1 - نشأة ما بعد الحداثة
2 - طرق جديدة لرؤية العالم
3 - السياسة والهوية
4 - ثقافة ما بعد الحداثة
5 - «حالة ما بعد الحداثة»
مراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
1 - نشأة ما بعد الحداثة
2 - طرق جديدة لرؤية العالم
3 - السياسة والهوية
4 - ثقافة ما بعد الحداثة
5 - «حالة ما بعد الحداثة»
مراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
ما بعد الحداثة
ما بعد الحداثة
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
كريستوفر باتلر
ترجمة
نيڤين عبد الرؤوف
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
الفصل الأول
نشأة ما بعد الحداثة
أثار التكوين الطوبي المستطيل الشكل، الذي قدمه الفنان كارل أندريه تحت عنوان «تساوي 8» (1966)، استياء الكثير عند عرضه في معرض تيت الفني في لندن، عام 1976. ينتمي هذا العمل الفني بجدارة إلى عالم ما بعد الحداثة، ورغم الموضع الذي يحتله حاليا في معرض تيت للأعمال الفنية الحديثة، فإنه لا يتوافق مع الكثير من مبادئ فن النحت الحديث؛ فهو ليس بالعمل المعقد أو المعبر على المستوى التركيبي، ولا يتمتع بجاذبية خاصة تدفع للنظر إليه، وبالتأكيد يبعث سريعا على الملل، فضلا عن سهولة صنع عمل مماثل له. وبما أن «تساوي 8» يخلو من أي سمات تجعله مثيرا للاهتمام في حد ذاته (باستثناء متصوفي الأرقام من أتباع المدرسة الفيثاغورية)؛ فإنه يدفعنا إلى طرح أسئلة حول سياقه بدلا من محتواه، مثل: «ما الهدف منه؟» أو «لماذا يعرض في متحف؟» إذ أصبح من الضروري طرح نظرية ما حول هذا العمل الفني لتعويض الفراغ الناتج عن كونه لا يثير الاهتمام، وهو ما يعكس أيضا سمة نموذجية إلى حد ما من سمات ما بعد الحداثة. قد يبعث العمل على طرح أسئلة من قبيل: «هل هذا فن حقا، أم مجرد كومة من الطوب تتظاهر بكونها فنا؟» لكن هذا السؤال لا يعكس الكثير من المنطق في حقبة ما بعد الحداثة؛ حيث من المقبول عموما أن المعرض «كمؤسسة» - لا أي جهة أخرى - هو ما جعل هذا العمل «عملا فنيا» قائما بالفعل؛ فالفنون المرئية ليست سوى ما يعرضه لنا أمناء المتاحف، سواء أكانت أعمالا لبيكاسو أم أبقارا مقطعة شرائح، بينما تقع على عاتقنا مسئولية مواكبة الأفكار المحيطة بتلك الأعمال.
يود العديد من فناني ما بعد الحداثة (وبالطبع حلفاؤهم من مديري المتاحف) أن ننشغل بتلك الآراء المتعلقة بالأفكار التي قد تحيط بهذا الفن «التبسيطي». إن بساطة كومة الطوب هي سمة تصميمية مقصودة، فهي تتحدى الخصائص المعبرة شعوريا التي ميزت الفن السابق (الحداثي) وتنكرها. فمثل تمثال «المبولة» الشهير أو عجلة الدراجة الموضوعة فوق كرسي صغير للفنان دوشامب، يختبر هذا العمل ردود فعلنا الفكرية وتقبلنا للأعمال التي تعرضها المعارض الفنية على جمهورها. ويعكس بعض نقاط التحول الأساسية، التي تضيف بعض الافتراضات حول الفن التي تنكر طبيعته إلى حد كبير. يقول أندريه: «إن ما أحاول إيجاده هو مجموعات من الجزيئات، والقواعد التي تجمعها بأبسط طريقة.» ويزعم أن وحدات الطوب المتساوية التي قدمها «تتمتع بطابع شيوعي؛ لأن شكلها مفهوم لجميع الناس على حد سواء.»
لكن هذا العمل النحتي - رغم التفسيرات التي قد تراه مقبولا اجتماعيا وثقافيا - لا يكاد يضاهي في متعته تمثال «القبلة» لرودين، أو الأعمال التجريدية الأكثر تعقيدا بمراحل لنحاتين أمثال أنتوني كارو. إن طليعية أندريه النظرية - التي تتحدى ردود فعلنا الفكرية - تلمح إلى أن المتع المستقاة من الأعمال الفنية السابقة هي متع مشكوك فيها نوعا ما؛ إذ إن النزعة التطهرية و«الدعوة إلى التساؤل»، وإشعار الجمهور بالذنب أو بالاضطراب، كلها سمات ترتبط ارتباطا وثيقا عبر أعمال مثل هذه. وهي اتجاهات تميز كثيرا من الفن ما بعد الحداثي، وغالبا ما تتضمن بعدا سياسيا. ويواصل العمل الفني الحائز على جائزة تيرنر عام 2001 للفنان مارتن كريد مسيرة هذا الاتجاه، فهو عبارة عن غرفة فارغة؛ حيث تضيء مصابيح كهربائية ثم تنطفئ.
سأتحدث فيما يلي عن الفنانين، والزعماء الفكريين، والنقاد الأكاديميين، والفلاسفة، وأساتذة العلوم الاجتماعية المنتمين للفكر ما بعد الحداثي، كما لو كانوا جميعا أعضاء في حزب سياسي مشاكس «بلا تنظيم محكم». وهو إجمالا حزب عالمي و«تقدمي»، ينتمي لليسار لا لليمين، ويميل إلى تصنيف كل شيء - بدءا من اللوحات التجريدية إلى العلاقات الشخصية - كمواقف سياسية. لا يتبع الحزب عقيدة موحدة على وجه التحديد، بل إن من قدموا أبرز المساهمات الفكرية لبياناته الرسمية في بعض الأحيان ينكرون عضويتهم به في سخط، رغم ذلك فإن هذا الحزب ما بعد الحداثي يؤمن عادة أن عصره قد أتى. هو حزب متيقن من عدم تيقنه، وكثيرا ما يزعم أنه تجاوز الأوهام الراسخة لدى الآخرين، وأدرك الطبيعة «الحقيقية» للمؤسسات السياسية والثقافية التي تحيط بنا. في هذا الإطار، يتبع ما بعد الحداثيون خطى ماركس، ويزعمون أنهم يتمتعون بإدراك مميز للحالة الفذة المسيطرة على المجتمع المعاصر، الواقع في أسر ما يطلقون عليه «الوضع ما بعد الحداثي».
من ثم، لا يدعم بعد الحداثيين ببساطة المذاهب الجمالية، أو الحركات الطليعية مثل التبسيطية أو التصورية (التي انبثقت عنها أعمال مثل التكوين الطوبي الذي قدمه أندريه)، بل لديهم طريقة مميزة لرؤية العالم ككل، ويستخدمون مجموعة من الأفكار الفلسفية التي لا تكتفي بدعم الحالة الجمالية ل «ما بعد الحداثة»، بل تحلل أيضا الحالة الثقافية ل «ما بعد الحداثة» في عصر الرأسمالية المتأخرة. من المفترض أن هذه الحالة تؤثر فينا جميعا، لا عبر الفن الطليعي فحسب، بل على مستوى أكثر جذرية عبر تأثير ذلك النمو الهائل في وسائل الاتصال المعتمدة على الأجهزة الإلكترونية التي أطلق عليها مارشال ماكلوهان في ستينيات القرن العشرين «القرية الإلكترونية». ورغم ذلك، فإننا داخل «مجتمع المعلومات» الجديد الذي نعيش فيه، لا يمكننا - لدواعي المفارقة - الوثوق في معظم المعلومات، لكونها إسهاما في عملية التلاعب الهادفة إلى تلميع صورة أهل السلطة أكثر من كونها دعما للمعرفة؛ لذا، يتسم الاتجاه ما بعد الحداثي بكونه اتجاها تشككيا يتاخم حدود جنون الارتياب (كما نرى - على سبيل المثال - في روايات نظرية المؤامرة لتوماس بنشن ودون ديليلو وأفلام أوليفر ستون).
شكل 1-1: منظر داخلي من فندق ويستن بونافينتشر للمعماري بورتمان. «حيز ما بعد حداثي متعدد الأبعاد».
يرى فريدريك جيمسون - أحد كبار المعلقين الماركسيين على ما بعد الحداثة - أن فندق ويستن بونافينتشر، للمصمم المعماري جون بورتمان في لوس أنجلوس، هو بالكامل أحد دلائل هذه الحالة؛ إذ تتضافر التعقيدات الاستثنائية لمداخل الفندق، وتطلعه نحو أن يصير «عالما متكاملا، أو ضربا من المدن المصغرة»، ومصاعده المتحركة دوما تجعل منه «طفرة» تقود إلى «حيز ما بعد حداثي متعدد الأبعاد»، يتجاوز قدرات الجسم البشري على تحديد موقعه، وإيجاد مكان خاص به في عالم يمكن رسم خريطة له. إن هذا «الارتباك الساحق» - على حد قول جيمسون - يشكل معضلة، وهو «رمز يضاهي عجز عقولنا عن رسم خريطة لشبكة الاتصالات اللامركزية الكونية الهائلة المتعددة الجنسيات التي نوجد داخلها كأفراد.» وقد انتاب الكثير منا شعور مماثل داخل مركز بربيكان في لندن.
إن هذه النظرة التي تشبه وضعنا ب «التيه في فندق ضخم» توضح الطبيعة الحضرية لمذهب ما بعد الحداثة؛ حيث نشأ مناخ فكري جديد جالبا معه إدراكا جديدا. لكن تلك الأفكار والاتجاهات لطالما ظلت إلى حد كبير محل جدل، وفيما يلي سأقاوم شكوكية ما بعد الحداثة معتمدا على بعض شكوكي الخاصة. وبالتأكيد، سأنكر كون آرائها السياسية والفلسفية وأساليبها الفنية تكاد تتمتع بقدر الهيمنة الذي يوحي به التصريح الواثق عن بزوغ حقبة جديدة «ما بعد حداثية».
مع ذلك، يتضح الآن أنه حتى إذا اقتصر تناولنا على الأفكار السائدة داخل الحركة الطليعية الفنية منذ عام 1945، يمكننا استشعار ابتعادها عن نظيرتها في الحقبة الحداثية؛ إذ يوجد اختلاف كبير بين أعمال جيمس جويس وآلان روب جرييه، وبين أعمال إيجور سترافينسكي وكارلهاينز شتوكهاوزن، وبين أعمال هنري ماتيس وروبرت راوشينبرج، وبين أعمال جان رينوار وجان لوك جودار، وبين أعمال جايكوب إيبستاين وكارل أندريه، وبين أعمال ميس فان دير روه وروبرت فينتوري. إن ما نستنتجه من هذه المقارنة بين الحداثة وما بعد الحداثة في الفنون يعتمد إلى حد كبير على القيم التي يعتنقها المرء؛ إذ لا يمكن تحديد مسار تطور وحيد ها هنا.
ترجع العديد من تلك الاختلافات إلى حساسية الفنانين للتغيرات الحادثة في المناخ الفكري. فمع حلول منتصف ستينيات القرن العشرين، بدأ نقاد مثل سوزان سونتاج وإيهاب حسن في الإشارة إلى بعض الخصائص التي تميز ما نطلق عليه الآن «ما بعد الحداثة » في كل من أوروبا والولايات المتحدة؛ إذ زعما أن أعمال أتباع ما بعد الحداثة تعكس عن عمد مستوى أقل من الوحدة، ودرجة أقل وضوحا من «الإتقان»، وطابعا أكثر هزلية أو فوضوية، واهتماما بفهم الجمهور يزيد عن الاهتمام بالمتع المستمدة من الوحدة أو الصقل الفني، وميلا أقل إلى مراعاة تماسك النص، وبالطبع تمردا أكبر على التفسيرات المحددة، مقارنة بالكثير من الأشكال الفنية السابقة. وسوف نتناول عددا من الأمثلة على ذلك فيما بعد.
نشأة النظرية
في وقت لاحق نوعا ما على الفترة التي شهدت اشتهار الفنانين السابقي الذكر، حدث تطور إضافي في حركة ما بعد الحداثة؛ ألا وهو «نشأة النظرية» بين أوساط المثقفين والأكاديميين؛ إذ طور العاملون في جميع المجالات وعيا ذاتيا نقديا مفرطا. فوجه بعد الحداثيين اللوم إلى الحداثيين (وإلى قرائهم أو مشاهديهم أو مستمعيهم الإنسانيين الليبراليين «السذج» حسب افتراضهم) على إيمانهم بأن عملا فنيا قد يروق بطريقة ما إلى البشرية جمعاء؛ مما يعني كونه خاليا من الملابسات السياسية الباعثة على الانقسام.
إن صعود فنانين تجديديين عظماء في فترة ما بعد الحرب - أمثال شتوكهاوزن، وبوليز، وروب جرييه، وبيكيت، وكوفر، وراوشنبرج، وبويس - تلاه (ودعمه وفسره كما يزعم كثيرون)؛ نمو هائل في تأثير عدد ضخم من المثقفين الفرنسيين، نخص منهم بالذكر المنظر الاجتماعي الماركسي لويس ألتوسير، والناقد الثقافي رولان بارت، والفيلسوف جاك دريدا، والمؤرخ ميشيل فوكو، وقد بدءوا جميعا عملهم في الواقع عبر تأمل مضامين الحداثة، ونادرا ما جمعت أيا منهم علاقة ممتدة حقا بالحركة الطليعية المعاصرة. كان ألتوسير مهتما ببريخت، بينما ركز بارت على فلوبير وبروست، أما دريدا فقد اهتم بنيتشه وهايدجر ومالرميه، في حين انشغل فوكو بنيتشه وباتاي. ومع منتصف السبعينيات من القرن العشرين، أصبح من الصعب معرفة ما الأهم لدى أتباع ما بعد الحداثة، أهي صياغة شكل محدد من أشكال التجارب (الصادمة) داخل إطار الفن، أم فرص عرض التفسيرات السياسية والفلسفية الجديدة التي يتيحها هذا الشكل المحدد. قد يزعم كثيرون الآن أن بعد الحداثيين المخلصين لاتجاههم طالما «فضلوا» (على نحو كارثي) المضامين التفسيرية على التجسيد الفني الممتع والتعقيد الشكلي الذي اعتاد الكثير من الناس تقديره في الفن الحداثي.
انتقل هذا الإطار الفكري الجديد والمفزع من فرنسا إلى إنجلترا وألمانيا والولايات المتحدة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين. وباندلاع ثورات الطلبة عام 1968، كان التفكير الفلسفي الأكثر تطورا قد ابتعد عن الوجودية الفردية ذات الحس الأخلاقي القوي التي ميزت حقبة ما بعد الحرب مباشرة (والتي كان سارتر وكامو أشهر ممثليها) نحو مواقف أكثر تشككا ومعادية للمذهب الإنساني. وجدت تلك المعتقدات الجديدة منبرا لها فيما أصبح معروفا بالنظرية التفكيكية وما بعد البنيوية، التي سنناقشها فيما يلي. كذلك لم يعد «الروائيون الجدد» في فرنسا مهتمين بحالات القلق العام والعبثية ذات الطابع الفلسفي والشعوري، ولا ملتزمين بالمتطلبات المتشابهة للروايات التي تتبع أسلوب السرد التقليدي، مثل «الغثيان» لسارتر أو «الطاعون» و«الغريب» لكامو، بل تحولوا إلى أسلوب أكثر برودة بمراحل، يعج بالمتناقضات، ويعادي السرد كما نلاحظ في نصوص آلان روب-جرييه، وفيليب سوليرز، وغيرهم ممن لم يبدوا اهتماما كبيرا بالشخصية الفردية، أو بالتشويق والجاذبية التي تميز السرد المتماسك، على قدر اهتمامهم بالتلاعب بلغة الكتابة التي يستخدمونها.
في الواقع، تضرب هذه الأفكار الجديدة بجذورها خارج الفنون، رغم أنها ألهمت عددا من الأعمال الأدبية وهيمنت على تفسير تلك الأعمال في الدوائر الأكاديمية. تمحور اهتمام بارت حول تطبيق النماذج اللغوية على تفسير النص، بينما اتخذت أعمال دريدا الفلسفية في البداية شكل تحليلات نقدية لعلم اللغة، أما فوكو فقد انصب تركيزه على التاريخ والعلوم الاجتماعية. كذلك استرشدوا جميعا بدرجات متفاوتة بقراءة ثانية أو إحياء لأعمال ماركس (الذي كانت هيمنته في أماكن مثل الاتحاد السوفييتي - قبل عام 1989 - تفسر بخفة نسبيا على أنها نابعة من «اشتراكية بيروقراطية» أسيئ تطبيقها)؛ إذ كان معظم المثقفين الفرنسيين الذين أوحوا بنظريات ما بعد الحداثة يتبعون نموذجا ماركسيا بوجه عام.
ومن ثم، اعتمدت مبادئ ما بعد الحداثة اعتمادا هائلا على الفكر الاجتماعي والسياسي والفلسفي، الذي ألقى بذوره في الحركة الطليعية الفنية (لا سيما في الفنون المرئية) وفي أقسام الدراسات الإنسانية في جامعات أوروبا والولايات المتحدة باعتباره «نظرية». وتتميز حقبة ما بعد الحداثة بالهيمنة الاستثنائية لأعمال الأكاديميين على أعمال الفنانين.
إلا أن هذا الفكر لم يتفق مع تعريف «النظرية» حسب قواعد فلسفة العلوم (حيث تختبر النظريات ومن ثم يثبت صحتها أو خطؤها) أو الفلسفة الأنجلو أمريكية التجريبية بوجه عام، بل نزع أكثر إلى كونه نوعا تشككيا من الخطاب يتمركز حول ذاته، ويطوع مفاهيم عامة مستوحاة من الفلسفة التقليدية لتلائم أعمالا أدبية أو اجتماعية أو غيرها من الأعمال التي دمغت نتيجة ذلك بطابع ما بعد حداثي.
مشاكل في الترجمة؟
من ثم، انصب تركيز الكثير من المناصرين الأكاديميين لنظرية ما بعد الحداثة في إنجلترا والولايات المتحدة على ترجمة المعاني الداخلية للفكر الأوروبي؛ مما أدى إلى ظهور عدد من القضايا الثقافية المنزوعة من سياقها على نحو مثير للاهتمام وأسفر عن ابتعاد تام عن الأعراف السابقة. على سبيل المثال، ورثت نظرية ما بعد الحداثة اهتماما بوظائف اللغة من النظرية البنيوية، لكن عندما بدأ جاك دريدا يهتم بمشكلة الإشارة (عندما تشير اللغة إلى واقع غير لغوي خارجي)، رجع إلى أعمال عالم اللغويات فرديناند دو سوسر. خاض دريدا (في كتابه الذي يحمل عنوان «عن علم الكتابة») صراعا مع أفكار دو سوسر غير مدرك على ما يبدو لحقيقة أن الكثير من المشكلات التي أثارت اهتمامه - والموقف (المتزعزع للغاية) الذي توصل إليه - قد تناولها الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين تناولا أفضل بمراحل، وحللها تحليلا أدق في رأي العديد من أعضاء المجتمع الفلسفي (حتى في فرنسا). لكن دريدا لا يذكر فيتجنشتاين في أعماله المبكرة؛ ومن ثم عانى الكثير من منظري الأدب التابعين لمنهج دريدا من جهل خطير بتاريخ المشاكل الفلسفية، ولم يدركوا بعضا من حلولها النموذجية التي يطرحها الاتجاه الفلسفي الأنجلو أمريكي. وقد أدى هذا إلى انقسام فكري، وعدم فهم مشترك، وانشقاقات في كثير من أقسام الجامعات ما زالت قائمة حتى اليوم.
اعتمد بعد الحداثيين - الذين أبدوا حماسا مبررا للمذاهب السياسية والأخلاقية «المحررة» - في الوقت نفسه اعتمادا بالغا على الهيبة الاستثنائية لأولئك المثقفين الجدد الجهابذة، ممن تمتعوا بتأثير دعمه إلى حد كبير اعتمادهم المفرط على لغة اصطلاحية مستحدثة أضفت على مناقشاتهم صبغة هائلة من الصعوبة والعمق، وسببت صعوبات جمة لمفسري نظرياتهم. وهو ما يتضح في كلمات الفيلسوف الأمريكي جون سيرل:
وصف لي ميشيل فوكو أسلوب دريدا في إحدى المرات بأنه يتسم ب «غموض إرهابي»؛ فالنص مكتوب بأسلوب شديد الغموض إلى حد يجعلك عاجزا عن تحديد الموضوع بالضبط (لذا وصف ب «الغموض»)، وعندما تنتقد ذلك، يجيبك دريدا قائلا: «لقد أخطأت فهمي، أنت أحمق» (لذا وصف ب «الإرهابي»).
مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس»، عدد 27 أكتوبر 1983
إن أساليب الحديث والكتابة التي تتسم غالبا بالغموض - بل والإبهام - لدى أولئك المثقفين، كانت في بعض الأحيان تهدف كذلك إلى التعبير عن تحد لذلك الوضوح «الديكارتي» في عرض الموضوعات الذي زعموا نشأته من اتكال مشبوه على قناعات «برجوازية» تتعلق بنظام العالم. يناقش رولان بارت الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر قائلا:
لقد وجد بالتأكيد أسلوب عالمي محدد من الكتابة، ساد بين رجال النخبة الأوروبيين ممن تمتعوا بنفس نمط الحياة الموسر، لكن هذه الميزة التواصلية العظيمة القيمة للغة الفرنسية اقتصرت على أعضاء تلك الطبقة ليس إلا، فلم تمتد قط خارجها؛ أي لم تصل مطلقا إلى قلب الجماهير.
رولان بارت، «الأعمال الكاملة»، المجلد الأول (1942-1965)
فضل ما بعد الحداثيين تلاعبا بألفاظ ذات إيحاءات على منطق بطيء التطور ومشبوه سياسيا؛ مما أسفر عن نشأة نظرية أدبية أكثر منها فلسفية، نادرا ما توصلت إلى استنتاجات واضحة أو قابلة للاختبار في إطار تجريبي، لا لشيء إلا لصعوبة التأكد من معناها. أدى ذلك إلى تحمل أتباع أساتذة هذه النظرية لعبء مقبول من جانبهم؛ ألا وهو تقديم الترجمة التفسيرية للنظرية والدفاع عنها؛ إذ كتب الأساتذة الفرنسيون بأسلوب طليعي راسخ يعادي الوضوح المميز لتراثهم القومي. وقد كانت آلاف الأصداء والاقتباسات - والتفسيرات الخاطئة المتوقعة - المستقاة من كتاباتهم الغامضة هي ما شكلت العقلية الجمعية المدعية والمشوشة غالبا لدى أنصار ما بعد الحداثة.
نقدم هنا مثالا على جملة تتجاوز بمراحل مفهوم اللانموذجية، وقد فازت بالمركز الثاني في مسابقة الكتابة الرديئة التي أعلنت عنها مجلة «فيلوسفي آند ليترتشر» العلمية. ربما تتضح الجملة للقارئ مع نهاية هذا الكتاب وربما لا، وهي مقتبسة من كتاب هومي بابا «موقع الثقافة» (1994) الذي كثيرا ما يشار إليه:
إذا كان من الممكن - لفترة زمنية قصيرة - إحصاء حيل الرغبة لأغراض تتعلق بالانضباط، فسرعان ما قد ينظر إلى تكرار الذنب، والتبرير، والنظريات العلمية الزائفة، والخرافة، والسلطات غير الشرعية والتصنيف الكاذب؛ على أنه جهد يائس من أجل الوصول عادة إلى «تطبيع» الاضطراب الكائن في خطاب الانشقاق الذي ينتهك المزاعم التنويرية العقلانية المرتبطة بصياغته الواضحة.
لذا، نلاحظ تناقضا وتوترا قويا بين ما بعد الحداثة المستقاة من المثقفين الفرنسيين، وبين الفكر الفلسفي الليبرالي الأنجلو أمريكي السائد في هذه الحقبة؛ إذ يتسم الاتجاه الأخير بتشككه البالغ - في إطار ما بعد أورويلي - في اللغة الاصطلاحية، والتركيب الفخم، و«الأيديولوجية» المستقاة من الفكر الماركسي. وفي فترة الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، كان هذا الاتجاه شديد التمسك بمناهج مختلفة للغاية، ولا سيما بفكرة أن على الفلسفة استخدام «لغة عادية» يفهمها الجميع، وأن تهدف إلى تقديم أعلى درجة من الوضوح حتى إن كانت متخصصة. وهكذا استخدمت الأعمال الفلسفية النموذجية المكتوبة بالإنجليزية - بدءا من «مفهوم العقل» (1949) لجيلبرت رايل، وانتهاء ب «نظرية العدالة» (1971) لجون راولز - تلك المناهج التماسا لمنهج توافقي وتعاوني في الأساس، وطلبا لمزيد من التوضيح والتصحيح التدريجي من قبل جموع المشتغلين بالفلسفة (التي قد تستجيب لها السلطة الأصلية جيدا بالتأكيد، كما فعل راولز في كتابه اللاحق «الليبرالية السياسية»، 1993). تأثر ذلك الاتجاه الفكري في هذا المجال تأثرا كبيرا بنموذج التعاون العلمي مثلما تأثر بالمناهج السقراطية. لكن أفكار ما بعد الحداثة - على الرغم من انتماءاتها الماركسية وطموحاتها السياسية - لم تعتزم قط التلاؤم مع أي إطار تعاوني وتوافقي من هذا النوع؛ إذ آمن الكثير من أتباع ما بعد الحداثة أن هذا المنهج سيؤدي ببساطة إلى إعادة إنتاج رؤية برجوازية للعالم، وبأنه يهدف إلى تحقيق قبول عالمي غير مبرر. إن ما بعد الحداثة الفرنسية تبدو من ناحية الوريث الشرعي للحركة السريالية التي حاولت كذلك تعطيل الطرق «الطبيعية» المفترضة لرؤية الأشياء.
في رأي الكثير من أتباع ما بعد الحداثة، يكمن الخطر - والهدف كذلك - من دمج حوارات فلسفية ونظرية في ثنايا لغة أدبية منمقة في أن يصبح النص بهذه الطريقة مفتوحا لشتى صور التفسيرات. يوجد - كما سنرى لاحقا - لاعقلانية متوغلة في قلب ما بعد الحداثة - نوع من فقدان الأمل في وظائف المنطق العامة المستقاة من عصر التنوير - لا نجدها في أي من المناهج الفكرية الأخرى في أواخر القرن العشرين (على سبيل المثال، فيما يتعلق بتأثير علم الإدراك على اللغويات أو استخدام النماذج الداروينية لتفسير التطور العقلي). غالبا ما يروج الناشرون الكتب التي تحمل آراء ما بعد حداثية، لا على أساس ما تطرحه من فرضيات أو نقاشات محفزة، بل بسبب «استخدامها للنظرية»، وبسبب «آرائها المستبصرة»، و«مداخلاتها»، والأسئلة التي «تعالجها» (لا الإجابات التي تقدمها).
فيما يلي نعرض بعض الفروق العامة بين فلسفة وأخلاقيات ما بعد الحداثة وما تتضمنه من جماليات وتطبيقات لعلم الاجتماع السياسي. تختلف مقاييس الانتماء لما بعد الحداثة اختلافا كبيرا في المجالات الثلاثة كافة؛ إذ إن مصطلح «ما بعد حداثي» في حد ذاته يجذب الانتباه إلى حقبة تاريخية وتضمينات أيديولوجية في آن واحد. إن زعم كون أي عمل فني أو عقلية مفكر أو ممارسة اجتماعية تجسد مبادئ ما بعد الحداثة، أو تشخص بدقة «الحالة الاجتماعية للمذهب ما بعد الحداثي»؛ ستعتمد إذن على المعايير المتنوعة للغاية التي تسيطر على أذهان معظم المعلقين على هذا الموضوع، وأنا منهم. إلا أنني آمل أن أقدم فيما يلي رؤية عامة توافقية لما بعد الحداثة.
سوف أقدم الأفكار الأهم من بين مجموعة الأفكار الضخمة المرتبطة بالموضوع، لكني لن أستطيع - في المساحة المتاحة لي - أن أبدي عناية كبيرة بالاختلافات المثيرة للاهتمام بينها. وسأركز على ما يبدو لي معبرا عن أطول أفكار ما بعد الحداثة عمرا وأكثرها قابلية للتطبيق، لا سيما تلك التي قد تساعدنا في تمييز الفن المبتكر والممارسات الثقافية السائدة منذ منتصف الستينيات واستيعابها.
علينا توقع اعتبار الكثير من أفكار ما بعد الحداثة مؤثرة ومثيرة للغاية، وتحتل مكانة رئيسية في بعض الأعمال الفنية التجريبية الجيدة، لكنها في أفضل حالاتها مشوشة وفي أسوأها غير صادقة؛ وهو أمر عادي؛ إذ إن الأفكار الرئيسية الرائدة في العديد من العصور الثقافية عرضة لهذا النقد نفسه. فما إن تكتشف تلك الأفكار حتى يعاد تفسيرها (مثل فكرة الخيال في الحركة الرومانسية)، أو تئول إلى الزوال (مثل فكرة التنويم المغناطيسي في الطب). نجد هذه السمة في جميع الحركات الفكرية المتطرفة، ومن بينها ما بعد الحداثة. لا أحد الآن يلتزم تماما بالرؤية الرومانسية للخيال، مع أن وظائف الخيال لا تزال أحد الموضوعات المحورية والدائمة، كذلك يختلف التنويم المغناطيسي في القرن الثامن عشر اختلافا كبيرا عن الشكل الذي صار عليه في القرن العشرين. بوجه عام، أدت نشأة الأفكار المتطرفة (وكذلك الأحزاب السياسية المتطرفة) في القرن العشرين إلى حالة تحرر من الوهم تلتها عملية تعديل، وهو ما يبدو بالفعل المصير الذي واجهته ما بعد الحداثة، في الفترة من ستينيات إلى تسعينيات القرن العشرين. وفي النهاية، فقد استمرت زمنا يعادل فترة الحداثة العليا في الحقبة السابقة على الحرب، التي تعتبر ما بعد الحداثة - في أعين مناصريها - بديلها التقدمي على المستوى السياسي، بينما يرى معارضوها أنها نزعها الأخير.
الفصل الثاني
طرق جديدة لرؤية العالم
مقاومة الادعاءات الكبرى
يعتمد جزء كبير من نظرية ما بعد الحداثة على الالتزام بموقف متشكك، وتلعب مساهمة الفيلسوف جان فرنسوا ليوتار في هذا الإطار دورا محوريا؛ إذ زعم في كتابه «حالة ما بعد الحداثة» (الذي نشر بالفرنسية عام 1979، وبالإنجليزية عام 1984) أننا نعيش الآن في حقبة تمر فيها «النصوص السردية الرئيسية» المشرعة بأزمة وتشهد تراجعا. تضم الفلسفات الكبرى، مثل الكانطية والهيجلية والماركسية، تلك النصوص السردية أو تشير إليها ضمنا؛ إذ تزعم هذه الفلسفات أن التاريخ تقدمي، وأن المعرفة ستحررنا، وأن وحدة خفية تجمع بين جميع أشكال المعرفة. يهاجم ليوتار سرديتين رئيسيتين : السردية التي تدفع بالتحرر التدريجي للبشرية - بدءا من الخلاص المسيحي إلى اليوتوبيا الماركسية - والسردية التي تتناول انتصار العلم. يرى ليوتار أن تلك المعتقدات قد «فقدت مصداقيتها» منذ الحرب العالمية الثانية: «باختصار شديد، أعرف «ما بعد الحداثة» باعتبارها تشككا موجها إلى الادعاءات الكبرى.»
تهدف تلك الادعاءات الكبرى عادة إلى إضفاء شكل من الشرعية أو السلطة على الممارسات الثقافية. (ومن ثم، فإن إضفاء الشرعية على النظريات الفرويدية أو الماركسية ينبع من زعمها - الذي لم يعد مقبولا على نطاق واسع حاليا - أنها قائمة على مبادئ أو ادعاءات علمية كبرى.) مثال آخر على هذا هو التاريخ المدرسي الذي يروي قصة كتابة «دستور الولايات المتحدة» وإجراءات سن القوانين اللاحقة على أيدي الآباء المؤسسين. إن هذه الحكاية التاريخية الكبرى، بما تحتويه من «مبادئ مؤسسة» دستورية، ما زالت إلى حد كبير مصدر قلق مستمر في الخلافات الدائرة حاليا في الولايات المتحدة حول حدود حرية التعبير، والحق في الإجهاض، وحق المواطنين الأمريكيين العاديين في حمل السلاح. ومثال بسيط آخر على الادعاءات الكبرى هو الإيمان الماركسي بالدور المميز والحتمي للطبقة العاملة (البروليتاريا) - عند تحالفها مع الحزب - في إشعال الثورة ثم في تأسيس المدينة الفاضلة التي من المفترض أن تعقب ذلك، عندما «تتلاشى الدولة». منذ عام 1945، طورت حكومات الكثير من الأراضي المستعمرة سابقا على نحو مماثل ادعاءات سياسية طامحة إلى الهيمنة حول تاريخ الكفاح القومي. من الصعب تجنب تلك الادعاءات، وستجدها لدى جميع الدول القومية تقريبا.
على الرغم من وجود أسباب ليبرالية ومنطقية تبرر معارضة تلك «الادعاءات الكبرى» (لأنها لا تسمح بأي خلاف حول معناها، وغالبا ما تؤدي إلى قمع شمولي)، فإن مصداقية زعم ليوتار بتراجع الادعاءات الكبرى في أواخر القرن العشرين تعتمد في النهاية على احتكام إلى الحالة الثقافية السائدة لدى أقلية مثقفة. أما الزعم العام «من منظور علم الاجتماع» بتراجع تلك الادعاءات في عصرنا فيبدو واهيا إلى حد كبير - حتى بعد انهيار الماركسية التي ترعاها الدولة في الغرب - بما أن الامتثال إلى معتقدات قومية ودينية شمولية واسعة النطاق يؤدي حاليا إلى كثير من القمع والعنف والحرب في أيرلندا الشمالية وصربيا والشرق الأوسط وغيرها من الأماكن. (لكن ما بعد الحداثيين لا يحظون عادة بمعرفة واسعة بالممارسات السائدة حاليا في العلم والدين.) فمن الواضح لأي من قراء الصحف أن الرجال والنساء ما زالوا إلى حد ما مستعدين لقتل بعضهم البعض باسم الادعاءات الكبرى كل يوم، كما يتضح في الفتوى الصادرة ضد سلمان رشدي على سبيل المثال. في الواقع، إن الدافع وراء الثقة الشديدة التي يبديها ما بعد الحداثيين في تحليلهم العدائي للمجتمعات الأوروبية والأمريكية من حولهم في سبعينيات القرن العشرين قد يرجع بالفعل إلى أن تلك المجتمعات لم تمزقها النزاعات بين أيديولوجيات متناقضة. وربما كان التفكير في المزاعم المتعارضة بين الإسلام واليهودية في الشرق الأوسط، أو بين الماركسية والعملية الديمقراطية في أوروبا الشرقية، يقودهم إلى استنتاجات مختلفة. لكن التشكك حيال الارتباط بالادعاءات الكبرى الذي روج له ليوتار، وتردد صداه لدى دريدا وكثير غيرهما من أتباع ما بعد الحداثة، تمتع بجاذبية كبيرة لدى جيل تربى في الديمقراطيات الغربية؛ إذ تمتع أبناء هذا الجيل بتحرر نسبي من النظام اللاهوتي عبر الوجودية، وتأثروا بالمقاومة ضد الرأسمالية والتحالف العسكري الصناعي عام 1968، وتشككوا في الادعاءات «الاستعمارية» الأمريكية، وأهم من ذلك ربما شعروا بالحاجة إلى الهرب من العبارات الأيديولوجية المانوية المبتذلة ذات التأثير المميت التي سادت خلال الحرب الباردة.
