مدينة الملائكة
افصلوني - أرجوكم - معه!
الضحك حتى البكاء
الخروج إلى الشمال
إننا نختنق ... نختنق
خطاب من راكبة أتوبيس
فلنكتشف أنفسنا
التليفزيون
الشعب القوي هو الذي يغير
وداعا أيها المجلس وإلى غير لقاء
المندوب الغائب
اللص ذو الأقدام الكبيرة
عبقرية المعارف
مركز الدائرة
وذهبت للدعوة الغامضة
أحفادك يا طه
أجادير في عينيك
رسالة من الجنادرية
في ألمانيا
مركب النقص ومركب العظمة
المجتمعات الوسط
مدينة الملائكة
افصلوني - أرجوكم - معه!
الضحك حتى البكاء
الخروج إلى الشمال
إننا نختنق ... نختنق
خطاب من راكبة أتوبيس
فلنكتشف أنفسنا
التليفزيون
الشعب القوي هو الذي يغير
وداعا أيها المجلس وإلى غير لقاء
المندوب الغائب
اللص ذو الأقدام الكبيرة
عبقرية المعارف
مركز الدائرة
وذهبت للدعوة الغامضة
أحفادك يا طه
أجادير في عينيك
رسالة من الجنادرية
في ألمانيا
مركب النقص ومركب العظمة
المجتمعات الوسط
مدينة الملائكة
مدينة الملائكة
تأليف
يوسف إدريس
مدينة الملائكة
في لحظة إحساس باللافاعلية والضيق بالصبر وانعدام الدور والجدوى؛ لحظة من تلك اللحظات التي كثيرا ما تنتاب أيا منا أمام ما يتصوره وما يجده من عقبات هائلات كأنها جبال تفاهات شامخة، دق جرس التليفون دقا دوليا في العاشرة مساء: - ألو، صباح الخير (دهشت)، أقصد مساء الخير ... فلان؟! - نعم، صباح الخير أو مساء الخير، أهلا وسهلا. - أنا عفاف لطفي السيد ... الدكتورة عفاف لطفي السيد الأستاذة في جامعة لوس أنجلوس. - أهلا وسهلا ... عفاف لطفي السيد؟ - نعم. - ابنة أستاذ الجيل؟ - ابنته الروحية ولكن والدي كان سعيد لطفي السيد باشا شقيقه. - أول رئيس للإذاعة المصرية؟ - تماما. - أهلا وسهلا، أهلا وسهلا. - لقد كلفتني جامعة لوس أنجلوس بأن أعرض عليك أن تحضر إلى الجامعة كأستاذ كاتب زائر لمدة ربع عام أو عام حسبما يسمح وقتك فما رأيك؟!
كان أول خاطر سريع أن أقبل فورا؛ ففي تلك اللحظة كنت مستعدا لتلبية أي نداء قدري يأتيني ولو بالذهاب إلى واق الواق.
لقد كنت أحتار إذا سألني أحد السائلين عن هواياتي، كنت أفتش حياتي فلا أجد لي هواية واحدة تصلح للذكر؛ فلا أنا رياضي ولا شطرنجي ولا إلى أي نشاط اجتماعي أنتمي. والانطواء أحب إلي كثيرا من الجلوس في ناد، ولا أصطاد بالبندقية، وحظي في صيد السمك صفر. أخيرا جدا اكتشفت أن كثرة حبي للسفر تعد هوايتي الحقيقية، والعام الماضي كله تقريبا قضيته على سفر: دعوة لحضور مهرجان الشعر الشبابي في العراق، دعوة من الجمعية العربية السويدية لاستوكهلم، دعوة من وزارة العلاقات الثقافية الخارجية لزيارة فرنسا، دعوة من هيئة «البروهيلفيسيا» السويسرية (ما يقابل المجلس القومي للثقافة عندنا) لزيارة سويسرا، وكان رفيقي في الدعوة صديقي وأستاذي الدكتور لويس عوض الذي لا أمل مداعبته، ولم أمل طوال الأسابيع الثلاثة التي قضيناها في سويسرا ... وها هي الآن دعوة إلى كاليفورنيا ولوس أنجلوس وجامعة عتيدة مهيبة اسمها
Ucla .
ولكن انبثاقة الرغبة في التلبية سرعان ما توقفت؛ فقد رنت في أذني كلمة «أستاذ» ولو كان زائرا للجامعة.
فكل الدعوات السابقة كانت دعوات ثقافية سياحية ومقابلات مع كتاب وفنانين ومثقفين وحضور مؤتمرات.
تنحنحت وقلت: يا دكتورة عفاف ... تقولين أستاذا زائرا؟ - نعم. - ولكن أستاذ ماذا؟ أستاذ لتدريس الأدب العربي؟ - شيء كهذا. - ولكن هذا التدريس لم أجربه أبدا ولا أصلح له، لا أطيق أن أكون أستاذا أو أدرس شيئا؛ فأنا كثير التغيير والتبديل في آرائي، والحقيقة عندي بالغة الصعوبة في الوصول إلى مرحلة اليقين فيها، والأستاذ لا بد أن يكون قد «وصل» إلى ما يتصور أنه الحقيقة ليستطيع أن «يعلمها» لغيره، ألا تعرفون هذا في جامعة لوس أنجلوس عني؟ أنا دكتور طبيب يا دكتورة ولم أنل أية دكتوراه، وكنت قد تنازلت عن اللقب ككاتب وظللت ردحا طويلا أكتب اسمي فقط، إلى أن عينني الأستاذ هيكل في الأهرام، ورأى أن يكتب اسمي مضافا إليه لقب دكتور، وهكذا ذهبت مثلا، والتصق اللقب بي، وكأن نبوءة المرحوم الشاعر كامل الشناوي قد تحققت؛ إذ حين خلفت ابني الأول والأكبر (سامح) ظللت طويلا حائرا في تسميته؛ فقد كنت أريد أن أسميه محمدا وكانت أمه قد قرأت قصة لي اسمها «لعبة البيت» وبطلها طفل اسمه سامح، فأصرت على أن تسميه «سامحا » حتى لا يغضب منا اللغويون؛ إذ إن العائلتين مليئتان باسم محمد، ويومها - وأنا حائر في اختيار الاسم - قال المرحوم كامل الشناوي: اسمع يا يوسف، ما رأيك أن تسميه دكتور (والمرحوم كان دائم التشهير بطبي ومتطببي) بحيث ستجبر الناس على أن يقولوا: «دكتور يوسف إدريس» يقولونها لسامح وإن لم يقولوها لي.
طبعا لم أقل كل هذا للدكتورة عفاف؛ فهي تتكلم من مسافة لا تقل عن سبعة عشر ألف كيلو متر والدقيقة بالشيء الفلاني، ولكن فكرت في كل هذا، وفي جملة لخصت لها الموقف: أنا لا أصلح أستاذ أدب أو مدرسا لتلاميذ.
فوجئت بها تقول: ولكننا نعرف هذا ولهذا دعوناك. - دعوتموني لهذا؟! - نعم، لتعطينا وتعطي الخريجين المتخصصين وأعضاء تدريس الأدب العربي رؤيتك كمبدع في القصة والمسرح. - ولكن هناك في جامعات مصر أساتذة كبار يفيدونكم أكثر. - في الحقيقة نحن نتبع نظاما أصبح معمولا به في أمريكا الآن، وهو دعوة الروائيين والشعراء وكتاب القصة والمسرح كأساتذة زائرين يناقشهم الطلبة في أعمالهم ويقتربون من المبدعين الخلاقين؛ لكي يثيروا فيهم حبهم للأدب والفن ويدخلوا تيارات غير أكاديمية على عقولهم، بحيث لا تعود الجامعات أديرة مقفلة بعيدة عن الواقع العلمي أو الفني الحي؛ ولهذا نحن نرحب بالكتاب ليقولوا هم نظرتهم الشخصية أو النقدية إلى عملية الخلق وإلى آرائهم في النقد حتى في طريقة تدريس الفن أو الأدب ...
ورغم أن الكلام كان مقنعا جدا، إلا أن فكرة أستاذ وجامعة ودراسة ظلت تدور في عقلي وتقترب من محيط الرفض حتى وأنا أقول لها: ولكن ثلاثة أشهر مدة طويلة. - سوف تجد أنها ليست كذلك حين تأتي. - إذن شكرا يا دكتورة على الدعوة ومبدئيا أنا أقبلها. •••
سبع عشرة ساعة من الطيران المتواصل، 11 ساعة من القاهرة لنيويورك، وانتظار ساعتين ثم ست ساعات للوصول إلى لوس أنجلوس.
برأس دار حول نصف الكرة الأرضية في رحلة متصلة وصلت «مدينة الملائكة»، (أنجلوس بالإسباني تعني ملائكة)، وأنا بالكاد أدرك من أنا، وبدا لي المطار الكبير المتوهج بالأضواء وبالسلالم وبالوجوه لوحة قد اختلطت وتداخلت، لوحة لا بد رسمها تجريدي مجنون، ولولا أني لمحت وسطها وجها أعرفه جيدا هو زميلنا السابق في الأهرام الدكتور إبراهيم كروان عضو مركز الدراسات بها أو هكذا خيل إلي؛ إذ كانت قد أضيفت إلى وجهه ذقن صغيرة أنيقة جعلته يبدو وكأنه جزء من اللوحة يضيع في عدم اليقين.
ولكنه كان هو.
وكان الوقت متأخرا إذ كان صباح اليوم التالي قد أشرق في القاهرة، بل حل ظهره وليله ويوشك فجر يوم جديد أن يأتي إن لم يكن قد جاء فعلا.
لم تكن تلك أول مرة أزور فيها لوس أنجلوس؛ فقد زرتها عام 1966، وكنت تلك المرة مدعوا من قبل جامعة شيكاغو وقمت بجولة في أهم المدن الأمريكية.
ولكن هذه لوس أنجلوس أخرى تماما؛ عام 66 كانت مدينة متوسطة الكبر والمباني، وكانت تختلف عن غيرها من المدن الأمريكية في خلوها من ناطحات السحاب المشهورة أو ندرتها، ولكن هذه المدينة أصبحت غابة من ناطحات السحاب المهيبة، بل من مدينة واحدة تكاثرت مثل «أميبا» عمرانية مخيفة الأبعاد، فأصبحت خمس (أو ربما ست) مدن تكاد مدينة بيفرلي هيلز (حيث هوليود) تصبح أقلها أهمية.
فجأة وأفقت على الحقيقة، أنا في بلد غريب تماما، وكأن الدعوة كانت فرصة لكي أغمي عيني وأقذف نفسي في سفرة أخرى، وها أنا ذا أفيق على حقيقة أني في مدينة رهيبة الغنى والأبعاد، أقصر شارع فيها طوله سبعون كيلو مترا، وعربات بولسيها وإسعافها لا تكف عن النعيق، والعربات الأمريكية الهائلة الحجم كثيرة كثيرة وصفوفا صفوفا، تدبر حمراء وتقبل بأنوار بيضاء ساطعة، ماذا أتى بي يا ربي وماذا أفعل هنا، وماذا سأفعل في الجامعة غدا أو على الأصح بعد أن تذهب عني «تولة» الرحلة؟!
أقول: أغمضت عيني وقذفت بنفسي في تلك السفرة لأسباب لا علاقة لها بأهمية الدعوة أو الجامعة بقدر ما كانت أسبابا تتعلق بي شخصيا، كنت في الحقيقة أريد أن أخلد إلى نوع من الانفراد بالنفس وتأمل طويل لا تقطعه علاقات أو نشاطات أو زيارات لحياتي؛ فمنذ عام 1958 حين ارتبطت كتابتي بالصحافة وتركت الطب، هدهدت خواطري التي اعترضت على الفكرة بقولي لنفسي: إنها مجرد فترة قصيرة جدا، أجرب فيها الكتابة للصحافة؛ إذ لا مناص لكاتب القصة القصيرة، وحتى المسرح من الالتحاق بالصحافة إن آجلا أو عاجلا؛ فالقصة القصيرة الحديثة المكتوبة هي الابنة الشرعية للصحافة، لولا الصحافة ما وجدت، فكاتب القصة القصيرة لا يستطيع أن يصدر كتابا في كل مرة يكتب فيها قصة قصيرة، لا بد أن ينشرها في مجلة أو جريدة ثم يجمعها - أو لا يجمعها - في كتاب بعد ذلك، والمسألة في العادة تبدأ بنية نشر القصص القصيرة ثم يبدأ الكاتب ينزلق إلى كتابة خاطرة، ثم اقتراحا، ثم صورة قلمية، وفي النهاية يجد نفسه منغمسا تماما في دور الكاتب الصحفي؛ ذلك أن الصحافة تحمل الكاتب حملا إلى مشاكل الناس، مشاكل الاقتصاد والثقافة والسياسة والتعليم والإسكان والمواصلات، وحتى الحب يصل أيضا إلى مشاكله، وليس إلى قصصه فقط.
وأفقت لأجد نفسي قد قضيت أكثر من ربع قرن كتبت أثناءها أكثر من ثلاثة آلاف موضوع صحفي، وهو كم يعادل ما كتبته فنا عدة مرات، وقبل أن أشرع في رحلتي الأخيرة تلك كنت قد انتهيت من مراجعة كثير من هذه المقالات وتنسيقها في أربعة كتب صدر بعضها ولا يزال الآخر في انتظار الصدور، وحين راجعت هذا العدد المهول من المقالات اكتشفت أني ما تركت مشكلة من مشاكل الشعب المصري أو العربي إلا وكتبت عنها ونبهت إليها، حتى تجريف الأرض الزراعية كتبت عنه منذ خمس سنوات بعنوان: الذين يأكلون أمهم (أي الأرض)، ومن مشاكل تلوث البيئة إلى مشاكل السياسة والسياسيين والتلوث الثقافي والتعليمي والتربوي، حتى الانفجار السكاني كتبت عنه في الخمسينيات.
وهنا استوقفني سؤال مفجع: دعك من الأصدقاء النقاد وكاتبي المقالات الصحفية الذين سلخوني طوال السبعينيات حول نهايتي ككاتب فن «وهروبي» إلى الكتابة الصحفية؛ فهؤلاء كنت أجيبهم بقولي: إن نهاية الأرب في فهم الأدب هي أن يبادر الكاتب وينشئ شيئا من أجل الآخرين، فإذا شب حريق في دار إخوانه الآخرين هؤلاء، أيترك الناس تحرق البيت والآخرين وينزوي في ركن يكتب عما حدث قصة أو رواية أو مسرحية، أو يتصرف كالرجال ويشمر عن ساعده وبكل ما يملك يساعد فورا في إطفاء الحريق، وبعد هذا يكتب القصة أو لا يكتبها؟ هذا شيء غير مهم بالمرة؛ فالكاتب ليس صانعا ماهرا لكراس مذهبة أو كراسي مقاه ليس حرفي قصة ورواية ومسرحية. الكاتب روحه معلقة بروح شعبه، في مشنقة واحدة أو في باقة حرية واحدة. الكاتب هو «أول» من يبادر وآخر من ينكص. الكاتب ظاهرة اجتماعية بيولوجية قبل أن يكون ظاهرة فردية هدفها ذاتي محض، أن يكون أكثر أهل صنعته إتقانا لحرفته أو أكثرهم امتيازا على أقرانه.
مئات المقالات قرأتها وأنا أراجع الكتب الأربعة والسؤال المفجع يقف كاللقمة في زور الواقع، وماذا صنعت تلك المقالات؟!
لا بد أنها صنعت شيئا، كثيرا أو قليلا، غير مهم؛ فصدى الصنع أجده في كل مكان أذهب إليه، وصحيح أنها غيرت في تفكير كثيرين، ولكن هل غيرت حقا في الواقع؟ هل حلت فعلا مشاكل؟ هل أخذت بها أي حكومة أو حتى أي مصلحة؟!
ذلك أمر أترك الحكم عليه للناس وللتاريخ ...
ولكني ككاتب لا بد أن أراجع دوري الآن.
فلقد كنت أكتب في السبعينيات في فترة اتسمت بغياب - معظم الوقت - للمعارضة وللرأي الآخر السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، والآن ومنذ نهاية عام 81 ونحن في حقبة أخرى، هناك أحزاب معارضة، تعارض حتى رئيس الجمهورية في قراراته، وهناك صحف معارضة مقالاتها وكتابها السياسيون والثقافيون والعلميون أعلى صوتا من أعلى الأصوات التي تكتب الرأي الآخر فيما يسمى بالصحف القومية.
هناك إذن حياة حزبية شبه كاملة، ودور «قائم مقام» المعارضة أصبح على رأي لطفي السيد في معاهدة 36 «غير ذي موضوع» بعد أن قامت المعارضة القوية الشرعية، والتفكير السليم يدعو كلا منا لأن يعود إلى تخصصه واختصاصه، وأعظم ما أستطيع أن أفعله الآن أن أنتج قصة ومسرحية وفنا وفكرا - بالطبع غير منعزل عن الحياة العامة - بل بتعمقها، ويضيف بعدا وجدانيا إلى مقالاتنا وخطبنا وتصريحاتنا العقلانية. هذا أوان الكاتب والكتاب؛ فالضجة القائمة في صحافتنا عربية ومصرية شديدة العلو - ولا نرى طحنا - وشعبنا حاجته ماسة إلى إبداع فني حقيقي «يكنس» العناكب والعقارب والثعالب والفئران النرويجي التي تكالبت على ضمائر الناس تنهشها وتزلزل قيمها. إن الفن الحقيقي هو الدفاع عن الضمير المصري والعربي، وضمائرنا لم تكن في حاجة إلى دفاع عنها بقدر ما هي في حاجة إليه الآن.
وليس بالفن وحده ندافع عن ضمائرنا، ولكن بالكتابة الحقيقية الصادقة الصادرة عن تجرد كامل وعن غيرية كاملة، وليس كما هو حادث الآن مع كثير من أصحاب الأعمدة اليومية الثابتة التي أحالوها إلى قطاع خاص في أحيان كثيرة لأهداف خاصة جدا، والكتابة في الفاضي والمليان لا لهدف إلا لتثبيت ملكية «العمود وإثبات وضع اليد». لقد أطلعت وأطلع على الصحافة في العالم كله بطوله وعرضه وشرقه وغربه ولم أجد هذا النظام الغريب الذي تنفرد به الصحافة المصرية والعربية؛ نظام العمود الثابت لسبعة أو عشرة، أو أحيانا كتاب أكثر، يكتبون كل يوم ولا يقولون شيئا بالمرة، أو يقولون الشيء نفسه كل يوم، كل يوم، والغريب أن معظمهم لا يتمتعون بآراء قيمة وقدرة دائبة في البحث عن الحقيقة وثقافة عميقة تتيح لهم معرفة موسوعية، بحيث يعالجون الأشياء التي يكتبونها بعمق ومن خلال وجهة نظر جديدة ومبتكرة ومحددة، ولكنهم في مجموعهم يشكلون آراء شائعة لا جديد فيها ولا ابتكار، غالبا ما تكون قشرية أو أحيانا غوغائية، وفي أكثر الأحيان تميل إلى المحافظة وتملق الرأي الشائع أو المودة السارية، في حين أن كاتبا يستطيع أن يكتب رأيا يوميا لا بد أن يكون قائدا فكريا أكثر خطورة بكثير من مارلو أو سارتر أو الحكيم بوذا أو حتى - بموسوعيته - العقاد.
والنتيجة ضجيج غريب، تضيع فيه الأصوات المفكرة الدارسة وتفقد الكتابة الصحفية نفسها أهميتها وتصبح كالطنين على الأذن، أشياء تدعو للنعاس. •••
أغمضت عيني وقذفت بنفسي في آخر مدينة على غرب الدنيا، وفي نيتي أن أعتزل العالم ثلاثة أشهر كاملة، لعل ذرات الرمال الناعمة تذهب عن عيني، وتتضح الرؤية، والضجيج الذي يملأ آذاني ويسد مسام عقلي وتفكيري يكف؛ فأستطيع أن أسمع صوتي الداخلي وأتلمس نوع وطبيعة ما أريد حقيقة أن أقوله وأفعله.
ولكني كنت أحلم.
فمدينة الملائكة التي ذهبت إليها كانت تحفل بضجيج لم أكن أتصوره وبأصوات صاروخية هذه المرة لا تعيق السمع ولكن تصم الآذان فعلا، وكانت تجربة.
ويا لها من تجربة!
افصلوني - أرجوكم - معه!
بعد التحية
مقدمه لسيادتكم الطالب محمد حامد الحمامي، أمين اللجنة الثقافية باتحاد المعهد الفني للفنادق ببورسعيد
أما بعد، فأنا آسف إذ أبلغك بأنني فصلت من المعهد بسبب اتباعي لرأي سيادتك، سامحك الله يا دكتور يوسف؛ فأنت السبب في فصلي من المعهد؛ فقد قرأت مقالك أو مفكرتك التي تنشرها كل يوم اثنين في جريدة الأهرام، والتي كانت تتناول إيقاظ الهمة لدى الرأي العام المصري بالطريقة الشرعية لمساندة الانتفاضة الفلسطينية في الضفة وقطاع غزة، وقد ناشدت في هذا المقال كل التجمعات السياسية والعمالية والطلابية بأن تتحرك لدعم الانتفاضة، وبالذات ناشدت الاتحادات الطلابية في الجامعات والمدارس والمعاهد بأن ترسل برقيات إلى الحكومة الإسرائيلية وإلى سكرتير عام الأمم المتحدة ومجلس الأمن وإلى كل الجهات المعنية تندد بأساليب القمع الدموي التي يتبعها المغتصبون الصهيونيون في الأرض المحتلة.
وما كان مني إلا أن حاولت أن أساهم في هذا الاحتجاج بطريقتي الخاصة المشروعة بأن أقيم معرضا عن الانتفاضة، وذلك بصور ومجلات حائط لتوضيح مدى رجولة الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال وتوضيح كفاح الشعب العربي ضد إسرائيل، وما كان مني إلا أن عرضت الأمر على السيد رائد الاتحاد فوافق على إحضار الصور، وعندما أحضرتها وشاهدها رأى ضرورة موافقة السيد عميد المعهد، برغم أن السيد المسئول عن رعاية الشباب قد تحمس لي وشجعني على المضي قدما في نشر ذلك، وما كان مني إلا أن عرضت الأمر برمته على السيد العميد فأبدى استعداده بالموافقة على إقامة المعرض، ولكنه قال لي: أمهلني إلى الغد. فلما جاء الغد فوجئت بدلا من الموافقة بأن مباحث أمن الدولة في بورسعيد تستدعيني وتحقق معي بأسلوب وطريقة كأنني قمت بعمل إجرامي ضد الدولة، هذا: وناهيك عن مصادرة كل الصور والمجلات، وعند عودتي الى المعهد حاولت الاستفسار عن سبب هذا كله، ولكن المفاجأة الكبرى أنني وجدت أن قرارا بفصلي من المعهد قد صدر، وصدر في أحرج وقت؛ لأنه لم يبق على امتحاني سوى شهر واحد، وذلك تحت زعم أنني حاولت إثارة شغب وبلبلة بين صفوف الطلاب بإقامة هذا المعرض. بالله عليكم هل نحن عرب أم ماذا، وهل يرضيك ما حدث؟
محمد حامد الحمامي
أمين اللجنة الثقافية بالمعهد الفني للفنادق ببورسعيد
ما كدت أعثر على هذا الخطاب بين أكوام رسائل القراء حتى اكتفيت به وبلغ بي الغيظ حد الكف عن قراءة بقية الرسائل، وأعود إلى منزلي في حالة ثورة عارمة.
فخلال الأعوام القليلة الماضية، تلك التي استشرى فيها التطرف بين الجماعات الدينية واليسارية، والتي أخذنا فيها نحن الكتاب وأولي الرأي في هذا البلد على عاتقنا مهمة أن نفهم الشباب أنه لا العنف ولا الإرهاب ولا الالتحام بقوات الشرطة والخروج في مظاهرات تتعدى الحرم الجامعي حيث يختلط الحابل بالنابل وتسود الفوضى، كان أقصى ما نطمح إليه أن يتعلم الشباب الجامعي الوسائل الشرعية للتعبير عن الرأي، مثل عقد المؤتمرات داخل مدرجات الكلية، وتحرير برقيات ورسائل الاحتجاج إلى المسئولين أو غير المسئولين قائلين فيها رأيهم بصراحة ووضوح.
سنوات وسنوات ونحن نفعل هذا، وحين كتبت منذ بضعة أسابيع أطالب الرأي العام المصري بأن يظهر احتجاجه على مذابح إطلاق الرصاص وتكسير الأيدي والضرب، تلك التي يستعملها الجيش الإسرائيلي بأوامر من شامير وحكومة الليكود، حين فعلت هذا كنت أحاول أن أناشد الشباب والمؤسسات الشعبية والنقابية أن تظهر احتجاجها بالطريقة الشرعية التي تطالبنا دائما بها الحكومة والمسئولون السياسيون؛ ولهذا فإذا كان هذا التعبير بالطريقة الشرعية جريمة فلا بد أنني أنا - وليس أحد غيري - هو المتهم الأول والمحرض فيها، وقد يقول البعض إن ما جاء بالخطاب غير صحيح، ولكني أستبعد هذا الاحتمال؛ إذ قد أرسله الطالب باسمه وعنوانه، ويعني هذا أنه مسئول تماما عن خطابه وأقواله، ولهذا فأن يتفضل عميد معهد الفنادق بإبلاغ مباحث أمن الدولة ضد هذا الطالب الذي ذهب يأخذ منه الإذن بتعليق الصور بعدما وافق على مشروعه رائد الاتحاد ومسئول رعاية الشباب، ولم يعترض العميد وإنما طلب استمهاله يوما واحدا، ذلك اليوم الذي أسرع فيه إلى إبلاغ مباحث أمن الدولة عن الجريمة البشعة التي يعتزم الطالب القيام بها، نفس الجريمة التي يرتكبها تليفزيوننا كل يوم، وفي كل نشرة أخبار وترتكبها صحافتنا وارتكبتها أنا ككاتب وغيري من عشرات الكتاب، أما أن يحدث هذا فإن الأمر يشكل جريمة كبرى في حق الشعب المصري، بل أقولها علانية في حق الحكومة المصرية والرئيس محمد حسني مبارك.
فأولا:
كيف يخدع العميد تلميذه، وقد كان ممكنا أن يعترض ويرفض، إنما الذي طالبه هو تأجيل للغد، وما هو بتأجيل إنما هي وسيلة غير كريمة لتبليغ مباحث أمن الدولة من خلف ظهر الطالب المسكين الذي وثق في عميده، ومشى منذ البداية على خط مستقيم مشروع، وقد كان باستطاعة العميد أن يرفض عرض الصور والمجلة، وهذا هو حقه، رفضا شجاعا مباشرا، أما أن يتظاهر بالموافقة ثم يبلغ مباحث أمن الدولة فهنا نضع أيدينا على بعض العمداء والمديرين الذين تركوا الإشراف العلمي جانبا وأصبحوا ممثلين لأمن الدولة ووزارة الداخلية، ليس بناء على توجيهات وزير التعليم ولا استجابة لأوامر وزارة الداخلية، وإنما هكذا يجندون أنفسهم متطوعين لتلفيق التهم لأولادنا ولفلذة أكبادنا؛ أملا في أن ينالوا الحفاوة، لدى من؟ لست أدري.
وثانيا:
ما هذه العلاقة المريبة بين بعض المسئولين في الجامعات والمعاهد وبين مباحث أمن الدولة عن طريق الحرس الجامعي أو غيره. إن العميد كان يختار في السابق على أساس مقدرته العلمية وبانتخاب أعضاء مجلس الكلية ليزاول وظيفة تعليمية سامية، ألا وهي رياسة معهد أو كلية أو جامعة ... فهل تبدل الحال وأصبحت قدرة العميد تقاس بمقدار ولائه لأمن الدولة ووزارة الداخلية؟
ثالثا:
هذا طالب قارئ قرأ رأيا لكاتب، واتبع كما أراد الكاتب الطريق العلني المشروع، فكانت النتيجة أنه فصل قبل الامتحان بشهر، أنا أعرف والقانون يعرف (قانون الجامعات) أنه لا يمكن فصل طالب إلا بعد تقديمه لمجلس تأديب في معهده أو جامعته ، وإدانة مجلس التأديب له، أما أن يفصل طالب دون محاكمة أو تأديب، وإنما بمجرد الاتصال بمباحث أمن الدولة فهو شيء جديد حقا؛ جديد على التقاليد الجامعية، وجديد على الحكم في مصر. والأهم منه أنه يحدث الآن في عصر نقول فيه كلنا ابتداء من رئيس الجمهورية إلى أصغر محرر في جريدة معارضة إن الديمقراطية هي دعامتنا الأولى لحكم الشعب، وإن وسائل القهر والكبت والحجر على الرأي انتهت من بلادنا تماما وذهبت إلى غير رجعة.
أما إذا كان العميد - المباحث - يرى أن عرض صور للمذابح الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الأرض المحتلة وإسرائيل هو عمل ضد الحكومة وضد الحكم وجريمة يستحق عليها الطالب الفصل من معهده فإني لأتعجب! فإذا كان الأمر جريمة فأنا الذي كتبت في الأهرام وأنا الذي حرضت على ارتكاب تلك «الجريمة»؛ وبالتالي أنا أول من يستحق العقاب، فلماذا لم يطالب سيادة العميد بفصلي أنا وحرماني من الكتابة، ولماذا لم تفعل مباحث أمن الدولة هذا؟
إنها ليست فقط مهزلة، ولكنها وقد علمت بها من خطاب الطالب المستغيث بي، ومحملني - وعنده تمام الحق - المسئولية عن فصله، لأهيب بالدكتور أحمد فتحي سرور وزير التعليم أن يطلب معاقبتي أنا أولا وعنده مجلس الشورى مالك الصحف بما فيها الأهرام، وعنده رئيسه الدكتور علي لطفي الذي هو في الوقت نفسه رئيس المجلس الأعلى للصحافة الذي يملك حق فصلي؛ فأنا الجاني في الأصل والمحرض، وما الطالب سوى ضحية بريئة لما كتبت، ولأنني لا أعرف بالضبط الجهة التي فصلت الطالب، فإنني أطالب نفس الجهة الغامضة التي تولت هذا العمل المشين أن تفصلني أنا أولا، أم لأنه هو طالب، مجرد طالب، وأنا كاتب، تطبق عليه هو الإجراءات الشاذة، ولا تطبق علي؟
رابعا:
نأتي للموضوع نفسه، هل الاحتجاج بطريقة شرعية قانونية على الاعتداء الوحشي الواقع على إخوتنا وأشقائنا الفلسطينيين جريمة تستحق العقاب؟
إذا كانت بعض الجهات الرسمية لمباحث أمن الدولة أو وزارة التعليم ترى في الأمر جريمة؛ فالحقيقة أن آخر المتهمين فيها هو ذلك الطالب المسكين، وإذا كنت أنا المحرض ، فإن المتهم الأول لا بد أن يكون الرئيس محمد حسني مبارك الذي كان أول من احتج على تلك الأعمال الإجرامية وأول من أدان حكومة الليكود ورئيسها المتعصب إسحق شامير، ويأتي بعد هذا السيد صفوت الشريف وزير الإعلام والمسئول عن الإذاعة وتعليقاتها وعن التليفزيون وصور التوحش اللاإنساني التي نراها في كل نشرة أخبار، ثم كل رؤساء تحرير الصحف القومية وصحف المعارضة تلك التي أدانت جميعها هذا العدوان الصارخ، والتي طالبت الشعب بالاحتجاج على هذا المنكر بأقل أنواع دفع المنكر باللسان والصورة والكلمة.
إذن لا بد أيضا لوزير التربية ورئيس مباحث أمن الدولة أن يبادر بفصل رئيس الجمهورية وكل الكتاب ورؤساء التحرير، لا بد من فعل كل هذا قبل أن تمس شعرة واحدة من شعرات الطالب محمد حامد الحمامي؛ فهم الفاعلون الأصليون المتآمرون الذين يحرضون الناس ضد القمع الإسرائيلي.
أقسم أني من لحظة أن تسلمت هذا الخطاب وأنا في حيرة من أمري، هل هناك حكومتان في مصر، واحدة يرأسها حسني مبارك تقف ضد العدوان الإسرائيلي الغاشم، وحكومة ثانية سرية لا يعرف أحد بالضبط هويتها، ولا يملك الإمساك بمسئوليتها، حكومة موالية تماما لإسرائيل، وتأخذ أوامرها منها، وتعذب وتضرب وتفصل كل من تسول له نفسه أن يحتج على القمع الإسرائيلي، فإن هذا يعد في نظر تلك الحكومة السرية خروجا على الخط وجريمة في حق المتعاونين مع إسرائيل؟
والغريب في الأمر أني حين أمعنت النظر، وجدت أن قرارات وأحكام تلك الحكومة السرية الثانية هي التي تنفذ حين يجد الجد، وهي المالكة لزمام الأمور، وكأنها الحكومة الفعلية الماسكة بزمام الأمور، وكأن الحكومة الأخرى حكومة كلام وأقوال همها إلهاء المواطنين ليس إلا. •••
وبعد؛
إني لا أريد فتح باب النقد لحكومتنا الشرعية والتي أعتقد أنها لا تزال شرعية؛ فالملاحظ من حادثة الاعتداء على عضو مجلس الشعب، ومن مد قانون الطوارئ لثلاث سنوات أخرى تبدأ من أبريل القادم - ثلاث سنوات - يا للهول، ولماذا لا تمد كل ثلاثة أشهر أو حتى كل ستة أشهر، لماذا نحكم على مستقبل مصر خلال السنوات الثلاث القادمة بالتكبيل وبفرض حالة الحرب على الناس، دون حرب، بل في الواقع بإخماد أي صوت يرتفع ضد علاقتنا بإسرائيل، شيء لم يحدث في تاريخ العالم قط؛ فديمقراطيتنا التي لا تزال ينقصها الكثير كانت تحتاج منا إلى فتح أكثر لباب الحرية، حتى إذا انتهت فترة الأحكام العرفية نجد شعبا منظما قد تعود على احترام الرأي والرأي الآخر، أم أننا سيحكم علينا بأن نظل أطفالا غير مسئولين إلى الأبد؟
الاعتداء على النائب ومد الأحكام العرفية لستة وثلاثين شهرا كاملة، وإرغام آلاف الفنانين في مصر على إجراء انتخابات حسب القانون المشبوه الجديد «ورجلهم فوق رقبتهم» ثم تدليل شركات توظيف الأموال وإلغاء المسئولية الوزارية، وترك أعضاء مجلس الشعب وترك الوزراء كأفراد يواجهون الأعضاء وحدهم فرادى، وكأنه لا توجد هناك وزارة ورئيس وزراء ومسئولية سياسية بقيادة رئيس الوزراء باعتباره المسئول الأول عن أن أي خطأ أو انحراف أو رأي شخصي يجتهد به وزير.
حالة أحسست معها، وأنا أحمل خطاب الطالب المفصول فصلا تعسفيا، لا بد أن يكون محل تحقيق تعلن نتيجته ويعلن اسم ووظيفة فاعله على الملأ، حالة أحسست معها أن سياسة الدولة قد أخذت - وتصبح حكومة يمين صريح لا يخجل من نفسه وأنها ماضية في سياستها تلك؛ تصم آذانها عن صرخات الشعب ورأيه وكأنه غير موجود، ولولا أنني سمعت تصريحات الرئيس المبارك ضد الحكومة الإسرائيلية وتلويحها بالقيام بتدمير صواريخ الدفاع التي اشترتها المملكة السعودية من الصين وقوله: إن أي اعتداء على أي جزء من الجزيرة العربية يعتبر بمثابة اعتداء على الأرض المصرية نفسها. بما معناه أن مصر ستتصدى لهذا الاعتداء بكل ما تملك من قوة، ثم كلماته التي تحمل الرد المفحم على المتعصب شامير وقائد قواته رابين، إنه إذا حدث شيء كهذا فإن معناه نسف جهود وحالة السلام في المنطقة بأسرها، ونسف السلام يعني العودة للحرب، لولا أن جاءني صوت الرئيس مبارك يعلن موقف مصر الحرة التي عانت طويلا من تعنت إسرائيل وعانت أكثر من تحيز الولايات المتحدة لأي سياسة عدوانية إسرائيلية ، جاءتني تلك التصريحات فأفاقتني من هول ما كنت فيه، مثلما النشادر في الإنسان الموشك على الإغماء غما وغيظا وانعدام أية وسيلة حتى للصراخ أو الاحتجاج.
لتفهم الحكومة الإسرائيلية ولتفهم إدارة ريجان أنه مهما بلغ نقدنا لحكومتنا فإننا إزاء ما يقترفون من جرائم قد بلغ غيظنا أطراف أنوفنا، ولولا ثقتنا في ضخامة ما تواجهه دولتنا من صعوبات وأهوال خارجية هم القائمون بها لانفجر شعبنا عن بكرة أبيه عنفا واحتجاجا؛ إذ لم يعد في قوس الصبر منزع، ومستودع المتفجرات داخلنا يكفيه خطوة، مجرد خطوة واحدة، وفعل إجرامي واحد تقترفه حكومة شامير بدعم من الولايات المتحدة، يكفيه خطوة حتى ينفجر أعتى وأقوى انفجار.
وعلى الباغي تدور الدوائر!
لقد تبخرت كل أحلامنا في «علاقة خاصة» مع أمريكا، وكل ما كان يأمل فيه الرئيس السادات من ربطنا بالعجلة الأمريكية والإسرائيلية أثبتت السنوات والتجارب أنه جاءنا بالعكس تماما، وأن رفضنا وغيظنا من السياسة الإسرائيلية الأمريكية قاطع ومستعدون معه أن نشعلها جحيما، فخير لنا أن نتحمل التعذيب المتواصل الطويل على أيدي تلك العصابة الدولية التي ليس لها من عمل سوى قهر الشعب وبالذات قهر الشعب العربي وإلجائه إلى الزحف على البطون والتماس الرأفة من مجرمين لا ذرة رحمة في قلوبهم.
أما أنت يا صديقي محمد حامد الحمامي فإني إن شاء الله متبن قضيتك إلى أن يفصلوني معك، بل وليفعلوا بي ما هو أكثر، أو إلى أن يصدروا حكما ببراءتك وتلحق امتحانك، فكلنا معك، وإذا كان لنا رأي كما لا بد لأي كائن حي أن يكون له رأي، فنحن والله حائرون؛ فإذا احتججنا بفوضى سجنونا بتهمة إثارة الشعب والشغب، وإذا حاولنا إبداء الرأي بطريقة شرعية متمدينة فصلونا بتهمة الإثارة والتحريض، ومعنى هذا أن الحكومة السرية الغامضة تريد منا أن نحيا كقطيع الخرفان، لا ننطق ببنت شفة، نمشي وراء الكباش الخفية هادئين مساقين، ويكفينا أن لنا الحرية في السير خلفها كما تسير القطعان، قطعان لا تفعل إلا أن تشرب وتأكل - هذا إذا وجد الطعا م أو الشراب - ونقبل أيدينا ظهرا لبطن على نعمة الوجود مجرد الوجود، كائنات بلا رأي وبلا أي حق في إبداء الرأي.
إنني والله لا أصدق أننا نعيش فعلا في القرن العشرين، وإننا استعدنا لإنساننا حقه وحريته، أهو كابوس مزعج ما نحن فيه؟
أم أننا على شفا بداية جديدة لعهد جديد؟
الضحك حتى البكاء
حين اتصل بي صديقي الفنان عادل إمام يدعوني للانضمام لجهود اللجنة الفنية التي أنشئت لدعم الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، والتي اقترح عادل إمام إقامة حفل كبير يخصص دخله لدعم الانتفاضة.
حين حدث الاتصال التليفوني ووضعت السماعة وجدت نفسي أضحك كما لم أضحك في حياتي، فصوت عادل إمام وملامحه ومجرد تصوري له يضحكني، فما بالك إذا تحدث؟ إنه ينثر السخرية والابتسامات بتلقائية غريبة وضعها الله فيه كما وضع في الياسمين رائحته وفي الكروان حلاوة صوته، ولكن هذه المرة لم أكن أضحك من عادل إمام، كنت أضحك في الحقيقة فيما آلت إليه أحوال ما كان يسمى بالرأي العام المصري عندنا، لقد كنا خلال القرنين الأخيرين منشغلين بكل قضايا العالم من معارك روسيا مع اليابان تلك التي ألف فيها شاعرنا الكبير حافظ إبراهيم قصيدة مطولة، إلى أقل شرخ يحدث في مئذنة أحد مساجد استامبول، وطوال خمسين عاما نحن مشغولون بالقضية العربية إلى درجة الالتحام المسلح والقتال، فماذا بالضبط حدث لنا؟ إنني متأكد وأعرف أن كل مصري ومصرية ينتفض جسده غضبا وغيظا مما تفعله حكومة الاحتلال الإسرائيلي بسكان قطاع غزة والضفة، وأعلم أن الجميع - حتى الأطفال - يستنزلون اللعنات على جنود الاحتلال كلما رأوا منظرا كهذا في النشرة، مع أنها نشرة مخففة جدا بالقياس إلى نشرات الأخبار في التليفزيون البريطاني (الذي يملك اليهود نفوذا كبيرا فيه) والأمريكي الذي يملكونه كله.
وأتطلع أنا إلى رد الفعل العام في مصر فلا أكاد أجد، حتى رد الفعل الوحيد الصادر عن نقابة المحامين لم أقتنع به تمام الاقتناع؛ فهو مثل بعض الحكومات العربية لا يجد أمامه إلا الحكومة المصرية يلومها ويعنفها ويوبخها ويتهمها بالخيانة ويطالبها بإلغاء وتجميد كامب ديفيد، وكأن هذا الإلغاء هو الذي سيوقف تكسير وضرب وقتل الفلسطينيين في الضفة وغزة، ولقد كانت كامب ديفيد كارثة، على الأقل في شقها الفلسطيني بكل معنى الكلمة، ولكنها عندي غير مهمة بالمرة، إنما المهم أننا ربطنا فيها وفي العجلة الإسرائيلية علنا، أما ما حدث في السر فقد كان أدهى؛ إذ قد ربطنا وكأنما للأبد بالعجلة الأمريكية الإسرائيلية أيضا، وأصبحت اليد المصرية مشلولة تماما، أقصد اليد المصرية الرسمية، بل أصبحت محل سخط هذه الدوائر الفاجرة الأغراض، وما محاولة إفشال رحلة الرئيس المصري إلى أمريكا بهذا الفتور الأمريكي وتوريطه في مبادرة لم يقبلوها حتى هم أنفسهم، إلا مثل واحد على أنه لا الأمريكان ولا الإسرائيليون يريدون لمصر أو لرئيسها أن يقوى، أو أن يعود يتزعم العرب كما هو الشيء الطبيعي تماما، وإنما يريدون لمصر ولرئيسها أن تكون دائما مكسورة الإرادة والجناح؛ مجرد دولة عربية أخرى مثلها مثل أصغر دولة عربية تعدادها ربع مليون، كيف ستحل هذه التبعية القومية القمحية السلاحية النقدية، تلك هي القضية الكبرى والأولى إذا أردنا أن نعود لأن نكون أو تنمحي صفحتنا من الوجود.
ولكني هنا لا أتحدث عن مصر الرسمية.
إنما أتحدث عن مصر الشعبية، مصر الرأي العام القوي، المسمع دائما للعالم صوته.
أين هو هذا الرأي العام؟
كيف لا تصدر نقابة الصحفيين بيانا إلى كل نقابات الصحفيين في العالم كله تستنهضهم ضد هذه الهجمة الهمجية الشرسة على إخواننا الفلسطينيين؟
أين هو اتحاد الكتاب - وفي مصر والله العظيم تنظيم اسمه اتحاد الكتاب المصريين - أين صوته؟ أين اتصالاته باتحادات الكتاب في العالم؟ أين موقفه حيال قضية وقع على شجبها خمسمائة كاتب ومثقف فرنسي ونشرت في كبريات صحفه؟ أين هذا كله؟
نقابة الأطباء، نقابة الصيادلة، نقابة الزراعيين والمهندسين والتجاريين والإداريين، كل نقابات مصر، سواء على مستوى المصنع أو مستوى المؤسسة أو المستوى القومي العام.
إن النقابات هي القنوات الشرعية لإيصال صوت الشعب إلى الحكومة المحلية وإلى العالم كله، فأين نقابات العمال، واتحاد عام العمال، أين جامعاتنا - باسم الله ما شاء الله عشر جامعات أو تزيد - لكل منها اتحاد طلبة ونادي هيئة تدريس، ورئيس ومجلس، ومئات المئات من المدارس الثانوية والفنية، لو أن ناظر كل مدرسة ومدرسيها وطلبتها أرسلوا برقية للأمين العام للأمم المتحدة ولرئيس مجلس الأمن وللرئيس ريجان أو حتى لشامير يلعنون سياسته ويتوعدونه بالويل والثبور، لو أن هذا قد حدث لارتجت أبدان استعمارية كثيرة ولارتعشت يد رابين وهو يوقع الأمر بالضرب في المليان، ولكن شيئا من هذا لم يحدث.
ذلك لأننا شعب قد أمرضنا أنفسنا وتولوا هم إضافة الجرعات لمرضنا، أمرضنا أنفسنا حين فصلنا بين الدين وبين الوطنية وحين أصبح الصراع يدور حول من المسلم وكيف يكون الإسلام، وكيف تكون علاقة المسلمين بغير المسلمين ... إلى آخره.
وهذا كان أعظم ما يطمع إليه الطغاة والبغاة في كرتنا الأرضية، أن يلتهي المسلمون بفتنهم الداخلية عن أن يواجهوا أعداء أي دين وكل دين، أولئك الذين لا ملة لهم ولا أمان، وحوش القرن العشرين.
ثم جاءت أحزاب المعارضة حين تكونت الأحزاب لتوجه مدافعها الرشاشة والثقيلة إلى وزير الداخلية وضباط وزارة الداخلية، ومع أنهم يستحقون النقد على بعض ما يقترفون، ولكن عدونا ليس زكي بدر وليس أبو باشا ولا مكرم محمد أحمد، عدونا هو شامير وشارون وريجان الخاضع ورابين، أولئك هم الذين كانوا يتوجب علينا أن نوجه لهم كل مدافعنا، فنحن لا نزال في مرحلة تحرر وطني، وهم لا يزالون المستعمرين بلا جنود، ولكن بلقمة العيش وقطعة السلاح والدولار والسياح، استعمار من نوع جديد غريب لم يرد في الكتب ولن تجده في المراجع، وإنما هو ذا أمامنا في الحقيقة واضح وجلي وصريح ولا يحتاج إلا لذي نظر وبصر، ولكن أنظارنا مشغولة بالتفرقة بين الدجاج الأبيض والبني، وبين الأجور والارتفاع الجنوني في الأسعار، وأزمة السكن وأزمة المواصلات، وعمرنا، طوال عمرنا، نعاني من مشاكل الحياة، في طفولتي كنا نأكل اللحم مرة كل شهر، ومع هذا كنا نقاوم ونحارب ونتظاهر ضد الاستعمار والاحتلال غير محتجين أبدا بالفقر أو بالديون أو بالحاجة؛ فقد كانت روح مصر لا تزال حالة في جسدها ولا تزال تغذينا بموتور من الطاقة الروحية على المقاومة.
ولست أعني باستصراخي للمدارس والجامعات والنقابات أن أدعو إلى مظاهرات تجأر وتملأ الشوارع وتتيح الفرصة للمتربصين بها وبنا لكي يعيثوا فسادا في الأرض، إنما أدعو إلى مؤتمرات تعقد في المعاهد العلمية والنقابات لها كل الجلال والخطورة، تناقض وضع إخواننا الفلسطينيين الذين تتقطع لهم قلوب الناس في أمريكا نفسها وحتى في إسرائيل، مؤتمرات ليست موجهة ضد حكومتنا لكي تشتبك في صراع داخلي لا يفيد أحدا، وإنما بإشراك رجال حرب الحكومة أنفسهم في تلك المؤتمرات وبالاشتراك في تلك المعارك السياسية، حتما ستقل الفجوة، فجوة العداء إلى حد البطش من ناحية والاستنكار الصارم من ناحية أخرى، وبتقليل تلك الفجوة يمكن فعلا أن نتحدث بعد هذا عن حوار بين المعارضة والحكومة وعن حلول قومية حقا.
أما أن تتطوح مصر ال 52 مليونا ويحمل الفنان عادل إمام وحده ومن تلقاء نفسه ومعه مجموعة صغيرة جدا من الفنانين عبء التعبير عن غضبة شعب مصري يبصق في وجهه دم كل يوم من قبل أعدائه، ولا يصنع شيئا، فذلك هو ما جعلني أغرق في الضحك حتى البكاء.
قطعة من ضمير مصر الحي
من بين الخطابات الكثيرة، حين قرأت هذا الخطاب «طب» قلبي رعبا، أو فرحا أو شعورا غامضا لم أحس به من قبل، لا أعرف، أخذت الخطاب وطبقته بعناية ومعه الظرف، وإلى أن عدت إلى منزلي بعد ساعات طويلة كنت دائم الإحساس بوجود الخطاب في جيبي يتحول، من كلمات غريبة وكأنها رسوم الآراميين على معابدهم، إلى ما يشبه التعويذة، إلى شيء دافئ حميم وأنه قطعة من ضمير مصر تكورت داخل جيبي.
