أما الإخوان الذين استهانوا الأهوال في جانب الإخاء وأقبلوا على مورد الموت الأحمر يطلون حيث جندل أخوهم الشهيد، فأولئك منهم زكي الحسب مصطفى بك المخزومي، أحد أعضاء مجلس المعارف إذا ذاك، ومنهم الشهم الأوفى المرحوم محمد صديق خان الحسيني؛ وهو أحد أعضاء ذلك المجلس. وقد تقدم ذكرهما، وآخرون غير هذين الصديقين أدع ذكرهم إجابة لملتمسهم، فكان عدد الذين أهمهم أمري لا يزيد على الخمسة، جزاهم الله عني خيرا، إني عاجز عن جزائهم، ولقاهم من السعادة بقدر ما ابتلاني به من الشقاء.
وأما العدو الذي نسي يومئذ عداوته فهو زهدي باشا ناظر المعارف، كان سوسا لخزائن الحكومة، لا يدع قطعة من الذهب إلا نخر فيها، لا يرحم في سبيل آرائه صغيرا ولا يوقر كبيرا، ولا ينام عن خصم حتى يرديه ويزيله عن موضع عزه. وقد كان لي وإياه شأن من الشأن. وحين أمال الدهر عماد سلطاني وأسلمني إلى من يطيل همي وتسهيدي؛ أمر زهدي باشا بصرف مرتبي وأرسله إلى أهلي، وحمل رسوله من كلام الود وجميل العزاء ما كاد يثلج صدورهم، ثم أرسل إلي يقول: أنت اليوم رهينة السجن، لا حول لك ولا قوة، وأخشى أن يحدث لك من اليأس ما يذهب بعزك؛ فاصبر إن الصبر درع الكريم إذا نابته نائبة، وسلني كل حاجة تكون عرضت أقم لك بقضائها. فرددت الرسول أحسن رد وقلت: إن حاجة الحر في رأسه لا في صدره، وإذا بخلت الأيام بها فلا ألتمسها عند من هم أبخل منها.
وبينما أنا في السجن، لا علم لي بما تجري به الأقدار، إذا جماعة من المظلومين يقادون إلى ذلك البيت غير المحبوب، عضت السلاسل على سواعدهم عض الثقاف على صم الأنابيب، أخرجتهم يد الجور من مستقر دعتهم وقادتهم إلى مستثار فزعهم. أحد أولئك المظلومين هو المرحوم جبرائيل أفندي غرغور؛ وهو من مشاهير المحامين، وكان وظف عضوا بأمانة البلدة؛ ثم رجل من الأروام وولده معه، وهما من مشاهير تجار الجواهر والحلي. وكان السبب في سجن المرحوم غرغور أنهم عثروا في داره على بعض مطبوعات الأحرار، فأتوا به مسرعين ولم يمهلوه أن يلبس ملابسه، وإنما أقام الحجة على ذلك الشيخ الجليل أن أحد نجليه وهو نعوم أفندي غرغور كان فر إلى أوروبا ولحق بجماعات المجاهدين من الأحرار، ولم يثنه عن جهاده وعد القوم ولا وعيدهم، فقالوا ننتقم لأنفسنا من الأب إذ فاتنا الانتقام من الولد.
والرجلان الجوهريان حسدهما هاروناشي جوهري عبد الحميد، وحساد التجارة شر من حساد الدولة؛ فوشى بهما إلى مولاه زاعما أنهما من أعوان رشاد أفندي ولي عهد الملك العثماني، فحلت بالرجلين نقمة الظالم الجبار وخلا الجو لوجه هاروناشي وفاز بربحي التجارة والوشاية. وقد أرسل غرغور أفندي ورفيقاه إلى ولاية قسطموني وبها مات غرغور في سجنه، وخلص الأب وابنه عند إعلان الدستور.
هذا بعض ما جرى في السجن، وما جرى في بيتي أجلب للعبرة وأدعى للعجب؛ فقد ملك الجواسيس الطريق وأقاموا يرقبون من يزور أهلي؛ فإن كان عثمانيا تلاحقوا به وأخذوا بطوقه، وإن كان أجنبيا حاربوه بوشاياتهم وهي لا تضره ولا ترهبه.
