وبلغ «يثرب» فاستأنف حياة جديدة، وفتحت له إلى نشر دعوته طرق جديدة أيضا. وجد في «يثرب» مسلمين قد آمنوا بالله ورسوله قبل الهجرة وفشا الإسلام بينهم حتى كثروا، ووجد بينهم مشركين لم يدخل الإيمان في قلوبهم فمنهم من هدى الله إلى الحق فآمن وصدق إيمانه، ومنهم من أشفق من عواقب العناد فأظهر الإسلام وأبطن الكفر وعاش منافقا. ووجد فيها يهودا قد استمسكوا بما توارثوا من دينهم؛ فلم يكن له بد من أن يلائم بين حياته الجديدة في «يثرب» وبين هذه الطوائف المختلفة من الناس.
ولم تكن حياته في «يثرب» أهون ولا أيسر من حياته في مكة، ولعلها كانت أشق منها وأحفل منها بالخطوب، ولكنه استقبلها راضيا بها شاكرا لها حامدا لربه على أن أتاح له الأمن والنصر والمأوى حتى يبلغ رسالته ويؤدي حق الله عليه.
وقد بدأ بالمؤاخاة بين المهاجرين من أهل مكة والأنصار من أهل يثرب، فأنشأ بينهم صلة قوية بعيدة الأثر في حياتهم هي صلة الإخاء بأوسع معانيه وأدقها، ثم عقد نوعا من الحلف بينه وبين أصحابه من جهة وبين اليهود من جهة أخرى على أن يكون بينهم النصر على العدو والعون على الكوارث والأحداث.
ثم جعل هو ومن تبعه من المهاجرين والأنصار يعبدون الله جهرة لا يستخفون بدينهم ولا يخافون فتنة عنه. وقد اتخذ النبي مسجدا عاما لأول مرة في الإسلام؛ يدعو فيه إلى ربه، ويقيم فيه الصلاة، ويجلس فيه للناس فيعلمهم ويؤدبهم ويبصرهم بما يجب عليهم أن يأتوا، وينهاهم عما يجب عليهم أن يجتنبوا، ويبين لهم محاسن الأخلاق وخير الأعمال، ويدلهم على ما يليق بالرجل المؤمن الكريم على نفسه وعلى غيره وما لا يليق به، كل ذلك في أمن ودعة وهدوء. ولم يكشف للمنافقين من أهل «يثرب» سترا، وإنما اكتفى منهم بما أظهروا للإسلام، فلم يعرض لهم بشيء مما يكرهون وإن كان الله قد أعلمه بمكانهم من النفاق. وكان كثيرا ما يقول لأصحابه: «إني لم أومر بأن أفتش عما في القلوب.» وكان جديرا أن يظل كذلك في أمنه وهدوئه وما أتيح له من هذه الحياة الوادعة على قسوتها. ولكنه لم يلبث ولم يلبث أصحابه معه أن وجدوا أنفسهم بين عدوين ليس أحدهما بأقل خطرا من صاحبه: فأما أولهما فهم هؤلاء اليهود الذين لم يؤمنوا به ولم يستكرههم على أن يؤمنوا به، وإنما اكتفى منهم بالمسالمة والموادعة وحسن الجوار والمناصرة عند الحاجة، ولكنهم لم يخلصوا لما كان بينه وبينهم من عهد وإنما أظهروا المسالمة وأضمروا الغدر، ثم لم يكتفوا بذلك بل أظهروا التكذيب لدينه وجادلوا فيه فأكثروا الجدال.