وقبل أي شيء آخر سأعرض لكم الخطاب، وكنت أفضل لو كنت طبعته بالزنكوغراف لتروا كيف كتب، لولا علمي أن كثيرين منكم لن يستطيعوا فهمه ربما لرداءة الخط أو اللغة أو حتى الهجاء؛ ولهذا آثرت أن أتعب نفسي في حل ألغازه، وأنشره، بنفس لغته.
الكاتب الحقاني يوسف إدريس
باكتب لحضرتك الجواب ده ومعلش أنا ابتدائية قديمة وبافهم كلامك في الجرنان لأنه سهل وحقاني، وعلشان كده اسمع حكيتي (حكايتي)، بيقولوا مين شاف منكر لازم يغيره بإيديه، ولو مقدرش بلسانه، ولو مقدرش بقلبه، وده أضعف الإيمان، مش كده؟ طيب، أنا ممرضة وعندي بنتين بيشتغلوا في الشركة المصرية ... (لا تؤاخذوني لم أذكر اسم الشركة لأني أخاف على صاحبة الخطاب من الانتقامات الجبانة) بنتين: ماجدة متجوزة ومبسوطة والتانية لسه مخطوبة، واحنا ناس على أد حالنا ورأس مالنا جمال البنات وشرفهم، وبعدين بنتي الصغيرة مرة جت تعيط وتقول بإن زميلتها اللي بتشتغل في قسم الهندسة وأن مهندس كهربا فضل يعاكسها وهي تصده لغاية ما ضحك عليها وهي متجوزة من مدة بسيطة، وأخدها يوصلها لبيتها لأنها سكرتيرة معاه وراح جنينة (...) وهناك هجم عليها، وصدفة شفهم البوليس وهي بتصرخ وبقت قضية، البنت اترفدت وطلقها جوزها، وهي كانت بتصرف على أمها لأنها يتيمة اتظلمت، أما اللي ضحك عليها فإدارة الشركة نقلته لحتة تانية في المخازن وبعدين جه مدير عام صاحبه قوي أول حاجة عملها أنه بالرشاوي والهدايا رجعه مدير زي ما كان، وعشان البنات بيشتغلوا بعقد 6 شهور بس يتجدد لو وافق مدير عام الهندسة، الاثنين يستغلوا الفرصة من غير ضمير مع البنات ضد الأصول والدين والقانون، وبعدين جه خطيب بنتي وهو مهندس كبير بالمراكب، وكان غلبان زي حالنا وبعدين لقيته بيجيب هدايا بهبالة وكتير قوي وبعدين اشترى عربية بلونور (بولونيز) قلت: منين الفلوس دي كلها؟ ضحك وقال: شيلنى وأشيلك، فقلت: يعنى ايه، مخدرات؟ ضحك وقال: لا أنا باشتغل في مراكب البحر الأحمر ومفتش هندسي (...) مريض بالفلوس، وكل حاجة النص بالنص وكل الهدايا لما بطلبها بيكون جايبنها، وكل الإصلاحات أو أي حاجة عايز أشتريها من بره وكله بثمنه. قلت له: مش فاهمة. قال: مدير عام الهندسة جاهز وبيوافق على اللعب ما دام شيلني وأشيلك. فقلت: بس ده مال حرام ده مال حرام والمراكب والناس اللي فيها ممكن يجرا لهم حاجة. ضحك وقال: هو حد حاسس أو شايف؟! ما هو المراكب بتتعطل وأدي مركب الطقم محبوس في ألمانيا علشان الحاجات لما ركبوها كانت خسرانة، والسرقات شغالة على ودنه، هو أنا بس؟! تعالي شوفي زمايلي عندهم عربات وفلوس وعمارات زي الرز، والبركة في المدير الجديد. وحضرتك يا دكتور هل يرضيك قلة الشرف والنصب ده وفين المباحث والوزير، أنا ح افك خطوبة بنتي لأن ده مال حرامي بس ما اقدرش أخليها تسيب الشغل لأنها بتصرف علينا وأبوها ميت، بس هي خايفة ليجبرها على الرذيلة أو يضحكوا عليها وتبقى فضيحة، أرجوك احمينا قبل ما تقع الفاس في الراس، السلام.
الحاجة أم هاشم
بلوك المساكن الشعبية (...)
إني آسف أني أخفيت عن عمد بعض التفاصيل والأسماء، ولكن الخطاب عندي وتحت تصرف السيد سليمان متولي وزير النقل والمواصلات.
ولكن حتى وزير النقل لن يستطيع حمايتك يا سيدتي؛ فالفساد قد استشرى في بعض القطاعات إلى درجة يعجز أي وزير بشري عن إيقافه.
بل وأنا أرفع هذه الكلمة إلى الرئيس محمد حسني مبارك لا أرفعها نيابة عنك وإنما أرفعها نيابة عن كل سكان البلوكات والعرب والقرى والشقق، عن كل الذين لم يدخلوا بعد في «اللعبة»، عن الذين لا يزالون يصرون أن يعيشوا بشرف وفي شرف، عن الخائفين على أولادهم وبناتهم من عصر قادم يأكل الناس فيه بعضهم بعضا ويتحولون إلى ذئاب بشرية لا ترحم أحدا.
نعم الفساد يا سيادة الرئيس موجود بشكل ويأتي في الإدارة الحكومية والقطاع العام وحتى الخاص، وهو فساد لست أنت صانعه، إنما بلاء حتى في ظل الثورة وحكم الرئيس جمال عبد الناصر؛ فلقد سمعته مرة في خطاب عام يقول: إنني حينما أضع ميزانية لمشروع أعرف أن 10٪ على الأقل منه ستذهب سمسرة وسرقات. ولقد روعتني هذه الكلمات حقا أن يصرح رئيس الجمهورية بأنه غير قادر على إيقاف السرقات، وأي رئيس جمهورية، وجاء عصر ما بعد عبد الناصر لتزيد ال 10٪ أضعافا مضاعفة.
ولكن قلب مصر الحقيقي يا سيادة الرئيس لا يزال سليما وضميرها لم يدخله الغش بعد، والحاجة أم هاشم ليست سوى قطعة مجهولة من ذلك الضمير الذي أعلم أنه موجود وأنه حي وأنه قادر. نعم إن الخير لا يزال في مصر أكثر بكثير من الشر، كل ما في الأمر أن الخير ضعيف جدا؛ لأنه خير الذين لا صوت لهم ولا مال، والشر عال مشهور؛ لأنه شر المزودين بالمال والمشترين للذمم. تصور يا سيادة الرئيس أن المرأة القادرة الحديدية لا تزال تحيا في مصر، وتذهب إلى أي سوبر ماركت وتشتري وينحني لها كل الموظفين، مع أنها مطلوب القبض عليها ومقدمة للمحاكمة وهاربة؟ إنها تستطيع وقادرة أن تشتري حريتها حتى لو حكم عليها بالسجن المؤبد لأنها تملك المليارات.
وفي خطبك يا سيادة الرئيس توجه نقدك اللاذع لصحف المعارضة، والمعارضة السياسية لبعض خطواتك، ولكني أرجوك يا سيادة الرئيس، ولو من أجل أولادك الذين سيحيون في هذه الذات المصرية، أن تري العين الحمراء مرة لهذا السرطان المستشري في الآلة الحاكمة المصرية، أن تتحرك أجهزة التفتيش والقبض والتقديم للمحاكمة، أن يعاقب كل مختلس أو تعاقب إدارة بنك أقرضت بغير مستندات، أن يحدث شيء، أي شيء، يوقف هذا الزحف الشيطاني الكاسح.
وإلى أن يحدث هذا، فيا سيدتي الحاجة أم هاشم حسنا ما فعلت بفسخ خطبة ابنتك، وثقي أنها لن تمس، بشعرة، ولو حدث، فسأحمل أنا بنفسي القضية إلى السيد وزير النقل وربما إلى النائب العام.
الخروج إلى الشمال
بلا سبب واضح أحسست أن روحي قد بلغت الحلقوم، ولا يتسرع القارئ ويتصور أنها حالة سببها الأحوال العامة التي تجتاح مصر هذه الأيام، فأنا أعرف أنها أحوال عارضة تماما، وأن سببها أيضا مثل السبب عندي يرجع إلى حالة من الزهقان الغريب، التي قد تدفع لأي تصرف، من إطلاق الرصاص، إلى إطلاق السباب ومن الحكومة والمعارضة على حد سواء.
وليست هذه الحالة وليدة اليوم أو هذا الأسبوع، بل إنها كانت تنتابني وأنا في طريقي للاجتماع الذي عقده الرئيس حسني مبارك مع الكتاب والإعلاميين، والحق أن الرئيس حسني مبارك فاجأني، كما لا بد فاجأ الحاضرين جميعا، فيومها صباحا أو فجرا، كان خبر إطلاق الرصاص على صديقنا العزيز مكرم محمد أحمد قد استفزنا جميعا، نحن الذين لا نملك سلاحا للدفاع أو الهجوم إلا أقلام حبر متواضعة. وكنت أتصور أن الاجتماع سيكون محوره هو هذا الحادث الفريد في تاريخ مصر، وأن الرئيس سيكون في روح معنوية مكتئبة لا بد. ولكن الرئيس بدأ كلامه معنا وهو في روح معنوية عالية لدرجة أني وجدت نفسي أول الأمر في حالة استغراب كامل، وقلت: ربما الرئيس يريد أن يزيح عن عيوننا ووعينا هذه السحابة الداكنة. ولكنه لم يكن يفعل هذا، كان فعلا يتحدث حديث مصري ابن بلد، يرى المشاكل في حجمها الطبيعي أو حتى حجمها المصغر حتى يحس أنه أكبر منها، ويرى المستقبل أكيدا وقادما، ومزدهرا ولا ريب فيه ولا شك. والحق أن حديثه هذا عدانا فما لبثنا أن أجلنا انفعالنا بما وقع وانخرطنا في نقاش حول مشاكل مصر الكبرى معه. ولقد تخيلت وأنا أستمع وأناقش أن هذا الرجل هو بالضبط ما تحتاجه مصر ليقودها في هذه الأيام، حمدا لله أنه ليس في عصبية هذا أو عدوانية ذاك، وأن باله طويل طويل، وأعرف أن هناك مثلا شعبيا يقول: طول العمر ينيل الأماني. ويبدو أن الأمر كذلك أيضا في مسألة طول البال، فربما طول البال هو الذي سيضع الجسر الذي تعبر عليه مصر من أزماتها، ولكني - وأنا لا أستطيع أن أمنع نفسي من هذه الصراحة - أحس أن طول بال الرئيس أطول كثيرا مما يجب أحيانا، على الأقل أطول من استطاعتنا نحن كشعب وككتاب على طول البال، وربما هذا هو الخلاف الوحيد بين بعضنا وبين الرئيس مبارك، خلاف «كمي» في طول البال، وأبدا ليس خلافا «كيفيا» على حل المشاكل.
أقول: وجدت نفسي في الأسبوع الماضي في تلك الحالة التي ذكرتها لكم عن «الزهق»، ب «الصدفة» المحضة كنت أقرأ مقالة صديقي الكبير الأستاذ خالد محمد خالد في الوفد، فوجدته يتحدث عن نفس الحالة من الزهق، وأنها ألجأته إلى التاريخ، وبالتحديد إلى قصيدة شوقي في رثاء أدهم باشا التركي، كانت تغريبة إذن، تغريبة تاريخية ليتخلص من حالة الزهق، ولكن لأن التاريخ يزيدني زهقا على زهق، فقد آثرت أن تكون تغريبتي جغرافية.
وهكذا ركبت العربة ومعي العائلة وانطلقت شمالا، ولم أذهب إلى الإسكندرية هذه المرة، اندفعت غربا إلى ما بعد الإسكندرية، كانت جغرافية مصر الشمالية تنتهي عندي حول العجمي والمكس والدخيلة، هذه المرة قلت لنفسي: سأظل أسير في هذا الطريق المزدوج الجميل إلى أبعد مدى ممكن أن أصله. وفعلا هو طريق مزدوج وجميل؛ فإلى سنين قليلة، ربما إلى العام الماضي فقط، كان طريقا من أسوأ الطرق في مصر ضيقا مكدسا بعربات النقل هائلة الضخامة والكارو والمارة والصيادين وفناطيس الغاز وكل ما يخطر على قلب بشر ... هذه المرة وجدت اتجاهين حديثين جدا، ربما انتهي منهما هذا العام فقط، وكنت أتصور أن مجلس إسكندرية المحلي هو الذي فعل هذا، لكن عرفت من الأستاذ عبد الله محمود رئيس مشروعات الشاطئ الشمالي أن وزارة الإسكان والمجتمعات الجديدة هي التي قامت بإنشاء هذا الطريق. والحق أني كنت أسمع كثيرا عن وزارة الإسكان والمجتمعات الجديدة، ولكن ربما لأني كنت أحيا في القاهرة المخنوقة المزدحمة كنت أحس أنها وزارة تكاد تكون وهمية أو نظرية على الأقل، ولكن حبي للسفر جعلني أبدأ أرى آثار تلك الوزارة وذلك الوزير النشيط المهندس حسب الله الكفراوي من مدينة 6 أكتوبر إلى العاشر من رمضان إلى السلام إلى الصالحية إلى المشروعات الجديدة، في تلك التي وجدت محافظا عسكري القدرة على التخيل والتنفيذ اللواء يوسف عفيفي بمشروعاته السياحية في منطقة البحر الأحمر، ناهيك عن المشروعات في محافظتي شمال وجنوب سيناء، هذه كلها جعلتني أعتقد أننا انكفأنا على مدننا القديمة ومشاكلها بطريقة جعلتنا لا نكاد نرى العمران الذي يحدث في أماكن من مصر لم نلتفت لها قبلا وكأننا لا نعتبرها جزءا من مصر أو أنها ملكنا.
هذا الساحل الشمالي مثلا صحيح أن الأجانب والدبلوماسيين هم الذين اكتشفوا فكرة مصيف العجمي، حيث يستطيع الإنسان أن يتحرر تماما من ملابس المدن ونفاق المدن ويترك نفسه للشمس والبحر والهواء الجميل والطبيعة وسواحل هي أجمل - أجمل شواطئ العالم - وقد زرتها كلها من ميامي بيتش إلى بلاجات تايلاند، وكابري ونيس ... هذا النوع من الرمال، هذا الانحدار التدريجي نحو الماء، هذا اللون الأزرق الفستقي لمياه البحر، هذا كله لا يمكن أن نجده إلا في شواطئ البحر الأبيض الجنوبية وأجملها جميعا الشواطئ المصرية من مرسى مطروح إلى أن تبدأ ضواحي الإسكندرية ... ومن المضحك هنا أن نذكر أن شاطئا رائعا كشاطئ مرسى مطروح لم نكتشفه إلا عن طريق السينما وعن طريق فيلم ليلى مراد الشهير شاطئ الغرام، ولولا هذا الفيلم، ولولا السينما، والآن لولا التليفزيون لما زادت معلوماتنا عن بلادنا عما كنا قد قرأناه عنها في كتب الجغرافيا.
المهم بدأت الرحلة زهقان كما قلت ويا للأثر الساحر للطبيعة في تغيير معنويات الإنسان ومزاجه، كان أحد أسباب زهقي لا بد هو ضيق الفتحة التي نرى منها حاضر مصر ومستقبلها وواقعها ... ونحن نرى هذا كله من خلال وسائل إعلامنا، ولأن تلك الوسائل قد ضاقت نظرتها هي الأخرى حتى ليكاد الإنسان يحفظ ماذا ستحتويه كل صفحة من صفحات الجريدة، وماذا سيكون عليه البرنامج في كل ليلة وفي كل قناة من قنوات التليفزيون، حتى برنامج «خمسة سياحة» رغم جمال فكرته وتنفيذه وتقديمه، إلا أن هذا البرنامج لا يجعلني «أعيش» المنطقة التي يتحدث عنها، وأشمها وأفتح صدري لهوائها وتاريخها وأستنشقه، لماذا يكون «خمسة» أي خمس دقائق كل يوم لا تكفي حتى ليتعرف الإنسان على كنه المكان؟ لماذا لا يكون برنامجا أسبوعيا معدا إعدادا جميلا وحافلا بالمعلومات وبالإخراج المتقن للطبيعة وللناس وللآثار إن وجدت. هذا الساحل الشمالي، بودي لو كان معي كاميرا فيديو لأصنع للناس شريطا كاملا لل «خروج»، الخروج من الوادي الضيق والمدن المكدسة والأحياء الشعبية المعلبة بسردية البشر، هؤلاء الناس جميعا لو رأوا بلادهم على حقيقتها أو على اتساعها، لو رأوا كم تمتد شواطئها كم ونوع الحياة الكامنة في صحرائها، لو رأوا مشروعات الوزارة في واحة سيوه مثلا، هل عندنا فيلم تسجيلي كامل لكل واحة من واحاتنا؟ فيلم «فتي» يقوم به مخرج كبير كصلاح أبو سيف أو علي بدرخان أو علي عبد الخالق أو العظيم يوسف شاهين ...؟
أجل، الخروج ليس من الأزمة ولكن من الوادي الضيق للأزمة، ذلك الذي طالما نحن محشورون فيه فإننا أبدا لا يمكن أن نرى الحل من خلال نظرتنا التي ضاقت به وضاق بها.
لقد رحت أحلم والعربة تنساب فوق الطريق الطويل، لا أحلم فقط بمستقبل القرى السياحية من مارابيللا إلى مارينا، لماذا هذه الأسماء الإيطالية؟ إلى مدينة وزارة الخارجية إلى المشاريع الخاصة - بالمناسبة هناك مدينة سياحية للصحفيين موجودة في مكان ما على الشاطئ الشمالي وحصلوا من كل منا ألف جنيه وزيادة كوبون، ولا يوجد لها من أثر لا في الحقيقة ولا في الخريطة - أقول: رحت أحلم بشيء كالذي صنعته اليونان بشواطئها الصخرية الناتئة؛ فلقد عقدت اليونان صفقات رابحة مع شركات عالمية لإنشاء سلسلة من أجمل الفنادق والمنتجعات على جزرها المتعددة، وإيراد اليونان من هذه المشروعات هائل الضخامة؛ فقد كنت في جزيرة صغيرة من جزر اليونان اسمها «كورفو» وعددت 85 رحلة طيران في الليلة الواحدة منها وإليها، وشواطئ هذه الجزيرة «مصنوعة»، أي إن الرمال منقولة لها من قاع البحر؛ فما بالك برمالنا وشمسنا ومياهنا الفستقية الطبيعية؟!
إني أرجو أن يكون مشروعا أساسيا من مشروعات مصر للمستقبل العاجل والقريب، أن ترصد ما لا يقل عن المليار جنيه لمشروعات الساحل الشمالي لتزويده بشبكة أدق من الطرق والكهرباء والمياه والمطارات، وإني متأكد من أن هذا المليار الواحد يستطيع على مدى السنوات العشر القادمة أن يسدد عشرين مليارا من ديون مصر الخارجية وأن يحيي «بلدا» كاملا من جغرافية مصر المهملة اسمه الساحل الشمالي ... شكرا لهذا الوزير الذي أنشأ ميناء دمياط وأحيا الساحل الشمالي وعمل المثير في صمت ودون إعلانات مدفوعة الأجر أو غير مدفوعة، ولا أشكره فقط على هذه الأعمال الكبيرة، ولكني أريد أن أشكره لسبب شخصي ذاتي محض؛ فقد خرجت من القاهرة متجها شمالا وروحي قد بلغت الحلقوم وعدت إليها وقد ردت إلي الروح رغم أني لم أمكث في الرحلة كلها أكثر من أربع وعشرين ساعة.
برقية طويلة لمدحت عاصم
أستاذي وصديقي ومعلمي في الوطنية والفنية والتقدمية مدحت عاصم ... نعم كما قلت لقد كان شرفا أن ألقاك طالب طب يخجل من خياله، وأنت الموسيقار المشهور ملء السمع والبصر، وأخذت أستمع لك في منزلك في العباسية وأنت تعزف سوناتا ضوء القمر لبيتهوفن ثم قطعة موسيقية لك، وكنت أول مرة أستمع فيها إلى موسيقار كبير مصري يعزف على البيانو، من يومها وتلك العلاقة الفنية الوثيقة التي بنيت على أسس وطنية وثورية وألفة شخصية تثري حياتي وتجعلني كلما رأيتك أرى أن مصر لا تزال بخير.
قرأت كل ما كتبته ردا على «نقدي» للتليفزيون، واعتبارك أن ما قلته كان تحاملا مني على برامجه وعلى الجهود الكبيرة التي يبذلها الكثير من أبنائه مع رئيسته ومسئولي قنواته.
وأذكر لك أيها الصديق العزيز أني أستطيع أن أزعم - في هذه النقطة بالذات - أني أكثر منك اتصالا بالعمل اليومي في التليفزيون، وما يتطلبه من جهود خارقة ويقظة وانتباه لنملة الخطأ إذا حدثت.
ولكنك ظلمتني وأعتقد أنك ظلمت التليفزيون أيضا؛ فأنا لم أكتب ل «أنقد» برامج التليفزيون، صحيح أني قلت إن معظمها «هلس» وكنت أعني بالهلس هنا اللعب على تسلية الجمهور ونفاق طلباته من مسرحيات معادة وكوميديات لا تضحك إلا الأبله أو المتخلف عقليا، وآخرها مسرحيات عبقري العباقرة محمد نجم، ذلك الذي ظللت - والله - أتفرج لمدة نصف ساعة عليه وهو يحاول استدرار الضحك من جمهور غلبان مسكين فرض عليه فرضا، وأنا مذهول كيف يمكن أن يسمح التليفزيون بعرض هذا التخلف على الناس؟! وأيضا أنا هنا لا أنقد، فهكذا هي الحركة المسرحية للقطاع الخاص، وهذا هو المسرح في نظر البعض.
إني إنما كنت في الواقع أتحدث عن التليفزيون ك «جهاز» أصبح دوره في كل أنحاء العالم هو الارتفاع بمستوى تفكير وذوق وأحلام الإنسان العادي؛ فزمان كانت الثقافة لا توجد إلا في الكتب وكانت هي التي ترفع الذوق والمعرفة والذكاء، ثم انتقل هذا الدور إلى الصحف ثم الإذاعة، وأخيرا هذا الوحش الإعلامي الثقافي العلمي الترفيهي التليفزيون.
وإذا كان التليفزيون كوسيلة تعليم وإعلام مهما جدا في بلاد العالم الأول فهو قد أصبح بالنسبة للعالم الثالث الذي نحن منه مسألة حياة أو موت، بمعنى أدق مسألة حياة روح هذه الشعوب أو قتلها واستعمارها ثقافيا وفكريا وحضاريا.
ولهذا كنت حريصا في كلمتي عن التليفزيون على القول إني لا أنقد برامج هذه الأيام ولا دور التليفزيون هذه الأيام، وإنما أنا أذكر دوره منذ إنشائه وقيامه وإلى الآن، وهو دور كان ولا يزال إلى حد كبير يمثل دور «البلياتشو» الذي يزغزغ الناس ويرفه عنهم ويضحكهم، وكنت أريده إلى جانب هذا أن يقوم بدور المعلم، المعلم لا بالتلقين وإنما بالإمتاع ودور المثقف ليس فقط ببرامج الأستاذ فاروق شوشة المتخصصة الشيقة، وإنما ببرامج كلها ثقافة ولكنها لا تخيف الناس بقولها إنها برامج ثقافية، وإذا أردت أن تعرف ما أعني بالضبط فإني أرجو من التليفزيون - إن استطاع - أن يسجل يوما بأكمله من إرسال التليفزيون البريطاني، أو حتى الهندي، وأن يذيعه علينا مترجما لنرى الفارق.
نعم، إن التليفزيون هو أخطر وسيلة اكتشفتها البشرية إلى الآن في صناعة وصياغة الرأي العام وحتى المواطن الخاص، والتعامل مع هذا الجهاز يجب أن يتم من منطلق الإدراك التام لخطورته الشديدة، فنحن مثلا لو كنا قد عملنا تحقيقا تليفزيونيا صريحا عن حالات الغش الجماعي ومع الأساتذة الذين طعنوا بالمطاوي، ومع الطلبة، لاجتثثنا هذا المرض بأكمله دون أن نذكر نصيحة واحدة؛ إذ هكذا يستعمل التليفزيون في المجتمعات الأكثر ذكاء في استعمال التليفزيون والمدركة لخطورته وأهميته، والتي تستخدمه كوسيلة عظمى للترقي والتمدن والتحضر؛ ولهذا كنت أنقده منذ إنشائه.
ولأني وجدته لم يصنع شيئا طوال أكثر من خمسة وعشرين عاما إلا أنه رفه عنا قليلا، وفي المقابل فرض علينا فكرا متخلفا وخرافات وديماجوجية، أرأيت إلى هذا العالم الذي قال منذ أسبوع مضى: إذا رأيت حلما سيئا فابصق ثلاث مرات إلى اليسار حين تصحو من النوم، وإذا رأيت حلما حسنا فابصق ثلاث مرات إلى اليمين لدى صحوك من النوم؟! أي ثقافة تلك بربك؟ أي مفهومات للحياة يرسيها هذا الجهاز؟ أي كارثة يتعلمها الطفل والمراهق والشاب الذي يأخذ ما يشاهده في التليفزيون على أنه قول لا يناقش ولا يمكن أن يشك في صحته؟
ولهذا أيضا فنحن أمام هذا الجهاز بعد ربع قرن من إنشائه في حاجة إلى وقفة لا بد تنتهي بعد نقاشنا حولها إلى وضع سياسة إعلامية تليفزيونية ثابتة، يكون الهدف منها أن نرتفع بمستوى الشعب ثقافيا وصحيا وعلميا وتعليميا خلال السنوات الخمس القادمة بمقدار لا يقل عن 50 في المائة زيادة على مستوانا الآن.
أيها الصديق العزيز ألا زلت تختلف معي وتقول إن قلمي قد «شط»؟
إننا نختنق ... نختنق
الساعة الثالثة بعد الظهر، نقطة التلاقي بين شارع الجلاء الذي توجد به الأهرام وبين شارع 26 يوليو نقطة عبثية تماما، وكأنها منتزعة من فيلم تسجيلي عن يوم القيامة:
يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه ، أو بالمعنى المعاصر يوم يفر راكب الدراجة من راكب الموتوسيكل من السائر هائما على وجهه من ديناصورات النقل الكبيرة و«التريللات» الساحبة وراءها مركبة لا تقل عنها ضخامة من عربات السوزوكي والتويوتا ورمسيس وعربات الأوتوبيس والعربات الخاصة، وأبدا لا يتوقف المرور في الاتجاهين معا، والشاطر هو الذي «يدخل» على الثاني، وقيادة السيارات بالدراع وبأعلى «سارينة» وبالخبط في الجنب أو في الاكصدامات، ويا ويل العابر على قدميه أو راكب الدراجة؛ فحياته ممكن لو لم يستعمل كل بهلوانيته وسرعته، لو كان مريضا أو كبير السن، لو كانت سيدة بدينة، ممكن أن ترتفع إلى بارئها في لحظة، والغريب أنه لم تقع حادثة دموية واحدة في هذا التقاطع طوال السنوات العشر التي أستعمله فيها عائدا إلى منزلي، وليس هذا بالطبع لحسن إدارة عسكري المرور المسكين القادم لتوه من التجنيد الإجباري، وإنما لأننا نحن القاهريين قد علمتنا سنوات التدفق السكاني والازدحام غير البشري أنماطا كثيرة للسلوك البهلواني والاتكالية والضرب عرض الحائط بمخاطر عبور الشوارع والميادين، ناهيك عن القدرة على النفاذ بين عربتي نقل مخيفتين أو عربتي أوتوبيس تكادان تتلاصقان بحمولتيهما البشرية الضخمة، المهم أني لا أكتب هذا انتقادا لحركة المرور في هذا التقاطع؛ فقد كان مفروضا أن تحل من زمن كبير، وكان مفروضا أن يكون أول نفق تحت الأرض ينشأ في مصر أن ينشأ في ميدان الإسعاف ويشمل بالتالي تقاطع الجلاء مع 26 يوليو؛ فتلك المساحة، أو اللامساحة، هي أكثف حركة مرور في القاهرة كلها.
ولكن بما أن القاهرة الجديدة كلها قد نشأت عشوائية بلا أي استعانة بعلم تخطيط المدن، وهو من أهلم العلوم الهندسية وموجود في كلياتنا، ولكن كل خريجيه بلا استثناء يهاجرون إلى البلاد التي تخطط مدنها فعلا، لدرجة أني قابلت مرة ثلاثة مهندسين حاملين للدكتوراه في تخطيط المدن يعملون في مدينة بوسطن الأمريكية، واحدة من أجمل مدن العالم تخطيطا! بينما قاهرتهم في مجاعة شديدة لهذا النوع من المهندسين، ولكن شئوننا البلدية والقروية لم تكن تحفل بالتخطيط، وحين انتقل الأمر إلى محافظة القاهرة وإلى رؤساء الأحياء فسدت الأمور أكثر وأكثر، ولولا أن قيض الله أخيرا للقاهرة محافظا واسع الأفق والتفكير، عارفا وقادرا على عمله بلا أي كلل أو تقاعس هو اللواء يوسف صبري أبو طالب، وبدأ يذيقنا بلمساته معنى أن تكون المدينة مخططة، وأن يكون لكل حي حديقته، ولم يبق إلا أن يعود لكل شارع أرصفته ولكل عمارة أمكنة انتظارها.
أقول لا أكتب هذا انتقادا لحركة المرور في تقاطع الجلاء-26 يوليو، ولكني أكتبه للمنظر الذي رأيته وشممته واختنقت به، ولا أزال أفعل كل يوم الساعة الثالثة كما سبق وقلت، وحركة المرور على أشدها، موظفون عائدون راكبين وراجلين وأوتوبيسات سردينية المحتوى هرقلية الحجم والجثير وعربات نقل ... إلى آخره. كنت واقفا في إشارة المرور، احتراما للإشارة التي لا يريد أحد أن يحترمها، أحاول أن أرى من خلال زجاج السيارة إن كانت الإشارة فتحت أم لا تزال حمراء، وفجأة تبينت أن هناك ما يشبه العاصفة الرملية أو الترابية بالكاد أستطيع أن أرى من خلالها، وفتحت زجاج السيارة لأرى المنظر على حقيقته، وكم روعني ما رأيت، فلا يوجد ماسورة عادم لعربة أوتوبيس أو نقل أو ميكروباص أو تاكسي قديم إلا وهي تنفث نافورة أفقية من الدخان نتيجة اختلاط كيروسينها بزيتها أو بديزلها، دخان دخان دخان، لا يملأ الجو فقط، ولكنه يخنق التنفس، ويثير مع التراب الكثير الذي يحفل به الشارع سحبا متجمعة متضاربة منتشرة إلى الجوانب وإلى أعلى واصلة إلى كل حلق وفتحة عين.
يا إلهي، لكأنني في قاعة فرن فلاحي قد سدت منافذها وأغلق بابها، وقد امتلأت بدخان الحطب المندي.
ربما الذي دفعني للإحساس بذلك المشهد المهول الذي لا يمكن أن يحتمله أحد هو أنني كنت عائدا لتوي، ليس من لندن أو باريس، وإنما من قلب أفريقيا، كينيا، وتنزانيا، والصومال، وأفريقيا بلاد أفقر منا بكثير، ومعظم شوارع ممباسا أو دار السلام ليست مرصوفة وإنما هي مسواة على حالها الترابي، ولكن ليس هناك تلوث بمثل هذه الكثافة الخانقة. أذكر أني كنت في نيروبي، وكنت في طريقي لاتحاد الكتاب الكينيين وكنت أستقل عربة تاكسي، وكان سائقي اسمه إيليا، وكان مسلما، ولما سألته عن هذه المعادلة الغريبة، قال لي: في عهد الاستعمار لم يكن يسمح بدخول المدارس إلا للمسيحيين فقط؛ ولهذا كان كثير من المسلمين يسمون أولادهم بأسماء مسيحية، كاثوليكية في الغالب، ليمكنهم دخول المدارس، وأنه بعد جلاء الاستعمار بدأت كثرة من تلك العائلات في العودة إلى تسمية أبنائها بأسماء إسلامية.
لا أريد أن أطيل، فأثناء دردشتي مع السائق بدأت العصبية وكثير من الغضب يحفل بهما صوته، ثم نطقها وقال: هذا السائق الملعون، ونظرت فرأيت أمامنا سائق عربة نقل، وكانت العربة هي الوحيدة التي «يفوت» موتورها وينفث دخانا نتيجة اختلاط الزيت بالبنزين داخل المحرك، تلفت حولي فإذا بنا نسير داخل غابة خضراء يانعة يقطعها هذا الطريق الرفيع، والغابة كما نعرف تولد الأكسجين، ومعظم كينيا وشرق أفريقيا غابات خضراء شاسعة، ومع هذا، ونظرا لاحتمال زحف التصحر، من الصحراء، مع سنوات الجفاف الطويلة، فقد بدأت كينيا منذ ثلاث سنوات مشروعا اسمه مشروع الشجرة؛ إذ يزرعون كل يوم مائة شجرة جديدة، داخل بلاد تحفل بغابات وغابات من الأشجار، كل هذا خوفا على البلاد والمدن من تلوث الهواء.
وصل الغضب بإيليا أقصاه، وبدأ محاولات خطرة مستميتة لكي «يعدي» عربة النقل التي تنفث دخان الزيت وهو يصرخ: تلوث ... تلوث ...
هذا السائق البسيط يرعبه هذا التلوث، ويعرف معناه بالإنجليزية في بلاد لا تكاد تحفل بأية آثار للتلوث؟! المضحك أني عرفت من سفيرنا في كينيا الصديق محمود عثمان أن في كينيا بعثة لدراسة البيئة والتلوث يرأسها الدكتور مصطفى، واحد من أعظم خبراء البيئة والتلوث في العالم، وموفد هو والبعثة لدراسة التلوث في حديقة أفريقيا، كينيا.
أليس هذا ظلما يا إلهي ما بعده ظلم؟ يعني ننتج نحن الشعب المصري أكبر خبراء العالم في التلوث، وتحفل قاهرتنا الحبيبة بأعلى نسبة للتلوث في العالم إلى درجة أنها وصلت في بعض الأحياء، وبالطبع لا بد أنها كذلك في تقاطع 26 يوليو مع الجلاء، وصلت إلى درجة ألف في المائة من الحد الأعلى للتسمم التلوثي.
كل هذا ونحن نتنفس التلوث ونبتلع الذرات الخانقة، وتمتلئ رئتنا بعادم النقل والأتوبيس، والمرور لا يفتش أبدا على العادم، يكفيه البوية ورقم الشاسيه والموتور، ويتم الكشف على المركبة، بينما العادم يترك ليضخ في شوارعنا وصدورنا ملايين الأمتار المكعبة من الزيت العادم، ناهيك عن التراب وبقية ما تثيره الرياح من قاذورات، كل هذا وثمة مؤتمر للبيئة، مؤتمر عظيم مهول أسفت تماما أنني لم أتابعه بنفسي شخصيا، انعقد خلال بضعة الأسابيع الماضية لدراسة التلوث البيئي في مصر، وتلوث مياه النيل، والتلوث الصوتي الناتج عن استعمال الميكروفونات وبقية الضجات الصادرة من الشارع المصري بطريقة لا يمكن أن تحتملها أي أذن بشرية، وإذا احتملتها فلا بد أن تصيب العقل الذي يسمعها بالصمم أحيانا، وبارتباك الوظائف وبالانعدام التام للقدرة على التركيز أو إنجاز النشاطات العقلية الواجب القيام بها.
لهذا أنت ترى المواطن في شارع القاهرة ثائرا يلهث من قلة الأوكسجين، تائه الوجهة والتركيز من ضجة الأصوات والميكروفونات، سريعا ما يصيبه الكلل والتعب، نافد الصبر، بطيء الحركة، مصابا بما أسميته «التولة» غالبا ما ينتهي أمره إلى كلفتة عمله، أو الانهيار جلوسا على قهوة، أو أمام مكتب وارم القلب والعقل يلهث بلا تعب ويعرق بلا أي مجهود، ويقصر عمره ويزداد وزنه من قلة الحركة والنشاط؛ فهو يعيش في جهنم مليئة بالتلوث، والدخان، والغبار، والضجة الخرافية تحاصره ولا حفنة من هواء نقي، أو هدوء، يستطيع معها أن يلتقط أنفاسه أو أنفاس عقله، ويعود كائنا بشريا يصلح بما يصلح له أي كائن بشري في أي مكان آخر من العالم.
لقد أصبحت الحياة في قاهرتنا الحبيبة مع كل ما تحفل به من تلوث في الجو وفي الماء وفي الأصوات، أصبحت معجزة العالم الثامنة لا بد، فإني لأكتب هذا وأتساءل: كيف بالله ما زلنا نحيا؟
وأعقبه بتساؤل آخر موجه إلى حكومتنا: كيف تحكمين الناس والبلاد وهي تحفل بهذا الكم من التلوث؟
لماذا الطب مقدس؟
حسن جدا بادرت بفعله نقابة أطباء القاهرة والنقابة العامة للأطباء من إحالة الدكتور أحمد شفيق إلى مجلس تأديب لخروجه على المادة الثامنة من آداب مزاولة مهنة الطب؛ ذلك أن مهنة الطب لها وضعها الخاص بين مختلف المهن التي يزاولها الإنسان؛ فالطبيب ليس مجرد مهني آخر يزاول مهنة أخرى كالهندسة أو التدريس، الطبيب مهنته صيانة روح وجسد الإنسان، وأنت حين تذهب للطبيب تسلم نفسك تماما له، بحيث تؤمن تماما بما يقول، وتستسلم لمبضعه إذا شاء أن يجري لك عملية جراحية، ممكن في أثنائها أن يصنع بجسدك ما يشاء. كذلك إذا ذهبت إلى طبيب نفسي، أنت تدلي له بكل الأسرار التي لا تستطيع أن تدلي بها لأخيك أو لصديقك أو إلى أعز الناس وأقربهم منك؛ إذ أنت تعتبره الأمين أمانة عظمى على كل هذه الأسرار؛ ولذلك فكل المهن من قديم الزمان كان ممكنا أن تزاولها بمجرد الحصول على مؤهلاتها ما عدا الطب، فلا بد أن يقسم قسم أبو قراط أبو الطب في مزاولة عمله بمنتهى الأمانة والمسئولية والصدق والمحافظة على مريضه والعمل بكل ما يملك على شفائه. قسم أبو قراط هذا شيء رمزي محض يرمز إلى جعل الطبيب الشاب يحس بأهمية وخطورة المهنة التي سيبدأ في مزاولتها، بل يحس تجاهها بنوع من القداسة والتبجيل. وأذكر ونحن في المدارس الابتدائية أنه كان مقررا علينا في كتاب المحفوظات قطعة تتحدث عن الطبيب ما زلت أذكر إلى الآن منها هذه الفقرات: رعاك الله يا رسول الرحمة، ومنقذ المرضى، وملجأ الملهوف؛ إن يدك التي تطيب المريض ليست كأيدينا، ومشرطك الذي يعالجه ليس مبضعا، وإنما هو إصبع ملاك حارس يجتث العلة ... إلخ.
من أجل هذا تحاط مهنة مزاولة الطب بكل الاحتياطات التي تمنع بعض الأطباء الشاذين - وليس كل الناس أسوياء - من استغلال جهل المريض أو عدم إدراكه حقيقة مرضه أو «النصب» عليه أو الاحتيال أو إساءة استعمال أسراره. وأذكر في هذا القبيل أحد «الزملاء» الأطباء، زمان، كان يعمل في قرية وكانت لديه ثلاجة تضيء إذا فتح بابها كالعادة، فكان يقول للمريض: تعال أعملك إشاعة. ويوقفه أمام الثلاجة فتضيء ثم يغلقه ويقول للمريض: خلاص، عملنا الإشاعة. ويتقاضى منه خمسة جنيهات إضافية مقابل تلك الإشاعة. وكثيرة هي أمثلة النصب والاحتيال، ولكن المهنة في مجموعها والأطباء في مجموعهم، وحسب خبرتي حتى كمريض، أناس يحتلون أعلى المقامات بالذمة والأمانة والانضباط.
ولهذا يحاط أيضا، استعمال أي عقار جديد، بضمانات شديدة الدقة خاضعة تماما للأصول العلمية؛ حتى لا تنقلب المسألة إلى فوضى ويصبح أي طبيب حرا في أن يجرب على مرضاه كل ما يخطر على باله من أدوية يخترعها أو يدعي أنها جديدة. لا بد من إقرار أي دواء جديد بواسطة الجهات العلمية المختصة، ثم بعد هذا ترخص وزارة الصحة باستعماله ويعطى رقم ترخيص، وأي طبيب يستعمل عقارات أو كيماويات غير مرخص باستعمالها عقوبته السجن، وليس مجرد الإنذار أو التأديب.
أما أن يؤدي هذا إلى تثبيط همم الأطباء الذين يريدون أن يخترعوا أو يبتكروا فهذا قول ساذج تماما وغير صحيح بالمرة؛ فباب الاجتهاد والاختراع مفتوح على مصراعيه، ولكن، ومهم جدا كلمة ولكن هذه، هناك ضوابط علمية دقيقة موضوعة كلها لمصلحة المريض. إذن على الطبيب الذي يكتشف أو يخترع أن يتقدم إلى الجهة العلمية المختصة باكتشافه، ويطلب الإذن بالتجريب على الحيوانات، ومئات الجداول، ومتطلبات أخرى كثيرة تتأكد الجهة العلمية من فاعلية الدواء ومن تركيبه الكيمياوي ومن أضراره الجانبية أو عدم وجودها، ومن تعارضه مع أدوية أخرى أو عدم تعارضه. بعد هذا تأذن الجهة العلمية بالترخيص للطبيب باستعمال الدواء الجديد على المرضى - وأيضا تحت إشراف علمي دقيق - حتى إذا نجحت التجارب على المرضى يعتمد الدواء، ويسمح بالنشر عنه في مؤتمرات الطب والدوريات العلمية ويصرح لمعامل الأدوية بتصنيعه حينذاك فقط.
أما أن تواجه وسائل الإعلام، من خلف كل الجهات العلمية، بدواء جديد، فلو حدث ذلك في أي بلد في العالم لشطب اسم الطبيب من قائمة المزاولين لمهنة الطب وقدم للمحاكمة فورا؛ فالمسائل ليست فوضى أبدا، بل إن هناك في إنجلترا قواعد دقيقة لكتابة اللافتة التي تحمل اسم الطبيب بحيث لا يزيد عن العشرة سنتيمترات بأي حال، بل إن هناك مادة في قانون مزاولة المهنة في إنجلترا تمنع الجرائد والمجلات من نشر أي شكر للطبيب المعالج على صفحاتها، فإذا حدث وقبل الطبيب أن ينشر شكره فإن اسمه يشطب فورا من النقابة أو بتعبير الإنجليز أنفسهم «أي يكشط كشطا» من قائمة الأطباء.
فما بالك بعقد المؤتمرات والظهور والسهرات في الإذاعة والتليفزيونات؟! إن عودة نقابة الأطباء إلى إحكام قبضتها على أخلاقيات مزاولة مهنة الطب في ظل الفوضى الأخلاقية والذممية التي تحيا فيها، لعمل عظيم وجاد وآن أوانه بعدما كاد أن يفلت الذمام.
خطاب من راكبة أتوبيس
سلامي تحياتي
رجاء أن أحيط سيادتكم علما بالآتي: نحن صنف المرأة نعاني الأمرين في المواصلات - الزحام شديد جدا والاختلاط فيه لا يليق مطلقا، يعلم الله المواصلات بالنسبة لنا رعب - وركوب الأتوبيس بالنسبة لي أنا بالذات جهنم الحمراء. كتبت لحضرتك بالذات لأنك تستطيع أن تقدر مدى الإهانة النفسية والألم لمجرد اتخاذ الاحتياط والدفاع عن النفس.
في اعتقادي هذه الجريمة تعتبر زنى واغتيالا لشرفي وديني وجنسي، يعز علي أننا في بلد بكل هذه الحضارة والتقدم والعلم والدين ولا يفكر فينا مسئول أو مسئولة؛ لأن حضراتكم طبعا بعيدون جدا عن هذا.
يعز علي أنكم تفكرون في بنات غزة اللاتي يرشقن بسهام في ظهورهن ونحن هنا نرشق بأمر من السهام، من كل جهة يوجد مجرم لعين - آسفة - ويستوي في ذلك الكبير والعجوز والطفل سنة فأكثر، المتعلم والجاهل، النظيف والوجيه والقذر، وكل طبقات الشعب بلا استثناء.
صورة لا تليق بمصر ولا توصف بكلمات أو عبارات.
لذلك أرجو أن تتكرم سيادتك وتتخذ الإجراءات مع كل من يهمه الأمر، فتفصل بيننا وبينهم في المواصلات بكل الطرق، أي أن تخصص أتوبيسات للنساء، فقط هذه الأتوبيسات تسري عليها أبونيهات الطالبات والموظفات، أي للفئات التي لا تستطيع استعمال الميكروباص؛ إذ إنه يكلفنا جنيها أو أكثر في اليوم، واسمح لي أن أقدم لك وللمسئولين اقتراحا: لقد قرأت أن هناك ثلاثمائة أتوبيس جديد نازلة تغذي الخطوط من أول مارس إن شاء الله بمعدل 60 أتوبيسا كل شهر.
فهل من الممكن تخصيص 60 أتوبيسا فقط للنساء، تعمل بالذات على خطوط ميدان رمسيس-جيزة، شبرا-روكسي، ميدان التحرير-الجيزة، شبرا-العتبة؟
ولخدمة وسط البلد المزدحم حيث الإشارات كثيرة، والفرامل كثيرة وكل فرملة من السائق الأرعن تحدث الالتصاق الهمجي الذي نتألم له كثيرا. لو جلست كل ست لانحلت المسألة، ولكن حتى هذا الجلوس لا يكفي؛ لأنه في النزول والطلوع والسير داخل كتلة الرجال أشياء لا تليق.
صدقني إنني أنزل من الأتوبيس ومن كثرة الفرامل والرج والاحتكاك أجد مفاصلي مخلعة وجسدي أشلاء وكرامتي تنزف حتى إني أحيانا أبكي.
رجائي أن ينظر في أمرنا كلنا من أجل حفظ كرامة المرأة المصرية.
ولسيادتكم جزيل الشكر مع رجاء عذري للأخطاء النحوية واللغوية فأنا آسفة، أنا مرهقة وأعصابي متعبة.
مقدمته
سعاد فهيم منصور
مهندسة زراعية
15 شارع الشبيني بالعباسية
السن 51 سنة
والكاتب ناشر هذا الخطاب يتقدم إلى رئيس هيئة النقل العام وأساسا إلى الوزير الحاسم المهندس سليمان متولي بهذه الشكوى وبهذا الاقتراح الذي أؤيده من كل قلبي.
فلنكتشف أنفسنا
ربما نحن لا نزال بعد لا ندرك قيمة حضارتنا في نظر العالم.
أي انبهار كان يحدث للشخص حين ألقاه وأقدم إليه نفسي ويعرف أني مصري عربي فيعود يشد على يدي ويقول: إني سعيد جدا أن أقابل ممثلا لأعرق وأول حضارة على سطح الأرض.
ولقد سألت عالما هنديا عما يعنيه بالضبط بتلك العبارة، فقال: ليست حضارتكم حضارة ومعمار ولغة وعلوم فقط، ولكنها الحضارة التي أحدثت في العالم القديم ثورة حضارية لا تقل عن الثورة التي أحدثتها الصناعة واكتشاف البخار والكهرباء والذرة والتكنولوجيا في عصرنا الحاضر.
أنتم اكتشفتم الزراعة، اكتشفتم أن باستطاعة الإنسان أن يتحكم في المملكة النباتية والحيوانية بحيث كفت عن النمو التلقائي الذي لا ضابط له، فأصبحت تزرع المساحات الشاسعة من الأرض بإرادة الإنسان وبالتحكم في البذور والمياه واختراع أدوات للري والزراعة ...
كنتم أول من تحكم في الطبيعة وسخرها في خدمة الإنسان، ومن هنا لم تكن حضارتكم هي الأولى فقط، ولكنها بداية تحكم الإنسان في الجماد والحيوان؛ مما كان لا بد أن يؤدي تلقائيا إلى اختراع الآلة وتطور العقلية والعلوم، ثم مراحل المدنية التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن.
ثم ابتسم وقال: ولو لم يتحكم الكهنة ورجال الدين في تفكيركم بحيث يوجهون اهتمامكم الأكبر لا لتطوير ما اكتشفتموه وإنما للتوقف عنه والتوجه كلية إلى الحياة الأخرى ومشاكل الخلود ... لو أعطيتم نصف اهتمامكم بالموت وما وراء الموت إلى الحياة وما يدور في الحياة، لكنتم وصلتم إلى العلوم الحديثة من أحقاب وأحقاب، ولكان الإنسان قد اختصر من رحلة حضارته مئات السنين.
