عودة الشبيه الأبدية هي مدار فلسفة نيتشه وأعمق أفكاره جميعا، إنها تفتقر إلى البناء التصوري المحكم والمعالجة المنطقية المحددة، وتوشك أن تكون نبوءة معتمة أو سرا مطلسما يحاول الشاعر الفيلسوف أن يكشف عنه. إنه يتكلم على لسان زرادشت، وزرادشت هو معلم العود الأبدي، كما هو معلم الإنسان الأعلى وإرادة القوة، ولكنه الآن لا يعلم بقدر ما يشير ويلمح، فرؤياه عن هاوية الزمان تعبر عن نفسها بالرمز واللغز، لكنه لا يلجأ إلى ذلك حبا في التعمية، ولا ولعا بالأقنعة، بل لأن فكرته عن العود الأبدي ترتفع به إلى القمة الوحيدة التي لا يصل إليها سلم اللغة، وتبتعد به وراء حدود الكلمة والعقل والمنهج، وعجزه عن التعبير عن هذه الفكرة تعبيرا تصوريا ليس مجرد عجز فردي كامن فيه، بل هو دليل على عجز التراث الفلسفي الذي يجف على أرضه، إنه يحارب الميتافيزيقا التقليدية ويريد أن يقلبها رأسا على عقب، ولكنه يظل مع ذلك مقيدا بها، مرتبطا بوسائلها وأدواتها، وإذا كان يصارع الأفلاطونية والمسيحية وأخلاق العبيد كما يصارع التفسير التقليدي للوجود، فهو لا يزال يتحرك في أفق هذه الميتافيزيقا التقليدية، ويستخدم مقولاتها وتصوراتها، ويحاربها بنفس أسلحتها، وهو حين يفكر في العود الأبدي يصبح العالم ككل هو مشكلته الرئيسية، إنه ينظر إليه الآن نظرة زمنية؛ فكلية العالم تصبح هي كلية الزمان أو أبديته. بهذا يدخل نيتشه أرضا لم يطرقها أحد قبله، ويحاول التعبير عن شيء لا اسم له، إنه يتلفت حوله فلا يجد التصور الذي يسعفه، ويقف على حافة الهاوية التي لا ينجيه منها تراث أو تقليد، ويحس برعشة الرائد حين تطرق قدماه أرضا مجهولة: «آه يا إخوتي، إن من يكون رائدا، يكون هو الضحية دائما.» هو رائد الفكر الذي يتجاوز الأشياء كلها ويحاول أن يدرك العالم بكليته، ولكن الصعود فوق جميع الأشياء التي تدخل في العالم لفهم العالم نفسه، والعلو على الموجودات كلها لإدراك الوجود بذاته؛ يوقعه مع ذلك في شباك هذا العالم الذي أراد أن يطير فوقه؛ ذلك أننا في كل مرة نحاول فيها أن نتصور العالم على أنه ذلك الذي يحيط بالأشياء جميعا ويتجاوزها لا بد أن يظل تصورنا له محددا بالأشياء؛ فنحن لا نستطيع أن نخرج من العالم إلا إلى العالم، ولا أن نعلو فوقه إلا لنعود فنغوص في أعماقه، فتفكيرنا في العالم ككل لا بد أن يبدأ مما في داخل هذا العالم، كما أن تصورنا للزمان مقيد بما يجري في داخل الزمان.
