فيما يتلو هذه الآية الكريمة من سورة الإسراء:
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . وكانوا لا يفهمون ولا تسيغ عقولهم أن تتصل الأسباب بين الله وبين واحد من الناس يوحي إليه هذا الكلام الذي كان يتلوه عليهم ويتحداهم به ويسألهم أن يأتوا بمثله، فيطلبون إليه آيات تكرههم على أن يؤمنوا له؛ يسألونه أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا، أو أن ينشئ لنفسه جنة من نخيل وعنب فيفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو يسقط السماء عليهم كسفا، أو يأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يبتكر لنفسه بيتا من زخرف، أو يرقى في السماء فيأتيهم منها بكتاب يقرءونه. وكان الله يأمره أن يجيب على هذا التحدي بهذه الجملة اليسيرة الرائعة:
سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا .
وكان بعضهم يأتيه أحيانا بالعظام البالية فيفتها بيده وينثرها في الهواء، ثم يسأله ساخرا: من يحيي العظام وهي رميم؟ فكان جوابه حاضرا من القرآن في هذه الآيات الكريمة من سورة يس:
قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون .
অজানা পৃষ্ঠা