ولقد أرقني قوله كثيرا، ولا يزال يؤرقني؛ إذ ونحن الآن نحاول استعادة ما فاتنا، ونحاول الوصول إلى أسرار الثورة التكنولوجية الحديثة، فلا تزال مشكلتنا الكبرى، كما كانت في الماضي، هي مشكلة الهدف لأي هدف نتعلم، ونستحوذ، وتصنع، وتثور ثورتنا الحضارية التالية، هل نستعملها لنفكر في الموت وما وراء الموت والنظر إلى ما فات وعبادة الأمس وإحيائه وإعطاء الظهر للحاضر وآفاق المستقبل؟
إذا لم نكن نبغي التحضر لنسبق الزمن ونعوض ما فات ... إذا لم نكن نقاتل لنستعيد ذواتنا وأنفسنا لنمضي إلى الأمام.
إذا لم نكن قد أدركنا أننا تأخرنا لأننا كنا دائما نحيا في عصر حي بأجسامنا كي نتفرغ للحياة في الزمن الذي مضى بعقولنا وأحلامنا.
إذا لم يكن هذا كله هو رائدنا، فأبدا سنظل غرباء كتماثيل المتاحف في عصر حي، ستظل عقولنا تجري إلى الأمام لتأخذ من الحياة كل ما تستطيع.
ما غايتنا؟
وهنا الفيصل ...
هنا لا بد أن نتوقف ونسأل:
نحن نريد التحرر لنتحضر ونتمدن، نريد الكهرباء لنصنع، نريد العلم لنخترع، ولكن كل هذه وسائل؛ إذ تبقى الغاية، فما غايتنا من هذا كله؟
والسؤال مهم، والتساؤل محتم؛ فلقد اخترعنا التليفزيون وعممناه لننشر ثقافة هز البطن ومجالس الخلفاء والندماء، أو بالكثير لنعرض فيه أفلاما قديمة لعقلية قديمة ولأهداف بالغة التأخر.
والسينما استعملناها لنروج لأسف وأحط القيم.
وصناعة السيارات بذلنا فيها دم القلب لتتكدس تاكسيات يملكها القادرون.
ووزارة الثقافة استعملناها لننتج كتبا ميتة ومسرحيات هابطة.
السؤال مهم ...
فما لم يكن هدفنا واضحا نرتضيه ونجمع عليه ونوزع أدواره على كل منا ...
ما لم يكن وراء التحرر، والحرب أو السلام، والاشتراكية أو التصنيع، والتنظيم السياسي أو تحرير الملكية، ما لم تكن هذه كلها أجزاء تابعة ومنتهية إلى هدف أكبر وأعظم يصبح الهدف المقدس في حياتنا، وتقديسه نابع من تقديس كل منا له واختياره إياه، فإننا لن نصل لتحقيق هذه المفردات فقط ولكننا ربما نحققها بطريقة مثيرة للضحك تماما؛ إذ نحققها لنصل بطريقة تقدمية جدا إلى هدف متخلف جدا، أو بالأصح نصبح عباقرة الإسراع إلى الخلف في عالم نكاد نستطيع اللحاق به لو أسرعنا إلى الأمام.
وفقط حين رأيت الآخرين، الأفقر منا بكثير، الأقل منا عمرا، الذين يروننا الأعرق والأخلد. بدأت أكتشف نفسي، أقصد نفوسنا، وأجد كل نفس لدينا قد أصبحت قارة، أحاطت نفسها بستار، ترفض كل شيء، وتهزأ بأي حدث، وتعيش مثلما غيرنا يعيش، وكأننا كنا في انتظار نكسة 67 أو أي كارثة عربية لنقول: بركة يا جامع! وما الفائدة؟ لنقول: ولسه ح نرجع نعافر تاني؟
وكل عشمي ألا نكون قد خرجنا من هذا كله وقد أضيئت معالم الإنسان الآسيوي في عيوننا؟ عشمي الأكبر أن يكون كل منا قد خرج بضوء قد تسرب لنفسه هو، وحتى بلا ضغينة يراها، وبلا تأنيب كثير للذات يحادثها، وبحديثه يكشف طاقة أمل، مهما صغرت، فهي البداية.
فلنعجل بالبدء
المشكلة أن نعجل بأن نبدأ؛ فكل ثانية من الزمن تمر تموت من أعمارنا ثانية ولا تعود تحيا أبدا، وكل ثانية زمن تموت، تموت معها ثانية إرادة، وإذا كان في نيتنا أن نموت فلا شيء يدعو حينئذ للتعجل أو اليقظة، أما إذا كان في نيتنا أن نحيا، فمن المستحيل ما دمنا قد اخترنا أن نحيا أن نؤجل الحياة، والحياة ليست مجرد إشعاع أمل، أو إحساس بضرورتها، أو إعجاب بها، الحياة حركة إذا أردنا أن نكون فلنتحرك، بل حتى لو قررنا الموت فلنمت كما يموت الأحياء، فلنمت حركة، فلنمت عملا، ميتة أخرى غير التمدد فاغري الأفواه مفتوحي الأعين نتفرج، حتى على آلامنا نتفرج، وكأن ما يحدث يحدث لغيرنا، وكأن الألم لا يكوينا، وكأنما إرادتنا جميعا سرقها لص ووضعها في صندوق وألقى الصندوق في البحر، وكل مشكلتنا أن نظل نتساءل أين مفتاح الصندوق؟ أحيانا نظنه مع ريغان، وأحيانا مع الدول الكبرى، وأحيانا لا بد أن أحدا قد دفنه في رمال سيناء.
والمفتاح - أيها الأعزاء - لم يضع والصندوق والإرادة داخلنا لم تسرق، ولم تضع، مع أنفاسنا تتردد، ورهن إشارتنا تكون، والمسئولية مسئوليتنا.
وعلى أنفسنا نحن باستمرار نتفرج، والنكتة نرويها دائما عن الغير وكأن الغير بطلها، في حين أن راويها لا يعرف أنه البطل، والمسألة طالت وطالت، والأحاسيس كثرت وتشعبت ... كل ما في الأمر أننا فقدنا إحساسا لا نزال لم نشعر به، ونتجنب أن نشعر به، هو إحساسنا بالخجل.
خاتمة
أن ينتهي الكلام عن آسيا، كأن ينتهي الكلام عن الجنس البشري والإنسان، مسألة لا يتصورها عقل، هي ليست قارة فقط، ولكنها أكثر من ثلثي العالم، وبين كل ثلاثة من سكان الأرض تجد اثنين منهم آسيويين؛ فهي أضخم القارات عددا، وأكثر التناقضات تناقضا، ومن الرأسمالية بأبشع صورها الآسيوية في اليابان وتايلاند وفورموزا وغيرها، إلى الاشتراكية بأروع صورها الشيوعية في الصين وكوريا وفيتنام ومن بلاد محايدة على شفا الحياد، إلى تجارب من الديمقراطية الاشتراكية المعتدلة في الهند، إلى دكتاتوريات عسكرية، إلى شعوب يحكمها الاستعمار ومخابراته، وشعوب انتزعت حريتها، إلى إنسان لا يزال يعبد الأصنام، وآخرين أخذوا الماركسية العلمية عبادة، من نساء على هيئة جبشا، إلى مقاتلات تخصصن في إسقاط الطائرات، من حالة الكفاف إلى دون الكفاف، من الأباطرة إلى الرقاق، ومن بلاد لا ينمو فيها القتال إلى أغنى البلاد.
إنها العالم مركزا ومزدحما وواصلا إلى أقصى درجات تناقضاته.
البلد الذي خلب لبي
ومع كل ما رأيت، فإن البلد الذي خلب لبي في آسيا هو الهند: الشعب، والحضارة. ومن البطولات ليس أعلى من فيتنام. في التحلل هناك تايلاند وهونج كونج. في الطموح المخيف نرى اليابان. في أي مكان لا بد أن تعثر على نموذج، والنموذج صارخ، وفي كل مكان نلحظ حركة من حركات التاريخ سادرة وسريعة، لا يوقفها شيء. من الواقع أيا كان، ومهما درت في أفلاكه، في الشرق والجنوب والشمال، فأنى تذهب ستشعر حتما أن لهذا الكون مركزا، ثقله من ثقل الشمس، ومكانه الطين ... هناك هي الحقيقة الكبرى، ودائما هي في الطريق لتصبح الحقيقة الأكبر. •••
وآجلا أم عاجلا، شاءت أمريكا أم أبت، فمصير آسيا للصين لا للاستعمار الصيني، فالماوتسية لا تستعمر، وإنما للإشعاع العقائدي، والمذهبي والثقافي والسياسي الصيني.
ومن الآن ترى الإشعاع يتجسد، والأحزاب الشيوعية الصينية النمط تتكاثر وتصبح الأقوى، وتملك المنطق الذي لا يقاوم، الثورة المسلحة التي لا بديل عنها ولا محيص.
بل أكثر من هذا، سمحت لنفسي - ولست سياسيا - أن أتصور الغد الآسيوي، وهو غد يكاد يكون مفاجأة. لقد حاولت أمريكا أن تبني اليابان قاعدة رأسمالية تقود القارة إلى معسكر الرأسمال، ومنذ نهاية الحرب واليابان تبدو لأمريكا وكأنها أطوع لها من بنانها في هذا الاتجاه، ولكن المسائل بدأت تتكشف، ومع ازدياد القوة الاقتصادية اليابانية بدأت اتجاهاتها، أو رياح اتجاهاتها المستقلة تهب، وإذا كانت أمريكا قد بذلت المستحيل لتصنع من اليابان والصين إسفينا يبقي العداوة بينهما إلى الأبد، فإن تقديري الشخصي أن الإسفين سيتحول بطريقة لم يحلم بها أحد . ومنذ الآن تضع اليابان خططها لتتكامل اقتصاديا مع العملاق الأحمر المجاور، وبالصين واليابان معا، بآسيا الاشتراكية والرأسمالية التي بدأت تعود لتصبح وطنية بعد أن استنزفت ما استطاعت استنزافه من رأس المال الأمريكي، بهما معا، في القريب، ستنشأ كتلة أو معسكر متكامل متناسق آخذ من الغرب كل علمه وأسراره الرأسمالية ومن الشرق كل خلاصة تجاربه الاشتراكية، وبدأ وسيبدأ يحقق لآسيا وجودا لم يكن لها في يوم من الأيام، ومثلما خيل لبعض المعلقين أن احتمال حدوث الحرب بين أمريكا وروسيا أقل من حدوثها بين الصين وروسيا؛ فالاحتمال الذي سيكشف عنه المستقبل أن آسيا، بغربها وشرقها بصينها ويابانها، ستقف وجها لوجه أمام الاتحاد السوفييتي باشتراكيته، والغرب برأسماله. •••
وإذا كان هذان القطبان الآسيويان في مركز أقل، وليسا الدولتين الأعظم بعد، فإن الانفجار الاقتصادي والصناعي في الصين واليابان يتطور بسرعة مخيفة، وعلى يد العقلية الآسيوية الدائبة المتقشفة الظامئة إلى الوجود والتفوق من زمن طويل، سيصل إلى آفاق لا يمكن أن يتصورها أحد.
عصر آسيا
نحن مقبلون إذن على عصر آسيا ...
والصراع الآن على أشده.
اليابان تحاول أن تسحب من الرأسمالية الأوروبية والأمريكية، وتصبح هي موردة الصناعة والصناعات لبقية البلاد المرتبطة بالرأسمالية.
والصين تحاول أن تحل محل الاتحاد السوفييتي في قيادة الثورة ضد الاستعمار والنفوذ الاستعماري بكافة أشكاله في البلدان التي تبغي التحرر.
وإذا انقسم العالم في بحر السنوات المقبلة، فإنما سينقسم إلى حضارة رأسمالية نامية مكتسحة، وحضارة غربية تحاول الدفاع عن النفس والوقوف في وجه ثلثي سكان العالم وقد امتلكوا أخطر أسلحة العصر: العلم والتكنولوجيا، وفوق هذا كله قوة النمو المتفجرة الدامغة بعد طول صبر وطول مقاومة.
وسيكون الحياد حينئذ، حياد بقية أوروبا أو بقية آسيا وأفريقيا، حيادا من نوع آخر، ليس فقط حيادا بين المذاهب، ولا بين الاشتراكية والرأسمالية، وإنما حياد بين آسيويين لا نهائي العدد، «أمريكيون أوروبيون» انتهت خلافاتهم المذهبية والنظامية يقتلهم الرعب من الخطر «الأصفر» الذي طالما تخيلوا بتنبؤاتهم وجوده، ولكن مع هذا، أتمنى أن يحدث شيء آخر.
أتمنى أن يكون وقوف الإنسان الآسيوي على قدميه، ووقوف الإنسان الأفريقي على قدميه، فرصة أمام الواقفين على أقدامهم فعلا، لا لكي يقاوموا هذا الوقوف من الجانب الآخر أو يعتبروه الخطر الساحق، وإنما بداية لعالم آخر جديد، وقانون آخر يسود هذا العالم؛ قانون المساواة، قانون العالم الأنضج الأقوى، قانون لا يعود يسمح بقوة وحيدة ما، أو حضارة واحدة ما، أو منتصر واحد ما، يسود ويخضع له الباقون. وإنما تبلغ بعقولنا حد الاعتراف أن السيادة المفردة ولت أيامها وأن العصر عصر تعاون السادة، عصر التشارك وليس عصر التفرد، عصر التقاسم وليس عصر الاحتكار، عصر التنوع وليس عصر النموذج الواحد، عصر مساهمة الحضارات أجمع في رقي العالم أجمع، وليس عصر إملاء الحضارة الواحدة على العالم كله.
نعم، أتمنى مثلما أدى التوازن الذري والنووي إلى إلغاء الحروب الشاملة، أن يحدث نفس الشيء حين يوجد التوازن الحضاري والفكري، بحيث ينتهي جشع كل قومية لاحتلال أرفع مكانة، وكل كتلة لسحق الأخرى والانفراد بالزعامة. أتمنى أن ينتهي الصراع بين الرأسمالية دون حرب بين بعضهم البعض، والصراع بين الاشتراكية دون سفك دماء، وفي النهاية أتمنى زوال الرأسمالية كنظام استغلال دون ثمن باهظ، دون حرب ضحيتها رجال ونساء وشيوخ وأطفال، حياة أي فرد منهما أثمن عندي من أي شعار؛ فالمذاهب لا توجد لتسود بالقتل والمهلكات، وإذا كانت الاشتراكية قد قامت لتمنع استغلال الإنسان للإنسان، أي قامت بسبب نبيل تماما وشريف وإنساني، فلا يمكن ولا يعقل أن يكون الطريق لتحقيقها طريقا تسيل فيه دماء نفس هذا الإنسان التي قامت لتمنع عنه مجرد الاستغلال.
ولكن المؤسف حقا أن الدماء تسيل؛ لأن المستغلين يقاومون زوال الاستغلال بضراوة، المؤسف أنهم يستعملون نفس الذين يسومونهم ويستغلونهم في الدفاع عنهم وعن عالمهم تحت أزهى وأبهى الشعارات.
المؤسف أن الخداع ما دام قائما، وما دام هناك مخدوعون فالصدام حتمي، وأنهار الدماء حتمية، والوحشية في جنسنا حية لا تزال.
ولا سبيل لإنهاء الخداع إلا بتحديد الموقف، ليس فقط على كل دولة أن تحدد موقفها من الصراع في العالم، ولا على كل شعب ولا علينا كهيئات وأحزاب وتنظيمات، إنما حتى على كل منها كشخص.
وذات يوم قالها الفيلسوف: أنا أفكر فأنا موجود، ومنذ قالها تغير العالم، ولم يعد التفكير يحدث لمجرد التفكير، وأنت لا بد أن تفكر اليوم لتتخذ في النهاية موقفا، وعلى ذلك فلتصبح الكلمة: أنا لي موقف فأنا موجود. •••
محال أن يسمح العقل الصحيح لصاحبه أن يكون حيا عائشا في آسيا أو في أفريقيا أو في أمريكا اللاتينية أو أمريكا نفسها وأوروبا، ولا يكون له موقف في هذا الصراع الدموي الدائر أمام عينيه، صراع حتى الموقف السلبي منه لا يجدي؛ فالموقف السلبي يخدم في النهاية الاستعمار والمستغلين.
وبعد جولة في آسيا الرأسمالية وأوروبا ... وقبلها أمريكا ... لم يعد أمامي إلا أن أعلنها صريحة لشعبنا ولكل شريف في هذا العالم.
نعبث نحن إذا راودنا أمل، مجرد أمل، في أي نظام رأسمالي، نعبث نحن إذا راودنا أمل، مجرد أمل، في تناقض يحدث بين الرأسماليين هنا أو هناك؛ فالرأسمالية الآن تعلمت ونضجت وعرفت قبلنا نحن معنى الوحدة وأهمية التماسك والتكاتف، ولا تصدقوا أن تناقضا يقوم بين كروب وجنرال منتورز ولا بين سوني وجروتدنج.
نحن نعيش في ظل رأسمالية شديدة الذكاء والتكييف والخبث، بارعة القدرة في التنكر، قوية غنية، ليس في جعبتها أي خير أو استعداد لنصرتنا.
التليفزيون
نعم، هي ظاهرة استرعت انتباهي حقا، وذكرتها في مرور عابر على كلمتي السابقة، ولكن، لأن الموضوع هام وخطير ولا يلتفت إليه الكثيرون فقد رأيت أن أعود إليها، متوسعا فيها، واصلا إلى إسبانيا وربما أيضا طرق علاجها.
ذلك الموضوع هو أننا قبل قيام التنظيمات التي تحمل شعار الإسلام وتدعو له، وتكفر كل من لا يؤمن بطرقها ووسائلها، وسريان العدوى إلى خطباء المساجد ومؤذنيها بحيث تستحيل مدننا وقرانا إلى مظاهرات، ميكروفونية، رهيبة ساعة الأذان للصلاة بما في ذلك أذان الفجر وتسبيحاته وإذاعة الصلوات نفسها من داخل المساجد ضاربين عرض الحائط بالآية الكريمة التي تقول:
ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ؛ فالصلاة نوع من العبادة المتأملة التي تستدعي بالضرورة أن يتأمل الإنسان كلام خالقه، وحكمة ركوعه وسجوده، بل ويتأمل معاني الفاتحة التي يقرؤها والتحيات التي ينهي بها ركعاته.
أقول قبل أن تعرف مصر هذه الظاهرة التي أحالت الدين الإسلامي خاتم الرسالات إلى ضوضاء وأصوات تغلظ من حناجرها وتوجه التهم - والسباب أحيانا - من فوق منابر مساجدنا، كنا نؤدي طقوس ديننا في جلال وخشوع ورهبة؛ لأننا كنا نحس أننا - في الصلاة - لا نواجه بعضنا البعض، ولا نتخذ الصلاة وسيلة لإظهار براعة علو أصواتنا، ولكننا كنا فيها نواجه المولى سبحانه ونناجيه ونسترحمه ونستغفره ونتوب إليه هو وحده.
الظاهرة التي استرعت انتباهي هي أنه مع هذا العلو في الأصوات إلى درجة الغلظة والتعذيب، خفت صوت الضمير الإسلامي، وانتشرت الأهوال في مجتمعنا إلى درجة أن أولياء أمور طلبة الحسينية استعملوا تلك الميكروفونات نفسها في تغشيش أولادهم وتعليمهم أن الإنسان ينجح في حياته لا بالجهد والعرق والكدح وإنما بالغش والتزوير والتدليس، وكأن أولياء الأمور هؤلاء ليسوا هم الذين يستيقظون كل يوم لأداء صلاة الفجر، وكأن الدين شيء والأخلاق الحميدة شيء آخر، وكأن ليست الرسالة العظمى للدين هي أن يرفع من تصرفات الإنسان ومواقفه وأحكامه إلى أعلى مستوى ليصبح الإنسان حقا وصدقا ظل الله على أرض الله سبحانه الكامل في صفاته.
لماذا حدث هذا الانفصام؟
ولماذا أدى هذا الانفصام إلى أن يبرر بعض أعضاء جماعات التكفير لأنفسهم أن يطلقوا النار على رجل دين مريض جاوز السبعين وهو موثوق بالحبال، ويضعوا فوهة المسدس في عينه اليسرى، ويطلقوا عليه النار ويقتلوه، مع أنهم يفعلون هذا رافعين راية العودة للمجد الإسلامي التليد، وكأن هذه الفعلة نفسها وكأن إطلاق النار وحرق الكنائس - تلك التي نهى عنها الإسلام تماما وجرمها هي نفسها الوسيلة للوصول للحكم الإسلامي الحق، وهل ممكن أن تؤدي الوسائل المجرمة السفاحة إلى إقرار مبادئ العدل والتسامح والإيمان ورعاية سابع جار وحتى عدم إيذاء القطط والحيوانات أو تركها حتى تموت من الجوع؟
هل الإسلام، ذلك الذي أوصى المؤمنين به حتى برعاية الحيوان، ممكن أن تكون طريقة الوصول إليه هي بقتل المسلمين دون محاكمة ودون اتهام محدد ودون إجراءات قضائية إسلامية محددة تضمن للمتهم حقه في الدفاع عن نفسه، وبل أحيانا يوقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إقامة الحد على السارق إذا وجد أن السرقة حدثت بسبب الجوع أو المجاعة؟ •••
وأيضا ليس هذا هو موضوعنا، فهو موضوع الذين خلقوه أو اختلقوه، موضوع هدم هذا المجتمع وإقامة مجتمع يخضع تماما لديكتاتورية أفكارهم، ويتصرفون فيه وكأنهم رسل العناية الإلهية لإقامة الحكومة الإسلامية الدينية على الأرض، ولو بإفراغ الرصاص في عيون المشايخ أو إطلاق النار على العزل وحرق المحلات والكنائس وإذكاء عداوة طائفة مصطنعة لا بد في النهاية أن تؤدي إلى حرب دينية طائفية، وفي المقابل لا أستطيع أن أناقش الحكومة في رسائلها فهي مشغولة بواجب المحافظة على الدولة وعلى أرواح المواطنين، بل أن أخوض في هذه «الهوجة» الإعلامية القائمة حول الجماعات الإسلامية وتطبيق الشريعة والحل هو الإسلام، وكل تلك الضجة التي يفرحون لها تماما ويريدون لها أن تستمر حتى لا يصبح لا عمل للناس إلا الحديث عنهم صباح مساء سواء معهم أو ضدهم، والحديث معناه الرواج الشعبي والرواج الشعبي هو ركيزة من ركائز الوصول إلى هدفهم وهو الحكم.
إني إنما أناقش هنا موقف الحكومة وليست حكومة اليوم فقط كما قد يعتقد البعض، ولكن موقف الحكومات المصرية المتتالية منذ قيام الثورة وإلى الآن.
فلأمر ما تصورت الحكومة في الخمسينيات والستينيات أنها تستطيع أن تضرب الوطنيين والحزبيين واليساريين بتملق العواطف الدينية لدى جماهير شعبنا المؤمن حقا وبالسليقة، والمصريون معروفون بتدينهم الحكيم، حتى الشعوب العربية ومنها شعب المملكة العربية السعودية حيث الكعبة وقبر النبي عليه الصلاة والسلام يعترفون بأن الشعب المصري وأزهره الشريف كانا هما الدعامة الرئيسية التي ارتكزت عليها الدعوة الإسلامية منذ انحلال الدولة الأموية والعباسية.
وهكذا في الوقت الذي تبنت فيه حكومة الرئيس عبد الناصر قضايا التحرر الوطني في كل أنحاء الوطن العربي وأفريقيا وآسيا وحتى أمريكا اللاتينية بدأت البرامج الدينية تأخذ طريقها إلى الإذاعة والصحافة ولم يكن التليفزيون قد أنشئ بعد.
ولقد كنت أتابع كثيرا من تلك الأحاديث وأتعجب؛ ذلك أن الإسلام موضوع كبير جدا لا يمكن أن ينتهي الحديث عنه، بينما تلك الأحاديث كانت تركز على نقطة تكاد تكون واحدة لا تتغير وهي إشعار الشعب وأفراد الشعب بنواقصهم الدينية، وبأنهم لا يعبدون الله كما يجب بحيث يتناسى أفراد الشعب مشكلتهم كمجتمع مع الدولة أو الحكومة وانعدام الديمقراطية في الحكم أو حتى الشورى، وتصبح مشكلة الواحد منهم هي إحساسه بالنقص في كم ونوع تدينه، وليست المشكلة أبدا هي حكم الفرد المطلق واستئثاره الكامل بالسلطة، واستئثاره أيضا بقرارات خطيرة مثل قرارات إعلان الحرب أو إيقاف القتال أو إرسال الجيش المصري إلى اليمن أو الكونغو.
وأنا آسف حقا وأنا أقول هذا فأنا أكن لعبد الناصر الزعيم كما وافرا من الاحترام والتقدير؛ إذ يكفي أنه كحاكم لم يخن أبدا قضيتنا الوطنية ولم يساوم أبدا عليها.
ونأتي لعصر الرئيس السادات ذلك الذي رفع شعار المنابر ثم حولها إلى أحزاب وديمقراطية ساداتية استأثر فيها أيضا بالقرار وبتغيير السياسة المصرية 180 درجة. هنا أيضا لم يكتف الرئيس السادات بتكثيف الجرعة الدينية في وسائل الإعلام، بل وبتقوية المنظمات الشبابية الدينية لضرب الطلبة اليساريين، ولكنه رفع نفسه أيضا من رئيس دولة إلى الرئيس المؤمن، أي إلى مصاف الرسل. وكان التليفزيون قد تربع على عرش الأسرة المصرية والشعب كله، ذلك الجهاز الغريب الذي تفتقت عنه العبقرية الصناعية الغربية ويمثل أحدث وأخطر الوسائل لمخاطبة الرأي العام.
وإذا كنت هنا أذكر التليفزيون بشكل خاص فلأن أثره لا يعادل آثار كل وسائل الإعلام مجتمعة من صحافة وكتب وإذاعة فقط، ولكن أثره يعادل مئات بل آلاف المرات تلك الوسائل. إن متوسط عدد المشاهدين للتليفزيون في مصر لا يقل عن الثلاثين مليونا، بينما مستمعو الإذاعة وقراء الصحف والكتب يقلون بكثير جدا عن هذا العدد، وليست المسألة أعدادا فقط، ولكن القراءة شيء والاستماع شيء، والرؤية شيء آخر تماما؛ فالتليفزيون يحرك ويوقظ كل حواس الإنسان، وفي نفس الوقت لا يتطلب منه أي مجهود بالمرة، فهو يستلقي أمامه في سلبية مطلقة تاركا لمواده وكلماته أن تفعل فعلها فيه دون أي مقاومة تذكر خاصة وأن 80٪ من مشاهديه من الأميين.
ولذلك فالمجتمعات الأوروبية بالذات تستعمل هذا السلاح الخطير بقدر محكوم، ولقد فوجئت مثلا وأنا في السويد بأن التليفزيون لا يذيع إلا ثلاث ساعات كل يوم، ومعظمها إما مواد تعليمية وإما إرشادات للزراع أو للعمل، وإما موضوعات ثقافية ترفع من وعي المواطنين وقدراتهم على استيعاب مجتمعهم وعيوبه واستيعاب العصر كله، وكذلك التليفزيون البريطاني. إني أتعمد كلما ذهبت إلى لندن أن أذهب إليها يوم جمعة لكي يتاح لي أن أبقى يومي السبت والأحد رابضا أمام التليفزيون أتعلم، أجل أتعلم، وبالذات من جامعة الهواء التي يتفننون في تحويل الرياضة البحتة مثلا والرياضة الحديثة وقوانين الكهرباء المعقدة إلى صور ونماذج متحركة تثير شهيتك إلى المعرفة والتعلم، أما في برامج المساء فالحديث هو حوار مفتوح حول مشاكل المجتمع البريطاني الخارجية والداخلية وبالذات مشاكل التعليم والمدارس والصحة، وكل هذا بأسلوب رائع جميل لا يمكنك معه أن تغلق القناة أو تتحول إلى أخرى.
هنا في مصر حين أدخلنا التليفزيون أدخلناه لأسباب حكومية محضة؛ فهو إرسال الحكومة إلى الشعب يحمل أوامرها ونواهيها، أما ما يقوله الشعب وما يريد إيصاله للمسئولين فسلكه مقطوع تماما، حتى نشرة الأخبار، يقوم حادث جلل في العالم مثل الحرب بين العراق وإيران، ولكن لأن نشرة الأخبار هي نشرة الدولة فلا بد من مقابلات الرئيس أولا ثم مقابلات رئيس الوزراء ثم رئيسي مجلسي الشعب والشورى والوزراء، وأخيرا يأتي الخبر الذي يحتل الصفحات الأولى لصحف العالم ونشرات أخباره.
وأيضا ليس هذا موضوعنا ولا أريد بهذا الكلام أن أنقد أي مسئول تليفزيوني أو إعلامي سابق أو حالي؛ فأنا أعرف والكل يعرف أنهم أناس ينفذون أوامر.
ومن ضمن هذه الأوامر تعلق جماهير مسلمينا بإغراقهم بفيض من الأحاديث التي لا يكاد يتابعها المتفقه في أمور الدين والتي لا تتصل من قريب أو بعيد بمشاكل المواطنين الدنيوية الهائلة: في برنامج اسمه حديث الروح استمعت إلى حلقة اسمها قضاء حاجات المسلمين، وفرحت بالاسم، وبكل ما أملك رحت أنصت؛ فهو موضوع يهم المسلمين وقضاء حاجاتهم من الوصايا الإسلامية العظمى، فإذا بالشيخ الجليل يحدثنا عن آداب دخول المرحاض في الإسلام، وكيف لا بد أن تدخل المرحاض بقدمك اليسرى وأن تجلس وأنت غير مواجه الكعبة الشريفة ... وكدت أصعق، ولكن لا غرابة، فما أكثر الأحاديث التي سمعتها بعد هذا وما كان أبعدها جميعا - إلا قلة نادرة - في البعد، ليس فقط عن هموم الناس ومشاكلها وإنما عن الحقيقة أيضا. وذات مرة استمعت إلى شيخ جليل آخر مفسرا للآية الكريمة:
وفي السماء رزقكم وما توعدون
وقدم الشيخ الجليل تفسيرا بعيدا عن منطوق الآية وعن مفهومها البسيط؛ إذ فوجئت به يقول إن معنى الآية أن الله سبحانه ينزل المطر على الجبال، فتحمل المياه المنحدرة الطمي وتذهب به إلى الأنهار، ويستعمل الإنسان ماء الأنهار إلى الري، فيخصب الطمي الأرض وينتج عنها الرزق. وفي الجزيرة العربية التي نزل فيها قرآننا الكريم لا توجد أنهار ولا طمي، ولم يكن العرب البدو الذين نزل القرآن الكريم لهدايتهم يعرفون حكاية الأمطار التي تسقط على جبال الحبشة وتحمل معها مياه الطمي إلى وادي النيل. الأمثلة كثيرة وليس هذا مجال تعدادها، ولكني أردت أن أوضح إلى أي مدى أسيء استعمال التليفزيون: صوت الحكومة من ناحية، ومن ناحية أخرى نفاق صارخ لنوع غريب من الإسلام فرضه علينا التليفزيون فرضا.
أما النفاق الآخر لجماهير الشعب فهو ذلك الترفيه الأبله الغريب الذي تحفل به قنوات التليفزيون ومنذ إنشائه إلى الآن: مسرحيات هلس، أفلام هلس، برامج هلس في هلس، لا يكاد يستثنى إلا بعض البرامج القليلة جدا التي تبدو عارية تماما وسط ذئاب الهلس وكلابه النابحة.
ولهذا لم يعد غريبا أن ينتقل الهلس والتفريط في القيم والإسلام الخالي من المحتوى الحقيقي لرسالة الإسلام العظيمة، أن ينقل كل هذا من الشاشة إلى الحياة، وأن تصبح حياتنا في معظمها هلسا في هلس، وأن تبلغ إنتاجية العامل والموظف 27 دقيقة في اليوم، كأننا تحولنا إلى متفرجين على الحياة في عالم جاد يأخذ حياته وأموره بجدية، ولا يخجل أبدا من نواقصه وعيوبه بل يفضها ويناقشها ويعالجها.
ظاهرة الذين يأخذون الملايين من البنوك ويهربون أو يعلنون إفلاسهم كيف لا يناقشها التليفزيون، الغش الجماعي، الإرهاب، غلو الأسعار وجشع التجار، التعليم الخاص الذي أصبح مهزلة، والعلاج الخاص الذي أصبح أكثر ربحا من تجارة المخدرات، سياستنا الخارجية، قطاعنا العام، قوانين الانتخاب، أحكام القضاء ... ألف قضية وقضية كان من الممكن أن يخوض فيها التليفزيون دون أن تسقط - لا قدر الله - الدولة أو تحدث ثورة؛ فالثورات والسقوط تحدث حين يتجاهل الحكام ما تحفل به صدور الناس وما تختنق به حلوقهم من غيظ مكبوت، أما المناقشة - وهي الديمقراطية الحقيقية - فهي التي لا تجعل إنسانا يمسك ببندقية آلية ويقتل غيره، وفي نفس الوقت يعرض نفسه للقتل أو للإعدام.
وبصراحة أقل: إن سبب هذا كله هو عدم وجود سياسة إعلامية، سواء في جرائدنا أو إذاعتنا، وبالذات في تليفزيوننا - نظرا لأهميته القصوى - لقد اشترى الشعب المصري تليفزيونات بمليارات الجنيهات ويصرف على ال 26 ألف موظف في مبنى الإذاعة والتليفزيون الملايين والملايين، وكل هذا لنرفه عن أنفسنا بعد يوم لم نعمل فيه لنتعب سوى نصف ساعة. ووجود سياسة إعلامية يحتم لا بد أن يكون هناك مشروع قومي لمصر الآن: صنع في مصر شعار جميل، ولكنه شعار الإنتاج أيضا، شعار أن ننتج غذاءنا شعار أيضا، ولكن المشروع القومي هو شيء آخر هو «كل» يشمل هذه الأجزاء وغيرها، ماذا نريد أن نصنعه خلال السنوات العشر القادمة؟ وكيف نصنعه؟ ماذا في مجتمعنا من عيوب تدفعنا إلى الاستدانة وكيف نخرج من المأزق؟ إن أخطر أمور حياتنا متروكة للاتكال وللشطارة الفردية التي أصبحت وسيلة كل مصري للحصول على قوت يومه وتأمين حياته، وكأننا كشعب قد انفكت حزمتنا القومية وتحولنا كلنا إلى أكل عيش ومستهلكين بطريقة أصبح معها من يفكر في مصلحة الشعب مثارا للسخرية والتهكم. ولا شك أن هناك خطة معادية وراء فك الشعب المصري، ولكنها خطة تعتمد في تنفيذها علينا نحن كشعب، وعلى إذكاء روح الاتكال والإهمال وتكريه بعضنا في بعضنا الآخر، وقسمتنا إلى مسلمين وغير مسلمين وجنود الله وجنود الشيطان، وإقامة بعض منا لأنفسهم مقام المولى سبحانه وتعالى في محاسبة خلقه، ليس فقط عما يفعل أو يرتكب، وإنما حتى على ما يحتويه مكنون ضميره والحكم عليه واتباع الحكم بالتنفيذ المدعوم المعجل.
وإذا كنت أصر على التليفزيون دون سواه؛ فلأننا نؤمن إيمانا لا شك فيه أن هذا الجهاز بما يمتلكه من شعبية وتأثير كفيل بأن يغير تماما من موقف الإنسان المصري وسلوكه وطموحه، ويحل الجماعية القومية محل الفردية الانتهازية، ويوقظ الضمائر التي ماتت أو في طريقها إلى الموت، ويخفض من صوت الميكروفونات العالية التي تصم آذاننا عن أن نسمع أصوات ضمائرنا، وأن نتأمل في هدوء سلوكنا على ضوء تعاليم إسلامنا أو مسيحيتنا.
في عام واحد - وأكاد أقسم - يستطيع التليفزيون بسياسة إعلامية ديمقراطية حقيقية أن يغير تماما من وجه مصر والمصريين، ذلك الوجه الذي أصبح مثار شكوانا، بل وثورتنا بل والباعث الحقيقي الكامن وراء عمليات القتل ومحاولاته والتعصب الأعمى والإرهاب.
في عام واحد يستطيع التليفزيون أن يعلمنا الكثير، ليس على نسق دروس المواد التعليمية، وإنما باستخدام كل طاقاتنا وذكائنا من أجل أن نبتكر طرقا لمخاطبة شعبنا مخاطبة تعلمه وتمتعه، ومنها يصعد إلى المستوى الذي يصبح التعليم والتثقيف والإدراك والوعي - في حد ذاتها - متعة لا تقارن بكل متع الأرض.
الشعب القوي هو الذي يغير
لنؤجل أي موضوع آخر إلى حين؛ فاليوم الاثنين يوم هام، اليوم يوم الاستفتاء، وقد يكون الموضوع المطروح هو نعم أو لا للرئيس حسني مبارك، ولكنني أرى الموضوع من زاوية أخرى؛ فالاستفتاء الحقيقي في رأيي هو الاستفتاء حول «وجود أو غياب» الشعب المصري والإرادة الشعبية المصرية، فكلنا نعلم أن هناك شبه إجماع على إعادة انتخاب الرئيس وأنه سينجح في الاستفتاء، سينجح في الاستفتاء، ما أهمية رأيي إذن، ما دام كل شيء يدور وسوف يدور أردت أم لم أرد؟
والواقع ان هذا الموقف الذي درجنا على قوله وسماعه والعودة إلى قوله وعودة الاستماع إليه، ليس فقط قولا مغلوطا، ولكنه أصبح يمثل لي مرضا أصاب الرأي العام المصري لا بد من علاجه واستئصاله، فحتى لو كان يمثل بعض الحقيقة فإن الاعتراف به والاستسلام له هو إذعان الذين على صواب للذين على خطأ وإحباط، ومفيش فايدة وكله فاسد ولا أمل في أي شيء.
إن أي شعب في الدنيا يستقر على هذه الشعارات الفاسدة هو شعب مريض يريد أن يمرض نفسه أكثر، فالرجل الرجل، والمرأة المرأة حين ينتهي أو تنتهي إلى أنه ليس هناك من فائدة وليس هناك مطلقا أمل، فلا بد، إذا كان إنسانا صادقا مع نفسه أن ينتحر؛ لأن الحياة في ظل إحساس كهذا هي شيء أبشع من الموت وأكثر جبنا وخسة من الانتحار؛ إذ هي حياة شائكة وحشرات وليست حياة آدميين. إن الإنسان إنسان لأنه قادرا أن يفرض إرادته ونفسه وأن يدافع عن كيانه ووجوده، أما الاستسلام المريض للواقع أو لمنطق الكسل القطيعي فهو أمر غير وارد في الصفات البشرية إلى الآن، ولكنه للأسف ساد أكثر من اللازم في مجتمعنا وآن الأوان أن يزول.
لقد كبرنا على هذا المنطق ونحن لا ندري، والذي ساعدنا كثيرا لنكبر هو ست سنوات مضت من حكم الرئيس مبارك.
فأهم ميزات تلك الأعوام ليست هي المنجزات الضخمة التي حدثت في الصناعة والكهرباء والمواصلات والأنفاق، إنما أهم ميزاتها أن الإنسان المصري أصبح «أكبر»، أكبر من التطرف باسم الدين من إضراب مؤسسة الأمن المركزي، أكبر من أن يحكم حكما ديكتاتوريا أو يغتصب السلطة عقيد أو نقيب، أكبر حتى من أحزابه التي تدعي أنها تنطق باسمه، أكبر من الفساد، أكبر من الأجهزة والأشخاص المرتشين واللصوص إذ يكتشفهم، أكبر من أن يرى الظلم أو الجريمة ويتستر أو يقول: وأنا مالي.
نعم لقد كبرنا كشعب.
لقد أزالت ثورة 23 يوليو طبقة حكمت منذ ثورة 19 بأجنحتها المختلفة وإلى قيام الثورة، وقامت الثورة بمبادئ ستة آخرها كان إقامة حياة ديمقراطية سليمة، أي حكم الشعب بالشعب وللشعب وطردت الثورة الاستعمار القديم وقالت: لا للاستعمار الجديد، وحاولت أن تصنع لمصر إرادة قومية عليا، ونجحت في هذا تماما، ولكنها لم تنجح بالشعب ولا قويت بالشعب، ولكنها حققت هذا كله بأجهزة الدولة، فقويت الدولة، ولو كان قائد الثورة قد استخلص درس وقوف الشعب كله معه في اللحظات التي اهتزت فيها الدولة بمختلف أجهزتها لكان قد عرف أن قوته الحقيقية لن تتأتى إلا بقوة شعبه وتقوية شعبه، وجاءت السبعينيات والثمانينات بدولة تضعضعت أجهزتها بفعل الهزيمة، ورغم هذا وبالشعب المقاتل المتحمس وقواته المسلحة كان انتصار أكتوبر، ذلك الذي انتظرنا بعده أن يعم الرخاء، فعم، ولكن على فئة خبيثة أفسدت أجهزة الحكم المضعضعة أصلا، ولم تضف كثيرا إلى قوة الشعب، بل خفت صوت الشعب لترتفع أصوات غليظة غوغائية جعلتنا نقف حائرين مذهولين، أمام هذا الحادث باسمنا.
وجاء مبارك، بإرادة شعبية، فقد وضع الشعب في لحظة اختيار بين الفوضى والهوس أو بين استمرار الدولة كدولة واختيار رئيس لها؛ فالدولة في مصر هامة جدا، للشعب وللمواطنين، لآلاف السنين والشعب المصري يحيا على هيئة دولة، إلى أن أصبحت الدولة جزءا لا يتجزأ من وجوده، حتى لو كانت دولة ظالمة أو يحكمها أجنبي يحتملها الشعب؛ لأنه لا يستطيع أن يعود إلى حياته كقبائل أو قرى أو أقطار، وما دام قد أخذ صفة المواطنة منذ خمسة آلاف عام، فإن قبيلته وقريته أصبحت هي مصر كلها، وأصبحت الدولة جزءا لا يتجزأ من كيانه، ونحن نقاوم التطرف باسم الدين أساسا؛ لأنه يهدد وجودنا ككيان وكدولة ويريد أن يعود بنا القهقرى إلى حكم الطوائف والنحل.
وقد جاء مبارك كما يعرف الجميع على أجهزة دولة شبه فاسدة، وعلى شعب فاقد الثقة تماما فيما يمكن أن تصنعه تلك الدولة.
والحقيقة أن هناك شبه أكذوبة قيلت لنا وصدقناها، أكذوبة أن الدولة هي المسئولة الأولى والأخيرة عنا، وبالتالي فإن رئيس الدولة عليه أن يقوم بكل العمل، هكذا كان الأجانب يحكمون، ولكان الأتراك والمماليك والألبانيون والمصريون الذين حكموه الملك أو الرئيس أو السلطان هو الذي عليه أن يحقق لنا ما نطمع فيه أو نحلم به، فإذا لم يفعل انتقدناه وشنعنا عليه وأطلقنا حوله النكات، ونادرا نادرا ما نثور عليه.
وكان مبارك أول رئيس لجمهورية مصر يدخل في إطار وظيفة الرئيس، فلم يحاول - بحكم تكوينه وطبيعته - أن يكون زعيما، أو محققا لكل شيء ومنجزا وحده للمعجزات، كان على هذا الرئيس أن يبدأ من تحت الصفر ويحاول أن يعيد النظام إلى دولة تخربت، والمشكلة أنه كان يحاول أن يعيد هذا النظام بنفس الجهاز المخرب، فهو لا يستطيع في يوم وليلة أن يجد جهازا آخر، أو حتى أناسا آخرين.
وقد فعل.
ولا أستطيع أن أقول إنه، حتى الآن، قد أصلح تماما من أجهزة الدولة ولا من اقتصادها ولا من مستوى الحياة فيها.
ولكن الذي أستطيع أن أقوله، إنه حتى بهذا الحد من الديمقراطية الذي نحيا في ظله استطاع شعبنا أن «يكبر».
أجل، إن شعبنا أكبر بكثير مما كان عليه عام 1981، قارن بين ما يكتب اليوم - وإن شابه في كثير مما كان يكتب ويعلن في ذلك الحين - وبين ما يكتب اليوم في صحف المعارضة بالذات، قارن بين موقف حزب التجمع الذي لم يملك إلا أن يجسد نشاطه احتجاجا أيامها وبين حزب التجمع الآن وهو يعلنها على الملأ ويحرض الناس على أن يقولوا، لا لمبارك، قارن بين حزب الوفد الذي حل نفسه أيامها وموقف الوفد الآن وهو يجهر بأن الاستفتاءات طريقة غير دستورية للحكم.
قارن بين صحف التحالف الآن وهي ترسل مندوبيها إلى إيران الخوميني ويعودون سالمين ويكتبون دعاية لنظام الخوميني على الملأ وفي صحف تأخذ ورقا مدعوما من قبل الحكومة.
قارن بين ضرب نقابة المحامين ونقيب المحامين وبين صوت النقيب والنقابة الآن، قارن بين إضراب عمال السكك الحديدية وإبراء القضاء لهم وبين الكبت المفروض على كل النقابات والفئات.
قارن بين ما كنا نحن نستطيع كتابته أيامها، وما نكتبه الآن، دون أي تدخل من رئيس التحرير أو الدولة، ودون فصل أو امتهان ودون اتهامات بالرذالة والصفاقة وقلة الأدب.
قارن بين النقد الصريح الواضح الذي تجد كل مصري يقوله بأعلى صوته في الاجتماعات وفي الندوات وفي الصحف إلى درجة تكاد مصر تتحول إلى خمسين مليون ناقد للحكومة، قارن هذا الصمت المخيم أيامها، صمت النرجسية.
ليست هذه كلها من معالم حكم مبارك وطريقته في الحكم، ولكنها وهذا هو الأهم، علامات أن شعبنا قد كبر وأزاح أثقال الحديد الجاثمة فوق ظهره، وبدأ يتكلم ويقول رأيه وبدأ أيضا يتحرك وينتج، ويعتز بإنتاجه وبأنه مصري، بل ويحلم أحيانا بأنه ممكن أن يغير الكثير في واقعه، وأن يصبح أحسن وأحسن.
إن الزعامة القوية أو المستقوية تضعف شعبها ما في ذلك شك والشعب القوي في حاجة إلى رئيس فقط وأبدا ليس في حاجة لزعيم، فإن المغير الحقيقي هو الشعب وليس أبدا الحاكم مهما رفع الحاكم من شعارات، والشعب الضعيف أمام الزعيم لا يغير شيئا، ولهذا لا يتغير أي شيء، مآسي هزيمة 67 أنها كشفت لنا، وقد كنا نتصور أن كل شيء يتحقق لنا، أن شيئا لم يتحقق، حتى داخل أقوى الأجهزة، قواتنا المسلحة، وحين أدرك شعبنا أنه وحده المسئول عن حمايتنا واسترداد أرضنا، كان انتصار أكتوبر المجيد. •••
إن أهم ما تحقق خلال السنوات الست الماضية أن شعبنا بدأ يمسك زمامه بيده، وبدأ يقوى ويرفع عنه أيدي الأوصياء بالقوة، وبدأ يدرك حجم مشاكله الحقيقي، ويبحث عنها وينقب، وحل المشاكل دائما يبدأ بإدراكها، مثل أي علاج لا بد أن يبدأ بتشخيص دقيق، وهذه كلها علامات صحة لا نراها؛ ذلك لأننا تعودنا على رؤية المرض حتى مرض نظرنا نفسه، وفي أحيان وجهات نظرنا.
ولهذا فأنا أعتقد أن ست سنوات أخرى من هذا النوع من الحكم الذي يقوي الشعوب هو ما تحتاجه بشدة.
ست سنوات أخرى أعتقد أننا فيها سنصبح أقوى بكثير مما نحن عليه اليوم: إذا كنا نريد أن نعدل الدستور نعدله، إذا كنا نريد الانتخاب بدل الاستفتاء نفعل، إذا كنا نريد أحزابا جديدة ومنابر جديدة للرأي نوجدها، إذا لم تكن تعجبنا وسائل الإعلام والصحافة والثقافة والمسرح والسينما وفوضى المرور في الشوارع ومهرجانات الضجة الصاخبة آناء الليل وأطراف النهار نرفضها. فالشعب القوي هو القادر على التغيير، وأعتقد أن كل الأصوات حسنة النية التي تطالب بالتغيير، تطالب بهذا لا لتحكم به، وإنما ليتيح لها وللشعب قدرا أكبر من القوة والقدرة.