بناء على ذلك، أصبح موقف بعد الحداثيين المبدئي هو التشكك في الادعاءات بوجود أي نوع من التفسير الجامع الشامل. فلم يكن ليوتار هو وحده من رأى أن مهمة المثقفين هي «المقاومة»، حتى إن كانت في وجه «إجماع» «أصبح باليا ومشكوكا في قيمته». استجاب ما بعد الحداثيين إلى هذه الرؤية، مدفوعين جزئيا بسبب جيد؛ ألا وهو التمكن من الانحياز إلى جانب من لا «يتلاءمون» مع الأطر العامة - أي التابعين والمهمشين - ضد من يتمتعون بسلطة نشر الادعاءات الكبرى؛ ومن ثم، كان العديد من مثقفي ما بعد الحداثة يعتبرون أنفسهم روادا ومعارضين شجعانا. وكان هذا مؤشرا على بداية عصر تعددي ؛ حيث إنه - كما سنرى لاحقا - تعتبر نقاشات العلماء والمؤرخين كذلك مجرد ادعاءات شبه مكتملة تتنافس مع جميع الادعاءات الأخرى لحيازة القبول. لا يملك ما بعد الحداثيين رؤية فريدة وموثوقا بها تتناسب مع العالم، ولا توافقا محددا مع الواقع؛ فتلك الأمور لا تزيد عن كونها صورة أخرى من صور الحكايات الخيالية.
بما أن معارضة تلك الادعاءات (ولا سيما الأنواع الشمولية أو الاستبدادية) هي بالطبع قضية ليبرالية تقليدية بمعنى الكلمة، فقد انشغل الكثير من كتابات ما بعد الحداثة البارزة بالتعبير عن هذا النوع من الشك لأغراض ليبرالية في الأساس، كما في أعمال إدوارد سعيد على سبيل المثال، الذي حاول في كتابه «الاستشراق» (1978) توضيح التأثيرات المشوهة الناتجة عن إسقاط ادعاء الإمبريالية الغربية الكبرى على المجتمعات الشرقية؛ إذ كان الإمبريالي يعتبر نفسه ممثلا لنظام عقلاني منظم، سلمي، ملتزم بالقانون، بينما يعرف الشرقيين باعتبارهم نقيض هذا (كما يتضح، على سبيل المثال، في «حالة الاضطراب» التي يكتشفها فورستر في روايته «ممر إلى الهند»)، ويثق بأن تمثيله «لهم» - أي نصه السردي عن «الاستشراق» - سيسود؛ ومن ثم، فرضت الرؤية الإمبريالية الرئيسية حول التطور التدريجي على ممارسة شرقية محلية - بل «منحرفة» - ليس إلا. في هذا الإطار يسير سعيد على خطى فوكو، ومذهب اليوهيمرية لدى الإغريق ولدى نيتشه، في الاعتقاد بأن تلك الادعاءات السياسية الكبرى هي على أحسن تقدير محاولات تتعمد الغموض لإبقاء بعض الفئات الاجتماعية في موقع السلطة وحرمان الآخرين منها. يلاحظ سعيد أنه عندما مارس فلوبير الجنس مع محظية مصرية - تدعى كوتشوك هانم - كتب إلى لويز كوليه قائلا: «المرأة الشرقية ليست سوى آلة، فهي لا تفرق بين رجل وآخر.» ومن خلال تلك الكلمات (وفي رواياته اللاحقة)، قدم فلوبير «نموذجا بالغ التأثير للمرأة الشرقية». لكن داخل نص فلوبير السردي المؤثر، «لا تتحدث (كوتشوك) عن نفسها أبدا، ولا تعبر عن مشاعرها أو وجودها أو تاريخها.» في وسعنا الآن أن نتخيل مدى الاختلاف الأكيد للرواية التي أوردتها للأحداث، لكن إطاري السرد - لدى كل من فلوبير وكوتشوك هانم - على ما يبدو غير متكافئين حضاريا، ومن هنا ينبع استنتاج ما بعد حداثي نموذجي يدفع باستحالة إيجاد الحقيقة الشاملة وبأن النسبية هي قدرنا.
التفكيكية
إن الثقة التي عبر بها ما بعد الحداثيين عن تلك المزاعم تأثرت إلى حد هائل بقراءة أعمال جاك دريدا الفلسفية، الذي تعكس كتاباته الغزيرة الشكل الأشد تعقيدا من هذا الموقف «التفكيكي».
يعتمد النقاش المحوري في التفكيكية على مبدأ النسبية؛ أي الرأي القائل بأن الحقيقة في حد ذاتها نسبية؛ إذ تبنى دوما حسب وجهات النظر المختلفة والنظم الفكرية المعدة للشخص الذي يبدي رأيه. من الصعب إذن الزعم بأن التفكيكيين يلتزمون بأي شيء في وضوح الأطروحات الفلسفية. في الواقع، إن محاولة تعريف التفكيكية تتحدى أحد مبادئها الرئيسية؛ وهي إنكار إمكانية الوصول إلى تعريفات حقيقية أو نهائية؛ لأنه حتى أكثر التعريفات المرشحة معقولية سوف تستدعي دوما تلاعبا تعريفيا إضافيا باللغة. يرى أتباع المدرسة التفكيكية أن علاقة اللغة بالواقع هي علاقة مجهولة ولا يعتمد عليها، بما أن جميع الأنظمة اللغوية ليست إلا بنى ثقافية لا يعول عليها بطبيعتها.
رغم ذلك التزم دريدا وأتباعه على ما يبدو برأي تاريخي واضح نسبيا؛ وهو أن الفلسفة والأدب في التراث الغربي قد افترضا كذبا لفترة أطول من اللازم أن العلاقة بين اللغة والعالم كانت - على عكس زعم التفكيكين - علاقة راسخة ويعتمد عليها (بل علاقة يكفلها الإله في بعض الأديان أيضا). إن تلك الثقة الزائفة «المتمركزة حول العقل» في اللغة باعتبارها مرآة الطبيعة تنبع من توهم أن معنى أي كلمة يستمد جذوره من بنية الواقع ذاته؛ ومن ثم يؤدي إلى مثول حقيقة تلك البنية مباشرة في الذهن، ويصب هذا كله في «حضور ميتافيزيقي» زائف. ذلك هو ادعاء دريدا الكبير، الذي افترض على ما يبدو افتراضا خاطئا تماما يقضي بأن التراث الفلسفي الميتافيزيقي الغربي يخلو من أي تساؤل حول توافق اللغة مع العالم، رغم أن الفلسفة الاسمية طالما كانت على طرف النقيض من الفلسفة الجوهرية. (في الواقع، حاول فيتجنشتاين - محاولة معروفة - إيجاد علاقة ثابتة تماما وجديرة بالثقة بين اللغة والعالم في كتابه «الأطروحة الفلسفية المنطقية» (1922)، ثم تبرأ تماما من موقف الكتاب لصالح نظرية تتمحور حول ألاعيب لغوية قريبة نسبيا مما عرضناه، وذلك في كتابه «تحقيقات فلسفية» الذي نشر بعد موته عام 1953.)
رغم ذلك، حظيت شكوكية دريدا بجاذبية سياسية كبيرة، باعتبارها وصفا متمردا لثقافة أصبحت تعتمد أكثر فأكثر على تلك الادعاءات الزاعمة بوجود «توافق جيد» في العلم وفي التكنولوجيا الرأسمالية السائدة بلا منازع، التي من المفترض أن تتدفق من العلم وتبرره. وقد أتاحت لأتباعه مهاجمة من يؤمنون بأن الفلسفة أو العلم أو الرواية تقدم بالفعل تصويرا دقيقا للعالم، أو أن السرد التاريخي قد يتسم بالدقة.
اتهم أتباع دريدا أهل الأدب على وجه الخصوص بالثقة الساذجة فيما يطلق عليه لدواعي المفارقة «النصوص الواقعية الكلاسيكية»؛ فأولئك الأشخاص فشلوا ببساطة في إدراك طبيعة اللغة التي استقوا منها ثقتهم الزائفة.
على سبيل المثال، عند قراءة رواية جورج إليوت «ميدل مارش» (1882)، قد يتشكل لدينا اعتقاد وهمي (لم يخطر على بال جورج إليوت في الواقع) بأن الكاتبة تفتح لنا ببساطة نافذة على الواقع، وأن الخطاب الذي تستخدمه صالح تماما لوصف العالم الحقيقي. إن اعتمادنا على سرد إليوت ولغتها يضعنا في موقع مهيمن بل في موقع الإله، ولا سيما إذا اعتمدنا على التعميمات التي تطرحها؛ ومن ثم، نظن أننا نعرف الحقيقة عن دوروثيا بروك، بينما ما نعرفه حقا هو وصف إليوت لها. وعلى أي حال، ماذا سيحدث عندما نصادف مجازا لغويا؟ هل نعتبره «حقيقيا» أيضا؟ على سبيل المثال، عندما شعرت دوروثيا بالحيرة والضيق من خيبة أملها في زوجها كازابون، رأت أن حياتها: «قد أصبحت على ما يبدو مسرحية تنكرية حيث يرتدي الممثلون أزياء غامضة.» إن هذا المجاز اللغوي أو الاستعارة - بصرف النظر عن مشاكل تفسيرها - لن تصلح إلا في ثقافة لديها القدرة على إدراك ماهية المسرحيات التنكرية ووظائفها بطريقة معينة. إن وصف دوروثيا يصلح فحسب ضمن سياق الخطاب المدرك لماهية المسرحيات التنكرية والسائد ضمن مجموعة معينة من الناس؛ ومن ثم يرتبط به.
إذن يرغب أتباع مدرسة ما بعد الحداثة التفكيكية في إبراز الانحراف الذي سيصيب علاقة كانت محل ثقة سابقا، مثل العلاقة بين اللغة والعالم. وكأنهم يقولون: «إنها ليست سوى استعارة مضللة تضليلا منهجيا عن مسرحية تنكرية.» رغم ذلك، من الواضح منطقيا أننا لن نستطيع توضيح «الانحراف» الدائم الذي يصيب اللغة دون أن تكون لدينا «في الوقت نفسه» ثقة خفية ومتناقضة في اللغة؛ إذ كيف يمكننا - من دون مفهوم يقيني إلى حد ما عن الحقيقة - إظهار كون تعبير لغوي معين قد «انحرف» أو سقط في فخ التناقض؟ إنه لغز تعجيزي لأعداء التفكيكية، ومعضلة طويلة الأمد لدى من يعتنقون مبادئها.
لماذا إذن يرغب التفكيكيون في التشكيك في اعتمادنا على أدباء مثل إليوت، وفي جزء كبير من التراث الفلسفي السابق كذلك؟
أنظمة الرموز
أصر أتباع دريدا على أن جميع الكلمات لا بد أن تفسر فقط من منظور علاقتها بالأنظمة السابقة التي تشارك فيها؛ ومن ثم، أصبحنا جميعا على أفضل وجه خاضعين لمبدأ النسبية، وأسرى لأنظمة مفاهيمية (غير قابلة للقياس). لا يسعنا سوى «معرفة» ما سمحوا «هم» لنا بمعرفته. وأيا كان ما نقوله، فنحن أسرى نظام لغوي لا علاقة له بالواقع الخارجي على النحو الذي نتوقعه؛ لأن كل مصطلح ضمن كل نظام يشير كذلك إلى وجود (أو «أثر» على حد قول دريدا) مصطلحات أخرى غائبة ضمن النظام أو يعتمد على وجود تلك المصطلحات أو «أثرها». على سبيل المثال، تضم اللغة الإنجليزية مجموعة من الكلمات تعبر عن درجات من الغضب، بدءا من كلمة «منزعج» وانتهاء ب «يستشيط غضبا». ولدى اللغة الفرنسية مجموعة كلمات مختلفة خاصة بها للتعبير عن هذا الشعور البشري. تعتمد جميع الكلمات داخل كل مجموعة لغوية بعضها على بعض من أجل تقسيم نطاق «الغضب» لخدمة الناطقين بتلك اللغات. لكن كلا النظامين - الإنجليزي أو الفرنسي - على الرغم من اختلافهما الواضح لن يستطيعا بضمير مستريح زعم أنهما قدما في النهاية الرمز الذي يعبر عن «حقيقة» حالات الغضب في العالم. ولا يسع إليوت أن تزعم نجاحها في التعبير رمزيا في النهاية عن حقيقة خيبة أمل دوروثيا. وهكذا، يرى أتباع دريدا أن اللغة تقتصر على تحديد الاختلافات الجلية بين المفاهيم؛ أي إنها تكتفي في الواقع ب «إرجاء» - أو تنحية - شركائها داخل النظام لبعض الوقت؛ وعليه، تحدد مفاهيمنا - في رأي أتباع دريدا - «اختلافا وإرجاء» (ديفرانس)؛ أي ترجئ المعنى مثلما توضح اختلافه (يتلاعب المصطلح الفرنسي الجديد الذي ابتكره دريدا (ديفرانس) بالكلمتين «اختلاف» و«إرجاء»)؛ فالمعني ينسل إلى الأبد من كلمة إلى أخرى داخل التسلسل اللغوي.
ينطلق دريدا من هذا الشكل المهيب من أشكال النسبية المفاهيمية كي يقترح مناهج تصلح لنقد جميع النظم المفاهيمية حالما ننظر إليها بهذه الطريقة، مقدما مساهمة رئيسية في الاتجاه ما بعد الحداثي لا تعتمد إلى حد كبير على «دقة» موقفه الفلسفي أو خصائصه الفلسفية الأخرى؛ فهو يعتبر أن جميع الأنظمة المفاهيمية عرضة ل «تكوين هرمي» زائف ومشوه. ولا يقتصر الأمر على كون معرفتنا بالعالم ليست على نفس الدرجة من المباشرة كما يروق لنا أن نعتقد - فهي محملة بالمجازات وتتناسب كليا مع نطاق أنظمتنا المفاهيمية ومداها - بل إننا جميعا نضع ثقة مفرطة في أساليب عمل التصنيفات المركزية داخل تلك الأنظمة كي تنظم تجربتنا في الحياة. على سبيل المثال، تعتمد جورج إليوت بوضوح في الفقرة التي أشرت إليها على الفرق الواضح بين «المظهر» و«الحقيقة»، وبين الحالة التي يتصرف فيها الناس «على طبيعتهم» وتلك التي «يؤدون فيها دورا» ليس إلا (كما في المسرحية التنكرية أو في حالة ارتداء زي تنكري).
نحن نميل إلى «أن نفضل» أو أن نعتمد على ما يطلق عليه دريدا «دلالات متسامية» خاصة، مثل «الإله»، و«الواقع»، و«فكرة الإنسان» كي ننظم خطابنا. إن المتضادات المفاهيمية التي نميل إلى استخدامها كي تؤدي هذا الدور التنظيمي - مثل الحديث مقابل الكتابة، الروح مقابل الجسد، المعنى الحرفي مقابل المعنى المجازي، الطبيعي مقابل الثقافي، الذكورة مقابل الأنوثة - تدفعنا إلى فهم العديد من العلاقات الأساسية فهما خاطئا، أو على الأقل فهما راسخا متصلبا أكثر من اللازم. نحن نميل على وجه التحديد إلى وضع أحد تلك المصطلحات في مرتبة أعلى من الآخر؛ فمثلا ينظر إلى «المرأة» على أنها أدنى منزلة من «الرجل» (و«الشرق» أدنى منزلة من «الغرب»)، لكن إذا تبنينا إطارا مفاهيميا أكثر نسبية، فسندرك أن هذه المصطلحات تعتمد «حقا» بعضها على بعض في تعريفها. بالتأكيد، كان لدى أتباع دريدا هوس فرويدي تام بفكرة أن المتناقضات الظاهرة يحتاج في الحقيقة بعضها إلى بعض، ودائما ما يشير كل منها ضمنا إلى الآخر؛ فالمرء لا يرى نفسه عقلانيا، وإمبرياليا يسعى إلى تحقيق العدل (مثل شخصية روني فيلدنج في رواية فورستر) «إذا» لم يكن الآخر في الوقت نفسه يرى إنسانا شرقيا مضطربا، مراوغا، وماكرا (مثل شخصية عزيز). إن الجانب التحرري والإبداعي في هذا النوع من تفكيك المتضادات يعمل على النحو التالي: عندما ننظر إلى أنظمة معينة كهذه الأنظمة - التي تدعي تقديم وصف دقيق للعالم - سيصبح في وسعنا إدراك أن المفاهيم التي «يميزها» النظام أو يجعلها محورية، والتدرجات الهرمية التي يستخدمها لترتيبها، أبعد ما تكون عن النسق «الصحيح» القاطع، وتتمتع باستقلال أكبر بمراحل مما كنا نعتقد.
في الواقع، يرى أتباع دريدا أن الكشف عن الاعتماد المتبادل الخفي لدى تلك الأنظمة سيؤدي إلى «تفكيكها»؛ إذ يمكن هدمها أو عكسها - لتعطي معنى متناقضا في أغلب الأحيان - وهكذا تصبح الحقيقة «في الواقع» نوعا من الوهم، وتصبح القراءة دائما شكلا من أشكال إساءة القراءة، وأهم من ذلك يصبح الفهم في جميع الأحوال نوعا من سوء الفهم؛ لأنه فهم غير مباشر دوما، وسيظل أبدا شكلا من أشكال التفسير الجزئي، غالبا ما يستخدم المعنى المجازي بينما يظن أنه يستخدم المعنى الحرفي. إن هذا الاستخدام الرئيسي للتفكيكية بهدف هدم ثقتنا في الأفكار المبتذلة السياسية والأخلاقية والمنطقية هو الأكثر ثورية وتمييزا لما بعد الحداثة.
يدفع هذا الزعم النسبي أننا حالما نرى أنظمتنا المفاهيمية بهذه الطريقة، سندرك أيضا أن العالم وأنظمته الاجتماعية وهويته الإنسانية ليست عطايا مهداة، تضمنها بطريقة ما لغة تتوافق مع الواقع، لكنها مفاهيم نخلقها «نحن» في اللغة، على نحو لا يمكن تبريره أبدا عبر الزعم بأن تلك هي «حقيقة» الأمور. فنحن لا نعيش داخل الواقع بل داخل تصوراتنا له (وهو ما يلخصه أتباع دريدا في الملحوظة الجانبية المشهورة التالية: «لا يوجد شيء خارج النص» باستثناء المزيد من النصوص التي نستخدمها في محاولة وصف أو تحليل ما تدعي النصوص الإشارة إليه).
نستمد من هذا كله الثقة اللازمة للتحرر من الامتثال لأي نظام «معطى»، وكي نؤمن بأن طريقة رؤيتنا للعالم لا يمكن تغييرها فحسب بل يجب تغييرها. قد يصل التفكيكيون والليبراليون والماركسيون إلى شكل من أشكال التحالف ها هنا، فيما يتعلق بإنكار استطاعة أي أيديولوجية مهيمنة أو لغة إمبريالية، تعميمية، كانطية، ما بعد تنويرية؛ وصف حقيقة الأشياء حقا.
التلاعب بالنص
حققت التفكيكية (ولا سيما كما مارسها النقاد الأدبيون) تأثيرها الثقافي الأقوى عندما رفضت أن تسمح لنشاط فكري أو نص أدبي أو تفسير لهذا النص بالخضوع للتنظيم عبر أي تسلسل هرمي تقليدي من المفاهيم، ولا سيما تلك التي قدمنا نماذج لها أعلاه. تمكنت التفكيكية من خلال اضطلاعها بتلك المهام من الإخلال بتنظيم النص، والطعن في صحة ما اعتبره البعض مجرد تحديدات «اعتباطية» لمعناه؛ لأن مفهوم «الاختلاف والإرجاء» - أو الاعتماد شبه الخفي لمفهوم ما على بقية المفاهيم المرتبطة به - هو مفهوم غير محدود. وهكذا يمكننا التجول عبر صفحات القاموس، سالكين المسارات المتفرعة من كلمة واحدة. إن فكرة المجال اللغوي المتداخل تداخلا حيويا وغير المحدود على الأرجح ساعدت في تكوين تحالف بين النظرية التفكيكية والاتجاهات التجريبية لدى الكثير من كتاب ما بعد الحداثة الطليعيين؛ إذ تأثر «الروائيون الجدد» في فرنسا وعدد من الكتاب التجريبيين الأمريكيين - أمثال والتر أبيش، ودونالد بارثلماي، وروبرت كوفر، وراي فيديرمان - بتلك الأفكار؛ ومن ثم، أصبحت اللغة وتقاليد النصوص (والصور والموسيقى) أمورا يمكن التلاعب بها؛ إذ لم يلتزم أولئك الكتاب بمناقشات أو أساليب سردية محدودة، فهم ليسوا سوى «ناشرين» للمعنى.
أعرف يا شباب ما الذي ستقولونه لاحقا. ماذا عن التمثيل؟ حقا ماذا عنه؟ التمثيل الدقيق والسليم للواقع! إلصاق الكلمات بالأشياء! إلصاق المعنى بالكلمات! (عبر/تعبير/معبر)، الاستخدام الدقيق لعلم الكتابة من أجل التفرقة بين التحدث والكتابة وبين الصياح والتمتمة!
نعم، أعرف رأيكم في الكتابة وأن هذا السؤال بالنسبة إليكم هو سؤال مهم (محوري)، لكننا قد ناقشنا ذلك كله من قبل وناقشنا أسلوبي على نحو ما (بل على النحو المنطقي إذا كان ذلك يرضيكم). أنا لا أبالي البتة ب «نظام الأشياء» لأني لا أحكي، لا أسرد، لا أتلو بترتيب كي أخلق نظاما، بل العكس!
على العكس، ما أفعله يتعلق بمشكلة القراءة أو الاستماع، ولا يتعلق بالكتابة! أنا أتحدث إلى الحواس ولا أحاول أن يبدو كلامي منطقيا بأي شكل من الأشكال. إن مجالي هو الهراء، مجالي هو ما فوق القص! بعبارة أخرى أنا أشق طريقي نحو استحالة القراءة، نحو القراءة الحرة، نحو القراءة الهذيانية، بطريقة ما أفضل القراءة بوصفها انتهاكا صارخا للسلام، كأن يقبض عليك متلبسا بالجريمة: بالجرم المشهود! أنا لا أضيع وقتي في التفاهات!
لكن حسنا، سأتوقف عن هذا الكلام الفارغ (مسافة مفردة، مسافة مزدوجة، مسافة ثلاثية) وجميع هذا اللغو المطبعي. في الحقيقة، الأمر يصيبني بالاشمئزاز بقدر ما يصيبك، لكن في بعض الأحيان يصبح التحدث عن تلك الأشياء (أو حتى الكتابة عنها) أمرا ضروريا، لا لسبب سوى أن نتمكن من تحديد المشكلة بدقة.
حسنا، لكن قد يسأل سائل: ماذا سيحدث للغة؟
ماذا سيحدث للمعنى؟
سؤال جيد! (مقطع مقتبس من رواية راي فيديرمان «خذه أو اتركه: رواية» (1976). يظهر تلاعب الأدب ما بعد الحداثي بالنظرية في أفضل حالاته عندما يحمل أيضا حسا كوميديا (
Fiction Collective, New York ).)
موت المؤلف
يظل العنصر الأهم هو أن يتصرف القارئ أو المستمع أو المشاهد المشارك في التعبير عن هذا التلاعب اللغوي أو تفسيره بمعزل عن أي من النوايا المفترضة لدى المؤلف. إن الاهتمام بالمؤلف سيؤدي إلى منح امتياز للطرف الخطأ؛ إذ إن اعتبار المؤلف مصدرا لمعنى النص، أو صاحب سلطة تحديد معناه، يضرب مثالا واضحا على التفضيل (المتركز حول العقل) لمجموعة بعينها من المعاني. فلماذا لا تتولد تلك المعاني من القارئ بقدر ما تتولد من المؤلف؟ ومن ثم، لا ينبغي الوثوق في غرض المؤلف (أو غرض التاريخ) بقدر يفوق الوثوق في مذهب الواقعية؛ ومن ثم، نشأ مفهوم جديد للنص باعتباره «تلاعبا حرا بالرموز داخل اللغة». إن هذا الإعلان عن «موت المؤلف» - ولا سيما من جانب بارت وفوكو - يعكس أيضا الميزة السياسية؛ وهي القضاء على المؤلف باعتباره المالك الرأسمالي البرجوازي الذي يسوق معانيه.
أو حسب قول بارت:
نحن ندرك الآن أن النص ليس مجرد سلسلة من الكلمات تعبر عن معنى «لاهوتي» واحد (أي «رسالة المؤلف/الإله») لكنه فضاء متعدد الأبعاد؛ حيث تمتزج مجموعة متنوعة من الكتابات - لا يوجد بينها نص أصلي - وتتصادم ... إن الأدب يتمكن من خلال رفضه تخصيص معنى نهائي «خفي» إلى النص (وإلى العالم باعتباره نصا) من تحرير ما قد يطلق عليه نشاط معاد للاهوتية، وهو نشاط ثوري حقا بما أن رفض تحديد المعنى يعني في النهاية رفض الإله والأقنوم المرتبط به؛ ألا وهو المنطق، والعلم، والقانون.
رولان بارت، «موت المؤلف»، من كتاب «الصورة-الموسيقى-النص»، (1977)
وهكذا تحرر النص - الذي تكون في الحقيقة على يد القارئ - وطبقت عليه قواعد الديمقراطية كي يلهو به الخيال كما يشاء. وأصبحت المعاني ملكية خاصة لمن يفسرها، له مطلق الحرية في التلاعب بها تلاعبا تفكيكيا؛ إذ كان يعتقد أن محاولة تحديد معنى نص أو أي نظام سميوطيقي لأغراض معينة خطأ فلسفي ورجعية سياسية على حد سواء؛ ومن ثم، أصبحت جميع النصوص الآن حرة في الغوص - بصحبة معانيها العامة أو الأدبية أو اللغوية - في بحر «التناص»؛ حيث لم تعد الفروق المقبولة بينها في السابق مهمة إلا فيما ندر، وينبغي النظر إليها إجمالا على أنها أشكال بلاغية متناثرة هزلية (تشبه إلى حد ما محاضرات دريدا نفسه، التي أصبحت عبارة عن حوارات ذاتية طويلة وحرة تفتقد التركيز والنظام). وأصبح ينظر إلى السعي من أجل إيجاد التأكيدات اللفظية على أنه تصرف رجعي في مضامينه، كالحال مع الإجماع الملفق حول النظام السياسي القائم.
المجاز
إن مصداقية هذه النظرة التي ترى النصوص أشكالا من التلاعب البلاغي (القابل للتفكيك) - بصرف النظر عن مدى صدق نيتها - تستمد دعما كبيرا من الأطروحة الموروثة من نيتشه ومن قراءة أعمال أفلاطون، التي تزعم أن ما يبدو حرفيا في ثنايا اللغة (بما فيها الأجزاء الأكثر «واقعية» من روايات جورج إليوت) هو في الحقيقة مجازي. من الممكن قراءة الفلسفة والتاريخ (وهما مجالان لم يعد أي منهما يتميز بكونه خطابا حرفيا أو صادقا) وكأنهما أعمال أدبية والعكس صحيح. لا حاجة لنا بعد الآن إلى الإيمان بما هو حرفي (باعتباره شكلا ما من أشكال اللغة يشير إلى الواقع على نحو لا التباس فيه)؛ لأن كل ما يمكن اعتباره حرفيا قد يتضح كونه مجازيا عند تحليله بدقة أكبر.
لاقت هذه النظرة إلى اللغة بوجه عام قبولا متناميا لدى الكثير من علماء اللغويات، لا سيما تحت قيادة جورج لاكوف ومارك جونسون المثيرة للجدل، فهما يقران بتأثير دريدا على رؤيتهما التي تقضي بخضوع اللغة اليومية بأكملها لتنظيم المجاز، حتى إنهما يميلان كذلك إلى الدفع بأن النظرة «الموضوعية» فلسفيا للعالم هي نظرة واهية. حاولت تلك الفرضيات اللغوية إظهار أن عمليات التفكير اليومية لدينا تعتمد في الواقع على أنظمة مفاهيمية متشابكة قائمة على المجازات، التي لا يمكن اختزالها بأي صورة من الصور إلى لغة «أكثر حرفية»؛ ومن ثم من غير المرجح للغاية أن تتوافق توافقا بسيطا أو منهجيا بعضها مع بعض.
كانت الآثار الأخلاقية والسياسية التي ترتبت على هذا النوع من التحليل هي ما أثارت اهتمام بعد الحداثيين بوجه عام؛ فقد أكد التفكيكيون على أن جميع أنظمة التفكير، بمجرد أن نعتبرها مجازية، تؤدي لا محالة إلى تناقضات أو مفارقات أو مآزق أو «حالات ارتباك» حسب تعبير دريدا (وهو مصطلح بلاغي يعني سؤالا ارتيابيا). يرجع ذلك إلى اعتقاد أتباع دريدا أن الخصائص المجازية داخل أي نظام لغوي ستضمن دوما فشل اللغة فعليا في التحكم في الموضوع الذي تدعي توضيحه (أو السيطرة عليه).
جذبت تلك المناقشات عددا ضخما للغاية من النقاد الأدبيين في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين، وحتى الآن؛ إذ إن هذا النوع من التفكيكية يعكس استراتيجية طليعية، متشككة، كاشفة للتناقض، في وسعها تقويض أسس أي نص وهدمه وتعريته، وتجاوزه، و«عكس تأثيره». وعلاوة على ذلك، فإنها تعبر عن تضمينات سياسية مثيرة، بما أنها أظهرت تفوق «رؤية التفكيكيين الثاقبة» التي مكنتهم من إدراك «جهل» النص غير المتعمد بالتناقضات التي يرمز لها. إن تفكيك قصيدة أو نص أو حوار يعني إبراز تشكيكه (فعليا) بشأن الفلسفة التي (يبدو أنه) يؤكد عليها أو المتناقضات الهرمية التي يعتمد عليها صراحة. ويأتي تأثير التفكيكية الأقوى عندما تعكس التناقضات التي كشفت عنها بهذه الطريقة أهمية أخلاقية أو سياسية.
فيما يلي مثال تقريبي على إحدى المعالجات التفكيكية، استنادا إلى جزء من قصيدة كتبها الشاعر تنيسون في شبابه عن:
إيزابيل المبجلة، الملكة المتوجة،
زهرة الشجاعة الأنثوية العظيمة،
الزوجة الكاملة والمرأة الوديعة الصافية.
2
بقرار بديهي يصدر
من عقل بارع حاد الذكاء
تميز الخطأ من الجرم، وتملك حكمة الصمت؛
قوانين الزواج منقوشة بخيوط من ذهب
على صفحة قلبها الأبيض؛
حيث الحب ما زال يشتعل، مانحا الضوء
لقراءة تلك القوانين، بصوت خفيض جدا
تنساب كلماتها الناعمة مثل ضوء القمر الفضي،
وبنبرة هادئة تقدم المشورة وقت المحن،
تتسلل إلى العقل والقلب بخفة، دون لمحها،
وتحقق مرادها برقتها البالغة،
متجاوزة جميع تحصينات الكبرياء المتشكك؛
تملك شجاعة الصمود والطاعة،
تكره لغة النميمة وتكره التسلط،
إيزابيل المتوجة، لقد ظلت طوال حياتها الهادئة،
ملكة الزواج والزوجة كاملة الأوصاف.
إن الهدف من القصيدة هو المدح - باستخدام لغة دينية ممجوجة - لكن الموضوعات التي اختارها تنيسون لتعزيز تلك الاستراتيجيات قد تعتبر مستهجنة ضمن سياقنا التاريخي الحالي. فسيزعم التفكيكيون أن عدم ملاءمة تلك المواضيع لإدراكنا للواقع (أو بالأحرى عدم ملاءمتها مع عرف المجتمع وسياساته) تنبع من حقيقة أنها تعتمد فعليا على الخيال؛ أي على علاقة مضطربة بين الحرفي والمجازي في القصيدة. وإذا نظرنا بدقة إلى القصيدة، فسنجد أنها تكشف في ثناياها عن ارتباك حيال الميزات التي تروج لها؛ ومن ثم، سوف تنهار القصيدة.
إن الهيمنة المستهجنة بشدة، التي يفرضها الرجال على النساء (التي أصبحت مقبولة بالنسبة إلى الرجال على الأقل)، تتخفى تحت الادعاء بأن النساء في مقدروهن حقا «السيطرة» على الرجال، لكن بطرق مقبولة أخلاقيا فقط. تتمتع النساء بالفضيلة، بينما يتمتع الرجال بالقوة. لكن الفضيلة - ولا سيما النوع الغريب المنكر للذات الذي يمتدحه تنيسون - ليست قوة على الإطلاق؛ فهي مسموح بظهورها في سياق مجازي فحسب (لا في سياق واقعي فعلي، مثل الزواج) حيث النساء مغلوبات على أمرهن، ومن هنا يأتي الاقتران غير الملائم بين «الزوجة الكاملة والمرأة الوديعة الصافية». وعلاوة على ذلك، لا تستطيع إيزابيل استخدام ذكائها إلا «بديهيا»، عند التفريق بين الخطأ والجرم (مما يدعم التناقض القديم الذي يزعم أن النساء يعتمدن على الحدس بينما يعتمد الرجال على العقل). أما إذا خذلها حدسها، فإنها تحمل معها «وصايا الزواج» التي تشبه وصايا النبي موسى لتكون بمنزلة مفكرة تذكرها بمهامها، وهي فوق ذلك «منقوشة» على «صفحة قلبها الأبيض» النقية والفارغة. فحتى قلبها أبيض اللون فارغ بلا دماء، إنها بالفعل «صفحة بيضاء» صالحة لإسقاط الخيالات الذكورية. وحتى الحب الذي تشعر به تقتصر مهمته على توليد «الضوء لقراءة تلك القوانين». أما أسلحتها الوحيدة لمواجهة «الحزن»، فهي الدماثة والشجاعة التي تخفف الطاعة من حدتها إلى حد كبير. لا تسعى إيزابيل إلى «التسلط» لكنها في الوقت نفسه أشبه بإلهة؛ إذ لا ضرر من نوع من العبادة لا يتحدى الاختلافات الجنسية تحديا مباشرا. لدواعي المفارقة، تضع قصيدة تنيسون إيزابيل في مرتبة أدنى بينما تكيل لها المديح؛ مما يساهم في تفكيكها.