عودة الشبيه الأبدية هي إذن مذهب نيتشه في العالم ككل، أو رأيه في كلية الوجود، وحديثه عن الأبدية التي تتجاوز كل ما يجري في الزمان من أحداث وكل ما يشتمل عليه من معطيات تجاوزا لا نهاية له، هو في حقيقته حديث عن العالم، تردد كلماته معاني الاتساع والرحابة والشمول، والحديث يصل إلى ذروته في فصل بعنوان: «عن الشوق العظيم»، فماذا يقصده نيتشه بهذا الشوق؟
الشوق لا يعرفه إلا من يكابده كما يقول الشاعر القديم، إنه حنين القلب إلى ما لا تراه العين ولا تلمسه اليد، فنحن لا نشتاق إلى ما تستطيع أعيننا أن تراه، أو أيدينا أن تلمسه، ربما استطعنا أن نشتهيه ونميل إليه، ولكن الشهوة والميل شيء. والشوق شيء آخر، الشوق يتعلق بما هو بعيد، فنحن نشتاق إلى الحبيب الغائب، أو إلى أيام الطفولة وملاعبها، أو إلى الحياة الهادئة المطمئنة، وقد نشتاق أيضا إلى الموت المريح. والشوق يخرج بنا عن حدود الموقف الراهن ومطالبه وأهدافه، فنحن نبتعد به عن كل ما هو قريب، ونحن بالعين والقلب إلى شيء ناء في الزمان والمكان، وحالنا أشبه «بأفيجينيا» على جزيرة تاوريس وهي تفتش بعينها ووجدانها وراء البحر عن بلاد الإغريق. كلنا يعرف هذا الشوق، وكلنا يعرف أيضا ذلك الشوق إلى المجهول، الذي يزيد عن أن يكون رغبة في الوصول إلى ما نشتاق إليه، بل ربما كان ينطوي على ميل غامض لأن يظل بعيدا عنا، وهذا البعد الذي يشتاق إليه نيتشه هو الذي يضع الإنسان في الزمان والمكان غير المحدودين، ويفتح نافذة كيانه للعالم، هذا التفتح للعالم الشامل البعيد ابتغاء التقرب من الموجود القريب، هو الذي يتخذ صورة العود الأبدي، إن زرادشت يتحدث إلى نفسه فيقول: آه يا نفسي، لقد علمتك أن تقولي «اليوم» كما علمتك أن تقولي «قديما»، و«في عهد مضى»، وأن ترقص فوق كل ما هو «هنا» و«هناك». لقد علم نفسه العود الأبدي، أعني علمها ألا تأخذ الفروق الثابتة في الزمان والمكان مأخذ الجد، وألا تستسلم لروح الثقل الذي أوجد كل هذه الفروق، وأن تنظر إلى «اليوم» و«الغد» و«الأمس»، وإلى «الهنا» و«الهناك» بالنظرة التي تساوي بينها وتتجاوزها جميعا، ولكن كيف يتأتى لليوم أن يكون كالغد وكالأمس، و«للهنا» أن يكون كالهناك؟ إنها جميعا تتساوى في فكرة العود الأبدي، فإذا كان جوهر الزمان هو التكرار الأبدي، انهارت الفروق القائمة بين الماضي والمستقبل، عندئذ يكون المستقبل هو ما كان دائما والعكس صحيح، وتكون النفس حاضرة في الزمن كله ، حين لا تكترث بالفروق الموضوعية بين الأحداث، إنها عندئذ تكون حاضرة في «الكل» حيث تتلاشى الفروق الموجودة بين الأبعاد الزمنية والمكانية: «آه يا نفسي، لقد خلصتك من كل الأوكار الضيقة، نفضت عنك التراب والعنكبوت والظلال.» والنفس المشتاقة هذا الشوق العظيم تعانق العالم بكليته، وتغمر ذاتها في النور الشامل، وتقف تحت سماء «البراءة والاحتمال».
الإنسان يعلو الآن العلو الحق الذي يربطه «بالعالم»، ويقف مثل زرادشت عاريا أمام الشمس، وقد ترك وراءه كل الظلال القديمة التي فسرت الحياة بالخطيئة والذنب، وصورت له عالما آخر وراء هذا العالم، وأخلاقا أخرى غير أخلاق القوة والشجاعة والخطر، إن روحه الحقة تطارد السحب جميعا في سمائها، وتتحرر من ظلال التراث المسيحي- الأفلاطوني، وتخرج إلى آفاق العالم الرحب، بعد أن وضعت يدها على العود الأبدي، واكتشفت سر الزمان والمكان، «آه يا نفسي، لقد أعطيتك الحق في أن تقولي لا، كما تقول العاصفة لا، وأن تقولي نعم، كما تقول السماء الرحبة نعم، وها أنت ذي تقفين ساكنة كالنور وتخوضين الآن العواصف النافية.»
ويمضي زرادشت في حديثه إلى نفسه، فيبين لها أن فكرة العود الأبدي لا تلغي الحرية، بل تحررها من القيد الذي رسفت فيه حتى الآن، ألا وهو الاعتقاد بثبات الماضي وحتميته، ولكن عندما يكون الماضي كله هو في نفس الوقت المستقبل كله، فإن النفس تكون لها الحرية التي تسود بها على «ما خلق وما لم يخلق»، ويتفتح الطريق أمام اسم الإنسان الخالق المبدع كما لم يتفتح أمامه من قبل، وتتوثق الصلة بينه وبين العالم الخالق المبدع، الذي يوجد كل ما هو موجود، في عود أبدي لا ينتهي. ثم يحدثها عن الاحتقار، الذي لا يفترس النفس افتراس الدود؛ لأنه احتقار محب عظيم «يحب إلى أقصى حدود الحب، عندما يحتقر إلى أقصى حدود الاحتقار.»