والضمان الوحيد لهذا أن يستمر مبارك كرئيس للجمهورية بتلك المواصفات نفسها التي حكم بها ست سنوات خلت، أما التغييرات فسوف نحدثها نحن حين نؤمن إيمانا حقيقيا أن الدولة جهاز يديره مواطنون لهم كل أعيننا وليس فيهم كل ميزاتنا، وأننا وحدنا حين نقوى كشعب سنقوى كدولة وسنقوى كعقول مفكرة وكإرادة قادرة على تحقيق هذه الأفكار. •••
لهذا أقول صادقا مع نفسي أن التقاعس عن إبداء الرأي في هذا الاستفتاء هو استكانة مرضية لفكرة أن رأي كل منا بمفرده غير مهم؛ فالشعب القوي لا بد أن يكون مكونا من أفراد أقوياء، وليس من صفات القوة أن يتنازل الإنسان، ولكن قانون انتخابه وهؤلاء الذين ركبوا موجة الحزب ستوحي لنا وللعالم أننا تغيرنا إلى الأحسن، وأننا أصبحنا قوة يحسب حسابها. قولوا نعم أو قولوا لا؛ فالمهم أن نكون هناك، أن نترك الصحيفة جانبا ويرتدي كل منا أحسن ما عنده من ثياب ويقول لأولاده وأسرته أنا ذاهب لأقول رأيي الذي امتنعت عن إبدائه سنين طوالا، لأنه في الحقيقة لم يكن له وزن، وكان إجراء شكليا محضا. هذه المرة حين نذهب كمواطنين أقوياء نقول نعم أو نقول لا، فأنا أصوت إذن مع حقي في إبداء رأيي وواجب الجميع وعلى رأسهم مبارك أن يحترموا هذا الرأي وأن يعملوا به.
فرق كبير أن يحدث الأمر الواقع بغير إرادة منا وبين أن يحدث بإرادتنا، فإذا تعلمنا معا أن تكون إرادتنا هي الفيصل فإننا لن نكتفي في المرة القادمة بأن نقول نعم أو نقول لا، وإنما سنملي رأينا بالتفصيل ونثبت حقنا في المفاضلة بين مرشح وآخر، ونوجد نحن وليس المحترفون فقط، على الساحة.
إني أقولها، بكل الصدق مع نفسي ومعكم نعم لست سنوات أخرى من حكم مبارك، فهو وحده الطريق لأن نكبر أكثر ونقوى أكثر.
وإذا كانت الإعلانات والصفحات قد أزعجتكم مثلما أزعجتني فذلك عمل أجهزة وأشخاص يريدون أن يضمنوا المستقبل.
فلا تدعوا الضجة تخفي الحقيقة، والحقيقة الوحيدة هي نحن، هي عند الأصوات في صناديق الاستفتاء.
أم نفعل مثلهم ونتعاون معهم على إخفاء الحقيقة.
وداعا أيها المجلس وإلى غير لقاء
مهما تكن الأسباب التي حدت بالرئيس حسني مبارك إلى حل مجلس الشعب (أو فلتسمه الاستفتاء حول حل مجلس الشعب؛ إذ النتيجة معروفة) مهما تكن الأسباب، فإن الفرحة التي عمت الناس جميعا - إلا أعضاء المجلس بالطبع - لم تكن فرحة أناس مراهقين يهللون لأي تغيير مهما كان ذلك التغيير، وإنما هي في الحقيقة فرحة شعب ناضج قديم مدرك تماما لماذا يفرح إذا فرح، ولماذا يغضب إذا غضب، وبصرف النظر عن دستورية أو عدم دستورية المجلس المنحل، فما رأيت في حياتي مجلسا أجمع الناس على عدم فاعليته مثل ذلك المجلس المنحل، مجلس تشكل كملابس المجاذيب في الحسين، أو كخبز الشحاذين (من كل بيت لقمة وطعم ولون ونوع) كل يحتوي معارضة وفيه تمثيل صوري لأحزاب، ولكن قانون انتخابه وهؤلاء الذين ركبوا موجة الحزب الوطني وبعض الأحزاب الأخرى ليكون لهم الحق في الترشيح جعله لا يمثل أبدا إمكانات شعبنا الوطنية والسياسية، وقياداته الحقيقية، إنما هو بقايا ورواسب الذين احترفوا الترشيح والانتخاب وبرعوا في أساليب التسلق والنفاق، منذ أيام هيئة التحرير إلى الحزب الوطني الديمقراطي، لا أحد «إلا القليل جدا» بمثل مذهبا أو اتجاها أو لديه برنامج ما لحل مشاكلنا أو إصلاح أمورنا، لا وضع يهمه إلا وضعا شخصيا متربعا عليه، وأحيانا يتكسب منه ويصبح قريبا من الوزراء والكبراء وذوي النفوذ ... في الحقيقة مجموعة من البشر كنت أراهم في التليفزيون وأحاول قراءة تعبيرات وجوههم، وما تحويه أدمغتهم، فلا أجد في عين أي منهم بريق حماس أو قدرة على إعمال فكر، أو أملا ولو ضئيلا في تلك الوجوه المنطفئة التعبير أن تصنع لنا أو لبلادنا شيئا، موافقون؟ ترتفع الأيدي كرايات الجيش المهزوم توافق، وهي لا تعرف لماذا توافق، إلا لأن الرأي أو القرار صادر من الحكومة. المعارضون مجموعة محفوظة من الأيدي، تكمم الأغلبية أفواهها وتصرخ كالأطفال المتشنجين وتدق الأرض بأقدامها احتجاجا على رأي مخالف يقال، ولو كان هذا الرأي المخالف نفسه أكثر خدمة لمصالح الشعب أو الحكومة، ولكن لأن قائله مدموغ بأنه معارض أو من الجنس المنبوذ، فلا بد من إسكاته وكتم أنفاسه، والتشويش عليه حتى يخمد رأيه. كنت أرى هذا، ويراه غيري، فأقول لنفسي: يا ربي، ما فائدة هذا المجلس؟ وما فائدة هؤلاء الناس؟ ولماذا تلك الميزانية الضخمة تنفق على «شكل» ديمقراطي لا معنى له ولا مضمون بالمرة إلا أن يقال إن عندنا أحزابا وعندما مجالس وعندما حرية رأي، بينما ما عندنا ليس إلا «ترحيلة» و«أنفار» جيء بهم ليحتلوا الساحة ويخلوها؟ من أي فكر أو نبض أو جهد صادق في سبيل مناقشة أمورنا ومشاكلنا والخروج بحلول حقيقية ممحصة تفيدنا وتفيد أولادنا من بعدنا.
إنه في الحقيقة لم يكن مجلسا، ولكنه كان «طبقة» احتلت كراسي الحكم والتمثيل النيابي ومجالس المدن والقرى واللجان والمراكز الحساسة، احتلتها منذ زمن بعيد، وتلونت وتشكلت مع كل تغيير في الرئاسة والقيادة يحدث، ولا تزال تحتل الساحة، بعيون لا تعرف الخجل، وبفنون محترفي الشجار وإطفاء الأنوار وفض الموالد.
وأكثر ما آسف له أني لم أقل هذه الكلمات التي تعبر عن رأيي الحقيقي، وهذا المجلس قائم وموجود، كنت مستعدا أن أقولها لقوم يعقلون، ولأناس يعرفون ويقدرون حكمة الرأي وحرية إبدائه، أما هؤلاء فلم يكن ممكنا، بل كان مستحيلا تماما أن تقول لهم الرأي الصادق، خاصة لو كان رأيا فيهم هم شخصيا، إنك حينئذ لن تقابل بالآراء الأخرى أو بالردود المكتوبة أو المقالة، ولكنك ستقابل بالهراوات والاتهامات. •••
مرحبا إذن بقرار حل هذا المجلس.
ولكن هذا ليس كل شيء.
فنحن لا نريد أن نحل مجلسا لنأنس بنفس أعضائه، متنكرين أو بنفس أرديتهم، لا نريد أن نهز روح الأمة بقرار إجراء الانتخابات ليتمخض الأمر عن عودة «ريما لعادتها القديمة».
بصراحة ...
لا نريدها مجرد انتخابات تجري لإحلال وضع دستوري محل وضع غير دستوري.
ولكننا نريدها انتخابات لتحقيق الهبة التي نادى بها الرئيس مبارك، وتحقيق الصحوة والانفجارة السلمية البانية التي نادينا وننادي بتحقيقها، نريدها انتخابات توقظنا ونستيقظ بها، ترد لنا الروح، وترد بها الروح لبلادنا وحياتنا ومجريات أمورنا. نريد وجوها غير الوجوه، وأيديا قوية، تؤيد بقوة إذا أيدت وتعارض بقوة، إذا عارضت لا نريدها «ترحيلة» تأييد وتشويش على الرأي الآخر، وإنما مجلس عقلاء، سواء أكانوا مؤيدين أم معارضين، يعتبر كل منهم أن الآخر أو الآخرين لا يقلون حبا لنا ولبلادنا ولمصلحتنا عنه، إذا استمع إلى الرأي يجيد استماعه، وإذا عرضت المشكلة ينكب عليها دراسة وتحليلا ووصولا إلى رأيه واجتهاده الخاص في حلها.
مجلس يليق بمصر 87، فمنذ مائة عام وأكثر كانت مجالسنا النيابية والتشريعية وحتى الاستشارية أكثر قوة وفاعلية ونضجا من تلك المجالس التي مللنا وجودها منذ أول مجالس ما قبل وبعد عام 1952 إلى الآن، مجالس يفخر المصريون بأنه مجلسهم وقيادتهم الجماعية الحقيقية.
ويفخر هو - هذا المجلس - أنه مجلس مصر الداخلة على القرن الواحد والعشرين، مصر القادرة على أن تصبح ديمقراطيتها نموذجا للديمقراطية في العالم الثالث كله، القادرة على إفراز العلماء والمفكرين والقادة والنواب الذين لا يقلون كفاءة ورجاحة وثقة بالنفس عن نظائرهم في دول العالم الأول. •••
إن أكثر ما يميز الرئيس حسني مبارك هو حساسيته لما يعتمل في قلب الناس وما يدور وراء أقنعة ابتساماتهم، وحتى سكوتهم إن سكتوا، وذلك الاجتماع الذي عقده معنا الرئيس محمد حسني مبارك عقب زيارته لمعرض الكتاب كان حريا أن يتحول إلى مؤتمر مصغر للمثقفين والكتاب، يفتح لهم الرئيس قلبه ويفتحون له قلوبهم، وأعتقد أن الرئيس حرص في العام الماضي، وفي هذا العام أيضا على تقليد الاجتماع بالكتاب والمثقفين في عيد الكتاب لهذا المعنى، ولكن القلوب، قلب الرئيس وقلوبنا، ما كادت تتفتح حتى انبرى أصحاب الأصوات العالية الغليظة يدافعون عن الرئيس وسياسته وكأنه معاذ الله موضع مساءلة، في حين أن الحديث كان موضع استفسار ومناقشة، علت أصواتهم وصخبهم تثبت للرئيس أنهم هم وهم وحدهم الذين يتبنون سياسته ويؤمنون بها ومستعدون للاستشهاد في سبيلها، في حين أنهم في رأيي ليسوا سوى «كذابي زفة» وأن أولئك الذين يريدون مناقشة الرئيس وفتحوا قلوبهم له ومعرفة ما في قلبه هم أولئك المقاتلون المخلصون الذين - عندما يجد الجد - هم الذين سيقفون يدافعون بصدورهم وأرواحهم عن ذلك الحاكم المصري المتواضع في غير تكبر، الديمقراطي بحكم التكوين، الهاوي لرفع الشعارات ثم الضرب تحت الحزام في الظلام.
أجل.
مرحبا بقرار حل ذلك المجلس.
ويا شعبنا العظيم، ها قد جاءت الفرصة وانتخبوا مجلسا يليق بنا وبكم، فإن التفريط في صوت أي منكم، وأداء الانتخاب وأنتم منومون بالقرابة والمحسوبية والكلام المعسول، هو في رأيي خيانة.
فليعتبر كل من ينتخب من لا يؤمن بأحقيته لتمثيل الشعب المصري كله أنه قد خان الأمانة، أو بمعنى أدق خان مصر، مصر التي لا بد أن ترفع عن كاهلها الكآبة والفتور وفقدان الهمة واليأس التي استشرت في الفترة الأخيرة، وتتطلع إلى مستقبل سريع توجده وتخلقه وتحتل به مكانتها الجديرة بها.
المستورد الخفي
تابعت بذهول حكاية الألبان المجففة الحاملة لكم من الإشعاع القاتل، وأعترف أن متابعتي للموضوع جعلتني أعتقد أن حياتنا لا يمكن أن تمضي هكذا أبدا وأننا وصلنا إلى نقطة ما بعد الخطر.
ودعونا من الحديث عن تلوث جو مصر - والقاهرة على وجه الخصوص - بحيث إن تلوثها أصبح يعادل عشرة أضعاف الحد المسموح به للتلوث في أي مدينة أو مجتمع بشري، لا أذكر الرقم على وجه الدقة، ولكن ما أعرفه أن التلوث في أجواء القاهرة هو أعلى معدل للتلوث في العالم.
دعونا من هذا.
ودعونا من التلوث الضجيجي الذي تحفل به مدننا وقرانا، صباحا ومساء، وفجرا وليلا، وفي كل وقت ...
ودعونا أيضا من هذا فليس ذلك هو موضوعنا هذه المرة.
فنحن نعرف كل تلك الحقائق المرعبة عن الظروف غير الملائمة للحياة التي يعيش فيها الإنسان المصري.
ومع هذا فنحن صابرون، في انتظار الجنة؛ فالجنة - هكذا قال الله سبحانه - للصابرين.
ولكن حكاية اللبن المشع تلك قصة لا يدري الإنسان أيموت ضحكا منها أم يموت كمدا، فهي قصة - كما يقولون - لها العجب.
إنها جريمة، قصة جريمة عادية من الجرائم الكثيرة التي يرتكبها المجرمون الساعون إلى الربح ولو على حساب حياة البشر: شركة ألمانية مجرمة أنتجت كمية هائلة من الألبان، حين فحصتها وزارة الصحة الألمانية وجدت أن نسبة الإشعاع بها أضعاف أضعاف النسبة القاتلة للإنسان سواء أكان طفلا أو رجلا، وهكذا أمرتها الحكومة الألمانية بالتخلص من تلك الألبان ولو كانت آلاف الآلاف من الأطنان، ودخلت الشركة في مفاوضات مع الشركات الأمريكية (أو اللجان الحكومية لا أعرف بالضبط) التي تخصصت في دفن النفايات الذرية والتخلص منها، لتتخلص من ذلك اللبن القاتل، ولكن السلطات الأمريكية رفضت أن تقوم بالعمل لكثافة الإشعاع، ولم يبق أمام الشركة الألمانية إلا أن تقوم بإعدام الألبان بنفسها، وإعدام تلك الكمية الهائلة وبطريقة لا يتم بها إعدامها فقط، ولكن أيضا بالتخلص من الإشعاعات المذابة الكامنة فيها، عمل مكلف جدا! لكن فكر عقل مجرم شرير في تلك الشركة الألمانية في ألا يتخلص من تكاليف ومجهودات إعدام الألبان فقط، ولكن أن يبيع تلك الألبان نفسها، ويحول الخسائر المتوقعة إلى ربح رهيب باهظ.
وهكذا أطلق سماسرته في دول العالم الثالث؛ لأنه يعرف أن تلك الدول لا تدقق كثيرا في فحص وارادتها الغذائية، وبالأخص لا تدقق كثيرا في المحتوى الإشعاعي لتلك الأغذية ومقاديرها.
وهكذا التقى هذا السمسار بمستورد مصري، مجرم هو الآخر، واتفقا على الصفقة، يشتريها المصري بأبخس سعر، وينجح فيها الألماني بالتخلص منها ويبيعها بأي سعر، أو حتى بإبعادها عن ألمانيا بلا سعر ولا تكلفة إعدام.
ووصلت الشحنة الأولى التي احتوت على ستة وعشرين ألف صندوق على مركب شحن إلى مياه الإسكندرية، وجرت، أو كانت جارية عملية الإنزال إلى الشاطئ تمهيدا لتمريرها من الجمرك وبيعها في الأسواق بنفس السعر الذي تباع به الألبان السليمة، وكان كل شيء جاريا في صمت وعلى أتم ما يكون من السرية والتوفيق، إلى أن حدث ما لم يكن أحد - لا الشركة الألمانية ولا المستورد المصري - يتوقعه، وأعلن رئيس وزراء المقاطعة الألمانية عن الصفقة الإجرامية، بل وحدد الجهة التي أرسلت إليها الشحنة القاتلة، ميناء الإسكندرية بالذات.
وكانت صحافتنا حسنة النية تماما، فنشرت تصريح رئيس الوزراء وخبر وصول الشحنة وخبر إنزال محتوياتها.
وغضب الرأي العام، وانصب غضبه على سؤال واحد: من هو المستورد المصري الذي ارتكب هذه الجناية العظمى في حق مصر وأطفالها وآدمييها، إلى هذا الحد كانت الأجهزة المصرية صامتة صمت القبور، وكأنها هي الأخرى في انتظار إعلان اسم المستورد ليتم القبض عليه وعقابه، ولكني فوجئت كما فوجئ الناس جميعا في مصر بالأجهزة المصرية وقد بدأت تتحرك.
بيان لمجلس الوزراء أن مصر لا يوجد بها أي لبن مشع وأن لا صحة لما نشرته الجرائد.
بيان من وزير الصحة يؤكد أن جميع الأغذية المستوردة ومنها الألبان تخضع لفحص ميكروبيولوجي وكيميائي وإشعاعي دقيق، وأنه لا صحة لما قاله رئيس وزراء ألمانيا ونشرته الصحف المصرية بحسن نية أو على الأصح «بسذاجة وغفلة».
وأنا أعرف الدكتور محمد راغب دويدار وزير الصحة وأعرف أنه كان من أكفأ أطباء الوزراء الذين عركوا مناصبها ومستويات تلك المناصب إلى أن أصبح - بكفاءته وتفانيه في عمله - وزيرا للصحة، وهو ربما أول وزير صحة يأتي من قلب أطباء وزارة الصحة أنفسهم وليس من خارجها كما جرت العادة.
بل وأعرف أنه لا يعد مسئولا أبدا عن تسرب أي غذاء فاسد أو مشع، وإنما المسئول هو جهاز يخضع لإشرافه؛ إذ هو لا يذهب بنفسه إلى الموانئ التي ترد إليها الأغذية ليفحصها.
وأعرف أن مجلس الوزراء لا علاقة مباشرة له بإجراءات فحص الأغذية، إنما علاقته بها علاقة سيادية أو إشراف سياسي.
ولذلك كان صدور تلك البلاغات التي تكذب رئيس وزراء ألمانيا الذي «تجرأ» وأعلن عن فساد ألبان ألمانية وحذر منها، ليبعد أي فضح عن بلاده وشركاتها، وكأنه هو المجرم الحقيقي أو هو الكذاب الذي يفتري على شركات بلاده، ويتهمها بالغش والجرم.
وحينما نقرأ أن الشحنة لا تزال في المركب خارج رصيف ميناء الإسكندرية وأن ما هبط عينات للفحص ليس إلا، وحينما أقرأ أن السلطات أمرت بإرجاع السفينة من حيث أتت، أقرأ شيئا متناقضا تماما، من نفي قاطع أن لبنا مشعا أو فاسدا قد استورد إلى مصر، إلى تأكيد أن الشحنة جاءت وفرغت وكانت في سبيلها إلى السوق وإلى المستهلك، وحينا أقرأ أن الباخرة محجوزة بعيدا عن الرصيف، وحينا أقرأ أنها أعيدت.
ولكنني أبدا أبدا لم أقرأ شيئا لا عن مجلس الوزراء، ولا عن النائب العام ولا عن أي جهة قضائية أو حجر صحي أو إدارة صادرات أو واردات عن اسم ذلك الجاني الغريب الذي تعاقد وشحن وجلب اللبن المشع القاتل، ولا يجرؤ أحد على إعلان اسمه، بل بدلا من هذا يقومون نيابة عنه بنفي التهمة كلية، وإبرائه من تهمة إدخال مواد قاتلة على هيئة غذاء للأطفال، كانت العلبة الواحدة منه كفيلة على الأقل بقتل طفل، أي تهمة الشروع في قتل 26 ألف طفل مصري بريء بسبق إصرار ووعي وترصد.
وأغلب ظني أني لن أقرأ اسم هذا المستورد ما دام مجلس الوزراء - بجلالة قدره - قد برأه، وأنكر وجوده، وأنكر أصلا أصلا وجود جسم الجريمة، وكأن جريمة كبرى لم تكن قد تمت أركانها جميعا بحيث إن أقل عقاب لمرتكبها كان لا بد أن يكون السجن المؤبد إن لم يكن الإعدام.
أجل، أيها القراء الأعزاء.
إن الذي قام بهذه الجريمة مصري عنده طاقية إخفاء باتعة الأثر، بحيث قام بكل ما قام به أمام سمع وبصر مجلس الوزراء وجميع أجهزة الدولة، دون أن يراه أو يعرفه أو سمع عنه أحد.
هل تفعلون مثلي وتموتون من الضحك؟
أم تموتون كمدا؟ •••
اختاروا أيا من الطريقتين، فكلتاهما أهون بكثير من الموت بالإشعاع السرطاني، وفي كل الحالات ستموتون دون أن تعرفوا أبدا اسم ذلك المجرم القاتل الذي لا يريد أحد أن يفصح عن اسمه.
إني أتحدى أجهزة الدولة بكافة مستوياتها أن تعلن اسمه وصفته؛ إذ يبدو أنه أقوى كثيرا من أجهزة الدولة.
المندوب الغائب
ولا أقصد بهذا، المندوب الغائب، بعض الرؤساء المسلمين الذين لم يحضروا المؤتمر.
إنما هو مندوب آخر، لن أنتهي من هذه الكلمة إلا وقد عرفناه.
فهذا ليس مؤتمرا إسلاميا آخر يعقد.
وليس مجرد منبر عربي إسلامي آخر سيقف كل رئيس أو ملك ليتحدث فيه حديثا بليغا عن «المخاطر» التي تحيق بالأمة الإسلامية وعن «التشرذم» و«الفرقة» التي أصبح عليها المسلمون اليوم، عن أحوالهم التي تدهورت، وأصبحت وسائل الإعلام العالمية وليس لها من عمل إلا نشر غسيل المسلمين على العالمين لكي يبدو قذرا، وإلا نشر أخبار الفضائح السياسية العربية والإسلامية وملء أدمغة الرأي العام الغربي بصورة مسلم إرهابي يخفي الخناجر والمتفجرات في عمامته، ولا يتوانى عن ذبح أخيه تحقيقا لما نطقت به طبيعته من حقد على الغرب والشرق معا، ونزعة إلى الإرهاب والإجرام عموما. نفس وسائل الإعلام والاتصال التي تولت تغذية مخيلة القرن التاسع عشر والعشرين بصورة اليهودي البخيل المرابي الذي لا يتوانى عن اقتطاع جزء من لحم أي بشري وفاء لدينه، صورة شيلوك شكسبير تاجر البندقية، لا، لقد ذهبت تلك الصورة إلى الأبد، وحلت محلها صورة يهودي حساس شديد التقوى متحضر السلوك واقف بأطفاله وشيوخه ونسائه مهددا من قبل عربي مسلم له لحية قاتل، وأنياب سفاك، يرتدي العقال ويحمل صرة الملايين ويهدد عالم الغرب وحضارته بالفناء.
لا، ليس هذا المؤتمر مجرد منبر آخر سيقف عليه كل رئيس أو ملك يعيد شرح الفضيحة العربية والإسلامية، ويناشد الضمير العالمي أن يستيقظ و«يحن» على عالم المسلمين بقليل من الرحمة والرأفة والقروض والتأييد.
نعم أخشى ما أخشاه أن يتحول مؤتمر الرؤساء المسلمين إلى «مكلمة» ومحزنة تلطم فيها الخدود وتشق الجيوب على الحال المسلم المائل.
فهذا أخطر مؤتمر قمة إسلامي يعقد.
ويعقد في أخطر مرحلة وصل إليها العالم الإسلامي والعربي منه على وجه التحديد.
ذلك الذي بدأ فيه المسلمون يأكل بعضهم بعضا، ويذبح بعضهم بعضا ويدمرون بلادهم بأنفسهم وبأيديهم، ويفعلون بأوطانهم ما لم يجرؤ على فعله أي تتار أو استعمار أو مغول.
ولهذا فإني، ومعي على ما أعتقد كل من بقي لديه ذرة من إدراك ووعي وبصيرة، نرجو من مؤتمركم هذا أن يكون شيئا آخر غير ما درجت عليه مؤتمراتكم؛ فهو ليس مؤتمر مسئولين أو حكام هذه المرة، وإنما هو مؤتمر مساءلين، أكاد أقول مؤتمر متهمين؛ إذ أنتم بأنفسكم الذين توليتم إيصال عالمنا العربي إلى تلك الحالة التي هو عليها، فإذا كان للمسلمين أعداء هم الذين يكيلون لهم الضربات تلو الضربات، فأقسى تلك الضربات وأشدها فتكا يأتيها منكم أنتم، من القيادات التي حضرت والتي لم تحضر.
حتى أوصلتمونا إلى مرحلة الهزيمة الكاملة.
أجل، بصراحة أيها السادة «اجتماعكم هذا» إذا وضعناه تحت عدسة الحقيقة المجردة، والواقع، والنظرة الموضوعية البحتة، اجتماعكم هذا هو اجتماع مهزومين.
الكلمة بشعة ومروعة، وأنا متأكد أن الكثيرين سيغضبون لها ومنها، وبل ربما كان رد فعلهم أشد وأقسى، ولكن الوقت أيها السادة كما قلت لم يعد وقت مجاملات، ولا وقتا لتهوين الأمر على النفس أو الضحك والكذب عليها.
لقد كذبنا على أنفسنا، واسمحوا لي أيضا أن أضيف كذبتم علينا طويلا وكثيرا، وكنا باستمرار نصدقكم، وكنا باستمرار نتلقف كلماتكم الهادرة التي تتحدث عن حتمية وقوفكم في وجه طغيان العدو، وتعهدكم أننا حتما منتصرون ... كثيرة وطويلة هي الخطب والتصريحات والخطابات الجماهيرية المباشرة في عشرات المناسبات، الخطابات التي تنطلق بل وتجأر بتعهدكم بالحفاظ على الأرض والعرض والشعب والوطن، وكانت الأحداث تتوالى وظلت تتوالى إلى اليوم، اليوم الذي وصلنا فيه إلى مرحلة الهزيمة.
وها هو ذا اجتماعكم التاريخي يحدث تحت راية الهزيمة وليس أبدا تحت ظل راية أخرى؛ فهو أبدا ليس اجتماعا تجتمع فيه على أثر انتصار ولو ضئيلا حققناه، وليس اجتماعا تحت ظل وضع إسلامي متأزم كالعادة ولا بد لنا من البحث عن حل لأزماته، إنما هو اجتماع، وأقولها بإيمان من آلى على نفسه ألا يخدع نفسه أبدا أو قارئه، اجتماع يقع في ظل هزيمة عربية وإسلامية، هزيمة تكاد تكون أبشع هزائمنا في طول التاريخ وعرضه، أبشع من هزيمتنا في «بواتييه» أمام الفرنسيين، أبشع من هزيمتنا في غرناطة أمام الإسبان وضياع الأندلس، أبشع من هزيمتنا أمام جحافل المغول وقبائل آسيا التركية، أبشع من هزيمتنا من فرنسا وإنجلترا بتهامة الحرب العظمى الأولى، بل أبشع من هزيمتنا الأولى في عام 1948 أمام إسرائيل. •••
في أعقاب هزيمة 48 بل وأثناءها حدثت لنا هزة عميقة أيقظتنا كلنا حكاما ومحكومين، أجل كلهم استيقظوا، الحكام بعضهم فقط هو الذي استيقظ، وبدأ يدرك مدى المصيبة التي حاقت وحلت، ويعي بانتفاضة الشعوب العربية والإسلامية القادمة ولا يقف أمامها، ويحاول مع الاستعمار ضربها، كما تصرف البعض بغباء الرجعية التقليدي، ولكنه فطن لها وانضم إلى قضية التحرر الإسلامية العربية التي كانت أرض الواقع قد بدأت تدمدم بها. أما أولئك الذين سدروا في غفوتهم وغفلتهم فقد أطاحت بهم عجلة التاريخ حين حركها الشعب الإسلامي وتحرك بها، ووقفت الشعوب الإسلامية العربية تنفض عن نفسها الغيبوبة التي كان يبقينا الاستعمار الإنجليزي والفرنسي تحت تأثيرها، وهبت أممنا من باكستان في أقصى الشرق، إلى المغرب الدار البيضاء، تدرك أن هزيمة 48 إنما هي هزيمة أنظمة وحكام طال تعاونهم مع الإنجليز والفرنسيين والغرب بشكل عام ... وقامت ثورة 23 يوليو، ثورة الشعب المصري العربي المسلم تعزل الملك الذي خان قضيتها وجعلها تدخل الحرب بأسلحة فاسدة وتقبل الهدنة الخائنة التي حدثت أثناء معركة 48 ليتحول الانتصار الذي حققته جيوشنا العربية الباسلة إلى هزيمة عسكرية، وإلى تدشين قيام دولة إسرائيل بالعالم كاملا، بغربه وشرقه، يعترف بها وبشرعية اقتطاعها معظم فلسطين واعتبارها دولة شرعية لها كل حقوق أعرق الدول، وليس عليها أبدا أي واجب من واجباتها.
وعادت جيوشنا التي كتفوها بالهزيمة إلى بلادنا لتدرك أن عدوا جديدا لم تكن قد عملت له ولوجوده حسابا، وكان كفاحها، وكانت كلمة الاستعمار حتى تقولها أو تدركها تعني فقط الاستعمار الغربي المجسد في الاحتلال العسكري بقواعده وقوته وعتاده.
أدركت جيوشنا ومن ثم شعوبنا أن الاستعمار قد غرس بيده شيئا قال هو عنه إنه دولة وقلنا نحن عنه إنه دولة مزعومة. وأكدت لنا قيادة ما تبقى من الجبهة الفلسطينية الوطنية أنها لن تبدأ حتى تلقي بتلك الدولة المزعومة في البحر وتعيد الأرض المغتصبة إلى أصحابها وتنتزع هذه الشوكة المسمومة التي غرستها قوى متآمرة كثيرة في قلب وطننا.
وبرغم أننا كلنا رحنا نتحدث عن هزيمة 48 وعن ضرورة وحتمية نشوب معركة جديدة تنتصر فيها الأمة العربية المسلمة، التي كانت لا تزال هي الحامية والراعية للقدس الشريفة موطن كل الأديان وكعبة كل المؤمنين، رغم أننا رحنا «نتحدث» عن الهزيمة، إلا أن القليلين جدا هم الذين وعوا حجم تلك الهزيمة ونظروا إلى أبعد من كونها معركة عسكرية هزمت فيها سبعة جيوش عربية، فقط نتيجة النظم المهترئة التي أثبتت فشلها في أول اشتباك عسكري مع عدو كان جيشه لا يزال في حكم العصابات الإرهابية التي بالكاد توحدت وانضمت، وبارجون تشفاي ليومي والهاجاناه، تشكل ما سوف يصبح اسمه بعد هذا جيش الدفاع الإسرائيلي، وما سوف يثبت أنه ليس مجرد جيش للدفاع عن مجتمع صغير ضعيف من المهاجرين الأوروبيين اليهود، إنما هو في الحقيقة ميلاد أخطر قوة استعمارية - لم تقد - وإنما زرعت وصنعت من قلب منطقتنا نفسها وأيضا في قلبها.
فكما أثبتت الوثائق بعد هذا لم يكن اختيار فلسطين لتكون قاعدة للاستعمار الاستيطاني القادم عبثا؛ لقد اختيرت لتشطر الأمة الإسلامية بشكل عام والأمة العربية بشكل خاص إلى شطرين كبيرين، تمهيدا للتشطير والتقطيع والتجزيء والتشرذم، والهزيمة الكاملة القادمة. ولو كان الوجود الإسرائيلي قد بقي على هيئة إسرائيل 48 بالضفة الغربية وجزء من الشرقية عربية وكذلك قطاع غزة وصحراء النقب والقدس، لما عاشت إسرائيل، ولماتت كما تموت الشتلة، إذا نقلت إلى أرض غريبة وبقيت على حالها، عملاق الشعب المصري يخرج من القمقم المحلي الذي حبسوه في داخله طويلا، القمقم الذي كان يؤمن بأن مصر بلد فرعوني التاريخ لا يمت بصلة في أهدافه وتوجهاته إلى البلاد العربية، وحتى إلى آسيا وأفريقيا، وأن تطلعه علميا وفلسفيا وحضاريا لا بد أن يتجه عبر البحر المتوسط إلى الشمال الأنجلوساكسوني ومن ثم الأمريكي. عملاق هائل خرج يغلي بفلسفة الثورة الجديدة المؤمنة بعروبة مصر وانتمائها الإسلامي الكامل وجذورها الضاربة في أفريقيا وآسيا، وتطلعاتها إلى وحدة عربية شاملة مع شقيقاتها العربيات، ووجود إسلامي عالمي يضمها إلى الإطار الإسلامي الأوسع الذي يجمع الشعوب المسلمة في آسيا وأفريقيا من شمال وجنوب شرقي آسيا إلى أفريقيا بشمالها وجنوبها ووسطها، وكل هذا العالم سواء في دائرته الأكثر صغرا، الدائرة العربية أو دائرته الأكثر كبرا، دائرته الإسلامية مركزها مصر، هي بمثابة القلب منه وهي الرابطة بين شرقه وغربه وبين أفريقيته وآسيويته وعالمه الثالث كله.
أجل شيئا فشيئا بدأت تتكشف ملامح المؤامرة الكبرى على العرب والإسلام اللذين يشكلان العمود الفقري للعالم الآسيوي والأفريقي الثالث، يتكشف أن اختيار إسرائيل - حتى ولو أنهم حاولوا إخفاءه بالشعارات التي لا تتوقف على أرض الميعاد وشعب الله المختار وحائط المبكى والحق التاريخي - يتكشف أن السبب الأهم يكمن في أنه من مثل هذا الموقع الذي اختير لتقوم عليه إسرائيل يمكن دق إسفين قاتل في قلب الأمة العربية أولا ثم العالم الإسلامي ثانيا ثم العالم الآسيوي الأفريقي الثالث كله ثالثا.
ولكن العقبة الكبرى أمام هذا الإسفين كانت واضحة وجلية لكل ذي عينين، مصر؛ إن وجود مصر الدائرة القومية المعادية للغرب الاستعماري، مصر العربية المسلمة غير المنحازة القائدة والمثل والمثال أمام شعوب آسيا وأفريقيا والعالم الثالث. وجود مصر، بهذه الخطورة في الموقع والمكانة وبتلك القوة التي بدأت تتبدى، هذا الوجود خطر رهيب على المشروع الإسرائيلي الأمريكي الاستعماري كله، يهدد بوأده والقضاء عليه.
ولهذا كان الهدف الأول طبيعيا ومنطقيا جدا، إن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تتكشف عن شعوب عربية وإسلامية أطاحت بالاستعمار القديم جانبا وتطمح إلى وجود مستقبل مستقل متين، ولكن ثبت أن تلك البلاد تمتلك في جوف أرضها أعظم كنز عرفه تاريخ البشر؛ كنز الطاقة البترولية التي يعتمد وسوف يعتمد عليها الغرب خلال - على الأقل - الأعوام المائة القادمة لكي يعيش ويصنع ويتدفأ ويأكل ويحيا ويرى؛ كنز تحيا فوقه شعوب عربية إسلامية «متخلفة» لولا مصر التي كانت قد قطعت شوطا طويلا في طريق التقدم.
فهل معقول أن يترك الغرب الإسرائيلي الاستعماري وضعا كهذا قائما؛ إن معناه ببساطة أن يسلم الغرب روحه و«زمارة رقبته» للعرب وللمسلمين ولرأسهم القائد والمدبر والقادر على إقرار «كادر» دفاعي تكنولوجي عامل مدرب يعمل من أجل أن تقبض البلاد العربية على ثروتها وأن تصبح ليس سادس بل ربما ثالث قوة عالمية .
إذن لا بد من ضرب مصر.
ولتكن تلك الضربة موجهة في نفس الوقت إلى العلاقات بين مصر وتلك البلاد العربية المسلمة من ناحية، ومن ناحية أخرى ضربة موجهة إلى العلاقات بين البلاد العربية نفسها وبين بعضها البعض، ثم بين البلاد العربية وبقية الكتلة الإسلامية الكبرى، ثم داخل الكتلة الإسلامية نفسها.
وتاريخ العرب الحديث كله، تاريخ مصر وتاريخ السعودية، والكويت والعراق والمغرب والجزائر وليبيا وموريتانيا، تاريخ باكستان وأفغانستان وحتى الصومال والسودان والحبشة ... هذا التاريخ كله بداية من أواخر الخمسينيات وإلى الآن هو شريط سينمائي واحد متعدد الفصول والأبطال، هذا صحيح، ولكنه تطبيق حرفي لسيناريو هدفه في النهاية ضرب القوة العربية والإسلامية الصاعدة والاستيلاء على مقدراتها وثرواتها وتأخيرها تكنولوجيا وحضاريا إلى أسوأ مدى، ولتكن البداية هي ضرب رأس الرمح الذي يهدد بتجميع هذه القوى وتكاتفها وتآزرها ... مصر.
وامسك معي أية بداية خيط وأي حدث سياسي أو عسكري وأي عراك عربي أو إسلامي أو إسلامي عربي أو إسلامي إسلامي أو عربي عربي، وتتبع هذا الخيط فستجده يوصلك دائما إلى الكابل الرئيسي للخطة، ضرب العمود الماسك بين المشرق والمغرب العربيين الواصل ما بين باكستان وماليزيا الرابط بين الرباط وموريتانيا ونيجيريا وحتى المسلمين في جنوب أفريقيا. ولم يكن السيناريو سيناريو تافها ككثير من سيناريوهات وروايات السينما المصرية أو الهندية التجارية ... كان سيناريو متقنا جدا ومحسوبا جدا ومدروسة كل تفصيلة فيه، دراسة خبراء كبار ودكاترة في علم قهر الشعوب.
ورثت أمريكا وإسرائيل كل الملف العربي الإسلامي الذي كانت قد جمعته وظلت تحتفظ به فرنسا وبريطانيا وهولندا وحتى ألمانيا للمنطقة والاتجاهات الدينية والطائفية والمذهبية وتاريخ كل هذا وذاك، تاريخ العلاقات والحزازات العرقية والقبائلية والأحقاد ونقاط الضعف ومفاتيح التفجير ... درست هذه الملفات كلها وذاكرتها ووعتها ثم بعقلية متقدمة جدا ودائبة جدا لا تيأس ولا تغفو راحت أمريكا الإسرائيلية وإسرائيل الأمريكية تنفذ المخطط لحظة بلحظة ودقيقة بدقيقة وتفصيلة بتفصيلة، مع الاستعداد الفوري لتنفيذ الخطط الجاهزة البديلة إذا حدث متغير غير متوقع. •••
والمضحك المؤلم المخجل أننا جميعا اشتركنا في تمثيل هذا المخطط وإنجاح الرواية، كلنا رغم أنوفنا في أحيان وبغفلتنا في معظم الأحيان وبغبائنا دائما وبانعدام الرؤية وقصور التفكير؛ ذلك أن التفكير والتدبير في مجتمعاتنا يحتكره الحكام، ولأن همهم الشاغل الأوحد هو المحافظة على كراسيهم، فإن الإحاطة بالرواية الرهيبة كلها ودورهم هم حتى فيها لم يكن محل تفكيرهم أبدا، زد على هذا أننا مجتمعات تفكر - إذا فكرت - بعواطفها، ولو حاول أحدنا إعمال تفكيره انهالت عليه الاتهامات أحيانا، الاتهامات المغرضة العميلة كي تشوهه، وأحيانا اتهامات الطيبين ذوي النيات الحسنة الأغبياء تماما غير المدركين ماذا يفعلون أو ماذا يراد بهم وبنا، غير واعين أننا نقوم بالدور كأي «كومبارس» أو ممثل ثانوي، ولا يعرف ولا يحيط بكل الرواية ولا يرى منها إلا ذلك الجزء الصغير الضيق القادر على رؤيته، بل والمعتمد على غفلته ليؤديه وببراعة الجاهل يفعل. حتى «عتاولة» الثوريين ضد أمريكا ونفوذها عهد إليهم هم الآخرون بأدوار ما، أدوار لم يلقنوها، هذا صحيح، ولكنها أدوار ردود الفعل المحسوبة؛ فمثلا حين تريد أمريكا أو إسرائيل أن تجعل العقيد القذافي يخدم هدفها فهي لا تذهب «بعبط» وتطلب منه أن يفعل كذا أو كيت، ولكنها تجعل مصر مثلا أو السعودية بناء على معلومات خاطئة أو مخطأة تفعل هذا الشيء أو ذاك، وتكون هي عارفة تماما أن مصر أو السعودية أو السودان إذا فعلت كذا فإن رد فعل العقيد سيكون «كيت»، وهو بالضبط ما تريده هي لتأخذ من فعلته حجة لتقوم هي في هذه الدولة أو تلك أو حتى على مستوى العالم بعمل هذه الشيء أو ذاك.
والأمثلة كثيرة وبالآلاف، ألم يرد الرئيس السادات بنفسه أنه قبض على عصابة من عملاء ليبيا كانت تنفذ مؤامرة لاغتياله وأنهم ضبطوا في أماكنهم وفي جيوبهم الخطط والأسماء والاتصالات والمخازن التي أخفوا فيها الأسلحة؟ لم يلحظ أبدا أي أحد أن السادات قال بعد هذا إنه علم بأمر تلك الخطط من السلطات المغربية، ومن أين علمت السلطات المغربية بالخطة؟ اتضح باعتراف بيجين نفسه أن المخابرات الإسرائيلية هي التي «عرفت» بها أولا وحارت كيف تخبر السادات بها والعلاقات كانت في قمة تأزمها بين مصر وإسرائيل، فوجد بيجين ومخابراته أن خير طريقة لإخبار السادات هي الإفضاء للمخابرات المغربية بالمعلومات، وأعتقد أن بيجين في هذه النقطة كان يكذب؛ لأن سبب لجوئه للمغرب هو لكي تأتي الأخبار للسادات من مصدر لا يشك فيه؛ إذ لو عرف أن المصدر إسرائيل لشك في الحال، وهكذا وصلت المعلومات إلى السلطات المصرية التي قامت بالقبض على المتآمرين في حالة تلبس أو شروع تلبس، ويومها اشتعل السادات غضبا وقال عن القذافي: والله لن يفلت من يدي.
وفعلا أصدر السادات أمره باختراق الحدود الليبية واختيار 23 يوليو بالذات وقاعدة جمال عبد الناصر ليضربها ويدمرها انتقاما لمؤامرة اغتياله. ولماذا نذهب بعيدا؟ إن معظم المعارك الطائفية التي تدور في لبنان معارك مدبرة بحيث كلما هدأت الأحوال بين هذه الطائفة أو تلك فوجئنا بعربة ملغمة تنسف في الحي الشرقي من بيروت أو الغربي، وتقوم قيامة الانتقام، وتلغيم السيارات من الناحية الأخرى ... وهكذا وهكذا بين أمل والمقاومة، أقول: كانت حرب 56 ثم حرب 67 المدبرة بإحكام أشد، ثم ثغرة الدفرسوار بعد العبور المنتصر، ثم زيارة القدس وما أسفرت عنه من نجاح ساحق في مقاطعة الدول العربية والإسلامية لمصر، ليس مصر الرسمية فقط وإنما مصر بمؤسساتها ومكانتها ودورها ... إلى حد وصل إلى طرد مصر من المؤتمر الإسلامي نفسه، مصر الأزهر، مصر محمد عبده والمراغي والإمام الشافعي، مصر الحسين والسيدة زينب ورفاعة الطهطاوي وهيكل وأحمد أمين ... طردها من عضوية المؤتمر الإسلامي أي طردها ك «دولة» من ملة الإسلام نفسه وزمرة المسلمين.
كان النجاح ساحقا وأكثر مما حلمت به إسرائيل وأمريكا، وبقيت في العالم العربي الإسلامي قوتان رهيبتان لا يقلان خطرا وأهمية عن مصر: بقيت إيران المسلمة الثائرة الخارج شعبها من قمقم السافاك والإمبراطور، والعراق التي بدأت تتوحد وتقوى وتصل إلى مرحلة المفاعلات النووية والتقدم التكنولوجي الخطر؛ فكان لا بد من ضربهما معا.
ونحن في عالم لم يعد سهلا أن تأتي بضع سفن أو طائرات بريطانية أو فرنسية أو أمريكية وتغزو وتضرب هكذا، على مرأى ومسمع من العالم، دولة عربية كانت أو غير عربية؛ فنحن لسنا في قرن الاستعمار العسكري الواضح: القرن التاسع عشر، وإن كانت أمريكا قد بدأت تعود بالدنيا إليه وتحتل جرينادا وتضرب بأسطولها طرابلس وليبيا أيضا في وضح النهار وفي الربع الأخير من القرن العشرين.
ولهذا كان الأروع والأوفق أن تجعل العرب يقضون بأنفسهم على أنفسهم أو أن تجعل المسلمين هم أنفسهم الذين يذبحون المسلمين.
والمضحك المبكي أني أقرأ بحوثا كثيرة ومطولة حول من بدأ بالعدوان على الآخر أهي العراق أو إيران، مع أن مسألة إشعال فتنة أو تحريض طرف على طرف ليست مشكلة أبدا في العصر التخابري المتقدم جدا؛ ذلك الذي تمر به المخابرات الأمريكية والإسرائيلية. إن تسريب معلومات خاطئة للعراق عن إيران أو العكس، وعن طريق طرف ثالث عربي أو إسلامي حسن النية مدسوسة عليه المعلومات، ليست مشكلة أبدا أن يحدث شيء كهذا؛ ففي مثل هذه الظروف التي يخوضها عالمنا العربي والإسلامي، والذي بلغت فيه الثقوب في أنظمة وأجهزة مخابراته ودفاعه أقصى مداها من الاتساع والعدد، من الممكن أن تعبث بأي دولة فيه كما تشاء، وتثير من العداوات بين أي دولتين كما تشاء.
لقد ذكر لنا الرئيس مبارك أثناء لقائه بالكتاب في معرض الكتاب أنه فوجئ بالإذاعات السورية الموجهة وأجهزة الإعلام تشن حملة مفاجئة على النظام المصري، وتطالب بعدم شرعية عودة مصر إلى المؤتمر الإسلامي، في حين أن المسائل كانت في طريقها إلى التحسن والتقارب بين مصر وسوريا، بل وبين الرئيس حافظ الأسد شخصيا وبين الرئيس مبارك. والحق وأنا أستمع إليه كانت الفكرة التي أوردها هنا تفسر لي ببساطة كل شيء، فهل كان معقولا أن تترك إسرائيل الأمريكية وأمريكا الإسرائيلية المسائل والمياه تعود إلى مجاريها ويحدث لقاء واحد أدنى من اللقاء بين سوريا ومصر مرة أخرى؟ كان لا بد من إيقاف هذا وبأي ثمن؛ فالنجاح الذي لاقاه الكتاب المثقفون والفنانون المصريون في سوريا والسوريون في مصر نجاح خطير، ومقدمة لا بد لحوار على مستوى سياسي يبدأ ويحل عقدا كثيرة جمدتها القطيعة الكاملة بين القاهرة ودمشق؛ ولهذا كما قلت كان لا بد من إيقاف هذا «العبث» فالمخطط لا بد أن يمضي إلى النهاية، وداخل هذا المخطط لا بد أن تبقى القاهرة مقاطعة تماما من طرابلس ودمشق ومن اليمن الجنوبي بحيث تبقى منظمة التحرير مقاطعة هي الأخرى، وبحيث يبقى الاشتباك اللبناني الشيعي قائما في لبنان وحرب المخيمات لا تتوقف وتحال القضية الفلسطينية لمخزن المحفوظات؛ فخط التمزيق والتحارب والحروب العربية العربية والإسلامية العربية والإسلامية الإسلامية لا بد أن يظل مستمرا ومستمرا؛ فلا تزال هناك بقية شبه سليمة من الجسد الإسلامي العربي، بقية لا تزال حية تنبض ولا بد من استمرار الخطة حتى يذبح هذا الجسد الإسلامي العربي نفسه ذبحا كاملا وتاما. •••
والآن أيها السادة المجتمعون.
أعتقد أني لا أكتب هنا شيئا جديدا ولا أزعم أني أزف اكتشافا لم يكن أحد يعرف عنه شيئا ... كلنا حكاما ومحكومين نعرف أن هناك خطة لتمزيقنا وإبادتنا، وأن هذه الحروب المشتعلة في هذا الجزء من العالم - لاحظوا أنه لا توجد حروب في العالم إلا في منطقتنا الإسلامية العربية، أو حتى أمريكا اللاتينية لا توجد بها إلا حروب عصابات محدودة - هذه الحروب المشتعلة في جزئنا من العالم لم تشعل نفسها أبدا، ولا كان اشتعالها مصادفة ولا استمرارها مصادفة أيضا؛ فقد ثبت أن أمريكا ضالعة في إرسال أسلحة إلى إيران، كما هي ضالعة في تضليل العراق، ولا توجد دولة في العالم تصفها أمريكا بأنها إرهابية إلا ثلاث دول، و«بالمصادفات المحضة كلها دول إسلامية، حتى جنوب أفريقيا لا تعتبرها أمريكا - وإن كان العالم كله يعتبرها كذلك - إرهابية.»