عندما تزعم التفكيكية أن اللغة قد تؤدي إلى تضليلنا على هذا النحو، وأن «الواقع» لا يمكن أبدا ترويضه تماما أو على نحو مقنع، فإنها ترفض قبول احتمالية وجود أي «واقعية» تدعمها أدلة في النصوص التي تهاجمها. ذلك الهجوم على الواقعية يلعب - دون ريب - دورا محوريا في جميع أشكال النشاط ما بعد الحداثي. لكن عندما ترفض ما بعد الحداثة الاندماج في أي نظام قائم، أو تقديم أي توضيح لواحد من تلك النظم إلا عبر أسلوب مراوغ أو هزلي، فإن عليها كذلك إنكار إمكانية اقتراح نظام خاص بها، دون أن تتنكر لفرضياتها الرئيسية. من هنا، ينبع الاتهام الذي كثيرا ما يوجه إلى أتباع ما بعد الحداثة التفكيكيين، الذي يزعم أنهم مجرد متشككين عاجزين عن اتباع أي التزامات سياسية أو أخلاقية. وغالبا ما يورط التفكيكيون أنفسهم - حسب افتراضاتهم - في حالة دائمة من نكص الصفات؛ إذ تبدو الكثير من الأعمال النقدية التفكيكية الآن (مثل كتاب «الناقوس» لجيوفري هارتمان، وكثير من أعمال بول دو مان وهيليس ميلر) منغمسة داخل ذاتها ومنشغلة بها، ولا تلتزم في النهاية بأي مفاهيم ذات أهمية.
إن تلك الأمثلة الأقوى حجة على التفسير التفكيكي تبرز فعليا وعلى نحو تلقائي هذا النكوص الهزلي الذي يهدف إلى دعم أطروحة لم تتعرض للنقد، على الأقل في الوقت الحالي. لن يستطيع التفكيكيون المخلصون الهرب أبدا من الاتهام الذي يزعم أن عملهم على أحسن تقدير شكل من النقد البراجماتي لمعتقداتنا، وأنه في النهاية لا يخرج عن نفس الاتجاه الفلسفي القديم الذي يلفت الانتباه، لا إلى حقيقة أن المرء إذا ناقض نفسه فإنه لم يقل شيئا ذا معنى (فذلك بالنسبة إلى التفكيكيين زعم مرتبط أكثر من اللازم بمنطق واقعي تقليدي ينطق بالحقيقة)، بل إلى أن المرء إذا ناقض نفسه، فإنه يفتح الباب أمام شتى أنواع سبل الاستقصاء المثيرة للاهتمام. وفي نهاية المطاف - حسب رؤيتهم - سنفعل كلنا حتما نفس الشيء، ورد الفعل الوحيد المحتمل على ذلك هو أن نقوم بحركة أخرى في اللعبة، لا أن نستبعد بجرأة شديدة بعض الحركات باعتبارها غير شرعية ليس إلا. إن التفكيكية التقليدية ليست نظرية قابلة للاختبار أكثر من كونها «مشروعا» مستمرا.
الشكوكية والأيديولوجية
إن التفكيكية - على قدر تعمقها الأكاديمي وانشغالها بذاتها في معظم الأحيان - دعمت توجها عاما نحو المبادئ النسبية في ثقافة ما بعد الحداثة؛ إذ تركت أتباع ما بعد الحداثة غير مهتمين إلى حد كبير بالتأكيد والإثبات التجريبي في العلوم. وغالبا ما اعتبروا ذلك منهجا ملوثا جراء ارتباطه بالتحالف الصناعي العسكري وباستخدام العقلانية التكنولوجية الجامدة من أجل تحقيق السيطرة الاجتماعية ... إلى آخره. ويبدو كذلك أن أتباع ليوتار ودريدا نزعوا إلى الإيمان ب «القصص» بدلا من النظريات القابلة للاختبار. إن أتباع ما بعد الحداثة - بعدما تخلوا عن إيمانهم بكل من الفلسفة والتاريخ والعلم التقليدي («الواقعي») تحت تأثير الفكر الفرنسي - تحولوا أكثر فأكثر إلى واضعي نظريات تفسر آليات العمل (الخادعة) داخل «الثقافة»؛ ومن ثم فإن معظم الأمثلة التي أعرضها هنا على تطبيق الأفكار السياسية والفلسفية لما بعد الحداثة مستقاة من الفنون.
ينظر فكر ما بعد الحداثة إلى الثقافة باعتبارها تضم عددا من القصص المتنافسة على الدوام، التي لا يعتمد تأثيرها على مخاطبتها لمعيار حكم مستقل، بل على مخاطبتها للمجتمعات التي تدور بها، مثل الإشاعات في أيرلندا الشمالية. توضح شيلا بن حبيب أنه من منظور أتباع ليوتار:
انتهى عهد الضمانات الغيبية للحقيقة، فلا مكان لقابلية القياس وسط الصراع الأليم بين ألاعيب اللغة، ولا لمعايير تحدد حقيقة تتجاوز النقاشات المحلية، بل لا يوجد سوى الصراع اللانهائي بين ادعاءات محلية تتنافس فيما بينها على حيازة الشرعية.
شيلا بن حبيب، «تحديد موضع الذات»، (1992)
من ثم، تنغمس ما بعد الحداثة في نظرية معرفية انتقادية إلى حد بعيد، تعادي أي مذهب سياسي أو فلسفي شامل، وتعارض بشدة تلك «الأيديولوجيات المهيمنة» التي تساعد في الحفاظ على الوضع القائم.
رغم ذلك، دمج الكثير من أتباع ما بعد الحداثة أسلوب دريدا النقدي ضمن أيديولوجية هدامة ذات إطار بناء؛ إذ رأوا أن إبراز إخلاص بعض الأفراد غير المتعمد لموقف متناقض (مثل موقف تنيسون) يشبه إلى حد كبير ما انشغل به ماركس وفرويد؛ إذ ادعى ماركس أن العمال يعيشون في حالة من «الوعي الزائف»، فهم يقبلون النظرية البرجوازية التي تزعم أنهم يقدمون جهدهم «طوعا» إلى السوق كأفراد مستقلين، لكنهم في الحقيقة أسرى نظم محددة اقتصاديا تعادي طبقتهم. كان المنظرون الماركسيون في تلك الحقبة يعرفون ذلك يقينا (بعيدا تماما عن مصطلحات فلسفة دريدا) باسم «علاقات القوة الحقيقية». وبالمثل، قد يزعم أتباع المدرسة الفرويدية أن الصراع بين الأنا العليا (التي تلتزم بالمعتقدات المقبولة اجتماعيا) ورغبات اللاوعي السرية أو المكبوتة (حيال التعبير الجنسي على سبيل المثال) سيؤدي حتما إلى تناقضات داخلية، يمكن قراءتها من منظور دريدا. وهكذا، لدواعي المفارقة، ربط العديد من أتباع ما بعد الحداثة أنفسهم بأيديولوجيتين محل جدل شديد وذواتي طبيعة شمولية لا محالة، من القرن التاسع عشر، في خضم تركيزهم على مفهوم التناقض الخفي.
بالطبع، يمكننا إبراز تلك التناقضات الداخلية الهادمة للأيديولوجية دون أن نزعم في الوقت نفسه أن لدينا حلا بديلا وشاملا لمشكلات المجتمع. وفي وسع المرء تحليل المتناقضات كي يشير إلى وجود توتر اجتماعي دون أن يطرح ضمنيا حلا ماركسيا أو فرويديا عاما؛ وذلك عبر دعم الأطروحة التي عرضناها آنفا، التي تزعم أننا حال نظرنا إلى جميع الأنظمة اللغوية سنجدها تحتوي على تناقضات؛ لأنها في الأساس أنظمة مجازية. وكما هو متوقع، أعجب النقاد الأدبيون والثقافيون بهذا الجانب من حركة ما بعد الحداثة أيما إعجاب؛ إذ في وسعهم الانكباب على دراسة أي نوع من المواد، وليس فقط تلك النصوص - ولا سيما القصائد، أو الحقب التاريخية، مثل الحقبة الرومانسية - التي تتجلي تناقضاتها للعيان. وكان من السهل تطبيق الأساليب التفكيكية في الفلسفة على المناهج الهادمة للمجاز والملاحقة للتناقضات في النظرية الأدبية، التي غالبا ما يعطي لها أولئك النقاد أهمية زائفة ومدعاة؛ ففي أعمال دو مان وهيليس ميلير وغيرهما من أتباع دريدا المتمركزين في جامعة ييل، نجد اهتماما كبيرا ومفعما بالحيوية ب «فن الجدال» المحبط للذات في الأعمال الأدبية وغيرها من الأعمال، ولا سيما عبر تحليل مجازاتها الخفية، على النحو الموضح أعلاه؛ ومن ثم، كان ينظر إلى الأعمال الأدبية على أنها تعاني عجزا حتميا نابعا من المعاني الضمنية المتناقضة داخل المجاز؛ مما أسفر عن أهم ما في الموضوع؛ وهو تجريدها من أي علاقة جادة بالتاريخ ومن أي مزاعم مؤكدة حول قضايا الحقيقة التجريبية. وبهذه الطريقة، أدت الفلسفة الكامنة خلف التفكيكية إلى توسع هائل في الاهتمام بالنظرية الأدبية، التي أضحت قضاياها تهيمن على مدارس كاملة في النقد الأدبي.
إن أفضل دفاع تجاه هذا النوع من النقد ، وأفضل طريقة لإبراز كون المرء مطلعا على آخر المستجدات ومنها هذا الاتجاه - سواء عند كتابة الفلسفة أو وضع النظريات، أو الإبداع الفني - هي أن تتمتع بالتأكيد بقدر كبير من الوعي الذاتي فيما يتعلق بموقفك، وأن تجمع المتطلبات المناسبة المرتبطة به. إن هذا «الانعكاس» الواعي بالذات - الذي كان أحد أعراضه اللجوء المتكرر إلى اللغة الاصطلاحية - كان البعض يعتبره الخاصية المميزة للفلسفة في ظل وضع ما بعد الحداثة. وهكذا، نلاحظ في كم كبير من أعمال ما بعد الحداثة نقدا ذاتيا أو نكوصا انعكاسيا مكتوبا بالحرف في ثنايا «النص». وهو ما يتضح في أفلام جودار، التي تعتبر وفقا للمنظر الماركسي فريدريك جيمسون:
أفلاما ما بعد حداثية صميمة، من حيث تصورها لذاتها باعتبارها نصا خالصا، أو عملية إنتاج صور غير ذات محتوى حقيقي، وهي - من هذا المنظور - شكل خارجي محض أو سطحية مجردة. إن هذه القناعة هي التي تفسر الانعكاس المميز لأفلام جودار، وتصميمها على استخدام الصور استخداما معاديا لذاتها كي تدمر الوضع الملزم أو الثابت لأي تصور.
فريدريك جيمسون، كما استشهد به هانز بيرتينز في كتابه «فكرة ما بعد الحداثة»، (1994)
إن هذا الإدراك ما بعد الحداثي ل «العمل الفني كنص» - وإن كان فيلما أو لوحة أو عرض أزياء - يعتبر أي إنتاج ثقافي بارز متصلا بجميع الاستخدامات الأخرى للغة الطبيعية؛ ومن ثم تجنب أي تفضيل «جمالي» للعمل الفني المستقل وتنظيمه المتكامل؛ إذ كان يعتبر ذلك أحد الأخطاء الحداثية النموذجية. وزعم في سياق بديل أن العمل الفني تجمعه صلة بجميع النصوص الأخرى؛ لذا، فرضت تفكيكية ما بعد الحداثة تطابقا جديدا بين الخطاب الفلسفي (وهو مجال اختصاصي للغاية، يعود مرة تلو الأخرى إلى نفس المشكلات، ويقتلع جذور التناقض) وخطاب العمل الفني، وبالتأكيد جميع الخطابات الأخرى داخل المجتمع.
بالنظر إلى القيود القاسية المفروضة على احتمالية بلوغ الوحدة المميزة للحجة المتماسكة، والشك الكبير الذي تصاعد حيال ما يمكن اعتباره اعتمادا خفيا لدى أي عمل أو نص على النصوص السابقة له، أصبح من المعتقد أن أي نص - بدءا من الفلسفة وحتى الصحف - يتضمن تكرارا استحواذيا أو «تناصا». وكما هو الحال في الفلسفة - التي طالما انشغلت منذ عصر أفلاطون بنفس المشكلات القديمة - ستعيد الرواية حتما إنتاج نفس المواقف والأفكار السابقة وأساليب الوصف التقليدية إلى آخره، فليست رواية جويس «يوليسيس» - باعتبارها عملا حداثيا غير مباشر عن قصد - هي الرواية الوحيدة التي استطاعت تحقيق هذا؛ فحسب تعبير إمبرتو إيكو - وهو منظر ما بعد حداثي بارز - في روايته ما بعد الحداثية «اسم الوردة» التي حققت رواجا مذهلا: «تتحدث الكتب دوما عن كتب أخرى، وكل قصة تحكي قصة رويت بالفعل.» تفرغ هذه الرؤية في نهاية المطاف إلى نوع من المثالية النصية؛ لأن جميع النصوص ينظر إليها باعتبارها تشير على الدوام إلى نصوص أخرى، «عوضا عن الإشارة إلى أي واقع خارجي.» ولن يستطيع أي نص في النهاية أن يثبت على الإطلاق أي شيء عن العالم خارجه، ولن يصل أبدا إلى نقطة سكون، بل يكتفي فقط - حسب مصطلح دريدا - بنشر تنويعات مستندة على أفكار أو مفاهيم قائمة بالفعل.
إعادة كتابة التاريخ
كما أكدت سابقا، أسفر هذا الحراك كله عن زج الواقعية بجميع أنواعها في قفص الاتهام؛ فمحاولة تقديم أي شكل من أشكال الواقعية كانت تئول في النهاية إلى خطأ فلسفي؛ ومن ثم تصبح محاولة كتابة التاريخ من وجهة النظر التجريبية أو الوضعية المهيمنة حتى الآن محكوما عليها بالفشل. ومن جديد، يميل فكر ما بعد الحداثة - عبر تحليل كل شيء باعتباره نصا وبلاغة - إلى دفع المجالات الفكرية التي ما زالت مستقلة حتى الآن نحو الأدب، فالتاريخ ليس سوى سرد آخر، لا تتميز تراكيبه النموذجية عن التراكيب الروائية، ويرزح تحت أسر أساطيره ومجازاته وقوالبه النمطية الخاصة غير المحققة (التي غالبا ما تستخدم بلا وعي). أما مصادره - مهما بدت حيادية أو قائمة على أدلة - فليست في النهاية سوى سلسة أخرى مترابطة من النصوص القابلة للتفسير بعدة طرق، وحتى تفسيراته السببية في وسعنا إثبات كونها مستقاة من حبكات خيالية معروفة، تكررها تلك التفسيرات بالتبعية.
إن وجهة النظر هذه حول كتابة التاريخ هي أحد الاختبارات الأساسية التي تواجه فكر ما بعد الحداثة؛ نظرا لتأثيرها على جميع أجزاء ثقافتنا. فإذا فشل التاريخ بدوره - تحت مجهر ما بعد الحداثة - في تجسيد المعايير «الوضعية» أو «الواقعية» المهيمنة في السابق أثناء كتابته؛ فإن الأدب - الأكثر ابتعادا عن التاريخ - لن يستطيع بدوره طرح أي مزاعم واقعية قوية. إن الادعاء ما بعد الحداثي الأساسي هنا يدفع بأن مفهوم إعادة التشكيل «الموضوعي» وفقا للأدلة ليس سوى خرافة؛ إذ لا يستطيع المؤرخون إخبارنا ببساطة عن الأحوال الماضية، أو الحالية؛ إذ إنه - على حد قول آلان مانزلو - «ينبع المعنى بأسره من ممارسات متنقلة - أسسها المجتمع وحدد معناها - ذات تأثير كبير على الواقع يمكنها بالفعل من غلق أي سبيل مباشر إلى معرفته.» ومن ثم، يصبح التاريخ في الأصل مجرد حكاية أخرى تحظى بقبول اجتماعي نسبي، وتنافس من أجل حيازة انتباهنا وموافقتنا، ومجرد طريقة أخرى لوصف الأحداث، يعتمد بقاؤها من عدمه على عملية من النقاش والجدل. وعلاوة على ذلك، فإن بنى التاريخ وتفسيراته السببية المفصلة جمعت في الأساس على نحو يشبه القصص الروائية. يوضح هايدن وايت ذلك قائلا:
إن الادعاءات التاريخية ... هي روايات شفهية، تضم محتويات مختلقة بقدر ما هي مكتشفة، ولدى صياغاتها قواسم مشتركة مع نظيراتها في الأدب أكثر مما بينها وبين نظيراتها في العلوم.
هايدن وايت، «النص التاريخي كنتاج أدبي» من كتاب «مدارات الخطاب»، (1978)
تحكي جميع كتب التاريخ قصة، قد يؤدي أبسط ما بها من أدلة أو حقائق - مثل القول بأن «نابليون كان قصيرا» أو أن «أنف كليوباترا كان جميلا وذا طول مثالي» - إلى تفسيرات لا نهائية محل خلاف بطبيعتها، وتشكل بدورها مزاعم تدعي الحقيقة مثل: «ومن ثم، كان نابليون يعوض عن قصره بالعدوانية، وكانت لكليوباترا جاذبية لا تقاوم!» وستحتل تلك الأحكام بدورها مكانا في ادعاءات تقليدية أكبر، غالبا ما تفسر فيها انتصارات نابليون - على سبيل المثال - باعتبارها تجليات لشخصيته لا للظروف الاقتصادية الكامنة وراء الأحداث، أو تصبح جاذبية كليوباترا الجنسية المذهلة هي الدافع وراء هروب أنطونيو من معركة أكتيوم ، كما اعتقد شكسبير على ما يبدو مقتديا ببلوتارخ. لا يهم هنا إن كان راوي القصة مؤرخا عظيما أو ويليام شكسبير، فكلاهما يركزان على شكل أو نوع سردي عند إخبارنا بقصتهما، سيستعيرانه من تقاليد رواية القصة المتاحة في ذلك الوقت. تعرض بعض كتب التاريخ المتأثرة بأفكار ما بعد الحداثة - مثل كتاب سيمون شاما «المواطنون: تاريخ الثورة الفرنسية»، (1989) وكتاب أورلاندو فيجيز «مأساة شعب: الثورة الروسية 1891-1921»، (1996) - هذه الوظيفة السردية عرضا واضحا تماما؛ فنحن نتبع إحدى القصص، لكن ليس بوسع أي مؤرخ كان زعم أن هذه القصة هي «القصة الوحيدة»، حتى وإن كان ذلك ما يهدف إليه. وبصرف النظر عن أي عامل آخر، فإن العلاقة بين «المختلق» أو «المجمع» وبين «المكتشف» أو «الظاهر» ستظل دوما محل خلاف وخاضعة للتفسير. ينطبق هذا قطعا على الحالات المعقدة التي تثير لدينا أكبر قدر من الاهتمام، فالادعاءات البسيطة للغاية - التي توضح أن العلاقة بين الواقع والقصة المسرودة قد «لا تقبل الجدل» في بعض الأحيان - لن تساعدنا كثيرا في تطوير فهمنا للممارسات الثقافية التي تحكم كتابة نوع التاريخ ذي الأهمية في هذا العالم، كالذي يدعم فهمنا لعلاقة الكتابة التاريخية الأمريكية بالمعتقدات السائدة حول الحرب الباردة، أو بتاريخ الخلاف والمعارضة لدى اليسار، أو بما إذا كان آل روزنبرج مذنبين، أو بما أدى إلى إطلاق الرصاص على كينيدي في تكساس. وقد أسهب المؤرخون النسويون في توضيح الانتقاء الثقافي (من هذا المنظور) الملحوظ لدى معظم الروايات التاريخية.
وعلاوة على ذلك - وعلى أبسط المستويات - سيستخدم الروائي والمؤرخ لغة تعج بالمجازات أو الاستعارات، التي ستبين لنا كذلك مدى بعد التاريخ عن الاهتمام بالحقائق الحرفية المجردة. إن القضية هنا لا تقتصر على العلاقات السببية داخل الحبكة التاريخية فحسب، بل تمتد لتشمل جميع المسارات التقليدية وغير التقليدية نسبيا في اللغة التي ورثناها.
وانطلاقا من هذه النقطة - حسب رؤية ما بعد الحداثة - من المتوقع أن تلقى بعض خصائص التاريخ الأخرى مصيرا مماثلا؛ فبالتأكيد إذا كانت احتمالية وجود تاريخ واقعي في حد ذاتها احتمالية مرفوضة، وإذا كانت الحقائق ستعتبر على الدوام مجرد أمور تربطها علاقة نسبية مع المسلمات النظرية التي تشكلها والتفسيرات التي تطرح بناء عليها، وإذا كانت الأدلة سينظر لها دوما في إطار علاقتها بعملية بناء السياق المناسب لها، فحتى التناول الشديد الجدية للأدلة التاريخية أو «المصادر الأولية» الذي يبدو بعيدا عن السرد سيحمل حتما مسلمات سردية؛ ومن ثم، سيتخذ التاريخ في الأساس شكلا أسطوريا يكشف عن ذاته متجليا في الأدب ويقدم البنية المفاهيمية الأساسية للتاريخ. وإذا سلمنا بأن استخدام تلك البنى التأويلية الأساسية أمرا حتميا، فإن نسبية ما بعد الحداثة تصبح هي القاعدة؛ إذ من الواضح أن تلك البنى المتبارية المستقاة من الأسطورة ينافس بعضها بعضا. وإذا أنكرنا وجود طريق مباشر لمعرفة الماضي، فإننا لا نملك سوى قصص متنافسة، أضفى عليها المؤرخون ترابطا منطقيا بطرق مختلفة؛ ومن ثم يصير الماضي ليس أكثر مما يحاول المؤرخون - الذين نعتمد عليهم لأسباب ثقافية متنوعة - زعمه. وعلاوة على ذلك - وفقا للكثير من أتباع ما بعد الحداثة - فإن البنى السردية التي يفضلها المؤرخون ستحمل حتما تضمينات أيديولوجية أو فلسفية قد تثير استهجانا؛ كأن تعكس مثلا اعتقادا برجوازيا مستحدثا للغاية بأهمية العامل البشري المستقل عوضا عن النظم الاقتصادية الكامنة، كما يتضح في الأمثلة التي استشهدنا بها سابقا.
لكن ماذا إذن عن تمييزنا لما هو حقيقي، وموثوق به، وتحتمل صحته عندما نقرأ التاريخ؟ حتى أتباع الفلسفة التجديدية المنتمين انتماء واعيا إلى الفكر ما بعد الحداثي يحاولون مساعدتنا في تشكيل معتقدات «أفضل» حيال ما يظنون أنه حدث بالفعل. ويوجد بالفعل ما قد نطلق عليه بوجه عام سردا يقدم وصفا ملائما، كذلك من الممكن تحقيق قدر كبير من التوافق بين اللغة والواقع؛ فلا أحد تقريبا يؤيد طمس ما يسلم بكونه دليلا، وفي الواقع، ليس للمؤرخين مطلق الحرية في اختلاق الأشياء، وهو ما أثبته الجدل المثار حول «منكري الهولوكوست». ولكن، لا يتمتع الروائيون الواقعيون بدورهم عندئذ بحرية كبيرة في اختلاق الحوادث، فلا بد لهم من معرفة الكثير مما يعرفه المؤرخ، وأكثر من ذلك. إن نسبية ما بعد الحداثة لا تعني بالضرورة أن «كل شيء مسموح به»، أو أن الأدب والروايات المبنية على أشخاص وأحداث تاريخية لا تختلف عن التاريخ. لكن ما تقصده حقا هو تنبيهنا إلى أن نراعي قدرا أكبر من الوعي المتشكك ونتخذ موقفا أكثر نسبية - وأكثر يقظة - تجاه الافتراضات النظرية التي تدعم الادعاءات التي يطرحها جميع المؤرخين، سواء كانوا يعتبرون أنفسهم تجريبيين أم تفكيكيين أم «تاريخيين جدد ينتمون إلى ما بعد الحداثة».
ينطبق ذلك بالقدر نفسه على مؤرخي ما بعد الحداثة مثلما ينطبق على المؤرخين التقليديين؛ على سبيل المثال (كما ورد في كتاب ريتشارد إيفانز «دفاع عن التاريخ»، انظر مراجع الكتاب)، عندما هاجمت ديان بوركيس وصف كيث توماس للساحرات باعتبارهن في أغلب الأحيان نساء متسولات لا حول لهن ولا قوة، زعمت أنه يكرر ببساطة «أسطورة تمكين»؛ حيث «تستند هوية الرجال التاريخية إلى انعدام حيلة النساء وصمتهن.» رد ريتشارد إيفانز - داعما توماس - عليها زاعما أن «النساء الفقيرات العجزة غير المتزوجات اتهمن غالبا بممارسة السحر؛ لأنهن - على العكس تماما من التزام الصمت - كن يلعن أولئك الرجال الذين رفضوا إعطاءهن الصدقات.» يبدو هنا وكأن مزاعم توماس التجريبية تصادمت ببساطة مع قاعدة السرد التاريخي المحورية المنافسة التي تتبناها بوركيس، والتي تقضي بوجوب استخدام السرد التاريخي من أجل دعم المفاهيم الحديثة حول تمكين المرأة.
إن تطابقا دقيقا بين السرد وبين «الماضي» أمر مستحيل؛ إذ يمكننا وصف «نفس» الحدث بطرق كثيرة ومختلفة، فضلا عن أن مدخلنا إلى الأدلة دائما ما يكون عبر وسيط، ولا يوجد شيء واضح ببساطة؛ فلطالما وجدت أجزاء مفقودة وفجوات وتحيزات ينبغي التعامل معها. مع ذلك، ما زال بإمكان الادعاءات التوافق مع الأدلة «المفسرة»، وما زال في وسع الأدلة الجديدة إسقاط تلك الادعاءات. وعلاوة على ذلك، لا تلائم جميع أشكال السرد الأدبي الأحداث والحقب التاريخية بنفس الدرجة؛ فكما يوضح مانزلو، لن تحظى انتفاضة جيتو وارسو التي وقعت عام 1944 بسرد ملائم - ومن ثم بتفسير جيد - إذا اعتبرت رواية غرامية أو مسرحية هزلية أو تراجيدية. إن أفضل ما نستطيع تحقيقه هو النقاش حول طبيعة الأحداث السابقة ومعناها، ويزعم ما بعد الحداثيين (وآخرون كثر) أنه ينبغي إبقاء هذا النقاش صريحا ودقيقا قدر الإمكان؛ فالعاقبة المترتبة على عدم مراعاة الانتباه هي احتمال ظهور «رواية رسمية» تتحول إلى الرواية الحقيقية والنهائية حول الماضي في أعيننا؛ ومن ثم، قد تتمكن كذلك من تكوين جزء من «أيديولوجية مهيمنة» غير عادلة - نظرا لتشوهها الواضح - داخل المجتمع المتلقي لها، كما حدث على ما يبدو لكل من الطرفين الأمريكي والسوفييتي أثناء فترة الحرب الباردة. في هذا الإطار، لا يختلف المؤرخون التفكيكيون عن بقية المؤرخين إلا في الميل إلى إبداء القلق علنا حيال صعوبات وظيفتهم، أثناء الكتابة.
الهجوم على العلم
عبر أتباع ما بعد الحداثة عن أشد مواقفهم السياسية تطرفا (وأكثر الإشكاليات المرتبطة بهم وضوحا) عندما هاجموا مزاعم العلم الموضوعية؛ فمن الواضح أن العلماء يعتبرون أنفسهم مشاركين في وضع نظرية موحدة أو «حكاية كبرى» حول الموضوع الذي يدرسونه، ويعتقدون أنهم يحاولون إكمال صورة تصف ما يحدث حقا «في الواقع» (رغم أن هذه الصيغة تعتمد أيضا على نموذج مجازي مضلل على نحو واضح). فهل يمكننا التقاط «صورة» لثقب أسود أو المسافة النونية الرباعية الأبعاد؟
وهكذا أصبحت مزاعم العلم موضع شك. لكن من يقدر الآن حقا على إنكار «الادعاء الكبير» للتطور، باستثناء من يرزحون تحت سيطرة ادعاء رئيسي أقل معقولية بمراحل مثل نظرية الخلق؟ ومن يرغب في إنكار صحة مبادئ الفيزياء الأساسية؟ الإجابة هي «عدد من أتباع ما بعد الحداثة»، بناء على أسباب سياسية من بينها أن منطق التفكير العلمي الهرمي بطبيعته منطق خاضع مرفوض. فلننظر - على سبيل المثال - إلى الادعاء (العبثي) الذي طرحه برونو لاتور حول كون نظرية النسبية لأينشتاين «إسهاما في علم اجتماع التفويض» بما أنها تتضمن تخيل كاتب البحث العلمي - أي أينشتاين - أنه أرسل مراقبين لتسجيل قياسات موقوتة للأحداث، التي تعرضها النظرية بعد ذلك باعتبارها ترتبط فيما بينها بعلاقة نسبية؛ إذ يرى لاتور على ما يبدو أن في وسع المفاهيم الاجتماعية شرح القواعد العلمية الأساسية.
إن العلماء - حسبما يعتقد معظمنا - هم العالمون حقا بحقيقة الأشياء؛ فهم من يكشفون طبيعة الطبيعة، ومعرفتهم بالقوانين السببية تمكننا من التوصل إلى اختراعات تحدث فارقا، مثل الرقاقات الإلكترونية الفائقة الصغر، فضلا عن أن قواعدهم المعيارية فيما يتعلق بالأدلة والتدقيق والإجماع العام - التي تتحكم في النهاية في النماذج أو الأطر المفاهيمية التي يستعينون بها في عملهم - هي (أو ينبغي أن تكون) أفضل ما نعرفه (أفضل بكثير - على سبيل المثال - من تلك المعايير السائدة بين علماء الاقتصاد). تلك باختصار هي معايير الحصول على جائزة نوبل.
لكن من أتباع ما بعد الحداثة لا يعجبهم هذا المشهد؛ فقد هاجموا المزاعم الرئيسية التي يطرحها العلماء عادة حول: (1)
قدرتهم على تقديم وصف وتحليل موضوعي وصادق - ومن ثم صالح للتطبيق الشامل - للواقع الفيزيائي المحيط بنا. (2)
اعتبارهم أن التحقيق العلمي الذي يقومون به مسعى نزيه لاكتشاف حقائق حول عالم الواقع، يمكن تطبيقها تطبيقا عالميا؛ أي إنها صحيحة في كل مكان، ومستقلة تماما عن أي قيود ثقافية محلية، ومستقلة على وجه التحديد عن أي من الدوافع الأيديولوجية أو الأخلاقية الخفية نوعا ما، التي ربما أوحت إليهم باكتشافاتهم.
يرى أتباع ما بعد الحداثة - النسبيين إلى حد كبير - أن العلماء لا يسعهم التمتع بتلك الامتيازات؛ فهم لا يروجون إلا ل «قصة واحدة بين قصص كثيرة»، فضلا عن أن حججهم لا يمكن الاستدلال عليها؛ فهم لا «يكتشفون» طبيعة الواقع بقدر ما «يصوغونها»؛ ومن ثم فإن عملهم معرض لشتى أنواع التحيزات والمجازات الخفية التي شهدنا كيف كشف عنها التحليل ما بعد الحداثي في الفلسفة واللغة العادية المألوفة. كذلك ينبغي ألا تكتفي الأسئلة الرئيسية المطروحة حول العلم بالتركيز على مزاعمه المبالغ فيها (والمتمركزة حول اللغة) بامتلاك الحقيقة، بل ينبغي أن تركز أيضا على الأسئلة السياسية التي تثيرها مكانته وتطبيقه المؤسسي، اللذان تشكلهما المخططات الأيديولوجية لدى النخب المهيمنة. تعكس هذه الرؤية صورة متطرفة من النسبية التي واجهناها من قبل؛ إذ إن الهجوم على العلم لا ينصب فقط على التفسيرات الفلسفية للعالم - التي طالما ظلت محل نزاع - بل يشمل كذلك التحليلات المثبتة تجريبيا حول طبيعة العالم (سواء في مجال الطب وتطوير الكمبيوتر أو في علم الطيران وصناعة القنابل) التي نجحت في إثبات «صحتها» على ما يبدو.
سنحتاج عند دراسة هذا الهجوم ما بعد الحداثي إلى مراعاة الفصل قدر الإمكان بين القضية المعرفية والقضية الأيديولوجية لدواعي الوضوح. وبالطبع، فإن النقطة التي يرغب من أتباع ما بعد الحداثة التفكيكيون وأتباعهم في إثباتها هي أن هاتين القضيتين - من منظورهم - لا يمكن الفصل بينهما على الإطلاق. لكني أرفض ببساطة افتراض كونهم على حق؛ فمن الواضح تماما وقطعا أن «دوافع» الاكتشاف العلمي وعواقبه عرضة للنقد السياسي والأخلاقي، وهو أمر ليس بجديد، فالكثير ممن عملوا في مشروع صنع القنبلة الذرية - لا سيما روبرت أوبنهايمر - كانوا يدركون ذلك تمام الإدراك. أما ميكانيكا الكم والهندسة الوراثية ومعلوماتنا العلمية حول المناخ العالمي، فتربطها بالتأكيد علاقات مختلفة إلى حد مثير للاهتمام مع تمويل الأهداف العسكرية والسياسية الغربية ومساعي تحقيقها. لكننا نستطيع قبول تلك الأحكام السياقية دون أن نزعم بناء عليها فشل أنشطة العلماء الرئيسية، بطريقة أو أخرى، في الوصول إلى أكثر طريقة مضمونة في وسعنا استخدامها لتحليل الطبيعة. يوجد قطعا شيء عجيب للغاية في الاعتقاد بأن أنشطة العلماء أثناء البحث - على سبيل المثال - عن قوانين سببية أو نظرية موحدة، أو عند التساؤل عما إذا كانت الذرات تذعن حقا لقوانين ميكانيكا الكم؛ هي بطريقة ما أنشطة «برجوازية بطبيعتها»، أو «ذات توجه أوروبي»، أو «ذكورية»، أو حتى «مشبعة بالروح العسكرية».
