وما كاد يلقى إليه الخبر حتى ثار وقذف بالحمم، وأمر بضربه مائة سوط، ثم بحبسه.
وكان بمجلس الوليد يزيد بن خالد، وعبد الله بن سعيد، والأبرش الكلبي، فقال ابن خالد: إني أرى يا أمير المؤمنين أن تنزل حمص فإنها حصينة، وأن توجه منها الجنود إلى يزيد حتى يظهرك الله عليه. وقال ابن سعيد: لا ينبغي للخليفة أن يرتحل بجنوده، ويدع نساءه في أيدي أعدائه، والله مؤيد أمير المؤمنين وناصره، فابتدره ابن خالد قائلا: وماذا يخاف أمير المؤمنين على نسائه، وقائد جيش عدوه هو ابن عمه عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك؟ فصاح الوليد في غضب وسآمة: لن أرحل، ولن أترك أهلي ونسائي. وأشار عليه الأبرش أن ينزل بحصن البخراء، وأن يقاتل أعداءه حوله، فأخذ الوليد برأيه، وانتقل إليه. أما دعاة يزيد فانطلقوا ينادون في الناس: من سار للقتال مع يزيد فله ألفان! فهرع إليه كثير من مرتزقة المحاربين.
ثم علم عبد العزيز بن الحجاج قائد جيش يزيد أن العباس بن الوليد قادم لمناصرة الوليد بطائفة من أهله ورجاله، فسقط في يده، وأيقن أن شيئا من ذلك لو يتم لتفرق عنه رجاله لشدة ثقتهم بالعباس، وحبهم إياه، واعتقادهم أن الفئة التي يظاهرها هي الفئة الغالبة، ولذلك أسرع فبعث منصور بن جمهور على رأس فرقة من الجند لتحول بين العباس والوصول إلى الوليد.
وسار منصور وهدد العباس، وساقه مع من معه إلى مخيم ابن الحجاج، فلما وصل إليه أمره ابن الحجاج أن يبايع لأخيه يزيد فبايع مكرها مغلوبا، ونصب ابن الحجاج راية العباس، وأمر مناديا أن ينادي في الناس: هذه راية العباس، وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد، وما كاد أصحاب الوليد يسمعون هذا النداء حتى تفرقوا عنه، وانضموا إلى جيش أعدائه.
ولكن الوليد كان شجاعا مقداما بعروبته، وطبعه الموروث، فلم يأبه لانصراف أصحابه عنه، واعتزم أن يلقى القوم بنفسه، ففي أحد أيام جمادى الأول من سنة ست وعشرين ومائة ركب فرسه «السندي»، وقذف بنفسه في حومة الحرب فقاتل قتالا شديدا، ولكن القوم تزاحموا عليه حتى كادت تنوشه سيوفهم، فدخل الحصن، وأغلق الباب دونه، ثم أخذ المصحف وجلس يرتل آيات القرآن الكريم، وانتحى أبو رقية ناحية من الحجرة، وأخذ يفتح عينيه ويغمضهما كأنه يصلي بإيماء العينين.
ووثب يزيد بن عنبسة نحو الباب وصاح قائلا: كلمني يا وليد، فلقد كنت تبحث عني في كل مكان، وها أنذا قد أتيت إليك طائعا، ولكني أظنك لا تود اليوم لقائي، لقد حاربتني في سلمى أيها الرجل فانتصر الموت علينا جميعا، واستأثر بها، واليوم تلقى جزاءك بما قدمت! لا تخف يا أبا العباس فإني لن ألقاك، ولكن سيفي هو الذي سيلقاك. فقال الوليد: لم تقتلونني لا أبا لكم؟ ألم أزد في أعطيات أصحاب العطاء؟ ألم أرفع المؤن عن كثير من الناس؟ ألم أعط الفقراء؟ ألم أعطف على الزمنى؟ فصاح ابن عنبسة: إنا نقتلك لننقذ الخلافة من يديك، فغضب الوليد وقال: حسبك يا ابن عنبسة، إن الخلافة أكرم على الله من أن ينقذها مثلك، ثم عاد إلى التلاوة وهو يردد: يوم كيوم عثمان! فسخر منه ابن عنبسة، وجبهه بمقذع السباب، وغليظ القول، ثم وثب فوق الحائط، وانطلق وراءه نفر من أصحابه، ولما قرب من الوليد قبض على يده وكان يريد أن يأسره، ويذهب به إلى القوم ليفصلوا في أمره، ولكن رجلا عاجله بضربة سيف فخر صريعا مضرجا بدمائه، وتقدم ثان فاجتز رأسه، وأشرع روح بن مقبل فحمل الرأس وطار إلى يزيد فرحا بما يحمل، فلما وصل إلى خيمته قذف أمامه به وهو يقول: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الوليد، وأسر من كان معه، هذا نصر مبين مؤزر! فسجد يزيد شكرا، ثم التفت إليه باكيا وقال: كنت أرضى منكم بدون هذا، أما القتل فبلاء عظيم!
ودخل ابن عنبسة فأخذ بيد يزيد، وقال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله لك، وإتمام نعمته عليك، فارتعد يزيد وقال: ويلي إذا لم يغفر الله لي! قل لي بالله يا ابن عنبسة: ماذا قال لكم الوليد قبل قتله؟ فأجاب ابن عنبسة: لقد كان يقول: أما فيكم ذو حسب فأكلمه؟ أليس منكم رجل رشيد يستمع لما أقول؟ ولكنا أوسعناه تقريعا، وتواثبنا عليه فروينا أديم الأرض بدمائه. فصاح يزيد: كفاك يا ابن عنبسة كفاك! لقد لعمري أكثرت وأغرقت، أما والله لا يرتق بعدها لكم فتق، ولا يلم شعث، ولا تجتمع كلمة! إن الرءوس التي حصدها الحجاج بن يوسف بعد أن أينعت وحان قطافها ستثأر اليوم لنفسها! لقد حق القول على بني أمية، وانهار بناؤها، وخربت - كما يقول العباس - بيوتها بأيديها! وإنما أنا والوليد رجلان المنتصر منهما المهزوم، والقاتل منهما المقتول!
يصاولني والسيف بيني وبينه
وأقتله عمدا، وفي قتله قتلي!
অজানা পৃষ্ঠা