إن أمريكا الإسرائيلية وإسرائيل الأمريكية؛ بمعنى آخر الاستعمار العالمي الجديد ليس مشغولا بتدخين المارجوانا، وهو يعرف أنكم مجتمعون في الكويت، وأنكم لو خرجتم من اجتماعكم هذا بإجماع إسلامي، ولو على أبسط وأهون الأسباب؛ فإن في هذا خطرا عليه وعلى مخططه كل الخطر، فلا بد لهذا الاجتماع إذن أن يفسد ومن داخله يفسد؛ بمعنى آخر لا بد أن تنتقل الحرب الحقيقية الدائرة رحاها في شط العرب ولبنان لا بد أن تنتقل إلى قلب مؤتمركم في الكويت، بحيث تتولون أنتم بأنفسكم؛ إذ لا يوجد ممثل رسمي لإسرائيل الأمريكية وأمريكا الإسرائيلية في المؤتمر؛ إذ المهمة متروكة للمؤتمرين أنفسهم في تحقيق أهداف أي طموحات إسرائيلية أمريكية بيد مسلمة ولسان مسلم وفعل يجري باسم الإسلام.
هذا المندوب الغائب سيكون - لو علمتم الحقيقة - حاضرا بأكثر خطورة مما لو كان له مقعد واسم ولافتة ويمثل دولة، سيحاول هذا المندوب الغائب أن يشعل نيران الحروب الصغيرة التي تخصص فيها وبرع، وسيهرب متفجرات الحرب داخل حقائب السمسونايت مهما بالغتم في تفتيشها إلكترونيا؛ وذلك لتفتيت هدفكم الأوحد الكبير؛ ألا وهو حماية عالمنا العربي من التمزق والانتحار. تفتيت هذا الهدف إلى أهداف تافهة صغيرة وكثيرة تربككم وتربكنا، وتجعلنا نخرج من المؤتمر بخلافات وحزازات أكثر بكثير من التي دخلنا بها. سيفعل المندوب هذا والأدهى أنكم ستساعدونه كالعادة إذا تقمصتم نفس الأدوار التي تتقمصونها خارج المؤتمر. •••
وعلى هذا، فأمامكم أمران لا ثالث لهما:
إما أن تكونوا على علم تام بخطورة ما يقوم به أعداء الإسلام والمسلمين والعرب باعتبارهم العمود الفقري للعالم الثالث الذي يعاديه ذلك الاستعمار العالمي الطاغي. إما أن تكونوا على علم بأنهم يأخذون عداواتهم لنا جدا لا هزال فيه ولا يكفون ثانية واحدة في طعننا بهذا الخنجر أو ذاك. وفي هذه الحالة في حالة علمكم تدركون خطورة الموقف والوضع وموقف الحياة أو الموت الذي نقفه هذه الأيام، وتأخذون ليس قرارات وإنما أفعالا جادة للدفاع عن أنفسنا وحتى - كحكام - عن انقسام وإما ...
وإما أنكم لا تعلمون، وهذه كارثة، أو تعلمون وتخافون في وجه المخطط، كي يحافظ كل منكم على وضعه، بعيدا عن الشر ويغني له، وعلى هذا تمضون قدما في نفس الاتجاهات التي تدور خارج المؤتمر، وعلى هداها تدور الحروب ويدور إفناء العالم الإسلامي لنفسه ذاتيا.
فإذا فعلتم هذا ...
وأرجو أن لا تفعلوه.
لأن معناه مصيبة أعظم، ومن الشعوب العربية هذه المرة ستحيق - لا قدر الله - بكم الكارثة والضربة، ولأننا حريصون عليكم حكاما ورؤساء وملوكا وأمراء ورموزا لوجودنا وعقيدتنا وحياتنا ... فنرجوكم أن تفعلوا مثلنا وتحرصوا على أنفسكم من أن تصبحوا أدوات للاستعمار ومخالب قطط لتنفيذ مخططاته، في هذه الحالة عليكم أن تحرصوا على أنفسكم منا نحن؛ فللصبر حدود.
والشعوب إذا أرادت الحياة يستجيب القدر.
ونحن نريد، بإرادة الله، الحياة، حتى لو أردتم أنتم غير هذا.
اللص ذو الأقدام الكبيرة
بشق الأنفس، ولظروف شخصية قاهرة، فقد كان لي ابن يعاني منذ صغره بحالة ربو نتيجة لحساسية جسده الشديدة لتغيرات النفس، وبالذات في الصيف، حيث كنا أحيانا نستدعي له عربات الإسعاف حين تزداد الحالة ويكاد يتوقف عن التنفس، كان لا بد أن آخذ شقة في منطقة المعمورة بالذات لكي تقضي فيها العائلة، وبالذات ابني بهاء، شهرين على الأقل في السنة، يوليو وأغسطس، وأحيانا بعضا من سبتمبر، وفي أول الأمر، في منتصف الستينيات كان الموضوع لا يشغل أمرا صعبا أو مستحيلا؛ إذ كنا نحن مجموعة من الكتاب قد تعودنا أن نأخذ شاليهات للتصييف في بورسعيد، ورغم أن إيجار الشاليه المفروض كان فيما أذكر لا يتعدى الستين جنيها، إلا أنها كانت أقصى ما نستطيع دفعه من النقود في ذلك الحين، والحق أننا كنا مجموعة متكاملة تماما؛ فمن أستاذ علم الحكي والكلام والصحافة المرحوم سامي داود، إلى رائد فكرة الشعبية في الأدب والفن المرحوم أحمد رشدي صالح، إلى وحيد زمانه الولد الشقي محمود السعدني، إلى موسى صبري ذلك الحين، إلى الزميل الكبير حلمي سلام، إلى من لم تعد تعيه الذاكرة من أسماء، زمن جميل، الآفاق مفتحة، والمستقبل تحوم حماماته وترفرف كحمامات صلاح جاهين، ومصر انتفضت وتمضي قدما بعد ملحمة 56 ومجدها وحربها وخروجنا ظافرين، وظللنا هكذا إلى أن قامت حرب 67، وأبيد نصف بورسعيد، واحتلت قوات الجيش شققه وشاليهاته، واضطررنا اضطرارا للذهاب إلى الإسكندرية، وكانت النقلة باهظة على ميزانيتنا؛ إذ كان على العائلة منا أن تدفع مائة جنيه بأكملها في شقة مفروشة، ويا له من مبلغ باهظ في ذلك الحين.
المهم أن المائة أصبحت بعد عامين مائتين ثم ثلاثمائة، وبدأ «ربو» بهاء يتفاقم والمدة التي يجب أن نقضيها تطول، وحينذاك، وكنا جاوزنا منتصف السبعينيات وجدت نفسي مضطرا إلى تأجير شقة في الإسكندرية للعام كله أو ... وهذا هو المستحيل بعينه، الحصول على شقة تمليك.
كان ثمة طبقة جديدة قد بدأت تزحف، وكالجراد الممتلئة حيوية بنقود وافرة، تزحف وتقتني كل شيء، وكانت شركة المعمورة تطرح كل عام حوالي خمسين شقة، كان سعر الواحدة منها ثمانية آلاف جنيه، وبالكامل كانت الطبقات الصاعدة مع الحكم الساداتي والانفتاح الجديد تأخذها كلها، نقدا وعلى الفور، وذهبت إلى رئيس شركة المعمورة في ذلك الوقت وقلت له: أريد شقة. فقال: قدم طلبا، وأنت وحظك، إذا أصابتك القرعة دفعت ثمنها وأخذتها. وكان معنى هذا بصريح العبارة أنني لا بد أن أعتمد على الحظ في شراء الشقة، وثانيا، وهذا هو المستحيل بعينه: أن أدفع ثمنها في الحال، ولم يفد أي نقاش مع رئيس الشركة، حتى وأنا أذكره أنه مع أنه رئيس مجلس إدارة أو حتى لو كان وزيرا فإن ماهيته لا تسمح له أبدا باقتناء شقة بهذا السعر في ذلك الوقت (عام 78)، وخرجت وأنا محبط أشد ما يكون الإحباط، ولكن موظفا ابن حلال في الشركة لحقني على السلم وقال لي إنني ممكن أن أحصل على شقة بالتقسيط، وكيف يكون هذا يا عم؟ قال: أنتم ناس كتاب ومتصلون، اذهب إلى وزير الإسكان وقدم طلبا، ولن يدخلوك القرعة وإنما «سيخصصون» لك شقة، وسيقسطون لك ثمنها على عشر سنوات. وبدا كما لو أن المسألة قد فرجت، وفعلا ذهبت، وقابلت الوزير، وقدمت الطلب، وقابلني الرجل بكل ما يملك من ترحاب ولطف، ولكنه أفهمني بطريقة يفهمها كل لبيب أن الشقق التخصيص تأتي قائمتها من رئاسة الجمهورية مباشرة، وبالطبع رفضت الفكرة رفضا باتا أول الأمر؛ فأنا أبدا لم أتعود أن أطلب من رئيس الدولة، أي رئيس دولة، شيئا خاصا بي، حتى لو كان الأمر يتعلق برئتي ابني، وصرفت النظر عن الموضوع، وعدت إلى القاهرة. وبعد ثلاثة أيام حدثت للولد أزمة نقلناه ليلتها في عربة إسعاف إلى مستشفى الشبراوي، ولحسن حظي أنا أسكن قريبا من مستشفى الزميل العزيز الدكتور محمد الشبراويشي الذي أقام لنا في أول الأمر مستشفى صغيرا في الدقي ما لبث أن توسع، ولحسن الحظ لم يلحقه التأميم، وأصبح يجمع كل التخصصات ويقدم كل أنواع الخدمات الطبية وبأسعار في مقدرة موظف قطاع عام مثلي، شيء يعتبر نعمة في الوقت الذي كانت المستشفيات الحكومية قد ساءت الخدمة فيها، وقل الدواء، وإن كانت لا تزال تحتفظ بأساتذتها الكبار، وقضى بهاء ثلاثة أيام بأكملها وهو بالكاد يستطيع أن يلتقط النفس، ونصحني الدكتور حسن حسني أستاذ امراض الصدر وابن عمي في الوقت نفسه أن لا بد لبهاء أن يقضي أشهر الصيف القائظة وبالذات يوليو وأغسطس في الإسكندرية، أو رأس البر، وكانت بورسعيد لم تعد صالحة للإقامة أو قضاء الصيف، وكنت في ذلك الوقت أكتب مقالات دائبة النقد للحكومة وللدولة، ولكن تحت إلحاح المرض فإن أي أب في الدنيا يضرب عرض الحائط بأي اعتبار آخر، وهكذا ذهبت إلى المعمورة، وكتبت طلبا للرئيس السادات، شارحا ظروف بهاء، وبمنتهى حسن النية، إن لم يكن السذاجة، سلمت الطلب لضابط الحرس الجمهوري الواقف على باب الحديقة الفاصلة بين المعمورة وبين فيلات الرئيسين عبد الناصر والسادات.
والحق أني فوجئت بعد يومين أو ثلاثة بتليفون من موظف في الرئاسة يقول لي إن الرئيس السادات قد أمر بأن يدرج اسمي ضمن من تخصص لهم شقق من كبار موظفي الدولة والرئاسة، وأن يقسط ثمنها كما هو الحال بالنسبة للآخرين، وشكرت للرجل مروءته، فقد تصورت أنه أدرك أن الأثرياء من تجار الخردة والخيش لا يمكن أن يستولوا على كل المتاح من الشمس والبحر والهواء، بحيث لا يبقى ثمة ثقب إبرة لكاتب أو شاعر أو عالم أو موظف يفني عمره وحياته في خدمة بلاده، ولا يستطيع أن يملك أو يستمتع بصيف أو ببحر أو بهواء.
وكنا قد وصلنا شهر أكتوبر والعائلة - عائلتي - كلها سعيدة بأن مشكلة بهاء قد حلت، وأنه أبدا أبدا لن تتكرر مأساة كتم أنفاسه كل صيف. في ذلك الشهر أقيم الاحتفال السنوي بعيد العلم، ذلك الذي توزع فيه الأنواط والجوائز، ودعيت لحضوره، وجلست ومعي الفنان الكبير صلاح طاهر نشاهد فقرات الحفل، وفي الاستراحة فوجئت بالأستاذ فوزي عبد الحافظ سكرتير الرئيس السادات يأتي لي حيث كنا أنا وصلاح نقف، وينتحي بي جانبا ويقول لي: إن الرئيس قد سحب منك الشقة، أي شقة؟ شقة المعمورة واستغربت تماما وسألت: لماذا؟ قال: ألم تكتب مقالا في الأسبوع الماضي عنوانه: مطلوب واحد قانون؟ قلت: نعم، قال ما دمت تريد تطبيق القانون فقد قرر الرئيس أن يطبقه عليك ويسحب منك التخصيص. والحق أني أحسست بشيء كالغثيان، إنني أعرف أن معارف وأصدقاء للرئاسة وللمحافظ مخصصة لهم عشرات الشقق، وهل معنى أن أكتب مقالا أطالب فيه بأن يسري القانون على الكبير والصغير، دون أي استثناء أن أعاقب بمنع الهواء عن صدر ابني؟ مع أن التخصيص قانوني ويترك للمحافظ وللرئاسة نسبة تصل إلى 25٪ من الشقق المعروضة لبيعها مباشرة دون إدخالها نظام القرعة، قلت له: يا سيدي إذا كان القانون سيسود في مصر بإلغاء تخصيص الشقة لي، وسيصبح كل شيء في البلد على ما يرام فأهلا به من إجراء، وأرجوك أن تبلغ شكري للرئيس على هذا الإجراء «العادل».
والحق أن شخصية الرئيس السادات كإنسان أو كبطل تراجيدي أو درامي لم تنل حظها من التأليف، فقد كانت تلك «العملة» أصغر كثيرا من حجم رئيس الجمهورية بل ولم تفلح في عقابي أو إسكاتي، فقد مضيت أكتب مقالات من أمثال: تعالوا ننظف مصر، وتعالوا ننظف مصر ثانية، أقول: لا يزال الرئيس السادات لم يكتب عن شخصيته وعن تصرفاته كما يجب، فبعد أقل من 15 يوما يبدو أنه كان قد راجع نفسه ووجد أنه تصرف بما لا يليق به ككبير للعائلة المصرية، وأن إجراء سحب الشقة مني لا يؤذي إلا ابني الصغير الذي لا حول له ولا قوة؛ إذ وجدت في البريد خطابا من مكتب نائب الرئيس السيد محمد حسني مبارك يستدعيني لمقابلته بقصر العروبة، وكانت تلك أول مرة أقابله فيها، وقال لي إن الرئيس السادات حول الأمر إليه، وأنه ستخصص لنا شقة في العام القادم، ومعنى هذا أنها ستزيد بمقدار أربعة آلاف جنيه، لم يتول السيد النائب هذا، ولكن عرفته فيما بعد، ولم يكن مهما حتى لو كلفني الأمر ما كلفني طالما أنني لن أستيقظ أبدا على «شخير» ولدي حتى تكتم أنفاسه ليلا.
المهم، حصلنا في النهاية على الشقة، وما زلت من أيامها أدفع ثمنها بالتقسيط إلى الآن، وهي نفسها الشقة التي سرقت في رمضان الماضي، ولكن لا أكتب عنها لأروي القصة، أو لأستعرض حادث السرقة، ولكني أكتب من الموضوع لسبب قد لا يخطر على البال مطلقا.
فقد دق لي عبد العظيم البواب ذات صباح رمضاني تليفونا من الإسكندرية قائلا إنه اكتشف أن لصا اقتحم الشقة وطلب مني الحضور لمعرفة ما سرق منها، وذهبنا على عجل إلى هناك، وفحصنا الشقة، ولم نجد شيئا ثمينا أو ذا بال قد سرق منها، فماذا يمكن أن يوجد في شقة مصيف إلا بضعة كراسي أو شماسي وملابس صيف؟ الذي أدهشني حقا أن أثمن ما سرقه اللص كان أنبوبتي بوتاجاز، وكانا، نظرا لوجودهما في فراندة صغيرة ملحقة بالمطبخ هما السبب الذي من أجله كسر اللص «شيش» البلكونة، ودخل الشقة وأخذ الأنبوبتين، مع راديو كاسيت، ومروحة، وأشياء من هذا القبيل ...
وأخذت أتأمل حادث السرقة تأملا أعمق بكثير من مجرد كونه حادث سرقة، فمسألة أن يكسر لص باب شقة أو يقتحم نافذتها ممكن أن تحدث، ولكن أن يكون الدافع إلى السرقة، الدافع الوحيد، هو أنبوبتا بوتاجاز فارغتان، مسألة غريبة فعلا، إنسان يعرض نفسه لأن يضبط متلبسا بجناية أو جنحة سرقة واقتحام بيت من أجل الاستيلاء على أنبوبتي بوتاجاز مسألة قد تدعو في ظاهرها للضحك، ولكن في حقيقتها لا بد أن تدعو للرثاء، فحتى اللصوص قد أصابتهم الأزمة الاقتصادية وأصبحت مسألة أن يعرض إنسان منهم نفسه للسجن من أجل أنبوبة بوتاجاز لا يتعدى ثمنها الثلاثين جنيها مسألة واردة.
أبلغت البوليس بالطبع وجاء ضابط المباحث، وجاء «بوكس» فيه أربعة مخبرين، ومفتش من إدارة السرقات بمديرية أمن الإسكندرية، وجاء فنيون من المعمل الجنائي ورفعوا البصمات، وكانت النتيجة أن عاد ضابط المباحث ومخبروها بعدد من البوابين ليستجوبوهم، وما كاد الموكب يمضي حتى وجدت نساء البوابين وبناتهم وأولادهم يتقاطرون على الشقة، وكذلك بعض رجال المنطقة ويستعطفونني لأتوسط لهم في الإفراج عن أزواجهم في تلك الأيام الرمضانية الكريمة، وكان يستعطفونني ونظراتهم تحرجني، وكأني قد أصبحت أنا الجاني وليس المجني عليه المسروقة شقته، ووجدتني أقضي يومين في الإسكندرية رغم مشاغلي الكثيرة فقط للتوسط للإفراج عن البوابين وأمري إلى الله، وحين نجحت أخيرا في هذا عدت إلى القاهرة بخفي حنين، أو في حقيقة الأمر بدون خفي حنين، وهذا هو ما غاظني حقا، فرغم أن الحصول على أنبوبتي بوتاجاز وجدته أمرا مستحيلا فلا توجد في الإسكندرية كلها أنبوبة بوتاجاز واحدة، ورغم سرقة وسام الجمهورية وأشياء لها قيمة معنوية كبيرة، إلا أن ما أحزنني ولا يزال يحزنني هو أن اللص قد سرق حذائي ماركة «باتا» الذي كنت أعتز به كثيرا؛ ذلك أن مقاس قدمي 46، وفي الصيف لا أطيق ارتداء الجورب، وكنت أستبدل الحذاء والجورب بما يسمى «سباتري» ولعامين متتاليين وأنا أبحث عن سباتري على قدر مقاسي دون أن أعثر له على أثر، حتى إني ذهبت إلى بورسعيد خصيصا لاحتمال أن أجد هذا المقاس هناك، وعدت دون أن أعثر للمقاس على أثر، إلى أن ذهبت إلى شركة باتا في الإسكندرية وسألت البائع عن المقاس، فقال لي إن آخر مقاسات يصنعونها لا تتعدى 44، وبالصدفة البحتة كان رئيس الشركة الأستاذ عادل يمر، وحين عرف المشكلة ابتسم لي ابتسامة مصرية محببة وقال: سنصنع لك «سباتري» مخصوصا، وطبعا استنكرت أن يفعل هذا فقال لي: إنه لا يفعله استثناء ولكن هناك بعض المواطنين المصريين أحجام أقدامهم عريضة من الأمام مثل أقدامي ومنهم محافظ القاهرة الصديق يوسف صبري أبو طالب ووزير الخزانة السابق الدكتور سلطان أبو علي يعانون من نفس المشكلة؛ ومن أجل هذا صنع قالبا مخصوصا لهذه الحالات الشاذة، وأيضا للمواطنين الذين يدوخون الدوخات السبع ولا يجدون مقاسهم. وما أروع وأسعد اللحظة التي عدت فيها بعد يومين فوجدت زوجين من الإسباتريهات لا يتجاوز ثمن الواحد منها سبعة جنيهات، وحين جربتهما أحسست براحة لم أحس بها منذ زمن طويل، حتى إني كنت لا أكاد أخلع أيهما من قدمي، بل بهما أستطيع أن ألف اليابان كلها وجنوب شرقي آسيا، وبدونهما لم أكن أستطيع أن أتحرك أكثر من بضعة أمتار، وكنت أتركهما في الإسكندرية، والطامة الكبرى أني وجدت أن اللص قد استولى عليهما مع أنه كانت توجد أسفل الدولاب أحذية جلدية أغلى وأكثر أناقة.
إذن اللص كان يعاني مثلي من كبر القدمين ولا بد أنه فرح فرحة عمره بالعثور عليهما إذ كان ممكنا أن يأخذ من الشقة أشياء أخرى، ولكن فرحته جعلته يكتفي بهذه الغنيمة، وأنبوبتي البوتاجاز اقتحم من أجلهما الشقة، ولولا أنني وأنا في طريقي للقاهرة مررت على إدارة شركة باتا ورئيس مجلس إدارتها وقصصت عليه القصة فطمأنني أن القالب الكبير لا زال عندهم، وأنه يمكنني أن أحصل على سباتريهات أخرى لكانت تعاستي ستبقى إلى أبد الآبدين، وبالمرة تفرجت على إدارة ومصانع شركة باتا بالإسكندرية، وهي شركة قطاع عام، لولاها، ولولا أسعارها الرخيصة لمشى نصف المصريين حفاة، ومع هذا فهي تحقق ربحا مجزيا تماما، وتكاد في نظافة مبناها ومصانعها تعادل إن لم تتفوق على بعض مصانع القطاع الخاص، ومن هذه الجولة اكتشفت أن مشكلة القطاع العام ليست مشكلة اقتصادية أو عمالة زائدة أو كل تلك الأسباب التي نقرؤها صباح مساء، إنها مشكلة إدارة أولا وثانيا وثالثا، أعطني مديرا يحب عمله ويتقنه ويشيع تلك الروح في موظفيه وعماله يعطك قطاعا عاما ناجحا، أما الشركات والهيئات الفاشلة فسببها الأوحد في رأيي أننا نعين فيها أناسا لا يبحثون إلا عن شكليات الوظيفة وفخامة المكتب ونوع جهاز التكييف والتليفونات ذات النغمات الموسيقية. إنني أقترح على الدكتور محمد عبد الوهاب وزير الصناعة أن يأخذ مديري شركات القطاع العام الخاسرة في جولة على شركاته الناجحة، ويريهم على الطبيعة لماذا ينجح الناجح ولماذا تفسد بعض الشركات وتخسر.
إني أعدل إجابتي التي قلتها ردا على سؤال ضابط مباحث قسم المنتزه: هل تتهم أحدا معينا بسرقة شقتك؟
ساعتها قلت له: بصراحة أنا لا أتهم أحدا بالمرة.
اليوم أقول له: آسف يا حضرة الضابط إني أتهم لصا ذا أقدام كبيرة مقاسها 46، ابحث لي أرجوك في لصوص الإسكندرية والمعمورة البلد بالذات عن رجل أو شاب مقاس أقدامه 46 وستجد ضالتك المنشودة.
أقمنا مصيفا سياحيا فاخرا على أرض المعمورة وبقيت في وسطه تماما عزبة مليئة بضجة الميكروفونات والإزعاجات إلى ما بعد أذان الفجر، وفي أول الأمر حين كان سكان تلك العزبة من الفلاحين والزراع الذين يعتمدون في أكل عيشهم على أشجار الجوافة، وزراعة الخضروات أسفلها، كانوا أناسا طيبين وفقراء، ولكن ذممهم وقيمهم كانت مضرب المثل حقا، حتى إن حادثة سرقة واحدة لم تسجل منذ إنشاء المعمورة إلى ما قبل عدة سنوات، حين حدث الانفتاح الأهوج وامتلأت المعمورة بالطبقات الثرية الجديدة التي لا عمل لشبابها إلا ركوب سيارات آبائهم المرسيدس وضغط الفرامل بكل قسوة، والطلوع بالسيارة «أمريكاني»، بل حتى صبيتهم يزودونهم بموتوسيكلات مزعجة الصوت ذهلت تماما حين عرفت أن ثمن الواحد منها لا يقل عن الألفي جنيه، يركبه صبي في العاشرة، ويزعج البنات والأولاد راكبي الدراجات والسائرين على الأقدام، والراديوهات مفتوحة على الآخر وأغاني عدوية وسحر حمدي بأعلى صوت وعلى ودنه. فسد الصيف كمنتجع هادئ، وفسدت أيضا ذمم قاطني العزبة الذين بدأت تطلعاتهم الطبقية تتأجج والحصول على النقود ولو حتى باقتحام شقة وسرقة أنبوبة بوتاجاز حادثا عاديا تماما لا يستغرب له أحد.
أما أنت أيها اللص ذو الأقدام الكبيرة، فإذا كنت تستمتع بالحذاء وقد أراح قدميك فإني مستعد أن أسامحك وأرجو الله أن يغفر لك شريطة أن تعيد لنا أنبوبة بوتاجاز بأي سعر تحدده، وأقسم لك أني لن أفعلها أبدا وأبلغ عنك البوليس، فكيف يبلغ الإنسان عن رفيق أقدام وزميل دفعة واحدة، دفعة 46 التي منها سلطان أبو علي ويوسف صبري أبو طالب؟!
ويسميها انتهاكات الكلمة!
من حق كل زميل في جريدة أن يعلق أو ينقد ما يكتبه زميل أو كاتب آخر، أما أن يلوي هذا الزميل كلام زميله ويخرج به إلى عكس معناه ويسمح لنفسه بعد هذا أن يرد على الكلام المغلوط الذي اختلقه فهذا ليس من حقه فقط، ولكنه يتنافى مع أبسط مبادئ السلوك البشري، فما بالك إذا كان هذا الزميل ممن يزعمون أنهم من حملة راية السلوك الإسلامي القويم، ويكذب هذا الانتهاك الصارخ للحقيقة تحت عنوان - يا للجرأة - انتهاكات الكلمة.
في مفكرة سابقة كتبت أرصد التناقض الذي أصبح صارخا بين علو صوت الميكروفونات المتشنجة الداعية إلى الإسلام، وبين خفوت صوت الضمير، في حين كان المفروض في ظل ازدهار الدعوى للتدين أن تترسب هذه الدعوة على هيئة قيم ومبادئ وسلوك إسلامي قويم، فجاء الزميل ليقول إنني أهاجم التدين وألمز المتدينين وأستنكر ظاهرة تنامي الوعي الديني، فهل ممكن أن يفسر عاقل كلامي هذا الذي قلته على أني أستنكر ظاهرة تنامي الوعي الديني أم أني أستنكر علة نبرة الوعظ والتهديد والوعيد، والفارق بينهما كبير، فنحن جميعا مع تنامي الوعي الديني؛ لأنه الطريقة الوحيدة لترسيخ المبادئ والقيم وتقويم السلوك، أما الميكروفونية التي تزعج الناس وتشوش على تلقيهم وتأملهم لما يقال، فلا علاقة بينها وبين تنامي الوعي، إلا إذا كان الوعي عند الزميل هو القرين لغلظة أصوات الميكروفونات.
أنا لا أريد أن أسأل الزميل بأي حق ينصب من نفسه المدافع الأوحد عن الإسلام بعد سنوات قضاها يعمل بعيدا في البلاد الغنية، بينما نحن هنا نناضل بشراسة من أجل الحفاظ على تديننا الحق وقيمنا الإسلامية الحقيقية، وبأي حق يسمح لنفسه أن يختلق كلاما على لسان كاتب قرأ كلمة - في نفس الجريدة - كل الناس وكلهم شهود عليها.
إن الدعوة للإسلام دعوة حق وقائلها لا بد أن يتحلى بالصدق والتمسك بقول الحق؛ إذ إن الالتواء والإلواء لا بد أن يفقده صفة الداعية مهما حاول أن يتسربل بها.
ويكفي هذا الآن.
الهزيمة الثالثة
حسن جدا، فتورنا سببه موقف احتجاج لا واع على كثير، إن لم يكن كل شيء، مما يجري حولنا موقف احتجاج يدفعنا للإضراب غير المعلن بالطريقة التقليدية من اجتماعات ولافتات وهتافات وخطب، ولكن، كما ابتكر العمال الفرنسيون أثناء احتلال ألمانيا الهتلرية لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، ابتكروا فكرة العمل ببطء؛ إذ لم يكونوا في موقف أو لديهم القدرة على الإضراب العلني أو الامتناع عن العمل؛ إذ كان الجستابو الرهيب وقوات العاصفة ستتولى ضربهم وتحطيمهم وتخريب المجتمع الفرنسي تماما، وهكذا ابتكروا فكرة أن يعملوا وفي نفس الوقت، وفي الحقيقة، لا يعملون؛ فالعمل الذي يمكن الانتهاء منه في ساعة يأخذون يوما بأكمله لإنهائه.
ولكن هذا كان من عمل وابتكار قيادة الشعب الفرنسي المغلوب على أمره، قيادة المقاومة الفرنسية ومفكري وفلاسفة هذه المقاومة، وهي كما نرى فكرة ليست في غاية الذكاء فقط، وفيها تعجيز شبه كامل لعملية إنتاج الذخيرة والمعدات العسكرية التي كانت تطلبها وتحتاجها آلة الحرب الألمانية الهتلرية، ولكن فيها أيضا - وهذا هو المهم - فكرة ألا تطلب من الناس العاديين، عمالا كانوا أم فلاحين أم حرفيين أم متعلمين، ألا تطلب منهم شيئا يعجزون عن تنفيذه، أو يؤدي تنفيذهم إياه إلى تعريض هؤلاء الناس للخطر وللتهلكة.
ولو كانت قياداتنا العربية، خاصة تلك القيادات التي تدعي الثورية القصوى والصمود والتصدي وتنادي بالقضاء قضاء مبرما على إسرائيل مهما امتدت واستطالت فترة الحرب والتصدي، ولو كان هؤلاء الناس قد ذاكروا التاريخ، وبالذات تاريخ الشعوب التي قاومت أعداءها ومستعمريها، لأخذوا مما فعلته قيادة حركة المقاومة الفرنسية السرية، درسا.
فالناس العاديون ليسوا بالضرورة والسلفية والوراثة مخلوقات خارقة البطولة أو هكذا يجب أن تكون، وأيضا الأبطال لا يصنعون بالقسر والأمر والقوة، البطولة عند الإنسان العادي تنشأ بالتاريخ الشديد، وبالتصعيد خطوة خطوة، ونتيجة اصطدامات بالعدو يتبدى من خلالها، وبوضوح ظاهر، أن الملاينة أو الاستكانة أو غض الطرف لم تكن كلها تجدي، والنتيجة أن الإنسان العادي، وبمنطقه العادي، يصل إلى اقتناع جازم أنه إذا استمر على منواله المستسلم المسالم فإنه لا محالة هالك، فإن لم يكن بالضرورة هو شخصيا، فأولاده وإخوته وأقرباؤه لا محالة هالكون. هنا يصل المواطن إلى درجة اليأس من الحل الاستسلامي الكامل، ويبدأ يقاوم، فيضرب، ويحسمها، فيجد أنه إذا استسلم لضربة رد الفعل فإن ضربا مبرحا آخر ينتظره؛ ولهذا فإن الأسلم له والحل «المعقول» الأصح هو أن يرد الضربة، فإذا فعل رد العدو عليه بضربة أقوى، ويحسبها مرة أخرى ليجد أن لا سبيل لأي حل آخر، فشيء من اثنين: إما أن يتراجع تراجعا كاملا فيعامل معاملة الكلاب النجسة التي لا تليق بأي آدمي، وإما أن يستمر يقول لا، وقد يعذب لقولها وينكل به، ولكن هذا لن يشكل مشكلة؛ فالعذاب والهوان نتيجة الملاينة سيستوي معه العذاب والهوان نتيجة المقاومة، وبالضرورة سيختار المقاومة.
هكذا يصعد الإنسان العادي سلم البطولة، ومن مستوى سطح الأرض والمعيشة، خطوة فخطوة يجد نفسه مضطرا لأن يصمد كل حين خطوة، وإلا هانت عليه نفسه وقضي على كيانه المعنوي قضاء تاما مع الموت الجسدي.
أقول: لو كان قادتنا الثوار العظماء المتحمسون لمعركة لا ينال فيها أحدهم أذى، ولا تخدش له إصبع، وإنما يموت فيها الناس البسطاء العاديون، ويفرون هم هاربين في آخر لحظة، أو حتى قبل آخر لحظة، لو كان هؤلاء القواد العظام قد أدركوا حقيقة الطبيعة البشرية، وطبيعة دور القائد أو القيادة من أنها تسبق القاعدة بخطوة واحدة لا تزيد، فلا تطلب من الشعب أبدا أن يقفز قفزة أكبر بكثير من قدراته العضلية أو الإرادية، وإنما القائد الثوري الحقيقي هو الذي يطلب من قاعدته الشيء أو الخطوة التي يرى ويرى الناس معه أنها ممكن أن تتحقق، فإذا تحققت فإن الشعب يتعلم اولا أنه يستطيع الخطو - وذلك في حد ذاته إنجاز عظيم - وثانيا يثق في أنه قادر على خطوة تالية مقبلة، وثالثا، وهذا هو الأهم، يثق ثقة عضوية ملموسة في قيادته، ويعرف أنها تدرك إمكاناته، ولا تطالبه بما لا طاقة لها به، وأنها في النهاية تعمل لمصلحته وليس لمصلحتها أو لتضخيم ذاتها.
ولو كنا كقادة عرب، أو مصريين بالذات، قد وعينا هذا الدرس لأدركنا أن القوات المسلحة وحدها، ولا فرق الصاعقة ولا المخابرات، ولا حتى كل احتياطي جيوشنا كفيل بأن يحسم معركتنا مع الاستعمار ومع إسرائيل، فنحن كنا لا نحارب دولة أو جارة، وإنما نحارب أخطبوطا ضاربا بآلاف سيقانه ومخالبه في كل أرجاء الأرض، وأن لا يقدر على هذا الأخطبوط إلا الشعب كله، ليس الشعب المصري وحده، ولكن الشعب العربي وشعوب العالم الثالث كلها، ولكنا قد فعلنا كما فعلت المقاومة الفرنسية، وبدأنا نعلم شعوبنا خطوات ممكنة محدودة ليقوموا بدور في المعركة، دور لا يمكن أن يعطي للعدو فرصة لتوجيه ضربة ساحقة إلى جماهير بالكاد بدأت تعرف العدو من الصديق، وعن طريق الخطوة الصغيرة إثر الخطوة الصغيرة يتصاعد الدور ويشتد عود الإنسان الفرد والإنسان الشعب والمجتمع، ويتعلم أن عليه أن يقوم بدور ما، وأن القيام به أمر ممكن، وهكذا نصل إلى اللحظة التي يمكن فيها أن نقوم بعمل جماعي كبير مرة واحدة وفي لحظة واحدة؛ إذ حتى لو لم يؤد هذا العمل إلى دحر كامل للعدو وانتصار كامل لنا، فإن فشلنا فيه لن يشتت شملنا، وما دمنا قد ذقنا متعة الكفاح معا، والثقة بأنفسنا معا، فإن التاريخ سيعيد نفسه وأن لا نكل حتى ننتصر.
إن نجاح ثورة 19 مرجعه إلى أن المطلب الشعبي فيها بدا بسيطا جدا وممكنا جدا، وقانونيا جدا ولا غبار عليه، أن يجمع الشعب توقيعات يوكل فيها قادة ثورة 19 بأن ينوبوا عن الشعب في مفاوضة الإنجليز.
وكانت النتيجة أن شباب الوفد حين قام بجمع توقيعات وبصمات الملايين على تلك العرائض، قد جند - وهو يدري أو حتى دون أن يدري - كل من وقع أو بصم على العريضة للحركة الوطنية، وجعله يحس أنه «ساهم» وأن له دورا، وهكذا حين رد الإنجليز بنفي سعد زغلول ورفاقه، صعد الشعب في كفاحه خطوة، وأعلن الإضراب، وكانت المظاهرات، وحين رد الإنجليز بالقوة الغاشمة وبالعساكر الاستراليين وقد ركبوا بغالهم وانهالوا على الناس ضربا وتقتيلا، بدأت قيادات الوفد تفكر، بل وتكون، جيشا شعبيا مسلحا يقاوم هذا العدوان المسلح.
وحين نما إلى علم الإنجليز هذا الذي بدأ يحدث ، والإنجليز قوم أذكياء لهم باعهم الطويل وتجاربهم في مقاومة الحركات الوطنية، بدءوا يدركون أنهم سائرون في طريق ماحق الخطر سينتهي حتما بمعركة مسلحة عليهم أن يخوضوها ضد شعب كامل مسلح، وكان أن أفرجوا عن سعد زغلول وقبلوا رياسته لوفد المفاوضات. •••
تلك مقدمة قد طالت وأطلتها عن عمد لأهميتها، فمن الواضح أن شعبنا المصري وحكومتنا المصرية يعاني كلاهما أزمة حكم، فلا الشعب يريد أن يعود إلى الحكم الذي جرى حتى في أمجد أيام ثورة عبد الناصر، ولا هو يريد أبدا حتى لو قامت المجازر أن يعود إلى حكم كحكم السادات، وفي العالم العربي حوله يرى غير هذين النموذجين حكومات قامت على التعصب الديني الأعمى أو الحكم العسكري الديكتاتوري وكلها نماذج، جربنا بعضها، ونقرأ الكثير عن المآسي التي تنشب من ورائها، ولقد رحب الشعب بزوال العهد الساداتي، وفتح أبواب آماله مرحبا بمجيء مبارك إلى الحكم، على اعتبار أنه لن يكرر كثيرا من أخطاء عبد الناصر في عنفوان حكمه، لن يفكر أبدا في أن يحكم على النسق الساداتي، وفعلا، جاء مبارك تزفه تلك الآمال ويزفها هو إلى الشعب، ولم تكن مصادفة أبدا أن كان أول عمل سياسي داخلي يقوم به أن يفرج عن آلاف المعتقلين، بل ويقابلهم في القصر الجمهوري مقابلة ترضية خاطر وما يشبه الاعتذار عما فعله سلفه، وانتخبنا، في إجماع حقيقي لأول مرة، حسني مبارك رئيسا، وسرت في الشعب روح أمل جديدة، خاصة وقد بدأ حكم مبارك يمسك بتلابيب لصوص عصر السادات ورموز فساده ويحاكمهم ويسمح للمعارضة باستعادة أحزابها وجرائدها وبكم أوسع من الحرية، وما لبث أن أعقب هذا بالتفاتة ود إلى الدول العربية التي انتهزت فرصة ما فعله السادات وقطعت كل ما بينها وبين - ليست القاهرة الرسمية فقط ولكن - الشعب المصري كله، بنقاباته وتنظيماته وهيئاته.
وبدأ مبارك بمنظمة التحرير، وتلك كانت بداية هامة جدا، وفي بضعة شهور كان عرفات في القاهرة، وكانت قيادة المنظمة توافق على دوام الاتصال مع مصر والتعاون معها، ثم جاء دور الأردن، ودول الخليج، وحدثت محاولات مع ليبيا وسوريا، وبدا كما لو أن الأرض التي فقدتها مصر في عهد السادات عربيا تسترد شبرا شبرا، وبلدا بلدا ... حتى ليكاد الإنسان وهو يراجع سياسة مبارك العربية لا يجد إلا أقل القليل من المشاكل والأخطاء، وكلها موروثة بكليتها من القيود التي قيدها بنا الرئيس السادات، بتلك العلاقات الخاصة جدا مع أمريكا، وبالتعاون الاستراتيجي الإسرائيلي الأمريكي الذي في ظله لن تستطيع مصر وحدها أن تجابه ذلك التحدي، ولكني شخصيا أعتقد أن تلك القيود أمور موقوتة تماما، وأن باستعادة مصر لقدرتها وقوتها الذاتية، واستعادة الالتفاف العربي حول مصر ومع مصر، سوف يتغير الحال حتى بدون قتال.
فالمضحك أن بعض البلاد العربية «الصامدة والرافضة» تتصور أن كامب ديفيد لا تزال هي السبب في المصائب التي حلت والتي لا تزال تحل بالأمة العربية جمعاء، وهو قول يبعث حقا على الرثاء؛ فلم يحدث في تاريخ العالم أن تسببت معاهدة - مهما كانت بنود تلك المعاهدة - في تفرقة أمة بأسرها وتمزيقها نتفا. إن كامب ديفيد كارثة هذا صحيح، كارثة بكل معنى الكلمة، ولكن كامب ديفيد هي الجزء الظاهر الصغير من جبل الثلج المختفي تحت سطح الماء والذي تعانيه أمتنا العربية.
لقد حولت كامب ديفيد انتصار أكتوبر العسكري إلى هزيمة سياسية، حتى لو كانت قد أدت إلى تحرير سيناء، فقد كان ثمن تحرير سيناء هو عزل مصر عربيا وإسلاميا وأفريقيا وآسيويا، وهو ثمن فادح، ولكن كل بلد عربي قد قام بما يشبه كامب ديفيد بل وربما أسوا: فغرق الجيش السوري في الوضع اللبناني إلى درجة الشلل التام الذي ألغى فاعلية سوريا، والوقيعة بين العراق وإيران إلى حد إراقة كم من الدماء لم يرق في كل التاريخ الإسلامي بين دولتين إسلاميتين، وتشويه سمعة العرب بإلصاق تهمة الإرهاب بليبيا وضربها على مرأى ومسمع من العالم، دون أن تستطيع دولة عربية أو غير عربية أن تصنع شيئا إزاء هذا الإرهاب الريجاني الإجرامي، والاشتباك الليبي التشادي، والصومالي الحبشي، والسوداني-السوداني، والشيعي الفلسطيني الماروني الدرزي السني، والمؤامرة على سعر البترول والنزول به من حيث كان 34 دولارا للبرميل إلى سبعة وعشرة دولارات (تلك التي سميتها مذبحة صابر وشاتيلا البترولية)، ضرب المفاعل النووي العراقي، وضرب الكوماندوز المصريين واختطاف الكرامة المصرية الطائرة واتهام مسئوليها - علنا وعلى الملأ - بالكذب، ثم أخيرا هذا العمل الإجرامي الكبير بتزويد إيران بأسلحة عبر إسرائيل، وإعطاء العراق معلومات خاطئة عن أهداف إيرانية كاذبة، والوقيعة بين الفصائل المتقاتلة في لبنان، بحيث إذا هدأت الأحوال بين أمل والمنظمة فجرت سيارة ملغمة في قرية شيعية ليظن أن الفلسطينيين هم الذين فعلوها، أو يحدث العكس ويفجر صاروخ أو لغم في مخيم فلسطيني لتقوم القيامة بين اللبنانيين الشيعيين والفلسطينيين. إن تشويه سمعة العرب ومحاولة دمغ سوريا بأنها دولة إرهابية، وكذلك ليبيا، وفي نفس الوقت التعامل مع ما سماه كارتر وريجان الدولة الإرهابية الأولى في العالم، إيران، ثم بالغش والخديعة والفجور إرسال أرباح الأسلحة المباعة لإيران عبر إسرائيل إلى المناهضين للحكومة الشرعية في نيكاراجوا، أي ضرب العالم الثالث بالعالم الثالث، كلها أعمال ليست فقط غير أخلاقية، وغير إنسانية، ولكنها أعمال مافيا مجرمة محترفة آلت على نفسها أن تسيطر على العالم بالقوة الغاشمة، وأن تنفق مئات المليارات من الدولارات لإشعال حرب ذرية يفنى بها العالم الاشتراكي والعالم الثالث، وإغراق دول الجنوب الفقيرة بمئات المليارات من الدولارات كديون، وفي نفس الوقت خسف الأرض بأسعار منتجاتها التصديرية لتبقى مغروسة في وحل الدين والفقر والمرض والفاقة إلى آذانها.
كل هذا تفعله دولة أفلتت كالوحش الكاسر من قفص السلوك البشري، وانطلقت أسودها ونمورها وثعابينها وكلابها تنهش وتقتل وتحرض وتقهر وتستأصل أي قيمة بشرية أو إنسانية وأي شريعة من شرائع الله، تبشر بكل ما يزخر به قاموس الشيطان من موبقات، لقد أتيح لي أن أشهد بعض أحدث إنتاج هوليوود من الأفلام، وفوق أنها كلها دعاية في غاية الذكاء، والعبقرية لشعب الله «المختار»، المختار ليلعب أسوأ دور لعبه شعب في تاريخ البشر، فإنها تقطع الجذور العميقة التي تربط الإنسان الفرد او الشعب بجنس البشر، وكان هدفها الأسمى أن تحول الكرة الأرضية إلى غابة متوحشة لا يسري فيها أي قانون، حتى لو كان قانون الغابة نفسها حيث البقاء للأقوى، إنما البقاء فيها للأحط وللأخس وللشاذ وللأناني والخيبة والفشل والضياع، وكل من يحاول أن يتحلى بصفة واحدة من صفات الإنس أو حتى الوحش. •••
لا يمكن أن يكون هذا كله قد حدث لأن مصر لا تزال ملتزمة، حكوميا فقط، بكامب ديفيد، فإذا كان لكل شيء سيئ جانبه الحسن؛ فالجانب الحسن في كامب ديفيد أنها أقنعت إسرائيل وأمريكا أن أي معاهدة صلح أو اعتراف توقع مع أي حكومة عربية على حدة، أو مع عدة حكومات عربية، ولا يكون العدل والحق هما أساسا توقيعها، فهي لا تساوي المداد الذي كتبت به، وآلاف السياح الإسرائيليين يأتون إلى مصر، وما يرونه في عيون الناس، وما يقرءونه في تعبيرات وجوههم، يؤكد لهم بالدليل القاطع أن صلح حكومة مع حكومة لا قيمة له بالمرة، أما الشعوب فهي لا تقبل إلا الصلح العادل، وطالما أن إسرائيل باغية ومعتدية وملتهمة لفلسطين كلها، ولاعبة دور الشيطان في المنطقة فإن أحلامها في الصلح هي أضغاث أحلام، وغربتها في المنطقة ستظل تتعانق مع الزمن؛ إذ الزمن باستمرار العدوان هو مع تعميق العدوان وفي النهاية انفجاره.
كل ما في الأمر أن هناك شيئا واحدا لا بد أن نملك الشجاعة لقوله والاعتراف به: إن ما نراه في ساحتنا العربية من تمزق وتشرذم وانعدام إرادة وتفتت كلمة وقرار، إن ما نراه يحدث في منطقتنا منذ عام 1979 إلى الآن إن هو إلا علامات هزيمة غير معلنة، أقولها مرة أخرى: علامات هزيمة غير معلنة.
والهزيمة أبدا ليست كارثة، وكلمة الزعيم الصيني الكبير صن يات صن لا تزال ترن في أذني حين فشلت ثورته ضد الاحتلال الياباني فقال: ليس هذا سوى فشلنا أو هزيمتنا الثالثة عشرة.
إن أولى بوادر الانتصار هي الكف عن مخادعة النفس، والاعتراف أنك هزمت، وأولى بوادر النجاح هي إيقاف التحجج بالأسباب الواهية والاعتراف بأنك رسبت، فحين يدرك الإنسان أنه فعلا يعاني هزيمة، وأنه فعلا قد فشل في تحقيق الهدف فإن الطبيعة الإنسانية سرعان ما تكتسب القدرة على التحدي، وتتشكل لها من داخلها قوة مارد أعظم تبادر إلى الاستعداد للتحدي القادم، ومن ثم إلى النجاح والانتصار، ولولا أننا اعترفنا بأننا هزمنا عام 1967، بل وجاء هذا الاعتراف على لسان قائدنا العظيم نفسه، بل واعتبر أن الهزيمة هي أولا هزيمته شخصيا، وبادر وأعلن أنه مسئول عنها، لولا هذا ما ركبتنا روح التحدي ولما بدأنا الاستعداد الجدي للمعركة المقبلة، ولما بلغ التحدي مدى جعل الجيش المصري الباسل ينطلق كالمرجل المغلي يحطم خطوط أعدائه ويلحق شر الهزيمة بهم. •••
نعم، إن كل الأعراض على ساحتنا العربية تؤكد، لكل ذي عينين، ولكل أعمى أنها علامات هزيمة لا يعانيها عالمنا العربي فقط، ولكن العالم الثالث كله يعانيها.
وإذا كانت تلك الهزيمة قد أخذت شكل الصراع بين الطوائف في بعض بلادنا العربية، وشكل الحروب بين نظم ونظم، وشكل عملاء يحكمون ووطنيين يحكم عليهم، شكل سيادة الفرقة والتعصب، شكل الهروب من الجهاد في سبيل الله إلى الإغراق في شرح النحو والصرف وسحب روح التضحية والفداء والإيمان من ديننا الحنيف وتحويله إلى ما يشبه التعاويذ، وموضات الأزياء والحجاب، وإسقاط هزيمة الرجال على جنس النساء واعتباره أنه الجنس الخاطئ والمذنب والمثير للفتنة على الأرض (أي إحلال نسائنا الفاضلات محل الاستعمار والصهيونية في غرس الفتنة وتضليل الجماعة وإغواء الفرد).