يرجع هذا - على الأقل جزئيا - إلى أن حقائق العلم تبدو في واقع الأمر حقائق قاطعة لدى الاشتراكيين، والأفريقيين، والنسويين، والعلماء دعاة السلام على حد سواء (رغم أن بعض الأفراد في تلك الفئات ينكرون ذلك)، على عكس حقائق السياسة أو الدين؛ إذ لا يقبل العلماء التجريبيون سوى الحقائق التي تتسم بإمكانية التطبيق الشامل، مثل أن الأسبرين يجدي في جميع الحالات، فتلك إحدى الحقائق التي لا يقبلون النظر إليها من منظور نسبي (سياسيا أو ثقافيا). وعلى الرغم من أن في وسع أي عالم ذكر حالات أدى فيها الضغط السياسي إلى أبحاث علمية عديمة الفائدة (مثلما حدث عندما فرض الاتحاد السوفييتي وجهة نظره الرسمية في علم وراثة النباتات، والتي عرفت باسم الليسينكووية)، وأخرى مفيدة (كما حدث في أثناء دراسة مرض الإيدز)؛ فإن نتائج تلك الأبحاث ستظل على المدى الطويل محصورة ضمن جماعة العلماء فحسب إذا التزموا بالاختبارات المعتادة، المنفصلة عن أي سياق سياسي.
يقوض أستاذا الفيزياء، آلان سوكال وجان بريكمو، مزاعم نقاد علم ما بعد الحداثة؛ حيث يشيرون إلى أنهم غالبا ما يبدون فشلا ذريعا في فهم مزاعم العلم التجريبية وطرق تطبيق المصطلحات النظرية الرئيسية، وكثيرا ما يستبدلونها - عندما يطبقون أنماط الفكر العلمية على العالم السياسي - بعدد كبير من المجازات المضللة والغامضة والمتحيزة. يترتب على ذلك - حسب كلمات سوكال وبريكمو - «غموض وحيرة، ولغة مبهمة عن قصد، وتفكير مشوش، وإساءة استخدام للمفاهيم العلمية.» على سبيل المثال، يزعم جان بودريار أن في حرب الخليج «أصبح فضاء الحدث فضاء فوقيا ذا انكسارات ضوئية متعددة، وأصبح «مجال الحرب دون شك نطاقا لا إقليديا».» يعلق سوكال وبريكمو على هذا زاعمين أن مفهوم «الفضاء الفوقي» المطروح هنا «لا يوجد ببساطة في الفيزياء أو الرياضيات»، وأنه لا جدوى من التساؤل عن ماهية مجال الحرب الإقليدي، فضلا عن وضع نظرية تفسر نوع الفضاء الذي «اختلقه» بودريار توا عن طريق فهمه الخاطئ للمصطلحات العلمية وسوء استخدامه لها.
إذن أحد ردود العلماء على أتباع ما بعد الحداثة تسلم بأنهم قد يبدون اهتماما ذا قيمة حقيقية في مجالات علم الاجتماع وتسييس العلم، لكنهم ببساطة لا يفهمون آليات عملها الفعلية وطبيعة الحقائق التي تحاول تلك المجالات إثباتها فهما جيدا. يتشابه هذا الرد اللاذع مع مأخذ الفلاسفة المنتمين للاتجاه الأنجلو أمريكي على بعد الحداثيين، الذي يزعم عدم فهمهم كذلك لآليات عمل الفلسفة المتمركزة حول اللغة وإنجازاتها، وأن هذا قد يرجع إلى أن معظم منظري ما بعد الحداثة المرموقين لا يهتمون كثيرا على ما يبدو بإجراء حوار بناء مع أحد باستثناء بعضهم البعض؛ إذ إن تلهفهم على اتخاذ المواقف التي تبدو «مقبولة اجتماعيا وثقافيا» قد أدى بهم غالبا إلى التعبير عن أوصاف غاية في الغرابة وقائمة على معلومات خاطئة - إن لم تكن متحيزة اجتماعيا وثقافيا - لما يقوم به العلماء. تتمحور كتب سوكال وغيره حول هذه الفكرة الرئيسية (لا سيما بعدما اكتشف سوكال عام 1994 تقريرا ملفقا حول نشاطه العلمي - يعج بالأخطاء العلمية الفادحة والاستنتاجات المتناقضة - منشورا في مجلة ما بعد حداثية تدعى «سوشال تيكست»).
إن الكثير من هجمات أتباع ما بعد الحداثة على العلم - التي تحاول إظهار السمات السياسية المتأصلة في النشاط العلمي الغربي التجريبي - ليست مبنية على معلومات خاطئة فحسب، بل تتسم بنوع غريب من إساءة الفهم؛ إذ تكتفي عادة بفرض مجازات أو مقارنات على الاكتشافات العلمية حتى تبدو كأنها - تحت تأثير التحليل التفكيكي الموضح أعلاه - تتضمن تصريحا أو موقفا سياسيا ما غير ذي صلة تماما وفعليا بالحقائق التي تحاول تلك الاكتشافات إثباتها.
نذكر هنا - على سبيل المثال - مقال عالمة الأجناس البشرية إيميلي مارتن «البويضة والحيوان المنوي» الذي كثيرا ما يشار إليه، والذي يزعم أن «صورة البويضة والحيوان المنوي المستخدمة في التقارير الشائعة والعلمية على حد سواء عن علم الأحياء التناسلي؛ تعتمد على قوالب نمطية تلعب دورا حيويا في تعريفاتنا الثقافية للذكر والأنثى.» «لا تشير تلك القوالب النمطية إلى أن العمليات البيولوجية لدى النساء تقل في قيمتها عن مثيلتها لدى الرجال فحسب، بل تشير كذلك إلى كون النساء أدنى قيمة من الرجال.» يؤكد ذلك النوع من الأدبيات على مفهوم البويضة الأنثوية «السلبية» و«البريئة والخجولة» في مقابل الحيوان المنوي الذكوري «المسيطر» و«النشط»، وبالتأكيد تستخدم بعض تقارير المقررات الدراسية هذا التشبيه المتحيز بالفعل. لا تنتهي القضية عند هذا الحد، بل يتصور النقاد ما بعد الحداثيين أن هؤلاء العلماء الذكوريين - نتيجة لافتراضاتهم الذاتية التي أفسدتها التأثيرات السياسية - قد أخطئوا فهم القواعد العلمية التي تحدد العلاقة بين البويضة والحيوان المنوي؛ حيث يسود الآن الاعتقاد بأن البويضة (الأنثوية) هي التي تنشط و«تقبض على الحيوان المنوي (الذكوري)» (الذي سبح مسافة طويلة قبل حدوث ذلك). لكن، ترى هل تسببت الافتراضات الأيديولوجية الذكورية حول تفوق الذكر وعدوانيته في تعطيل هذه الرؤية الجديدة أو الحيلولة دون ظهورها بالفعل؟ هل يعقل - عند وصف النشاط العلمي - أن نزعم أن مثل تلك الافتراضات قد تؤدي إلى مثل هذا النوع من التعطيل؟ (لا يعني ذلك إنكار أن الانشغال بالذكر قد أسفر بالتأكيد عن تعطيل دراسة علم وظائف الأعضاء الأنثوي دراسة دقيقة.)
يعكس هذا المثال قضيتين؛ تتمحور القضية الأولى حول الارتباطات المجازية بين الأوصاف المتنوعة للبويضة والحيوان المنوي وبين قوالب النوع الاجتماعي النمطية. على سبيل المثال، يبني سكوت جيلبرت على هذه الارتباطات ليكتب (بأسلوب مبتذل) عن «التخصيب كنوع من الاغتصاب الجماعي العسكري؛ فالبويضة هي العاهرة التي تجذب الجنود مثل المغناطيس»، وهلم جرا. لكن هذا الارتباط في جميع الأحوال ليس سوى مبالغة فجة؛ فمثل تلك التعبيرات لا تظهر في الواقع في الدراسات العلمية الجادة حول هذا الموضوع. فضلا عن أن هذا التفسير المجازي بالكامل - الذي يتوافق تماما رغم ذلك مع اهتمامات أتباع ما بعد الحداثة - يبدو في رأيي تافها وسخيفا نسبيا، وبلا أفق؛ لأن أي شخص يرغب في تعميم أي من الرؤيتين حول العلاقات بين الحيوان المنوي والبويضة، كي يبرر أو يفسر طبيعة أي تفاعلات أوسع نطاقا بين الذكر والأنثى، سيطرح بالتأكيد قاعدة تبسيطية مضحكة مثل: «لطالما كان الوضع هكذا منذ مرحلة البويضة والحيوان المنوي!» إن مثل هذا الزعم يغفل إلى حد كبير القضية المتعلقة بإمكانية تعديل العلاقات الأنثوية الذكورية، فضلا عن طرحه استنتاجا ضمنيا آخر أكثر ضررا بمراحل حول العلم يدعي أنه أخفق في مراعاة الموضوعية في هذه الحالة، وأن الاكتشاف «الجديد» صحح التحيز الذكوري في الأبحاث العلمية. لكن من الكذب البين الزعم بأن العلماء الذكور ظلوا يتجاهلون دور البويضة الأنثوية الفعال إلى أن استحثهم النسويون على الاعتراف به، كما يوضح بول جروس. فقد أشار عالم الأحياء جست عام 1919 (الذي استشهد كذلك ببحث علمي صادر عام 1878) أن البويضة «تقبض على» الحيوان المنوي أو «تبتلعه»، ويضيف جروس أن وجهة النظر تلك كانت شائعة في المقررات الدراسية منذ عشرينيات القرن العشرين فصاعدا.
تخضع مجادلات ما بعد الحداثة المتطرفة تلك لهجوم شديد حاليا، لكنها غيرت إلى حد كبير الطريقة التي ينظر بها إلى المجالات العلمية في الثقافة الأوروبية والأمريكية، لتصبح أكثر تشككا وتسييسا.
غني عن القول بالطبع أن التاريخ وكتابة الروايات وصناعة الأفلام والعلم وإعداد التقارير الإخبارية «الواقعية»، استمرت على نفس النهج في عصر نظرية ما بعد الحداثة؛ إذ تمتعت بمستوى عال من القبول العام؛ ومن ثم لا بد أن الكثير ممن جذبتهم النظرية والفن ما بعد الحداثي قد وجدوا أنفسهم عالقين بين عالمين معرفيين متناقضين.
إن هذه المعركة بين أتباع ما بعد الحداثة وغيرهم في مجالات الفلسفة والنظرية وبين التاريخ والعلم، تتمحور في الأساس حول مزاعم التوحيد في مواجهة الأقوال المتناقضة، والتضاد بين البناء التعاوني والتفكيك الفردي. إلا أن كلا من الجانبين يحتاج الآخر؛ إذ عارض بعد الحداثيين بناء على أسس تحررية جميع التفسيرات الشمولية (حتى وإن أعادوا الاعتراف بها على نحو مستتر عن طريق الترويج لنقاشات تتعاطف مع تلك التي طرحها فرويد وماركس)، وكان لنقدهم السلبي المعارض ما بعد الحداثي - كما سنرى لاحقا - تأثير تحرري هائل في كثير من جوانبه، لا سيما على النساء والأقليات الثقافية والكثير من الاتجاهات الفنية الطليعية. الأقرب إلى الواقع أن أفكار فنان ما قد ينظر إليها بوصفها ضربا من «العبث»، لكن الأمر لا ينطبق على أفكار المؤرخين والعلماء، وبالتأكيد المحامين، الذين لا يسعهم مطلقا تطبيق شكوكية ما بعد الحداثة على قانون الإثبات، أو على فكرة أن المحاكم أنشئت بطريقة أو بأخرى كي تحدد حقيقة أو أرجحية روايتين مختلفتين لما حدث بالفعل.
طبقت أساليب ما بعد الحداثة النقدية تطبيقا أكثر نجاحا بمراحل على المشكلات الاجتماعية والأخلاقية؛ إذ أدت - على سبيل المثال - إلى «هدم» «الادعاء الكبير» لسلطة الرجال ومقاومة النساء لهيمنتها. وسأنتقل الآن إلى تلك القضايا السياسية والأخلاقية.
الفصل الثالث
السياسة والهوية
بالفعل، كان في وسعي أن أصبح قاضيا، لكني لم أتعلم اللغة اللاتينية قط، لم أتعلمها قط بالقدر اللازم لممارسة القضاء، ببساطة لم أتعلمها بالقدر الكافي لاجتياز اختبار القضاة القاسي؛ إذ تعرف تلك الاختبارات بقسوتها. كان الناس يخرجون مترنحين من لجنة الاختبار قائلين: «يا إلهي، يا له من اختبار قاس!» وهكذا أصبحت عامل منجم.
بيتر كوك، مسرحية «ما وراء الحافة» (1961)
تهتم أهم نقاشات ما بعد الحداثة الأخلاقية بالعلاقة بين الخطاب والسلطة. يعني مصطلح «خطاب» هنا مجموعة من العبارات المتداخلة الداعم بعضها بعضا، التي تطورت على مر التاريخ، وتستخدم لتعريف موضوع ما ووصفه؛ أي ببساطة شديدة، الخطاب هو اللغة المستخدمة في المجالات الفكرية الرئيسية، والتي تتجسد - على سبيل المثال - في «الممارسات الخطابية» في القانون والطب والتقييم الجمالي وغيرها. إن تلك الخطابات - حسبما يستخدمها المحامون والأطباء وغيرهم - لا تقبل ضمنيا بوجود نظرية مهيمنة كي ترشدها فحسب (وهي التي قد تتخذ - على سبيل المثال - شكل نموذج تحليلي كالذي يستخدمه أولئك المشتغلون بالعلوم التقليدية)، بل تتضمن كذلك أنشطة تثير جدلا سياسيا، لا لكونها تعرف الناس وتصفهم وصفا قاطعا - كأن تحدد من «المهاجر» أو من «طالب اللجوء السياسي» أو «المجرم» أو «المجنون» أو «الإرهابي» - لكن لأن تلك الخطابات تعبر في الوقت ذاته عن «سلطة» مستخدميها السياسية.
السجين :
لست مذنبا يا سيدي، والرب يحكم علي.
القاضي :
إنه لا يحكم عليك، أنا من يحكم عليك. إنك مذنب. السجن ستة أشهر.
قوة الكلمات
حسب رؤية ما بعد الحداثة، تفرض جميع الاستخدامات المنهجية والمنطقية للغة شكلا معينا من أشكال السلطة؛ فعلى سبيل المثال، قد تصدق ما يقوله لك جراح شاب، وبناء على ذلك تسمح له بتخديرك وشق جسدك ومساعدتك على الشفاء. تعبر لعبة الخطاب اللغوية عن سلطة أولئك المخولين باستخدامه داخل جماعة اجتماعية ما وتقرها، كالحال داخل المستشفيات والمحاكم ولجان الممتحنين وأساتذة الجامعة مثلي الذين يكتبون كتابا كهذا. وقد تستخدم كذلك لإخضاع أو استبعاد أو تهميش من هم خارج تلك الجماعات، مثل الساحرات والمنومين المغناطيسيين والمعالجين الروحيين ومثليي الجنس والمتعاطفين مع الشيوعيين والمعارضين الفوضويين. وفيما يلي نستعرض أحد الارتباطات المتعددة بالأفكار الفلسفية الرئيسية المعروضة فيما سبق.
قدم ميشيل فوكو أعظم التحليلات تأثيرا لهذه العلاقة بين الخطاب والسلطة عبر دراساته لتاريخ الممارسات في القانون وعلم العقوبات والطب؛ فمن الواضح إلى حد كبير أن تلك الخطابات السلطوية مصممة لاستبعاد الناس والتحكم بهم، مثل أولئك المشخصين بالمرض أو الجنون الإجرامي. وينظر فوكو إلى قرارات الاستبعاد تلك من منظور ماركسي تقليدي فيقول:
إن الشكل القضائي العام الذي يمنح لنظام ما حقوقا متساوية من حيث المبدأ لم يلق دعما من تلك الآليات الطبيعية اليومية المقبولة، ومن تلك الأنظمة السلطوية المصغرة غير المتناسقة وغير العادلة بطبيعتها، التي نطلق عليها «أنظمة الانضباط»؛ مثل الاختبارات، والمستشفيات، والسجون، والقوانين التنظيمية في ورش العمل، والمدارس، والجيش.
ميشيل فوكو، «الانضباط والعقاب: ميلاد السجن» (1977)
يضع فوكو نفسه في موقع الضحية، محللا السلطة من أسفل لأعلى، ولا يقتصر تحليله على اعتبارها فرضا لمصالح الطبقة الأعلى؛ إذ يحاول إثبات أن إرادة ممارسة السلطة تهزم المساواتية الإنسانية في جميع الحالات. ويشير ضمنيا إلى أنه حتى الاعتماد التنويري على المبادئ العامة والمنطق هو اعتماد استبدادي دوما منذ البداية؛ لأن الاحتكام إلى «منطق» سليم دوما هو في حد ذاته نظاما سلطويا، وسيتسبب دوما في استبعاد ما يراه هامشيا، وذلك ببساطة من خلال اعتباره أمرا لا عقلانيا. يرى فوكو أن تلك الأمور اللاعقلانية المزعومة تتضمن ما يتعلق بالرغبات، والمشاعر، والغريزة الجنسية، والفن.
يعادي فوكو التقدمية بشدة، فهو مؤرخ معاد للرؤية التقدمية للتاريخ إذ يؤرخ نشأة القمع. وفي هذا الإطار، يبحث فوكو عما يطلق عليه «الهيكل المعرفي»؛ أي الافتراضات اللاشعورية غالبا المرتبطة بالنظام الفكري الذي يشكل أساس الأوضاع التاريخية لدى مجتمعات بعينها. يعرف ذلك باسم الأوضاع «التاريخية البديهية» في حقبة ما، التي «تحدد نطاق التجربة الكلي في أي مجال معرفي»، وتعرف نمط كينونة الموضوعات في هذا المجال، و«تمنح تصورات الفرد وملاحظاته اليومية سلطات نظرية». كما أنها تحدد الأوضاع التي قد يصبح الخطاب في ظلها «حقيقيا»؛ ومن ثم تظهر الحاجة إلى التنقيب في التاريخ بحثا عن هذه الأوضاع، ومن هنا ينبع ما يطلق عليه فوكو «أركيولوجيا» المعرفة (أو التنقيب في الهيكل المعرفي). تكمن تلك الأوضاع دون مستوى الإدراك، ولا تبدو جلية دوما؛ ومن ثم يصبح الهيكل المعرفي نوعا من اللاوعي المعرفي الذي يميز عصرا ما.
يطرح فوكو نقدا يساريا لهذه الأوضاع كافة كي يوضح الأشياء والأفراد التي تستبعدها وطريقة استبعادها. تتفاعل السلطة والمعرفة على مستوى جذري، كالحال - على سبيل المثال - عندما يتبنى الأفراد «العقلانيون» المدربون طبيا تعريفا لأنفسهم يتناقض مع تعريف الأفراد «غير العقلانيين» لأنفسهم، فإنهم يشرعون - بعدما أصدروا هذا الحكم التعريفي - في احتجازهم في مستشفيات الأمراض العقلية. يستخدم كل من المتحيزين جنسيا والعنصريين والإمبرياليين أساليب متشابهة؛ إذ يجعلون خطابهم «السوي» خطابا مهيمنا، وفي خضم تلك العملية، يمكنهم بالفعل ابتداع أو استحداث مفهوم «المنحرف»، أو ما يطلق عليه الكثير من أتباع ما بعد الحداثة «الآخر». يساعد خطابهم في الواقع على «تشكيل» الهويات التابعة لدى من يستبعدون من المشاركة فيه.
يقدم فوكو مثليي الجنس والنساء والمختلين عقليا ذوي الميول الإجرامية وغير المنتمين للعرق الأبيض والسجناء باعتبارهم أمثلة نموذجية على «الآخر». وبالفعل يبدو هذا العداء والكراهية واضحين تماما في المدارس والجيوش وفي أسلوب الحكم الإمبريالي؛ ومن ثم كان الفكر ما بعد الحداثي مصدر الإلهام في كثير من الكتابات التي صيغت حول طبيعة «المواطن في العصر ما بعد الاستعماري». تتميز ما بعد الحداثة هنا بأن التحليل الذي تقدمه يعتمد على أساس لغوي، كما لاحظنا من قبل عند استعراض أفكار دريدا وبارت. وهكذا يتحول الناس إلى رموز، ويصبحون جزءا من لعبة اللغة، ومن هنا ينبع - على سبيل المثال - مقال لورا مولفاي «المتعة البصرية والسينما الروائية» الذي كثيرا ما يستشهد به ويعاد طبعه، والذي يطرح تعميما مهيبا مفرط الثقة كما يتضح أدناه:
هكذا، تلعب المرأة في الثقافة الأبوية دور الدال على الآخر الذكر، وتخضع لنظام رمزي يستطيع فيه الرجل تحقيق خيالاته وإطلاق العنان لوساوسه من خلال السلطة اللغوية، وذلك عن طريق فرض هذه الخيالات والوساوس على الصورة الصامتة للمرأة التي ما زالت مكبلة في موضعها باعتبارها حاملة للمعنى لا صانعة له.
مجلة «سكرين»، مجلد 16، العدد 3، صادرة عن دار «أوتم» عام 1975
وهكذا يتضح أننا نخلق كيانات الأفراد (مثلما ننشئ الجامعات والعملة الأوروبية الموحدة «اليورو») عبر اللغة ليس إلا. لكن أتباع ما بعد الحداثة يتخذون ذلك أساسا لطرح نقطة أشمل وأهم؛ وهي أن «الخطاب» - من هذا المنظور - يشبه لغة تتبع قواعد دريدا، فهو ليس ملكا للأفراد المسيطرين، بل يتجاوزهم، ولا يقتصر فحسب على السياقات الرسمية الجلية، كالحال داخل المحاكم، بل ينتشر في جميع أرجاء المجتمع من أعلاه إلى أسفله، من الأحكام القضائية إلى المجلات العلمية والإعلانات التليفزيونية وأغاني البوب، والصحف اليومية الجادة. وكلما زادت هيمنة خطاب ما داخل إحدى الجماعات أو أحد المجتمعات، فإنه يبدو «طبيعيا» أكثر ويزيد ميله إلى الاحتكام إلى نظم الطبيعة لتبرير ذاته. قد تبدو «الطبيعة» ككل مرآة للقدرات التنظيمية للإله أو للنظام الخفي الذي اكتشفه العلماء، أو قد تتضمن «سلالات منبوذة» أو نساء أو مجانين ممن نعتبرهم حسب فطرتهم - أي بحكم طبيعتهم - أكثر حيوانية وأقل عقلانية مقارنة بنا، إلى آخر ذلك. نحن نستوعب تلك النماذج الدونية التي غالبا - كما أشار دريدا وفوكو - ما تشكل جزءا لا يتجزأ من لغتنا، دون أن ندرك دوما أن تلك هي حقيقتها؛ ومن ثم نتقبلها دون وعي، وكأنها حقائق تصف الطبيعة لا سمات ذات دوافع نفسية وسياسية تميز حديثنا عنها.
على سبيل المثال، ينبع مفهوم المصحة العقلية - حسب وصف فوكو - من أنواع الخطاب التي يستخدمها الأطباء، ويعكس الهياكل السلطوية داخل المجتمع البرجوازي المحيط به. وهو عبارة عن عالم مصغر يعكس العلاقات بين العائلة، والانتهاك، والجنون. على الجانب الآخر (أو بالأحرى على جانب اليسار)، يفضل فوكو «الحماقة» ويعادي المنطق البرجوازي. وعلى الرغم من أن تاريخ المصحات العقلية الذي قدمه لا يعتمد البتة على أسس تجريبية راسخة حسب المفترض، فإن وجهة النظر السياسية التي رغب في طرحها حول السلطة والقوة كانت واضحة. وكما هو الحال مع الكثير من كتاب الستينيات (مثل المحلل النفسي آر دي لانج في كتابه «النفس المنقسمة»، أو كين كيسي في روايته «أحدهم طار فوق عش الوقواق») يصور فوكو المجانين في دور ضحايا المجتمع، ويؤكد على فشل هذا المجتمع في إدراك أنهم بدورهم أفراد تعساء إلى أقصى حد. ويطرح تحليلا مماثلا (وتعميما مفرطا كذلك) حول السجون، التي تعكس حسب المفترض الطبيعة «التقييدية» للمجتمع المحيط بها. يعاني المجتمع - في نسخة فوكو الكافكاوية المنقحة من رواية أورويل «1984» - من «المراقبة الكلية الشاملة»؛ فنحن جميعا خاضعون سرا للمراقبة والتحكم. لكن هذه النظرية تدعي أن الأشكال المعتادة من السيطرة الاجتماعية - مثل الالتزام بروتين ما والخضوع للإشراف - لا تختلف عن تلك المستخدمة في السجون، رغم ما بين «المجتمع» و«السجن» من اختلاف.
لقد عرضت فيما سبق بعض الأمثلة الواضحة على إساءة استخدام السلطة. تسيء تلك الأمثلة إلى بديهياتنا التنويرية حول العدالة الشاملة وحق الفرد في الاستقلال الذاتي، لكن من بين عيوب فوكو الكثيرة إخفاقه في تقديم أي تحليل للسلطة من منظور «أخلاقي» عموما؛ فهو يرغب في «المقاومة» عوضا عن الاستسلام، لكنه لا يذكر بوضوح دافعه لذلك. فمن وجهة نظره، تبدو «السلطة» نوعا من القوة الكهربائية، تلازم جميع الأنشطة البشرية على نحو حتمي، مثل الجاذبية. وعلى الرغم من أن فكر فوكو يفترض مقدما تحليلا يساريا - وماركسيا دون شك - فإنه يتجنب التعليقات السياسية الصريحة والنظريات الأخلاقية؛ ومن ثم يكتفي في النهاية - رغم كونه «مقاوما» من الطراز الأول - بالتوصية ببعض الإصلاحات المحلية الضيقة النطاق، مثلما فعل ليوتار إلى حد ما. يعلق تيري إيجلتون على ذلك قائلا:
يعترض فوكو على أنظمة معينة من السلطة لا لأسباب أخلاقية ... بل لأنها ببساطة أنظمة - وفقا لوجهة نظر تحررية غامضة - قمعية في حد ذاتها.
تيري إيجلتون، «أوهام ما بعد الحداثة» (1996)
على القدر نفسه من الأهمية، لم يتطرق فوكو - عند دراسته لوظائف الخطاب - إلى كيفية عمله فعليا بين الأفراد؛ ومن ثم قلل من أهمية الاستقلال الفردي والمسئولية الفردية. فبينما نعلم جميعا أن علينا التشكك في كلمات أنجلو بطل مسرحية شكسبير «الصاع بالصاع» عندما يقول لإيزابيلا: «لست أنا من يدين أخاك بل القانون»، يرى أتباع فوكو أن الفرد ليس المسئول الأكبر عن ارتكاب الفظائع، بل تقع المسئولية على عاتق خطاب السلطة المتدفق على لسانه. ومن ثم، يطرح فوكو نسخة معقدة قائمة على اللغة من العداء الماركسي للطبقات؛ إذ يعتمد على معتقدات تؤمن بالشر الفطري الكامن في وضع الفرد الطبقي أو المهني - الذي ينظر إليه على أنه «خطاب» - بصرف النظر عن الجانب الأخلاقي لسلوكه الفردي.
لاحظ قراء هذا الكتاب بالتأكيد إحجام السياسيين عن تقبل المسئولية الفردية لأفعالهم - أو حتى لأفعال مرءوسيهم - كما كانوا يفعلون في السابق، بالإضافة إلى ميلهم للتعبير عن آراء شديدة التحيز بزعم أنها آراء تعتنقها «أعداد كبيرة من الناس» - قد يكونون مهاجرين جددا أو طالبين للجوء السياسي، أو جيرانا لمجموعة عرقية مختلفة - ويزعمون أثناء ذلك أنهم فقط يصيغون تلك الآراء في إطار يمنحها أهمية سياسية. وفي جميع تلك الحالات يقتصر دورهم على السماح للخطاب بالتدفق عبر ألسنتهم. وعندما تثار الشكوك حول سلوكهم، فلا يردون ببساطة بعبارات مثل «لم أفعل ذلك» أو «فعلته»، بل يدعون البراءة أو يلتمسون العذر لأنفسهم عن طريق خطاب التقرير الصادر بشأن أفعالهم. في ذلك الإطار، يعبر أولئك السياسيون بالفعل عن نظام فوكو المعرفي السائد في عصرهم؛ ومن ثم عن عيوب تبني رؤية مسيسة بطبيعتها للمسئولية الفردية بدلا من رؤية أخلاقية.
الذات والهوية
أسفر تحليل العلاقة بين الخطاب والسلطة عن نتيجة أخرى لأتباع ما بعد الحداثة؛ إذ أدى إلى تكون رؤية مميزة عن «طبيعة الذات» تحدت مفاهيم العقلانية الفردية والتأكيد على الاستقلال الفردي الذاتي التي يعتنقها معظم الليبراليين. إن المصطلح الذي يفضل أتباع ما بعد الحداثة تطبيقه على الأفراد ليس مصطلح «الذات» تحديدا، بل في الواقع مصطلح «التابع»؛ لأنه يلفت الانتباه ضمنيا إلى حالة «التبعية» لدى الأفراد الخاضعين - سواء أدركوا ذلك أم لا - لل «تحكم» (حسب الرؤية اليسارية)، أو «التشكيل» (حسب الرؤية المحايدة)، عن طريق خطابات سلطوية ذات دوافع أيديولوجية، تسيطر على المجتمع الذي يستقرون فيه.
إن الإنجاز الاستثنائي لفوكو وأصحاب الفكر المشابه - بالنظر إلى تحليلهم لآليات السلطة - كان تقديم أحد أقوى مزاعم ما بعد الحداثة تأثيرا؛ ألا وهو الزعم بأن تلك الخطابات تستلزم وتفرض وتقتضي (تشكل الاحتمالات المتعددة هنا أهمية هذا الزعم) نوعا محددا من «الهوية» لدى جميع الأفراد الخاضعين لتأثيره. حسب المصطلح ما بعد الحداثي، فإن أولئك «يشكلون التابعين». من المعروف بالطبع أن المؤسسات والخطابات التي تستخدمها تتطلب من المرء أن يكتسب شخصية من نوع محدد كي «يتلاءم» مع الوسط المحيط؛ فأي ممن درس في مدرسة، أو انضم إلى فريق رياضي أو مؤسسة عسكرية، أو أنجب طفلا في مستشفى - أو قرأ علاوة على ذلك بعضا من كتب علم الاجتماع الصادرة في خمسينيات القرن العشرين على غرار «إنسان التنظيم» - يعي إلى حد ما هذه النقطة. لكن رؤية ما بعد الحداثة اتسمت بتعقيد استثنائي؛ فنحن لا نكتفي في تلك الحالات ب «لعب أدوار»، بل إن هويتنا في حد ذاتها - أي مفهومنا عن ذواتنا - تصبح محل خلاف حال خضوعنا لتأثير خطابات السلطة. بالطبع، تمتد هذه الخطابات من تلك المهتمة مباشرة بقضايا الهوية (في مجالات الدين والعلاج النفسي بدءا من الفرويدية وانتهاء بعلم النفس الزائف) وصولا إلى تلك التي تلعب الدور نفسه على نحو أقل وضوحا، كما في حالة امرأة تتجاوب مع بطلة فيلم من إنتاج هوليوود الخاضعة للسيطرة الذكورية أو مع لوحات عارية في المتحف الخاضع للسيطرة الذكورية أو مراهق جالس أمام شاشة التليفزيون. جميع الخطابات تضع المرء في حجمه الصحيح. (إنني أستشهد هنا كالعادة بأمثلة عادية جذابة وبديهية على عكس الأمثلة المستترة المثقلة بالتنظير داخل حشد أدبيات ما بعد الحداثة الأكاديمية.)
يمضي نقاد ما بعد الحداثة قدما طارحين مزاعم سياسية حول طبيعة «التابع». من بينها أن خطابات السلطة المتنازعة، التي تنتشر عبر الأفراد وفيما بينهم، هي في الواقع ما يشكل الذات. ومن ثم من المستحيل على التابع أن «ينأى بنفسه» عن الظروف الاجتماعية الراهنة وأن يحكم عليها من وجهة نظر مستقلة وعقلانية، كما يزعم الفلاسفة الأخلاقيون المنتمون للاتجاه الكانطي الأنجلو أمريكي أمثال جون راولز وتوماس ناجل. على سبيل المثال، ينظر إلى أفكار الفرد الذكر وتعبيراته على أنها جزء من نمط خطابات أبوية فاسدة - تتنازع فيما بينها على أي حال - وهو مجرد ظاهرة ثانوية لها. وهذا يستبعد نظرة الذات الكانطية الموحدة لصالح التحديث ما بعد الحداثي للنموذج الفرويدي الذي يرى أن الأفراد ضحايا لصراع داخلي بين الأنظمة. تصف شيلا بن حبيب - الأستاذة بقسم الإدارة الحكومية في جامعة هارفارد - هذه الرؤية (مستخدمة كعادتها أسلوبا يمزج بين أسلوبي دريدا وفوكو عند التحدث عن اللغة):
حلت محل الفرد منظومة من البنى، والتناقضات، والاختلافات التي - كي تصبح مفهومة - لا يلزم اعتبارها نتاج ذاتية حية على الإطلاق. أنا وأنت لسنا سوى «مواقع» لخطابات السلطة المتنازعة تلك، و«الذات» ليست سوى موضع آخر في اللغة.
شيلا بن حبيب، «تحديد موضع الذات» (1992)
تتجلى آثار هذه الرؤية لطبيعة الفرد في كثير من نصوص ما بعد الحداثة الأدبية، التي تتناقض في هذا الإطار مع الاتجاه الليبرالي لكتابة الرواية الذي استمر في هذه الفترة على يد كتاب مثل أنجوس ويلسون وأيريس موردوخ وجون أبدايك وفيليب روث وسول بيلو. ترى الناقدة ومؤرخة ما بعد الحداثة ليندا هتشن أن روايات مثل رواية سلمان رشدي «أطفال منتصف الليل» تتحدى «زعم المذهب الإنساني بوجود ذات موحدة ووعي متكامل». إن الأدب ما بعد الحداثي:
يثير شكوكا حول تلك المجموعة الكاملة من المفاهيم المترابطة التي أصبحت متصلة بما أطلقنا عليه بأريحية الإنسانية الليبرالية مثل: الاستقلال الذاتي، والسمو، واليقين، والسيطرة، والوحدة، والشمولية، والنظام، والعولمة، والمركز، والاستمرارية، والغائية، والخاتمة، والهرمية، والتجانس، والتفرد، والمنشأ.
ليندا هتشن، «شعرية ما بعد الحداثة»، (1988)
ومن ثم، في كثير من الأدب الأمريكي الحديث:
تحول مركز الاهتمام من الحالة النفسية للشخصية (وهي محتوى يتعذر اختزاله؛ أي ظاهرة «إنسانية») إلى قصور مفهوم الشخصية، واعتبار الذاتية أثرا ناتجا عن خطابات متقاطعة ومتعددة تنتمي لأيديولوجيات متناقضة غير موحدة، ووليدة نظام ارتباطي يتضح في النهاية كونه نظام الخطاب في حد ذاته.
