الشجاع بصير، فهو يرى الواقع على حقيقته ، ويقدر الفعل الذي يناسب هذه الرؤية، إنه لا يزور هذا الواقع ولا يبدل من قيمته؛ لأنه يعرف طعمه، ويقبله على علاته، إنه لا يحب الموت، ولكنه لا يتردد عن الإقدام عليه إذا وجد أنه لا مفر منه لإنصاف قضية عادلة أو تحقيق قيمة عالية، وهو لا يحتقر الحياة، ولكنه على استعداد للتخلي عنها إذا كانت ترتبط بالمهانة أو تحط من الكرامة. والشجاع يخاف الموت؛ «فليس أبعد عن الشجاعة من عدم المبالاة أو من مغامرة تصدر عن يأس أو سأم أو تعب من الحياة»، إنه يقبل الأذى ويتحمل الجراح وقد يقدم على الموت وهو يعلم أنها جميعا شر لا غنى عنه. فليس الشجاع هو الذي لا يعرف الخوف، وإلا كان ذلك شيئا ينافي طبيعة البشر، بل هو الذي لا يضطره الخوف إلى قبول الشر ولا يمنعه عن تحقيق الخير، فالشجاع يخاف الشر ولا بد أن يخافه، ولكنه لا يدفع بنفسه إلى الخطر قبل أن يعرف مداه ويتحقق من أن الاندفاع إليه هو السبيل الوحيد لتحقيق الخير. إنه يعرض نفسه لهذا الخطر، لا عن طموح إلى البطولة أو خوف من الاتصاف بالحبن، بل لأنه يعرف أنه شيء مخيف ومع ذلك لا يمنعه الخوف من خوضه. ويصل الخوف من الخطر وانعدام الخوف منه مع ذلك إلى أقصى درجاته في الاستشهاد، هنالك يكون الشهيد هو الشجاع بالمعنى الحقيقي للشجاعة، وتكون الشهادة هي المقياس الحقيقي للبطولة، فهي عنوان الصبر والصمود - وهما من أهم ما يميز الشجاعة - ورمز الثقة بالنفس والإيمان بقيمة تعلو على الحياة والموت، وليس الشهيد من لا يخاف (فالمسيح نفسه كان يبكي ويصرخ وهو على الصليب)، بل هو الذي لا يمنعه خوفه من مواجهة المخيف، فإن سأل سائل: ولم يستشهد الشهيد؟ قلنا: لأنه يجد أن الموت هو السبيل الوحيد للكشف عن عظمة الإنسان وإصراره على سيادة الخير وتحقيق العدالة، إنه يريد أن يفقد الحياة؛ ومن هنا كان صبره واستسلامه للعذاب، ومن هنا أيضا كانت ثقته في نفسه وأمله في الإنسان. ولعلنا لا نجد أحدا تتمثل فيه مفارقة الوجود الإنساني كما تتمثل في الشهيد، إنه يجمع بين ذروة القوة وهاوية الضعف، ولم يكن المسيح في يوم من أيام حياته أقوى منه وهو على الصليب ينزف ويصيح: «لم تركتني؟» ألم يقل لحوارييه: «ها أنا أرسلكم كغنم بين ذئاب» (إنجيل متى، 10، 16)، فالشهيد أو الشجاع العادل مضطر إلى الحياة بين الذئاب، والويل لمجتمع أو زمن خلا من الشهداء؛ لأن هذا معناه أنه لم يبق فيه إلا الذئاب، أو لم يبق فيه إلا الغنم والحملان!
هناك شجاعة سياسية، وهناك شجاعة صوفية، الأولى تقاوم ما يعترضها من صعاب من أجل تحقيق العدل، والثانية تسير بالنفس في «ليل العالم»، وتخترق بها ظلام المادة والحواس من أجل الاتحاد بالله، ومع أن النوعين من الشجاعة مختلفان، إلا أنهما ينبعان من نبع واحد، وذلك هو التخلي عن الذات أو العالم والاستعداد للتضحية بالنفس في سبيل قيمة أسمى. كلاهما يحارب الشر في العالم، ويحدوه الأمل في النصر الأخير - فلولا هذا الأمل لاستحالت الشجاعة - ولكنهما على ما بينهما من اختلاف في الوسيلة والهدف، يحلمان بعالم أسمى وأسعد، فالشجاع الذي يحارب الشر يضحي بنفسه؛ لكي يبني عالما جميلا، أو مدينة فاضلة وعادلة على هذه الأرض. وإذن فلا بد للشجاعة التي لا يهديها الذكاء ولا تجند نفسها لخدمة قضية عادلة من أن تكون شجاعة فاسدة، فليست الجراح هي التي تصنع الشجعان والشهداء، بل القضية التي يناضلون من أجلها. ولا بد أن نسأل أنفسنا دائما حين نسمع عن إنسان شجاع: هل كان عادلا؟ وهل كانت شجاعته من أجل العدالة؟
من المستحيل علينا إذن أن نقدر شجاعة الشجاع قبل أن تتوافر لدينا العدالة؛ فنحن لا نستطيع أن نطلب من ظالم أن يعرف حق الشجاع أو يحتمل وجوده؛ ذلك لأن الشجاع عادل بطبيعته، ولن يستطيع أن يفهمه إلا عادل مثله، أعني شجاعا مثله.
