إلا أنه حدث لذلك الضابط الشجاع في نهاية المعركة حادث كدر صفو ذلك الانتصار، فإنه بينما كان يتتبع آثار العدو ويضرب في مؤخرته إذ انقطع حزام سرجه - وكان باليا واهيا - فعجز عن التماسك، فسقط عن جواده فداسته حوافر الخيل، ثم انتبه له بعض الجنود فداروا به واحتملوه إلى المعسكر، وكانت فيه بقية من الحياة، فقضى ساعة يتألم ألما شديدا ويهتف باسم أخ له اسمه «استيفن» حتى فاضت روحه، فحزن الجيش عليه حزنا شديدا، وبكاه القواد ورؤساء الفرق، ثم دفن باحتفال عظيم لائق بشجاعته وإقدامه، وحميته التي ليس لها مثيل. (61) البيت الجديد
وقف «استيفن» على عتبة باب بيته الجديد، وكان البناءون لا يزالون يشتغلون باستصلاح بعض أنحائه، فهتف صديقه «فرتز» فلباه، فقال له: هل تم بناء الغرفتين الجديدتين على الصورة التي اتفقنا عليها، قال: نعم يا سيدي وتم كذلك تجصيصهما وتزجيج نوافذهما، فجزاه خيرا، ثم التفت إلى البستاني وقال له: هل غرست أشجار الفاكهة التي أرسلتها إليك بالأمس؟ قال: نعم يا سيدي، وستكون الكرمة المنبسطة فوق الجدار من أبدع الكرمات وأجملها، قال: لا تنس أن تكسو السور كله باطنه وظاهره بأزهار البنفسج كما أمرتك، قال، سأفعل يا سيدي إن شاء الله.
فتركه ودخل المنزل فألقى على الطبقة السفلى نظرة عجلى، ثم صعد إلى الطبقة العليا ووقف في بهو متسع تدور به الحجرات وقال: ها قد أصبح البيت على الصورة التي اتفقنا عليها منذ عامين أنا وماجدولين؛ ففي الطبقة السفلى غرفة المائدة والمطبخ، وغرف المئونة والمرافق، وفي الطبقة العليا غرفة الأضياف، ومخدع النوم، وقاعة الكتب، وغرفة الشيخ «مولر»، ثم فتح باب الغرفة الخامسة وألقى عليها نظرة ألمت بجميع ما فيها، فاغرورقت عيناه بالدموع وقال: لقد كنت أرجو يا «أوجين» أن تشركني في سعادتي كما شركتني في شقائي، ولكن هكذا أراد القدر أن يفرق بيني وبينك، وأن تكون سعادتي منغصة بذكراك أبد الدهر، فوا أسفا عليك يا أخي أسفا لا يفارقني حتى الموت! وستمر الأيام وتكر الدهور والأعوام، وسأنسى كل ما مر بي من حوادث الدهر، خيرها وشرها، وبؤسها ورغدها، ولا أنسى أنني ضننت عليك بتلك الدراهم القليلة التي سألتنيها أحوج ما كنت إليها، وأن يدي هي اليد الخفية التي أوردتك هذا المورد من الردى، فاغفر لي ذنبي واعف عني، والقني يوم تلقاني في آخرتك بذلك الوجه البشوش الغض الذي كنت تلقاني به في حياتك، فأنا من لا يعيش إلا بذكرك، ولا يموت إلا بغصتك، وأقفل باب الغرفة وقال: لن يفتح هذا الباب بعد اليوم، ثم كفكف عبرته، وسرى عن نفسه، وأشرف على الحديقة يتلهى بالنظر إليها، فوقع نظره على حوض الماء المبني في وسطها، فعاد إلى مناجاة نفسه يقول: وها هو ذا الحوض الذي سنربي فيه الأسماك ذات الألوان المختلفة، وها هو ذا السياج الذي رأينا أن نقيمه من حوله خوفا على أولادنا المستقبلين من السقوط، وها هي ذي أزهار البنفسج التي تحبها ماجدولين وتؤثرها على الأزهار جميعا تملأ البيت داخله وخارجه.
إنها لا تعلم الآن شيئا عن هذه السعادة المهيأة لها، وربما كانت تكابد اليوم أشد حالات يأسها وحزنها بعد انقطاع رسائلي عنها أياما طوالا، وسأباغتها بها مباغتة لا يزول أثرها من نفسها أبد الدهر، فقد شقينا ما استطاع الشقاء أن يكون، وسنسعد بعد اليوم سعادة تنسينا همومنا الماضية وآلامنا، ولا نذكرها إلا كما نذكر دموع طفولتنا وبكاءها.