بيتر كاري، «الذوات العجيبة»، من كتاب مالكوم برادبوري ودي جيه بالمر «الأدب الأمريكي المعاصر» (1987)
أحد الأمثلة الكلاسيكية المهمة هي قصة العنوان في مجموعة جون بارث «تائه في بيت المرح» (1968)؛ حيث يصف الراوي - الذي يدعى أمبروز - صعوبة كتابة قصة تحمل عنوان «تائه في بيت المرح» تدور أحداثها حول شخصية تدعى أمبروز تضل طريقها في مدينة الملاهي. من المفترض أن الراوي سيزور مدينة أوشن سيتي مع أسرته في وقت ما أثناء الحرب الأخيرة، ويتضمن جزء من الرحلة زيارة الملاهي، لكنه شخصية يصورها كاتب يعي على الدوام حقيقة أنه «يروي قصة»، وأنه يستخدم الأعراف الأدبية في تلك العلمية، فيقول: «حتى الآن، لا يوجد حوار فعلي، ولا نجد سوى قدر ضئيل من التفاصيل الحسية، ولا شيء تقريبا يصلح كموضوع رئيسي.» أما أمبروز، فهو يؤدي وظيفة في قصة كاتبه ليس إلا، وهكذا «تصبح إحدى النهايات المحتملة أن يصادف أمبروز شخصا آخر تائها في الظلام.» ومن ثم، يجرد الكاتب القراء على الدوام من أي وهم حول استقلالية أمبروز كي ينظروا إليه (نظرة واقعية فعلية) على أنه نتاج قريحة من يكتبه، الذي يتصرف كذلك مثل كاتب نمطي يحاول على ما يبدو (كما تشير تعليقاته على وظيفة حروف الطباعة المائلة أو افتقار قصته إلى لحظة الذروة) تطبيق قواعد السرد الصحيحة التي تعلمها في مدرسة الكتابة.
إن ما ينطبق على شخصية في رواية ينطبق على الكتاب، فهم أيضا تشكلهم اللغة التي يعبرون عنها بالحديث (على سبيل المثال، لغة مدرسة الكتابة). وينطبق الأمر ذاته على القارئ - الذي ليس بحال أفضل من الكاتب - فهو أيضا «مشتت بين فجوات اللغة، واقع في شرك تنقل المعنى اللانهائي، ضائع وسطه في النهاية.» وفقا لهذه الرؤية لا يصبح «الإنسان»:
وحدة منسجمة أو كيانا مستقلا، بل عملية، وهو دوما قيد التكوين، ودوما متناقض، ودوما عرضة للتغيير.
كاثرين بيلزي، «الممارسة النقدية»، (1980)
لقطة ثابتة من فيلم بلا عنوان (1977)، لسيندي شيرمان.
لقطة ثابتة من فيلم بلا عنوان (1978)، لسيندي شيرمان.
شكل 3-1: سيندي شيرمان كما كان هيتشكوك سيراها أو أنتونيوني.
نجد كذلك المفهوم ما بعد الحداثي عن كون الهوية الإنسانية في الأصل كيانا خاضعا للتركيب في الفنون المرئية، كما في مجموعة صور سيندي شيرمان، التي حملت عنوان «لقطات ثابتة من فيلم بلا عنوان» (1977-1980)، والأعمال الشبيهة اللاحقة. في كل صورة تتقمص شيرمان شخصية ممثلة سينمائية، وتواري ذاتها تقريبا خلف ملابس مختلفة ومواقف مختلفة مفهومة ضمنيا، تعد مواقف نموذجية أو نمطية في الأفلام. في أثناء ذلك، نراها تتأقلم مع خطابات الفيلم السينمائي كي تقدم نفسها في صور فوتوغرافية ثابتة متقمصة شخصيات مختلفة ومتنوعة، لكنها جميعا تصورات (في الأغلب تهكمية أو ساخرة) للأنوثة، نراها في خطابات وسيلة من وسائل الإعلام الجماهيرية. بالطبع، تعرض الصور شكلا آخر من أشكال التمثيل ليس إلا، لكنها لا تعتمد على فيلم محدد، بل تطرح على نحو ممنهج أسئلة حول الأساليب التي تمكن شيرمان من الحفاظ على هوية ضمنية في تلك الأدوار المختلفة كلها أو العكس. وفي أثناء ذلك، تطرح الصور أيضا تساؤلات حول فكرة سيندي شيرمان «الحقيقية»؛ فأي من الصور قد تقنعنا بأننا نرى سيندي الحقيقية؟ صورة صريحة أم صادقة أم عاطفية أم حتى عارية؟ لكن كل صورة من تلك الصور ليست سوى نتيجة عرف آخر، وخطاب آخر.
يرى رولان بارت أن العمل الفني ما بعد الحداثي النموذجي يدرك تلك الاستراتيجيات والقيود المراوغة على الهوية والخطاب الإنساني؛ وذلك على وجه التحديد لأن هذا التلاعب والانقسام يسفر عن نتائج أخلاقية مرغوبة؛ فهو يتخلص خصوصا من ذلك المفهوم الكانطي حول وحدة الفرد الذي يمهد السبيل لتشكيل النظام الاجتماعي والتزمت الأخلاقي:
إن متعة النص لا تفضل أيديولوجية بعينها على أخرى. «مع ذلك» لا ينبع انعدام الارتباط هذا من ليبرالية بل من تحريف: فالنص منفصل عن قراءته. أما المهزوم والمنقسم فهي الوحدة الأخلاقية التي يتطلبها المجتمع من كل نتاج بشري.
رولان بارت، «متعة النص»، (1975)
يضرب بارت مثالا على مذهبه الغامض في أعمال «السيرة الذاتية» التي كتبها، لا سيما في تصوره المبتكر لذاته في كتابه «خطاب العاشق» (1977)؛ حيث يبرع النص في استخدام القواعد النحوية الفرنسية للحفاظ على غموض ميول البطل الجنسية (على غرار لغة شعر أودين العاطفي). كذلك تبدأ السيرة الذاتية «رولان بارت بقلم رولان بارت» (1975) بالعبارة القصيرة التالية: «لا بد من اعتبار هذا الكتاب كله كلاما على لسان شخصية في رواية.» وهكذا يضم الكتاب راويين، نستنتج أن الأول هو بارت (أو المؤلف)، أما الثاني فهو بارت بصفته شخصية روائية. كما قدم بارت مراجعة نقدية لكتابه، متقمصا في هذه الحالة شخصية الناقد.
إن تلك المناهج التفكيكية للوحدة الأخلاقية لدى الفرد التابع، والرغبة (التحررية الكلاسيكية) في مساعدة الذات على الهرب من بعض الحدود الأيديولوجية القمعية، التي تواجهها أو إعادة رسمها؛ هما مفهومان مختلفان تماما؛ فرغبتنا في الهرب من تلك الحدود (مثل تلك التي تمنح الأفراد هويتهم الجنسية)، أو إعادة رسمها، ترجع «بالفعل» إلى مفهوم الاستقلال أو الوحدة أو التكامل الأخلاقي الجديد الذي نستطيع تحقيقه بمجرد أن نتخلص من هذه الحدود التقييدية. يتضح هذا، على سبيل المثال، عند تشجيعنا على إدراك الهويات المختلفة والكاملة في الوقت ذاته للمثليين ومحبي الجنس الآخر (أو هويات الذكر والأنثى) من خلال رفض السقوط في الشرك الأيديولوجي الذي حلله دريدا، والذي كان يدفعنا إلى اعتبار إحدى تلك الهويات نسخة أدنى منزلة من الأخرى. إن ما تساعدنا نظرية ما بعد الحداثة على رؤيته هو أننا جميعا نخضع للتشكيل في ظل نطاق عريض من أوضاع التبعية، التي نتحرك عبرها بسهولة نسبية، وهكذا نصبح جميعا مزيجا من المواقف المتعلقة بالجنسانية والجنس والجيل والإقليم والعرق والطبقة.
يطرح الكثير من أتباع ما بعد الحداثة هذا التحليل المتشائم نسبيا على أمل تحررينا منه. وحالما أصبحنا واعين بالآثار الرهيبة التي تفرضها الخطابات المتناقضة علينا، فمن المتوقع أن نتمكن من إيجاد وسيلة ما للهرب منها.
سياسة الاختلاف
ربما لم يقدم أتباع ما بعد الحداثة وصفا مقنعا حقا لطبيعة الذات يماثل ما قد نجده في فلسفة أخلاقية مهتمة بالمسئولية، لكنهم يتبنون بنجاح ساحق نقاشات تحمل طابع فوكو كي يبرزوا كيف تستخدم خطابات السلطة في جميع المجتمعات بهدف «تهميش المجموعات التابعة»؛ إذ لا تكتفي تلك الخطابات السلطوية بالمساهمة في تفكيك الذات وإبعادها عن المركز، بل تعين كذلك على تهميش أولئك الأفراد غير المشاركين فيها. من جديد، نجد العديد من تلك الشخصيات المهمشة الغريبة الأطوار في الأدب ما بعد الحداثي، مثل كولهاوس واكر في رواية دوكتورو «راجتايم»، وفيفرز في رواية أنجيلا كارتر «ليالي في السيرك»، وسليم سيناي في رواية رشدي «أطفال بعد منتصف الليل». لا يتمتع سليم بأي أهمية اجتماعية كبيرة، رغم ذلك تعرض الرواية أزمة الهوية التي يعاني منها، «بالإضافة إلى علاقته التخاطرية السحرية مع أولئك الذين ولدوا أيضا مع لحظة استقلال الهند»، عرضا مجازيا بحيث يسير بالتوازي مع أزمة الأمة بأسرها. يخبرنا سليم فعليا بذلك قائلا: «لقد ارتبطت بالتاريخ ارتباطا حرفيا ومجازيا فعالا وسلبيا على حد سواء.» لكن الرواية تفكك تاريخ الهند السياسي كي توضح أن في مقدورنا النظر إلى ما هو هامشي على أنه مركزي، وبالطبع تتشتت شخصية سيناي (مثل القارئ الذي يتابع نصه) بين مجموعة متنوعة من الادعاءات المتجزأة المحيطة. لا تحاول الرواية عقلنة المنطق العاطفي الذي يحكم حياة الفرد (كما هي عادة الأدب الواقعي)، لكنها تستخدم أساليبها الواقعية السحرية لعرض الذات باعتبارها نتاج صراعات الحدث التاريخي وتناقضاته، حتى تصل إلى نقطة المبالغة العبثية، كالحال عندما يعلق سليم قائلا: «موت نهرو ... كذلك كان خطئي!» أما وجه سليم، فهو «خريطة الهند بأكملها»، لكنه يتحول مع نهاية الرواية إلى مجرد «قزم ضخم الرأس غير متوازن». (تدين الرواية بالكثير إلى رواية جونتر جراس «الطبلة الصفيح».)
ساعد الفكر ما بعد الحداثي - من خلال مهاجمة فكرة المركز النظري أو الأيديولوجية المهيمنة - في تدعيم سياسة الاختلاف؛ ففي ظل حالة ما بعد الحداثة، تراجعت السياسات الطبقية المنظمة المفضلة لدى الاشتراكيين أمام «سياسات هوية» أكثر تعددية وأكثر انتشارا بمراحل، وغالبا ما تتضمن التأكيد - النابع من وعي ذاتي - على الهوية المهمشة في مواجهة الخطاب السائد.
أحد الأمثلة - التي احتلت بلا شك موضعا مركزيا في سياسات الفترة منذ أواخر الستينيات من القرن العشرين - على ذلك هو العلاقة بين ما بعد الحداثة والحركة النسوية. يتمحور النقاش هنا حول كون النساء مستبعدات من النظام الأبوي الرمزي أو من الخطاب الذكوري السائد ، وأنهن بالتأكيد يعتبرن أدنى منزلة أو «يستبعدن كآخرين». فهن خاضعات ل «هرمية زائفة» حسب مفهوم دريدا من خلال نسب قيم ضعيفة إليهن في مقابل القيم القوية الممنوحة للذكور. وقد شهدنا جزءا من هذا النقاش في الجدل الدائر حول الحيوان المنوي والبويضة.
من ثم، يشترك جزء كبير من الفكر النسوي مع ما بعد الحداثة في الهجوم على الخطاب الأكبر المشرع الذي يستخدمه الذكور - والمعد كي يبقيهم في السلطة - بينما يسعى إلى تحقيق نوع من التمكين الفردي لمواجهة هذا الخطاب. لكني أتفق مع نقاد هذا الموقف - من أمثال شيلا بن حبيب - في ضرورة عدم النظر إلى المرأة التي تسعى خلف هذا التمكين الفردي باعتبارها تحتل «موضعا آخر في اللغة ليس إلا»؛ إذ إن رؤية ما بعد الحداثة حول هذه الذات «التي يؤسسها المجتمع» تتجاهل طريقة تكون الذات من خلال احتفاظ الفرد بادعاء أصلي ومتفرد غالبا حول ذاته أو ذاتها، وهو مصدر الإبداع لديه. إن هذا الدليل على نمو الفرد عبر التفاعل الاجتماعي يتجاهله منظرو الذات من أتباع منهج «التأسيس الاجتماعي». بالطبع، يمكننا تمييز القواعد المتعارف عليها وصور الامتثال إلى أنواع الخطاب التي أسسها المجتمع في السيرة الذاتية لأي فرد كان، لكن فيما يتعلق بسيرتنا الذاتية، نصبح نحن (مثل رولان بارت) المؤلف والشخصية في آن واحد. وبهذه الطريقة - رغم كوننا نتاج أنظمة خاضعة لعوامل خارجية - ما زال في وسعنا السعي خلف استقلال تحرري تقليدي. تحتاج النساء إلى هذا الإحساس بالاستقلالية تحديدا، على حد قول شيلا بن حبيب، التي تستنتج أن المواقف البنائية القوية المستقاة من فكر دريدا وفوكو ستؤدي في الواقع إلى «تقويض ... التعبير النظري عن مطامح النساء التحررية.» فعبر تقويض إحساس النساء بقوتهن الذاتية وبفرديتهن، ينكر أولئك المنظرون أي محاولة تبذلها النساء لإعادة تملك تاريخهن بالإضافة إلى إمكانية طرح نقد اجتماعي جذري. وعلاوة على ذلك، يطرح نفور اتجاهات ما بعد الحداثة من الالتزام بأي موقف فلسفي مثبت (وهو الذي سيخضع بعد ذلك للتفكيك على يد أحد أتباع دريدا البارعين) مشكلة جدية لدى النساء؛ ومن ثم، ربما يكون من الأفضل بالفعل لهن اتباع خطة عقلانية (تنويرية) تقوم على المساواة وتهدف إلى التحرر التدريجي، خلافا للمسار ما بعد الحداثي الذي غالبا ما ينتهي إلى نزعة انفصالية متطرفة. فعلى الرغم من أن نقاشات ما بعد الحداثة قد ساعدت الكثير على «تحديد» جذور اختلافهم عن الأغلبية - أو عن «من في السلطة» - فإن التحرك السياسي الفعال يتطلب ما هو أكثر من هذا التصور شبه الأولي عن هوية منشقة.
يتفق الليبراليون مع أتباع ما بعد الحداثة في إدراك الحاجة إلى القدرة على طرح تساؤلات حول «حدود» أدوارنا الاجتماعية وحول شرعية وهيمنة الأطر التصورية التي تقتضيها ضمنا، وقد حقق الاتجاه التفكيكي ما بعد الحداثي نجاحا استثنائيا في مقاومة الأيديولوجيات التقييدية باتباع هذا النهج. غالبا ما يحاول أتباع ما بعد الحداثة زعزعة الحدود التصورية لأفكارنا حول النوع الاجتماعي، والعرق، والميول الجنسية، والانتماء العرقي عبر إطار تفكيكي ومتجاوز، ويطرحون مطلبا تحرريا في جوهره يدعو إلى الاعتراف بالاختلاف وقبول «الآخر» داخل المجتمع. وفي ذلك العالم التعددي (متعدد الخطابات) لا يتوقع أن يحظى إطار ما بالقبول؛ فأينما يسود الاعتقاد باستحالة تحقيق الهيمنة المعرفية، تصبح المنافسة بين تلك الأطر التصورية قضية سياسية، وجزءا من التنافس على السلطة.
إذن فإن صورة «ذات ما بعد الحداثة» تختلف للغاية عن صورة الذات التي تقع في قلب الفكر الإنساني الليبرالي، والتي من المفترض كونها قادرة على التمتع بالاستقلالية والعقلانية والتمركز، وعلى التحرر بطريقة أو بأخرى من أي خصائص تتعلق بالنوع الاجتماعي أو العرق أو الثقافة. لقد ابتعد التحليل ما بعد الحداثي عن تلك الافتراضات الكانطية المتفائلة والقابلة للتطبيق الشامل كي ينظر إلى الذات بوصفها نتاجا لأنظمة اللغة، التي نتخبط جميعا - بدرجة أو بأخرى - في قبضتها، رغم أنها قد تهيمن بوضوح أشد على البروليتاريا والإناث والسود والخاضعين للاستعمار. إن التحول العام من التركيز الليبرالي على حرية إرادة الذات إلى التركيز - المستوحى من الفكر الماركسي - على حرية إرادة الآخر؛ ينطوي على أهمية فائقة؛ فهو تحد صارخ لآراء الفلسفة الأنجلو أمريكية ما بعد التنويرية الراسخة، يلفت النظر إلى اختلافات الهوية المتعذر تجاوزها بين الأفراد. وقد أدى ذلك - حسب الوصف المثير للجدل باعتراف الجميع في كتاب «ثقافة التذمر» لروبرت هيوز - إلى إنتاج ثقافة تشجع الكثير من الناس على اعتبار أنفسهم «ضحايا». وسنتناول هذه الثقافة تناولا أكثر تفصيلا في الجزء التالي.
ونتيجة لذلك، فعلى الرغم من أننا قد نعتبر الكثير من فكر وكتابات وفنون ما بعد الحداثة المرئية يطرح هجوما على التصنيفات النمطية ويدافع عن الاختلاف إلى آخره، فإنه ترك كل تلك المجموعات المنفصلة تطالب بالاعتراف بها ك «مجموعات حقيقية» لكن منعزلة، إثر تحررها - النظري أو عبر النظرية - من التصنيفات المهيمنة لدى الأغلبية. وقد جمع المستفيدون من هذا التحليل بين النزعة الانفصالية (إذ انعزلوا عن المعتقد التقليدي وأبدوا استياءهم منه) والنزعة المجتمعية (إذ توحدوا مع الآخرين الذين تعرفوا كذلك على هويتهم المنشقة). مع ذلك، كيف تستطيع تلك المجموعات المختلفة التعريف - الناتجة عن التحرر من التصنيفات - التواصل مع أي مركز سياسي قائم بالفعل؟ من الصعب تحقيق ذلك بالنظر إلى العدائية الدائمة شبه الفوضوية التي يبديها الكثير من أتباع ما بعد الحداثة حيال أي نظرية شاملة أو تصور متكامل للمجتمع.
تنطوي النتيجة على مفارقة، فالنظرة التشككية اليسارية حيال السلطة (التي تحمل طابع ليوتار) أتاحت الاعتراف بالاختلاف، في حين أن أكثر الناس دعما لترك المجموعات ذات التعريفات المختلفة في حالة انعزال - لتتنافس وتتصارع فيما بينها - هم أصحاب الفكر اليميني، المؤمنون بالحرية الفردية في ظل الحد الأدنى من سيطرة الدولة. وهكذا، فإن إحدى المشكلات التي تورط فيها الفكر الانتقادي ما بعد الحداثي حالما فرغ من عرض رؤيته النقدية تتعلق بتحديد نوع المجتمع المرغوب فيه، وذلك بمعزل عن الادعاءات الكبرى وعن الارتداد إلى أفكار تنويرية كانطية أو «تبسيطية». إن معتنقي الفكر الماركسي المثالي لن يهمهم كثيرا حقيقة غياب ذلك النموذج المقترح للمجتمع حاليا، لكن الأمر مهم قطعا بالنسبة إلى المفكرين ذوي الأهداف الدنيوية قصيرة المدى؛ ومن ثم، نجد أن الفكر ما بعد الحداثي قد حافظ على طابعه المعارض ، لكن ذلك كلفه كثيرا جدا في أغلب الأحيان. فحالما ترسخت كل تلك الاختلافات والهويات المتباينة أصبحت من ثم منعزلة عن أي أيديولوجية مركزية متسقة. وهكذا يبدو أن أتباع ما بعد الحداثة يدعون إلى «تعددية» لا يمكن اختزالها، منعزلة عن أي أطر اعتقادية موحدة قد تؤدي إلى نشاط سياسي مشترك، وهم دائمو التشكك في محاولة الآخرين فرض هيمنتهم. بذلك، تمكن أتباع ما بعد الحداثة من الانقلاب على المثل التنويرية التي تشكل أساس الأنظمة القانونية لدى معظم المجتمعات الديمقراطية الغربية، والتي هدفت إلى تقديم نماذج للمساوة والعدالة «قابلة للتطبيق عالميا». بالتأكيد، يميل أتباع ما بعد الحداثة إلى الزعم بأن العقل التنويري - الذي ادعى قدرته على بسط مثله الأخلاقية مثل الحرية والمساواة والأخوة لتشمل الجميع - هو «في الحقيقة» نظام يفرض سيطرة قمعية من النوع الذي وصفه فوكو، وأن العقل في حد ذاته - لا سيما حال تحالفه مع العلم والتكنولوجيا - يتسم بطابع استبدادي أولي.
يمكننا إلى حد ما فهم هذا الهجوم الذي يشنه أتباع ما بعد الحداثة على العقلانية، بقدر ما عبر عن الشك الذي طرحه عالم الاجتماع ماكس فايبر حيال العقلانية النفعية في المجتمعات الاستهلاكية التكنوقراطية وفي منهج «التحديث الرأسمالي». لكن شكوكية ما بعد الحداثة كانت موجهة كذلك إلى وسائل التواصل العقلاني في حد ذاتها؛ إذ أشار يورجين هابرماس - أحد أبلغ النقاد اليساريين - وغيره من النقاد إلى أن تبني الاتجاه ما بعد الحداثي والتخلي عن نموذج العقلانية الصريحة أو التوافقية - الذي يعتبره هابرماس العلاج الأمثل للاستغلال السياسي للسلطة - أمر غاية في الخطورة بالفعل؛ إذ يعتقد أن علينا السعي نحو «وضع الحوار المثالي»، وهو منهج تواصل لا تشوبه بقدر الإمكان تأثيرات السلطة - التي وضحها فوكو - ويتسم بالتوافق وبطابع من التضامن الاجتماعي الذي يبدي أتباع ما بعد الحداثة ارتيابا كبيرا نحوه.
يرى الكثيرون الموقف ما بعد الحداثي موقفا تعجيزيا، فمعتنقوه ليسوا سوى مجموعة من المؤمنين بالتعددية المعرفية لا يجمعهم موقف عام راسخ، وهكذا على الرغم من مدى ثوريتهم كنقاد، فإنهم لا يطرحون وجهة نظر خارجية ثابتة؛ ومن ثم ينحصر دورهم فعليا في إطار محافظ سلبي فيما يتعلق بالسياسات الجارية في الحياة الواقعية.
الفصل الرابع
ثقافة ما بعد الحداثة
تتسم العلاقة بين المناخ الفكري الموضح في الفصول السابقة وبين الإبداع الفني بالتعقيد. فكما هو متوقع، انجذب كثير ممن اعتبروا أعمالهم الفنية مبتكرة أو طليعية - لكن ليس جميعهم - إلى التحدي النقدي الجديد الذي تطرحه الموضوعات الرئيسية في الفكر ما بعد الحداثي. لكن علينا أن نضع نصب أعيننا أن المبدعين قد لا يحتاجون إلى فهم أكاديمي أو فلسفي عميق لتلك الموضوعات. وفي وسعهم كذلك استقاء «أفكارهم الجديدة» من الحوار والكتابات الصحفية التي غالبا ما تعرض تلك القضايا، والتي أحيانا ما يسيئون فهمها أو يستوعبونها على نحو ناقص أو مبالغ فيه. لكن تلك هي الطريقة التي تنتشر بها الأفكار المهمة - مثل الفيروسات - في المجتمع.
على العكس من ذلك، غالبا ما يرغب المفكرون والنقاد بعد الحداثيين في ضم الفنانين الطليعيين باعتبارهم نماذج على أهمية أفكارهم وتأثيرها. ومن غير المستغرب أن يرى ليوتار أن وظيفة الفنانين المعاصرين هي طرح تساؤلات حول دور رواية الحداثة الكبرى، التي استخدمت لشرعنة أشكال معينة من الأعمال الفنية، وطلب من الفنانين أن:
يطرحوا التساؤلات حول قواعد الرسم أو السرد التي تعلموها ممن سبقوهم. وسرعان ما ستبدو لهم تلك القواعد وسيلة للخداع والإغواء والطمأنة، وهكذا، من المستحيل أن يروها «حقيقية».
جان فرنسوا ليوتار، «شرح مبسط لما بعد الحداثة: مراسلات 1982-1985»، (1992)
شكل 4-1: «منزل الأحمق» (1962)، للفنان جاسبر جونز. (اللغة، والنظرية، والموضوع، والفن. هل هذه فرشاة رسم؟)
بالتأكيد، من الطبيعي أن يرى الكثير من معلقي ما بعد الحداثة (مثل أندرياس هويسن) أن الوظيفة «الحقيقية» للحركة الفنية الطليعية هي النقد بالمعنى ما بعد الحداثي؛ إذ ينبغي عليها أن تهاجم المؤسسات الفنية البرجوازية؛ ومن ثم تولي وجهها نحو المستقبل (ربما مستقبل أفضل). بالطبع، لا ينطبق هذا المفهوم بأي حال على جميع الحركات الطليعية في عصرنا أو قبله؛ إذ يطرح منهجا سياسيا لا يتضمن - على سبيل المثال - مفهوم المعماري تشارلز جنكس وزملائه عما بعد الحداثة (فهم يطرحون رؤية شديدة الغرابة لها مقارنة بما يطرحه هذا الكتاب)، وهو الذي يتضح في تأييدهم لارتداد محافظ لما يعترفون بكونه محاكاة ساخرة للواقعية الكلاسيكية الجديدة في مجالي الرسم والعمارة.
شكل 4-2: مكنسة هوفر الرباعية الانثناء الجديدة (1981-1986) للفنان جيف كونز. (أصبح الفن الراقي الذي يميز واجهات العرض المتحفي ينطبق على الأغراض الاستهلاكية العادية.)
وهكذا يتردد صدى المبادئ التي ناقشناها آنفا في فن ما بعد الحداثة بطرق متنوعة للغاية وغير مباشرة عادة، فهو يقاوم رواية الحداثة الكبرى، وسلطة الفن الرفيع التي تستقيها الحداثة نفسها من الماضي، وينشغل بلغته الخاصة. لا يهتم فن ما بعد الحداثة في أغلب الأحيان بالعلاقة بين الأنواع الفنية المصنفة سابقا كأنواع «رفيعة المستوى» أو «منخفضة المستوى» - كما يتضح، على سبيل المثال، في سيمفونيتي «انخفاض» (1992) و«أبطال» (1997) للملحن فيليب جلاس، المستوحاتين من ألبومات ديفيد بوي وبراين إينو الغنائية - وقد يبدو في كثير من الأحيان تافها أو شعبيا أو مبتذلا إلى حد كبير؛ فالتحالف مع الثقافة الشعبية - حسب رؤية ما بعد الحداثة - يتسم بطابع معارض معاد للنخبة وللتدرج الهرمي، ويبث الفوضى في السرد - كما نرى على سبيل المثال في رسومات إريك فيشل وديفيد سال الرمزية - لأن من السهل للغاية على السرد المتماسك أن يتحد برواية كبرى. (لذلك، فإن رسامين مثل أنسليم كيفير - ممن يكرسون أنفسهم لإضفاء طابع فخم على الأعمال الفنية من خلال ربطها «ربطا عميقا» بالتاريخ والأسطورة - هم أبعد ما يكونون عن اتجاه ما بعد الحداثة السائد.) يهتم جزء كبير من فن ما بعد الحداثة بأشكال الهوية والسلوك التي همشت حتى الآن. وهو ما نجده في الأعمال الفنية النسوية الجادة للفنانة ماري كيلي - التي وثقت علاقتها بطفلها الوليد في عمل بعنوان «وثيقة ما بعد الوضع» (1973-1979)، (وتكشف كلمة «وثيقة» هنا عن طبيعة العمل الفني باعتباره نصا ذا مغزى سياسي لا صورة مصممة شكليا كي تبعث متعة بصرية) - وكذلك في عروض المغنية مادونا على المسرح وكتابها «الجنس» (1992)، الذي طرح علاقة مختلفة تماما بمفهوم اللذة، وكان صادما للكثير من أتباع الحركة النسوية لما وصفه من الخضوع «المسرحي» للمؤلفة للممارسات السادية المازوخية باعتبارها «ضحية» للرجال.
يظهر هذا الموقف النقدي غالبا - كما سنرى لاحقا - في شكل معارضات ومحاكيات ساخرة، ومفارقات. ومن هنا، ينبع - على سبيل المثال - عمل جيف كونز الفني الهابط «مكنسة هوفر الكهربائية الجديدة ذات الغطاء القابل للطي» (1980) الذي لا يزيد في الواقع عن آلة تنظيف متوافرة في الأسواق، موضوعة فوق مصابيح فلورية في صندوق من الزجاج الصناعي. يقدم العمل محاكاة ساخرة للأغراض المصنوعة آليا التي عرضها الفنان دوشامب؛ لأنه بالتأكيد يعرض غرضا استهلاكيا «مرغوبا فيه» (لا مجرد مبولة أو عجلة دراجة). لكن الجاذبية الاقتصادية لهذا الغرض تختلط على نحو واسع بجاذبيته الجمالية الزائفة التي تضعها في موضع السخرية، بما أنه قد أصبح الآن «عملا فنيا» يعرض في متحف لا منتج معبأ في صندوق كرتوني جاهز للبيع. أما عمل جيف كونز الفني «مكنسة هوفر الرباعية الانثناء الجديدة»، فيضاعف هذا التأثير أربع مرات.
إن هدف الكثير من الأعمال المنتمية للفنون الطليعية لا يختلف في كثير من الأحيان عن الهدف الحداثي التقليدي - ألا وهو كسر الشعور بالألفة - لكن تحت مظلة نظرية معرفية ما بعد حداثية أكثر تطرفا. فالهدف - في عصر ما بعد دريدا وفوكو وبارت، ممن اكتسحت صيغ مشوشة متنوعة من أفكارهم تصريحات الفنانين منذ سبعينيات القرن العشرين - هو منع المستهلك بصفته تابعا من الشعور ب «الاطمئنان» في العالم؛ إذ سيؤدي ذلك إلى تكيف نفعي محافظ معه ليس إلا.
إن تعطيل أي شكل من أشكال الانجذاب نحو قبول عالم مألوف - بدلا من مواجهة السمات المزعجة للعالم وفقا لمنظور بارت - هو إحدى القضايا المحورية في أعمال والتر أبيش، لا سيما في روايته ما بعد الحداثية النموذجية «إلى أي مدى ينطبق على هذا وصف ألماني؟» (1980). في هذه الرواية، يقع كل من الراوي والنص الذي يصيغه ضحية لشكوك جوهرية - تتعلق بالحبكة، والعلاقات السببية، والموضوع الرئيسي، إلى آخره - وهي الشكوك التي ينقلها الكاتب بلا رحمة إلى القارئ عبر أسلوب تشككي متعجب. فلننظر - على سبيل المثال - إلى الفقرة التالية من قصته «الحديقة الإنجليزية» (التي تطورت منها رواية «إلى أي مدى ينطبق على هذا وصف ألماني؟»)؛ إذ تعج على نحو ماكر بالشراك المعرفية التي ناقشناها من قبل:
عندما يكون المرء في ألمانيا لكنه ليس ألمانيا فإنه يواجه مشكلة تحديد أهمية كل ما يقابله ومدى محاكياته للواقع إلى حد ما؛ فلا ينفك يسأل نفسه: إلى أي مدى ينطبق على هذا وصف ألماني؟ وهل هذا هو لون ألمانيا الحقيقي؟ عندما ينظر المرء إلى السماء، يوشك على تصديق أنها نفس السماء التي ظل الألمان يراقبونها بقلق خلال أعوام 1923 و1933 و1943؛ أي عندما لم يشتت انتباههم لون شيء آخر، شيء أكثر تشتيتا للانتباه على الأرجح. والآن السماء زرقاء. في اللغة الألمانية، أزرق يعني «بلاو»
Blau . لكن للأزرق درجات متعددة ... اختيارات متعددة لكل طفل ... في الفرنسية أزرق يعني «بلو»
bleu ، بينما نقول نحن أزرق.
والتر أبيش، «في صيغة المستقبل التام»، (1977)
إن التساؤل عن «مدى محاكاة كل شيء للواقع» لأمر غريب ومربك. هل يتوقع المرء أن تكون تجربته في بلد أجنبي «عموما» أكثر شبها بالفن لا بالحياة؛ ومن ثم تبدو بعيدة عن الواقع، وغير حقيقية؟ أم إننا لا نراها فنا بقدر ما نراها عبر التحيزات النمطية والسياسية المشئومة؟ يطرح أبيش أسئلة ملتوية مميزة، مثل «هل هذا هو لون ألمانيا الحقيقي؟» فذلك سؤال غريب؛ إذ هل يمكن وصف الألوان بكونها حقيقية؟ ففي الرسومات والصور الفوتوغرافية وكتب التلوين (كل الأشياء التي تشغل بال أبيش بدرجة كبيرة) قد تشبه الألوان الواقع أو تتفق معه، لكن ذلك لا يحدث إلا عندما تظهر في نسخة أو تقليد للعمل الأصلي فقط. وبالطبع، تظل المفارقة الكبرى هي أن اللون هو أحد الأشياء التي تستعصي على الوصف عبر نص أدبي، فوصفنا له لن يكفي.
يجعلنا أبيش ندرك عبر ذلك الأسلوب أننا نملأ الفجوات في النص بأحكامنا المسبقة (أو بمشاعر الذنب)، على سبيل المثال عندما يلمح أن الألمان ربما «شتت انتباههم لون شيء آخر.» أي لون يا ترى، لون الأزياء الموحدة الرمادية أو البنية؟ ومن خلال وضع عام 1923 (العادي ) بجوار عامي 1933 و1943، فإن النص يشير إلينا نحن، وكما يتضح في النهاية، ف «نحن» تشير إلى متحدثي الإنجليزية.
