البلاد العثمانية تعمرها أمم شتى، متباينة الأجناس ومختلفة المذاهب، جمعت بينهم القوة وفرقهم العدوان؛ فهم إخوة يسكنون دارا واحدة ويستظلون بسماء واحدة، وينهلون ويعلون من مياه متجانسة منذ سبعة أعصر. ولكنهم مع ذلك متنافرون، يسقيهم وطنهم بكل صاف نمير، ويسقونه بالدم المسفوك. أهم على مقربة من الموضع الذي يزعم أهل القصص أن قابيل قتل هابيل فيه، فعدتهم الحال بمرض أحد الآباء، قتل الأخ لأخيه؟ أم اختاروا سبيل الجناية حبا في الجناية؟
السلف أخطأ الحكمة ولم يحسن السياسة. كذا قال التاريخ، ولا بد من تصديق التاريخ. هم أحبوا الأنبياء وشاءوا أن يكونوا كالأنبياء ألسنا لا قلوبا، وحالا لا ذاتا. فما اختاروا من قصة موسى إلا عبادة العجل، ولا من تاريخ عيسى إلا الصلب، ولا من وقائع العدناني إلا حال أبي لهب. تشاغلهم بأنفسهم لم يدعهم يرون غيرهم، وصيحاتهم منعتهم عن سماع أصوات الأمم. حتى إذا تضاءلت شمس الشرق ولم يكف شعاعها لإنارة ربوعها، وطلعت بآفاق الغرب شموس كثيرة، وقفوا وقفة المجهود ينظرون إلى بعض. فإذا بهم دامية أظفارهم، دامية أنيابهم، دامية لهواتهم، بادية أجسامهم، تعلوها أطمار بالية رثة، حسبوها بقايا ثياب، فإذا هي قطع أكفان!
قال قائلهم: هلموا نطلب علما. صدق القائل، لله در القائل! ما أكبر عقل القائل! وما هي أن أنشئت المكاتب وفتحت المدارس وألفت الكتب على النمط الجديد. وقالوا: ما لنا وللأديان، تلك أمور بين الخالق وخلقه. القلوب ألواح محفوظة لا يقرأ ما فيها إلا الله ، وما نحن إلا إخوة؛ وحدة حال ووحدة مصير لا يتفقان. فغم ذلك الصفاء أهل الدين أولي التعصب، من يعمرون المساجد ليستغنوا بها عن تكاليف المنازل فيتخذونها مساكن، ويشيدون الزوايا والتكايا ليصيبوا فيها مآكلهم وأقواتهم، فهبوا يغالبون المخلوق باسم الخالق. وأتت الدولة الحميدية وشيد صرحها الممرد «يلديز»، فوجدوا منه أكنافا موطأة للمزاحمين، وآذانا سميعة للواشين. قالوا: النبي يأمر. قال: وأنا خليفته أفعل. قالوا: الدين يفرض. قال: وأنا حاميه أقوم بما فرض. وماذا فعل لا در دره؟ جعل بيوت الحكومة كالمساجد ترن على سلالمها أصوات المؤذنين، وصير المكاتب كالمدارس الدينية تقام فيها الصلوات وتقرأ كتب الدين، ويزرع التعصب في قلوب الشباب فتنمو معه نفوسهم وترسخ عليه طبائعهم، فكان المفطر منهم في رمضان يزج في السجن، والقاتل مطلق السراح يمشي في الأرض مختالا. - ألا تخشى يا ولي الدين أن تغضب المتدينين بهذا الكلام؟ - كلا. - ألا تجده سابق أوانه؟ - كلا. - أتجرؤ بعدها أن تسكن البلاد العثمانية؟ - نعم، لأكثر فيها من مثل هذا الكلام، ولست وحيدا في إنصافي، وأهل الإنصاف عددهم كثير. - إذن، فأنت جدير بالرثاء. - ربما رثيتني اليوم وحسدتني غدا. إذا سكت الكاتب الحر اثني عشر عاما، ثم لقي الحرية ينطق بمثل ما ترى. فلا تقل سكت دهرا ثم نطق كفرا، ولكن قل:
وذو الشجو القديم وإن تسلى
محب حين يلقى العاشقينا
أرى حولي أحرار العثمانيين فأغنيهم بغنائنا، ولكل امرئ غناء يطربه، ثم الحروف التي توصف بها الدماء تكون حمرا، فلنرجع إلى ما كنا بصدده.
تعصب أكثر العلماء وجهل الرعية وظلم الحكومة أتى البلاد بثلاث مذابح مختلفة: أولاها مذبحة الشام، وقعت في سنة 1860، أضرم جاحمها وأجزل وقودها أحد الباشاوات بأمر من الباب العالي؛ فطلبت إنكلترا وفرنسا من الحكومة العثمانية تحقيق الأمر وعقاب من تثبت عليه جريمة التحريض، فذهبت إلى الشام هيئة محققة اشترت رضاء الباشا وسارت على ما أمرتها به الحكومة. غير أن إنكلترا وفرنسا لم تقنعا بذلك وأصرتا على طلب التحقيق، فتبين ذنب الباشا، فطلبت هاتان الحكومتان إعدامه ليكون عبرة لغيره، وكان سفير إنكلترا في الآستانة إذ ذاك «أرل رسل» ومعتمدها في بر الشام «اللورد دوفرين». فزعمت الحكومة العثمانية أن قتل الباشا قد يستثير المسلمين ويدفعهم إلى قتل المسيحيين عامة انتقاما وتشفيا، وربما تعدى ذلك إلى رعايا الدولتين، فكان جوابهما الإصرار بعقاب الباشا، فأعدمته الحكومة التي أوعزت إليه بالفتنة ولم تحدث هنالك أشياء مما ادعت تخوفها منها.
البطريرك نرسيس.
ثم وقعت مذبحة البلغاريين في سنة 1877. وقد حمى الباب العالي زعماء الفتنة وذهبت مساعي «اللورد بكنسفيلد» غير مجدية نفعا.
ثم جاءت المذابح الأرمنية، ولا بد من إعادة النظر قليلا في أسبابها لكي يتسنى لنا استخراج نتائجها.
অজানা পৃষ্ঠা