وقلت في نفسي ليس من العدل أن أقضي على هذا الشاب بما قضيت به على نفسي، فليغن الوطن غناءه، وليجاهد ما استطاع إلى الجهاد سبيلا. ثم زودته عناقا وقلت: سر يكلؤك الله، فإن أتاني منك ما يعلي ذكرك وإلا فهذا فراق بيني وبينك. فوصل أخي إلى مصر وأصدر بها جريدته التي سماها «الإنذار» وأرسل إلي نسخة منها في مظروف على يد رجل أجنبي يعلم مودته لي، فلما نظرت في الجريدة وتأملت ما يخاطب فيها عبد الحميد من الكلام أوجست في نفسي خيفة وقلت: هذا باب من أبواب الشر أنا فتحته على نفسي. ولقد سبق السيف العذل وما بقي إلا النظر في جواب سديد ألجم به أفواه من يسألونني غدا. ثم زارني في ظهر الغد مصطفى ظافر وأخذني معه إلى تكيتهم، فقال لي ونحن في الطريق: دعاني باشكاتب السلطان أمس إلى القصر، فلما دخلت عليه وجدت بين يديه نسختين من جريدة اسمها «الإنذار»، فمد إلي نسخة منهما وهو يقول: انظر هذه الوريقة التي أصدرها أخو صاحبك، واعجب لجرأة ولي الدين كيف يعيش بأنعم السلطان ثم يرسل أخاه إلى مصر ليعتدي على مصدر نعمته. قال مصطفى ظافر: فلما أخذت الجريدة ورأيت عليها اسم شقيقك دهشت حتى لم أدر ما أقول، ولكنني تغلبت على ما عراني من الدهش وقلت: يا مولاي، إن ولي الدين من أسرة كريمة؛ وهو رجل عاقل لا يقدم على مثل هذه الأمور، وأخوه شاب صغير السن، ومصر الآن مزدحمة بالهاربين من عدل مولانا السلطان، فلا شك أن بعضهم أغواه واستهواه فتجاسر على عمله هذا وهو لا يعلم مبلغ جرمه. وما يضر قدر الخليفة في عليائه أن يجهل عليه بعض الغلمان ويجعلوا أنفسهم بمنزلة من يعرفون حقائق الأشياء؟! حسبه أن كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها يشدو بثنائه، وأن المنابر في جوامع المسلمين تميل طربا عند ذكر اسمه، وإذا شئتم كلمت ولي الدين في هذا الأمر ومحضت له النصح، وما إخاله إلا غاضبا إذا اتصل به هذا الخبر. أما أنت يا ولي الدين، فينبغي عليك أن تكتب لأخيك كتابا يكون رادعا له عن غيه. فلا يغرك حلم السلطان؛ فإنه والله إذا غضب لم يبال شيئا. وأخوك في شبابه لا يدرك هذه الأمور، فانظر ما أنت فاعل. أما أنا فقد وعدت الباشكاتب أن أعود إليه بجواب منك فيه مقنع، وسأقول له كلاما يخفف غضبته ويبرئك لديه.
قلت: جزاك الله عني خيرا. أما جريدة أخي فلا أعلم بها إلا الساعة، ولا أكذبك أني أسفت لما فرط منه أشد الأسف، ولكن حيلتي في الأمر قليلة. وفي غد ذلك اليوم جاءني رسول من عند فائق بك ابن المرحوم لطفي آغا، وكلاهما من قرناء السلطان (جمع قرين، يراد به النديم الخاص)، فلما أدخل بي إليه قال لي: بلغ ولي النعم أن لك أخا اسمه يوسف حمدي يكن، وأنه ذهب إلى مصر وأصدر بها جريدة اسمها «الإنذار» ينتصر بها لأعداء الدولة وخائني الوطن الذي يقيمون بمصر ويسمون أنفسهم «الزون ترك»، ومولانا يأمرك أن تكتب إلى أخيك تسأله عما يريد من وظيفة أو مال على أن يكون ما يريده غير متعد حد الممكنات، وأن يرجع عن معاداة السلطان. وهذه فرصة لا تسنح لكل الناس، فاكتب إلى أخيك بذلك وقل له يرسل جوابه إلي باللغة التركية، فوعدته بإنجاز ما أراد، ورجعت إلى منزلي، فقلت في نفسي: الشباب له سكرة تطول سنين عديدة، وربما أكتب ما يريدون فيصادف من شقيقي ضعفا في نفسه فيرضى فيحل به وبي ما نخاف، وإذا كتبت له كتابا آخر أحذره من كتابي الأول فلا آمن أن يقع في يد من لا يرقب ذمة ولا يخشى لها عتابا ويحل بنا يومئذ البلاء العميم. ومن لي بطريق في غفلة من أعين الواشين والرقباء! فلم أجد بعد كل تأمل وتدبر مخلصا سوى الإذعان، فكتبت إلى شقيقي كتابا باللغة التركية أدعوه إلى ترك الجدال والعودة إلى الآستانة وأبشره بنيل ما يريد، وجعلت كتابي في مظروف أخذته معي مفتوحا وأسلمته إلى فائق، فأرسله من القصر السلطاني إلى دار البريد.
