মা বাচদ হাদাথা মুকাদ্দিমা কাসিরা
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
জনগুলি
إن جل هذا التشخيص الذي يقدمه بعد الحداثيين لحال مجتمعنا يعرضهم لتهمة المغالاة الشديدة في تقدير سذاجة مواطنيهم؛ فالكثير من نقدهم اللاذع لا يزيد عن محاولات مبالغ فيها لحمايتنا من مخاطر بديهية، تستحق بالكاد وضعها في هذا الإطار الجليل من النظريات غير المكتملة. في حين لا يرى البعض مشكلة في هذا الوضع؛ ففي عالم ما بعد مكلوهان (الفيلسوف صاحب نظرية تكنولوجيا وسائل الإعلام) الذي تحول إلى قرية كونية حيث نعيش جميعا الآن تقريبا، ويجمع بيننا التواصل الإلكتروني بدلا من العلاقات الاجتماعية الحقيقية، «بالطبع» قد تحظى الرموز بقيمة تفوق قيمة البضائع.
يجدر بنا إذن طرح السؤال التالي: إلى أي مدى يمكن تبرير «تفسيرية الشك» ما بعد الحداثية؟ إذ يكمن على أي حال تناقض تعجيزي في صميم هذا التحليل، فمثلا إذا زعم أحدهم أن كل شيء يتكون «فعليا» عبر صورة خادعة لا عبر الواقع، فكيف تأتي له أو لها «معرفة» ذلك؟ فهم يفترضون مسبقا نفس الفروق التي ينتقدونها. على أفضل الأحوال، يقدم أولئك النقاد سلسلة من الملاحظات المتعالية والتافهة على ما يمارسه «الآخرون» من خداع (للذات)، أو يكتفون بالتعبير عن استنكارهم - المبني على أسس أخلاقية ليبرالية راسخة - لنجاح صناعة الإعلانات والتليفزيون وغيرها من وسائل الإعلام في دفع الناس نحو استهلاك أشياء يعترضون هم عليها، بل وتصديقها. إنها رؤية لا تختلف عن تفضيل آراء سياسي على سياسي آخر، وليست دليلا جيدا على التمتع بإدراك مبتكر لوضع جديد حقا في المجتمع المعاصر.
لكن المشكلة الأهم هي التراجع الأكيد في قبول الأيديولوجيات والمعتقدات التقليدية الشائعة لدى أقلية مؤثرة. قد ينزع أحد أتباع شكوكية ما بعد الحداثة - مع استعداداه للاقتناع بجزء من مبدأ النسبية وإثر ملاحظة الكم الاستثنائي من التصورات المتنازعة حول الواقع، والمتاحة لنا داخل مجتمع يتسم بتعددية جلية وتسامح ملحوظ - نحو تفضيل اتجاه مثل ذلك الذي طرحه ريتشارد رورتي تحت مسمى «سخرية ما بعد الحداثة». لدى أتباع هذا الاتجاه شكوك حول حقيقة وجود أي «مفردات نهائية» ويدركون أن الآخرين لديهم مفردات مختلفة؛ أي إنهم لا يرون مفرداتهم «أقرب إلى الواقع» مقارنة بمفردات بقية الناس؛ ومن ثم لا يساورهم القلق إلا حيال احتمالية اختيارهم مفردات لا تناسبهم من بين مفردات اللغة المتنوعة؛ ومن ثم اكتساب هوية غير مناسبة. إن من ينتمي إلى هذا الاتجاه:
لا ينشغل بتقديم منهج أو برنامج أو أساس منطقي خاص به وبرفاقه، بل يكتفي بفعل ما يفعله جميع المؤمنين بسخرية ما بعد الحداثة ليس إلا؛ أي محاولة تحقيق الاستقلال الذاتي؛ فهو يحاول الخروج من أسر الاحتمالات الموروثة وخلق احتمالاته الخاصة، يحاول التخلص من مفردات نهائية قديمة وتكوين مفردات خاصة به. ويتسم أتباع هذا الاتجاه عامة بأنهم لا يطمحون إلى حسم شكوكهم حيال المفردات النهائية عبر كيان أكبر من ذواتهم؛ مما يعني أن معيارهم لتبديد الشكوك - معيارهم لتحقيق الكمال الخاص - هو الاستقلال الذاتي لا الاتحاد مع قوة خارج ذواتهم.
