كل ما هو «في» فهو قابل لأن يعلى عليه.
ورأينا كيف أن ضرورة العلو فوق كل ما هو «في» تتضح من المثال الذي سقناه عن العالم بوصفه دائرة أو كلا مغلقا على نفسه، يشير باستمرار إلى ما يعلو عليه ويتجاوزه، أعني إلى ما ليس بعالم ولا يمكن أن يكون في عالم، وهو ما سميناه بالانفتاح، وجعلناه رمزا أو شفرة للمتعالي. فكل تعال هو في نفس الوقت تعال فوق كل ما هو «في» سواء في ذلك أكان هو العالم أو الوجود أو المطلق أو الروح ... إلخ. ولكن علينا قبل أن نستطرد إلى نقطة أخرى وأن نحدد بقدر الطاقة ما نريده من حرف «في»؛ فهو يستخدم في الأصل ليدل على المكان، كما نقول: الماء في الزجاجة، والضيف في الحجرة، والميت في القبر، وقد يستعار للدلالة على علاقة زمنية وتبقى الدلالة المكانية على ما هي عليه، وإن أصابها شيء من الشحوب، فنحن نقول: «في» الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ونستخدمها في الكلام عن الباطن والنفس والروح، وبالجملة على ما ليس في مكان ولا يمكن أن يدخل في محل. ونحن نقول كذلك: إن الوجود بعامة إنما يلحق بالموجود ويكون «فيه»، ولا يستطيع فكرنا أن يتصور موجودا أيا كان حتى يتصوره على نحو من الأنحاء «في» ... ولن أستطيع - كما أوضح كانط - أن أتصور جسما بغير أن أتصوره في مكان. وكذلك الأمر بالنسبة للزمان؛ فأنا لا أستطيع أن أتصور حدثا من الأحداث حتى أتصوره واقعا «في» زمان. ولا أستطيع أن أتصور حدثا بغير زمن، يشترك في ذلك كله المحسوس والمعقول، المادة والفكر، والواقع والمتخيل، فكلها تحل على نحو من الأنحاء «في»، وإلا تعذر على فكري المحدود أن يتصورها أو يفكر فيها. بل إن في وسعنا أن نقول: إن هذا الحرف الضئيل «في»، الذي لا يكاد يحتمل غمضة عين ليصفه جامع الحروف في المطبعة وأقل من غمضة عين ليقرأه القارئ ؛ هذا الحرف من العظم والشمول بحيث يزيد على «الوجود» نفسه، وهو أكثر الصفات تعميما.
يمكننا الآن أن نقول: إن مشكلة المكان - التي عبرنا عنها بحرف «في» - تؤدي بنا إلى مشكلة التعالي، وقد تعيننا على إيجاد حل لها؛ فكل امرئ منا يذكر المكان حين يذكر الزمان، كما يذكر الزمان حين يفكر في المكان. إنه يضعهما إلى جانب بعضهما ولا يخطر له واحد بدون الآخر؛ فالمكان هو نظام التجاور أو وجود الأشياء إلى جانب بعضها، والزمان هو نظام التوالي أو تلاحق الأحداث إثر بعضها، كل هذا يعرضه كانط على وجه التفصيل في الجزء الأول من كتابه الرئيسي «نقد العقل الخالص» تحت عنوان الإسطايطيقا الترنسندنتالية. وما يقوله كانط وتؤكده بعده فلسفة الوجود يتصل اتصالا وثيقا بمشكلة تناهي الإنسان (التي يدور حولها تفكير كانط النقدي كله) التي تتصل بدورها بطابع الزمانية والفناء الذي يميز الإنسان.
ولقد سبق باسكال فلسفة الوجود في هذه الناحية أيضا، حيث يقول على سبيل المثال في الأفكار: «أرى الغرفات المفزعة للكون وأجلس مقيدا في زاوية منه»، وباسكال بهذه العبارة وأمثالها (وكلها تجعل منه الأب الشرعي لفلسفة الوجود) يشير إلى مشكلة أساسية من مشكلات الإنسان، فهو لا يعرف لماذا كتب عليه أن يقبع في ركن من العالم دون غيره (الفكرة 205). ولقد سبق باسكال أيضا إلى هذا التعبير نفسه، وإن كان الوجوديون قد زادوا الكلمة تفصيلا وربطوها بتحليلات الوجود.
والمهم في هذا السياق هو أن الزمانية تعبر عن تناهي الإنسان بأكثر مما تستطيع المكانية؛ فالزمانية من عهد عازف القيثار الفرعوني وسليمان الحكيم ترادف في ذهن الإنسان معنى التناهي والفناء، والزمان ينقضي دائما من ماض إلى حاضر إلى مستقبل، أو لنقل على وجه التحديد: إن الحاضر وحده هو الذي يصبح ماضيا كما يولد منه المستقبل، ولكننا لا نستطيع في أية لحظة أن نقول: إن هذا هو الحاضر؛ لأنه سرعان ما يكون عندئذ قد أفلت وصار ماضيا، وإن كنا نربط الزمان بالتناهي ، فباستطاعتنا أن نربط المكان باللامتناهي. وتعريفنا للتعالي باعتباره علوا فوق كل شيء - على وجه الإطلاق - يقوم في أساسه على تصورنا للمكان؛ لأنه في حقيقته علو على المكان بكل ما يحل فيه من أشياء إلى ما ليس بمكان، ولا يمكن أن يحل في مكان.
وإذا سأل الآن سائل: إلى أين نعلو حين نعلو على المكان؟ فإنا سنحار عندئذ بماذا نجيب؛ ذلك أن المكان في الحقيقة أشمل من الزمان. ألسنا نطبق العلاقات والمقولات والأبعاد المكانية على الزمان، كما في قولنا مثلا في الحاضر، أو في الماضي والمستقبل، ولكن لا نفعل العكس؟ ليست هذه بالطبع هي الإجابة المنتظرة على سؤالنا عن طبيعة المكان، فما هو المكان إذن؟ وماذا نقصد بظاهرة المكان بما هي كذلك وبالإضافة إلى مشكلة المتعالي؟
للمكان دلالتان: فهو يدل مرة على رقعة بعينها تكون محلا لحركة من موضع إلى موضع، كما يدل مرة أخرى على المحل الذي يحده حد، والواقع أن المكان كما نفهمه اليوم، بمعنى الخلاء الذي يحيط بالعالم؛ لا يدل على المعنى الأصلي للكلمة؛ فليس في هذا المعنى الأخير أثر للفراغ أو الخلاء ولا للامتداد أو الاتساع؛ ذلك أن المكان الحر الخالص المفتوح أسبق من المكان الممتد الذي يحيط بالعالم أو تحيط به الحدود، هذا المكان الخالص - المكان الباطني العظيم الذي يحمله كل إنسان في ذاته - هو الذي يتحدث عنه شاعر مثل رلكه في «مراثي دوينس»، حيث يبدأ المرثية الثامنة بقوله: بكل العيون ترى الخليقة الانفتاح.
هذا المكان الذي يبصره الشاعر في وجوه الأطفال والحيوانات؛ مكان تحرر من الموت ومن كل القيود والأشكال، ينتقل فيه الإنسان كما ينتقل في رحاب الأبدية، وهو المكان الذي يتحسر عليه الشاعر أيضا حيث يقول:
نحن لا نجد المكان الخالص يوما واحدا أمامنا.
حيث تتفتح الورود بغير نهاية.
অজানা পৃষ্ঠা