ما أبغضت ماجدولين «استيفن»، ولا أحبت «إدوار»، ولكنها لبست حالا جديدة لم تكن تلبسها من قبل، فكان لا بد لها من أن تلبس معها جميع آثارها ومتعلقاتها، فقد ألفت المجامع والمحافل، وأنست بالمراقص والملاعب، وصادقت النساء المتحضرات المتأنقات، وغنت كما يغنين، ورقصت كما يرقصن، ومشت في مثل أزيائهن، وتحدثت بمثل أحاديثهن، وفهمت من سعادة الحياة وهنائها المعنى الذي يفهمن، ورأت في الرجال والنساء والصلة التي بينهما الرأي الذي يرين، فتناست «استيفن»؛ لأنه صورة من صور الحياة الماضية التي عفتها واجتوتها، وأحبت «إدوار» لأنه مظهر من مظاهر الحياة الجديدة التي أحبتها وافتتنت بها.
على أنها كانت إذا خلت إلى نفسها، وهدأت عنها ضوضاء الحياة وضجيجها، واستطاعت أن تمد نظرها إلى أعماق سريرتها حتى ترى ما في قرارتها؛ تراءى لها شبح «استيفن» في نحوله واصفراره، وحزنه واكتئابه، وبؤسه وشقائه، ومنظر عينيه الممتلئتين حزنا ودموعا، وقلبه المتقد حبا وغراما، ونفسه الشعرية الهائمة في أودية الهموم والأحزان، فتحن إليه حنين الغريب إلى داره، والشيخ إلى عهود صباه، وتذكر أيامه الماضية التي قضاها معها فتبكي حسرة عليه وإشفاقا، بل وجدا به وغراما، ثم لا تلبث أن ترى سحابة بيضاء من النور ماثلة أمام عينيها، فلا تزال تنبسط وتستفيض حتى تشف عن قاعة الرقص التي شهدتها ليلة عرس «سوزان»، فترى الوجوه المشرقة، والثغور الباسمة، والذهب اللامع، والجوهر الساطع، والغلائل المطرزة، والحلل المدبجة، والصدور اللاصقة بالصدور، والأذرع المحيطة بالخصور، والجو المائج بالأنوار، والروض الحافل بالأزهار، وترى العروسين كالفرقدين، يبسمان للسعادة المقبلة عليهما، ويتدفق تيار الحب والصبابة بين قلبيهما، فيتضاءل أمام عينيها ذلك الشبح الأول، ثم لا يلبث ان يتغلغل في ظلمات الوجود الحالكة حتى يغيب عن نظرها، فلا يبقى له عين ولا أثر.
ولقد دخلت «سوزان» عليها صبيحة يوم في غرفتها - وكان قد مضى على زفافها شهران - فقالت لها: أتدرين ما اتفقنا عليه أنا وأبوك ليلة أمس يا ماجدولين؟ قالت: لا، قالت: أن نسافر جميعا إلى ضياع زوجي في «سان مارك» لنقضي فيها أسبوعين أو ثلاثة، ثم ننتقل إلى «ولفاخ» وهي على بضعة أميال منها فنستضيفكم أسبوعا واحدا نقضيه في التنزه بين مزارع القرى ودساكرها ثم نفترق بعد ذلك.
فتهلل وجه ماجدولين فرحا بتلك السياحة الجميلة التي ستقضيها مع أصدقائها في أجمل البقاع وأبهجها، ثم ما لبثت أن اكتأبت وتغضن جبينها؛ لأنها ذكرت ساعة الفراق القريبة، وأنها ستعود بعد أيام قلائل إلى عزلتها في قريتها، وتعيش فيها عيش الوحشة والوحدة بعيدة عن «كوبلانس» ومجامعها، ومزدحم الحياة فيها، فاشتد ذلك عليها كثيرا، وألمت «سوزان» بما دار في نفسها وعرفت مأتاه، إلا أنها تبالهت واستمرت في حديثها تقول: وسيصحبنا في سياحتنا هذه «إدوار»، وسيكون أنسنا به وبعشرته عظيما، ألا ترين رأيي في ذلك يا ماجدولين؟ ففهمت ماجدولين مقصدها وأين تريد أن تذهب في حديثها، فقالت: ليذهب معكم من يشاء من أصدقائكم وخلطائكم، فلا شأن لي في ذهاب من يذهب، أو بقاء من يبقى، فابتسمت «سوزان» واستطردت في حديثها تقول: ولقد اتفقنا كذلك على ألا يسافر «إدوار» معنا إلا باسم خطيبك، وقد قطعنا هذا الأمر من دونك؛ لأنا نعلم أنك لا ترين لنفسك إلا الرأي الذي نراه لك، فاضطربت ماجدولين وقالت: «لقد قلت لك يا «سوزان» قبل اليوم إنني لا أستطيع أن أتزوجه.» قالت: لماذا؟ وهل تطمع الفتاة في زوج أفضل منه عقلا وأدبا، وشرفا وجاها؟ وهو فوق ذلك يحبك ويستهيم بك، ولا يؤثر على سعادتك وهنائك غرضا من أغراض الحياة، ولا مأربا من مآربها، قالت: ولكنه لا يستطيع أن يحبني محبة «استيفن» إياي، قالت: أما هذه فنعم؛ لأنه يحبك حب العقلاء والأكياس، لا حب النوكى والمأفونين.
إن هذا الذي تزعمين أنه يحبك ويستهيم بك، لا يحبك، بل يحب فيك المرأة الخيالية التي يتخيلها في ذهنه، والتي لم يخلق الله لها مثالا في هذا العالم، ولا يعبدك، بل يعبد إلهه الموهوم الذي يظن أنه حال في جثمانك، كما كان يعبد آباؤنا الأولون آلهتهم الماثلة في جذوع الأشجار وقطع الأحجار.
