وقد بين الرواة الأولون والعلماء من بعدهم أماكن نزول الآيات والسور وتاريخها، وحاول بعض المستشرقين أن يرتب القرآن حسب تاريخ نزول السور، فلم يصنعوا شيئا، وترجم القرآن إلى بعض اللغات الأجنبية أحيانا على هذا الترتيب التاريخي، فكان هذا النحو من الترجمة والترتيب عبثا لا يدل على شيء، وإنما ينأى عما ألف المسلمون من الترتيب المعروف في المصحف.
وما أكثر العلم الذي استنبطه المسلمون من القرآن، فهم استنبطوا منه شرائع الدين وجزءا غير قليل من تاريخ المسلمين بمكة والمدينة، وهم جعلوا من تفسير ألفاظه وتوضيح معانيه علما مستقلا هو علم التفسير، وهم درسوا لهجات القراء كما تظهر في القراءات المختلفة، وجدوا في توجيه هذه القراءات توجيها نحويا، وهم استخرجوا علم تلاوة القرآن كما سمع من القراء الأولين ونظموا قواعد المد والقصر واللغة وإخراج الحروف حسب القراءات المختلفة. وهم اعتمدوا عليه اعتمادا شديدا في تسجيل اللغة العربية في المعجمات ووضع الأصول التي يقوم عليها النحو والصرف. وهم اعتبروه مثلا أعلى لروعة البيان، وعسى أن يكونوا قد اعتمدوا عليه أشد الاعتماد فيما وضعوا من علوم البلاغة ولا سيما البيان والمعاني، إلى آخر العلوم الكثيرة التي استنبطت منه، وألفت فيها وما زالت تؤلف فيها كتب لا تحصى.
ومع أن علم الكلام قد اعتمد على الفلسفة، والفلسفة اليونانية خاصة، فإنه يعتمد اعتمادا شديدا على القرآن في قسم السمعيات من أقسامه وفي أبوابه النظرية.
والمتجنبون من المتكلمين للتأويل والإغراق فيه قد اعتمدوا على القرآن والسنة وحدهما في تفصيل العقائد الإسلامية، واتخذوا الفلسلفة خادما له يدافعون بها عن نصوصه ويخاصمون بها المؤولين والمتكلفين، ويردون بها على الذين قصروا جهدهم على الفلسفة الخالصة، ولم يعرضوا للنصوص وإنما اعتمدوا في إثبات الله ووجوده على النظر وحده يذهبون في ذلك مذهب القدماء من فلاسفة اليونان.
وربما أثارت العناية بالقرآن بعض الخصومات بين المسلمين، كالذي كان حين ذهب المعتزلة إلى أن القرآن مخلوق، وتابعهم على ذلك بعض الخلفاء من بني العباس، فأثاروا بين الناس شرا عظيما وامتحنوا خيار العلماء بألوان من البلاء شداد.
على أن هذه الخصومات الخطيرة لم تلبث أن صارت إلى ما ينبغي أن تصير إليه الخصومات من الجدل الخالص بين العلماء، وذلك حين انصرفت السياسة لما يسرت له، ولم تدخل في شئون ما يكون بين العلماء من اتفاق واختلاف.
وما أكثر ما توارثت الإنسانية من آيات الأدب وروائع البيان في اللغات المختلفة منذ العصور القديمة، لكنا لا نعرف شيئا من هذا التراث عني به الناس على نحو ما عني الناس بالقرآن؛ فهم يقرءون روائع البيان هذه ويشرحونها، ويكثرون البحث والدوران حولها، ولكن هذا كله لا يتجاوز الخاصة الذين يقفون أنفسهم على هذا النحو من الدرس.
فأما القرآن فالعناية به لا تشبهها عناية، فليس من المسلمين - على كثرتهم واختلاف أجناسهم وتعاقب أجيالهم - من لا يحفظ من القرآن قليلا أو كثيرا؛ لأن أداء الصلاة لا يتم ولا يستقيم إلا بقراءة شيء من القرآن فيها.
فليس بد للمسلم من أن يحفظ منه ما يؤدي به صلاته، وما نعرف أحدا يحفظ أثرا من الآثار البيانية عن ظهر قلب كما يحفظ كثير من المسلمين القرآن، يحفظه كثير منهم حفظا يصاحبه فهم النصوص ، ويحفظه أكثرهم حفظا دون أن يفهموه فهما واضحا؛ أولئك وهؤلاء يرون حفظه تعبدا وقربى إلى الله. وما أكثر المسلمين الذين يحفظون القرآن ليتخذوا تلاوته مهنة يكسبون بها قوتهم! ولولا أن المسلمين جميعا يحرصون على أن يسمعوا القرآن تتلى عليهم آياته في كل يوم وفي بعض الظروف الخاصة لما وجدت هذه الصناعة ولما نفقت سوقها، ولما كثر أولئك الذين يدخلون بالقرآن كثيرا من البيوت يصبحون الناس بآيات منه ويمسونهم، ولما كثر المصوتون به أولئك الذين يجتمع لهم الناس ليسمعوهم ويعجبوا بأصواتهم وتلاوتهم في ظروف الحزن والفرح.
وجاء اختراع الإذاعة فكثرت إذاعة القرآن يصوت به أصحاب الأصوات الحسان في البلاد الإسلامية وفي البلاد الأجنبية التي توجه الإذاعة إلى المسلمين لأسباب سياسية وغير سياسية.
অজানা পৃষ্ঠা