فمن من هؤلاء القدماء الصلحاء الأتقياء يشك في صدق الحاج السيد الشيخ زيد مثلا وهو لابس عمامة كأنها كيوان، وفي يده عصا كأنها عمود الصبح، وعليه جبة خضراء كأنها ملاءة الربيع، وفي رجله خفان أصفران كأنهما سفينتان من النحاس الأصفر، وفي عنقه سبحة هي أطول من ألفية ابن مالك، ثم يصدق ما جاء به سليم سركيس وهو رجل مسيحي ما قرأ على شيخ، أو يؤمن بما يقول به غيره من أحرار الترك والعرب، وهم متعلمون في أوروبا أو البلاد العثمانية على معلمين أتوا بهم من أوروبا. والمسلمون من إخواننا المصريين كانوا ولا يزال أكثرهم متمسكين بتلك الآراء القديمة. فأحر بأولئك العثمانيين المقيمين وراء جبال الأناضولي ألا يعرفوا من الدنيا إلا مقدار ما يرون في بلادهم. كل هذه المصائب كانت عوائق دون نجح المجاهدين من الأحرار.
قلت إن صحف المجاهدين كانت تنتهي إلى من يقرءونها من أنصارهم في غفلة من عيون الرقباء، ولم يكن ذلك دائما؛ فكثيرا ما وقعت بأيدي قوم من الكاشحين تسابقوا بها إلى قصر الملك وأسلموها إلى حملة العرش، وأسلموا من جاءت من أجله إلى الزبانية الموكلين بتعذيب العباد، فألقي منهم في البحر من ألقي وسجن من سجن ونفي من نفي، بل ربما تذرع قوم إلى نيل أمانيهم باتهام آخرين زورا وبطلا وادعائهم بأنهم يراسلون أصحاب «الأوراق المضرة» أي الصحف الحرة، فباءوا بالهبات والوسامات والرتب. وقد فتح هذا الترغيب باب التنافس في مصر بين من يحبون الرتب والألقاب من سراتها وأغنيائها، فتزاحموا بالمناكب عن ابتياع ما ينشره الأحرار من الجرائد والكتب ، يجعلونها في صناديق عليها أقفال من الحديد، يرسلونها إلى القصر الحميدي أو يستصحبونها معهم ليتقدموا بها إلى معبودهم الفاني. ورأى ذلك بعض السفل فتشبهوا بالأحرار في إنشاء الصحف وتأليف الكتب. ولقد كان أكثرهم لا يعرف الكتابة، فيستكتب غيره بأجر يسميه له، وعشاق الرتب يجزلون لهم العطاء ويكتبون إلى القصر السلطاني أنهم ساعون في إسكات المفسدين أعداء «أمير المؤمنين»، وأنهم استرضوا فلانا وسيرتضون فلانا.
ومما ينبغي أن يدمج في كتابي هذا ليتلوه أخلافنا على ممر الدهور أن دار الإمارة المصرية كان لها في هذا المعترك راية القائد؛ فقد سال منها النضار حتى فاض عن الأكف وعلق بالأقدام. وكم من بريد بين مصر وفروق يروح واحد ويغتدي واحد، وكم من رسائل وسفراء أحسنوا البلاغ وانقلبوا فائزين. يا رب صندوق ترى ظاهره فتخال به ذخائر وتحفا وهدايا مما يهدى به الملوك، وما حشوه إلا أوراق مشتراة غلب عليها كاتبوها أو أخذت ممن لا يحرص عليها لولا الخير المفاض.
ومن أجل هذا قامت الحرب عوانا بين الإمارة والأحرار كما سيجيء خبره في الفصول الآتية واشتد النزاع.
وبينما تدور هذه الأدوار إذا بأنور ونيازي بطلي الحرية وغيرهما من حماة حقيقتها وخلصائها يتدبرون ويفكرون. وإذا كانوا تورثوا من نامق كمال وفضلاء زمانه قليل كتب وأخبار، بعثت نجدتهم وحثحثت نخوتهم، جاءتهم هذه الصحف الحرة كالأدوية للمرضى، ولكنها شفتهم من داء الخمول وابتلتهم بداء العشق، عشق الوطن وهو أقتل للأجساد وأحفظ للنفوس.
قد استشفيت من داء بداء
وأقتل ما أعلك ما شفاكا
فرار مراد الطاغستاني من الآستانة إلى مصر وسبب
ذلك
مراد رجل من أهالي طاغستان، هاجر من بلده قاصدا إلى عاصمة السلطنة العثمانية وهو في مقتبل عمره وعنفوان شبابه، لا يملك من الدهر إلا همومه، يزجي راحلتي الفقر والأدب، وما كان الأديب صفة بل كان الأديب رغبة.
অজানা পৃষ্ঠা