في هذه الفقرة - وفي الفصل الرائع الذي يتحدث عن شخصيتي جيزيلا وإيجون في رواية «إلى أي مدى ينطبق على هذا وصف ألماني؟» - أعتقد أن أبيش يلعب على جدل مألوف لدى بارت وغيره، ويحاول إيقاعنا في شرك فرض «قوالبنا النمطية» على جيزيلا وإيجون، بوصفهما يمثلان ما نعتبره «ألمانيا الجديدة». يتضمن النص عرضا ممتعا لصورة (نمطية) من خلال استخدام اللغة لوصف صور مرئية تظهر في مقال نشر في إحدى المجلات الترفيهية عن جيزيلا وإيجون:
يمكن اكتشاف المعنى، ظلال المعنى وطبقاته، في مكونات الصورة: البذلة الواسعة الانتشار المصنوعة من قماش الجبردين، والوشاح المزركش، والمنديل الحريري الأبيض الظاهر في جيب صدر السترة التي يرتديها، الكلب شناوتسر الألماني الذي يسيل لعابه، البنطلون الجلدي الأسود، الحذاء الطويل العالي الكعبين، شعر جيزيلا الأشقر المصفف للخلف، في تصفيفة تعكس نعومة وجاذبية جنسية حادة، وتبرز وجهها العظمي الجميل الشاحب، السيارة اللامعة وكراسيها الجلدية الحمراء، وأخيرا النوافذ الفرنسية المفتوحة جزئيا في الدور الأرضي التي تكشف لمحات رأسية من الحياة داخل المنزل؛ كل هذا يوضح الكفاءة الألمانية الجديدة ويعكس إحساسا بالرضا والاكتمال. الأمر واضح تماما ... إنها غريزة الجمع بين «الإتقان» و«التهديد» المتأصلة في الطبقة العليا والطبقة الوسطى العليا الألمانية.
والتر أبيش، «إلى أي مدى ينطبق على هذا وصف ألماني؟»، (1980)
وهكذا يتلاعب أبيش بالقارئ دافعا إياه إلى حالة من الارتياب المتشكك في النص، الذي يعتمد في سخريته على التعارض الذي نشعر به بين التصوير الجامد لما لا ينطبق عليه تماما وصف نمطي وبين مقاومتنا لهذا التصوير. يقدم أبيش ما يطلق عليه بارت «النص المثالي»:
نصا يفرض حالة من الضياع، نصا مزعجا (ربما إلى درجة الملل الأكيد)، نصا يزعزع افتراضات القارئ التاريخية، والثقافية، والنفسية ومدى اتساق أذواقه وقيمه وذكرياته أو ذكرياتها، ويخلق أزمة في علاقته أو علاقتها مع اللغة.
رونالد بارت، «متعة النص»، (1975)
رواية ما بعد الحداثة
كما يتضح في المثال المقتبس من رواية أبيش ، أدى الاتحاد الشديد الأهمية بين أفكار ما بعد الحداثة والثقافة الفنية - في أوروبا والولايات المتحدة - إلى نقد نسبي متشكك ومستمر لدعاوي محاكاة الواقع أو الواقعية في الفنون؛ إذ ساعدت شكوك ما بعد الحداثة الفلسفية حيال العلاقة الوصفية الدقيقة بين اللغة والعالم في ظهور نوع من الفن - بدءا من «الرواية الفرنسية الجديدة» وانتهاء بأدب الواقعية السحرية - يعتمد على خلق كل أشكال العلاقات الفوضوية المحفزة بين الواقع والخيال. وبناء على ذلك، يزعم برايان ماكهال أن الأسلوب «المهيمن» على أدب ما بعد الحداثة يتضمن شكا وجوديا حيال الطبيعة المتناقضة للعالم الذي يعرضه النص، ويشير إلى أعمال بيكيت وروب جريه وفوينتيس ونابوكوف وكوفر وبنشن لدعم وجهة نظره.
إن تقلب «العالم» الخيالي الذي نجد أنفسنا داخله وصعوبة إدراكنا له بأي طريقة موثوقة سمة جلية في الكثير من روايات ما بعد الحداثة، فكل شيء يقف حجر عثرة في سبيل تحقيق ذلك؛ بدءا من التناقض المنطقي البسيط في أعمال روب جريه، مرورا بجنون الارتياب المميز لأعمال بنشن، وانتهاء بروايات بارتلمي الخيالية الهزلية والقصص البوليسية المغلفة داخل قصص بوليسية أخرى كما في أعمال بول أوستر. ففي تلك الأعمال، تتناقض الحقائق البسيطة في عالم الرواية، وقد لا نجد مركزا إدراكيا يعتمد عليه، ويشتهر الراوي - مثل أويديبا ماس في رواية بنشن «مزاد على مجموعة الطوابع رقم 49» - في بعض الأحيان بارتباكه أو بجنونه؛ أي يعاني من تلك الحالة العقلية الغامضة التي تؤثر على عدد لا بأس به من أبطال ما بعد الحداثة.
كذلك تؤدي الشخصيات الدرامية - التي قد تجد طريقها إلى النص من التاريخ أو من أعمال أدبية أخرى كذلك - إلى ترسيخ حالة من اللايقين الوجودي؛ ومن ثم نجد الرئيس ريتشارد نيكسون يحاول إغراء الجاسوسة السوفييتية إثيل روزينبرج في الليلة التي تسبق إعدامها في رواية كوفر «الحرق في ميدان عام» (1977)؛ وفي رواية «راجتايم» (1975) ينطلق فرويد ويونج في رحلة عبر نفق الحب في مدينة ملاه أمريكية؛ بينما في قصة «المسيح يعظ هينلي ريجاتا» من مجموعة جاي دافينبورت القصصية «أناشيد الرعاة» (1981)، يقف كل من بيرتي ووستر (شخصية خيالية تنتمي لروايات الكاتب البريطاني بي جي ودهاوس)، والشاعر الفرنسي مالارميه، والرسام راءول دوفي (الذي أتي كي يرسم الأحداث وتكاد تدهسه سيارة من طراز جاجوار إكس كيه إي) جنبا إلى جنب على ضفة النهر.
تعكس أعمال ما بعد الحداثة المماثلة تناقضا شديدا مع الأعمال الأدبية الحداثية، بما فيها الأعمال الأشد تعقيدا التي تتبع أسلوب فوكنر أو جويس وتكاد تراعي دوما «قواعد اللعب النظيف» فيما يتعلق بعلاقة النص بعالم ممكن (تاريخيا)؛ بحيث يتمكن القارئ المثقف في جميع الأحوال تقريبا من إعادة تشكيل حل للغز أو استخدام سجل زمني متسق قائم على السبب والنتيجة استخداما ذكيا. لكن تلك بالضبط هي السمات التي يراعي أدب ما بعد الحداثة تفكيكها؛ فمن خلال عرض مواجهة بين عالم النص وعالمنا، يحقق أدب ما بعد الحداثة انتصارا تشككيا مقلقا على إحساسنا بالواقع؛ ومن ثم على ادعاءات التاريخ المقبولة. وقد أدى ذلك إلى ظهور عدد من الأعمال الفنية التي تنتمي إلى نوع «القص الماورائي التأريخي» ما بعد الحداثي. يمزج هذا النوع الأدبي بين الموضوعات الخيالية والتاريخية، ويلمح ضمنيا أو يصرح بنقد ما بعد حداثي للقواعد الواقعية التي تحكم علاقة الأدب بالتاريخ، كما عرضنا لدى هايدن وايت وغيره في السابق.
أحد أشهر تلك الأعمال التي تتلاعب بمفهوم التاريخ كرواية وما يتصل به من مفارقات ترتبط بالماضي؛ هي رواية جون فاولز «عشيقة الملازم الفرنسي» (1969)، وهي قصة حب تدور أحداثها حول شاب مؤمن بالمبادئ الداروينية يدعى تشارلز، وخطيبته التقليدية إرينستينا، وامرأة شابة تجذب انتباه البطل تدعى سارة وودروف. لا تتضمن الرواية تعقيبا ساخرا من «المؤلف» على الأحداث المصورة فحسب (فالمؤلف يعرف داروين لكن بطله ما زال في بدايات اكتشاف التطور، ويدرك المؤلف كذلك أن بطلته لديها إيمان أولي بالفلسفة الوجودية، لكنها لا تدرك ذلك بالطبع؛ إذ تلجأ في النهاية إلى بيت الرسام روزيتي في منطقة تشيلسي هربا من حبكة فاولز)، بل تضم كذلك كشفا متعمدا لمناورات المؤلف؛ إذ يعرض تعليقا ما بعد حداثي على العصر الفيكتوري - يتضمن على سبيل المثال الاتجاهات الفيكتورية حيال الجنس - وعلى حبكة روايته التي تضاهي حبكات الروايات الفيكتورية - لا سيما روايات توماس هاردي - أو تعرض محاكاة ساخرة لها.
هذه القصة التي أرويها كلها من وحي الخيال. تلك الشخصيات التي ابتدعتها لم توجد قط خارج عقلي. إذا كنت قد تظاهرت حتى الآن أنني على علم بما يدور في عقول شخصياتي وبأعمق أفكارهم، فذلك يرجع إلى أني أكتب (بنفس الطريقة التي استوليت بها على بعض الكلمات وانتحلت طريقة للسرد) وفقا للأسلوب السائد عالميا في زمن قصتي الذي يضع الروائي في مرتبة تجاور مرتبة الإله، ومع أنه قد لا يتمتع بمعرفة كلية، فإنه يحاول التظاهر بذلك. لكني أعيش في عصر آلان روب جريه رولان بارت؛ ومن ثم إذا كان ما أكتبه رواية فمن المستحيل أن تتفق مع مفهوم الرواية الحديثة.
إذن ربما أكتب الآن سيرة ذاتية في شكل رواية، ربما أعيش الآن في منزل من المنازل التي استخدمتها في الأحداث الخيالية، ربما كان تشارلز هو أنا متنكرا. ربما كان الأمر كله لعبة. يوجد في الحياة نساء عصريات مثل سارة، لكني لم أفهمهن قط. أو ربما أحاول تقديم كتاب يضم مجموعة من المقالات متنكر في شكل رواية.
جون فاولز، «عشيقة الملازم الفرنسي»، (1969)
يؤدي هذا الأسلوب إجمالا إلى شتى أنواع المفارقات الجادة التي تنبع من الشخصيات التي تظن أنها حرة بينما نراها نحن في ضوء معرفتنا السابقة خاضعة إلى حد كبير لوجهات النظر (وبالطبع إلى الخطابات) السائدة في عصرها. تعكس الرواية قدرا كبيرا من الوعي الذاتي والانعكاسية والنسبية والشكوكية يلبي رغبات أي قارئ ما بعد حداثي؛ ففي وسعنا كقراء أن نتوحد مع الشخصيات ونتعاطف معها (كما يحدث عادة في الروايات الواقعية)، وفي الوقت نفسه نرى الشخصيات من الخارج ونحكم عليها (من وجهة نظر معاصرة ساخرة غير ملائمة). وفي نهاية الرواية، يطرح «المؤلف» - ناظرا إلى بطله الجالس في عربة قطار - على القارئ نهايتين مختلفتين.
أما المشهد الافتتاحي في رواية جوليان بارنيز «تاريخ العالم في عشرة فصول ونصف فصل» (1989)، فيقدم وصفا لسفينة نوح على لسان حشرة من نوع قمل الخشب (فصيلة «أنوبيوم دوميستيكوم») لديها معرفة واسعة على ما يبدو بالتاريخ الحديث. من منظور الحشرة، فإن السفينة أشبه بالسجن وقصتها الإنجيلية ليست سوى أسطورة. ومن ثم، تقدم الرواية قصة تشككية ساخرة تدور أحداثها حول قصة أخرى، تروى من قاع السفينة: «لم نكن ندري شيئا عن الخلفية السياسية للأحداث. كان غضب الله على مخلوقاته خبرا جديدا بالنسبة إلينا، لقد زج بنا في المسألة دون إرادة منا.» وهو أمر يتفهمه الكثيرون. يدفعنا أسلوب الرواية - بينما تتفاعل قصصها البالغ عددها عشر قصص ونصف قصة بعضها مع بعض - إلى مواصلة البحث عن أحداث تتشابه (على نحو ساخر) مع التاريخ السياسي الحديث (إذ تصور الكثير من الأحداث صعود مجموعات مهمشة اجتماعيا إلى متن سفينة تتعرض للغرق أو للهجوم). ورغم أن الحشرة في الرواية لا تقبل أي «رواية رسمية» للأحداث، فإنها تعتقد أن «سفر التكوين» يضطهد الثعابين، وأن النموذج الذي يتبعه نموذجا داروينيا على أي حال، فالخطة التي وضعها الله لجمع الحيوانات على السفينة لم تكن فعالة على الإطلاق، فقد نسي - على سبيل المثال - حقيقة أن بعض الحيوانات بطيئة الحركة بعض الشيء:
على سبيل المثال، كان ثمة حيوان كسلان يتمتع بهدوء غير مسبوق - كان مخلوقا رائعا بشهادتي الشخصية - ما إن نزل إلى قاعدة الشجرة التي يسكنها حتى جرفته أمواج الانتقام الإلهي العظيمة، فلم تبق له أثرا على وجه البسيطة. بم تسمي ذلك، انتقاء طبيعيا؟ عن نفسي، أعتبره نقصا في الكفاءة الاحترافية.
إن قملة الخشب تمثل العامل، وهي صوت المقهورين الذي ينتقد الرؤساء وخطابهم المهيمن وظواهر أخرى كثيرة في هذا الكتاب المذهل في إبداعه. فنوح وعائلته لا يمانعون تناول الأنواع الحية الغريبة على سطح هذا «المقهى العائم» (أو «سفينة الفضاء التي تدعى الأرض»). وسرعان ما تبدو السفينة أشبه - على الأرجح - بمعسكر اعتقال؛ حيث يكن سام إعجابا ب «فكرة نقاء الأعراق». يتداخل كل من الإنجيل والأسطورة والتاريخ والعلم ومجالات أخرى كثيرة في مسارات تهكمية ساخرة غير مرتبة زمنيا ضمن ما يبدو لنا هجوما شديدا على الإنجيل أو الأسطورة أو السياسة، حال اعتبر أي منها تفسيرات أيديولوجية. تتسم بقية الفصول في الرواية بنفس درجة التعقيد وتطرح ملخصا بارعا لآراء ما بعد الحداثة حول التاريخ، لكن (كما في أعمال أبيش) دون إضفاء هيبة «النظرية» عليها بالطبع.
إن الأعمال المماثلة لذلك:
لا تلمح فحسب إلى أن كتابة التاريخ لا تختلف عن كتابة الروايات - حيث ترتب الأحداث ترتيبا خياليا كي تكون نموذجا للعالم - بل إن التاريخ في حد ذاته يمتلئ مثل الأدب بحبكات مترابطة تتفاعل على ما يبدو بمعزل عن التخطيط البشري.
باتريشيا ووه (1984)، «القص الماورائي»
في هذه الحالات، يسمح الكتاب للسرد الخيالي - حسب مبادئ الشكوكية الفلسفية التي لخصناها سابقا - بفرض سيطرته؛ لأنه يؤمن بأن التاريخ - كما عرضنا سابقا - مجرد قصة أخرى خاضعة لرغباتنا وتحيزاتنا النمطية، وتشكل حتما - على يد بارنيز متقمصا شخصية قملة الخشب أو فاولز لاعبا دور المؤلف/النبيل الفيكتوري - وفقا لقوالب الحبكات الخيالية السائدة داخل المجتمع المنبثقة عنه.
ليس من المستغرب إذن أن تحمل الرواية قدرا غير متكافئ من عبء الانتماء إلى فكر «ما بعد الحداثة»، بما أن «خطاباتها» المعتادة حتى الآن - فيما يخص علاقة المؤلف بالنص، وما تتسم به من عملية خلق ليبرالية أو «فردية برجوازية» لشخصيات موحدة، وعلاقتها بالحقيقة التاريخية - تجعلها عرضة لنقد ما بعد الحداثة في الكثير من أجزائها. فقد انتقلنا من الحرفية والتحكم في الشكل الروائي، واحترام الاستقلالية والفردية، وادعاءات القدرة التفسيرية التاريخية التي تميز الرواية الحداثية - ويتجلى جميعها على سبيل المثال في كتابات جويس عن مدينة دبلن أو كتابات فوكنر عن الجنوب الأمريكي - إلى وصف هزلي مفكك ومراوغ، يتسم بالوعي الذاتي، ويتعمد تقديم وصف زائف في كثير من الأحيان لشخصيات قد توجد على عدة مستويات في آن واحد، بحيث تفتقد أي شكل من أشكال الاتساق النفسي المعقول. لا تحاول رواية ما بعد الحداثة خلق وهم واقعي مؤكد، بل تفتح أبوابها لشتى أنواع الحيل الخادعة؛ كالتلاعب السردي، والقوالب النمطية، والتفسيرات المتعددة بكل ما تستدعيه من التناقض وعدم الاتساق اللذين يشغلان مكانة رئيسية في فكر ما بعد الحداثة. إن التنظير الداخلي في تلك الروايات واستعدادها لكشف أساليبها الشكلية للقارئ هي سمات ما بعد حداثية نموذجية لا نجدها في الرواية فحسب، بل أيضا في الأفلام، مثل اقتباس جودار لأسلوب بريخت من خلال إقحام لافتات إرشادية أو نص داخل الفيلم، وكذلك في الفنون المرئية التي غالبا ما كانت «تتمحور حول ذاتها» في هذه الحقبة.
موسيقى ما بعد الحداثة
لا يفرد هذا الكتاب الكثير من صفحاته للموسيقى، وهو ما يرجع جزئيا إلى تخلي الكثير من المؤلفين الموسيقيين بالفعل - قبل الحقبة التي نتناولها بزمن طويل - عن الأعراف السابقة الشبيهة بما هاجمته حركة ما بعد الحداثة؛ إذ نبذوا - على سبيل المثال - الترتيب السردي اللحني التقليدي في العمل الموسيقي، ونزعوا كذلك إلى رفض تأثير المفكرين السابقين (المهيمنين) ممن سعوا إلى تنظيم المقطوعة الموسيقية تنظيما كليا؛ بدءا من شونبرج وأسلوب الاثنتي عشرة نغمة، وانتهاء بأسلوب المجموعات المنظمة كليا الذي نادى به بوليز وغيره في فترة الستينيات من القرن العشرين. فلم يعد الالتزام بتلك الأساليب الشكلية الحداثية يسيطر على الاهتمام. بالطبع، نزع الكثير من المؤلفين الموسيقيين قبل ذلك إلى ترك المواصفات النظرية، التي تميز الأساليب الجذابة، تملي أوامرها على أعمالهم. لكن مع أواخر الستينيات، تخلى الكثير من المؤلفين الموسيقيين عن حلم التنظيم الدقيق نظريا للنغمات، وتبنوا نطاقا كاملا من الاستراتيجيات التي تتوافق مع تعددية فكر ما بعد الحداثة، حتى وإن لم تكن مصدر إلهام كبيرا لهم.
رغم ذلك، توجد بعض الألحان التي تتشابه تشابها كبيرا إلى حد ما مع غيرها من أعمال ما بعد الحداثة الفنية، أو تلك الأعمال التي تأثرت بها. على سبيل المثال، توظف الحركة الثانية من مقطوعة «سيمفونية» (1968) للمؤلف الموسيقي لوتشيانو بيريو الادعاء الأكبر المتمثل في الجزء المحوري من اللحن الموسيقي المرح في سيمفونية مالر الثانية - الذي يتحكم تقريبا في الحركة الإيقاعية للسيمفونية - لكنها تحلله أو تفككه بعد ذلك في أجزائها التالية. بالإضافة إلى ذلك، جمع بيريو اقتباسات من شتى أنواع المصادر الموسيقية - أجزاء من ألحان باخ وشونبرج وديبوسي («مقطوعة البحر»)، ورافيل («رقصة الفالس») وغيرها - فيما يشبه كولاجا ساخرا يعج بالتداخل النصي، ثم مزج ذلك مع أداء لسطور مقتبسة من رواية بيكيت «اللامسمى»، وشعارات من «أحداث مايو 1968» في فرنسا، واقتباسات من ليفي شتراوس ومارتن لوثر كينج وغيرهما. (وقد أضاف فيما بعد حركة خامسة إلى السيمفونية بهدف تقديم تعليق فوقي ما بعد حداثي نموذجي يتسم بالوعي الذاتي على الحركات السابقة.) وفي وسع المرء الجزم بأن مقطوعته «الأنشودة 1» (1972) تجسد تيار الوعي لدى مغنية الأوبرا التي تنشدها كما تنشد الملاحم؛ إذ تعج بأجزاء متناثرة من مجموعة الأدوار التي أدتها على المسرح؛ مما يوضح أن ذاتيتها قد شيدت أو «شكلت» جزئيا على يد المجتمع من خلال النصوص الموسيقية التي تتردد في عقلها.
نلاحظ كذلك هذا الكولاج الانتقائي المتناص من الاقتباسات - الذي يذكرنا من خلال افتقاره للتسلسل المنطقي بالكثير من لوحات ما بعد الحداثة (مثل أعمال سال أو شنوبل) - في أعمال ألفريد شنيتكه وتورو تاكيميتسو (كما نجد في مقطوعته «اقتباسات من حلم» المتأثرة بأسلوب ديبوسي) والكثير غيرهم. تعكس فنون الكولاج المتعدد الأساليب لدى شنيتكه استخداما لا مباليا للمصادر الموسيقية «الراقية» و«المبتذلة»؛ ومن ثم يتضمن عمله الموسيقي «الكونشيرتو الكبير رقم 1» (1977) - حسب وصف مقدمة المقطوعة الموسيقية - «صيغا وأشكالا من موسيقى الباروك، وكروماتية حرة، وفواصل مفرطة الصغر، إلى جانب موسيقى رائجة مبتذلة تقتحم المقطوعة وكأنها قادمة من خارجها محدثة تأثيرا هداما.»
لكن معظم الإنتاج الموسيقي في هذه الفترة يضم أعمالا تدين بالفضل - على نحو معقد - إلى الماضي، أو تتنافس معه مباشرة، أو تتبع أسلوبا تعدديا يهدف إلى دمج الأساليب المتاحة، لكن هذا يعكس رغم ذلك الطابع المستقل تماما الذي يميز الموسيقى الكلاسيكية التقليدية، كما نجد - على سبيل المثال - في مقطوعة ليجيتي الرائعة «كونشيرتو الكمان» (1990 / 1992). لقد قدم المؤلفون الموسيقيون المعاصرون إبداعا رائعا في مجال ابتكار لغات جديدة (مثل استخدام ليجيتي المتتابعات الإيقاعية المتعددة الأوزان البالغة التعقيد، واستغلال النشاز الناتج عن النغمات التوافقية الطبيعية وغيرها من الأساليب ). إن السبب الرئيسي في بعد هذا النوع من الموسيقى التجريبية الأصيلة عن مفهوم ما بعد الحداثة يكمن في صعوبة تأليف موسيقى دون أن تؤدي الكلمات دور النص أو تنقل تلك الرسائل المفاهيمية المتناقضة الحاسمة التي نجدها في الأشكال الأخرى من فن ما بعد الحداثة. أما استثناءات هذه القاعدة - مثل مقطوعة البيانو الصامتة الشهيرة للمؤلف الموسيقي كاديج، التي تحمل عنوان «4 دقائق و33 ثانية» (1952) - فهي تثبتها ليس إلا، ولم تستمر طويلا في قاعات الحفلات وحل محلها الفن الأدائي في المعارض الفنية. فمن الصعب للغاية أن تولد الموسيقى وحدها أي نوع من التأثير السياسي إلا من خلال جدلية الارتباط المجازي الشديدة الالتباس لدى المستمع، كما يتضح في المجادلات العقيمة حول وجود تعبيرات ساخرة معادية لستالين في سيمفونيات شوستاكوفيتش.
إن الأوبرا والموسيقى الغنائية هي المجالات التي قد نتوقع اقترابها نسبيا من التزامات ما بعد الحداثة، لكن حتى هنا نلاحظ على ما يبدو إخلاصا لعالم مستقر نسبيا ووجوديا يتسم بالترابط المنطقي، كما يتضح - على سبيل المثال - في أوبرا «يوناني» (1988) للموسيقار تيرنيدج، أو «قناع أورفيوس» (1973-1983) للموسيقار بيرتويسل، أو «أحمر خدود» (1994-1995) للموسيقار أديس، أو «نيكسون في الصين» (1987) للموسيقار آدامز. تختلف تلك الأمثلة اختلافا كبيرا عن النصوص السردية الخيالية التي عرضناها سابقا. يستثنى من هذا الاتجاه أوبرا «أينشتاين على الشاطئ» (1976) للمؤلف الموسيقي فيليب جلاس - وهي عمل مشترك مع الفنان التبسيطي روبرت ويلسون - وتخلو من أي شكل من أشكال السرد المترابط منطقيا. تتوافق المبادئ السياسية داخل الكثير من المؤلفات الموسيقية في هذه الحقبة مع التصورات اليسارية لما بعد الحداثة، كما نجد - على سبيل المثال - في أعمال المؤلفين نونو وهينزي، لكن لا يبدو عموما أن أيا من المؤلفين الموسيقيين الكبار قد احتاج إلى تبني أي من التعهدات التي يتجلى انتماؤها لنظرية ما بعد الحداثة. إن أقصى ما يستطيع المرء قوله هو أن المؤلفين الموسيقيين - مثل أتباع ما بعد الحداثة - كانوا مهووسين غالبا بطبيعة اللغة ووظيفتها، وما تحتويه من تفكك واستغلال للتناقضات النغمية-الحرة، وبنى خفية تتحكم فيها الأعراف تحكما كليا ، وبطرق استخدام هذه اللغة لتفكيك الأنماط والعمليات السابقة.
لكن هذه الأمثلة تجمعها علاقة فضفاضة بالتفكيكية حسب مفهومها في نظرية ما بعد الحداثة؛ ففي وسع المرء أن يزعم (كما فعل الكثيرون) أن المدرسة التكعيبية «فككت» المدرسة الانطباعية وما بعد الانطباعية. لكن هذه العبارة ليست سوى مقارنة ولا تدعي أي معرفة بالنيات التاريخية لدى بيكاسو وبراك. لم ينشغل سوى عدد قليل من المؤلفين الموسيقيين في هذه الحقبة بمعايرة من سبقوهم ب «تناقضاتهم الداخلية». وحتى بيير بوليز - الذي ندد بالماضي قبل ذلك في عبارته «لقد مات شونبرج» - يقود حاليا أوركسترا فيينا الموسيقية مقدما ألحان بروكنر. وعلى أقل تقدير، تجنبت الكثير من المؤلفات الموسيقية منذ عام 1970 - لا سيما من خلال استعدادها الاستثنائي لمزج أساليب المؤلفين الموسيقيين الشباب - بعضا من المعارك الجدلية التي سادت في الماضي، والتي وضعت شونبرج في مواجهة سترافينسكي، والموسيقى التسلسلية النظرية في مواجهة الموسيقى العفوية في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. وفي هذا الصدد، فإنها تدين بالكثير إلى مناخ الأفكار الذي خلقته حركة ما بعد الحداثة.
الفن والنظرية
كما حاولت أن أوضح، فإن الاتحاد بين الفن والنظرية هو الدليل الأبرز على تأثير ما بعد الحداثة، وهو ما يطور - في هذا السياق - الخط النظري («العلم»، القاعدة الفنية أو «القانون») الذي يتمتع بالفعل بتأثير كبير ويوجد في أجزاء من الحداثة العليا، كما نلاحظ في مدرسة باوهاوس الفنية، وموسيقى الاثنتي عشرة نغمة، وأعمال المعماري لو كوربوزييه، وحتى في الحركة السريالية وإن كان على نحو أقل دقة وأقل التزاما بالأسس العلمية بمراحل. قدمت نظرية ما بعد الحداثة فيضا من الأعمال الفنية التي يتمتع مبدعوها ونقادها بوعي ذاتي عميق حيال علاقتهم باللغة عموما، وبلغات الفن المقبولة في السابق تحديدا. ومع نشأة ما بعد الحداثة الأكاديمية والتأثير المتزايد للمواقف السياسية في فترة الستينيات من القرن العشرين (ظهر كلاهما، في الواقع، بعدما أرست الحركة الطليعية التجريبية في فترة ما بعد الحرب العديد من الأساليب الجديدة في مجالات الفنون)؛ أبدى كثير من الفنانين تركيزا ملحوظا على موقفهم النظري والسياسي، وطالبوا القارئ والمشاهد بأن يعي لغة معرفة ما بعد الحداثة، التي كثيرا ما دعت الحاجة إليها كي تضيف الأعمال الفنية البسيطة والمملة غالبا، وتكملها وتخلع عليها هالة نقدية زائفة، مثلما رأينا في كومة الطوب التي بدأنا بها الكتاب.
إن الكثير من الأعمال الحداثية كان يهدف إلى بلوغ نوع من الاستقلال الواضح (على سبيل المثال، كل ما تحتاجه لفهم مجموعة قصائد «الرباعيات الأربع» على وجه التحديد للشاعر تي إس إليوت هو الانكباب على معانيها الداخلية ... والتمتع بأكبر قدر ممكن من المعرفة «الحياتية»، بما في ذلك المعرفة باللاهوت والتاريخ)، لكن أعمال ما بعد الحداثة لا تكتمل دون المناقشات النقدية التي يفترض أن تحيط بها. ويعتبر هذا «الانعكاس الذاتي التصوري» في أغلب الأحيان علامة على الانتماء إلى فكر ما بعد الحداثة؛ إذ يرى بعد الحداثيين أن الإبداع الفني يستلزم قدرا كبيرا من الوعي الذاتي النقدي يتجاوز مدرسة الحداثة (وهو الرأي الذي أدى - رغم ذلك - إلى بدايات هذا التزاوج المنذر بكارثة بين الفن والنخبوية الأكاديمية). ومن ثم، يتواطأ كل من الفنان والناقد من أجل المطالبة بالعلاقة «السليمة» بين العمل والفكرة، كما يعرضها الفنان، وكما يستجيب لها الجمهور.
شكل 4-3: لوحة «سفينة إس إس أمستردام أمام مدينة روتردام»، (1966) للفنان مالكوم مورلي. (أهي مجرد سفينة كبيرة، أم تعبير عن طبيعة الفن؟)
المذهب التصوري
نستطيع الآن أن ندرك تأثير تلك الأفكار إذا ضربنا مثلا عليها، وهو تفسير بول كراوزر ما بعد الحداثي النموذجي للوحة مالكوم مورلي الزيتية العملاقة التي تصور بطاقة بريدية تحمل صورة السفينة إس إس أمستردام أمام مدينة روتردام (1966).
شكل 4-4: لوحة «فندق هولاند» للرسام ريتشارد إستيس. (هل يؤدي جمال اللوحة الشكلي الذي يتجاوز الحدود إلى اعتبارها عملا حداثيا منتكسا؟)
اختار مورلي بطاقة بريدية، ثم عكسها وعرضها على شاشة، وغطى صورتها بشبكة ثم نقلها مقلوبة بمقياس رسم كبير للغاية يضم حتى الهوامش البيضاء للبطاقة البريدية. يزعم كراوزر أن هذا العمل «فوق الواقعي» هو «ممارسة نقدية تلقي الضوء على الفن باعتباره نشاطا «ثقافيا رفيعا» وتخيب تلك التوقعات واضعة إياها في موضع الشك .» (تخيب اللوحة بالفعل أي توقعات بتعقيد فني رفيع المستوى.) فهي «تخاطب ... الخطاب المشرع الذي يبرر الفن وفقا له على أنه سبيل للرقي والتقدم.» أي إنها تثير بعض الشكوك التي تحمل طابع فوكو، رغم أن المقصد الحقيقي من فعل «المخاطبة» هنا يظل غامضا، كما هو الحال في معظم استخدامات ما بعد الحداثة لهذا المصطلح. إن «الرقي والتقدم» هما بالتأكيد من الأنواع «الخاطئة» من القيم التي ينبغي توقعها في هذا السياق. لكن ذلك النقد قد يظل واهيا رغم ذلك، فلا أحد سيعتقد على أي حال أن سفينة مورلي تدعم قيم الرقي والتقدم. يواصل كراوزر نقده مضيفا: «في حالة مورلي، يبدو البعد النقدي وكأنه مرسوم داخل اللوحة إذا جاز التعبير.» لكن عبارة «إذا جاز التعبير» الماكرة هنا تخفي نوعا من الاستحالة: فمن الواضح أن ما يطرح «النقد» في الواقع هو «تعليق الناقد» لا اللوحة ذاتها. ثم يمضي زاعما أن «ما [نجده في هذه اللوحة] ليس نوعا من «نقيض الفن» الخارجي، بقدر ما هو نوع من الفن الذي يستوعب داخله معضلات وضعه الثقافي الاجتماعي ويبديها للعيان.» ويضيف كراوزر أن أعمال فنانين مثل أودري فلاك وتشاك كلوز ودواين هانسون تعكس بعدا مماثلا، لكن أعمال الواقعية التصورية لفنانين مثل جون سالت وريتشارد إستيس، التي تتشابه ظاهريا مع هذه الأعمال، ليست سوى «أعمال فنية مبدعة» و«تكوينات مبهرة جماليا»؛ أي إنه يعني - على ما يبدو - أن هذين الفنانين ينتجان لوحات ممتعة بأسلوب تقليدي نوعا ما (وكانت بالفعل كذلك نظرا لمزاياها وبراعتها الشكلية العظيمة).
يزعم كراوزر أن تركيز هذين الفنانين على تلك السمات أدى - على نحو يدعو للأسى - إلى «إعادة مصادرة أعمال مورلي وغيره من المجددين ضمن الخطاب المشرع» الذي يحيط بتلك القيم. ويستهجن كراوزر «محاكاتهما المبهرجة للواقع» و«جاذبيتهما التسويقية الساحقة»، ومن ثم انجذابهما نحو «التحيزات التقليدية»؛ ومن ثم، فإن عمل إستيس في محاكياته لشكل الصور الفوتوغرافية لا يحقق سوى «إشباع الطلب على الابتكار والتوجهات اللاتقليدية غير المتوقعة الذي خلفته الحداثة»؛ إذ ينظر إلى تقدير السمات «الجمالية » أو «الفنية البارعة» على أنه نشاط رجعي من الناحية السياسية؛ لأنه يتيح لنا الدفاع عن «متعة» جمالية حداثية إلى حد ما في التركيب الشكلي الذي يرفضه كراوزر بوضوح. بالطبع، يهاجم كراوزر - مثل كثير من أتباع ما بعد الحداثة - الفنانين عندما تعكس أعمالهم تلك السمات الحداثية، التي لا تتصف ب «التقدمية»؛ لأنها لا تنتقد «الخطابات المشرعة» مثل خطابات الحداثة. لكن ماذا عن «الخطاب المشرع» الذي يتبناه كراوزر نفسه؟ هل من الممكن أن نفسر أعمال إستيس على أنها نقد تقدمي لهذا الخطاب؟ لكن أعمال أولئك الفنانين لا تضيع في الواقع وقتا كبيرا في نقد أشكال الفن الأخرى صراحة أو ضمنا.