وفي ذات يوم جاءني صديقي الكاتب التركي الفاضل «س. ت» بك. وقد كان يحرر القسم التركي في بعض جرائد الآستانة، ثم عين بالخزينة الخاصة السلطانية، فأخذ يلتمس العبارات ليؤدي بنا الحديث إلى سفرة أخي لمصر، فلما أعياه الطلب ورأى كثرة المقدمات تضل عن الصدد اقتضب الكلام اقتضابا فقال: أنا أعرف أنك لا تحب من أخيك أن يكتب شيئا فيه ذم للسلطان، ولا يمكن أن يسافر أخوك من نفسه طلبا لإصدار جريدة في هذا السبيل، ولا بد أن يكون أرسله قوم ممن لهم بمصر مقاصد يطاردونها. وهذا ما لا يفعله إلا آل ظافر؛ فإن قلت إن الشيخ الكبير لا يعنيه من أمر الجرائد شيء وإنه بخيل لا يجود بالدرهم ولو كان فيه طول عمره. قلت لك: نعم، ولكن ابنه مصطفى ليس كذلك؛ فهو أبو المشاكل، وكل ما يلاقيه أبوه هو منشئه. ولو سلك مصطفى طريق أبيه وترك عداوات الرجال وأغضى عما يبادئه به أعداؤه لانقلبوا له أصدقاء. والآن وقع ما وقع وقضي الأمر؛ فإن كتموك ما دبروه بالأمس فما أحسبهم يكتمونك اليوم، وهم يعرفون منك فرط الحياء والتمسك بالود، ولئن فعلوا فأنت قادر على استيضاح ما تريد بأن تتوعدهم. فإذا فعلت ذلك لم يجدوا بدا من بيان ما أغمض عليك.
قلت: يا فلان، هذا كلام حسن الانتساق، ولكن الفائدة منه منعدمة. فماذا تريد أن تقول؟ قل وأوجز ودع هذه الخطبة إلى وقت آخر.
قال: ما أراني خاطبا. ومجمل الأمر أني موجه إليك من أحد المقربين، ولا أستطع أن أذكر لك اسمه جريا على ما اتفقنا عليه؛ وهو يريد أن يعلم ألآل ظافر شأن في سفر أخيك أم لغيرهم؟
قلت: يا فلان أراك رضيت لنفسك صناعة كنا نذمها معا؛ فإن كنت بدلت برأيك السابق غيره فإني لا أزال على قديمي، ولا أسديك نصحا في الرجوع إلى سابقك، فذلك له أول وليس له آخر. ومن أوقعه سوء الحظ في مجاهله ضاقت عليه المسالك ولم يجد إلى الهداية مهيعا. اذهب إلى من زودك رأيه وأعارك لسانه فقل له إني أخو يوسف حمدي يكن. ولكنني لا أعرف من فؤاده إلا ما يبديه لي. أما آل ظافر فقد كان مصطفى معي؛ وهو أول من جاءني معاتبا؛ وهو أول من طلب إلي استرجاع أخي، فخرج صاحبي يجر فضول أذيال الخزي. وكان ذلك آخر عهدي به.
وإلى هنا نفد الصبر. فرأيت ألا أصبر على الضيم الطويل، فأقمت أتدبر فيما يفتح لي أبواب النجاة لأخرج من هذا الوطن؛ لعلي أجد في البلاد الحرة من يسمع رثائي حين أرثيه. وما كابدته من آلام الاستبداد يكفر عن سيئاتي في العودة إلى حيث دفن الحق وقامت مناحات الشهداء. فجرت هذه الأبيات على لساني ونمقها قلمي، فجعلت أرددها طول ليلتي. وإني لذاكرها في هذا الفصل عسى يكون في القراء من يحب كلام الشعراء حين تخترق قلوبهم وتمازج دخانها حسراتهم. قلت:
ألا مرشد لي بعد ما ضل من عقلي
أأندب أم لا يحسن الندب من مثلي
تندمت لا أني تورطت ذلة
অজানা পৃষ্ঠা