فرأى كبار الساسة في إنكلترا بذل النصح أولا والإرهاب ثانيا، فكلم اللورد كرومر مقام الإمارة مرارا ناصحا غير مخادع؛ فلم يجد ذلك نفعا ولم ينتبه أحد إلى ما في هذه السياسة العوجاء من الخطأ العظيم، ثم تبدلت وزارتان، إحداهما لم تدم أكثر من الأربع والعشرين ساعة، ورجعت الوزارة الفهمية في حكمتها وسداد رأيها، فعاشت تعاني الشدائد وتجاهد في الإخلاص للبلاد جهادا. غير أنها لم تفز كل الفوز، إذ كانت الحيل التي يتدبرها جماعة خافية عنها، ولو خيرت لاختارت طريق الإصلاح مع الوقار.
وإني لأعجب من قوم حببوا إلى الإمارة الاستمرار على سياسة العداوة للمحتلين، وأذكر جيدا أني لاقيت بعض وجهائهم (والأمانة تقضي بستر اسمه في هذا الكتاب)، فقال: أتدري ما يراد بالمحكمة المخصوصة؟ قلت: وما أدراني ذلك. قال: هي ضربة على الإمارة، ولو بقي عبد الله نديم بمصر إلى اليوم لما أقدم هؤلاء على أمر كهذا. قلت له إقدامهم على طرده من مصر دليل على احتقارهم له ولشيعته، وتركته لا يحير جوابا. ومثل هؤلاء أسسوا الإحن في قلوب المصريين، ولقنوهم أقوال السوء، وغشوا الإمارة وآلوا بها إلى ما لا أحب بيانه في هذه الفصول.
على أن المحتلين أصروا في طلب العفو عن العرابيين من الإمارة، وما زالوا بها حتى أجابتهم إليه. وقد أرادوا أن يعرفوا الأمة أنهم قوم لا تحمل صدورهم دخلا وأنهم لا يستثمرون أحقادا. ولا أظن أن رجلا يشفق على بنيه إشفاق اللورد كرومر على المصريين؛ فهو أبو حريتهم ومصدر إنصافهم ومورد سعدهم، إلا أنه كان يخدم من لا يحبونه.
المرحوم عبد الله النديم وأستاذه
لا أذكر هنا ترجمة الرجل لكيلا أخرج عن الصدد، فليلتمسها من يطلبها في مظانها. وأنا ذاكر له ما أعرف من أحواله ومقاصده، مبين بعض ما تيسر من تقلبات الأيام معه؛ فقد كان له أشياع يأتمرون بأمره ويسيرون تحت علمه.
إن عبد الله النديم انتحل لنفسه السيادة وجاراه إلى تسميته باسمها جماعة من محبيه، ولكن اتصل بي ممن حضر مجالسه وسمع حديثه وألم ببعض أموره أنه لم يكن في طباعه ما يشبه طباع السادة. وما كان إلا رجلا من الرجال، ذكي القلب، شديد العارضة، ذرب اللسان، سريع الخاطر، حاضر البديهة، ظريف المحاضرة، حلو الشمائل. وكان كذلك جريئا على من يخافه، كثير الوقيعة بمن يعاديه، محاسدا أهل الفضل ممن هو دونهم، سهل الغضب، صعب الرضاء، مدمن الهجاء، دائم السخط؛ فمن صاحبه على حذر منه فاز بوده، ومن وثق به ضاع وضاعت ثقته معه. قرض الشعر فلم يملك له ناصية ولا فاز منه بسهم، ورام الزجل فوفر منه حظه وحلا في فمه نشيده، فكان يرتجله ارتجالا ويسابق أهله فلا يشقون له غبارا.