ثم نزل ومشى في الحديقة مع صديقه «فرتز» يناظر القائمين بتنظيم أغراسها وتمهيد طرقاتها، ويتنقل بين أشجارها وأزهارها مسرورا مغتبطا وكأنه لم يذق طعم الشقاء في دهره يوما واحدا. (62) بروتس
ما كان «استيفن» قبل اليوم آمرا ولا ناهيا، ولا صاحب بيت ولا حديقة، بل ولا صاحب أي شيء من الأشياء، إلا إذا كانت أثوابه البالية المرقعة شيئا تتعلق به الحيازة والملك، فقد عاد إلى «جوتنج» بعد تلك الليلة الليلاء التي كابدها في غرفة قريبة صفر اليدين من كل شيء، حتى من آماله وأمانيه، فقضى في فراش مرضه بضعة أيام كابد فيها من آلام جسمه ونفسه ما يعجز عن احتماله، ثم أبل قليلا، فأنشأ يفكر فيما يصنع بعد الذي كان من فشله وانقطاع رجائه به، فخطر له الانتحار، ثم منعه منه أنه سيكون آخر عهده بماجدولين فلا يراها بعد اليوم، وفكر في الرجوع إلى أهله والإذعان لهم في رغبتهم التي يرغبونها إليه، ثم ذكر المواثيق التي أعطاها لماجدولين ألا يبتغي بها بدلا حتى الموت، فعظم عليه أن يخيس بعهده ومر بخاطره الفرار بنفسه إلى بقعة من بقاع الأرض يطلب فيها السلو والراحة والتفرج مما به، ولكنه أشفق على ماجدولين أن يقتلها الحزن عليه من بعده، وهو إنما يحيا في هذا العالم من أجلها.
ولم يزل يراوح بين هذه الفكر ويستدني بعضا منها ويذود بعضا حتى صحت عزيمته على أن يكتب كتابا إلى ماجدولين، ولم يكن قد كتب إليها منذ عهد بعيد يقص عليها فيه قصته وما آل إليه أمره، ويحللها من اليمين التي أقسمتها له، ثم يضع أمره بين يديها، فإما أحيته فعاد إلى أمله وسعيه، أو قتلته فاكتفى مئونة قتل نفسه بنفسه.
فإنه ليكتب ذلك الكتاب إذ دخل عليه رسول البريد يحمل إليه رسالة من مسجل القرية التي مات فيها قريبه يقول له فيها: إن الميت قد أوصى إليه في كتاب وصيته بعشرين ألف فرنك يأخذها في الحال وعشرة آلاف يأخذها في كل عام، فاستطير فرحا وسرورا وقال: أحمدك اللهم فقد غللت يدي عن أن آخذ هذا المال حراما، حتى بعثت به إلي حلالا، ومزق الكتاب الذي كان يكتبه، وعلم أن أيام محنته قد انقضت، وأنه قد أدى للدهر ما عليه له من ضريبة الشقاء، فلم يبق بين يديه إلا أن يستقبل السعادة المقبلة عليه خالصة هنيئة لا يكدرها عليه مكدر حتى الموت.
وأنشأ يفتش - بمعونة صديقه «فرتز» - عن بيت صغير يشرف على نهر «جوتنج»، ويكون على الصفة التي تمناها هو وماجدولين ليلة ركبا زورق البحيرة وتحدثا عن آمالهما ومستقبلهما، فوجد بيتا يشبهه فابتاعه واستصلحه، وحوله إلى الصورة التي أرادها، وأخذ يؤثث غرفه، ويغرس أشجار حديقته.
وإنه لكذلك إذ قرأ في الجريدة العسكرية خبر وفاة أخيه فبكاه كثيرا، ثم ما لبث أن تجلد واصطبر، ودفن حزنه في أعماق قلبه، وألهاه سروره بحاضره عن التفكير في ماضيه، فابتاع خاتما للخطبة ثمينا، وأعد عدته للسفر إلى «ولفاخ»، وكان قد علم أن ماجدولين قد عادت إليها من «كوبلانس» منذ عهد قريب؛ ليباغتها بتلك السعادة التي هيأها لها، ويخطبها إلى أبيها، ثم يعود بها إلى «جوتنج» ليريها البيت الجديد.
অজানা পৃষ্ঠা