هناك مذهب فلسفي دعت إليه، بوجه خاص، المدرسة الفلسفية الإنجليزية في القرنين السابع عشر والثامن عشر (لوك 1632-1704م، هيوم 1711-1776م). هذا المذهب لا يكتفي بالقول بأن لمعارفنا جميعها «أصلا» تجريبيا، وهو أمر لا شك في صحته، إذ إننا لا نستطيع أن نعرف شيئا قبل التجربة؛ بل يذهب إلى أن كل معارفنا ناشئة عن التجربة أو الحواس، وهو أمر مختلف كل الاختلاف، إذ معناه أن التجربة وحدها هي السبب في وجود معارفنا كلها، وفي تبريرها. وسنرى فيما بعد، أن هذا رأي لم يتفق عليه مطلقا. ومن جهة أخرى، فإن التسوية بين التجربة والإحساس، هو بدوره رأي لم يتفق عليه مطلقا؛ إذ ليس من المؤكد أن التجربة ترجع إلى الحس؛ بل من الجائز أن تحتوي على عناصر تأتي من مصدر مختلف كل الاختلاف - ويسمى هذا المذهب بالمذهب «التجريبي» (
emprisme )، وهي كلمة مشتقة من اليونانية، ومعناها التجربة.
6
كذلك يوجد مذهب تجريبي يسلك نفس المسلك في تفسير أصل المعاني التي تكون الامتداد.
ولنضرب لذلك مثلا: فكتب الهندسة الأولية تقول عادة إن الخيط الممتد يوحي إلينا بفكرة الخط المستقيم، وإن صفحة المياه الهادئة توحي بفكرة المسطح. ولكن إذا ما تركنا جانبا الصعوبة التي تتمثل في أن الخيط الممتد ليس خطا مستقيما، وإنما هو منحنى يسمى «قوسا» قد يقترب أو يبتعد عن الخط المستقيم الذي يعتبر حده النهائي، وكذلك إذا ما تركنا جانبا الصعوبة الأخرى، التي تتمثل في أن صفحة المياه الهادئة ليست مسطحا، لوجود التموجات التي ترفع الماء بهدوء شديد على الضفتين، فكيف يمكن أن نتصور العملية التي «نغض الطرف» فيها عن سمك الخيط؟ إن «غض الطرف» معناه «ألا نحسب حسابا ...» أي أن «نغفل، أو ألا ندرك» ولكن إذا كان المرء يغفل السمك أو لا يدركه، فذلك لأنه يفكر في شيء آخر. أي يفكر في محور الخيط، ويتصور الخط المستقيم الذي يعبر عن اتجاهه غير أن هذا التجريد لا يحل مشكلة معرفة مصدر المحور وفكرة الاتجاه. وفضلا عن ذلك، فعلم المكان يثير أفكارا أخرى عديدة، تفوق هذه عمقا وتعقيدا، ومنها المنحنيات، مثل «القطاعات المخروطية» بما فيها من قطع مخروطي وقطع زائد وقطع ناقص؛ وهي كلها معان أصبح بحثها أمرا مألوفا منذ عهد بعيد ولكن التجربة لا تزودنا بأية صورة محددة لها . ونحن، وإن كنا نقول إن مدارات الكواكب بيضاوية، فإننا متى أردنا أن نتبين ذلك وجب علينا أن نتصور الشكل البيضاوي أولا، دون أي نموذج ولم يكن لدى اليونانيين، حين أدركوا القطاعات المخروطية، أي أنموذج؛ بل استمدوها كلها من أذهانهم.
وهكذا يجد المرء نفسه مضطرا إلى القول بأن فكرة الامتداد لا تأتي من التجربة، وأن الهندسة بأسرها «أولية
a priori »، أي إن التجربة ليست هي الأساس الذي يبرر وجودها.
لكن المكان لا يتكشف بحدس «أولي» بل هو يركب بطريقة أولية
وعلى ذلك، فالمذهب الأولي أو العقلي هو الصحيح. ومع ذلك فعلينا أن نحسن فهم هذا المذهب، وألا نفرط في تبسيطه. وأبسط صورة - بل أبسطها إلى حد الغلو - هو الاعتقاد أن هناك عالما عقليا، نستكشفه بملكة خاصة، أو قد تكشف لنا بالأحرى قبل التجربة، أي قبل ميلادنا، وهو، كما يقال، عالم «فطري» وتلك هي بحذافيرها نظرية أفلاطون، ومالبرانش (1638-1716م)؛ فقد وصف أفلاطون رحلة النفس خلال عالم «المثل» قبل هبوطها إلى عالم الأبدان، كما قال مالبرانش إننا نرى «الامتداد المعقول» في العقل الإلهي، لكن يجب علينا أن نتعمق فهم فكرتهما، إذ لو فهمها المرء على نحو سطحي، لواجهته صعوبات لا سبيل إلى حلها؛ إذ ما هي ملكة إدراك المعاني المحضة، ورؤيتها على نحو ما ترى الأجسام؟ إنها نوع من الإحساس الذي ينصب على شيء غير المادة، وإذا فهم المذهب العقلي على هذا النحو، لم يعد إلا مذهبا تجريبيا محورا، تحول إلى الطابع الأسطوري.
والفكرة التي ترشدنا في تفسير المذهب الأولي
অজানা পৃষ্ঠা