ليست قيمة أفلوطين في أنه رجع إلى هذا التراث الفلسفي الذي ميز بين الأصل وبين ما ينبع منه، بل في أنه أخذ هذا التمييز مأخذ الجد فحدده تحديدا حاسما، واهتم به اهتماما لم يصل إليه مفكر قبله ولا بعده. إنه يقول مثلا في إحدى رسائله المبكرة:
6
أما العلة فليست هي نفس المعلول، إن علة كل شيء ليست شيئا من الأشياء.
ثم يقول في إحدى رسائله المتأخرة:
7
إن ذلك الذي يصدر عنه كل موجود، ليس هو نفسه ككل موجود، بل هو مختلف عنها جميعا.
هذا المعنى نفسه يتكرر في مواضع لا حصر لها من كتاباته. والواقع أن أفلوطين لا يأتي في ذلك بجديد، فقد ذهبت الفلسفة اليونانية دائما في تاريخها الطويل إلى أن الكثرة والتعدد هما الصفتان الغالبتان على العالم والموجودات، وكان من الطبيعي أن يكون الأصل فيها مختلفا عنها، أعني أن يكون واحدا وبسيطا، ويتردد هذا المعنى نفسه في أقدم عبارة فلسفية أثرت عن أب الفلاسفة طاليس، فالمشهور عنه أنه قال: إن الأصل في جميع الموجودات هو الماء، وليس هذا الماء شيئا أسطوريا ولا هو الماء الذي يحدد الكيميائيون معادلته بأنها «يد2 أ» والذي ندير الصنبور لنغسل وجوهنا منه كل صباح، بل هو - على حد تعبير هيجل - «ماء تأملي»، أي يستطيع الفكر وحده أن يتخيله في وحدته وبساطته.
قلنا: إن ما يميز أفلوطين عن المفكرين من قبله ومن بعده هو نظرته الحاسمة إلى وحدة الأصل وعدم تعدده أو كثرته. وكلمة «الواحد» من الكلمات التي يمكن أن يساء فهمها بسهولة، ولعل ذلك ألا يكون من قبيل المصادفة، بل يرجع إلى طبيعة اللغة نفسها؛ ذلك أن أفلوطين حين يفكر في الواحد فإنما يتصوره على أنه ما ليس بمتعدد ولا بكثير، أي على أنه ذلك «الآخر» المخالف في طبيعته للعالم ولكل ما يحتويه هذا العالم، وهو حين يحاول أن يصفه يكشف عجزه فيقول: إنه لا يمكن أن يوصف لا بالكلام ولا بالكتابة،
8
ولكنه مضطر أن يفكر فيه عن طريق اللغة؛ فقد يكون هناك فكر بلا كلام، أو فكر لا يجد الكلمات التي تعبر عنه، ولكن لا يمكن أن يكون هناك فكر بلا لغة، وهذه اللغة التي يستخدمها للتعبير عما ليس في العالم ولا منه قد جعلت من أجل هذا العالم، وإذن فهو مضطر بالضرورة إلى التعبير عنه بالوسيلة القاصرة التي لا يملك وسيلة سواها، وتعجز الكلمة التي يلجأ إليها فلا تستطيع أن تسمي، بل تكتفي بالإشارة إلى ما يفلت من كل تسمية، وتصبح لها وظيفة أخرى غير وظيفتها الطبيعية. إنها لم تعد تقربنا مما نسميه بل أصبحت توضح عجزنا عن إيجاد اسم له. وليس عجيبا بعد ذلك أن يجد أفلوطين نفسه في موقف من لا يكاد ينطق بكلمة حتى يجد نفسه مضطرا إلى التراجع عنها وإيثار السكوت الخاشع عليها.
অজানা পৃষ্ঠা