ثم جاء مصر أحد وكلاء الدعاوى، وخاطب في أمري كثيرا من الناس، فمنهم من تخلى عن مشاركته ومنهم من أراد مشاركته، ولكن غير واثق بالنجاح. فقابلني ذات يوم رجل من رجال الصحافة وقال لي: أرجوك أن تغدو علي غدا في داري؛ فإن عندي رجاء إليك أريد أن أحملك قبوله، ولكن لا بد من التكلم معك كلاما طويلا حتى تعرف حقائقه. ولما كان الغد ذهبت في الميعاد المضروب إلى دار ذلك الداعي. فإذا هو يتطلب المقدمات لمحادثتي في الأمر الذي دعاني من أجله، فتعرفت ذلك في وجهه، فقلت له هات ما عندك موجزا فإن وقتي لأضيق من أن أضيقه فيما لا يجدي، قال: جاءني منذ يومين صديقي فلان؛ وهو من وكلاء الدعاوى بالآستانة. وقد أسلمني مقالة شديدة الطعن يزيف بها أقوالك في ذم السلطان ورجاله، وفيها من الأدلة على بطلان دعاواك ما لا يدحض، وطلب مني نشر المقالة في جريدتي، وأنا استمهلته إلى أن أراك وأخاطبك في ترك الخصام وأدعوك إلى الهدون. فما رأيك في ذلك؟
قلت: إني ليحزنني أن تؤخر نشر مقالة ربما كانت لك من ورائها منافع. هذا وينبغي لرجال الصحف ألا يحابوا فيما يظنون أنه الحق. وأنا أقرأ ما تكتبه. فإذا رأيتك مصيبا فيه اعترفت لك بالحق ورجعت عما يتبين لي أنه باطل. وإذا رأيتك مخطئا رددت عليك قولك أو تركتك وإياه جانبا وآثرت السكوت. وليس من الإنصاف أن تهمل نشر مقالة تعرف أنها ناطقة بالصواب وتدع صاحبها ينتظرها بغير طائل.
قال: أنا لم أخدع صاحب المقالة، وكما أنك صديقي هو أيضا صديقي، ولكني أردت أن أقرب بينكما وأن أجعل اتفاقكما بالحجة.
قلت: ما لي وله؟! كل يعمل على شاكلته. وإذا كان صاحبك يرى عبد الحميد بريئا مما يوصم به فليبق كذلك، لعل له عذرا ونحن نلوم، ألا ترى أنني أقمت زمنا أدافع دون عبد الحميد، ولم يرجعني عن الإخلاص له جدال ولا دليل إلا ما رأيته بعيني وجربته بنفسي. وعسى أن تعلم الأيام صاحبك من مثالب سلطانه ما يقلل أنفته ويكسر من عزمه، ثم هممت أريد الانصراف، فأمسك مخاطبي بذراعي قائلا تمهل ريثما نتفق معك على أمر.
قلت: أراك غير تاركي يومنا، فماذا تريد؟ دع الإشارات وهات ما عندك من الأمر الصراح.
قال: أما وقد أبيت إلا البيان، فهاك ما عندي. يريدون أن يرجعوك إلى الآستانة كما فعلوا بمراد وغيره. وهذه فرصة لا يضيعها عاقل. وقد علمت أن مرادا مقيم هناك بحال يحسده عليها السعداء. ومن يمنعك إذا أنت أحرزت هنالك جاها منيعا أن تنصر الحق وتنفع إخوانك وبلادك؟ ولا أكتمك أن السلطان مل الاشتغال بأمر الأحرار أو كاد. فإذا هو أهمل يوما أمرهم وأرسل حبل كل على غاربه، ومحا الله آية ظهورهم، أخاف عليك أن تحشر يومئذ في زمرتهم وتلاقي من الأهوان ما يلاقون. وما لي ولهذه الأحاديث في غير جدوى، أنا ضمنت للرجل بمالي عليك من الدالة أن ألاقيك به. فهل أنت واعدي بذلك؟ فما دون الزيارة شيء لو أجبت إليها. تعال غدا ولنذهب إليه معا.