إذا كانت الهزيمة على المستوى العربي العام قد أخذت هذا الشكل، فهي في مصر قد أخذت طابعا - في رأيي - أكثر خطرا؛ إذ هي أوصلت الإحساس بالهزيمة إلى قلب وعقل الفرد نفسه، إن لا مبالاتنا، إن فتورنا، إن يأسنا، إن كرهنا لبعضنا البعض، إن معصياتنا في حق أنفسنا وفي حق دولتنا التي كثر فيها: نهب الأموال، وشيوع الارتشاء، والتكالب على الطعام والشراب واللذة المريضة العابرة.
بل أن يؤدي الحال إلى أن تصل الهزيمة إلى الحد الذي أصبح أسهل شيء للمواطن المصري أن يقول: ليس هناك من فائدة ترجى. وسعد زغلول قال: ما فيش فايدة، ومصر حالة ميئوس منها، أو أن يصل إلى الحد الذي أصبح منتهى الأمل الهجرة والإقامة في مجتمع يتمتع بالنظام والصحة والعدل والتقدم، إلى أن تيأس تماما وتكفر، كل على حدة. إننا ممكن أن نصنع من أنفسنا شيئا، ومن بلادنا دولة قوية قادرة، ومن ديوننا وفرة نرفع بها عن كاهلنا عبء اليأس والمذلة والخضوع.
ذلك هو الشكل وتلك هي الأشكال التي أخذتها الهزيمة الثالثة في بلادنا الحبيبة مصر.
في الهزيمة الأولى عام 1948 رفضناها واستنكرناها وقامت ثورة 23 يوليو ترد لنا الاعتبار، وترد لنا الإحساس أن العالم لم ينته بهزيمة 48، وأن العمل الجاد لا بد أن يبدأ، في هزيمة 67 اكتشفنا أننا هزمنا لأننا قمنا بثورة على الورق، فإجراءاتنا فيها كانت قرارات، وقواتنا المسلحة تركناها لمن لم يرعها ومن لم يكون بها جيشا حقيقيا للخلاص.
وكان أن شددنا الأحزمة على البطون، وبنينا قواعد الصواريخ تحت وابل القنابل الإسرائيلية، حتى إن العمال والعاملات الذين كانوا يعانون في بناء تلك القواعد، وكان معظمهم من أبناء الشرقية، كانوا يعرفون أن ثلثهم على الأقل لن يعود لبيته - إن كان له بيت - في آخر النهار، ومع هذا فقد كانوا يذهبون إلى عملهم وهم يغنون أغاني الأفراح ويغردون وكأنهم ذاهبون إلى زفة انتصار.
وهكذا عبرنا القنال في 73 وانتصرنا. •••
في هزيمتنا الثالثة تلك، نحن لسنا أمام هزيمة عسكرية ملموسة، ولا بضعة قواد من الجيش ممكن عزلهم ومحاكمتهم وإحلال غيرهم - أكثر كفاءة - محلهم ... نحن أمام هزيمة لا نرى لها آثارا ملموسة واضحة، وكأنما قصد أن يكون الأمر كذلك، إنها هزيمة نحس بأعراضها، ولكننا لا نعترف بأننا مرضى وأننا مهزومون وأننا في حاجة إلى هبة كبرى، من كل النواحي، توقظ جسدنا الذي خدرته قرصة ذباب، تسي تسي، التي تسبب مرض النوم المستمر العليل.
أعرف أن الكثيرين سيزايدون ويغالون ويقولون: بل أنت المهزوم، بل أنت المخطئ، بل أنت النائم، وشيء من هذا لا يهمني من قليل أو كثير، ليت الأمر كذلك، ليتني النائم المقروص في شعب صاح حي، وليت كلماتي كلها تخاريف حمى، فأنا أعلم وأنتم تعلمون أننا كلنا نعاني نفس الشعور، وما دام الأمر كذلك؛ فالمرض عام، وسببه واحد: مهزومون يخدعونهم بقولهم إنهم غير مهزومين، بل يريدون إقناعهم بأن المسألة «شوية ديون، وشوية سلبيات، وشوية انحرافات» وبإجراء هنا وإجراء هناك، بالمحافظة على الديمقراطية، وعلى القائمة النسبية ننقذ أنفسنا منها ونشفى.
لا، هذه هزيمة ألبسوها طاقية إخفاء بحيث لا نراها، ولن نراها إلا إذا توقفنا لحظة ورمقنا حياتنا، وما نعانيه ونحسه في لحظة صحوة، فإنني لأكاد أقسم أننا إذا تبينا الصورة لومضة فلن ننام بعدها أبدا، أجسامنا نفسها سترفض النوم وتأباه، قوى الحياة التي نحن بالضرورة مزودون بها، ستستيقظ وترفض وتقول: لا لن أقبل، ولن نقبل أن نحيا مهزومين.
فحتى الديدان ترفض حياة الهزيمة، وتزحف ملليمترا ملليمترا، لتخرج من المأزق، وتنقض على فريستها أو عدوها وتنتصر.
حتى الديدان إذا أيقنت أنها هزمت أو في سبيلها لأن تهزم، تنتفض فيها كل ما تمتلكه من قوى المقاومة، وتستحيل من إرادة الدودة حيث ركنت واستكانت إلى إرادة العملاق المستوحش في الدفاع عن حياته وعن حقه في حياته، وقدرته على هذا الدفاع.
لقد بدأنا القضية بعرض الفتور، ثم اكتشفنا أن الفتور راجع لحالة الغضب، وها نحن أخيرا نضع أيدينا على سبب الغضب أنهم قد هربوا الهزيمة إلى كل منا دون أن يدري، ولأنه لا يدري فهو لا يملك أن يصنع لغضبه أو لفتوره شيئا.
ربما إن أدرك السبب، وبطل العجب، وأيقن أن الهزيمة وصلت إلى عقر داره وتجويف صدره، انقلب غضبه من الآخرين إلى غضب على هزيمته الخافية وانقلب غضبه على الهزيمة، ومنها إلى إرادة عظمى لقهرها، وهزيمة الهزيمة.
ولأننا نعرف حال إنساننا وما آل إليه.
فلا تطلبوا منه ولا تتوقعوا أن يهب من نومه المريض أو مرضه النائم فجأة، ويمتشق حسامه ويقضي على الهزيمة وهازميه بضربة واحدة.
ليكن مطلبنا منه مثلما فكرت ودبرت قيادة المقاومة الفرنسية أيام الاحتلال، شيئا بسيطا جدا في استطاعته، ومن أمكن أن نبدأ به، وتصعد مع البداية خطوات فوقها خطوات، إلى أن تصل إلى العمل الجماعي الكامل العملاق.
ليكن شيئا بسيطا جدا لا شعار «اشتر البضائع المصرية» ولا «تشجعوا منتجاتنا المحلية»، ولا حتى شعار أن يشتري الإنسان شيئا على الإطلاق.
لتكن البداية أن نطلب من المواطنين عكس ما طالبت به المقاومة الفرنسية أن يسرعوا في إنهاء الأعمال المطلوبة منهم.
فقط يسرعون في إنهاء الأعمال المطلوبة منهم.
فقط ينجزون في ساعة ما يأخذ ساعتين لإنجازه.
بهذا ومن هنا نصعد السلم ونتعلم خطوة خطوة أن نصعد، إلى أن نبلغ الدرجة التي ينقلب فيها غضبنا على ما ساد حياتنا من تراخ وفتور إلى غضبنا على الشعور الخفي بالهزيمة الذي استخفى علينا، ومن غضبنا على إدراكنا أننا هزمنا إلى إرادتنا الكبرى: أن نهزم هزيمتنا ونقهرها.
دعونا من الحديث عن الجبهة والحوار الناصري الإسلامي وأخبار الشيخ صلاح أبو إسماعيل مع حزب الأحرار، وعن المقارنة بين عبد الناصر والسادات وبين عصر الملك وعصر الثورة.
دعونا من هذا كله.
ولنبدأ بهذا الجهد الصغير القادرين عليه تماما: أن نسرع إذا مشينا، أن نسرع إذا عملنا، أن نسرع في اتخاذ قرارنا، أن نسرع في تصحيح خطتنا ... أن نسرع بنفس النسبة التي تسرع بها الدودة إذا أحست بالخطر وأدركت أن بطأها هزيمة وهزيمتها في بطئها.
عبقرية المعارف
أعتقد أن الكتابة عن الأمراض عامة، وعن أمراض الكاتب خاصة، مادة غير محببة إلى القراء، ذلك أني أعتقد أن القارئ مثقل بالمشاكل، صحية كانت أو غير صحية، ويريد، إذا قرأ، أن يقرأ شيئا آخر، ولكني هنا لن أتحدث عن مرض خاص أو عام، ولكني أتحدث عن ظاهرة مصرية أصبحت فعلا مشكلة خطيرة من مشاكل شعبنا، ذلك هو الإهمال، والإهمال ليس مقصورا على المرافق العامة، ونظافة الأمكنة والشوارع، ولكنه امتد حتى وصل إلى الإنسان منا ذاته، كثيرا ما أتوه وأنا أحدق في أجسام المواطنين والمواطنات السائرين والسائرات في الشارع، وأكتشف أن أجسامنا كمواطنين قد ترهلت بطريقة مزعجة، ترهلا لا يكاد يعادله إلا ترهل الملامح وعبوسها، وكأنها هي واقعة تحت تأثير وابل لا يرحم من رذاذ الاكتئاب والمشاغل والهم المقيم ليل نهار، وفي أشهر الصيف الأولى أحسست أني أترهل بطريقة مطردة حتى أصبحت ألهث لدى أي مجهود.
ولكني مثلي مثل أي مواطن آخر كنت أقول لنفسي إنه الكسل، واللامجهود، وكميات الطعام التي لا داعي لها. في الحقيقة كنت أؤجل التفكير في جسمي أو في صحتي باعتبار أن هناك أشياء أكثر أهمية بكثير، وهذا يعتبر في العرف العلمي المتحضر جريمة لا تغتفر، وبعد أيام من الإجازة بالخارج بدأ عقلي - كما يقولون - يروق، إجازة حقيقية لم أقرأ فيها جريدة أو كتابا أو انشغلت بأي قضية على الإطلاق؛ فقد كان مخي مثخنا بعد عام حافل من القتال بالقلم ضد القصور، وضد الغباء ولإيقاظ الوعي في أجهزة تريدنا أن نحيا كالسلامة، نأكل ونشرب ونتناسل وننام.
المهم، حين راق عقلي تذكرت أني لم أعمل فحصا شاملا لجسدي منذ أكثر من سبع سنوات، صحيح أن طبيبي الدكتور مجدي يعقوب الذي أجرى لي العملية منذ اثني عشر عاما أوصاني بعمل فحص شامل كل ستة أشهر مرة، ولكن، بعد عام أو عامين، وبطريقتنا غير الجميلة، أهملت كل شيء، وهكذا رفعت سماعة التليفون وطلبت مجدي يعقوب لتحديد موعد، تذكرت مساعدته حالتي وعمليتي، ولكنها اعتذرت أن الدكتور مجدي يعقوب مشغول تماما باكتشافاته الأخيرة في زراعة القلب والرئتين وأنها تحيلني إلى طبيب زميله ... في الحقيقة بعد هنيهة من الضيق وخيبة الأمل؛ إذ المفروض أن من يعمل عملا أو عملية ما أن يظل يتابع صاحبها مهما كانت مشاغله، بعد قليل عذرت السيدة وعذرت مجدي يعقوب ودعوت له في سري أن يواصل نجاحاته، وأيضا اعتذرت عن الذهاب إلى الذي لا أعرفه، وفجأة اكتشفت أن صديقي الدكتور ذهني فراج كان المساعد الأول لمجدي يعقوب في علميتي وأنه يعرف حالتي تماما، وطلبته فإذا بجهاز تسجيل يرد علي قائلا إنه في إجازة في إسبانيا وإنه سيحضر بعد أسبوع، وانتظرت على أحر من الجمر، وتنفست الصعداء وأنا أطلبه فيرد هو علي ويعطيني موعدا بعد ساعة في عيادته في شارع هارلي الذي لا يستطيع أن يفتح فيه عيادة إلا من وصل إلى شأو علمي خطير في الطب ، وأصبح على الأقل في مرتبة «مستشار» طبي أو جراحي. في الحقيقة لا بد أن أعترف بشيء، نحن في كثير من الأحيان نجني على من نعرفهم شخصيا جناية بالغة؛ ولأن محمد ذهني فراج كان من شباب العائلة الأصغر فلم أكن أتصور أنه، وحده، يستطيع أن يكمل دراسته في إنجلترا، ويصبح واحدا من أعظم جراحي القلب وأطبائه في لندن، ومستشارا لواحد من أعرق مستشفيات إنجلترا، مستشفى وستمينيستر التاريخي، كل هذا وأنا ما زلت أنظر إليه باعتباره ذهني فراج الطبيب الشاب حديث التخرج في رأيي، وإن كان قد مضى على تخرجه الآن أكثر من عشرين عاما ووصل إلى كل ما وصل إليه.
والحقيقة أن مقابلتي معه كانت عاصفة؛ فقد قال لي بصريح العبارة إني أنتحر وإنني بالحالة التي كنت فيها معرض للموت فجأة؛ ذلك أنه وجد في جسدي كمية من المياه الزائدة تعادل أكثر من ثمانية لترات؛ ونتيجة لهذا فهناك ارتباك في دق القلب ... إلخ، كل ما كنت خائفا منه ... حتى لقد قلت لنفسي إنه يحاول إخافتي ليس إلا.
ووصف لي دواء مدرا للبول اسمه في مصر لازيكس، فقلت له إنني أتناوله بانتظام، قال: ومع هذا هو علاجك مع دواء آخر.
وكانت المفاجأة.
بعد ثمان وأربعين ساعة فقط من تناول اللازيكس الإنجليزي اختفت تماما آثار المياه الزائدة، وعاد تنفسي طبيعيا، وعدت أسير لمسافة ميلين وثلاثة أميال بمنتهى البساطة، مما دعاني للتوقف طويلا عند الدواء المصري، فإما أن الجرعة المكتوبة عليه ليست مضبوطة، وإما أن المادة الفعالة فيه قديمة أو فقدت فاعليتها، وإما أن المعامل الأوروبية تطور من أدويتها باستمرار، وهو شيء لا يحدث للأسف عندنا، إلا أننا غالبا ما نكتفي باستيراد المادة الفعالة التي درجنا عليها. ليس هذا بأي حال من الأحوال طعنا في الدواء المصري؛ فإني أشهد وإني ومعي الملايين نعالج من هذا الدواء الرخيص جدا بالقياس إلى أثمانه في السوق العالمية، ولكن ما أطلبه، وما أعتقد أن لي الحق فيه، هو أن يقوم مركز الدواء المصري، وهو هيئة علمية محترمة قامت لتعاير الجرعات الموجودة في كل دواء وتقارنها بالجرعات المكتوبة عليه، وتقيس مقدار فاعلية العناصر الواردة فيه، وتفعل هذا مرة كل ستة أشهر على الأقل، وأنا لم أعد أسمع عن هذا المركز، ولا عن نشاطه، وتفاجأ كل حين بواقعة عن تقصيره، وآخر المفاجآت كانت في نوع من القطرة أن بها نوعا غريبا من الفطريات. رجائي من الزميل الكبير الدكتور محمد راغب دويدار أن يعيدا لهذا المركز مكانته وسيطرته. إنني أعرف تماما أنه لا يوجد غش في الدواء، ولكن الإهمال قد يكون له عواقب أخطر، وشركات الأدوية عندنا كلها - تقريبا - قطاع عام، ومسألة التدقيق الشديد في صناعة كالأدوية مسألة حياة أو موت. وبالمناسبة أرجو ألا أتلقى من الشركات والمؤسسات الدوائية ردودا إنشائية طويلة؛ فنحن حين ننقد إحدى صناعاتنا، وهي هنا أهم الصناعات، لا نتوخى تشويها أو تشهيرا، وإنما في الحقيقة وفي هذا المقام بالذات، نتوخى صحة الشعب، الذي لا يعرف من أسرار تركيب الدواء كثيرا أو قليلا، ولا حل إلا بإحياء دور الرقابة على الدواء وإحياء حقها في مصادرة أو إعدام أي دواء لا يطابق المواصفات، ومحاسبة المسئولين عن ذلك.
المهم أني، بنفس الجرعات، ونفس المادة شفيت من هذا الماء الزائد، ولكن ما دور ذهني فراج في هذا؟
دوره أن بعض أطباء القلب الذين كشفوا علي سواء في أمريكا أو اليابان قد شخصوا الأمر باعتبار أن العيب في القلب، تشخيص ذهني فراج كان أن العيب ليس في القلب وإنما في الماء الزائد الموجود بالجسم، إذا طرد عاد الجسم إلى حجمه الطبيعي وعاد القلب إلى طبيعته، وقد تبدو تلك القضية من البساطة بحيث لا تستدعي أي عبقرية، ولكنها ليست كذلك؛ إذ معنى أن العيب في عضلة القلب أن لا حل في يد الطبيب أو المريض، بينما بالتشخيص الثاني الحل في يد الطبيب والمريض.
شكرا لنابغة من نوابغ مصر الشابة، وآسف تماما لبيئاتنا الطاردة التي تقدم مواهبنا إلى حضارات أخرى على أطباق من الفضة.
إن أثمن ما في ذلك الشعب هو شبابه، وحين يقرأ الإنسان عن مشاكل الخريجين، وتعيين الخريجين والبطالة المقنعة يحس بأن هناك شيئا خطأ، وأننا مقصرون في حق اكتشاف وتشغيل ورعاية أجيال لو أتيحت لها الفرصة كاملة لجعلت من مصر جنة الله في أرضه، لماذا يا إلهي لا نعقد مؤتمرا علميا جادا جدا ومصغرا جدا ومحددة مهمته تماما: بحث الثروة البشرية المصرية المهدرة وفتح الطرق المسدودة أمام استغلالها وتنميتها؟!
مولد القاهرة الكبرى
محافظتنا القاهرة والجيزة أو باختصار القاهرة الكبرى في عيد أو في مولد، وهو مولد، لحسن الحظ، أصحابه حاضرون ... فأنا أسكن في الجيزة وأعمل في القاهرة، والجيزة مشغولة تماما بمهرجان عايدة تحت سفح الهرم، والقاهرة مشغولة تماما بمهرجان مترو الإنفاق تحت سطح الأرض وفوق سطح الأرض.
وقد أهدانا الدكتور عبد الحميد حسن بمناسبة عايدة هدية رائعة الجمال هي ساعة زهور أقامتها «وكالة الأهرام للإعلان» «حاجة ببلاش كده»، وتصادف أني لم أر الساعة حين عدت من الإجازة، ولكني فوجئت في الحادية عشرة مساء ثم في الثانية عشرة بأجراس تدق في ميدان الجلاء القريب جدا من بيتي وأنا لا أعرف السبب، ترى ما هذه الضجة الغريبة على ضجات الليل في حينا؟ أنا أعرف ضجات الليل عندنا تماما، فبعد انتهاء حركات المرور الرهيبة في شارع النيل وشارع لطفي حسونة يكون الموعد قد حان لكلب مجنون لا بد مصابا بالسعار، بالمناسبة أين مكافحة الكلاب المسعورة في الجيزة؟ إذ يبدأ النباح بالضبط في الثانية من صباح كل يوم، وأستمع جيدا لأعرف لماذا ينبح هذا الكلب المنكود، وأصيخ السمع، فلا ألمح نسمة أو حركة أو إنسانا في الشارع، ومع ذلك يظل ينبح وينبح وكأنه ينادي غفاة البشر أن يهبوا لملء الكأس قبل أن يملأ كأس كف القدر، ولا يتوقف من النباح - شكرا له - إلا عند طلوع الشمس، وقبل أذان الفجر بدقائق أسمع فرقعة «فسبا» مهولة الوقع وسط السكون التام، ولها عشر سنوات بالضبط وهي تفرقع في نفس الوقت تماما مع نهاية كل ليلة، حتى خمنت أنها لا بد تخص موزع اشتراكات الجرائد لشارعنا. أما تلك الدقات النحاسية فقد كانت غريبة تماما، وحين دقت دقتين ونظرت في الساعة ووجدت أنها الثانية إلا دقيقة عرفت أن الدقات لساعة، ولكن أي ساعة لم أعرف إلا في الصباح حين لمحت السور المقام حول سرة الميدان، العقارب الحاملة للزهور.
وفي الصباح رجوت من الصديق الكبير الدكتور عبد الحميد حسن محافظ الجيزة أن يعقد مع سكان منطقة الجلاء اتفاقا، أن تدق الساعة في النهار فقط وأن «تنام» دقاتها إلى الثامنة صباحا، وكان الرجل كريما ومن الليلة التالية اختفت دقات الليل النحاسية، ولكن عواء الكلب ظل على انتظامه وكذلك فرقعات الفسبا والأمر لله من قبل ومن بعد.
أما محافظة القاهرة فكلما رأيت كم ونوع العمل الجاري في ميدان التحرير وشارع رمسيس وميدان رمسيس وقرأنا أن افتتاح مترو الأنفاق سيكون يوم 27 سبتمبر ومعه انتهاء كل أعمال الأسفلت ورصف الميادين والشارع، تأكدت أنه من المستحيل أن ينتهي كل هذا العمل بعد أيام لا تزيد على أسبوع، وحدث أن جمعتني مناسبة اجتماعية قريبة مع اللواء يوسف صبري أبو طالب محافظ القاهرة، وحدثته في هذا وعن شكي في إمكانية تنفيذه، فأكد لي بما لا يدع مجالا للشك أن كل الأعمال السطحية في الميدانين والشارع ستنتهي فعلا يوم 27 وأن ما سيتبقى هو تشجير الشارع والميدانين ذلك الذي سيأخذ وقتا أطول.
ولو أن القائل كان هو المحافظ الذي أنشأ الحديقة الدولية الجميلة في موعد قياسي، وكثيرا من الحدائق غيرها، إلا أنني من فرط عدم تأكدي، قلت له: أتقبل رهانا على هذا يا سيادة المحافظ؟ قال: أقبل، ولم نتفق على قيمة الرهان أو نوعه.
ولكنه رهان أتمنى أن أخسره؛ فهو على الأقل سيثبت لي أنه بالإرادة الكفء وبالمدير الكفء ممكن أن نحل مشاكل كثيرة جدا متراكمة فوق بعضها من قديم الزمان إلى الآن.
وسيثبت لي شيئا آخر، أننا، المصريين، كأحصنة السباق، لا تتبدى قدرتنا المخيفة على العمل والإنجاز إلا قرب النهاية، نهاية السباق أو نهاية الدراسة أو نهاية المشاريع، وإلا فما الذي كان يمنع أن ينجز كثير من العمل الجاري إنجازه الآن أثناء التشطيبات الأخيرة لأول مترو أنفاق في آسيا وأفريقيا باستثناء اليابان.
مركز الدائرة
سران كبيران من أسرار الوجود يحيرانني: سر الكون، وسر الشعب المصري ...
أما الكون فعلماء الفلك والطبيعة النووية والكيميائية وعلماء الفضاء عاكفون على دراسته، وكل يوم أقرأ جديدا عن اكتشاف مجرة ما، أو سرعة ما أسرع من سرعة الضوء التي أجمع العلماء على أنها أسرع سرعة في الكون منذ عهد أينشتين. أقرأ عن البقع السوداء التي تتكثف فيها المادة بالتقارب الشديد بين ذراتها وبين مكونات الذرات داخلها، بحيث يمكن أن يصل ثقل ما يوازي كرة المطاط منها، ثقل الكرة الأرضية كلها، الكون يتمدد، الكون ذات يوم سيعود إلى الانكماش، الكون ينبض، الكون يتحرك، إلى أين وفي أي اتجاه، وهل ما هو خارج الكون فضاء أثيري كما كنا نعتقد، أم أنه لا يوجد للكون خارج، فكل الكون داخل كل الكون، والأحداث كلها تدور منه ومن داخله.
وأنا هنا لا أتحدث عن خلق الكون ولا عن الخالق سبحانه، إنني إنما فقط أورد بعضا من البحوث التي كتبت لسير هذا الشيء الكوني الذي نحن البشر منه، وهو منا، والذي يعتبر فيه الإنسان العين الوسيطة بين الكون الأكبر ال (...) والكون الأصغر الذي يوجد داخل الذرة ال (...) ولهذا فهو وحده الذي يدرك وجودهما معا، ورغم ذلك فمعلوماته عن كنه هذا الوجود لا تزال قشرية تماما، ولم تصل بعد إلى أي حد أدنى معقول لإدراك كنه التركيبة الكونية الصغرى أو الكبرى.
ذلك عن سر الكون ...
أما السر الذي يكاد يجاوز في صعوبته سر الكون، فهو سر الشعب المصري ... الشعب المصري بالذات، ولا أقولها كمصري منحاز لمصر، ولا فخور أو متفاخر، إنما أقولها لأؤكد حقيقة أنفقت حال عمري، ذلك الذي أنفقت نصفه في تأمل الكون وخالقه، أنفقت نصفه الآخر في تأمل شعبنا المصري هذا وسره.
إنه من جنس الإنسان قطعا، بل من المحتمل تماما أن يكون من أول الكائنات البشرية التي وجدت على سطح الأرض؛ ولهذا فتاريخه هو أطول تاريخ لأي شعب، فقد وحد الملك «مينا» القطرين من أكثر من خمسة آلاف سنة، ولكن قبل هذه الوحدة كانت هناك دولتان عاشتا طويلا ولم يعرف عنهما شيء، وقبل الدولتين كانت ثمة عشائر وقبائل وعصور صيد وزراعة وتاريخ طويل طويل، سر لا يمكن أن تعرف منه أبدا ماذا يريد هذا الشعب وماذا لا يريد، ماذا يغيظه وماذا يسعده! •••
لماذا تبادر إلى ذهني السران الآن؟
الجواب حقا غريب؛ إذ هو يتعلق بترشيح الرئيس حسني مبارك ومبايعته؛ ذلك أنني أمضيت الأسبوع الماضي كله أستمع إلى صرخات شباب متشنج يشجب الطريقة الإعلانية المواكبة المصطنعة التي تدور على صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون. والغريب أني حين كنت أناقش هذا الساخط أو ذاك وأقول على سبيل الدعابة: وماذا يغضبك؟ هل أنت ضد مبارك؟ الغريب أن الجواب من كل الشباب الذين سألتهم كان يأتي على هيئة: أبدا، أنا مع مبارك، إذن لماذا غضبك؟
وهنا تبدأ تتفجر على ألسنة الجميع، من هنا وهناك، أجزاء من حمم بركانية طال غليانها في النفوس التي مجت طويلا فكرة فسرها على الإجماع وفكرة مبايعة المحافظين والوزراء للرئيس وبنقود الدولة والمواطنين، فكرة خلق ما يشبه الرأي العام الزائف والمزيف الداعي أولئك الذين يريدون وقرروا انتخاب مبارك فعلا، أن ينتخبوه!
لو كان هذا الخطأ البشع في حق مبارك وفي حق عهده قد ارتكب في بلد آخر أعصابه ليست في ثلاجة، كأعصاب الشعب المصري، لكان قد ركب رأسه وأسقط ذلك الرئيس الذي يدعون إليه بطريقة مستفزة لا ذوق فيها ولا صدق ولا شيء سوى النفاق الأعمى. تلك الحملة الغوغائية الإعلامية جعلت نفسي تجزع حقا عن أن أكتب رأيي في إعادة ترشيح مبارك، وبالطبع لم أكن وحدي، إني أعرف عشرات من عقلاء المصريين الفاهمين الواعين المقدرين لموقف مصر الخطير في وسط شرق أوسط تحكمه أمريكا وإسرائيل، ووضع داخلي يتحكم فيه الجشع والتعصب والجهل، أعرف عشرات من هؤلاء، كانوا ينوون، بل كتبوا فعلا، مقالات موضوعية تماما، تقييما لفترة حكم مبارك السابقة، وطلبوا منه أن يرشح نفسه لفترة قادمة، ولكنهم لا يفعلون هذا على بياض، كل منهم كان يطالب الرئيس بمجرد موافقة مجلس الشعب على ترشيحه أن يلقي بيانه الانتخابي الأول الذي يحدد فيه على وجه الدقة واليقين ماذا سيكون عليه أن يفعله خلال السنوات الست القدامة، وعلى ضوء هذا البرنامج يتم الاستفتاء؛ إذ هو سيشكل عقدا سياسيا اجتماعيا اقتصاديا بين الرئيس وبين الشعب يرجع إليه وقت الخلاف أو الاختلاف، ويكون هو الأساس في الحكم والدستور المحدود للمرحلة القادمة.
ولكن هؤلاء العاقلين طووا الصفحات ووضعوا الأقلام باعتبار أن آراءهم تلك ستضيع وسط الزفة ووسط المواد، ووسط بضعة موظفين من موظفي الحكم المحلي، وللأسف جهات لها احترامها وتقديرها، لديهم نقود الشعوب يشترون بها صفحات الجرائد، ولديهم التليفزيون الملاكي يذيعون منه ويقولون ما يشاءون.
والشعب الماكر الخبيث يتفرج، ويضحك من صميم قلبه، حتى إذا التقى بصديق أو مسئول مهما كان صغيرا انفجر فيه بالسخط والغضب؛ سخط وغضب أعتقد أن مصدرهما هو هذه المحاولة البشعة للاعتداء على حق المواطنين في إبداء الرأي أو حتى في تكوين الرأي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أدرك الشعب أن كل هؤلاء المزيفين بمئات الألوف لآراء المحافظات والجامعات والهيئات معظمهم - ولا أقول كلهم - جماعات الانتهاز التي دأبت ومنذ هيئة التحرير إلى الآن على أن تركب أعلى الموجات، تصرخ وتزعق بآخر ما تستطيع وتمتلك من ميكروفونات، وتمتلك عبقرية خاصة في إزجاء المدح والنفاق دون الحاجة حتى إلى محترف كتابة يصوغ لها ما تريد قوله. إنهم إذن ليسوا ناخبين، أو مؤيدين لمبارك «بالروح والدم نفديك يا ...» «فلم يفد أحد أحدا لا بالدم ولا بالمال» إنهم إنما بإعلاناتهم يرشحون أنفسهم هم وليس مبارك ليبقوا في الصورة أثناء عهد الرئاسة القادم، أو ربما يضرب الحظ مع بعضهم ويختار لمناصب أعلى. •••
لقد كنت من أوائل من طلبوا مقابلة الرئيس مبارك بعد انتخابه في 13 أكتوبر 1981، فقد كنت أريد أن أطمئن على الرجل الذي ألقيت إليه مقاليد أمورنا في واحدة من أدق مراحل حياتنا، وكتبت عن تلك اللقاءات وقلت في إحداها: إن رجلا مثل مبارك لا يمكن أن يخون القضية المصرية لسببين رئيسيين: لأنه أولا ضابط جيش، والجيش المصري منذ ما قبل عرابي وإلى الآن هو مدرسة أولى للوطنية المصرية، إن هذا الشاب الذي يدخل الكلية الحربية ليخوض حربا قد يفقد فيها حياته دفاعا عن بلاده وشعبه، شاب غير عادي، وطني بالضرورة، شجاع بالسليقة. أما السبب الثاني فهو أنه حارب إسرائيل دفاعا عن مصر، وما دام ضابطا ومحاربا فمن رابع المستحيلات أن يخون أو يفرط.
ولقد مضت سنوات حكم الرئيس مبارك الأولى، والشعب ينتظر تغيرات عظمى تزيح من على وجه الساحة الطغمة الباغية التي أودت بكبيرها إلى حتفه، أولئك الذين جعلوا من عبد الناصر بنفاقهم اليومي شبه إله لا ترد له كلمة. ولكن لأن الرئيس مبارك ذكر لي أثناء تلك اللقاءات أنه أبدا لم يسع لوظيفة ما من وظائف الدولة منذ تخرج من كلية الطيران، وأصبح مدرسا بها، وتفانى في أداء وظيفته حتى وجد نفسه ذا يوم مرقى إلى رتبة أركان حرب الكلية، وبنفس الجهد والتفاني عينه عبد الناصر مديرا لكلية الطيران، ثم عينه الرئيس السادات رئيسا لسلاح الطيران وخاض الحرب، وفوجئ بنفسه يعين نائبا لرئيس الجمهورية، والمحيطون بالرئيس مبارك، وهم قليلون، يذكرون أنه أمضى في بيته ثلاثة أيام بعدما عرض عليه الرئيس السادات منصب النائب، يفكر في الكيفية التي يعتذر بها عن هذا المنصب؛ فمبارك إذا عرفته عن قرب رجل لا تهمه المناصب، ولا يسعى إليها، شاب طيار مصري يحيا حياة الطيارين المثالية: يستيقظ مبكرا جدا ويعد الشاي، أحيانا بنفسه، لأولاده، ثم يمارس رياضته المفضلة الإسكواش لأكثر من ساعتين، ثم يبدأ «يدرس» مشاكل مصر وحلولها؛ ذلك أنه جيء به إلى الحكم من القوات المسلحة البعيدة في شئونها تماما عن الحياة المدنية، وعن المشاكل الكثيرة المعقدة للدولة وللشعب، بلا حرج كان يقول إنه يدرس، ويتشاور، ويعقد جلسات خاصة لا يعلن عنها، باختصار، ودون خدش لمكانته كان مبارك «يتمتم» كيف يدير مصر إدارة وطنية نظيفة، تحل مشاكلها العاجلة وتفتح الباب أمام مستقبل أكثر ازدهارا.
ورغم أن بعض من يكونون في مرحلة التعلم تأخذهم العزة بالنفس والتمسك المتعصب بالرأي، إلا أن الرجل كان يمتلك ميزة فريدة، ربما لا يتمتع بها كثيرون ممن تربوا في الحياة العسكرية، وهي قدرته على تقبل النقد، وتمسكه الشديد بالديمقراطية، وبالذات بحرية الكتابة، وأشهد أني منذ أكتوبر 1981 لم تشطب لي كلمة واحدة من مقال واحد، بينما لي دوسيه كامل من المقالات المرفوضة وأوامر الفصل في العهود السابقة؛ ذلك أنه كان أيضا يتعلم من النقد، بل ويتعلم من أخطائه. ولقد أخطأ الرئيس مبارك ذات مرة في حقي نتيجة دسائس قام بها أناس يرحمهم الله أحياء وأمواتا ... يحيطون به ويغذونه بمعلومات يتضح بعد هذا أن معظمها كاذب. ولقد كتبت أدافع عن نفسي وأتهمه أنه - وهو الرئيس للدولة قد تجنى علي - فلمن أشكو ويشكو أي إنسان رئيس الدولة إذا تجنى عليه، حتى القضاء لا يستطيع الحكم ضده (إلا بعد إجراءات مستحيلة بنص الدستور).
ولكن لأن خبرتي بطبائع النفوس لا تجعلني أحكم على الإنسان بخطأ حتى ولو كان الخطأ ضدي؛ فلقد ظللت أؤمن أن مبارك هو الحل منذ أن انتخب، وكأنما أراد الله لمصر أن يأتي لها بحاكم ينفر من فكرة الزعامة ولا يسعى لأمجاد، وإنما يريد أن يسوس بلاده وشعبه ويؤدي واجبه هذا بمنتهى التفاني، كما كان يفعل وهو مدرس بالكلية الجوية، حين كان يستيقظ في الخامسة صباحا ليوقظ الطلبة جميعا إلى طابور رياضة، يتعلمون فيه الجدية والمحافظة على أجاسدهم وصحتهم حتى ضج الطلبة منه، ولكني أعتقد أنهم الآن قد أدركوا فائدة ما كان يصنعه مدرسهم بهم.
لقد كان مبارك هو الحل الأمثل لتناقضات مصر الصارخة بعد عصر السادات والانفتاح المجنون والانكفاء على أقدام الأمريكان والإسرائيليين، ولقد حدثت أثناء حكمه أحداث مروعة، أقلها إضراب جنود الأمن المركزي، وبدايات الفتنة الطائفية المهولة، ولو كان مبارك قد تصرف بعصبية للحظة لفجر براكين هائلة لا تزال تغلي في نفوس الشعب، ولكنه استعمل الزمن معه، واستعمل الصبر - يا لقدرته على الصبر الطويل - معه، والنتيجة ليست سيئة بالمرة، صحيح لم يتحقق كل ما حلمنا به ومن أجله خرجنا خروج رجل واحد، بلا لافتات ولا صفحات ولا برامج متلفزة تنتخبه، لم يتحقق الشيء الكثير، بل ولا أعتقد أنه خلال السنوات القادمة ستحقق معجزات؛ فزمن المعجزات قد انتهى، وزمن الرؤساء أصحاب المعجزات انتهى، ونحن بشر، ومبارك بشر، مصري مثلنا ونحن مصريون مثله، ولا يزال هو أيضا مركز الدائرة المصرية، تلك الدائرة التي يشمل محيطها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن المفكرين لغيرهم الحاكمين بإعدامهم، إلى أصحاب العقول والعقول الإسلامية الرحبة، ومن شيخ الأزهر إلى الباب شنودة ... ولأنه مركز الدائرة، ولأن الدائرة أوسع من مصر إذ هي تشمل بلادنا العربية التي تمردت مرة - وكان لها الحق - وقطعت علاقتها بنا، فبدون أن يتحرك المركز ها هي علاقتنا العربية تستعاد، إن لم يكن على المستوى الرسمي فعلى المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي، لدرجة أني كدت أضحك وأنا أقرأ بطاقة الدعوة في افتتاح معرض السعودية بين الأمس واليوم، ومذكورة في أعلاها: سفارة باكستان - قسم رعاية المصالح السعودية - يا للعار!
شكرا أيها الرئيس مبارك على قيادتك للسفينة بكل ما تملك من جهد وكفاءة طوال ستة أعوام.
شكرا أن السفينة لم تغرق.
ولم تصدم.
وأن ركابها لا يزالون أحياء، مع أن حملها زاد بازدياد مطلبهم واحتياجاتهم، ومع أننا - بتجربتنا معك - واثقون أنك ستمضي مستقيما كما مضيت، إلا أننا نحن الآخرين نريد أن نرى معك الطريق؛ ولهذا أنت مطالب أيها الرئيس بأن تعلن لنا - وفي أقل الكلمات - برنامجا لكي تكون هناك عملية استفتاء حقيقية؛ إذ إن هذا البرنامج لو لم يعلن فلا فائدة من الاستفتاء أصلا، فأنت المرشح الأوحد، وأنت مركز الدائرة ومركز إجماع المصريين، وكلهم لم ينتخبوا سواك، فلماذا الاستفتاء؟! إلا إذا كان استفتاء على برنامجك وليس على شخصك، فهو استفتاء أساسا على حاضر مصر ومستقبلها ومن أجلها وليس استفتاء على شخص الرئيس مهما أجمع عليه، أليس كذلك يا سيادة الرئيس؟!
وإلى أن نلتقي إن شاء الله بعد أسابيع الإجازة أتمنى لكم أطيب الأوقات ...
وذهبت للدعوة الغامضة
كانت الدعوة غامضة تشبه ما تكون بالألغاز: بيان ميداني للجيش الثالث، المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة يدعوكم: الوجود في مطار ألماظة الحربي الساعة 900. أسعدتني الدعوة تماما رغم غموضها، وفي نفس الوقت رحت أطارد مختلف الأعذار التي يمكنني أن أتعلل بها، واستيقظت في السادسة صباحا لأصل إلى طريق المطار في الثامنة والنصف، وأقضي نصف ساعة كاملة أبحث عن مدخل مطار ألماظة، مع أنني كنت قد سافرت منه مرة على ما أذكر قبل افتتاح المطار الجديد-القديم حاليا؛ ذلك أن المباني أحاطت بالمطار حتى ابتلعته تماما ولولا سائق تاكسي شهم طلب مني أن أتبعه ليريني باب المطار ما وصلت، ووصلت.
وجوه باسمة مرحبة من قادة سلاح الطيران، وجه الصديق الكبير الفريق صفي الدين أبو شناف رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة وأشواق وعناق. هذا رجل أحب التحدث معه؛ فقد صاحبنا في زيارتنا للمصانع الحربية، وأحسست إحساسا عميقا أنني يمكن أن ألقي كل ما لدي من أسئلة وهواجس، ولم يتردد أبدا أو يبدو عليه انزعاج ما لأي سؤال، وهي إجابات عميقة معقولة تماما، ومن لحظة تلك المواجهات الصريحة أحسست أننا أكثر من أصدقاء. - إلى أين يا سيادة الفريق؟ - إلى سيناء.
نعم كان قلبي يحدثني أننا ذاهبون إلى سيناء، فصحيح أن الجيش الثالث يحتل جانبا من الضفة الشرقية للقناة ومدينة السويس، ولكن فرحتي أكدت لي أننا بسبيلنا إلى القيام بزيارة لمكان ما في سيناء تدور فيه معركة بالذخيرة الحية، وتصور لأمر ما أن المعركة ستكون في المنطقة «أ» أي في الجانب الشرقي المباشر لسيناء، لم أكن أتصور أبدا أن المعركة ستكون في أحد المضايق الثلاثة الرئيسية لسيناء، مضيق الجدي أضيقها جميعا وأصعبها غزوا؛ إذ إن المعركة كما شرحها لي الفريق أبو شناف ستفترض أن العدو وقد قام بغزو سيناء مرة أخرى وأنه نجح في الاستيلاء على مضيق الجدي، وأن قوات الجيش الثالث الميداني ستقوم بصد الهجوم وطرد العدو من المضيق واحتلاله وطرد العدو الغازي منه.
ومع الزميلين والصديقين صلاح منتصر ومحفوظ عبد الرحمن ركبنا ومعنا محافظ السويس الضاحك المتفائل أبدا اللواء تحسين شنن وكوكبة من كبار الضباط، ركبنا هليكوبتر من الطراز الذي تركبه فرق الصاعقة والمظلات.
ولأن تلك اول مرة في حياتي أركب هليكوبتر فقد بدت التجربة مثيرة تماما ولكن الإثارة لم تستمر سوى بضع دقائق؛ فالركوب في هذا النوع من الطائرات يستلزم لياقة بدنية عالية وقدرة على احتمال الضجيج، بحيث لا بد أن تكون «طبلة» أذنك مصنوعة من الصلب الرقيق، فضجيج محركها عال تماما، وكأنك تطير بوابور جاز كبير مما تصنع الطعمية بواسطته، صحيح أن الطيران لم يستغرق أكثر من ساعة، لكنها تساوي بحساب الطيران المدني العادي ست ساعات من التعب والإرهاق.
عبرت الطائرة قناة السويس ولأول مرة أرى القناة من علو منخفض وأدرك أن عمقها الحقيقي هو في مجرى رئيسي على جانبيه مياه، هذا حقيقي ولكنها مياه ضحلة لا تحتمل إلا ملاحة القوارب فوقها.
ثم بدأ الشاطئ الغربي لصحراء سيناء، شاطئ رملي مثله مثل شواطئ البحر الأحمر وخليج السويس، وفجأة وجدنا أنفسنا فوق هضبة سيناء التي تحتل وسط سيناء من الشمال إلى الجنوب، هنا كشرت الطبيعة عن أنيابها وأصبحت متجهمة قاسية التضاريس، هذه الهضبة المتجهمة لا يمكن القتال فوقها؛ فمسالكها وعرة واختراقها مستحيل، إلا من ثلاثة أو أربعة مضايق متعرجة تضيق تماما عن الحافة الشرقة للهضبة بحيث يصبح عرض نفق - مثل الجدي - لا يسمح إلا بمرور دبابة واحدة، وبحيث يمكن لأي كتيبة واحدة أن تدافع عن كل نفق إلى ما شاء الله، وكنا نقرأ عن هذا كله ونقرأ عن ترك الجيش لمواقعه شرق المضايق والتقهقر بالأمر إلى غرب القناة، وكنا نندهش نحن المدنيين الذين لا يعرفون شيئا عن العسكرية لهذا الذي يحدث وكنا نستنكره، ولكن ما فائدة رأينا المدني الذي يأتي دائما بعد إعطاء الأمر وفوات الأوان؟
وعلى الطبيعة تبدو المسألة واضحة تماما؛ فالممر وإن كان ممرا إلا أنه حصن طبيعي ضد العدو، فمنه ننفذ إلى غرب سيناء، وبه نستطيع أن نحصن مصر والجزء الأكبر من سيناء ضد أي غزو قادم، من الشرق هبطت الهليكوبتر واستقبلنا اللواء عادل القاضي قائد الجيش الثالث، وما إن هدأ - على المقاعد - فوران الدم الحادث من وابور الجاز الذي كنا نركبه، حتى جاء المشير الذي احتفل بشجاعتنا في الحضور، وكانت الخيمة عامرة بالملحقين العسكريين العرب وأعضاء من مجلسي الشعب والشورى وكبار قواد القوات المسلحة، وكانت الريح قد بدأت تصفر، ورغم حرص قيادة الجيش الثالث على توفير الراحة لنا، إلا أنها تقف عاجزة أمام أحوال الجو المتقلبة، فقد بدأت الهضبة التي كنا نطل منها على الممر الواقع تحتنا بكيلو متر بدأت تقذفنا بكميات من الرمال، إلى درجة أكاد أقول فيها أننا عدنا من سيناء رجالا من رمال من قمة شعرنا إلى ما بين أصابع أقدامنا.
وبدأ البيان.
وكان البيان عبارة عن محاولة استرداد السيطرة على النفق وطرد العدو منه؛ ولهذا كانت قوات الجيش الثالث تهاجم من يميننا إلى يسارنا، وليست بخبير عسكري حتى أدلي برأي فيما حدث، ولكنني كنت منفعلا تماما بأشياء كثيرة جدا، أولها أننا في المنطقة «ب» حسب معاهدة كامب ديفيد، تلك المنطقة ذات التسليح الخفيف، وكنت كثيرا ما أتذكر هذا وأحس بالغصة من قبول تلك الشروط المتعسفة ورضائنا بها. ها نحن الآن في قلب المنطقة «ب» وحيث سيشترك الطيران مع المدفعية مع الدبابات مع قوات الصاعقة في هذا البيان العسكري. أما ما أذهلني في ذلك البيان فهو التوقيت الدقيق لتدخل الدبابات مع التمهيد بمدفعية الميدان الثقيلة، ثم اجتياز حائط النابالم الذي أقامه العدو ليحد من زحف قوات المشاة المحمولة فوق الدبابات أو النازلة من أعلى الجبل المقابل، ثم الطيران المصري، يا للعظمة وأنا أشاهد لأول مرة في حياتي طائرة هليكوبتر من صنع مصر تقذف صواريخ صناعة مصرية شاهدتها قبلا في مصنع صقر وتصيب الهدف بدقة رائعة، إلى حد أن الطائرة «الحازيل» تصوب من بعد أكثر من أربعة كيلو مترات على هدف - مفروض أنه كمين للعدو - لا يتعدى حجم بابه المتر المربع فتنسفه تماما، ثم توالت موجات الهجوم، بحيث لا يحدث خطأ يؤدي إلى أن تقذف القوات المصرية بنيرانها على قوات مصرية. توالت موجات الهجوم وإصرار عليه ومفاجآت المدفعية الثقيلة التي تهز الجبل حتى ليرتعش وكأنه أصيب بحمى صاعقة. ثم وفي ظل ظروف جوية سيئة تماما وكأنما كانت تعمل لصالح العدو تثبت طائرات الهليكوبتر نفسها حتى تسقط كل منها عشرين مقاتلا من الصاعقة، ينزلون بسلك إلى الأرض، حيث الأرض لا تصلح حتى لهبوط الهليكوبتر، رياح عاصفة شديدة، بحيث إن مطارات مصر المدنية أغلقت في وجه الطائرات يومها. أما الصواعق فقد كانت من صنعنا نحن، وفجأة أحسست أني في جو حرب حقيقية لأول مرة في حياتي، والجيش المقاتل جيشي هذه المرة. لقد اشتركت بمعركة واحدة في حرب التحرير الجزائرية ضد فرنسا، وكان نصيبي خلعا في الركبة اليمنى لا يزال يؤلمني إلى الآن، ولكن معركة بهذا الحجم وباشتراك كل تلك القوات لم أجربها أبدا، والغريب في الأمر أنها حرب لا ترى المقاتلين فيها؛ فلونهم من لون الطبيعة وأجهزة تنشينهم بالرادار والليزر، ولكنك قطعا ترى إرادة الحرب والصدام واضحين من خلال مشهد حافل بدخان دانات المدافع والدخان المخفي لتحركات المشاة ودخان النابالم، التي صنع بها العدو حاجزا من لهب يحد من تقدم المشاة. حرب بمعناها الحديث تماما، إن العدو ليس هناك وإنما نحن أيضا الذين نضع العراقيل ونحاول صد الهجوم، ولكنها بكل المقاييس حرب ترتعش لها قلوبنا كما يرتعش لها الجبل ونصفق بتلقائية لدى كل رمية تصيب، وكل تحصين للعدو يسقط.