وأما العدو الآخر فقريش تلك التي تركها محفظة عليه أشد الحفيظة، كانت تحب أن تقتله أو تثبته أو تخرجه من مكة جهرة طريدا على رءوس الأشهاد، ولكنها تنظر فإذا هي لم تبلغ مما أرادت به شيئا، لم يغن عنها كيدها له وائتمارها به، وإنما كانت كما وصفها القرآن الكريم في الآية الكريمة من سورة الأنفال:
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين . مكروا به حين كان بين أظهرهم ولكنهم لم يقدروا عليه، قد أنجاه الله منهم وأبدله بهم قوما آووه ونصروه؛ فلا يمكن أن تطيب نفوس قريش عما أتيح له من الأمن والدعة، وهي بعد ذلك تعرف أنها قد ظلمته وظلمت أصحابه معه أبشع الظلم وأشنعه؛ فهي لا تأمن أن ينتقم منها لما أصابه، بل تحذر أن يتخذ من أمنه في يثرب ومن أنصاره هؤلاء الجدد وسيلة إلى نصب الحرب لها، وهي من أجل ذلك حذرة أشد الحذر، قلقة أشد القلق، تريد أن تتقيه مهما تكن وسيلتها إلى ذلك؛ فهي تؤلب عليه وتغري به وتكيد له بعيدا عنها كما كادت له قريبا منها، تؤلب عليه العرب وتغري به اليهود، ثم هي بعد ذلك تؤذي من لم تتح له الهجرة من أصحابه أشد الأذى وأنكره، فلا غرابة في ألا يحول على هجرته إلى المدينة حتى يظهر الشر بينه وبين قريش، ويتبين أن الأمر بينهما صائر إلى الحرب لا محالة؛ فقريش عدوه وهي تراه لها عدوا، وترى مكانه من «يثرب» خطرا على تجارتها إلى الشام، ولا يكاد العام الثاني من هجرته يبلغ ثلثيه حتى تكون الحرب بينه وبينهم يوم «بدر».
كانوا كثرة وكان هو وأصحابه قلة، كان هو وأصحابه يوم التقى الجمعان يرون عدوهم مثليهم رأي العين، ولكن شتان بين قوم يقاتلون عن دينهم وعن إيمانهم بهذا الدين وهم مستيقنون أنهم إن ينصروا نعموا بانتصارهم في الحياة الدنيا وظفروا بأجرهم على الجهاد، وإن يقتلوا فهم شهداء عند الله قد ضمن لهم نعيما ليس مثله نعيم، نعيم صفو خالد لا كدر فيه ولا انقطاع له؛ وبين قوم يقاتلون عن أموالهم وعما يملؤهم من الغرور والكبرياء.
فلم تنشب الحرب بين الفريقين حتى أنزل الله نصره على نبيه وعلى المؤمنين، وانهزمت قريش هزيمة منكرة قتل صناديدها وأسرت جماعة من سادتها وكثرت الغنيمة، وعاد المنهزمون إلى مكة قد أحرزوا تجارتهم تلك التي نجا بها أبو سفيان ولم يكد، ولكنهم عادوا بخزي أي خزي يشقون بنار الهزيمة وفقد الصناديد والسادة والإخوان والآباء والأخلاء. وقد قص الله هذه الموقعة أروع القصص في سورة الأنفال.
ومن ذلك اليوم - يوم بدر - تسامعت العرب بالنبي وأحست قوته وبأسه وامتلأت قلوبهم منه رعبا. على أن قريشا لم تصبر على هزيمتها ولم تتعز عمن فقدت من سادتها وأحبائها، فجعلت تتهيأ للثأر، ترصد لذلك المال وتجمع الجموع، وأخذتها العزة بالإثم فحظرت إعلان الحزن على من قتل من رجالها.
وأقبلت حين دار العام إلى المدينة تريد أن تثأر وأن تنتصر على الذين انتصروا عليها، وقد كادت تعود إلى مكة بالخزي والخسار وخيبة الأمل، لولا أن هم بعض المسلمين بالفشل وطمع بعضهم في الغنيمة حين أراهم الله من النصر ما يحبون؛ فكرت عليهم قريش كرة كانت ابتلاء من الله لهم وتمحيصا لقلوبهم ودرسا قاسيا، عرف المسلمون كيف ينتفعون به فيما استقبلوا من أيامهم، وفيما أثير لهم من الخطوب والمشكلات.
অজানা পৃষ্ঠা