قلت: لا ضير. وفارقته على أن أعود إليه في الغد، فلما آن موعد اللقاء جئت داره فإذا هو في انتظاري، فحملني في عربته وانتهينا إلى منزل رحيب بجوار البنك العثماني في القاهرة، فاستقبلتنا سيدة علمت بعد ذلك أنها حليلة غريمي، فجلسنا إليها وأقبلت علينا تحادثنا فإذا هي شرقية مقيمة على شرقيتها في كل أطوارها، مع أدب غض وعقل راجح. وبينا نحن كذلك إذ وافانا الغريم، فرأيته قد تبادل مع صاحبي نظرتين فاجأهما مني لحظ شاعر يرمي الأغراض طائرة فيصيبها، وتم بيننا التعارف. ثم أراد أن يبدأني باللوم على ما جرى به قلمي، ولكنه وقف غير متقدم في شوطه، وأيقن أن مثله لا يجادل مثلي، فاختار الصراحة غير تارك مكره وقال: سمعت عن ولي الدين من أصحابه أنه يجل عن أن يتهم في ذمته، وأنه لا يقاس بغيره ممن كشفت الأيام عن مكنونات ضمائرهم. وقد رأيت في مقالاته ما يؤيد قولهم، ولكنني مولع بمناظرة الفضلاء، وأرى أنه لو دخل في خدمة الحكومة العثمانية وصدق في خدمتها كما تقضي به عثمانيته أتى بلاده بالخير الجزيل. أجل يا ولي الدين، إن الحكومة العثمانية في حاجة إلى إصلاح ما بها؛ فقد أشكلت أمورها واشتدت خطوبها وعظمت بلاياها، وما دواؤها إلا من كان مثلك ممن لا يخشى في الحق لومة لائم.
قلت: إن بلادا تبيت في حاجة إلى مثلي لجديرة بالرثاء، وما قدري أنا بين الرجال حتى أصلح ملكا كبيرا أريد فساده من يوم خلقه.
قال: أنت لا تستطيع أن تصنع وحدك شيئا، والجنرال أحمد جلال الدين باشا لم يسع في استرجاع الأحرار إلا لأمرين؛ أولهما: وعد السلطان له بإعلان الدستور بعد رجوعهم. ثانيهما: جعلهم في وظائف يساعدون بها إخوانهم على ذلك. ولست وحدك فتستعظم الخدمة، بل هناك آخرون ولوهم أمورا لا يقدر على تدبيرها غيرهم. ونحن لا نختار للوطن إلا من نثق بمضاء عزيمته وصدق نيته، ولو لم أكن سألت عنك الثقات من أصحابي وأتبعتك نظري على غير علم منك حتى وقفت على جلية أمرك لما سعيت في التوصل إلى محادثتك. ولك الرأي في القبول وفي الرد، ثم اعلم أنه جاءني أناس ممن يدعون الانتصار للحرية، وطالبوني بالاتفاق معهم على إسكاتهم وساوموني ذممهم، فكان حظهم مني الإغضاء عنهم. ولقد بلغت الجرأة من بعضهم أن توعدوني بذمي في جرائدهم إذا أنا لم أجبهم إلى مطالبهم، فلم ينالوا مني سوى الخذلان.
قلت: أفارقك الآن وأعود إلى بيتي فأتدبر الأمر وأتبين دقائقه، ولي من أثق بآرائهم ولا أستغني عن مشورتهم، وأنا من أنصار الشورى، فلا يجوز لي إهمالها في أموري بعدما قضيت بوجوبها في أمور الناس. ولا ألبث أن آتيك بما يقر عليه رأيي، ثم ودعته وانصرفت مع صاحبي وفارقته هو أيضا وعدت إلى بيتي.
অজানা পৃষ্ঠা