وهكذا، يرى كراوزر أن مورلي «فنان يلعب دورا محوريا في استيعاب التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة»، فهو (وينضم إليه في ذلك - على نحو مثير للدهشة - الرسام والنحات كيفير) يتمتع بالفضائل المعادية للحداثة؛ ألا وهي ابتكار «شكل جديد من أشكال الفن»، و«تجسيد شكل من الشكوكية حيال إمكانية تقديم فن راق.» من ثم، «ومن خلال استيعاب هذه الشكوكية داخليا وتحويلها إلى فكرة رئيسية داخل الممارسة الفنية، تضفي النزعة فوق الواقعية «النقدية» على الفن بعدا «تفكيكيا»»؛ ومن ثم، يصنف هذا الفن دون شك ضمن فنون ما بعد الحداثة، ويستند هذا الحكم إلى «طبيعته المتشككة».
إن أولئك الذين قدموا فنا تصوريا اعتبروا بلا جدال الحماة المخلصين لمعتقد ما بعد الحداثة التنظيري، رغم أن فكرهم غالبا ما يعوزه الإتقان حسب المعايير العقلانية الطبيعية، ورغم أن «النظرية» قد تحرم الفنان في كثير من الأحيان من سعة الخيال وتمنعه من إبداء إيحاءات مجازية. في وسع المرء تقييم تلك الأعمال الفنية بسرعة نسبية، لكن لن يسعه الهرب (بسرعة كبيرة) من الهراء النظري الذي يوظفه الناقد الراغب في إعطاء «ثقل» لهذا العمل وإضفاء أهمية عليه. إن لوحة مورلي تنسب إلى فكر ما بعد الحداثة، وساعدت بالتأكيد في إثارة هذا النوع من الفكر من واقع ما لديها من وعي ذاتي بنظرية الفن؛ فليس المهم العمل في حد ذاته، بل العمليات التصورية التي تكمن وراءه. ففي أثناء ذلك، ابتعد العمل عن الأنشطة المعتادة لدى المؤسسات الفنية، التي من بينها أنشطة بيع المعروضات. على سبيل المثال، كان معرض روبرت باري في صالة عرض آرت آند بروجيكت في أمستردام عام 1969 خاليا من المعروضات، واقتصر المعرض على لافتة وضعها الفنان على مدخل الصالة كتب عليها: «المعرض مغلق طوال مدة العرض!»
إحدى النتائج المترتبة على هذا الفن التصوري هي فقدان الإحساس بالتعقيد الفني؛ إذ غالبا ما نبذ أولئك الفنانون الوصف التفصيلي الثري الناتج عن المحاكاة التقليدية، بالإضافة إلى العلاقات الشكلية الجذابة المميزة للفن الحداثي. وقد يؤدي هذا الاتجاه المعادي للحداثة إلى ضحالة متعمدة، كما في الكثير من الأعمال الفنية التبسيطية، في الموسيقى والرسم كذلك.
يزعم مايكل فريد أن عملا تبسيطيا حرفيا مجردا لا يمكن أن يثير اهتمام المشاهد إلا في حالة عرضه عرضا مسرحيا في صالة عرض فني؛ وهو ما يؤدي إلى مقارنته بالنموذج الحداثي، الذي يتضمن استغراق المشاهد في التكوين الشكلي والتعقيد الذي يتسم به العمل، وهي مقارنة ليست لصالحه بكل تأكيد؛ فأحد النموذجين يتطلب تفاعلا، بينما يتطلب الآخر تأملا للعلاقات الداخلية. يرى فريد أن الفنانين التبسيطين ليسوا سوى فنانين حرفيين يعتمدون على وعينا الذاتي كمشاهدين بعناصر العمل الفني، بينما في الأسلوب الداخلي الحداثي، ننسى أنفسنا مع استغراقنا في العمل الفني؛ ومن ثم يقع هذا «الأداء المسرحي» على طرف النقيض من الحداثة. باختصار فج، نحن نستمتع باستكشاف العلاقات الداخلية في عمل نحتي للفنان أنتوني كارو، لكن عملا للفنان روبرت موريس عبارة عن كومة من اللباد لا يتيح مثل هذه الفرصة، بل «يطرح أسئلة متشككة» عوضا عن ذلك.
شكل 4-5: «صباح باكر» (1962) لأنتوني كارو. (يثير العمل متعة تأملية ناتجة عن تعقيده الشكلي واكتفائه الذاتي، ولا يطرح أي أسئلة.)
ألهم المذهب التصوري لدى أوائل الفنانين المتبنين لها مثل موريس وأندريه الكثير من تطورات ما بعد الحداثة اللاحقة، التي غالبا ما جمعت بين الطابع التصوري والتبسيطي من أجل «طرح أسئلة متشككة» عبر أعمال فنية بسيطة حقا. أحد الأمثلة على ذلك هو معرض الفنان مايكل كريج مارتن عام 1973؛ حيث عرض كوب ماء على رف مرآة حمام من النوع المعتاد، على ارتفاع تسعة أقدام على الحائط، وأطلق عليه اسم «شجرة بلوط». لم تضم صالة العرض سوى هذا العمل، بينما أعطي الزائرون استبيانا مكتوبا لا يحمل اسما يتضمن النص التالي:
س:
لقد أطلقت ببساطة على كوب الماء هذا اسم شجرة بلوط، أليس كذلك؟
ج:
بالطبع لا، إنه لم يعد كوبا من الماء بعد الآن. لقد غيرت مادته الفعلية، ولم يعد وصف كوب الماء وصفا دقيقا الآن. يمكنك وصفه بأي وصف تحب، لكن ذلك لن يغير من حقيقة أنه شجرة بلوط ...
شكل 4-6: «شجرة بلوط» (1973) للفنان مايكل كريج مارتن. («أحيانا ما يكون السيجار مجرد سيجار» (قول منسوب إلى سيجموند فرويد).)
إذا كنت قد فهمت مجرد جزء صغير جدا من النظرية التي يناقشها هذا الكتاب، فربما تستوعب بعضا من النقاط التافهة للغاية التي تحيط باعتباطية التسمية، وبوظيفة المعرض الفني، وبمزحة ارتفاع الرف، بل قد تشعر أيضا بالقليل من الرهبة المنبعثة من مفهوم القربان المقدس في اللاهوت الكاثوليكي (الذي استوحى منه الفنان هذا العمل). كلها نقاط ضحلة، تتسم بوعي ذاتي بالغ وبطابع ثقافي ظاهري، وتتمحور حول المظهر الخارجي، إلى جانب كونها «تطرح أسئلة متشككة»، وذلك هو كل ما في الأمر! ففي النهاية، ومن منظور الخمسة والعشرين عاما الأخيرة وما بعدها، هو مجرد كوب لا يعتمد - كما يزعم فريد - إلا على عرضه المسرحي داخل مؤسسة المعارض الفنية وعلى استعداد مؤرخي الفن أمثالي إلى الإشارة إليه في كتاب كهذا، حتى وإن كان بوصفه مثالا بشعا ليس إلا. لكنه ليس مثالا منفردا على الإطلاق، بل يجسد بأغبى طريقة ممكنة الانتشار غير العادي لنزعة ما بعد الحداثة، التي تؤمن بأن تلميحا إلى «النظرية» مع القليل من «التشكك» يكفي لإنتاج عمل فني، متدني الأهمية بالفعل. يرى جودفري - الذي اقتبست منه الاستبيان وصاحب كتاب «الفن التصوري» - أنه «تركيب نقي، وبسيط، وأنيق»، لكنه بالكاد تركيب نقي وبسيط وأنيق على طريقة نحاتين مثل آرتشيبنكو أو برانكوشي أو ديفيد سميث، أو أي عدد من النحاتين الحداثيين، لكنه من ناحية أخرى (عودة إلى مفهوم الأداء المسرحي لدى فريد) ليس تمثالا بالمعنى الحرفي للكلمة، رغم أنه قد يشبه التمثال، بل هو «تركيب» مثل الرفوف سهلة التركيب في حمام أي منا.
برزت كذلك النزعة التبسيطية في الموسيقى كرد فعل تجاه الحداثة (لكنها أنتجت أعمالا فنية أفضل بكثير). يتشابه التبسيط هنا مع نظيره في الفنون المرئية باعتباره رد فعل ضد التعقيد الشكلي وتصريحا بأن الهوس (التكعيبي، المتبني أسلوب الاثنتي عشرة نغمة) بتطوير لغة الفن أصبح سمة تخص القيم النخبوية السائدة في الماضي، ويؤدي إلى تغريب تلك الجماهير التي يتوق بعد الحداثيين إلى مخاطبتها. إن الموسيقى التبسيطية التي قدمها كل من رايلي ورايش وجلاس ونايمان وفيتكين - والتطورات اللاحقة التي أدخلها جون آدامز ومايكل تورك على هذا الأسلوب - تجعل الحد الفاصل بين الموسيقى الرفيعة المستوى والموسيقى المبتذلة بلا معنى. تعتمد هذه الموسيقى عادة على أنماط إيقاعية متكررة تخلو من تعقيدات اللغة والتطوير النغمي المرتبط بالموسيقى الحداثية المتأخرة لدى المؤلفين الموسيقيين خلال فترة الخمسينيات أمثال بوليز وهينزي وشتوكهاوزن. بالتأكيد رأى الكثيرون في المجال الموسيقي أن الموسيقى التبسيطية أتفه وأبسط من أن تؤخذ بجدية؛ فقد اعتمدت نماذجها الأولى اعتمادا كبيرا على التكرار الذي يأسر المستمع أو يحفزه على التأمل (لا سيما في أعمال رايش المتأثرة بموسيقى الزن البوذية)، وغالبا ما اتسمت عناصرها الرئيسية بالبساطة الشديدة وبالبعد عن الأصالة (إذ كانت تتبنى منهج التناص فحسب)، وتميزت بإيقاع ثابت، ورغم تعقدها الإيقاعي البالغ كانت على ما يبدو ينقصها الإحساس الشخصي.
لكن مقطوعات مثل «تطبيل» (1971) و«موسيقى لثمانية عشر موسيقيا» (1974-1976) لرايش، وأوبرا «نيكسون في الصين» (1987) لآدامز، ومقطوعته الأوركسترالية «هارمونيلير» (1985)؛ غيرت هذا. تعكس المقطوعة الأخيرة مثالا رائعا على المزج بين الأسلوب التبسيطي وشكلا ذا طابع ما بعد حداثي من أسلوب «العودة إلى الماضي». يتضح هذا المزج في الإشارة إلى فاجنر في الحركة الثانية من المقطوعة، التي تحمل عنوان «جرح أمفورتاس ». يتسم هذا الأسلوب بتعبير شعري يوظف نغمات من خارج السلم الموسيقي المستخدم في المقطوعة، يذكرنا بأسلوب شونبرج، ويتمتع بتأثير عاطفي هائل (تلك إحدى السمات المتعددة التي أدخلها آدامز على الموسيقى التبسيطية). بالتأكيد، تستطيع أعمال آدامز الموسيقية البدء من أسس بسيطة في جوهرها، ثم التطور إلى تكوينات ممتعة ذات تعقيد هائل تستغل الأساليب البلاغية التقليدية في الموسيقى - لا سيما أسلوبي الستريتو والتصاعد الموسيقي - من أجل إثارة حماس الجمهور. يطبق آدامز ذلك تطبيقا صارخا لا معقوليا في مقطوعته «موسيقى البيانولا العظيمة» (1981-1982)، التي تتضمن كل هذا المزيج غير المتعالي والمفتقر إلى الوعي الذاتي ما بين الموسيقى الرفيعة المستوى والموسيقى المبتذلة، الذي في وسع انتقائية ما بعد الحداثة الأسلوبية تحمله، لا سيما عندما يقدم في هذا العمل جزءا يطلق عليه اسم «اللحن»، وهو لحن مبتذل يدفعه مؤلفه أكثر فأكثر نحو ذروات من التصاعد الموسيقي الجانح المبالغ فيه. وفي الوقت نفسه، تتداخل في المقطوعة «بمرح جنوني» مجموعة من الصيغ الموسيقية المبتذلة التي لا تربطها أي علاقة ببعضها ك «المارشات المدوية، وألحان البيانو التتابعية البطولية (أربيجو) التي تحمل طابع بيتهوفن، والتآلفات الموسيقية الكنسية الصوفية.» يصف آدامز مقطوعته - كما اقتبس عنه روبرت شفارتس الذي أستشهد به هنا - قائلا:
بينما أكتب هذا المقطوعة تعلمت آلات البيانو وصفارات الإنذار الأنثوية بأصواتها التي تشبه هديل الحمام، وأبواق قصر فاهالا النحاسية، والطبول النحاسية القارعة، والثالوث المسيحي، بالإضافة إلى عدد لا يحصى من النغمات المنخفضة؛ التخلي عن صراعاتها والتعايش بعضها مع بعض.
كيه روبرت شفارتس، «الفنانون التبسيطيون» (1996)
إنها عمل فني مضحك مثل أي عمل آخر ذكر في هذا الكتاب.
المابعدية والنضوب الثقافي
لذا طالبت العديد من أساليب فن ما بعد الحداثة الابتكارية - من خلال الفنانين والمؤسسة النقدية - بتفسيرات تعتمد على تلك المفاهيم النظرية البارزة مثل الانعكاسية، التي تنبع من وعي الفنان الذاتي بالمنهج والأيديولوجية الفنية، الذي يتضمن تحويل العمل إلى نقد موجه إلى القيود المسيطرة سابقا على النوع الفني، ومن ثم إلى القيود السياسية كذلك، حسبما يرى نقاد ما بعد الحداثة. أحد الأمثلة الممتازة على الوعي بهذه العلاقة «المابعدية» مع الحداثة نجده في عمل جيف وول الذي قدمه عام 1979 بعنوان «صورة للنساء»، ويعرض محاكاة بارعة للمنظور غير المباشر في لوحة مانيه «حانة في فولي برجير». يظهر وول في الصورة - بينما يمسك في إحدى يديه زر الكاميرا - محدقا في انعكاس في المرآة لفتاة تتخذ نفس وضع ساقية البار في لوحة مانيه. لا يؤدي هذا فحسب إلى تولد علاقة معقدة وجذابة بين الشخصيتين في الصورة، بل يطرح كذلك تنويعا شديد الذكاء على مراوغة «النظرة الذكورية» حسب تحليل النقاد النسويين في هذه الفترة.
شكل 4-7: «صورة للنساء»، (1979) لجيف وول. (من ينظر إلى من، وبأية زاوية، ولماذا؟)
علاوة على ذلك، أدى هذا الوعي الذاتي الهائل إلى فكرة أن فنان ما بعد الحداثة المرئي يأتي بالفعل «بعد» الحداثة، نظرا إلى عبء التاريخ الماضي (فضلا عن تعهداته السياسية والأخلاقية النازعة إلى التقليد التي أصبحت موضع شبهة حاليا) والمعتقدات الجديدة المرتبطة بالتناص التي ناقشناها سابقا؛ إذ كتب على أعماله أن تصبح تكرارا (أو «إعادة كتابة» أو «اقتباسا») مثل أعمال الكتاب، فهي حتما نسيج متناص من الاقتباسات والاستعارات من الماضي، تشير إلى أعمال أخرى لا إلى أي واقع خارجي. ومن ثم، أصبحت المفاهيم الطليعية النموذجية التي اتسمت بقدر كبير من الفردية وتمتعت بالتقدير في السابق عرضة للهجوم. فكثير من فن ما بعد الحداثة المرئي يبدو سهل التكرار ويتسم بالسطحية والافتقار المتعمد إلى العمق، وهو ما يتضح سريعا إذا قارنا - مثلما فعل جيمسون - لوحة أندي وارهول «أحذية بلمعان الماس» بلوحة «حذاء الفلاح» لفان جوخ التي تعكس (من منظور هايدجر) معرفة عميقة وكاشفة بالعالم الذي تنتمي إليه. يرى الكثير أن عمل ما بعد الحداثة الفني هو في جميع الأحوال عمل هجين، ومختلط أسلوبيا، ويدين للأعمال السابقة نظرا لمحاكاته لها.
أحد ردود الفعل تجاه ذلك كانت التأكيد صراحة على الافتقار إلى الأصالة؛ إذ طور دوجلاس كريمب بحلول عام 1980 نظرية عن تصوير ما بعد الحداثة الفوتوغرافي استنادا إلى أعمال سيندي شيرمان وشيري ليفين وريتشارد برنس ، ممن نالوا المديح على:
إظهار التصوير الفوتوغرافي دوما باعتباره «إعادة» تقديم لشيء شوهد دائما من قبل. إن صورهم مختلسة ومصادرة ومستولى عليها و«مسروقة». وفي أعمالهم، لا يمكن تحديد الأصل، فهو مؤجل دوما، وحتى الذات التي قد تولد عملا أصليا تعرض كنسخة في حد ذاتها.
دوجلاس كريمب، «نشاط ما بعد الحداثة التصويري الفوتوغرافي»، في 15 أكتوبر (1980)
في هذا السياق، قدمت شيري ليفين نسخا تصويرية من الصور الفنية الشهيرة للفنانين الذكور السابقين، مثل إدوارد ويستون، وبهذه الطريقة «استولت على» أعمالهم بهدف «تحدي عبادة الأصالة»، حسب تعبيرات ليندا هتشن؛ إذ توضع «وجهة النظر الذكورية القانونية» في «موضع التساؤل المتشكك» من خلال «إعادة» إنتاجها أو إعادة تشكليها إذا جاز التعبير داخل الخطاب الفني الأنثوي. ترى روزاليند كراوس أن ليفين تطرح من خلال ذلك تساؤلات «جذرية» عن «مفهوم العمل الفني الأصلي، ومن ثم مفهوم الأصالة»، وذلك عن طريق «خرق حقوق الطبع والنشر» و«قرصنة» صور ووكر إيفانز للمزارعين المستأجرين وصور إدوارد ويستون لابنه نيل (التي تزعم كراوس أنها ترجع على أي حال - في سياق التناص - إلى تماثيل الشباب العراة اليونانية). وهكذا، تنجح أعمال ليفين في «التفكيك العلني لمفاهيم العمل الأصلي»، و«تعمل حاليا على تجنب فرضيات الحداثة الرئيسية، وتصفيتها من خلال فضح وضعها الزائف» (كتب هذا الكلام عام 1981). تعتقد كراوس أن «فعل» الإلغاء والتصفية الذي مارسته ليفين لا بد من «وضعه» ضمن «خطاب نسخ» ما بعد حداثي نموذجي، وهو كلام آخر محير ومضلل؛ فتلك الصور لا يمكن اعتبارها «أصيلة» إلا بين النسخ الزائفة الرديئة، وهي في أعين غير المتحيزين إلى النظرية مجرد نسخ مهترئة ومزعجة بعض الشيء من أعمال فنية أفضل. لكن كراوس تزيح الشبهات الأخلاقية المحيطة بتلك العلاقة بين الفنانين جانبا وتطمئننا من خلال إقرار وجهة نظر بارت، التي تزعم أن جميع أشكال الفن ليست سوى عمليات نسخ على أي حال. فقد أخبرنا بارت أنه حتى الفن الواقعي الدقيق ليس سوى نسخ للنسخ:
إن فعل الوصف ... لا ينطلق من اللغة إلى المشار إليه، بل ينطلق من رمز إلى آخر ؛ ومن ثم، فالواقعية ليست نقلا لما هو حقيقي، بل نسخا لنسخة (موصوفة) ... إذ تنسخ (الواقعية) ما هو منسوخ بالفعل عبر محاكاة إضافية.
رولان بارت، إس/زد، (1974)
يزداد وضوح الدافع السياسي وراء هذه النظرة عندما يقال لنا إن:
أعمال ليفين قد تعتبر كذلك هجوما جذريا على مفاهيم الاقتناء والتملك الرأسمالية، وكذلك على الدمج الأبوي بين التأليف وإقرار الذكورة المكتفية ذاتيا.
ستيفن كونور، «ثقافة ما بعد الحداثة»، (1989)
لكن ما الداعي لاستخدام كلمة «جذريا» هنا؟ فتعبيرات مثل «مجازيا» أو «فلسفيا زائفا» أو «ذا عمق مصطنع» قد تقدم أوصافا أفضل.
لقد ساعد الهجوم على الأصالة، إلى جانب الميل إلى اعتبار الفن شكلا من أشكال إعادة التقديم لأشياء موجودة بالفعل - ضمن خطاب يعيد تصنيع نفسه - على تدعيم فكرة أولئك المتشككين فيما بعد الحداثة عن كون الفن المرتبط بها يحمل طابعا مبالغا فيه من «المابعدية» المطلقة. ألا يحتمل أن ما يتسم به من تناص هو دليل على النضوب الثقافي الناتج عن الفشل في مواجهة التحدي الطليعي الذي يتطلب تقديم عمل مختلف اختلافا إبداعيا في أعقاب ملحمة الحداثة التجريبية؟ أم لعله يرجع إلى إخفاق سياسي وأخلاقي في الاهتمام بما هو حقيقي في المجتمع؟
عمارة ما بعد الحداثة
يمكننا على الأرجح ملاحظة هذا النوع من الاقتباس المختلط في أوضح صوره من خلال العلاقة بين عمارة ما بعد الحداثة والعمارة الحداثية ذات الطابع البطولي السابق لها؛ فإحدى السمات التي تميز معظم أعمال ما بعد الحداثة هي طابعها الهجين المقتبس عن غيرها، وهو ما يتضح بدرجة كبيرة في الكتاب العظيم التأثير «التعلم من فيجاس» (1972) لروبرت فينتوري، وزوجته دينيس سكوت براون، وستيفن آيزيناور، الذي يمتدح الطراز المعماري لمدينة لاس فيجاس وشارع الفنادق بها؛ نظرا لتعدد مستوياتهما، واستخدامهما للمواد الشائعة، وعدم مبالاتهما بمفهوم الوحدة. يتأمل فينتوري تجربة الفرجة على الشارع أثناء القيادة؛ حيث «لا بد أن تعمل العين المتحركة داخل الجسم أثناء تحركه على التقاط مجموعة متنوعة من الطرز المعمارية المتغيرة والمتجاورة وتفسيرها.» كذلك يزعم المعماري جينكس - في كتابه ذي التأثير المماثل «لغة معمار ما بعد الحداثة» (1977) - أنه لا بد من السماح «للرموز» في المباني (يستخدم جينكس لغة علم الرموز) بالدخول في صراع تهكمي بين «المعاني المزدوجة» على نحو يشبه إلى حد ما موسيقى جون آدامز التي ناقشناها سابقا.
شكل 4-8: جناح سينسبري في المعرض الوطني بلندن (1991)، تصميم فينتوري، مؤسسة سكوت براون آند أسوشيتس. (مبنى جديد، يحاكي أساليب معمارية أقدم. أهي محاكاة ساخرة؟)
تنعكس معظم تلك السمات في تصميم براون وفينتوري لجناح سينسبري (1991) التابع للمعرض الوطني في لندن؛ حيث أشار المهندسان المعماريان ضمنيا إلى الأعمدة الجدارية المزخرفة في المبنى الرئيسي، من خلال تجميع تلك الأعمدة في ركن مبنى الجناح ثم زيادة المسافة بينها، وهو ما علقت عليه ديان جيراردو قائلة:
على الرغم من سيطرة العناصر الكلاسيكية، فإنهما يكسران قواعد الأسلوب الكلاسيكي بطرق متعددة السمات، وذلك على سبيل المثال من خلال التعامل الأسلوبي مع الأعمدة الجدارية المزخرفة، أو فتحات المداخل والنوافذ، وأرصفة التحميل غير الكلاسيكية على الإطلاق والمقتطعة من ارتفاع المبنى على نحو يشبه أبواب الكراجات؛ مما يضعف الشعور بالتأثير الكلاسيكي ويناقض المنطق المعماري الذي يبرز جليا في نواح أخرى. فكل تفصيلة كلاسيكية أو عنصر وافر التكرار يقابله عنصر آخر يضعف الأسس الكلاسيكية أو يناقضها؛ إذ يرى فينتوري وسكوت براون أن التنوع الاجتماعي والثقافي المعاصر يستدعي معمارا غامضا وزاخرا بالتفاصيل لا واضحا ونقيا.
ديان جيراردو، «فن عمارة ما بعد الحداثة» (1996)
شكل 4-9: مسرح أبراكساس، تصميم ريكاردو بوفيل. (قد تشعر بالضآلة في نسخة ما بعد الحداثة هذه لقصر فيرساي. إنه تصميم يناسب الملوك، أليس كذلك؟)
يؤمن المعماريون أمثال فينتوري بأن لغة المعمار الحداثي، التي تبني الشكل على أساس الوظيفة، هي لغة شديدة التزمت؛ ومن ثم يجب عليها إفساح المجال أمام ما ينتجه التباين والتناقض من حراك وإثارة لا شك فيها. إن عملا من هذا الطراز يفكك ذاته بسهولة.
رغم ذلك، قد تتحول تلك التأثيرات المزدوجة المعنى من مزج محفز ومرض في النهاية بين التقنيات الأسلوبية - كما نرى في المعرض الوطني وفي معرض ولاية شتوتجارت الجديد الذي صممه ستيرلينج - إلى ابتذال رخيص أقل تعقيدا بمراحل. وذلك رأيي على أي حال في تصميمات مثل مجمع «مساحات أبراكساس» السكني، للمعماري ريكاردو بوفيل الذي يحاكي الطراز المعماري الكلاسيكي، مقدما ما يطلق عليه «قصر فيرساي شعبي» في مدينة مارن لا فاليه (1978-1982).
البناء بأكمله يحمل طابعا متكلفا ومتضخما إلى حد بالغ التنافر والغرابة؛ فالواجهات التي يكاد يغلب عليها الطابع السيريالي - بأعمدتها المهيبة - تخفي وراءها مجمعات سكنية حديثة تثقل عاتقها الزخارف الباروكية الخرسانية. يعكس المبنى طرازا معماريا ضخما وفاشيا يحاكي أساليب معمارية أخرى، ومن المدهش (أو ربما من المتوقع) أن الكثير من أعمال بوفيل قد راقت للسلطات المحلية في فرنسا. تتجلى الثنائيات الضدية بحق في هذا النموذج، لكن الإطار الإنساني وراحة الإنسان وكرامته لا تلقى هنا سوى أقل عناية كما كان حالها في النموذج النقيض؛ أي في التصميمات الحداثية المتقشفة والأقل قيمة للمعماري لو كوربوزييه.
الخطاب والسلطة
شهدت فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين تسييسا متزايدا لحركة ما بعد الحداثة الطليعية؛ فمعظم الفنانين كان لديهم تصور ما عن العلاقة بين الخطاب والسلطة من منظور فوكو، وطالما جاء هذا التصور في صورة وعي بطرق توافق - أو عدم توافق - «رسائل» أو دلالات الأعمال الفنية مع المؤسسات المكرسة لتدعيمها. أدى هذا إلى نقد ظاهرة اعتماد الفن على «التحالف بين المعارض الفنية والمتاحف» (على غرار «التحالف الصناعي العسكري»). تتمحور الفكرة هنا حول كون المتحف - بوصفه أشبه بمعبد علماني - «يضفي الشرعية» على العمل الفني من خلال الخطاب شبه الديني الذي يتبناه أمناؤه والنقاد/المعلقون التابعون لهم. لكن طريقة اختيارهم لمجموعة الفنانين وكتابتهم لكتيبات المعارض التعريفية هي ما يهم فعليا، وكان استعدادهم للسماح بدخول هذا النقد العدائي إلى المؤسسة في هذه الفترة يعتمد اعتمادا كبيرا على الدرع الفكرية التي توفرها النظرية الأكاديمية.
ومن هنا، ظهر مفهوم العمل الفني بوصفه نقدا للمؤسسة وبدأ استخدامه في هذا السياق، رغم أن ذلك سرعان ما اكتسب الطابع المبتذل نسبيا لمحاولة إقناع من اقتنعوا بالفعل. من بين تلك «المساعي النقدية» قدم مايكل أشير ما يعد أكثرها افتقارا للخيال؛ ففي عام 1973 استخدم جهازا يطلق دفقات من الرمال لهدم حائط في معرض توزيلي الفني في ميلان، وهكذا تمكن من هدم «العمل الفني» و«المعرض» كل منهما فوق الآخر؛ «كي يكشف في الحال تواطؤهما والسلطة الجبارة وغير المعترف بها عادة، التي يكتسبها المعرض عبر إخفاء كونه مؤسسة ثقافية تتمتع بالهيمنة (وتفرضها)»، وهو ما تحقق ببساطة - حسب المفترض - لأنه حالما نسف حائط المعرض الفني كشف عن المكاتب الإدارية القابعة خلفه.
قد تتسم بعض أعمال هانز هاكه المهتمة بالتحالف بين المعرض والمتحف بقدر أكبر من الذكاء؛ فقد تخصص هانز - ضمن عدة تخصصات - في توثيق القيمة الاقتصادية للأعمال الفنية. يتكون أحد أعماله الفنية (1975) من نسخة لوحة «عارضات» للفنان سورا بجوار أربعة عشر لوحة مرتبة ترتيبا زمنيا، تتضمن كل منها صورة صغيرة مطبوعة لكل مالك من ملاك اللوحة المتعاقبين وسيرة ذاتية قصيرة.
ومن ثم، أصبح متوقعا أن يوجه المشاهدون أنظارهم - أو بالأحرى عقولهم - إلى ما وراء حوائط المعرض، إلى الظروف الاجتماعية المحيطة بالعمل الفني، مثلما ينصح طلاب الأدب بالنظر فيما وراء الممارسات الجمالية الضيقة للنقد العملي أو «الجديد»، ومراعاة السياق الاجتماعي للعمل الأدبي. يعرض الاقتباس التالي وجهة النظر التقليدية والكلاسيكية هذه:
في ظل مناخ متطرف، لا غرابة في أن تؤدي التناقضات الرئيسية، التي شكلت المحيط الاجتماعي في عصر الرأسمالية المتأخرة، إلى تحفيز إنتاج الفن النقدي.
بول وود وآخرون، «الحداثة على مائدة النقاش»، (1993)
بالطبع، فإن تلك «التناقضات الرئيسية» ليست مجرد تناقضات منطقية - جاهزة للتفكيك - فحسب، بل هي أيضا تناقضات ماركسية تشير إلى الصراعات الخفية والمكبوتة داخل المجتمع؛ ومن ثم، شجع من حضروا عروض «التصوير الفوتوغرافي الجديد» على طرح أسئلة مثل:
لماذا تعتبر هذه الصورة أو تلك ذات مغزى؟ وكيف استطاعت التعبير عن هذا المغزى؟ لماذا يتطلب مجتمع ما صورا معينة في أوقات معينة؟ لماذا تظهر الأنواع الفنية في مجال التصوير الفوتوغرافي؟ لماذا تعتبر صور معينة ذات قيمة جمالية، وكيف يحدث هذا؟ لماذا يقدم المصورون - على نحو يتجاوز براعتهم التقنية أو بصيرتهم الإبداعية - صورا تحمل رسالة عن العالم الاجتماعي؟ ما المعاني السياسية المرتبطة بالتصوير الفوتوغرافي؟ من يتحكم في آلية التصوير الفوتوغرافي في المجتمع المعاصر؟
ليندا هتشن، «سياسات ما بعد الحداثة»، (1989)
طرحت هذه الأسئلة المهمة ذاتها على جميع أنواع الفنون؛ على الرواية والشعر والمقطوعات الموسيقية. فقد أبدى النقاد عداءهم لظاهرة افتقار فن الماضي إلى البصيرة (بصيرتهم) السياسية، وهو ما شجع المبدعين في مجال الإعلام على إنتاج كم كبير من الفن القلق نسبيا «الصائب من المنظور السياسي»، الذي انحاز إما علنا وإما عبر تضمينات نظرية إلى القضايا السياسية التي يتجلى نبلها للجميع. ولم يقتصروا على مهاجمة فكرة الفن باعتباره أحد المقتنيات الممتعة والباهظة الثمن لدى «البرجوازيين» الأثرياء (على سبيل المثال، من خلال تقديم أعمال بسيطة ورخيصة وقبيحة «تتحدى السوق»، وتنتمي للأسلوب التصوري)، بل قدموا كذلك فنا يتوافق مع المبدأ الأخلاقي الموضح بالأعلى ويدعم النسوية، أو المجموعات الهامشية، أو الهويات المعلنة والقائمة على النوع والميول الجنسية والأصول العرقية.
إن الكثير من الأعمال الفنية السياسية في حقبة الحداثة - وبالتأكيد تلك التي أنتجتها الأنظمة الشمولية - كانت أعمالا واقعية إلى حد الملل، وخاضعة خضوعا بالغ الوضوح لأيديولوجيات كلية. لكن الفن السياسي في عصر ما بعد الحداثة - بوصفه مكرسا فعليا لمفاهيم «الاختلاف» و«التشكيك» وغيرها من المفاهيم المشابهة - هو بالقطع فن «طليعي» على نحو يجسد الخلاف والانشقاق لا المطالبة بالتضامن الجماعي. بهذه الطريقة، حولت ما بعد الحداثة المناشدة الأخلاقية بالاعتراف باستقلال «الآخر» إلى تصريحات مفككة للغاية حول التهميش والاختلاف، و«تفكيك» للاتجاهات المهيمنة، وهجمات على الأحكام النمطية، وغيرها. كثيرا ما تحدى فنانو ما بعد الحداثة تلك القوالب النمطية عن طريق تقديمها في شكل محاكاة ساخرة، كما نجد - على سبيل المثال - في الصور العارية التي التقطتها ليندا بنجليس لنفسها، من بينها صورة لها (1974) في وضعية مثيرة جنسيا، ترتدي فيها نظارات داكنة اللون وتمسك بيدها قضيبا اصطناعيا ضخما ذا طرفين. تهدف الصورة على الأرجح إلى تقديم محاكاة ساخرة - مصطنعة ومتهكمة - لقوالب الإعلام النمطية، لكنها كذلك «تستخدم» تلك القوالب، مثلها مثل العديد من الأعمال الفنية من هذا النوع. فتلك الصورة هي صورة مثيرة جنسيا جذابة في أعين الرجال. نلاحظ هذا التأثير المزدوج ذاته في المحاكيات الأدبية الساخرة، كما في الكتابة التي تدمج الأسلوب الإباحي في إطار هزلي مستغلة القوالب النمطية، والتي نجدها في الروايات التجريبية؛ بدءا من «بيت الموعد» لروب جرييه (1965)، وانتهاء ب «حفلة جيرالد» (1986) لروبرت كوفر.
