والعارف عندنا من أراه طريق النجاة، فليست إلا بالتسليم للمعقول، وجهاد النفس بالقبول، والاعتماد بأمر علام الغيوب، وإكذاب خواطر القلوب، لأن العاقل إذا ورد عليه شيئان أحدهما ظن، والآخر يقين، وجب عليه قبول أصدقهما، وإبطال أفسدهما بأحقهما، فإن الحق لا يشبه المحال، والهدى لا يماثل الضلال، والعلم لا يقاس بالجهل، والظن لا يمثل بالعقل، والصحة لا توازن السقم، والدليل أولى من الوهم، وصحة الخبرة، أولى من وساوس الحيرة، فيجب على المتعبد أن ينظر الأمر من المتناهيين، المختلفين المتغايرين، المتباعدين المتنافرين، فليستمع قولهما، وينظر دلالتهما، ثم ينظر اختلافهما، فلن يشتبه ضدان أبدا. فليأخذ بأوضحهما دليلا، وأنورهما سبيلا، ويجاهد نفسه على قبوله أشد الجهاد، ويحرس قلبه من الفساد، ولا يبرح صابرا مصطبرا، متيقضا من السهو متفكرا، فلن يشتبه الحق والباطل عنده إن عقل، ولن يهدى إلى الرشد إن غفل.
فرحم الله عبدا نظر لنفسه في أوان المهل، قبل حضور ما وعد به من الأجل، فلعمري لو لم يكن لنا من النظر، إلا ما في أنفسنا من الآيات والعبر، لكان لنا في ذلك كافية، وأدلة واضحة شافية وبراهين جليلة باهرة، وآيات عظيمة قاهرة، وأنوار مبصرة زاهرة، من خلق الذكر والأنثى، من نطفة من مني تمنى، لا سمع فيها ولا بصر، ولا عقل ولا شعر ولا بشر، ولا حياة ولا حكمة، ولا إرادة ولا همة، فبينما هو كذلك إذ هو بشر سوي، حكيم عالم عاقل حي، سميع بصير قوي، أجزاء محكمة، متقنة مفصلة، وآيات محبوكة متسقة موصلة، ومفاصل مجموعة معتملة، وحكمة بالغة معتمدة، مأسورة مشدودة مؤكدة، تدل على حكمة صانعها، ويشهد بالفطرة لفاطرها، وتبين لناظرها، لا يمتنع عاقل حكيم من التصديق بأن تأليفها بعد العدم يدل على مؤلفها، وتصريف فطرتها دليل على مصرفها، وإتقان ما لم يكن متقنا منها دليل على متقنها، وتفصيل أجزائها دليل على مفصلها، وتوصيل آلائها دليل على موصلها.
পৃষ্ঠা ৯১