قال همام: عهدي بالآباء يغضبون ويتهددون فما يفعلون، ويبرقون فلا يمطرون.
قال سعيد: ليس الآباء سواء، فوالدي قاسي القلب جافي الأخلاق، إن قال شيئا فعل، ولعلمي بطباعه انقدت لأمره مطيعا، وتركت القاهرة قهرا عني، وكنت إذا طلبت منه النقود التمستها من إيراد مالي الخاص الموروث عن أمي، وهي في إدارته وتصرفه فأبى أن يرسل إلي القرش الواحد، وكان متكدرا كثيرا لما بلغه أني صرفت خمسة عشر ألف فرنك في مدة ثلاثة شهور، فخفضت لإرادته الجناح، ولم أستعمل معه العناد لئلا يجفوني ويحرمني من الميراث، وهو - كما لا يخفى عليك - كثير الأموال تبلغ ثروته زيادة على مائتي ألف جنيه، فضلا عن تجارته الواسعة، ومن كان مثله في هذا الغنى فهو جدير بالرعاية والإكرام، ولذلك قد لبيت أمره بالإطاعة مرغما، وفي ودي أني أقيم في مصر مديدا لدواع كثيرة.
قال همام: أظن أن من تلك الدواعي كلفك بالفتاة الشقراء التي رأيتها في مخزن الخياطة.
فابتسم سعيد وقال: سبحان الله! تحب الهزار في كل آن، فدعني الآن أخبرك عما جرى بيني وبين والدي، وكيف سمح لي بالعودة إلى القاهرة ثانية.
قال همام: أخبرني الآن عن أمرك مع أبيك، ثم تخبرني عن صاحبتك.
قال سعيد: بعد وصولي إلى بيت أبي بثلاثة أيام كابدت العناء من خشونة المعيشة عنده، والفرق بينها وبين المعيشة في القاهرة بعيد المدى، ففي مصر تكثر أسباب الحظ والانشراح والملاهي المتنوعة، وفيها الشوارع الجميلة والأنوار اللامعة البهية والجنائن الباسقة الزهية، وهي تزيد في الحسن يوما عن يوم، فلو استمرت على هذا الترقي أصبحت ولا شك أجمل مدينة في الشرق، ومن اعتاد على المعيشة فيها لم ترق في عينيه المعيشة في الأرياف بين الفلاحين، ومن أجل ذلك عقد عزيمتي على العودة إليها، وجعلت أختلق الأسباب للتعكير على والدي، فاشتريت خيلا كنت أركبها، وأعبث في المزارع أتلفها، واقتنيت كثيرا من كلاب الصيد كنت أذهب بها فأتلف النبات، وأنا دائما ثائر غضبان أخاصم من أراه حتى زهقت روح والدي، فصرح لي بالعودة إلى القاهرة وفي قلبه النقمة، وقد ودعني وهو يقول لي: الخير أن تبدد مالك من أن تبدد مالي، فاذهب إلى حيث شئت، فإني لا أستطيع رؤيتك ومشاهدة ما تصنع من الأمور السمجة وما تبذر من الأموال سفها، حتى أصبحت أخشى على أيامي أن تنفد هما وغما عليك وكدرا منك، فعندما سمعت هذا الكلام منه أظهرت الأسف وأبطنت السرور، فلما أصبح الصباح جهزت أدوات السفر، وجمعت شيئا من النقود أنفقته على نفسي في سفرتي، وكان حضوري إلى مصر أمس، وها أنا الآن بين يديك.
قال همام: تسمح لي أقول الحق، فقد كثرت في القاهرة أسباب الفساد وأنواع الرذائل، واشتد بطر الشبان الأغنياء وغوايتهم، فأنفقوا ما ورث لهم الآباء من مال وعقار، فهم الآن من سوء تدبيرهم ومعصيتهم في فقر مدقع، والخمارات أصبحت في طول الشوارع، وكذلك القهاوي ومحلات القمار وبيوت العاهرات المنتشرة في جميع الأقسام، وكل ذلك أسباب لتخريب البيوت العامرة، فما يكاد يسلم فتى من شرها، واتصلت الرعونة بالبعض من الشبان حتى جعلوا يتباهون في الفساد وفي العناد، وهم عن عاقبة أمرهم لاهون، يجدون ملازمة هذه الأماكن المعدة للفسق واللهو نعيما لهم، وهي على الحقيقة جهنم، تأكل بنيرانها أبدانهم وأموالهم، وقد تفرس والدك بحزمه جميع الشرور فمنعك عن المقام في هذه المدينة مخافة عليك أن تغوى مع الغاوين، وقد أصاب لعمري بما فعل، وفي ظني أنه سيجيء بنفسه هنا إذ لا بد أنه يكون مشتغل البال من جهتك.
قال: حزرت، فهو سيحضر عما قليل من الأيام لا لأجلي بل لأجل دعوى كبيرة له في المحاكم تهمه كثيرا، وله خصوم شديدون قادرون بعلاقاتهم مع بعض القضاة، فيخشى على دعوته من الضياع والخسران.
قال همام: لا أظن ذلك ممكنا، فالأحكام قد انتظمت عن الأول والعدل موجود، فإن كان والدك محقا في دعواه كسبها لا محالة، على أني أسألك عن أختك سعدى هل تحضر معه أو لا؟
أجاب سعيد: تحضر، فهو لا يمكن تركها وحدها في الريف.
অজানা পৃষ্ঠা