وانظر فإن حشاشتي كصحيفة
لا شك أن الدمع من عنوانها
ثم تجلد ونهض قائما، وركب جواده وتوجه قاصدا طريق القبة لعله ينظر مليكة فؤاده؛ إذ ليس له أمل في غير تلك النظرة.
ولما وصل إلى القبة، ودخل إلى جهة غرفة «مندان» مستأذنا - كما قدمنا - سمع ذاك الأنين والنحيب - كما سلف - فخفق فؤاده، وظن أنه قد أصابها ما أصابه من الوجد والهيام فخفق وطيء أقدامه، وصغى إلى ما تتلفظ به من الكلمات، وإذا بها تذكر عظمة الإله الأعظم جل وتعالت أسماؤه، وتقول: إلهي عظمت قدرتك، واشتد بطشك، إلهي خلصني من يد من يعبدون غيرك ويأكلون خيرك، يا أعظم من كل عظيم، قد طال - وعزتك - أمد هذا العناء، وعظم البلاء، واشتد الكرب، وعيل الصبر. اللهم خلصني و... خرت مغشيا عليها - كما تقدم.
وكان «ألفونك» سامعا ما تلفظت به من ذكر الله - سبحانه وتعالى - وقد اقشعر جسمه، وحن قلبه، واشتاق إلى معرفة هذا الإله الذي سمع اسمه من أحلى ثغر وأحب نغمة طرقت مسامعه، فارتعشت أعضاؤه، وقد سمع سقوطها على الأرض فطاش لبه، وفتح الباب، وهجم على غير انتباه، وهو غائب الرشد، وقد حملها بين ذراعيه، وطرحها على سريرها، وهو باكي العين حزين القلب، وقد اجتهد في تنبيهها حتى أفاقت، وفتحت عينيها، فوجدت ابن الملك فوق رأسها، فاندهشت لحضوره في مثل هذا الوقت، ولما رأى منها الحيرة، قال لها: كوني مطمئنة يا مولاتي، ولا تزعجي أفكارك، فإني ما أتيت إلا على سبيل الزيارة، فوجدتك على هذه الحالة. والآن أقدم رجائي بين يديك، وأتوسل بهذا الإله الذي تذكرينه بهذه الصورة، وهذا التوجع الخارج من صميم الفؤاد أن تخبريني ما سبب بكائك، واصدقيني حقيقة خبر حالك؛ لأني أرى لك شأنا وأي شأن، واعلمي أني أعاهدك عهدا مقرونا بالذمة والشرف على أن أكون لك مساعدا ومعينا ما دمت حيا، وأعضدك بكل ما في وسعي، ولو كان في هذا ضياع نفسي.
ولما سمعت «مندان» هذا الكلام الصادر عن قلب خال من الغش والرياء مجبول على الإخلاص، وحسن الطوية قالت: يا سيدي إني أعتقد صدق ما تقول، ولكن لا أقدر على إخبارك بكل ما عندي.
فقال: يا مندان! ... ثم سكت برهة يفكر، وكان جل فكره أن يدخل في دينها، ويعبد الإله الذي تعبده.
ثم رفع رأسه، وقال: إني سمعتك تذكرين إله السماء، فهل تكونين لي مرشدة إلى طريق عبادته حتى أكون لك عبدا ما دمت في قيد الحياة؟
ولما سمعت «مندان» منه ذلك تهللت أسرتها وأبرق جبينها بأشعة الفرح، والتفتت إليه قائلة: هل تريد أن تدخل في الدين القويم، وهو دين إبراهيم الخليل؟! واعلم أن كل ما عبدتموه من هذه المعبودات باطل لا أصل له؛ لأنها كلها صنعة الخالق، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فمثل هذا الكبش مثلا، فإنه لا يقدر على شيء ولا يدرأ عن نفسه شيئا، ويذبح ويؤكل مثل غيره من الحيوانات كذلك، فكيف يجوز لنا أن نعبدهم؟! ولنا رب هو خالق السماوات - سبحانه - إذ جعل فيهم نجوما زاهرات، وسير الشمس والقمر والأفلاك بقدرته، ونظم الكون، ومد البحار، ودبر المخلوقات، وحكمته ظاهرة في شخص الإنسان أيضا، فكيف يصح لنا، بعد معرفته، أن نعبد غيره، وهو خالقنا ورازقنا وواقينا من كل سوء؟!
فلما سمع منها هذا الكلام قال لها: قد سلبت لي بما أوضحت لي، وقد تولع قلبي بمحبة هذا الإله العظيم؛ فأرجو إرشادي إلى الطريق الذي يوصلني إلى عبادته.
অজানা পৃষ্ঠা