على أن ذلك الفتى الذي افتداه أبوه بالإبل فأغلى في الفداء لم يعمر، وإنما زوجه أبوه ثم أرسله إلى الشام مع قومه للتجارة، فذهب ولم يعد، أدركه الموت بيثرب في عودته من الشام، وقد ولد بعد موته صبي هو الذي اختاره الله ليأتي العرب بدينهم الجديد.
وفي تلك الأيام نفسها تعرضت مكة لخطر شديد: أقبل الحبشة إليها من اليمن غزاة يريدون أن يملكوا الحجاز كما ملكوا اليمن، وأن ينشروا في الحجاز دين المسيح كما حاولوا نشره في اليمن بعد أن انتقموا لتلك المدينة المسيحية «نجران»، وكانوا بالطبع مزمعين أن يهدموا الكعبة وأن يحطموا ما نصب عليها من الأوثان، ولكن الله بالغ أمره قد جعل لكل شيء قدرا؛ فهو يصد الحبشة عن مكة ويمنعهم أن يدخلوها ويردهم إلى اليمن مدحورين قد بلغ منهم الجهد وأصابهم ما أصابهم من الشر الذي صوره الله عز وجل أروع تصوير في السورة الكريمة:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول .
وما أحب أن أعرض لتأويل هذه الطير الأبابيل التي رمت الحبشة بحجارة من سجيل فجعلتهم كعصف مأكول؛ لأني أوثر دائما أن أقبل النص وأفهمه كما قبله وفهمه المسلمون الأولون حين تلاه عليهم النبي
صلى الله عليه وسلم .
وفي هذه الموقعة أظهر عبد المطلب من الصبر والجلد ومن الشجاعة والثقة ما لم يظهره غيره من أشراف قريش، فضلا عن أوساطها وعامتها؛ ذلك أنه أشار على قريش أن تخلي مكة وتلوذ بشعاف الجبال وتخلي بين هذا الجيش العظيم وبين ما يريد، فسمع له قومه وتجنبوا الحرب وأقام هو بمكة لم يعتزلها فيمن اعتزلها، وإنما قام عند الكعبة يدعو الله ويستنصره.
ويقول الرواة: إن الجيش أغار فيما أغار على إبل قريش فاحتازها وجاء عبد المطلب حتى استأذن على أبرهة عظيم الحبشة وقائد جيشها، فلما أدخل عليه لم يكلمه إلا في إبل له أخذها الجيش فيما أخذ من إبل قريش.
قال الرواة: فصغر عبد المطلب في نفس أبرهة، وقال له: كنت أظن أنك جئت تكلمني في شأن مكة وفي شأن بيتكم هذا الذي تعظمونه، فإذا أنت لا تسألني إلا أن أرد عليك إبلك!
قال عبد المطلب: فإني أكلمك في مالي الذي أملكه، فأما البيت فإن له ربا يحميه إن شاء.
فردت عليه إبله وعاد إلى مكانه من الكعبة يدعو الله ويستنصره.
অজানা পৃষ্ঠা