ريتشارد رورتي، «الاحتمال، والسخرية، والتضامن»، (1989)
تتمحور الفكرة هنا حول إدراك أن الافتقار إلى الأسس وإمكانية حدوث أي شيء هو أمر جيد؛ إذ سيؤدي إلى مزيد من الليبرالية لأنه سيحد من القيود المفروضة على المناقشات حول الممكن، فضلا عن تكوين وعي لدى المرء بأن موقفه في تلك المناقشات نسبي؛ بمعنى أن وجهة النظر المعارضة قد يكون لها كذلك ما يبررها. يعتبر رورتي ذلك نوعا من السخرية الوجودية، فمن يتبنون هذا الاتجاه تساورهم الشكوك حول المفردات التي يستخدمونها؛ إذ إن مفردات الآخرين تبدو كذلك ناجحة في أداء مهمتها. ولا يمكن محو تلك الشكوك عن طريق أي «إجابة نهائية» أو موقف تأسيسي؛ إذ لن يتيقن المرء قط من أن الآخرين أدركوا أجزاء من الواقع تزيد عما أدركه هو (عبر مفرداته الخاصة). أما في المجالات الفنية لا الفلسفية أو السياسية، فيزعمون تعدد أساليب الإبداع الفني مع عدم وجود أسلوب مفضل لتفسيره. بالطبع، من المفترض أن تتشابه الفلسفة مع النقد الفني أو الأدبي تشابها أكبر من المعتقد؛ ومن ثم، تنبع السخرية من عجزنا الدائم عن النظر إلى أنفسنا أو إلى المفردات التي نستخدمها أو إلى النظرية أو المجال الفني الذي نتبناه نظرة جدية تماما؛ إذ لم يعد بوسعنا (في سياق ما بعد حداثي) الاعتماد على الأفكار أو الحجج الكبرى المتجاوزة والفاصلة، بل علينا الاعتماد بعضنا على بعض وعلى النتائج التفسيرية التي تترتب على الحوارات التي نجريها بيننا (بما فيها الإبداع الفني). وهكذا، تصبح معايير النجاح معايير عملية تماما. لقد تعاقبت المفردات المختلفة وتعاقب المتنافسون عليها على مر التاريخ، فمنذ فترة قصيرة كان «الرسم الهندسي الجديد» سائدا، والآن أصبح الفنانون البريطانيون الشباب ومعرض «سينسيشن» يتصدران المجال. ولا تتمتع الحركات السياسية بوضع أفضل من الحركات الفنية في هذا السياق. فعلى سبيل المثال، التحول من السياسة التاتشرية إلى سياسة حزب العمل الجديد ليس سوى تغير مفردات من منظور رورتي - يتضمن كذلك القصص الملفقة التي تهدف إلى تلميع صورة السياسيين، والتي تصاحب كل حكومة - ولا يتعلق بظهور مناقشات أو مبادئ سياسية جديدة قائمة على أساس وجيه.
إذا قبلنا هذا النوع من وجهات نظر ما بعد الحداثة، فسيصبح لدينا بالقطع شكل من ليبرالية ما بعد التنوير، وهو نموذج قد يتمتع بالتأكيد بأكبر قدر من الجاذبية في الولايات المتحدة؛ نظرا لالتزامها العام بمبدأ التعددية الثقافية، ولإيمانها بالحقوق وبفكرة تحسين الذات، فضلا عن احتوائها على نسبة كبيرة من المؤمنين بالمعتقد المسيحي داخل إطارها الواسع كدولة علمانية. وهي أيضا وجهة نظر علاجية - لا فلسفية - فهي تقترح ببساطة «مناقشة الأمر تفصيلا»، لكن هذا الاقتراح يظل بالطبع مجرد اقتراح، وفي حالة تبني هذا الشكل (الساخر) من أشكال الليبرالية وفقا للنمط ما بعد الحداثي الدقيق، فلن يزيد عن كونه شكلا من أشكال الحياة المتعددة.
ربما كان من الأصعب رؤية هذا النوع من نظرة ما بعد الحداثة، الذي يدعو إليه رورتي شاغلا قائما ومستمرا في بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا، فضلا عن الدول المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي؛ حيث يتبنى الكثير ممن قبلوا الجلوس إلى مائدة الحوار مواقف غير قابلة للنقاش، حتى وإن لم تكن مواقف (قومية أو إسلامية أو مسيحية أو ماركسية) تقليدية يتجلى ثباتها وفقا للنظرية. لكن عندئذ سيطرح بعد الحداثيين المتشككون تعليقا صائبا على ذلك يزعم أن المشكلة تكمن تحديدا فيما يعتنقه بعض الناس من معتقدات يقينية غير مبررة تماما. ومن ثم، عندما نطالب بإجراء «حوار بناء» في أيرلندا الشمالية، فعلينا كذلك - وفقا لوجهة نظر ما بعد الحداثة - أن نطالب بتمتع أطراف الحوار الرئيسية بدرجة ما من النسبية الساخرة، وهو شرط قد يجدون صعوبة واضحة في تحقيقه.
إذن، تميل معتقدات ما بعد الحداثة نحو نسبية وتعددية ثقافية. وفي خضم ذلك تقبل بسهولة وسذاجة كبيرتين الوضع اليقيني السائد حاليا؛ وهو أن معظمنا في الغرب الآن نؤمن بأننا نحيا في مجتمعات تحطمت فيها وجهات النظر التقليدية. وعلى الرغم من أننا قد نؤمن ب «منطق» الوفاء بالوعود، فهل يمكن أن نظل مؤمنين به لوقت أطول في ضوء السياسة الواقعية الحداثية، وفي إطار يشبه على أي نحو الإطار الذي آمن به كانط وهيوم؟ إن تلك المبادئ التقليدية - وبدائلها - تفتقر حاليا على ما يبدو إلى أساس راسخ. يعبر جون جراي عن هذا الرأي قائلا:
إن حالة ما بعد الحداثة التي تتضمن وجهات نظر متعددة ومؤقتة، وتفتقر إلى أي أساس عقلاني أو متجاوز أو إلى رؤية موحدة للعالم، هي حالة خاصة بنا، قدر كتبه التاريخ علينا، ومن العبث التظاهر بغير ذلك.
অজানা পৃষ্ঠা