وصحيح أن المشير أبو غزالة قد قال في تصريح صحفي له إن هذا بيان عسكري فقط لا علاقة له أبدا بالوضع السياسي الحاضر، وليس له أي معنى آخر غير المعنى المباشر، وهو تحقيق مناورات عسكرية لرفع الكفاءة القتالية للقوات المسلحة، مناورات ذات مواعيد محددة سلفا ولا علاقة لها بمجريات الأمور.
ولكني أقول إن دوي المدفعية المصرية كان يخترق أذن الأصم ويصل إلى رفح ومعبري الحدود ويسمعه كل ذي أذن تسمع، ولا يسمعه أولئك الذين لا يريدون أن يسمعوا. •••
انتهى البيان الذي بلغت الدقة فيه حد أن كل قائد تشكيل يحين دوره في وصف ما نراه كانت كلماته هي بالضبط مؤقتة مع أداء التشكيل لا ثانية زيادة أو نقص، وفي العودة سعدت جدا بنبأ إقفال المطارات في سيناء وجميع مطارات مصر؛ إذ معنى هذا أننا لن نركب وابور الجاز مرة أخرى، وإنما ستأخذنا السيارات عبر مسارات ملتوية طويلة جدا حتى نصل أخيرا مبنى قيادة الجيش الثالث، وكان المشير أبو غزالة قد وصل إليه قبلنا، وكان لقاء حافلا طويلا مع المشير، ناقشناه في كل شيء ولم يتردد أمام أي سؤال، وكان بعضها محرجا، وكنت سعيدا به تمام السعادة، فإذا كان قد حرص على إقامة صناعة عسكرية مصرية متطورة، فها هو ذا يرينا اليوم ما طلبته أثناء زيارتنا للمصانع الحربية، من أن يرينا هذه المدفعية المصرية الصنع والصواريخ صقر والذخيرة المصرية والليزر والرادار في حالة «فعل»، وكانت هذه الدعوة الغامضة للبيان العسكري للجيش الثالث حين نرى مئات الشباب المقاتل يستعملون أسلحة مصرية وذخيرة مصرية في قتل العدو الغازي القادم من الشرق.
لقد كان يوما من أجمل أيام حياتي.
الرسالة وصلت وشكرا يا سيادة المشير.
الرقم القومي
من أشق الأمور على النفس أن يحس الإنسان أنه ظلم أو أنه مظلوم، وأحيانا يجد المظلوم نفسه عاجزا عن أن يثبت أنه على حق، وهذا ما حدث ليس من تسوية مدى خدمتي بالحكومة وبالصحافة، فقد سقط ملف خدمتي كطبيب في الإدارة الصحية لمدينة القاهرة مدة حوالي تسع سنوات بعد التخرج، إلى أن استقلت من الحكومة والتحقت بجريدة الجمهورية، وحاولت المستحيل للعثور على ملف خدمتي في أضابير وزارة الصحة وفي الإدارة الصحية للقاهرة، تلك التي كانت تتبع في أيامنا وزارة الشئون البلدية والقروية، أو حتى في وزارة الثقافة التي عملت فيها بعض الوقت منتدبا من الشئون البلدية صحة مصر دون جدوى. والحقيقة أني أحسست بغيظ لا مثيل له، فتلك السنوات بالذات هي أشقى سنوات عمري؛ حيث كنت أستيقظ في السادسة صباحا وأعود بعد الخامسة كعضو لجنة التصاريح لفتح المحلات العامة أو كقائم بأعمال حيكمباشي محافظة القاهرة لست سنوات متتالية ، حيث كنت أعمل مفتش صحة لبولاق أحيانا وللدرب الأحمر أساسا، وأحيانا مصر الجديدة أو مصر القديمة. جبتها «كعابي» على قدمي كل حواري ودروب القاهرة وحتى مدافنها، ثم تسقط هذه المدة من خدمتي، كيف؟ أحسست بنفس الإحساس الذي يرسله لي بعض القراء أحيانا والذي قل في الآونة الأخيرة تماما، والإحساس بأنه ممكن أن تضيع تلك إذا ضاع ملفك أو جزء منه، وهكذا بعناد شخصي مشروع آليت على نفسي أن أسترد حقي الضائع هذا مهما كان الثمن، ومع هذا عجزت تماما؛ فالمطلوب هو ملف الخدمة الموضحة به أقساط التأمينات والملف مفقود.
وحين استشرت الأستاذ سعيد ماهر مسئول التأمينات في مؤسسة الأهرام قال لي لم يعد أمامك إلا أن تلجأ لوزير الشئون الاجتماعية وتطالب بحقك. وأنا شخصيا أستحي من مقابلة أي مسئول في الدولة أو طلب شيء لنفسي، ولكن كلما تذكرت السنوات التسع من الشقاء والكدح وضياعها علي لم أستطع أن أمنع نفسي من الاتصال بمكتب الوزير وآخذ موعدا، وأنا يائس تقريبا إذا ذهبت فستقول لي حتما أين الملف ولا ملف إذن لا فائدة، وكانت أول مرة أرى فيها الدكتورة آمال عثمان عن قرب، تلك الوزيرة التي تبدو غير اجتماعية بالمرة، التي تبدو في صورها صغيرة الحجم صامتة أبدا، وبدأت أسرد عليها مشكلتي، ففوجئت بأنها ترد علي بأنها لهذا أنشأت لأول مرة في مصر كومبيوترا مركزيا يرصد فيه كل فرد من الشعب المصري ابتداء من تاريخ مولده إلى الوظائف التي تقلدها إلى يوم حلول خروجه على المعاش، وكانت المفاجأة الكبرى - إنهاء لموضوعي وأمثاله - قد أصدرت قرارا بلجنة تشكل لدراسة الحالات التي تشبه حالاتي. وكتبت طلبا وضعت فيه كل البيانات التي لدي ثم عدنا إلى حديثنا، وعن الرقم القومي لكل مواطن في مصر، وما عانت في سبيل الحصول على حقه من الضغط من وزارات أخرى كانت تريد أن تكون هي صاحبته، وأنه تم رصد أكثر من ثلاثة عشر مليونا مصريا ومصرية، وسيتم رصد جميع المصريين في عام 99 إن شاء الله، واصطحبتني في جولة داخل هذا المخ الجبار الذي له أكثر من أربعمائة فرع في أنحاء مصر على اتصال به، ويستطيع أن يغذيها بالمعلومات بالتليفون، تطور هائل فما في ذلك من شك. إذن لم تعد هناك أضابير وملفات ترعى فيها الفئران أبدا، كل شيء مسجل على أسطوانات الكمبيوتر وغير قابل للضياع أبدا، يا لها من نقلة حضارية رائعة لو كنت مثلي قد ضاع ملفك وذهبت إلى مخازن الأرشيف في وزارة الصحة، تلال وتلال من الأوراق والملفات مستحيل أن تعثر فيها - ولو كنت الجن الأحمر نفسه - على ملفك.
أما نحن اليوم فبضغطة زر تجد اسمك وكل المعلومات المهمة عنك.
سألتها: يعني لو ذكرت لك اسما أستطيع العثور عليه؟ - إذا كان مقيدا.
قلت: هل الرئيس محمد حسني مبارك مقيد؟
قالت: نعم.
قلت (في سري): بعد إذنك يا ريس هل يمكنني أن أراه. فطلبت من مدير المركز أن يجد رقم 16، وفي توال سريع كانت صفحة الشاشة قد امتلأت بمعلومات، ولكني وقفت طويلا لدى الاسم؛ إذ كان لا يبدو عليه أنه اسم الرئيس، فقد كان مكتوبا هكذا: محمد حسني عبد الرحيم مبارك.
قلت لها: أمتأكدة يا دكتورة أن هذا اسم الرئيس؟
قالت: الرئيس نفسه استغرب منه.
شكرت الدكتورة آمال عثمان وعدت لمكتبي، وما زلت في انتظار قرار اللجنة، ولكني ذهبت مظلوما وخرجت سعيدا مؤمنا أننا قد استغنينا عن الأضابير والمخازن التي تملأ البدرونات وتأكلها مياه الرشح.
المحافظ المثقف
في ليلة شرقاوية حافلة كان لي لقاء رائع في قصر ثقافة الزقازيق، الغريب أنها كانت أول مرة يدعوني محافظ للشرقية لتلك الليلة الثقافية، والدعوة نفسها كانت في توقيت غريب؛ إذ كنت أعتزم أن أوجه خطابا مفتوحا على الصفحة إلى الدكتور محمود الشريف رئيس معهد الأورام سابقا ومحافظ الشرقية الحالي، وكان مضمون الخطاب هو لومه على ترك مكانه الطبيعي كواحد من أعظم الجراحين المصريين يرأس أهم وحدة جراحية في علاج السرطان، ولكني قبل أن أشرع في كتابة الخطاب تلقيت مكالمة تليفونية منه، وفيها يطلب مني تحديد موعد لأمسية ثقافية تعقد في قصر الثقافة، وفي نقاشنا صرحت له بنيتي فضحك، وقال: الحمد لله، أنا قادم لتوي من غرفة العمليات بالمستشفى الأميري؛ إذ أنا أزاول الجراحة يوما واحدا في الأسبوع هو يوم الأحد، وبقية الأيام أقوم بعملي كمحافظ، ثم إنك يا فلان آخر من يلومني على هذا، ألم تترك أنت الطب للكتابة؟
وفعلا كنت أتوقع نفس الاستنكار، بل ليت العكس هو الصحيح، وأن نختار محافظينا من كبار رجال العلم والثقافة القادرين على الإدارة الواعية والإدراك السياسي المستنير. لقد فشلت تجربة تعيين ضباط البوليس الذين أحيلوا للاستيداع محافظين، وها هو الدكتور محمود الشريف يحاول بكل ما يملك من جهد أن يعالج أخطاء سلفه، الذي - ويا للغرابة - عين ثاني يوم الاستغناء عنه رئيس مجلس إدارة شركة الريان لتوظيف الأموال، وعندي صورتان له: واحدة له وهو يوقع العقد كمحافظ مع شركة الريان على صفقة بصحراء بلبيس، والثانية بعدها بيوم أو بيومين وهو يمثل شركة الريان، إن هذا يجرنا إلى حديث لا بد من البدء فيه: الريان، إن هذا يجرنا إلى حديث لا بد معه من محاسبة المسئولين المحافظين أو الوزراء أو رؤساء البنوك بعد إقالتهم أو استقالتهم؛ إذ إن أحدا لم يحاسب ذلك المحافظ أبدا أو حتى يسأله ولا أحد سأل الوزير الذي لا يزال وزيرا وكان يعمل، أو بالأصح يعمل، مستشارا لشركات المرأة الحديدية.
ولكن هذا موضوع آخر آمل أن أتناوله قريبا إن شاء الله.
في تلك الليلة أحسست بمزيج غريب من العواطف وأنا ألتقي مع الوجوه الشرقاوية الحلوة، أحسست أني لأول مرة أتحدث من القلب إلى القلب حديث الإنسان إلى أهله وعشيرته. إن الشرقاوي نموذج للمصري المنتمي إلى محافظته دون تعصب، إنسان سمح طيب شهم يحسن الظن تماما بالآخرين، ولهذا يطلقون عليه التشنيعات والنكات، فهو إنسان فيه براءة الصحراء التي تحد جانبه الشرقي وطيبة قلب الفلاح المصري، والشرقية هي الرحم الذي أنتج لمصر كثيرا من فنانيها وثوارها، حيث تتفاعل المصرية فيه مع الشامية والسعودية، وحيث يتعايش الأقباط والمسلمون في سلام منذ مئات السنين، وحيث تمتزج حضارة البحر الأبيض بحضارة الدلتا، الفرعوني بالقبطي بالفن الإسلامي؛ مما يجعلني أستعمل تعبير عبقرية المكان على الشرقية باعتبارها لا بد أن تنسحب على عبقرية الإنسان وتفانيه الموغلة في الإبداع.
كانت زيارة أرجعتني لشبابي في الزقازيق الثانوية لأول حب سحب فيه والد الفتاة، وكان صعيديا حمشا، البندقية فانسحبت في سلام إلى ناظر الثانوية المرعب، إلى ليلة جاء فيها يوسف بك وهبي ليمثل رواية ووقفت ساعات على باب الممثلين لأراه وأرى المرحوم محمود المليجي، إلى آلاف الذكريات، كنت أتحدث أو كنت أعود أعيش أو كنت أتكلم حديث المرتاح إلى أهل ينصتون.
ليس مهما ما كنت أحسه ولكن المهم أنني مع الدكتور محمود الشريف، أتمنى أن تصبح الزقازيق واحدة من أهم العواصم الثقافية المصرية، وشهادة لله لولا صلاح مرعي مدير الثقافية الجماهيرية في الشرقية، ذلك الذي بالكاد استطاع أن يحافظ على فرقة الشرقية للفنون الشعبية حتى لتطلبها البلاد الأوروبية بالاسم، أتمنى أن يتحول قصر الثقافة في عهده الجديد وبزعامة المحافظ إلى معمل تخريج فنانين وفنانات لطرحهم على المستوى القومي والمحلي أيضا.
على بركة الله وبالتوفيق التام يا دكتور محمود الشريف.
أحفادك يا طه
لم يكن تجوالي طويلا ولا متعبا، ولكني كنت ألهث وقلبي يخفق بفرحة، نادرا، نادرا، ما تنتابني، شباب شباب، أولاد وبنات، محجبات وسافرات ومنقبات، أطفال بالآلاف، شيوخ، أساتذة جامعة، وأشباه حفاة، عرب بمقالات وخواجات، ألوف البشر تموج، تتوه تلتقي وتفترق وتعود إلى اللقاء، الجو رغم الشتاء دافئ، والعاصفة الرملية الترابية أخفاها جمال الازدحام، أجمل ازدحام؛ فلا تدافع فيه ولا حدة ولا خناقة ولا كلمة غضب، العالم فقط هو صوت الضحكات، والمجاميع من الطلاب، والعائلات ... كل هذا في معرض، يا الله، للكتاب، للثقافة، لعيد الكلمة. قاهرتي العزيزة، الآن أحبك كما لا يمكن أن يكون قد أحب قيس ليلى، يا حبيبتي العزيزة، يا قاهرتي وعاصمتي وملجئي وانتمائي ومثواي، تعودين إلى نفسك فتعودين أيضا، تعودين إلي أنا كفرد حتى ...
هذا هو المعرض العشرون للكتاب، في لمحة خاطفة لمعت في ذاكرتي صورة أول معرض كما أقيم لأول مرة في أرض المعارض القديمة بالجزيرة في يناير عام 68، وافتتحه رئيس الوزراء حينذاك، أو افتتحه وزير لست أذكره، وكما رأيته، في اليوم التالي، الناس مجموعات قليلة متناثرة في أرض المعرض الصغيرة، تماما بالقياس تماما إلى أرض المعرض الحالي، مجموعات قليلة تبدو وكأنها تتجمع لتحتمي من برد خفي وقشعريرة الغربة؛ إذ كانوا فعلا قد تجمعوا على غربة بعد هزيمة 67. في العام التالي لها مباشرة، ومظاهرات الطلبة، وتمزق الصدر المصري بآلام الذبحة العسكرية التي أخذته على خوانة، بمجموعات المثقفين والمتعلمين القليلة، التي قدمت وكأنما لتحيي الذكرى السنوية لعاصمة الفكر والإبداع التي كانت، مذهولين لا يعرفون العدو من الصديق، مهزومين لا يعرفون من هزمهم أهي إسرائيل أم المناط بهم هزيمة إسرائيل؟ جو كئيب كأيام أمشير ومحاولة للتشبث بالثقافة والكتاب بعدما، تقريبا، ضاع كل شيء ومعه أيضا الثقافة والكتاب.
ولكن ما أمامي الآن هو القاهرة، القاهرة، القاهرة التي رفعت الرأس المنكس ووقفت وانضبطت وحاربت وانتصرت وقاومت سرقة الانتصار، القاهرة 88، القاهرة في معرض للقاهريين، والقاهريون في معرض لقاهرتهم الجديدة، أخذوا عشرين عاما ليعيدوها ويصنعوها ولكنهم صنعوها، وكأنما من جديد أنشأوها، وكأنما بسواعدهم واقتصادهم المحدود والمقاطعة، الاتهامات وسيول النسل المتزايد والازدحامات واختناقات وقفزات الأسعار المريبة، أوقفوها ومن مريلة روضة الأطفال الممزقة، علموها، وألبسوها، وفي العشرين ها هي في فستان الزفاف.
أبيض أبيض ذلك اليوم، عبوس الناس في الشوارع الذي كان يدعوني أنا الآخر للعبوس والاكتئاب انقشع، الناس فرحانة وكأنهم أطفال، والأطفال مجانين بالمسرح، وأمهاتهم معتزات أنهن بصحبتهم إلى معرض الكتاب، وأجنحة كتب الأطفال والكمبيوتر، ويرفع أب ابنه ذا السنوات الخمس ليصافحني ويقول لنا هذا فلان يا ولد، وأفرح بالولد، وفي فرحة طفولية أقبله وأعطيه كتابا وكأنما سيقرؤه؛ فعملة الحب اليوم هي الكتاب، سقط الدولار، والدينار والجنيه وساد الكتاب، وبجنون زاد سعره، ولكنه لا يزال مطلوبا ومرغوبا وجميلا جدا والله، هذه الصفوف والأجنحة ودور النشر المتنافسة، عمك الحاج مدبولي بجلبابه واقف وسط مملكته أو بالأصح حديقته الحافلة بالفكر والفن والأغلفة من كل مكان في العالم ، تحس أن اليوم يومه والعيد عيده، وأتذكر قولا قيما قاله مرة في برنامج تليفزيوني واستعجبت يومها للقول إذ قال وهو يفسر مهنة بيع الكتب ونشرها: الكتاب حب، صدقت يا حاج، فها أنا ذا أرى بعيني أن الحب أيضا كتب.
يا أستاذنا طه حسين الذي قلت في أعوام عجاف: أخشى أن تكون القاهرة قد فقدت دورها كعاصمة للثقافة، ألا تحس في مرقدك العظيم القريب بدبيب الآلاف والآلاف من القراء والكتاب والمتعلمين والمثقفين وأبناء وبنات وأمهات الشعب، الزاحفين إلى معرض الكتاب من كل مكان: من القاهرة وعمان والرياض وبغداد وجنيف وتونس والمغرب واليمن والإمارات وعواصم أوروبا؟ ألا تحس بجبال الكتب القادمة من كل أنحاء الدنيا قد ثبتت أرض معرضنا وأصبحت رواسي وأثقالا تجعلني أجرؤ وأقول لك: لقد عدنا يا طه حسين والعود أحمد، لقد عدنا إلى طه حسين وعاد إلينا طه حسين ومئات معه. ألست فرحا بأحفادك الكتاب الشبان وكتبهم تعرض وتترجم وتدرس وملامحهم ثابتة الوثوق أمام الكاميرات والميكروفونات وجماهير الندوات الحاشدة؟ عدنا وعادت القاهرة ليست عاصمة فقط، ولكن عادت عيدا للثقافة والشعراء وللكلمة والرمز الذي يجمع أمة العرب ويستأمنونه على كل أمجادهم: على كل أبي علائهم، كل متنبيهم، على قرطبيهم وبخاريهم، وحتى على المقدس مصحفهم وأناجيلهم، على كل ألوان فنونهم وكمبيوتراتهم وأدب أطفالهم، موسيقاهم ورقصهم، مسرحهم ورباباتهم. سبحان الله العلي العظيم، الازدحام الذي لا أطيقه في شوارعنا أكاد أضمه إلى صدري هنا، أحس إحساسا جسديا أن الكتابة مهمة جدا، وأنها في خير، وأن القراءة في خير أكثر. أحس بشباب وطالما ظلمناهم واتهمناهم بقلة الاطلاع عارفين ومطلعين ومنتجين، حتى المذيعة الشابة التي نقلت إلى الملايين وقائع المعرض، أحس فيها بتليفزيوننا جديدا يتحدث لغة جديدة ليست بباروكة ولا فستان سهرة، وإنما هي جيل جديد فصيح كنت شغوفا أن أعرف اسمها وعرفته: راوية راشد زوجة كاتب شاب موهوب اسمه - وتذكر يا أستاذنا اسمه - محمد المنسي قنديل كتب قصة عظيمة اسمها «بيع نفس بشرية». أحفادك أحفادك يا طه، مئات أحفادك، امتداداتك: عبد الحكيم قاسم، وجمال الغيطاني، ومجيد طوبيا، وإبراهيم أصلان، وصنع الله إبراهيم، ويوسف القعيد، وعبد الفتاح رزق، وصالح مرسي، وفريدة النقاش، وصلاح عيسى، ومحمد روميش، وبهاء طاهر، وسعيد الكفراوي، ويوسف أبو رية، واعتدال عثمان، وعبد الله الطوخي، وإبراهيم أبو سنة، ومحمد عفيفي مطر، وسناء البيسي، وسناء فتح الله، وشمس الدين، والمخزنجي، ومحمود الورداني، ومحمد الجمل، وسعيد سالم، وإبراهيم عبد المجيد، ومحمد السيد محمد، وسيد حجاب، ويسري الجندي، وأحمد هاشم الشريف، ونادية عابد، ومفيد فوزي، وماجدة الجندي، وزينب صادق، ونوال السعداوي، ومحمود عبد الوهاب، وسحر خليفة، وأليفة رفعت، ومنى حلمي، وأحمد الشيخ، وفهمي حسين أبو عوف، وقنديل، ونهاد صليحة، ووجدي حافظ، وصالح إبراهيم، ومأمون غريب، ومحمد سلماوي، ومحمد عبد القدوس، وعبد العزيز حمودة، ومحمد عناني، وسيزا قاسم، ولطيفة الزيات، وجلال السيد، وبهجت عثمان، وخيري شلبي، وجلال العشري، ومحمد جلال، وفتحية العسال، وإقبال بركة، ورءوف توفيق.
وكلمتي القصيرة تلك لو استطردت لما وسعت ربع الكائن في الحديقة الزاهرة. كبرت الحديقة يا أستاذنا جدا، أشجار كافورها استطالت ووصلت عنان السماء، ويسمينها لا نظير له؛ فرائحته مصرية عربية أصيلة، وكأنما بذوره قد اشتقت من عطور جدتي القديمة الزاعقة. لقد زرت قبل أسبوعين مصانع سلاحنا وخرجت وكتبت مبهورا، واليوم وأنا أرى إبداع قواتنا الكتابية يدق قلبي دقة عنيفة فرحة ليتوقف بعدها ويقول فجأة: والله والله لن نهزم أبدا، والله والله لن نموت أبدا، ولن ندع الفساد والنصب الثقافي والعلمي أبدا. حتما سيتوقف وسيتوقف كل الهاربين والمتهربين والمهربين الكذابين والأفاقين والعابثين الذين يعيثون في الأرض فسادا، فإذا كنا نصنع السلام ونبدع مثل هذه الكلمة، وغدا بإذن الله لا يدخل فمنا سوى خبزنا من أرضنا، خبزنا الحلال من أرضنا الحلال، فسنسحق - ولو كأطفال الضفة وغزة، بالحجارة وبالكلمة وبطيبتنا وبصدقنا - أعداءنا وكل قنابلهم الذرية والهيدروجينية وأكاذيبهم وادعاءاتهم وبطشهم الجبان ووجودهم الرعديد.
نم مستريحا يا طه حسين؛ فلقد ساهمت في صنع كل هذا حين أطلقتها وقلتها: التعليم كالماء والهواء، كان لا بد أن يأتي ذلك اليوم الذي يصيح فيه أحد تلاميذك قائلا: أهمية أن نتثقف يا ناس، وكان لا بد أن يأتي اليوم العيد الذي يمضي صائحا قائلا: والثقافة أيضا لا بد أن تكون كالتعليم كالماء كالهواء، كالخبز، حتى كالخبز المدعوم والخبز الآلي، لا بد أن يدعم، فخبزنا الثقافي عيبه أنه أصبح غاليا تماما يا أستاذنا، والله يرحم أيامكم الحلوة حين كان الكتاب ككيلو اللحم بخمسة قروش.
هؤلاء الشبان ولحاهم السمحة
قال لي صديق: أتحب أن ترى شيئا جديدا في مصر؟ قلت: يا ريت، قال: تعال معي. وذهبت معه إلى المعادي، ولم أسأله عما سيريني؛ فقد أحببت له أن يفاجئني كما أحسست من ابتسامته الغامضة، ذهبنا إلى المعادي ولفننا قليلا في شوارعها الجميلة وانتهينا إلى محل يشبه المصنع أو مصنع يشبه المحل، وهبطنا من سيارة صديقي الفاخرة، فهو رجل من أصحاب الثروات الحلال، ودخلنا المكان نظيفا وأنيقا بطريقة غير عادية، وكأنه حجرة عمليات معقمة، وتطلعت فوجدت وكأن محتوياته معرض للموبيليات أو للتجارة الأجنبية، والبائعون لا يقفون عند المعروضات، ولكن كل منهم أمامه كمبيوتر ومقعد يجلس عليه الزبون، ونحن لا نزال واقفين سألته: ما هي الحكاية؟ قال: عندي بنت ستتزوج عقبال عندك. وأحسست بخيبة الأمل قليلا، فما الجديد في بنت تتزوج ويأتي أبوها الثري لينتقي لها مطبخا أنيقا أو موبيليا فاخرة، حيا صديقي أحد الموظفين وكانت له لحية شابة سوداء مهذبة تماما، وعلى وجهه سيماء الأدب الجم والانضباط والجدية، فلم يسرف في تحيتنا، سلمنا عليه وجلسنا ثم تركنا قليلا، فانتهزت الفرصة وسألت صديقي: ما هي الحكاية؟ قال: هذا مصنع للموبيليات أقامه هؤلاء الشبان بأحدث الطرق العلمية، وأنا قادم الآن لاختيار نوع المطبخ. قلت له: إذن قم بنا نتفرج. قال: سنتفرج دون أن نقوم. وكان الموظف قد عاد بورقة فيها أرقام ضربها على حروف الكمبيوتر، وانتظر قليلا وضرب حروفا أخرى ثم أدار الكمبيوتر ناحيتنا وبعد ثوان قليلة ظهر لنا مسقط رأسي وأفقي لمطبخ كامل على شاشة الكومبيوتر، مطبخ كان له نظير خشبي حقيقي معروض أمامنا فقلت لصديقي: وما الداعي للكمبيوتر إذن؟ قال: لأن المقاسات مختلفة والفتحات في شقة ابنتي والأجهزة مختلفة. وبدأت أهتم أكثر، تأمل صديقي الرسم الإلكتروني ثم قال: إن ابنتي تفضل وضع الثلاجة هنا، وماكينة غسيل الأطباق تحت الحوض. أومأ الموظف الذي بدأت أدرك أنه مهندس شاب برأسه، ونقر على الكمبيوتر بضع مرات وانتظر وانتظرنا بعد ثوان. كان الرسم الجديد قد هبط على الشاشة من أعلى إلى أسفل، ورأينا أمامنا المطبخ محورا كما طلب الصديق الذي ظل يتأمله طويلا، ثم اكتشف شيئا قد نسيه فذكره للمهندس الشاب، فأعاد المهندس العملية وببضع نقرات وانتظار أقل ظهرت صورة المطبخ كما يريدها الصديق تماما، قال: هذا هو بالضبط ما نريده كم سيتكلف؟ وبكلتا يديه راح المهندس يدق على زراير الكومبيوتر، وإذا بقائمة تظهر على الشاشة موضحا بها تفاصيل أسعار كل مكون من المكونات، وفي النهاية مجموع التكاليف، كان الرقم عاليا هذا صحيح، ولكن المهندس شرح الموقف قائلا: إن مصنعنا يعمل للتصدير إلى سويسرا وغيرها من بلدان أوروبا؛ فوقتنا كامل تماما وتلك هي تكاليفنا بالضبط. وحاول صديقي كعادتنا أن يخفض في الثمن، أو يجعله كما يقولون بالإنجليزية رقما دائريا، أي يرفع كسور الآلاف، ولكن المهندس الشاب هز رأسه بكل أدب ورقة وجدية قائلا: هذه هي أسعارنا لا نستطيع تخفيضها قرشا واحدا. وكان واضحا لا فائدة فاستسلم صديقي وقال: ومتى التسليم؟ ضرب المهندس الزراير وقال: يوم كذا شهر كذا من الساعة الثانية إلى الرابعة بعد الظهر.
ودعونا من القصة فما أكتبها فالمصنع في الحقيقة يملكه مهندس شاب من المؤمنين بالتيار الإسلامي الجديد، وكذلك كل العاملين لديه، لهم ذقون وساعة صلاة العصر كان كل منهم يذهب ليصلي ليذهب بعده زميله وهكذا، والمصنع مزود بأحدث التكنولوجيا في صناعة الأثاث، وكل حساباته الهندسية والمالية والزمنية يقوم بها الكومبيوتر، وكما علمت فإن آلات النجارة نفسها فيها كمبيوتر يقوم بكل العمل، والشبان الذين يعملون فيه نشيطين مؤدبين صامتين أغلب الوقت، وكأنك في مسجد، وكان العمل عبادة، وأدبهم وطريقتهم في المعاملة تفوق الوصف وانضباطهم يفوق الحد، وثقافتهم ودرايتهم واسعة ودقيقة تماما.
وأحسست بفخر شديد .
أدركت لماذا كنت أغضب حين أقرأ وأرى وأسمع الجعجعة الميكروفونية باسم الدين الحنيف؟ أدركت لماذا كنت أعترض على أصحاب الآراء القائلة بضرورة العودة إلى حياة البادية ونبذ العلم والتكنولوجيا وربما اعتلاء الجمال وسيلة للمواصلات؟ كنت أغضب لأني أعرف ومتأكد ودارس أن الإسلام ليس هكذا أبدا، وأن ذلك الدين الذي دفع العلوم والكشوف مئات السنين إلى الأمام لا يمكن أن يعطي ظهره للعلم وللتحضر وللتطور، كنت أغضب لأني أعلم أن الإسلام ليس دين التعصب الأعمى المدجج بالسلاح والرصاص القاتل لمن يتوهم أنهم معارضوه أو مخالفوه، وإنما هو دين الحجة والمنطق والعلم والموعظة الحسنة.
أحسست بفخر شديد.
هؤلاء الشبان مؤمنون مسلمون، ذلك الإسلام المفرح الهادف إلى إتقان كل شيء من أول التصرف في الطريق إلى العمل إلى العبادة، الإسلام القائل: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه.» بتفانيه يتقنه بالكمبيوتر يتقنه، باستيراد التكنولوجيا والعلوم تمهيدا لإتقانها وتأصيلها حتى نستطيع بهذا أن نصدرها. هذا هو الإسلام في أعظم صوره، الإسلام في الكلمة العظيمة التي يتجاهلونها دائما: الدين المعاملة، العمل عبادة. لا غلظة في القول ولا شدة في المعاملة، ولا استغناء عن رضاء الناس بإرضاء المولى سبحانه وتعالي؛ فإرضاء الناس فيه إرضاء للمولى، هذا هو الإسلام، لا خزعبلات فيه، إسلام العلم والعمل والتقوى، إسلام الرجل والمرأة، الجاد السمع المؤدب المهذب المنضبط، هذا هو الإسلام الذي يدفع المسلمين إلى أمام وإلى تقدم يجعلنا نتلفت ذات يوم لنطبق الحد، فنجد كل الناس قد صلحوا ولم يعد هناك آثم ينبغي أن يطبق عليه الحد أو العقاب، الإسلام الذي يرقى بالنفوس ويسمو بالروح ويؤمن إيمانا قاطعا أن سلوك المسلم هو الذي يحاسب عليه، وهو الذي نراه منه وهو الذي يعاملنا به، وليس هو ما يقوله أو يجهر به أو يعذب به الناس في ميكروفونه، وقد أمرهم الله في كتابه أن يجعلوا الليل لباسا وراحة للعقل والبدن.
لم أكن أريد أن أغادر هذا المكان الجميل الذي لم أعرف صاحبه ومديره من العامل فيه ولا الرئيس من المرءوس ؛ فكل منصرف إلى عمله يجد فيه ويتقنه بوازع من ضمير حي وليس عن خوف من عقاب.
اللهم إذا كان التيار الإسلامي هكذا فأنا أول المنضمين.
فإذا شئتم حزبا يبشر بهذا ويعمل به يخاطب العقل فينا وينهرنا عن الغوغائية فخذوني معكم.
وودعت الناس والمكان وأنا أقول لنفسي: سبحان الله! ما لهذا الدين العظيم يستحيل عند بعض الناس إلى وسيلة قهر وتعذيب واستعباد، في حين أنه في حقيقته، وعند المسلمين حقا وهو هكذا كما رأيت، عنوان للتحضر والرقي الأخلاقي والعلمي والمهني والإيمان العميق الذي لا يتباهى به أحد على أحد ولا يكفر به أحد.
رب ارزقنا بكثير من أمثال هؤلاء الشبان الملتحين في وقار العاملين في جدية العارفين ربهم عن ذكاء ووعي وحب وإيمان عميق.
أجادير في عينيك
أحب الطيران، وأكرهه؛ فالطيران سفر، وللسفر خمسون فائدة، ولكن السفر بالطائرات بالذات يعطيني متسعا كبيرا من الوقت أستطيع أن أتأمل فيه أحوالنا وأحوال نفسي، فإذا زاد هذا المتسع كثيرا وطويلا، وبدا الملل من قلة الحركة وطول الزمن فإنه يصبح عبئا كبيرا على النفس، وما أكاد أسمع ذلك الجرس المخصوص الموجه لطاقم الطائرة والذي يعني الاستعداد للهبوط، حتى أتنفس الصعداء.
والرحلة هذه المرة كانت طويلة جدا، من الرياض في المملكة العربية السعودية إلى المغرب مع توقف ست ساعات في القاهرة، رحلة طويلة جدا، رحت أستعيد فيها ما شاهدته في الجنادرية من طقوس للحياة القبلية القديمة الجميلة، ثم مناقشات الكتاب والمثقفين حول التراث، وها أنا على الغداء أو العشاء أو في الندوات كنت ألمح رجلا وسيما طويلا له مهابة خاصة، وكنت أسأل عمن يكون، فقد كان لا يبدو أنه واحد من كتاب العالم العربي، فجميعهم - المعروفون - أعرفهم، وكذلك لا يبدو أستاذا جامعيا، وفي جلسة ما سألت جاري في الجلوس الصديق والشاعر عبد الله الشيتى أحد قلائل الظرفاء الموجودين في العالم العربي، وما أمتع أن يجلس الإنسان معه ويكون ثالثنا محمود السعدني، تصبح الجلسة متفجرات من الضحكات، ولأننا قليلا ما نضحك هذه الأيام، لست أدري لم؛ فساعة مع محمود السعدني وعبد الله الشيتي نعمة من نعم الله في هذا الطقس العربي المتزمت.
سألت الشيتي عن ذلك الرجل فقال لي: ألا تعرفه؟ إنه وزير الثقافة المغربي. وقدمنا لبعضنا البعض بعد الندوة، وكانت لي مع هذا الرجل قصة غريبة، ولكن قبل أن ننتهي من الجنادرية أحب أن أوضح للقراء لماذا أقطع أعمالي وأصر على الذهاب إلى مهرجان وندوة ثقافية تعقد في الجنادرية (هذه هي السنة الرابعة) ويكون موضوعها الموروث الشعبي والإبداع الفكري والفني؟ ذلك أنني أعتبر أن مناقشة هذه الموضوعات في المملكة السعودية مسألة خطيرة جدا؛ فالمملكة في الآونة الأخيرة - خاصة بعد أحداث الحرم - بدأت تدرك أن الجمود الفكري هو الأرض الخصبة لنمو التعصب والتعنت وضيق الأفق، ولهذا بدأت الدولة «تتقدم» المراكز الفكرية والأدبية السائدة في المملكة، وبدأت تدعو مثقفين من اتجاهات كثيرة وتضعهم وجها لوجه أمام الثقافة التراثية السائدة، وهذه خطوة عظيمة لا شك؛ لأن زحزحة الجسد الرجعي الجاثم على قلب الثقافة السعودية هي زحزحة أيضا لنفس هذه الاتجاهات السائدة في مصر وفي كل أنحاء الوطن العربي؛ ذلك أن السعودية لها وضع ديني وروحي خاص بالأمة العربية، ويصر الكثيرون على خلط المفهومات الإسلامية بالمفهومات الثقافية والفكرية، فتكون النتيجة الجمود التام؛ بمعنى توقف أو توقيف عقل المجتمع عن أن يعمل ويفكر ويتقدم، وزمان قال العقاد: أنا أفكر فأنا مسلم. وللأسف انتهينا هذه الأيام إلى من يقولون أنا لا أفكر، إذن فأنا مسلم حقيقي، ولقد سألني كاتب سعودي ذو لحية بيضاء جليلة: لماذا تنفقون الوقت والجهد في مناقشة هذه الخيالات (يقصد السير الشعبية من سيف بن ذي يزن إلى عنترة وألف ليلة والزير سالم) إنها خيالات، مجرد خيالات؟ لماذا تضيعون وقتكم في مناقشتها؟ قالت له: إذن ماذا تريد منا أن نناقش؟ قال: الحقائق التي حدثت في التاريخ مثل الخلفاء الراشدين ومعاوية وغيرهم من أبطال الإسلام، قلت له: أتعني أن الإسلام الحقيقي ضد الخيال؟ إنك بهذا يا رجل تسلب الإنسان - سواء كان مسلما أو غير مسلم - أعظم موهبة منحها الله له ، وهي القدرة على التخيل وتجسيد هذا الخيال في أعمال فنية، إن الحيوان لا خيال له، إنه لا يرى إلا ما أمامه فقط، وهو لا يستطيع أن يتخيل أبدا شيئا غير ما يراه رأى العين، أما المخ البشري ففيه مراكز هائلة للتخيل، نعمة من الله، لولاها لأصبحنا سائمة أو كالسائمة.
وسؤال ذلك الكاتب السعودي لم يأت من فراغ؛ فهناك مدرسة بأكملها في العالم العربي وفي السعودية على رأسها الأستاذ عبد الله بن إدريس رهيبة السطوة على النفوس واشتراكها في تلك الندوات إنما يهدف إلى تغليب الجانب القائل بالتمسك التام بالموروث وبكل ما صنعه الآباء والأجداد، وعدم التحرر منه لشعرة، وإلا فقدنا لغتنا العربية وفقدنا بالتالي إسلامنا، وكأننا إذا أعطينا إنساننا الحديث أو مثقفا حرية الحركة، وأبحنا له أن يخرج على تعاليم الآباء والأجداد والموروث فإنه حتما سيضل وسيضيع، معاذ الله.
إلى هذا الحد يبلغ عدم ثقتنا بأنفسنا، فنحن مثل الأجداد بشر، وقد كانوا بشرا، وعاشوا حياتهم وتصرفوا فيها «وكانوا أعلم بشئون دنياهم»، وأصبحت حياتهم وتصرفاتهم «تراثا»، هذا صحيح، ولكننا أيضا لنا حقنا في أن نعيش مثلهم ونتصرف حسبما تمليه علينا ظروف حياتنا الراهنة «ونحن أعلم بشئون دنيانا» بحيث تصبح حياتنا وتصرفاتنا تراثا أيضا للأجيال القادمة التي لا بد لها هي الأخرى أن تحيا حياتها وتتصرف تصرفاتها.
ولكنهم يردون عليك ويقولون هذا خروج ومروق سينتهي بك إلى أن تترك الدين، هذه قضية لم أفهمها أبدا، وأعتقد أنني لن أفهمها، هل التمسك بالدين يعني أن تحيا مثلما كان يحيا الناس أيام معاوية وأيام العباس مثلا، وإلا خرجنا على الدين؟ ما علاقة الدين وهو إيمان كامن في النفس وفي القلب لا يتزحزح، ما علاقة هذا بأن أركب سيارة بدلا من الجمل، أو أن آكل هامبرجر من لحم البقر بدلا من الخروف (والفتة)؟
المهم لي عامان وأنا أحضر ذلك المهرجان والمعركة لا تزال محتدمة بين أنصار الجمود وأنصار التقدم، يا إلهي، إن المشوار أمامنا طويل! •••
كان ذلك الرجل الذي لفت انتباهي هو وزير الثقافة المغربي ، وهو مثل زميلي فاروق حسني عندنا، نموذج فاخر للمثقف المتعدد الاهتمامات والقدرات، هذا الرجل كان هو وصديق عمره (الذي أصبح وكيلا لوزارة الثقافة المغربية) يعملان في الأمم المتحدة في نيويورك لمدة عشرين عاما متوالية، وفجأة قررا أن يتركا العمل في أمريكا ويعودا معا إلى بلدهما المغرب، بل ليس حتى إلى المغرب، وإنما إلى مسقط رأسيهما في قرية «أسيلة» وهي قرية صغيرة على المحيط الأطلنطي، قرية فقيرة يعمل معظم سكانها بالصيد، وكأي قرية صغيرة في العالم الثالث لم يكن بها ماء نقي أو كهرباء أو تليفونات أو أي شيء ... هذا الرجل (محمد بن عيسى) قرر أن يحيل القرية إلى جنة من جنات الله بعد عودته من أمريكا، قرار رجل واحد أو رجلين، لو أن كل مثقف في العالم العربي قرر أن يفعل مثلهما لأصبح العالم العربي جنة، وبدأ بالاستعانة بنفر من زملائهما من الفنانين، بجمع نقود قليلة تمكنا بها من طلاء القرية باللون الأبيض الجميل، وبهذا الطلاء فقط تحول موقف أهل القرية من هؤلاء المثقفين الأفندية الغرباء، وبدءوا يسمحون لأولادهم سواء أكانوا تلامذة أم غير تلامذة أن يعملوا معهم بالاستعانة بهؤلاء الأولاد: بدأ الأفندية ينظفون شوارع القرية، ثم بواسطة بعض التبرعات يحفرون بئرا للماء، ويدخلون «موتور» كهرباء، فيضيئون القرية، ثم بدأ الفن: استقدموا أصدقاءهم الفنانين من الدار البيضاء مراكش، وعهدوا إلى كل منهم برسم حوائط القرية، بل حتى برسم شوارعها بعد سفلتتها، ولكي يتموا هذا العمل الكبير كان عليهم أن يرشحوا أنفسهم للمجلس البلدي للقرية (تعداد القرية اثنان وعشرون ألفا) ونجحا في الانتخابات بعد كفاح رهيب طبعا، فتراث القرية المعتادون على تولي مناصب المجلس البلدي بحكم النفوذ أبوا أن يفسحوا المجال لهؤلاء الغزاة الجدد المسلحين بالفن والفكر والرغبة الشديدة في التغيير، وحين تمت لهما السيطرة على المجلس البلدي، استعانا بقوة المجلس وأمواله في إحداث هذا التغيير، وفعلا، وبعد أقل من عامين كانت «أسيلة» قد أصبحت جنة، أو متحفا حيا للجمال يضم الزرع الأخضر واللوحات على الجدران وعلى الأرض. وهنا بدأت الحكومة المركزية تفطن إلى هذا الحدث وتحاول الاستيلاء عليه وتحويل «أسيلة» إلى قرية سياحية، وهنا وقف محمد بن عيسى وصديقه، أو بالأصح ناما بالطول عند مدخل القرية وأبيا أن يدخلها سائح واحد؛ قال لي محمد بن عيسى: كنا لا نريد أن نحول أنفسنا وأهل القرية إلى قرود في حديقة حيوان يتفرج عليها السياح، كنا نريد أسيلة لنفسها ولأنفسنا، وقلنا على جثتنا إذا مر سائح واحد.
وفعلا لم يمر سائح واحد ووصلت المعركة إلى الملك الحسن الثاني فاستقدم هؤلاء الفتية وكان أن عهد إلى محمد بن عيسى بوزارة الثقافة.
والذي حدث أن محمد بن عيسى طور الفكر وتفتح ذهنه عن إقامة مهرجان أسيلة للفنون والآداب كل عام، وأقيم المهرجان وأصبحت حديث أوروبا وأمريكا، انتقلت من قرية صيادين في العالم الثالث إلى لوحة عالمية يرنو إليها أي أوروبي أو غير أوروبي، يرغب أن يراها رأى العين.
أرأيتم ما أقصده ... إن مجهود فرد واحد أو فردين مخلصين ممكن أن يحولا قرانا الموحشة إلى جنات ... فقط أين الإرادة. •••
أكتب هذا وأنا في طريقي إلى أجادير أو أغادير، تلك المدينة البطلة التي وقفت في وجه الاستعمار، مثل بورسعيد، موقفا بطوليا عظيما، ثم بعد زوال الاستعمار الإسباني والفرنسي، أصبحت مدينة سياحية عالمية، وحيث أنهيت أعمال مشاركتي مع المجلس القومي للثقافة في المغرب في اللجنة التحضيرية للمهرجان القومي الثقافي العربي الذي سيعقد في أغادير في أكتوبر القادم بإذن الله، ها أنا ذا في طريقي لمشاهدة معالم المدينة وقضاء إجازة يومين قبل العودة للقاهرة؛ لكي أشهد أعظم حدث روحي، حلول رمضان المعظم في قاهرة المعز.
رسالة من الجنادرية
لا أعتقد أن الإنسان منا يتحكم في حياته تماما، وفي الأسبوع الماضي فتحت موضوعا مهما - كان له صداه الغريب لدى القراء - وكان مفروضا في مفكرتي لهذا الأسبوع أن أتابع الموضوع وأخبر القارئ بآخر ما توصلت إليه حياله، ولكن الأقدار كانت تخبئ لي شيئا آخر؛ إذ كان الميعادان قد حلا معا في وقت متقارب جدا، وكنت قد كتبت ووافقت منذ بضعة أشهر على حضور مهرجان الجنادرية الذي يعقد في الرياض، وعلى الاشتراك في التحضير للمؤتمر الثقافي القومي الذي يعقد في المغرب في أكتوبر القادم إن شاء الله، وبدأت التليفونات والاتصالات والتذاكر المعدة سلفا، وكان لا بد أن أسافر وفعلا قررت حضور الجنادرية أولا ثم الطيران رأسا إلى المغرب لحضور الاجتماع، ولكن طول الوقت كنت مشغولا بقضية الطالب محمد حامد الحمامي ومشكلة فصله من معهد الفنادق في بورسعيد إثر محاولته تعليق صور للانتفاضة الفلسطينية، وها أنا ذا من الرياض أتابع الاتصال بمكتبي في الأهرام، وعلمت أن الدكتور فتحي سرور قد اتصل بي ووعد بالتحقيق السريع في القضية، ثم جاءتني مكالمة من اللواء زكي بدر وزير الداخلية، ولأن الاتصال لم يحدث، والمتصل كان مدير مكتبه؛ فلم أعرف بالضبط ماهية الرسالة، كل ما أعرفه أن لدى عودتي القريبة إن شاء الله سأتابع القضية معهما، لا لكي أطمئن على مصير الطالب محمد حامد الحمامي فقط، ولكن لكي نشترك جميعا في وضع بروتوكول للنشاط السياسي المشروع الذي لا بد أن يقوم به الطلبة والشباب؛ فالعقل الحاكم الحديث يعتبر أن المظاهرات السياسية والمؤتمرات المنظمة وكافة الأنشطة النقابية والشعبية هي مصدر من مصادر القوة لديه، وأمامنا المثل في إسرائيل، تلك التي تلعب هذا الدور بمهارة شديدة، فهي تترك فيضان مظاهرات «السلام الآن» تهتف ضد الاحتلال الإسرائيلي للضفة ولغزة، في نفس الوقت الذي تفتح فيه القنابل والرشاشات على الشباب والفتيات العرب المتظاهرين، وسماح الحكومة الإسرائيلية لمظاهرات ونشاطات جماعات «السلام الآن» هو خير دعاية - من ناحية أخرى - لديمقراطية الحكومة الإسرائيلية تجاه مواطنيها الإسرائيليين فقط لكي تخفي بهذه الديمقراطية الفاشية التي تعامل بها المواطنين الفلسطينيين العرب.