هذا عبد الله النديم صاحب «الطائف» و«التنكيت والتبكيت» من قبل، وصاحب «الأستاذ» من بعد. اختفى بعد ثورة العرابيين، وكان حارثهم ابن حلزة أو عمرهم بن كلثوم. رغا فتجمعوا، وعقر فتفرقوا، ثم آوته قرى الريف، فبات كأبي زيد السروجي يحترف الحرف ويتنقل في الأزياء والأشكال، فيوما هو واعظ ويوما هو ماجن ويوما هو عالم ويوما هو خليع. وما زال كذلك يطوف في البلاد حتى تعرفه بعضهم فوشى به إلى الحكومة، فجيء به إلى نظارة الداخلية، عليه غبرة ترهقها قترة، فأظهر الذلة والاستكانة ووعد بالتوبة والإنابة. فزين بعض شيعته لمقام الإمارة المصرية أن تعفو عنه بعد ذلك فعفت، فبدأ بعدئذ في نشر «الأستاذ». وبيان النديم مشهور ومألوف تفهمه العامة وتبتذله الخاصة، ولو مسح على كلامه بشيء من جزالة اللفظ وسمو المعنى، وأمعن النظر في غلطاته فاجتنبها؛ لصح أن يعد من كبار الكتاب. فقد شهدت له ببعض الذوق السليم وأعجبني ترسله، وقرأت له في «الأستاذ» مقالة عنوانها «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا» فعلمت أن البيان سجية في الرجل، وكتابه المسمى «كان ويكون» يجوز أن يقال فيه إنه ابن قريحة وقادة.
ومن المعلوم عند أهل الدهاء أن حزب العرابي وإن تمزق شمله بعد نكبة صاحبه بقي مختبئا في مكامن خوفه اختباء الأفاعي في جحورها؛ وكذلك الفزع يستولي على أهل الدعوة فيلجم أفواههم ويكبهم على أذقانهم. فلما عاد النديم وأعاد لهم نغماته تطربوا وعرتهم هزة أفلتوا بها من مرابطهم، فقال فصدقوا ودعا فأجابوا، وما زال في غلوائه وهم في غوايتهم، يدعو إلى الفتنة ويحض على الثورة، والإمارة تحبوه ما يقوم أوده ويطلق لسانه حتى آل أمره إلى الطرد، فترك مصر مأسوفا عليه من أشياعه، مغضوبا عليه من العقلاء.
وقد أخطأ اللورد كرومر. وقد يخطئ عظماء الساسة، فطلب من الإمارة أن تكلمه في الخروج، فكان كلام الإمارة له كلاما يدل على قصر في النظر وخطل في الرأي وضعف في الإرادة ومجاملة حيث يجب العدل. وظن اللورد كرومر أن عبد الله النديم إذا دام على نشر «أستاذه» حدثت ثورة في البلاد، فأراد الاقتصاد في المكاره والاجتناب للفتن. ولو كنت أنا في مقام اللورد لتركته يقول حتى ينفد ما عنده، فإن للباطل جولة ثم يضمحل، وليس بمصر قوم يقدمون على الثورة ولو كانت مداعبة، وإن قوما ثاروا أو أثيروا ومعهم خمسمائة ألف مقاتل لم يصبروا في ميادين الحرب إلا ساعات معدودة لأشد من النعائم إجفالا وأسرع في الهزيمة من الظباء عدوا، فلا يقومون إلا إذا مد السماط وصفت الصحون.
مضى النديم، رحمه الله تعالى، واستخلف بعده آراء مشى فيها على إثره أشياعه، وقد جرى لي معه شأن ليس هذا محل ذكره، ولربما جاء الكلام عليه في سياق الحديث مما يلي الفصل الحاضر، وإنما أحدث بيننا الخلاف أنه كان عدوا للعثمانيين؛ وهو من قدماء من يقولون «مصر للمصريين»، ونحن نقول مصر للعثمانيين. ويظهر من أمور كثيرة أن مقام الإمارة المصرية وثق بالنديم ثقة لا يتخللها الريب، فكان يحسبه قادرا على كل شيء، ومن أجل هذا قال أكثر الأمراء من الأسرة الحاكمة في مصر: إن مقام الإمارة يقرب منه النديم؛ لأنه عدو أسرته وجنسه. وبهذه السياسة المضحكة آل الأمر إلى الاعتماد على مصطفى كامل. وقد كان كامل ممن يرددون نغمات النديم، وإنما ميز المقلد عن المجتهد إلمامه باللغة الفرنساوية واستطاعته بيان آرائه للغربيين، ولم يفز النديم بمثل ذلك.
অজানা পৃষ্ঠা