كل من يعرف حقيقة العود الأبدي، يعرف أيضا كيف يتخلص من الأغلال التي تقيده بالموجودات وتجعله عبدا لها، وكيف يرتفع بنفسه فوق كل ما يدخل في نطاق العالم من أشياء وموجودات، غير أنه لا يرتفع فوقها إلا ليعود إليها عودة أصيلة، ولا يتجاوزها إلى العالم الرحب الشامل إلا لكي يجدها من جديد، إن زرادشت يحتقر الإنسان الحالي ويعده شيئا وسطا بين العدم واللامتناهي، أو حبلا مشدودا بين الحيوان والإنسان الأعلى، هذا الإنسان الأعلى هو الذي يصل إلى أقصى إمكانات الإنسانية، فقد عرف سر العود الأبدي الذي لم يعرفه أحد قبله، واستطاع أن ينطلق إلى اللامتناهي، ويخرج بنفسه إلى آفاق العالم الواسع. إنه يقف الآن عاريا أمام وجه الشمس، لا تتبعه ظلال «أخلاق العبيد» الموروثة، ولا يوقر ظهره عبء عالم آخر، وإذا كان زرادشت يشتاق إلى شيء فشوقه العظيم كله يتجه إلى هذا الإنسان الأعلى: آه يا نفسي، لقد خلصتك من كل خضوع وركوع، وقول «يا سيدي»، لقد سميتك، تحول «الضرورة» و«القدر». الإنسان الأعلى قد جعل العالم كله مسكنه، وحرر نفسه من العبودية على اختلاف أشكالها، واختفى بالنسبة إليه الفرق بين الإرادة والضرورة؛ ذلك لأن ما تريده الإرادة عن حرية لا بد أن يأتي في دورة العود الأبدي، وإذا كان زرادشت يسمي النفس قدرا فما ذلك إلا لأن الإرادة العظيمة الأخيرة هي التي تريد الضرورة، لا التي تنحني لها أو تركع أمام صنمها الجامد القاسي. لقد عرفت العود الأبدي فراحت تشارك في اللعبة الكبرى، وتقوم بدورها على مسرح العالم، هكذا تغلبت على التفرقة التقليدية بين الحرية والضرورة، ومثلما اكتسب الماضي ملامح المستقبل، واكتسى المستقبل بملامح الماضي، كذلك تكمن الضرورة الآن في الحرية كما تكمن الحرية في الضرورة: آه يا نفسي، لقد أعطيتك أسماء جديدة وألعابا بهيجة الألوان، سميتك «القدر» و«الوعاء الشامل لكل ما هو شامل» و«حبل سرة الزمان» و«الجرس السماوي»، لقد تحول فهم الإنسان للوجود بفضل فكرة العود الأبدي، إنه يفهم الآن كل شيء في ضوء العالم الشامل المحيط، بل لقد علا وارتفع حتى أصبحت نفسه هي الوعاء الذي يشمل كل ما هو شامل ومحيط، وارتبطت بالوجود والزمان كما يرتبط الطفل بأمه، وصارت كالسماء التي تسدل قبتها الزرقاء على جميع الأشياء: «آه يا نفسي، كل شمس صببتها فوقك وكل ليل وكل صمت وكل شوق، هنالك نموت أمامي كما تنمو عناقيد الكروم.» إن نفس الإنسان تقف الآن بين الأرض والسماء، بين القريب منها والبعيد، وكأنها كرمة شبت في جوف الأرض لتعانق النور، إنها مثقلة بشوقها إلى لقاء العالم وجها لوجه، «آه يا نفسي، لا توجد الآن نفس أكثر منك حبا ولا أوسع شمولا! وأين يمكن للمستقبل والماضي أن يلتقيا إن لم يلتقيا عندك؟» لقد ارتفعت فوق العالم، فازدادت محبتها لكل ما في داخل هذا العالم. نودي الإنسان أن يخرج إلى الكل، ولكنه بقي وسط الأشياء، عرف اللامتناهي، فتضاعفت صلته بالمتناهي، وأحس الفرحة باللامحدود ففاض عذابه بمحدوديته، وحزنه على فناء العالم وفنائه، الارتفاع إلى القمة قذف به إلى القاع، والعلو فوق المصير زاده شعورا بتعاسة المصير. إن نفس زرادشت لا بد أن ترقص وتغني؛ حتى لا تهوي في عذاب شوقها العظيم: «أن تغني غناء مشبوبا حتى تسكن جميع البحار، وتصغي إلى شوقك حتى يسبح القارب فوق البحار الساكنة المشتاقة حتى تسبح المعجزة الذهبية، التي تخطر حول ذهبها كل الأشياء الطيبة الشريرة العجيبة، وكذلك الكثير من الحيوانات الكبيرة والصغيرة، وكل ذي أقدام عجيبة، حتى يستطيع السير على دروب البنفسج؛ إلى المعجزة الذهبية إلى القارب الحر، وإلى سيده زارع الكروم الذي ينتظر وسكينه في يده ...» هذا الشوق الإنساني العظيم - الذي يعرف أن جوهر العالم هو العود الأبدي - لا بد أن يتحقق، والباحث عن نفسه لا بد في النهاية أن يجد نفسه.