إنه يتخيلك ملكا من ملائكة السماء تحيط بوجهه هالة من النور، ويرفرف في جنبيه جناحان أبيضان متلألئان تلألؤ الأشعة، ويحمل بين أضلاعه نفسا غريبة عن النفوس في جوهرها ومعدنها، قد جملها الله بجميع صنوف الكمال، وطهرها من أدناس الحياة وأرجاسها، فلا تفهم شهوة من الشهوات، ولا تشعر بلذة من اللذائذ، ولا تعرف فرق ما بين السعادة والشقاء، والغنى والفقر، والراحة والتعب، والسرور والحزن، فويل لك منه يوم تنحسر عنه عينيه - بعد ساعة واحدة من بنائه بك، غشاوة الحب الأول، فيراك كما أنت، ويرى فرق ما بينك وبين تلك الصورة الخيالية الهائمة في رأسه، إنه عندئذ لا بد أن يبغضك ويحتقرك، ويهوي بك إلى أدنى دركات الذل والشقاء، ولا نهاية للإغراق في الحب غير الإغراق في البغض، فإن كان لا بد لك من أن تحتفظي بمكانتك في قلبه فلا تتزوجيه ودعيه ينظر إليك دائما بهذه العين التي ينظر بها إليك اليوم، ولا تخشي عليه أن يشقى بفراقك، فليست فجيعته فيك يوم يفقدك بأعظم من فجيعته في آماله وأحلامه يوم يراك، ويرى في ثوبك امرأة غير المرأة التي كان ينتظرها ويطير شوقا إليها.
أنت لا تعلمين من شئون الحياة ودخائلها مثلما أعلم يا ماجدولين، ولقد خبرت فيما خبرت من صروفها وتجاريبها أن الغرام أضعف العلائق بين الزوجين، والمصلحة أقواها وأوثقها، وأن الحب كالزهرة، والمال كالطل الساقط عليها، فإذا انقطع الطل عن الزهرة بضعة أيام ذوت أوراقها وتساقطت، ثم تطايرت في مهاب الرياح الأربع، وأن هذه الثورة النفسية التي يسمونها الصبابة أو الوجد أو الوله أو الهيام، والتي لا يزال يهتف بذكرها الشعراء، وتطير في سماء خيالها ألباب الرجال والنساء، إنما هي عرض من أعراض الأعصاب المريضة يهيجه البعد، ويطفئه القرب، ثم تبقى بعد ذلك الحاجة إلى العيش ومرافقه، والسعادة وأسبابها، فإن أعوز ذلك فقد مات الحب في القلب، ودفنت جثته في ضريح الفقر، والفقر يطوي في أحشائه جميع عواطف القلوب وخوالجها، بل ربما دارت الوساوس والأوهام في رأس ذينك الزوجين اللذين كانا متحابين بالأمس، فرأى كل منهما في وجه صاحبه صورة الشؤم له، وألقى عليه تبعة بؤسه وشقائه، فاستحال حبهما إلى بغض متغلغل في سويداء القلب لا ينتزعه إلا الموت.
أنت فقيرة يا ماجدولين، و«استيفن» أفقر منك، فلا تضمي فقره إلى فقرك، وليختر كل منكما لنفسه العشير الذي يعلم أنه يسعده ويملأ فضاء حياته غبطة وهناء، فإن كان لا بد لك من الوفاء له فإن أوفى ما يكون المرء لصاحبه حين يؤثر مصلحته على مصلحة نفسه، ويكفكف من نزعات قلبه وأهوائه في سبيل سعادته وهنائه، فليكن ذلك شأنك معه، واحتملي كرارة فراقه وألم الحرمان منه رحمة به وإبقاء على حياته التي توشك أن تعبث بها نكبات الدهر وأرزاؤه، فقد أصبحت أخشى عليه - وفي رأسه مثل هذا العقل الصغير المختبل، وبين جنبيه مثل هذا القلب الضعيف المستطار - أن يعثر به جده فيما يحاوله من الأمل الذي يسعى إليه من أجلك، فيدفعه جنون الطمع إلى سلوك طريق غير طريق الشرف، فيقترف جريمة، أو ينتهك حرمة، أو تثور برأسه ثائرة اليأس فيقتل نفسه طلبا للراحة من عناء الحياة وشقائها، فإن فعل فأنت الجانية عليه، والموردة إياه هذا المورد من التلف، فانظري كيف يكون موقفك بين يدي ربك وضميرك غدا إن تم ذلك على يدك؟
فاستعبرت ماجدولين باكية، وما بكت إلا رحمة بذلك البائس المسكين وإشفاقا عليه أن يناله بسببها هذا الشقاء العظيم، وأطرقت مليا ثم رفعت رأسها وقالت: دعيني الساعة وحدي يا «سوزان»، فإنني في حاجة إلى الخلوة بنفسي. (60) الجريدة العسكرية
التحم جيشنا أمس بجيش العدو، واستمرت المعركة عشر ساعات لقي فيها جنودنا من بأس العدو وشدته وقوة مراسه هولا عظيما، حتى بلغ منهم اليأس أو كاد، ثم برز من بين صفوفنا ضابط من ضباط الفرسان اسمه «أوجين ولتز» فهتف بجنوده «ورائي أيها الأبطال!» وانقض على العدو انقضاض النازلة السماوية فانقض معه جنوده، فسرت الحمية في نفس الجيش بأجمعه، فهجم وراءه! وما هي إلا جولة أو جولتان حتى تمت الهزيمة للعدو، ففر يطلب النجاة لنفسه في كل مكان، فتبعناه وأمعنا فيه قتلا وأسرا، وغنمنا منه غنائم كثيرة.
অজানা পৃষ্ঠা