وإذا كنا اليوم نحاول أن نقضي على ظلم القرون والأجيال، ونسعى جادين لبناء مجتمع اشتراكي تتوافر فيه الكرامة والحرية والعدالة، فإن من ألزم واجباتنا أن نسأل أنفسنا كل يوم - بل كل لحظة - عن معنى الشجاعة، ونجاهد - على الرغم من كل شيء - أن نحيا حياة الشجعان، على كل واحد منا في مجال عمله أن يسأل نفسه: هل قلت كلمة الحق؟ هل وجدت في نفسي الشجاعة الكافية لأصرخ في وجه الظلم والتبجح والغباء والفساد بأعلى صوتي قائلا «لا!» أم أذلني الحرص الذي يذل أعناق «الرجال»، ففقدت الرجولة، أعني فقدت الشجاعة؟!
لا بد أن نسأل أنفسنا مثل هذه الأسئلة، إن كنا نريد إقامة مجتمع الكرامة والعدل، أعني المجتمع الذي لا يبنيه إلا الشجعان.
والفكر قدر
قدر المفكرين حزين
«إن كان الفكر هو قدرك، فأجل هذا القدر إجلالك لله، وضح من أجله بأفضل شيء لديك، وأحب شيء إلى نفسك.»
الذي قال هذا الكلام لم يكتف بقوله، بل عاشه وقدم حياته دليلا على صدقه، لم تعد شخصيته اليوم موضعا للنقاش العقلي أو الجدل الفلسفي كما كانت منذ نصف قرن؛ فقد هدأت العاصفة التي أثارها نيتشه، وسكنت الأمواج التي بعثتها روحه العتية الغاضبة، ولم تعد هناك حاجة لأن يختصم الناس حوله، أو يحذروا أبناءهم من قراءته، أو يؤلفوا الكتب للتشهير به، ولا عادت هناك أعياد «ديو نيزيوس» تقام باسمه، كما كان الحال في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، ومع ذلك فلا يكاد يتنازع اثنان اليوم حول مكانته، ولا يكاد أحد ينكر دوره الكبير في تطور التفكير الحديث؛ فهو بمفرده يمثل بداية مرحلة أو بالأحرى نهاية مرحلة في تاريخ هذا التفكير، مئات الكتب توضع عنه، حتى ليوشك عددها أن يزيد على ثلاثة آلاف كتاب، ومئات العلماء يؤلفون الأبحاث التي تتناول فلسفته ومأساة حياته في دقة وعمق لا مزيد عليهما، ومئات المحاضرات تلقى عنه في مختلف الجامعات والمحافل العلمية.
ما الذي نستطيع أن نضيفه إلى هذا كله، وليس فيه على ما يبدو مجال لجديد؟ أنكتشف في هذه الغابة الكثيفة دربا مجهولا والعلماء قد تركوا آثار أقدامهم في كل مكان؟ أم نواجه اليوم في حياتنا شيئا يذكرنا بنيتشه ويدعونا إلى صحبته أو إعادة النظر فيه ؟ لقد هدأت العاصفة التي أثارها كما قلت، وأصبح في مقدورنا - على خلاف الجيل الذي عاش بين الحربين العالميتين - أن نتأمل في فلسفته من مسافة بعد كافية، بحيث نتجنب الحماس في مدحه أو المبالغة في اللوم عليه، وليست مسافة البعد هذه بالأمر الهين الذي يمكننا أن نغفله أو نقلل من شأنه، بل هي في الحقيقة من أثمن ما يملك الإنسان في زمن ضاعت منه «عاطفة البعد» في كل مجالات الحياة، على حد قول نيتشه نفسه، فهذا البعد كفيل بأن يصحح نظرتنا إليه، ويزيل عنها سحابة الحقد أو غشاوة التعصب، وهو كفيل بأن ينأى بنا عن الحكم على فلسفته أو لها، فذلك شيء بعيد عن الهدف من هذه السطور؛ لأنها تهدف إلى شيء أبسط من ذلك بكثير، ألا وهو أن نعيش مع نيتشه بضع لحظات، أو بمعنى آخر: أن نحاول معا أن نفكر فكره. ••• «إن كان الفكر هو قدرك، فأجل هذا القدر كما تجل الله، وضح من أجله بأفضل شيء عندك وأحب شيء إلى نفسك.»
অজানা পৃষ্ঠা