إلى الله المشتكى من أهوال تلك الأيام، عيون يواقظ تتحرى مواضع الشبهات، وأيد تحتفر القبر لمن عز ناصره وهان جانبه، وقلوب خلت من جوانبها مواضع الرحمة فقست فهي أشد قسوة من الحجارة. وإن بداري لنحيبا تئط له الأركان وتزلزل قواعد البنيان، وحزنا يتصلصل بين الترائب والنحور، ثم امرأتان - أم وزوجة - وطفلان لا يعلمان من الحياة شيئا، أشكلت عليهما فحوى الدموع فأحرقت قطراتها وجناتهما فهما يتململان، ما حلت الأيام منهما عقد اللسان فيكون منهما معوان على الشكاية، بل ألهما الحزن إلهاما. والبكاء في الإنسان سجية، وفي ارتجالات الأعين ما لا تقوم له بدائه القرائح. سر أيها القلم، هذا زمانك، قد خلا زمن العبرات.
استنجدت المرأتان كل من ظنتا به نجدة، وطرقتا كل باب حسبتا وراءه ملجأ، فأوصدت الأبواب وتضاءلت عزمات الكرام، ثم صاح بهما الشمم: قفا، فوقفتا، ذلك إنذار اليأس يستعيد الفتوة في النفوس.
ولم أنس مما امتحنت ربعي به حوادث الأيام شيئا مر بي أوثر ذكره في سطوري هذه؛ إن في ذكره لعظة خالدة وحكمة بالغة يأخذ منهما اللبيب على قدر لبه.
أصبحت في بعض أيامي بالسجن كما يصبح من قضى ليلته على شوك القتاد؛ أردت النهوض فخانتني قدماي، فاستجمعت قوتي فعل اليائس من حياته إذا هوى في جب ذرعه ألف ذراع، فوقفت أجيل طرفي يمنة ويسرة، وهما يتساقط نورهما من أطراف أهدابهما. هذا موقف الحيرة. لو تمثل لي الموت شخصا ونزا إلي بسنانه وافتر عن نواجذه وأحدق بباصرتيه لما وجد في مهزا ولا أنس مني ذعرا. فطال وقوفي زمنا لا أدري مقداره. وإني لكذلك وإذا السجان سمعت صرير مفتاحه على قفل الباب، وبدا لي وجهه الأربد في ابتسامه القبيح، فقلت: لا حيا الله هذه الوجه. فسلم فسلمت، ثم سألته: ما جاء بك الساعة؟ - خدمتك. - جزيت خيرا، لا أريد شيئا. - ألا تفطر؟ - كلا، ولكن ائتني بالقهوة. - والدتك جاءت وهي تريد أن تراك، فطلبت إلى المتصرف أن يأذن لها في زيارتك، فأذن لها أن تراك من باب السجن ولم يأذن لها في الدخول عندك. - اذهب فبلغها عني أني بخير، وأني أطلب منها دعاءها وأستمنحها رضاها ولا أريد أن أواجهها في هذه الدار المظلمة جوانبها. - لا سبيل إلى ما سألت، وما هي ببارحة إن لم ترك بعينها.
فلم يبق إلا الرضاء، فتبعت الرجل حتى إذا انتهينا إلى دهليز السجن استوقفني جانبا وفتح الباب لوالدتي، وأقام دون ممرها سلسلة الباب، فأشارت بالتحية وأشرت بالتحية، وأومأت إليها لتعود فعادت، ورجعت إلى غرفتي مسرعا أكفكف عبرات استنزلها الهول المتجدد، وقد علمت أن الوالدة إذا رأتني بذلك المكان غلب عليها الحزن وانثنت مثقلة بفادحات الهموم، ولكن قلت الحيلة في درء ما يتوقع، فأيقنت أن لا سبيل إلى الراحة في أيدي قوم تستطيب لحوم الناس أنيابهم وتستلذ الدماء أفواههم، وأقمت أنتظر ما سيكون.
অজানা পৃষ্ঠা