فكرة العود الأبدي تفهم الزمن على أنه تكرار أبدي، أما ما هو هذا التكرار الأبدي؟ فإن زرادشت لا يريد أن يقوله، بل يريد أن يتغنى به، فالنفس التي انطلقت تسبح فوق البحار الساكنة المشتاقة تقابل القارب الذهبي الذي يسبح فوق مياه الصيرورة، هذا القارب هو آخر ما يمكن أن تصل إليه النفس، هو قلب الوجود ومركزه. الأشياء كلها تسبح حوله كما تسبح الحيتان حول السفين، «إن قلب الأرض من ذهب.» كما قال زرادشت في موضع آخر، وقلب الوجود هو المعجزة الذهبية أو القارب الذهبي الذي يتحدث عنه زرادشت، وملاح هذا القارب هو ديونيزيوس، إله النشوة والحب والموت واللعب، وهو كذلك إله المأساة والملهاة، وإله اللعب الجاد واللعب المرح الذي يقوم به العالم، ولكنه ليس إلها يظهر في داخل العالم، بل هو الإله الذي يشكل كل شيء دون أن يكون له شكل، هو لعب الوجود نفسه، وهو كذلك سيد الكرم وزارعه. هو ديونيزيوس وباخوس في آن واحد، هو الذي يشبع شوق الكرم إلى السكين التي تخلصه من عناقيده، وهو خطوة الزمن الذي يسترد كل ما أعطاه، الزمن الذي يهدي ويسلب ويبني ويخرب، ديونيزيوس هو المانح العظيم والسالب العظيم على مدى العود الأبدي. «آه يا نفسي! مخلصك العظيم الذي لا اسم له الذي ستبحث له الأغنيات المقبلة عن اسم يليق به! ها أنت ذي تتوهجين وتحلمين، وها أنت ذي تعبين في عطش من كل ينابيع العزاء ذات الأصداء العميقة، وها هي كآبتك تستريح على نغمة الأغنيات المقبلة!»
ديونيزيوس هو الجواب على الشوق العظيم الذي يعذب صدر الإنسان، هو الذي يوجد الموجودات وهو الذي يسلبها الوجود، هو الحاكم الذي يسيطر على كل تحول، ويدبر مجرى الأشياء في الزمان، وحيثما تجلى ديونيزيوس تجلى معه سر العالم، ووجدت نفس زرادشت وطنها الذي تبحث عنه، ديونيزيوس هو المخلص الأخير الذي يبشر به زرادشت، وهو الكلمة الأخيرة التي يعلنها نيتشه: إن الإنسان المتفتح «للعالم» يقابله بهذه الكلمات: «آه يا نفسي، الآن أعطيتك كل شيء ومنحتك آخر ما أستطيع، وها هما كفاي قد فرغتا من الإغداق عليك: انظري، إن دعوتي لك بأن تغني كانت هي آخر دعواتي إليك!»
ويغني زرادشت أغنية ديونيزيوس الأخيرة، أغنية الرقص الأخرى، فيسبح بمجد الحياة، ويهلل لروعتها وغموضها، إنها تظهر له في صورة الأنثى الفاتنة الإغراء، وتتحول أمام عينيه فتارة تكون ساحرة وتارة تكون حية، أو إعصارا أو ليلا معتما كالهاوية، «في عينك نظرت منذ عهد قريب يا أيتها الحياة، رأيت ذهبا يلمع في عينك الليلية، وتوقف قلبي حيال هذه اللذة العارمة.» ولكن الحياة تقول لزرادشت: «ولكنك لست وفيا لي كما ينبغي ... أعرف أنك تفكر في أن تهجرني وشيكا»، ويهمس زرادشت بشيء في أذن الحياة «بين خصلات شعرها الأصفر المضطرب المجنون» وتجيبه الحياة قائلة: «أنت تعرف هذا يا زرادشت، ما من أحد قد عرفه قبلك.»
زرادشت يفكر في أن يهجر الحياة، ولكنه لن يستطيع أن يهجرها إلى الأبد، سوف يموت ذات يوم، ولكن لا بد له أن يعود مرة ومرة إلى غير نهاية، لا بد أن يدور في حلقة العود الأبدي التي لا تكف عن الدوران، وأن يجرب يأسه وأمله، وعذابه وفرحته، ويولد ويموت مرات لا حصر لها ولا عدد.
অজানা পৃষ্ঠা