إذن إلى الأسابيع القادمة إن شاء الله لكي نناقش هذا الموضوع بعمق أكثر وبفاعلية أرجو أن تكون أكثر، بحيث تؤدي إلى اتفاق على أسلوب لمعاملة النشاطات الشعبية التي قد يبدو بعضها مخالفا لما تقوله الحكومة، ولكنه - وهذا هو الغريب - يتفق تماما مع التصريحات التي يدلي بها الرئيس حسني مبارك. •••
والآن أنا أكتب لكم هذه الكلمة وأنا في مهرجان الجنادرية وهي منطقة صحراوية تبعد عن الرياض بحوالي خمسين كيلو مترا، وهو مهرجان سنوي يقيمه «الحرس الوطني السعودي» للثقافة والفنون الشعبية، وقد يبدو الأمر محيرا قليلا؛ إذ إن الحرس الوطني نوع من الميليشيا العسكرية المكونة من أبناء جميع القبائل في المملكة العربية السعودية، وذلك حتى «يحرس» وحده شبه الجزيرة العربية. إن مسألة البترول والنقود السعودية الكثيرة والعلاقات المتحسنة قليلا السيئة في معظم الأحيان قد منعتنا عن دراسة ما حدث ويحدث في الجزيرة العربية منذ الثلاثينيات وإلى الآن، في حين أن السعودية واحدة من أهم البلاد العربية، بل أهم بلاد العالم كله وعلاقتها بمصر علاقة أزلية مصيرية، كان الملك عبد العزيز ووالده الملك السابق منفيين في الكويت بعد صراع حول الحكم، ثم قرر الملك عبد العزيز أن يعود ويفتح الرياض، وفعل هذا بسبعة عشر مقاتلا لا غير، ولأن الرجل كانت له رؤية تاريخية بعيدة؛ فقد أخذ على عاتقه مهمة القضاء على الوضع القبلي في الجزيرة العربية، والذي كانت تتحكم فيه قبائل وسلاطين ومحل حروب مستمرة حول المراعي، أنشأ الملك عبد العزيز جيشا وحارب زعماء القبائل بلا هوادة، وبالقوة مرة والزواج مرة وبالسياسة مرة استطاع أن يوحد شبه الجزيرة العربية التي تصل مساحتها إلى ثلاثة أضعاف مساحة فرنسا، وأخيرا تم له في النهاية الانتصار، وأصبحت شبه الجزيرة العربية مملكة واحدة، وأنجب الملك عبد العزيز أربعين ولدا، كان اكبرهم الملك سعود الذي تولى الحكم من بعده ثم فيصل الذي استشهد في حادث غامض، ثم الملك خالد الذي توفي وتولى بعده الملك فهد.
ولا بد أن بلاد نبينا العربي محظوظة حقا، فمنها خرجت رسالة الإسلام تعيد الإيمان إلى قلوب كفرت وتمنح الحق للمؤمنين أصحاب الديانات السماوية الأخرى أن يحيوا في سلام تحت ظلال الدولة الإسلامية الكبرى، التي فتحها العرب وامتدت من الأندلس إلى أزبكستان إلى الهند والصين وأفريقيا.
أقول محظوظة لأن البترول بدأ يظهر في السعودية في أوائل الثلاثينيات، ولو لم يكن الملك عبد العزيز قد «وحد» شبه الجزيرة كلها في دولة واحدة، لو لم يكن هذا قد حدث وظهر البترول في عهد الانقسامات والقبائل لكانت المملكة العربية السعودية اليوم عشرات من الإمارات الصغيرة المتنافرة المتنازعة، فاكتشاف البترول إذن بعد قيام الدولة جعل العائد لا يضيع في منازعات وحروب صغيرة، إنما تسلمته الدولة السعودية الجديدة وأصبح لها شأنها الكبير الآن.
بقيت مسألة الحرس الوطني والثقافة؛ فالحرس الوطني أنشئ من كل أبناء القبائل ليحافظ على «الأمن» الداخلي، وهو جهة مستقلة تماما لا علاقة لها بالجيش الذي يحافظ على الأمن الخارجي، ولا بوزارة الداخلية التي تقوم بأعمال أي وزارة داخلية في أي بلد آخر.
أما أن يتبنى الحرس الوطني الثقافة ورعايتها في المملكة، ولأنها بدت لي غريبة أن يقوم تنظيم عسكري بالإشراف على الثقافة؛ فإن الشيخ عبد العزيز التويجري مساعد رئيس الحرس الوطني الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس الوزراء؛ إذ الملك فهد هو رئيس الوزراء، ذكر لي الشيخ عبد العزيز أن مهمة الحرس الوطني أكبر من مجرد المحافظة على الأمن؛ فهو المسئول عن المحافظة على التراث العربي في شبه الجزيرة، وعلى ربط الحاضر بالماضي باستمرار بحيث لا ينشأ جيل مترف تماما من السعوديين لا يعرفون شيئا من واقعهم في الماضي القريب؛ ولهذا جاءت فكرة إقامة مهرجان الجنادرية، والمهرجان يرأسه الأمير عبد الله الذي يحب الموسيقى وله صلات كثيرة بمعظم الموسيقيين في العالم العربي، في الحقيقة أن يوم أمس يوم الافتتاح كان حدثا فعلا، فأن تتبنى المملكة العربية السعودية فكرة إقامة مهرجان عن العلاقة بين الموروث الشعبي والإبداع الفني والفكري شيء يكاد يصل إلى المعجزة، فكلمة شعبي نفسها كانت لا تذكر قبلا في المملكة، وأن تعترف المملكة ب «الإبداع» الفني والفكري شيء خطير يكاد يكون انقلابا في التفكير، وأن يدعى إلى حضور هذا المهرجان والاشتراك في الندوات والمناقشات كتاب من أمثالنا وشعراء، كانوا موضوعين في القائمة السوداء ومحظورا عليهم دخول المملكة؛ فهو علامة أن المملكة تتطور بخطوات واسعة إلى الأمام، ليس فقط في الإنشاءات الخرافية والطرق ووسائل الاتصالات والمواصلات، وإنما أيضا في «التفكير»، مع الحفاظ على التقاليد العربية الراسخة، وكنت جالسا لمشاهدة المهرجان قريبا من جلسة خادم الحرمين وولي العهد الأمير عبد الله، وكان مذهلا تماما أن أرى الأمير بدر واقفا بغير عباءة رهن إشارة الملك وولي العهد مع أنه أخوهما، بل في حفل العشاء الذي تلا هذا المهرجان الشعبي ظل الأمير جالسا خلف أخيه الملك مباشرة دون أن يسمح لنفسه أن يشارك في تناول العشاء، الحقيقة أعجبتني هذه الطريقة العظيمة في الولاء بين أطراف العائلة الواحدة، بل حتى حين عزمنا الشيخ عبد العزيز التويجري وهو فوق أنه نائب رئيس الحرس الوطني أرى أنه من أنبغ المواهب التي أنجبتها صحراء نجد على طول تاريخها، بدوي من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، وهو يكتب على السليقة، يجلس هائما هكذا ثم يملي وقد قرأت كتاب «رسائل ولدي» وكذلك كتابه الآخر والمهم تماما «رسائل إلى المتنبي»، ولأول مرة كان كاتبا يأخذني من يدي ليطلعني على خفايا ودهاليز وعبقرية المتنبي، وهي ليست فقط رسائل للمتنبي، ولكنها عملية حوار عظيمة بين بدوي كاتب وبدوي شاعر، تكاد تتلمس فيها كيف تنطق صحراء نجد حكمة وتفانين وصورا شعرية أخاذة، وفلسفة كليهما الأبي المتواضع أشد ما يكون تواضعا واعتزازا بالذات وبما تنطوي عليه من مزايا ومن خير.
أما كتاب عبد العزيز التويجري الأخير عن «حاطب ليل شجر» ذلك الذي كتب مقدمته الدكتور زكي نجيب محمود، فهو في رأيي تمثل قانتا أضجره العيش الرضي وبات يحن إلى الحياة الصحراوية في بدايتها الأولى، والغريب أن هذا الحنين من القوة بحيث إن كل الصور الشعبية والفلسفية الواردة فيه مأخوذة عن حياة البادية وطقوسها وراعيها وحتى شياهها.
حين عزمنا الشيخ عبد العزيز على العشاء فوجئت أن الذي يخدم علينا هم أبناؤه، إن الإنسان منا في مصر يكاد يقبل يد ابنه ليحضر مجرد حفل عشاء يقيمه لأصدقاء، فما بالك وهؤلاء لا يحضرون فقط، بل زيادة في الإعزاز والتكريم يتولون هم وليس أحدا غيرهم، مهمة القيام على راحة الضيوف، مع أن أكبر أبناء الشيخ هو الشيخ عبد المحسن التويجري رئيس ديوان ولي العهد بنفسه يحضر لك الماء ويعزم علي ويعتني بكل ضيف عناية خاصة. •••
في المهرجان أخذني الأمير بدر من يدي وتوجهنا معا إلى حيث الملك فهد وولي العهد وبإعزاز صافحني خادم الحرمين وولي العهد، وكنت أتصوره سلاما مجرد سلام، لكن الملك قال لي: نحن معتزون وممتنون للرئيس حسني مبارك على تصريحاته بمناسبة تهديدات شامير.
تهديدات شامير بضرب قواعد الصواريخ في المملكة، إن هذا الموقف ليس جديدا علي وعلى الرئيس حسني مبارك، فقد تعودنا منه الشهامة والرجولة حين يجد الجد.
قلت له: حبذا أن نسمع هذه الإشادة في القاهرة.
قال: أنا قادم إلى القاهرة إن شاء الله بعد العيد مباشرة.
قلت: مرحبا بك فالشوق مزدوج وكبير، أترككم الآن إذ أنا في الطريق إلى قاعة المناقشات في الجنادرية لمناقشة موضوع هام تماما هو التراث الشعبي وعلاقته بالقضية العربية الحديثة.
أترككم ومعي وفد مصري كبير يناهز الأربعين كاتبا وشاعرا وناقدا ودارسا، أكبر وفد إذ حجمه حجم كل الوفود العربية والأجنبية المجتمعين.
وكل الوفد محل حفاوة الداعين ورعايتهم، وبالذات الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة السابق والدكتور عبد الحميد يونس أستاذ الأدب الشعبي، والدكتور عبد القادر القط، والشاعر فاروق شوشة، والناقد رجاء النقاش، والروائي الشاب صنع الله إبراهيم، ومعنا أيضا الشاعر محمد الفيتوري، والقاص السوري زكريا تامر، والروائي السوداني الكبير الطيب صالح، ووزير الثقافة المغربي والكاتب د. عبد الكريم غلاب، عدد لا يحصى من المبدعين والنقاد العرب.
في ألمانيا
كنا ديكور عدالة وكان علينا أن نخاطب أدمغة محصنة ضد أي نفاذ
كانت الأقدار لي بالمرصاد؛ فقبل زيارتي لليابان، زرت ألمانيا الغربية، بدعوة غريبة في أسبابها وظروفها، وجعلتني ظروف زيارتي لهذين الشعبين الخطيرين أومن باعتقاد راسخ، أن محور «ألمانيا-اليابان» الذي حدث في الحرب العالمية الثانية لم يقم صدفة أبدا.
أبدا ليس صدفة.
ولم يتحالف الجرمان مع الأقزام ضد الأنجلو سكسون والسلوفاك عبثا.
بل الحقيقة تكاد تتضح لعيني الآن، إنه تحالف المتطرفين ضد أوروبا السوية، وكان طبيعيا جدا، وقد قفزت إلى قمة الوجود شخصية متطرفة أخرى، أمريكية هذه المرة، أن يحدث هذا التلاقي بين الثلاثة، ويصبح محور «أمريكا-ألمانيا-اليابان» أعتى معاقل الرأسمالية في كل تاريخها، على استعداد لمواجهة العالم كله.
ولقد استعملت التطرف هنا بهدف التخفيف؛ فالواقع أنه ليس تطرفا؛ فلقد ذكرت أن هذه الأنواع البشرية موجودة في حالة كونهم أصحاء عقليا، إذا تكاتفت الظروف واحتدت وبدأت الشخصية تمرض مرضها المقابل المحدد؛ فالشيزودية تصاب بالشيزوفرينيا أو مرض انفصام الشخصية، والبارانودية تصاب بجنون الفكرة النابتة وهكذا.
وبكل المقاييس العلمية إذا طبقناها فلا يمكن اعتبار الشخصية الشيزودية اليابانية والقهرية الألمانية شخصيات عادية، لقد تآمرت ظروف كل منهما الخاصة لتدفع بمؤشر التوازي كثيرا أو قليلا تجاه المرض، هناك شعوب أخرى تنضوي تحت بند الشخصية القهرية، وكذلك الشيزودية، ولكنها أبدا لا يمكن أن يبلغ بها الأمر هذا الحد غير العادي الذي وصلت إليه اليابان.
ظروف العزلة في اليابان، والإحساس أنهم الأقل قامة وشكلا وحضارة من آسيا والصين، ظروف ألمانيا التي مكنتها شخصيتها من أن تتفوق دائما وتحاول التسيد على القارة أو العالم، بحيث يتكتل الجميع، أكثر من مرة، ضدها ... بهذه الظروف كلها لم تعد الشخصية اليابانية مجرد شخصية شيزودية، ولا الألمانية مجرد نمط قهري، لقد نما الازدواج في اليابانية حتى بلغ مرحلة الإحساس الخطير بمركب النقص الذي يكاد يدفعها إلى الانتحار عملا وقوة طلبا للتفوق، وبلغ مرحلة الإحساس الخطير بمركب الكمال في ألمانيا النازية إلى حد الإيمان الأعمى بالنفس، والكفر الأعمى بالآخرين، إلى مرحلة المرض، والغريب أنه، وكلاهما على طرفي نقيض، هذا يريد الانتحار تفوقا أو التفوق انتحارا، وهذا يريد الانتحار كمالا، يلتقيان لقاء مروعا مخيفا، لقاء المرض بالنقص مع المرض بالكمال، لقاء الحساسية بالسيادة على الدنيا فعلا بأولئك المتطلعين إلى هذا الإحساس المعانين من مركب النقص.
لقاء دائما تترتب عليه أوخم العواقب، حتى الهزيمة العسكرية الساحقة لا تكفي لكسر المحرك المخيف المريض الذي يلهب كيان الشخصية كلها؛ فتكاد تصوم عن الحياة، وتعمى عن أي مما فيها إلا عن هدف إثبات التفوق أو فرضه فرضا، تهزم الدنيا عسكرية وتنزع من أياديهم المريضة لعبة السلاح التي كلفت عالمنا 40 مليونا من الضحايا، فيوافقون وهم يخفون الابتسامة في الأكمام. فإذا كنا انهزمنا في مباراة القوة فتعالوا لتلبس قوتنا ثوب التمدين وتتبارز رأسماليا وصناعيا، وينهار المتسابقون واحدا إثر الآخر، ولا يبقى في الساحة إلا ذوو الدوافع غير البشرية، غير السوية، غير العاقلة، للتفوق والإنتاج، أمريكا وألمانيا واليابان، بل حتى ليبدأ التسابق المخيف الآخر بين المرضى أنفسهم، تسابق أناني شرير هدفه انفراد الواحد منهم بسيادة البشرية جمعاء، ومع هذا، ولأن هناك معسكرا اشتراكيا آخر، بنظام آخر؛ فالرغبة في الانفراد لا تمنع تكاتف الجميع، والرأسمال الياباني نافذ على الألماني، والاثنان كتلة واحدة مع الأمريكي، السمة الرأسمالية واحدة، ولكن الضحية هي شعوب هذه البلاد، التي يصرعها ويجردها من إنسانيتها وينمي فيها الإثرة والأنانية والعداء للآخرين، هذه الآلة الرأسمالية الجهنمية وهي تعمل وبمعدل مخيف.
وبالعلم والعلماء قد اشتروهم تماما يسخرون لهم كل حقائق العلم الإنساني، كل آفاقه، كل انتصار على قوى الطبيعة، يسخرون لهم هذا كله ليغذي هذا الجوع المرض الشهواني لامتلاك العالم في قبضة يد وتحت تصرف ضغطة إصبع إصبعي، أحرك الدنيا بسبابتي أنا، حتى لو كانت الحركة إلى الجحيم.
ألا يكون من نعمة الله على بشره أن العالم ليس ساحة خالية يرقص فيها المجانين الثلاثة رقصة الحياة-الموت-الجنون، وأن هناك معسكرا آخر نشأ لكنه، إنسانيا جاء، وإنسانيا يعمل، الصين قادمة، وألمانيا الديمقراطية، تشيكوسلوفاكيا، يوغسلافيا، الاتحاد السوفييتي الثاني في الإنتاج ... الصناعة الإنسانية أيضا تمضي، تقف، تلاحق خطو المجانين، بيدها تأخذ بيد العالم الثالث، علمها غير أناني، اكتشافاتها لا يحتكرها بيت عريق في عدائه للإنسان، إنما هي ملك لنا ولهم وللدنيا لو أرادت.
ضاع الأمان.
في ألمانيا ...
فجأة أحسست أني في فيلم من أفلام الجاسوسية وجيمس بوند، فقدت الأمن، وأغرب الإجابات جاءتني حتى سألت الهرميشلر مدير الأكاديمية الإنجيلية (وهي شيء كالجامعة الأزهرية الدينية عندنا) لماذا دعاني ودعا وفدا مصريا ثقافيا لألمانيا؟ لم تأتني إجابة شافية واحدة، كل مرة كانت الإجابة مختلفة، هذه المرة قال: بصراحة أنا لا أفعل هذا حبا في مصر والعرب فقط، إني إنما أقوم به محافظة على اليهود أنفسهم، إني فيما أرى أنهم اعتمدوا على القوة فقط كي يفرضوا وجودهم؛ فالمحتم أن يصمد العرب، بالغريزة حتى إلى القوة، وقد يطول الزمن، ولكن النتيجة أن يهزم اليهود في النهاية ويؤدي فرض الوجود هكذا إلى استئصال الوجود، أنا إذن من أنصار التعايش والتفاهم مع العرب.
ولأني لم أجد في ملامحه الطيبة أو التي تبدو كذلك أي إشارة تؤكد صدقه أو تنفيه فقد سكت، ولم أشأ أن أجادل.
نحن إذن كوفد ثقافي عربي، لسنا فقط ديكور عدالة.
ولكن نجيء لأن مصلحة اليهود في المدى الطويل تقتضي هذا المجيء.
وهكذا عرفت حقيقة أخرى عن الشخصية الألمانية، أن تركيب الشخصية القهرية يحتم أن يكون إيمان الشخص كاملا بالجهاز الذي يحركه وبالبروغرام الذي يغذيه، وإيمان الشخصية الألمانية بقدرتها إيمان يبلغ حد العبط أحيانا، أو بالضبط حد الغباء. إن الغباء الألماني المشهور ليس هو الغباء نتيجة قلة الذكاء أو الحيلة، ولكنه نتيجة لتولي الشخصية الألمانية نفسها مهمة إلغاء كل قدرات العقل التلقائية على التصرف؛ فهم لا يعترفون أبدا بما يسمى لدينا فكرة اللحظة أو وحي الساعة، ما لم تكن الفكرة قد نشأت ونوقشت واطمأن الشخص تماما إلى سلامتها بحيث يركبها في عقله وتصبح جزءا من برنامج هذا الجهل العقلي الإلكتروني، فإنه أبدا لا يمكن أن يحفل بها أو ينفذها، لقد اختصروا وظائف كثيرة من وظائف العقل، بحيث لم يعد له إلا وظيفة أن يناقش ويقتنع أو يقنع، وحاولوا بالنظام المطبق والقانون أن يجنبوا إنسانهم حاجته إلى التصرف الفردي أو المبتكر أو التلقائي، وهكذا فإنه رغم دقة نظام المرور مثلا وصرامته فحوادث المرور هناك في ألمانيا أكثر منها في بلادنا العربية، السائق العربي باستطاعته إذا لمح الخطر أن يتصرف، ربما حسبما تعلم أو تعود، وربما يبتكر التصرف نفسه ابتكارا، السائق الألماني إذا رأى الخطر ماثلا ولم يكن لديه فيما يعرفه من نظام وقوانين للطريقة التي لا بد عليه اتباعها لمواجهة ذلك الخطر فإنه لا يقدم على أي تصرف بالمرة، ويظل ماضيا إلى الخطر حتى الكارثة ... كأنه بطل تراجيدي وليس إنسانا من أهم ملكاته قدرته على التصرف اللحظي المبتكر.
ذلك الاختناق
وجاءت ليلة الندوة الثقافية التي كنا قد دعينا إليها في برلين، وكان علي بعد قراءة أعمالي أن ألقي كلمة.
كنت أعلم أني هنا في فم الأسد، وأنه نفس الجمهور الذي أحاط بنا من أول لحظة لوصولنا وكأنما ليكون حزاما أو حائطا آخر لبرلين، ازداد عدده حتى قارب المائة هذا صحيح، ولكن النوع أبدا لم يتغير. إنه جمهور مختار ومنتقى بعناية بحيث كلماتنا إن نفذت فإنما تنفذ إلى أدمغة مطعمة تماما ضد أي نفاذ، أو تنفذ إلى أدمغة نحن بغير حاجة إليها لأنها أدمغة غير محايدة.
ومع هذا فقد كان لا بد أن أواجههم بالحقيقة، كيف يصنعون بمجيئنا مسرحية جيدة الإخراج كعادة الألمان، مختارة الجمهور بحيث ينتقى دور الجمهور، عرضها يتم سرا حتى لا يتسرب خبرها إلى المواطن الألماني العادي، ونحن لا نعرف أيضا كيف تتسرب، فجمهورنا هو حراسنا، واختلط الحابل بالنابل، والمعالم تاهت: الألماني الإنجيلي البروتستانتي يحدثك وكأنه مصري، والمصري وكأنه إنجيلي، والعرب كل في طريقه، وكل فقد الثقة في الآخر، وكل يكيل الاتهامات للآخر، وعليك في النهاية أن تختار حزبا من أحزاب، أو أي مخابرات تشاء، وتتهم به غيرك أو يتهمك غيرك به.
قلت الحقيقة هذا صحيح، كل الحقيقة، بادئا بأني لم أقبل المجيء إلا بناء على الخطاب الذي أرسله الطلبة المصريون ولولاه ما جئنا.
قلت كيف أحس لأول مرة في حياتي أني أختنق اختناقا حقيقيا في برلين «الحرة» وأن دكتاتورية إكسيل شبر نجر (أكبر صحفي ألماني صهيوني) أبشع ألف مرة من دكتاتورية الساذج الجعجاع عويلز، حتى يسارك يا «برلين» لا يثلج القلب: «33» منظمة يسارية تتطاحن وتتحارب، ما أسعد اليمين بهذا اليسار إذن، وما أذكى المخابرات الأمريكية! وهي بعد لم تعد تتنكر في أحزاب الرجعية والعمالة المكشوفة، ولكن ما دام اليسار هو المودة بعد ثورة الشباب عام 68 فليكن التنكر يساريا متقنا، وليكن داعرا أيضا، ولتقم جامعة برلين «الحرة» معرضا هدفه إقناعك بالماركسية والشيوعية وبالصورة واللوحة والتجسيم ... معرضا لا يزوره أحد، ولتمول حكومة برلين مسرحا يعرض أعمال «برخت» و«جوركي» لتبدو زاهية المكانة، وليتولى العمال دور الرجعية بحيث - كما ذكر لي طالب يساري حين سألته ما رأى العمال حين يذهبون إليهم ليعلموهم الماركسية (نظرية الطبقة العاملة ذاتها) - يضربون هؤلاء الطلبة وبعنف يلعنونهم؛ إذ لقنتهم صحافة شبرنجران الشيوعية إذا جاءت ستجردهم من كل «المكاسب» أو التأمينات والتوابل الرأسمالية.
الحكام الرجعيون إذن هم الذين يعرضون لافتات الشيوعية وصورها ويدعون لمبادئها، والعمال، التقدميون هكذا مفروض، هم الذين يقومون للرجعية بدور كلب الحراسة بحيث يقطعون دابر أي شيوعي يحاول خرق النظام والتسلل.
مركب النقص ومركب العظمة
تحدثنا في الأسبوع الماضي عن الندوة الثقافية التي كنا دعينا إليها في برلين، وقلت كنا محاطين بنوع من الجمهور جرى اختياره وانتقاؤه بعناية، بحيث كلماتنا إن نفذت فإنما تنفذ إلى أدمغة مطعمة ضد أي نفاذ، أو تنفذ إلى أدمغة نحن بغير حاجة إليها لأنها أدمغة غير محايدة.
وقلت إنه كان علي أن أواجههم بالحقيقة، ثم تحدثت عن اليسار في برلين ... واليوم أتابع مختتما الرحلة:
أذكى غباء
بعد كلمتي، حل على القاعة وجوم هائل، الذين أخرجوا الرواية لم يحسبوا حساب هذه المفاجأة، ولكن ما أهمية أن أصرخ ملء صوتي بالحقيقة وأنا في حضرة جمهور محسوب ومختار؟ ما الأهمية والحقيقة خنقها سهل، ولقد خنقوها وخنقونا معها، وجاءوا بنا علنا أمام أنفسهم سرا وبتكتم شديد بعيدا عن أي رأي عام ألماني محايد، أو حتى رأي معاد، ليتسنى لهم تغذية العقول الألمانية بمزيد ذكي جديد من أقوال ورؤى ووجهات نظر إسرائيل؟
واكتشفت حقيقة أخرى جديدة غريبة عن تلك الشخصية الألمانية المفرطة في خصائصها وغناها.
اكتشفت أنه، رغم إيمانها المطلق بتفوقها الكامل، فهي تكاد تكون أعبط شخصية من شخصيات الشعوب.
والألماني الغربي ليس أبدا عبيطا بالوراثة أو بانعدام الذكاء، إنه عبيط بالعمد وبالحساب المدبر وكالعادة بخطة كاملة الإتقان، فمن طبيعة الشخصية القهرية الألمانية أيضا قابليتها للتمسك بإيمانها بالأشياء ومقاومتها أي إيمان جديد، باختصار إذا كنا نسمي أجهزة الدعاية وصناعة الكتاب والفيلم والصورة أجهزة صناعة العقول، فإن العقل الألماني من أسهل عقول الدنيا قابلية للصناعة والتشكيل؛ ذلك أنه، بحكم تكوينه أيضا، شعب غير شكاك.
إنه يقبل منك ما تقوله ويظل يصدق حتى يثبت له أو تثبت له الظروف كذبه، وحينئذ لا يعود يصدقك أبدا حتى لو كانت كذبتك الأولى والأخيرة، الناس عنده إما كذابون تماما أو صادقون تماما، وهو يأخذ كلامك من معانيه الأولى المباشرة، فطبيعة الشخصية القهرية أيضا أنها لا تعمل الخيال كثيرا، الخيال ذاتي وكذاب ويدعو أحيانا لإعادة النظر؛ ولهذا تغذي عقلها بأي برنامج تقبله العقول حتى تمضي كالقطار إذا وضع فوق القضبان، همها أن تبلغ بحركتها أقصى سرعة وتحقق الأهداف.
صناعة العقول
وعن عمد تدار صناعة العقول في ألمانيا.
بعد عصر الثقافة الألمانية الذهبي، بظهور الرأسماليين وبيوت الاحتكار، بدأ عصر صناعة العقل الألماني بطريقة تخدم تماما هؤلاء السادة الجدد، ولكي تصنع العقل على هواك لا بد أولا أن تعزله عن العالم، وهكذا نشأت بدعة احتقار لغات الآخرين والإصرار على الألمانية، ثم تطعيم الشعب ضد الثقافة، وهكذا نشأت أيضا بدعة تحسس المسدس إذا ذكرت الثقافة وبدعة حرق الكتب، في الواقع بدعة إخفاء الحقائق عن الشعب يدركون جيدا أنه مولع بها وأنها إن وجدت لن يصدق غيرها.
إخفاء الحقائق من ناحية وإدخال صناعة جديدة اسمها صناعة صنع الحقائق.
والأمر ليس مجرد ألفاظ، والمسائل هناك لا يأخذونها هزلا، إن تصنيع الحقائق شيء مختلف تماما عما تعودناه من «فبركتها» هنا، أن نصنع حقيقة كاللؤلؤة الصناعية مستحيل أن يميزها عن الطبيعية إلا إنسان ذو مستوى خاص، عمل صعب، وإذا عدنا لتاريخ صنع «حقيقة صناعية» كحكاية سيادة الجنس الآري لوجدنا أن الإتقان في تزييفها بلغ درجة تكاد ترفعها إلى مستوى الحقائق العلمية، واليهود أعرف الناس بالألمان، واليهود كانوا قد وضعوا عيونهم على ألمانيا ما بعد هتلر. إن الألمان في نظرهم الشعب المثالي لتحقيق أهدافهم هم من ألمانيا؛ الألماني مثالي لأن قدرته على العمل وجنونه بإتقانه تحتم نجاح أي صناعة أو نظام يقوم على أرض ألمانيا، الألماني مثالي لأنه ينتمي لشعب خرج من الحرب بمخ مغسول من آثار الثقافة؛ أي الحقيقة الحقة، أصلح تربة لتربية الحقائق المصنوعة، بل حتى صالح أيضا لتربية العقد ومركبات الذنب الصناعية.
كان مطلوبا أن تصنع تركيبة نفسية تجعل شعبا بأكمله يحيا أعواما طويلة ولا يزال يحيا، وقد استولت عليه تماما عقدة أنه أذنب، وقد عولج ضميره بحيث أصبح لا يرضى أبدا إلا إذا كان إرضاؤه على هيئة نقود أو صناعة أو أي شيء يقدم لإسرائيل.
ولكي تنجح الخطة كان لا بد من «كادر» يهودي كامل ينفذها، كان لا بد من إمساك كل الخيوط التي تحرك الرأي العام وتصنعه بأيديهم هم.
وكانت الحكومة الألمانية تدفع لكل يهودي ألماني يعود إلى ألمانيا بعد الحرب كذا ألف مارك تعويضا له، غير التعويض الهائل الذي رصدته الحكومة لإسرائيل.
ونما الرأسمال الألماني في أحضان رأسماليين عتاة يهود؛ خبرة الألمان وطاقاتهم ودولارات أمريكا وناب اليهود الذكي الأزرق.
وبينما اليابان تنمو وتتوسع، كانت ألمانيا أيضا وبسرعة مذهلة تمضي حتى لتصل إلى درجة أصبحت البنوك الألمانية ترفض أن تودع فيها النقود كدولارات، إنما تشترط أن تكون العملة المودعة بالمارك.
إذن المارك أصبح أكثر قوة من الدولار، وفي نفس الوقت كانت الجمارك الأمريكية تفرض ضريبة تلو الضريبة تحمي صناعتها «الوطنية» من صناعات اليابان وهي تغزوها في عقر دارها.
كان الإنسان القهري والإنسان الانفصالي قد انتصرا؛ ذلك أن الشعب المتجانس حتى في مرضه أو في صحته، أكثر إثارة للرعب، ومرعب أن تحيا هناك. في ألمانيا أو اليابان الغربة تطاردك وتطردك، غريب مع المتعالي هنا، غريب مع المنطوي المؤدب الشاعر بمركب النقص هناك؛ غير أن المدهش من هذا الصراع المجانيني هذا: هو أيهما يعمر أكثر؟
المريض بمركب النقص؟
أم المريض بمركب الكمال والسمو والتفوق؟
أنا شخصيا أعتقد أن الياباني سيكسب، ليس فقط لأن حالته أشد، وإنما لأن مركب النقص يزود الشخصية بقوة أبدية لا تشبع ولا ترتوي، ولا تؤمن مهما فعلت أنها أصبحت سيدة الآخرين أو أنها وصلت، أما الألمان فاعتقادي أنهم بالتوحيد إذا توحدوا، وبالانقسام إذا ظلوا هكذا فإنهم قادمون على كارثة لم يهيئوا أنفسهم لها أبدا، أن يبدأ العالم الذي احتقروه طويلا واحدا إثر الآخر يسبقهم، مشدوهين هم حيارى، يجدون أنفسهم مطالبين بأن يشكوا في شيء لم يكن ليقترب منه الشك مهما طغى: في تفوق العقل والطريقة والقدرة الألمانية.
لقد كانت ألمانيا بصناعاتها ومؤسساتها تبهرني وأرى فيها صورة الإعجاز الأوروبي الصناعي.
بعد زيارتي لليابان بدت ألمانيا كالقرية، فما يصنعه الأقزام السمر في ركن الدنيا الشرقي شيء هائل مخيف لن يصدقه العالم حتى بعد وقوعه.
والذكاء دائما وليد الشك في الذكاء.
والغباء نتيجة حتمية للإيمان المطلق بالذكاء.
وهكذا غباء ألمانيا.
ويا له من غباء!
إذ في النهاية يتضح السبب في حماس الأكاديمية لتوجيه دعوة ثقافية أنا رئيسها لمصر.
فلقد قامت السلطات المصرية بالقبض على أحد المصريين من أصدقاء الهرميشلر والأكاديمية كان يقيم في ألمانيا الغربية وعاد إلى مصر وبدأ التحقيق معه في التهم المنسوبة إليه، وهنا فقط تحرك الهرميشلر لإنقاذ صديقه، وعرض أن يقيم أسبوعا ثقافيا لمصر في ألمانيا مقابل إطلاق سراح الصديق، هي صفقة إذن لعلها أغرب صفقة في التاريخ، هكذا في النهاية يتضح السبب الحقيقي وراء الدعوة ويتضح سر الحماس ويتبدى للشخصية الألمانية جانب جديد آخر. إني كنت على صواب في اعتقادي أن المسائل لا تبدو طبيعية بالمرة، لقد أحطنا في برلين بذلك التكتم الشديد، فلو تمت زيارة حقيقية ووصلنا إلى مخاطبة الرأي العام هناك والالتقاء مباشرة مع جمهور المثقفين، لو وصل صوتنا فعلا للرأي العام واستطعنا النفاذ من حاجز الكلمة والصوت والصورة وتعدينا لبحر الأكاذيب التي تروج هنا لغضبت إسرائيل ولثارت ركائزها في ألمانيا، واعتبرت أن ما حدث جريمة ارتكبتها الأكاديمية وارتكبها ميشلر، ولعاقبتهم العقاب الوخيم. وهكذا اتضح بعد آخر للشخصية الألمانية ماركة شيرنجر وشتراوس، وكول ... إنها شخصية لا تقدم على عمل إلا إذا كان يخدم أهدافها أولا وأخيرا، حتى الملايين التي تدفعها لإسرائيل في حقيقة أمرها أولا لصالح ألمانيا، لصالح بقاء التخلف جاثما على أنفاس شرقنا العربي! وحتى ولو كان لصالح اليهود فالموقف الآن يخدم إسرائيل ويخدم ألمانيا الغربية وأمريكا وكل معاقل الرأسمال، والتناقض إن وجد فهو ليس الرئيسي؛ إذ التناقض الأول ما عدا هذا فهو فرعي ولا أهمية خطيرة له.
أجل لقد خرجت من رحلتي إلى اليابان وألمانيا أن «المتعوس» الخطير قد التقى «بخائب الرجا» الأخطر كما نقول في أمثالنا العامية وهو لقاء يا ويل العالم منه.
المجتمعات الوسط
لشعبنا خاصية غريبة لم أكن أتصورها، كنت أناقش ذات يوم في لندن إخصائيا كبيرا في اختبارات الذكاء بمستشفى «هامر سميث» حيث كان طفل مصري يفحص من إصابة، وحين أجريت عليه اختبارات الذكاء كانت نسبة درجاته أعلى بكثير من المعتاد في هذه السن، حسبت الطفل نابغة أو فلتة، ولكن فوجئت بالإخصائي يقول إن هذا ليس أول طفل من بلادكم أجري له الاختبار، هذا في الواقع الطفل العاشر، وهو ليس أول الحاصلين على هذه النسبة، إنه السابع ... واعتمادا على خبرتي أستطيع أن أقول إن هذه ربما أعلى نسبة للذكاء بين أطفال العالم.
وأحسست بفرحة حقيقية، كان كلامه كالخبر المفرح المفاجئ، وقبل أن أعلق كان هو يهز رأسه آسفا ليقول: ولكن الغريب أن أطفالكم يظلون كذلك إلى حوالي الخامسة ثم تبدأ نسبة ذكائهم في الهبوط، بينما تأخذ نسبة قرنائهم الإنجليز أو غيرهم في الارتفاع بحيث يتفوقون عليهم بمراحل.
وتراجعت فرحتي واحترت، واحتار معي هو الآخر، ولكنا بالنقاش وصلنا إلى ما يمكن أن يكون السبب؛ فحتى هذه السن يكون ذكاء الطفل مستمدا من مخزونه الوراثي من الذكاء، ولكنه بعدها يعتمد ذكاؤه على مدى تفاعل ذكائه الموروث مع بيئته وعلى مدى أثر البيئة في تنمية الذكاء، تماما كأي عضلة تولد بقوة معينة ولكن قوتها تبدأ تعتمد على التدريب والتمارين التي تزاولها.
أنحن إذن نولد أذكى؟
هذه حقيقة.
الحقيقة الأخرى لمستها في تجوالي بين حضارات آسيا، كثيرا ما سمعت ذلك التعبير يرن في أذني: ألا تعرف أنك من مصر موطن أول الحضارات؟
وهذه حقيقة أخرى.
والمسألة أبدا بعد هذا ليست صدفة، وليس معنى زوال الحضارة عن شعب وتسليمها لشعب آخر أنه يرتد إلى الوراء مثلا أو يبدأ يصبح أقل حضارة. إن زوال معالم الحضارة عن البلاد لا يعني أبدا زوالها من الإنسان نفسه، وإذا كان الذكاء المصري هو الذي أحدث في العالم القديم ما يشبه ثورة الصناعة والتكنولوجيا في العصر الحديث باكتشافه لأول ثورة في العالم وأول تكنولوجيا: الزراعة وآلات الزراعة، إذا كان ذكاؤنا هو أول من بدأ يعمل الذكاء البشري، فمعنى هذا أنه الآن أعرق ذكاء وأخصبه وأطوله عمرا.
كل ما في الأمر أن الذكاء كي يصبح فعالا لا يكفي أن يكون صفة موروثة أو مكتسبة، إنما التحضر والتقدم يصنعه الذكاء الجماعي لا التفوق الفردي.
نحن إذن أول «مجتمع» ذكي عرفه الإنسان، كل ما في الأمر أن عمر هذا المجتمع الذكي لم يدم طويلا، وما لبث النظام الذي كان يتيح استثمار الذكاء جماعيا أن توقف عن التطور وانفرط عقده، وأصبحنا ومنذ تلك اللحظة وإلى الآن أفرادا أذكياء تماما في مجتمع لم ينجح في تجميع هذا الذكاء واستثماره، أو بالأصح في مجتمع غبي متخلف، أطفالنا يولدون عباقرة بالقياس إلى أطفال العالم، ومفروض أن يتسلمهم نظام حياة ينمي هذا الذكاء الفردي ويربيه على تكوين مجتمع ذكي يعمل طول الوقت، ويطور نفسه بحيث يستطيع باستمرار أن يستوعب ذكاء أفراده، وبذكائهم الجماعي يحيا ويتقدم وينتج، ولكن لأن عكس هذا ربما هو الذي يحدث، بحيث يجد الفرد الذكي نفسه في حالة صدام مع مجتمع قاصر عن استيعاب ذكائهم، بحيث يتحول بذكائه لخدمة ذاته أو بالأصح الدفاع عن ذاته وهكذا.
ميزة الذكاء الآسيوي
ولم ألمس هذه الحقيقة الغريبة بقدر ما لمستها في آسيا.
إن الفرد المصري أو العربي أذكى، ولكن ميزة الذكاء الآسيوي المتوسط أنه موجود في مجتمع ذكي، مجتمع يعرف قيمة الذكاء، ويهيئ له كل السبب ويعرف كيف يخلق النظام الذي يتيح لأذكياء كثيرين أن يعملوا معا؛ أن يحدث هذا التعاون الذكائي الكامل، ذلك الذي يصنع في الحقيقة أي حضارة أو صناعة أو حتى فن، وبالتالي يصنع الإنسان ويدربه ليكون أذكى، بحيث يعوض بالإرادة ما افتقده بالوراثة، بحيث يصبح ذكاء المرء محسوبا له، وليس كالحال هنا محسوبا عليه، بحيث يكتشف في كل فرد مكمن طاقته وتفرده وقدراته، وفي مكانها الصحيح يجيد استخدامها. •••
ذلك في رأيي سر أي مجتمع ناجح، سر أي تقدم علمي أو صناعي أو حضاري أو ثقافي وفني، خاصة ونحن لم نعد في عصر الفلتات الفردية، نحن في عصر المجتمعات الذكية، وكما بدأ العالم ينقسم إلى أغنياء وفقراء، فكذلك بدأ ينقسم إلى مجتمعات أذكى ومجتمعات أقل ذكاء أو أغبى، والهوة بينهما أيضا تتسع؛ فالذكاء ثروة ذكاء، حتى القوة الفيصل فيها هو الذكاء، والجيش الأقوى اليوم هو الجيش الأذكى.
بل إن التعليم ذاته لا يحل المشكلة.
وجيش الفيتناميين مكون من فلاحين بعضهم أمي، ومع ذلك ولأنه الأذكى فإن فرق الجيش الأمريكي الأكثر تعليما تتساقط في كمائنه كما يتساقط الذباب.
ولكن الذكاء وحده ليس كل شيء ...
فبجانب الذكاء لا بد من أشياء أخرى.
فلكي تلوي عنق التاريخ لا بد من عمل شاق.
والتصدي للعمل الشاق طموح إنساني مشروع.
ولكن الطموح في حاجة إلى قوة وقدرة ورصيد. •••
أنا لم أكن بالطبع أنوي اكتشاف قارة، أو حتى اكتشاف طريقة مختلفة للحياة، كان كل طموحي أن أنجح في اكتشاف سر الإنسان يلوي عنق التاريخ ويقاوم، والأنظمة في آسيا تختلف من الشيوعية - وهي في قمتها في الصين مثلا - إلى الرأسمالية في أوجها في اليابان، ولكن مقاومة الإنسان لا ترتبط بالنظام الذي يعيش في ظله؛ إذ إنه إذا أراد المقاومة يقاوم سواء قاوم النظام الذي يحيا في ظله ليعيش أو تضامن مع النظام ليقاوم شرا خارجيا يهدد بقاءه، إن الأصل من الإنسان، صحيح أن للنظام الأثر الأكبر في نتيجة مقاومته، ولكن ما فائدة النظام إذا قاوم الإنسان وحده بلا إنسان؟
الأصل هو الإنسان.
وآسيا بلاد شاسعة وأهلها كثيرون ، وليس كل شعب فيها يلوي عنق التاريخ ويقاوم، ويعيش كل نظام فيها متحالف مع الإنسان في مقاومته.
ولكن الشيء الذي لا يمكن إنكاره أن المقاومة هناك معدية، وأنها تتكاثر، وأنها خطيرة إلى درجة أننا سنجد أمريكا بعد قليل إذا أرادت أن تستمر تعمل ضد الإنسان الآسيوي فعليها أن تجند الشعب الأمريكي كله وتسخر إمكانياتها الصناعية كلها وترصد كل مخزونها من الرأسمال.
والإنسان لا يولد يقاوم، إنه يولد كالصفحة البيضاء التي يتولى المجتمع ملأها بالمضمون، وحسب المجتمع يصبح الإنسان، فإذا ولد في مجتمع يقاوم نشأ مقاوما، وإذا ولد في مجتمع راضخ نشأ كذلك، المجتمع القوي المقاوم إذن هو ذلك الذي يستطيع أن يصنع من أفراده مجتمعا قويا مقاوما مثلما يصنع المجتمع الذكي بأذكيائه.
وهذا هو سر آسيا الأكبر! إنها قارة المجتمعات، مجتمعات متباينة متأرجحة بين القمة والسفح ولكنها باستمرار، حتى التفرد والفردية ليست وليدة انفصال عن المجتمع بقدر ما هي وليدة استخدام واستعمال لهذا المجتمع.
وإنسانها جاد لأن مجتمعاتها جادة.
والهند خير مثال على هذا.
فالهند ليست دولة واحدة، إنها قارة بمفردها، وليس هناك ما يمكن أن يسمى بالمجتمع الهندي، فهو مجتمع مكون من عديد من المجتمعات، كل لغة تكون مجتمعا، كل دين يكون آخر، كل طائفة، كل وحدة جغرافية، كل درجة من درجات الفقر أو الغنى. إن الهند على عكسنا تماما هنا، فإذا كان مجتمعنا ومجتمع التوحد والتوحيد، فمجتمع الهند هو مجتمع التعدد والاختلاف.
وقد يظن البعض أن التعدد يؤدي إلى مجتمع ضعيف، وأن التوحيد يؤدي إلى مجتمع واحد قوي، ربما العكس هو الصحيح؛ إن التوحيد التام يؤدي إلى فقدان الخصائص المتفردة، نفس الخصائص التي يؤدي وجودها وتأكيدها إلى قوة المجتمع الأكبر، في حين أن إلغاءها في سبيل التوحيد يؤدي إلى طمس معالم التفرد والامتياز، وبالتالي إلى وحدة كوحدة المتشابهين، كوحدة الأصفار. •••
ولهذا فالمجتمع الذكي لا بد أن يكون نابعا من وحدات أصغر ومن مجتمعات صغيرة كثيرة ذكية، كذلك المجتمع المقاوم هو أيضا مكون من مجتمعات كثيرة صغيرة مقاومة.
ودائما يكمن عيب أي مجتمع في هذه النقطة البسيطة المحددة.
تلك المجتمعات الصغيرة التي منها ينشأ الفرد الواحد ومنها أيضا وبتلاحمها ينشأ المجتمع الكبير.
وهنا في بلادنا تستطيع أن تضع يديك على الداء بسهولة، في قرانا نحن نكون المجتمعات الصغرى هذه وننشأ منها، وبها ننشئ المجتمع الأكبر.
كذلك كانت مدننا في العصور الوسطى مكونة من أزقة وحوار تكون حيا، والأحياء مدينة، والمدن تكون دولة، في العصر الحديث وحين حدثت الهجرة الهائلة من القرية إلى المدينة، ومن الزراعة والتجارة إلى الصناعة، فقد إنساننا القادم قدرته على تكوين المجتمعات الأصغر، امتلأت مدننا بآلاف العائلات أو حتى الأفراد الذين لا يربطهم رابط ولا يسألون أمام مجموعة ولا يحسون بالانتماء، ومن السهل أن يبدأ الإنسان يفقد كثيرا من خصائصه الأصلية حين ينفرط عقده ويصبح وحده يفكر، ووحده يصنع لنفسه القيم التي تلائمه. إن من يفقد الانتماء يفقد الأصالة، والفرد حين يفقد خصائص مجتمعه الأصغر يفقد تماما خصائص المجتمع الأكبر.
هكذا نشأ لدينا المجتمع الغريب الفريد من نوعه، المكون من أفراد لا يجمعهم إلا العمل مرة، أو القهوة، أو أحيانا السكن في مكان واحد.
ينجبون أبناء، ينشئون أفرادا هم الآخرون ... والنتيجة أن الكتلة بدلا من أن تكون بناء قويا تتفتت وتتسطح، ويصبح في مكان البناء سطح من الرمال الصغيرة المتراكمة، بل حتى الأشكال الحديثة للمجتمع مثل النقابات والنوادي والجمعيات نشأت في ظل الاستعمار، لوثها عن عمد، وأخمد فيها الروح، وتحولت من مجتمعات جديدة مفروض أن تكون فيها الروح، وتحولت من مجتمعات جديدة مفروض أن تكون أداة الوجود والمقاومة، إلى أشكال من التجمع وظيفتها كبح جماح أفرادها واحتوائهم وتقييد حركتهم وشلها ليس إلا.
الداء واضح وظاهر
الداء واضح وظاهر، لا يمكن أن يوجد شعب وحدته الفرد، إن الشعب ليوجد - أي الشعب - وحدته مجتمع أصغر، وما لم يكن أفراده منظمين بطريقة أو بأخرى في هذه المجتمعات الأصغر، فالنتيجة أن شعبا كهذا ممكن أن يكون تعداده مائة مليون، في حين أن حاصل قوته تقل بكثير جدا عن مجموعه، بينما شعب آخر تعداده عشرة ملايين من الأفراد يكونون مجتمعاتهم المختارة الأصغر لتكون بدورها المجتمع الواحد الأكبر، تكون حاصل قوته أكثر بكثير جدا من الملايين العشرة؛ فالعمل كمجتمع لا تكون نتيجته حاصل جمع مجهودات أفراده، ولكن العمل كجماعة يكاد يكون حاصل ضرب مجهود الواحد في الآخرين، وليس حاصل جمع أو أحيانا قسمة، الداء واضح وظاهر. الدولة من المجتمعات الأخرى نشأت كظاهرة اجتماعية لتنظيم العلاقة بين المجتمعات الأصغر، الدولة عندما نشأت من الخارج، من المستعمر، من أصول لا علاقة لها بالشعب أو وحداته، نشأت لتفتت الشعب في الحقيقة وتكبته.
إن الروتين والقوانين واللوائح التي تحفل بها حياتنا ولا يوجد لها نظير في أي بلاد أخرى سببه أن الدول جاءت أجنبية، كما كان العرض أجنبيا. إنها تعامل الشعب كما لو كان عصابة من اللصوص وقطاع الطرق.
وقد كان هدفها على الدوام أيضا أن تحول بين الشعب وبين تحوله إلى مجتمع، أي تحول دون قيام التنظيم والمجتمعات الأصغر، ليبقى الفرد من أبناء الشعب وحده بمفرده أمام جهاز الدولة الرهيب.
كيف بإمكان مجتمع كهذا أن تنفجر طاقاته ويعمل وينتج وينمو، والدولة تتولى بتر أي صلات تنشأ داخله لتحوله إلى جسد حي كبير منتج، وتضع ما شاء لها من قوانين كلها ليس فيها قانون واحد يحمي المواطنين، إنما كلها قوانين لحماية العقار أو الأرض أو الملكية أو السيادة، كلها قوانين ليس هدفها فقط تفتيت الشعب، إنما أيضا إحالة أفراده إلى عبيد فرادى؟
ولكن تلك قصة أخرى.
অজানা পৃষ্ঠা