تعرض الأعمال النسوية التالية الأمثلة الرئيسية التي سأقدمها في هذا السياق؛ لأنها غالبا ما تتمتع بميزتين متناقضتين إلى حد ما؛ ألا وهما الانغماس في نظرية ما بعد الحداثة، وتبني الأهداف الأخلاقية الواضحة نسبيا ضمن موضوعها. في بدايات هذه الحقبة، كان الكثير من هذه الأعمال الفنية مجرد تصريحات سياسية بسيطة، مثل قصيدة «انتظار» لفيث وايلدنج (1972)، وهي مقطوعة أدائية حيث تجلس وايلدنج على كرسي وتسرد الأحداث التي تنتظر المرأة حدوثها، أو «أبجدية المطبخ» لمارثا روزلر (1975)، وهو مقطع فيديو يصورها بينما تسمع الأبجدية، وتعطي مثالا على كل حرف عبر أدوات المطبخ موضحة كيفية استخدامها، لكن تضطر في نهاية المطاف إلى التلويح بالسكين في الهواء راسمة بقية الحروف الأبجدية.
هوجمت الكثير من الأعمال الفنية النسوية التي أنتجت لاحقا في أوائل السبعينيات نظرا لأسلوبها المستقى من «الفلسفة الجوهرية»؛ أي بسبب تقديمها افتراضات حول الاختلافات بين الجنسين تتجاهل التركيز ما بعد الحداثي على ما تتسم به الهوية من طبيعة أكثر سيولة وخاضعة للتشكيل الاجتماعي. يطرح عمل «حفل العشاء» لجودي شيكاجو وأخريات (1973-1979) مثالا جيدا على ذلك؛ إذ تضمن العمل طاولة مثلثة مفرغة من المنتصف تضم 39 مكانا مجهزا بأدوات المائدة. يحوي كل مكان طبقا صينيا خزفيا معقد التكوين، وغطاء طويلا مطرزا، وكأسا خزفية، وسكينا، وشوكة، وملعقة، ويعكس صورة رمزية لنساء بارزات في التاريخ أو الأساطير. صممت الأطباق على شكل مهبل (يشبه شكل الفراشة)، بينما تتكون الأرضية من 2300 بلاطة تحمل 999 اسما إضافيا. ساهمت أربعمائة امرأة في صنع هذا العمل، وقد أصبح يحتل موقعا مركزيا في تاريخ الفن النسوي. يرمز العمل بدقة إلى الطموح النسوي نحو الاسترداد التاريخي، ويتحدى كذلك هيكل الآلهة (البانثيون) الخاضع للهيمنة الذكورية من خلال تقديم بديل. لكن تصميمه وأسلوبه الهابط فنيا أدى في رأي البعض إلى إضعاف أهدافه الأكثر جدية. أوليس من المزعج تقديم تلك النظرة المنتمية إلى «الفلسفة الجوهرية» التي تسمح لمجاز يعتمد على صورة عضو المرأة التناسلي بأن يرمز إلى النساء؟
دافع البعض لاحقا عن استخدام هذا المجاز باعتباره ردا على التصورات الفرويدية الشائعة للنساء بوصفهن «يفتقرن» إلى القضيب وما يتصل به من دلالات قوية (وهو تصور يقدم في حد ذاته افتراضات فاسدة ومعادية للمرأة إلى حد مذهل، استقاها فرويد على ما يبدو من شوبنهاور وغيره حول انعدام أهمية الاستجابات الجنسية الأنثوية في جوهرها). بينما رأى آخرون أنه يختزل النساء إلى حد كبير في تكوينهن البيولوجي. يعتمد اختيار رد الفعل هنا اعتمادا واضحا على المعركة التي تخوضها، ولا يتعلق كثيرا بمزايا «حفل العشاء» باعتباره هيكلا للآلهة.
شكل 4-10: «حفل العشاء»، (1979) لجودي شيكاجو. (اجتماع نسوي: لكن هل قيدت هويات المشاركات عن طريق المجاز المستخدم في «تمثيلهن»؟)
مثال آخر على الأسلوب الجوهري المميز للفن النسوي نجده في عروض كارولي شنيمان الأدائية، وقد قدم ديفيد هوبكنز وصفا جيدا لأدائها في عرض يدعى «لفافة داخلية» (1975):
يتضمن [العرض] وقوفها عارية أمام الجمهور بينما تخرج تدريجيا من مهبلها لفافة ورقية تقرأ منها تقريرا ساخرا حول اجتماع مع «مخرج بنيوي» انتقد أفلامها لما فيها من «اضطراب شخصي» و«سطوة للمشاعر». من جانب، يتناول أداء شنيمان مفهوم استيعاب النقد داخليا، لكنه قد يدعم كذلك اهتماما نسويا «جوهريا» بالكتابة النسائية؛ إذ اقترحت هذه الصيغة من النظرية النسوية الفرنسية - التي تبنتها كاتبات مثل هيلين سيكسو - أن تستخدم النساء «لغة» تسبق الطور الأوديبي (ومن ثم، تعادي الذكورية ضمنيا) وتعتمد على نبضات الجسد.
ديفيد هوبكنز، «ما بعد الفن الحداثي: 1945-2000»، (2000)
تدين أعمال سيندي شيرمان اللاحقة بالفضل إلى الفن الشعبي لكنها تتمتع بتأثير أقل مباشرة، على سبيل المثال يتسم عملها الفني المعروف باسم «#228» (1990) - وهو عبارة عن محاكاة فوتوغرافية ضخمة وهابطة فنيا لشخصية جوديث التوراتية - بطابعه الشعبي بل وبأسلوبه السينمائي. يقدم العمل محاكاة ساخرة للوحات الزيتية الضخمة التي جسدت هذا الحدث في عصر النهضة، والتي كانت تعبر بالطبع (باستثناء اللوحات الرائعة للرسامة أرتميزيا جينتيليسكي) عن «ثقافة الرجال الرفيعة المستوى»، وبالتأكيد عن بعض من مخاوفهم حيال فقدان رجولتهم كذلك. صرحت شيرمان بأنها أرادت تقديم عمل «في وسع أي شخص عادي الإعجاب به ... كنت أرغب في محاكاة شيء من الثقافة وفي السخرية منها في الوقت ذاته.» يرى نسويو ما بعد الحداثة أن عملا مثل هذا «يطرح قضايا»، حول موضوعات مثل «التنكر وهوية الأنثى، والقوالب النمطية النسوية في التصوير المرئي، والمشاهد المتأثر بالمفاهيم الجنسانية، وجسد الأنثى والفيتيشية، ومنظور الرجل، ومنظور الأنثى ... إلى آخره»، على حد قول وود. (لكن بالنسبة إلى الآخرين ممن لا يتبنون النظرية التي تنتج مثل هذا النوع من التفسيرات، فقد يتمتع العمل بتأثير أقل بكثير.)
شكل 4-11: «بدون عنوان، #228» (1990) لسيندي شيرمان. (المحاكاة التمثيلية والتهديد بالإخصاء: هل قصة جوديث هي أيضا قصة سيندي شيرمان؟)
من ناحية أخرى، تتسم أعمال باربارا كروجر الفوتوغرافية بتعقيد أكثر نسبيا وميلا أوضح إلى الجانب النظري؛ فهي تقتطع صورا من المجلات، ثم تكبرها وتقصها وتصلها ببعضها ببعض، مضيفة إليها نصوصا، بأشكال تعكس خبرتها كمصممة مجلات. وتصور تلك الصور التي أجري لها مونتاج فوتوغرافي كوحدة متكاملة وتحاط بإطار أحمر اللون (يشبه المستخدم في أعمال الفنان رودشينكه). تقدم الصور محاكاة ساخرة للإعلانات، تهدف إلى التحريض على نقد «العلاقات بين التصميم التجاري وتشكيل الثقافة لحياة الأفراد»، حسبما وضحت كروجر لمجلة «ذا نيويورك تايمز». فهي تساعدنا في فهم آلية عمل الصور داخل المجتمع - من خلال تقديم نقد نسوي للتصوير - لأنها صور للنساء كما شكلهن الإعلام الخاضع للسيطرة الذكورية، الذي يحدد كيف ترى النساء أنفسهن. تهدف الأعمال المماثلة إلى فضح القوالب النمطية التي تخلد توازن القوى السائد بين النساء والرجال. وفي أثناء ذلك تتحدى «نظرة الذكر» الفعالة، وتسعى إلى تمكين نظرة الأنثى التي ما زالت سلبية حتى الآن. يتجسد هذا في صورة أخرى من صور كروجر («بلا عنوان»، 1981) تصور من منظور جانبي تمثالا نصفيا كلاسيكيا لامرأة، وتحمل عبارة «نظرتك ترتطم بجانب وجهي». تعكس العبارة غموضا متعمدا؛ إذ تثير أسئلة مثل نظرة من؟ نظرة أي رجل؟ ولماذا «ترتطم»؟ وهل هو موجه ضد النظرة الدينية المقدسة، الكلاسيكية، والذكورية للمرأة، كما يعبر عنها التمثال؟ وغيرها من الأسئلة. كذلك تساعد النصوص المضافة إلى صور أخرى في تفكيك الادعاءات المرتبطة بالنزعة الاستهلاكية، في الإطار البسيط الذي يركز على «إظهار التناقضات»، كما نجد - على سبيل المثال - في صور «ابتعني وسأغير حياتك» (1984) أو «أنا أتسوق إذن أنا موجود» (1987).
رغم ذلك، أشار البعض إلى أن صور كروجر تقع في حد ذاتها فريسة لتناقضاتها (وفقا لعدد من وجهات النظر النسوية)؛ لأنها تتمتع بنفس جاذبية الإعلانات التي تقدم محاكاة ساخرة لها. ونتيجة لذلك، انتقدت الصور لفشلها في التمتع بتأثير سياسي كاف. أهي نقد للمشهد الاستهلاكي أم جزء منه؟ وعلاوة على ذلك، تعكس الصور نوعا من الإبداع الشكلي الحداثي العتيق؛ ومن ثم انتقدت كروجر على «الجمال التصويري» لأعمالها، فضلا عن عرضها لتلك الأعمال في معرض فني تجاري.
إن الخيارات المتاحة هنا كما اقترحت في السابق تنحصر في أحد أمرين: إما الاندماج في الخطابات المهيمنة ومحاولة تعديلها من الداخل، وإما قبول التهميش علنا ثم محاولة زحزحة الأطراف إلى أن تحتل موقع المركز.
شكل 4-12: «بلا عنوان (نظرتك ترتطم بجانب وجهي)» (1981)، لباربارا كروجر. (فن يحمل رسالة: إلى أي مدى تتسم نظرة الذكر بالعنف؟)
الفن والسياسة
تتمتع جميع الأعمال الفنية تقريبا التي ذكرتها بهذا الطابع المعارض النقدي الذي ركزت عليه فيما سبق، لكنها على ما يبدو احتاجت - وبالتأكيد التمست - دعم النقاد المؤسسي كي تحظى بأي اهتمام، وهو ما لاحظه كثيرون من بينهم بينجامين بوكلو:
إحدى وظائف النقد الأخرى حاليا هي دعم ونشر الوعي بتلك الممارسات الفنية المقاومة والمعارضة التي يطورها حاليا فنانون من خارج منظور السوق المهيمن والاهتمام المؤسسي.
بينجامين بوكلو، «نظريات حول الفن بعد التبسيطية والفن الشعبي»، من كتاب «مناقشات حول الثقافة المعاصرة» تحرير إتش فوستر، (1987)
لكن هذا وحده لن يكفي؛ فالعمل الفني بمفرده - سواء على الحائط أو في معرض فني أو حتى في الهواء الطلق كما في «فن الأرض» أو «فن الموقع» - لا يقدم فعليا مشاركة متميزة في الجدل السياسي (ومن ثم، لا يشكل حليفا جيدا حقا للنقاد). يرجع ذلك إلى أن الجدل - على عكس ما يروج له دعائيا - يتطلب طرفين قادرين على تقديم مبررات مفصلة وواضحة لمواقفهما لا طرفا واحدا، وما يحقق تقدما فعليا هو التفاوض حول أوجه النزاع لا الاكتفاء بإطلاق الشعارات المفاهيمية. وهكذا، قد يزعم المرء أن كروجر ظلت مرتبطة بالأولويات البرجوازية بقدر ما ظلت دعوتها مقتصرة في الواقع على التمكين الفردي، وأن ذلك الجزء من العمل الفني المقبول ثقافيا واجتماعيا - كما في أعمال هاكه - يكتفي فقط بتذكيرنا بوجود أشخاص صالحين وآخرين فاسدين - رغم أنه يبدو وكأنه «يخاطب» القضايا الأكبر مثل السيطرة السياسية والعدالة الاجتماعية - وأن بعضا من الفاسدين هم ذكور أو تجار فن، أو تجار عقارات، أو مديرو شركات ضخمة، أو تجار سلاح ... إلى آخره.
يعتمد هذا كله بالطبع على فكرتك عن الموقع الذي يحقق أكبر فائدة للجدل والنشاط السياسي. بالنسبة إلى بعض فناني ما بعد الحداثة ومنظريها (وبعض النسويين ممن يزعمون أن «الشخصي هو السياسي»)، يمكن تحقيق تلك الفائدة في «أي مكان». لكن الفنانين المنتمين للفن المرئي نادرا ما «يقدمون معلومات» إلى الناس عن السياسة عن طريق الإدلاء ب «تصريحات» سياسية (رغم أن بوسعهم ذلك)، وعادة ما يعبرون صراحة أو ضمنا عن أفكار بسيطة للغاية لمن اقتنعوا بها بالفعل، فأعمالهم لا تتسم على الإطلاق بالتعقيد الذي يبرز في هذا السياق حتى في الأعمال الجماعية الأشهر من الفن السياسي، التي تتميز بوجود حوار فعلي، مثل فيلم سبيلبرج «قائمة شيندلر». إذا كان العمل السياسي يعتمد على الإقناع البلاغي، فإن فنون ما بعد الحداثة المرئية قد عجزت على نحو لافت للنظر عن تقديم هذا الإقناع، باستثناء بعض الأحيان التي تحقق فيها هذا الإقناع نتيجة استخدام الأساليب الدعائية القديمة المستهلكة التي تقحم المعلومات في عقولنا من خلال وسائل أولية تعتمد على المحاكاة، حتى لو غلفتها السخرية من آن لآخر. لا يمل نقاد ما بعد الحداثة الماركسيون من إخبارنا بأن الفن الواقعي الذي يعبر عن موقف نقدي معين تجاه الواقع هو الأفضل في الإطار التقدمي الفعال؛ وذلك تحديدا لأن في وسعه تزويدنا إلى حد ما بالمعلومات إلى جانب محاولة إقناعنا. لكن تلك الأساليب المكشوفة - كما شهدنا من قبل - لا تحتكم إلى معايير ما بعد الحداثة فيما يخص آليات التصوير الفني في هذه الحقبة.
يعبر روبرت هيوز عن هذا الرأي بكلمات قوية لا تعرف المجاملات: «إن ما يغير الآراء السياسية فعليا هي الأحداث، والنقاشات، والصور الصحفية، والتليفزيون.» قد يتناول الفنانون «قضايا» العنصرية، والتحيز الجنسي، والإيدز، وغيرها من القضايا، لكن:
استحقاقات الفنان أو الفنانة لا تقترن بجنسه، أو أيديولوجيته، أو ميله الجنسي، أو لون بشرته، أو وضعه الصحي، كما أن تناول إحدى القضايا لا يعني بالضرورة مخاطبة الجمهور ... إن الفن السياسي الذي نشهده حاليا في أمريكا ليس سوى سلسلة طويلة من محاولات إقناع من اقتنعوا بالفعل.
روبرت هيوز، «ثقافة التذمر» (1993)
كان هيوز محقا أيضا عندما أشار إلى أن مشكلة الكثير من تلك الأعمال الفنية السياسية هي افتقارها فعليا إلى الأفكار الجيدة؛ إذ غالبا ما تتضمن أفكارا تافهة أو ساذجة لا تثير لدى أي منا عمليات تفكير معقدة أو خارجة عن المألوف إلى حد كبير. على سبيل المثال، «عمل الفنانة جيسيكا دايموند الذي يتكون من علامة يساوي تلغيها علامة تقاطع، ومكتوب تحتها بخط خفيف «غير متساو تماما». أي شخص يظن أن هذا الشكل البياني قد يساهم بأي أفكار جديدة تدعم فهم المرء لقضية الامتيازات في الولايات المتحدة لمجرد احتلال مساحة على حائط في أحد المتاحف ليس سوى واهم.» فعلى أفضل الأحوال، يقتصر ذلك النوع من الفن «في الأساس على تناول فكرة عادية إن لم تكن بديهية - مثل «العنصرية سلوك خاطئ» ... - ثم تشفيرها على نحو غاية في الالتواء بحيث يشعر المشاهد عندما يتمكن من ترجمتها ببريق الانضمام إلى ما نطلق عليه «خطاب» عالم الفن» (روبرت هيوز، في العمل المستشهد به).
قد ينتقد العمل الفني المجتمع ومؤسساته ، وينتهي به الحال رغم ذلك معروضا في ذلك المجتمع، ومبيعا لتاجر، ومكتسبا شرعيته غالبا من آراء مؤسسة فنية تابعة للطبقة الوسطى. فذلك النقد المجتمعي لم يمنع عرضا قدمه جيلبرت سيلفرمان بقيمة 90 ألف دولار مقابل عمل من أعمال هاكه - يدعى «دهن اجتماعي» - على الرغم من أن العمل يهزأ بالشخصيات البارزة في عالم السياسة والأعمال من خلال اقتباس أقوالهم التي تدافع عن الفنون باعتبارها «مشحمات اجتماعية» ووضعها على لوحات معدنية منفصلة. لا ينطوي الأمر على مفارقة مثلما يبدو؛ فالمجتمعات الليبرالية قضت ما يزيد عن قرن من الزمان في استيعاب الأعمال الفنية التي تعاديها. وبوجه عام، ومع بعض الاستثناءات الشهيرة، لا تخضع تلك المجتمعات الفنانين للرقابة أو تعمل على الحد من تأثيرهم، بل تحمي حقهم في التعبير. (رغم أن الأعضاء غير الليبراليين في المجتمعات الليبرالية يحاولون الإطاحة بهذه الفرضية، كما حدث في فضيحة مايبلثورب، عندما أثير النقاش حول التمويل الفيدرالي الذي قدم لمعرض ضم بعضا من صوره التي تتناول العلاقات السادية المازوخية بين المثليين.)
مع ذلك، ما تزال البنى الاجتماعية والقانونية الأساسية في تلك المجتمعات التي أتناولها هنا ليبرالية دون شك. حتى وإن كانت المؤسسة هي التي تدعي الشرعية أولا لا العمل الفني، فإن ما يهم عقب ذلك هي القيمة التي يحظى بها مشاهد العمل الفني الفردي على المدى الطويل، التي تتجاوز «البيان» الصادر عن عرض فني ما. لا يوجد ما هو أقدم ولا أكثر مللا من الأخبار النسوية والتصورية التي شهدناها في بضعة العقود الأخيرة؛ فغالبا ما يبدو عمل ما بعد الحداثة العقائدي الواضح أكاديميا إلى حد تعجيزي في هذا الإطار. يوجد اختلاف كبير بين ما بعد الحداثة المذهبية وهذا النوع من الفن المعاصر الذي في وسعه تقديم محفز فكري يمتد لفترة أطول مما يدرك الكثير من نقاد ما بعد الحداثة على ما يبدو. بالطبع، يجب على الأعمال الفنية «إثارة الشكوك»، أليس هذا ما فعله المسرح التراجيدي بدءا من «أنتجوني» وانتهاء ب «هيدا جابلر»؟ لكنها في حاجة إلى تحقيق ذلك بطرق أكثر تعقيدا وثباتا مما نلاحظه في أحدث أعمال ما بعد الحداثة الفنية.
إن نظرية ما بعد الحداثة التي تبناها الكثير في الحركة الفنية الطليعية كانت نسخة من الفلسفة - وسياستها وتاريخها - التي وضحتها في الفصول السابقة. تدعو هذه النظرية إلى الهجوم على الامتياز وشروطه المرتبة هرميا - ومن بينها الشكلية المرتبطة بالحداثة - وهدمهما، وإلى الارتياب في السرد المنظم وفي المركز، وفي الشروط المتعالية لتحقيق القيمة. توجب كذلك الشك في صدارة الحضارة الغربية (وأي تنظيم مميز يرجع إليها). في أغلب الأحيان، كان الهدف من ذلك يستحق الإعجاب من الزاوية الأخلاقية، وهو النظر بعين الاعتبار إلى المهمشين والمقموعين والمستبعدين والدفع بهدم القيم المهيمنة أو عكسها. كان ذلك بالتأكيد دافعا ليبراليا تقليديا، لكنه برز تحت رعاية نظرية متزعزعة. على سبيل المثال، من غير الواضح إن كان عمل تفكيكي حقيقي مثل كتابات دريدا يمكن أن يتبنى أيا مما قد يعتبر موقفا سياسيا فعالا وثابتا، على الرغم من أفكار دريدا الأخيرة.
وقعت الفنون المرئية كذلك أسيرة الفكر التناقضي الذي يزعم أن «كل شيء» هو نص محتمل. وهيمنت هذه النظرة التي تحول العالم إلى نص - كما هو معتاد في كتابات دريدا وبارت - على الفرضية الدافعة بأن جميع أشكال التفكير لغوية نوعا ما؛ مما أدى إلى استبعاد جزء كبير من استجابتنا غير اللغوية للفن في الماضي - مثل الاستمتاع ببساطة بملمس اللوحة أو ألوانها أو علاقتها الشكلية - إما باعتبارها تأثيرات جانبية منبوذة لمبدأ المتعة المرتبط بالحداثة الشكلية البالية، وإما طلبا للتحرير والخلاص من خلال تقديم شكل من أشكال الارتباط اللفظي المفاهيمي النظري المناسبة. وهكذا، أصبح من المحتم اعتبار كل شيء - بدءا من الأثاث وحتى الملابس والمباني - جزءا من «لغة» يمكن تقصي بنيتها الاجتماعية، ثم إبراز قابليتها لنوع من التعطيل أو الإلغاء، بعيدا عن التنظيم الهرمي المشبوه الذي حظيت به في المجتمع «البرجوازي». وإذا كان كل شيء هو جزء من اللغة، وإذا كانت اللغة تنتثر ببساطة، وإذا كانت خطابات الفن - مثلها مثل خطابات الطب والقانون وعلم العقوبات وغيرها - تتجاوز الفرد؛ فإن مفاهيم التأليف والإبداع والأصالة هي أيضا موضع ريبة ولا يمكن اعتبارها «مميزة».
انتشر هذا الميل ذو التأثير الديمقراطي السخي، الذي رأى أن القارئ والطالب يسبحان في نفس الفضاء اللغوي الذي يسبح فيه الكتاب الروائيون العظماء. ومن ثم، فهم بالمثل في موقف يتيح لهم الهيمنة على النص من خلال التفسير. ولدواعي المفارقة، فقد اضطلع بهذا الدور عدد من النقاد الثقافيين ذوي الطابع الخاص الذين يتميزون بتسلطهم الشديد وبارتفاع رواتبهم. وهكذا، أصبح تفسير العمل الفني من خلال المزاج الفردي، أو التجربة التي أنتجته، أو جانب الواقع الذي حاول نقله؛ اتجاها باليا.
تنبع من هنا - على سبيل المثال - هجمات ما بعد الحداثة على الرسم «التعبيري الجديد» الذي برز في ثمانينيات القرن العشرين. وهو خلاف يستحق التحليل هنا؛ لأنه يوضح وجود اتجاهات منافسة فعالة لما بعد الحداثة، وأن عددا من أبرز أتباع ما بعد الحداثة هاجموا تلك الاتجاهات مستخدمين مصطلحات سياسية واضحة، فلم يكتفوا بنعت الرسم التعبيري الجديد في ألمانيا والولايات المتحدة بأنه معبر «تصويريا» وذو تأثير عاطفي واضح، بل زعموا أنه «فضل» المفهوم الهرمي العتيق الطراز لفن الرسم في حد ذاته.
كان من الواضح تماما أن الفنانين التعبيريين الجدد الأمريكيين - مثل جوليان شنوبل وديفيد سال وإريك فيشل - اتحدوا أو تشابهوا مع الفنانين الأوروبيين أمثال ساندرو كيا وفرانشيسكو كليمنته وجيورج بازليتس ويورج إيمندورف وأنسيلم كيفير وبي إيه آر بينك ممن ينتمون بوضوح إلى التعبيرية الألمانية الحداثية. وزد على ذلك أن أولئك الفنانين وسعوا هذا الاتجاه التعبيري بدلا من هدمه أو محاكاته محاكاة ساخرة أو «نقده». وفي أثناء ذلك، أعادوا إلى الفن السمات الحسية والشعورية التي تعرضت للإقصاء بسبب تزمت نظرية ما بعد الحداثة. يمكننا اعتبار فيشل - على سبيل المثال - رساما رمزيا تعبيريا، بناء على أسس نفسية لا تدين بشيء إلى ما بعد الحداثة، حتى وإن كانت نفسية شخصياته المشوهة نسبيا واغترابها الظاهري تدين على نحو واضح بشيء لمناخ أفكار ما بعد الحداثة الأكثر شمولا والمتمحور حول السرد. وعلى نحو مماثل ، يمكن اعتبار رسامين مثل جنيفر بارتليت وروبرت كولسكوت ونيكولاس أفريكانو وإليزابيث موري يحيون الاتجاهات الماضية في الرسم الحداثي؛ فقد أجازوا لأنفسهم مخاطر المنافسة مع الماضي وتوسيع اتجاهاته على نحو أكثر مباشرة، على سبيل المثال قد يرى البعض بارتليت خليفة مونيه.
شكل 4-13: «قصتها»، (1984) لإليزابيث موري. (هل في وسع موضوعات ما بعد الحداثة الرئيسية، التي تتمحور حول الهوية، التصالح مع أنماط التعبير الحداثية؟)
تعرض التعبيريون الجدد - والرسامون التجريديون الذين دافعت عنهم الناقدة باربرا روز - للهجوم من قبل مجموعة «أكتوبر» ما بعد الحداثية التي أعلنت «نهاية الرسم» في مقال كتبه دوجلاس كريمب (عام 1981). رأى كريمب أن إعجاب روز باتجاه (حداثي) متواصل يتسم ب «الرجعية»؛ فهو:
يقع على طرف النقيض من الأعمال الفنية التي أنتجت في الستينيات والسبعينيات ... والتي سعت إلى تحدي أساطير الفن الراقي وإعلان أن الفن - مثله مثل كل أشكال الاجتهادات الأخرى - مرهون بالعالم التاريخي الحقيقي.
شكل 4-14: «الجدة والرجل الفرنسي» («أزمة هوية»)، (1990) لروبرت كولسكوت. (ألا يتطلب التعبير عن الهوية الشخصية سردا وأسلوبا واقعيا؟)
علاوة على ذلك، هاجم كريمب في هذا السياق «أسطورة الإنسان وأيديولوجية الإنسانية التي تدعمه»؛ لأنهما «مفاهيم تساند الثقافة البرجوازية المهيمنة. وتمثل في حد ذاتها علامات على الأيديولوجية البرجوازية.» ومن ثم، هوجم الرسم التعبيري الجديد على موقفه المتحفظ من الناحية السياسية؛ لأن الفنانين يجب ألا يشيدوا عوالم بديلة ممتعة في الأعمال الفنية، بل عليهم طرح تساؤلات حول الطريقة التي شكلهم بها العالم وخطاباته، ويفضل أن يتوصلوا إلى استنتاج يفيد بأنه شكلهم في صورة ضحايا. حظي نقاد ما بعد الحداثة بأهمية تفوق أهمية الفن أو الفنانين؛ حيث إنهم انشغلوا بما بدا لهم مقبولا على المستوى السياسي أو المؤسسي، مع أن أي شخص لديه إدراك ينبغي أن يرى بوضوح ما تتسم به الأساليب الأكاديمية الأولية التي كانوا يستخدمونها من بساطة شديدة في الواقع، وسهولة التوصل إليها إذا ما تمتع المرء بتعليم جيد وبمستوى معين من الإقناع البلاغي. وهي متطلبات تقل بمراحل عن مستوى الموهبة الذي كان مطلوبا لإنتاج أي نوع من الأعمال الفنية في الحقبة السابقة، لكن هدفها الرئيسي هو تأسيس معارضة نقدية، تدعمها النظرية الحالية. يمكن اعتبار قدر كبير من نقد ما بعد الحداثة انتقاما سياسيا توجهه الأكاديمية نحو أساليب الفن الرئيسية ووسائل إمتاعه؛ ومن ثم، يمكن اعتباره أيضا - كما سأزعم فيما بعد - دفاعا عن أسلوب محدود للغاية داخل الفنون الأدبية والموسيقية والمرئية المتنوعة تنوعا استثنائيا في هذه الفترة، وسأتناول هذا السياق الأشمل في الفصل التالي.
الفصل الخامس
«حالة ما بعد الحداثة»
الثقة في الحقيقة
يمكن تلخيص أحد الأفكار الرئيسية في جميع ما سبق تحت مسمى «ضياع الواقعية»، الذي صحبه ضياع إدراك يعول عليه للتاريخ الماضي. وقد أشار فريدريك جيمسون بالفعل إلى طابع يميز ما بعد الحداثة؛ ألا وهو «اختفاء الوعي بالتاريخ» في الثقافة، وتوغل اللاعمق، وسيادة «حاضر أبدي» حيث تلاشت ذكرى التراث. يؤمن العديد من أتباع ما بعد الحداثة بأن ثمة مكونا ما في حالة المجتمع ذاتها هو ما أدى إلى ذلك.
كما شهدنا من قبل، يهاجم جزء كبير من تحليل ما بعد الحداثة السلطة والمصداقية في الفلسفة والسرد وعلاقة الفنون بالحقيقة. ويرتبط كل هذا النشاط التشكيكي بعلاقة معقدة، لا مع مواقف الأكاديميين والفنانين فحسب، بل كذلك مع ما اعتبر أنه فقدان أوسع نطاقا للثقة داخل الثقافة الديمقراطية الغربية، نتج عن العداء اليساري للألاعيب الخفية التي تمارسها «الرأسمالية المتأخرة»، والاعتقاد العام تقريبا - السائد حتى بين أشد الليبراليين تفاؤلا - بأن الأخبار الحقيقية هي في أغلب الأحيان خاضعة لتلاعب الصور، وأن بث المعلومات الأساسية دائما ما يحرف وتشوه حقائقه بفعل الشركات التجارية التي تحمي مصالحها، وحتى الأحداث الجارية المروعة - التي تتسبب في معاناة لا يمكن تصورها للأفراد مثل حرب فيتنام وحرب الخليج - قد أصبحت بطريقة ما مجرد «أحداث ممسرحة لوسائل الإعلام تدور على شاشة التليفزيون» في مشاهد تجمعها الكاميرات لأهداف سياسية، مثل مشهد القناص الذي يحمل الكاميرا على كتفه، بينما يأمل ملقو الخطب في حديقة البيت الأبيض أن تتحسن الأحوال ... إلى آخره. يسود شعور قوي - في أعمال نقاد مثل بارت وفي روايات ميلان كونديرا ورشدي - بأن الحدث التاريخي والسياسي دائما ما يصلنا في صيغة متخيلة أو في صورة سرد يتلاعب به ما قد نطلق عليه اليد الخفية للمصالح الاقتصادية أو السياسية.
من السهل علينا إدراك مدى نجاح التليفزيون في أداء دور الناقل الرئيسي لتلك المعلومات المتخيلة؛ فعالمنا يعج بهذه المعلومات الشديدة التناقض، التي تحركها بوضوح المصالح الاقتصادية (المهيمنة) والخاضعة للتسلع، والتي تبعث على قدر كبير من الريبة. فهي هدف واضح؛ لأن أداة نقلها تعتمد - فيما يبدو - على مفهوم العرض «الشفاف» الواقعي المرتبط لدينا بالتصوير الفوتوغرافي، وتلك الحقيقة في حد ذاتها تفتح الباب أمام شكوكية ما بعد الحداثة.
صور غير حقيقية
يتبدى هذا الإحساس بأن وسائل الإعلام الجماهيرية تستبدل الصور بالواقع في عدة أشكال؛ بدءا من الافتراض الماركسي الذي يدفع بأننا جميعا على أي حال ضحايا «وعي زائف» ناتج عن خطاب «برجوازي»، وصولا إلى التشكك الليبرالي في فرض المؤسسات لقيود على حرية التعبير. تكمن المشكلة في أن هذا الهجوم على الواقعية الصادقة - الذي بدأ بالتأكيد منذ أن انقلب ذوو الآراء العصرية على واقعية القرن التاسع عشر - قد طال به الأمد حاليا لدرجة أن الارتياب فيما هو خيالي قد أدى بالفعل إلى محو ثقة الكثير فيما هو حقيقي، كما رأينا في الجدل الدائر حول كتابة التاريخ. يفضل جيمسون - بوصفه منظرا ماركسيا - فكرة وجود «أزمة عامة في الوصف». تزعم فكرته أن رموز اللغة - في ظل حالة ما بعد الحداثة - قد تحررت من وظيفتها في وصف العالم، و«قد أدى ذلك إلى اتساع رقعة سلطة رأس المال في مجال الرمز والثقافة والوصف، بجانب ضياع مساحة الاستقلال التي اكتسبت أهمية كبيرة في حقبة الحداثة.» ومن ثم، تركنا:
نواجه ذلك التلاعب الخالص العشوائي بالرموز الذي نطلق عليه ما بعد الحداثة، والذي لم يعد ينتج أعمالا بارزة من النوع الحداثي، لكنه لا يتوقف عن إعادة ترتيب الأجزاء المتناثرة من النصوص السابقة والعناصر الأساسية في الإنتاج الاجتماعي والثقافي السابق في تكوين هجين يعلو يوما عن يوم من الكتب الكبرى التي تلتهم كتبا أخرى، ونصوص كبرى تجمع شظايا نصوص أخرى.
فريدريك جيمسون، «ما بعد الحداثة ونص الفيديو»، ديريك أتريدج وآخرون (محررين)، «علم لغويات الكتابة»، (1987)
يرى الكثير من فريق ما بعد الحداثة أننا نحيا في «مجتمع الصورة» الذي ينشغل في الأساس بإنتاج واستهلاك «محاكيات سطحية تافهة» ليس إلا؛ إذ أصبحت المعلومات مع قدوم العصر الحالي مجرد بضاعة نبتاعها (ربما البضاعة الأهم في مجتمع تحركه التكنولوجيا وتهيمن عليه المعرفة). فنحن دوما نسعى إلى تعلم برامج كمبيوتر جديدة. وفي الوقت نفسه، يدعم نوع من اليأس المتشكك في حقيقة السياسة والمؤسسات في حياتنا الاجتماعية المشتركة - التليفزيون والصحف - نوعا من اليأس المتشكك كذلك في وظائف الفن التقدمية أو التوافقية، بينما يتغلغل الافتراض المتأثر بأفكار نيتشه بأن جميع تلك الظواهر - بدءا من تصريحات البيت الأبيض إلى المسلسلات الدرامية اليومية الطويلة - تمارس تأثيرها على نحو سري نوعا ما في الحفاظ على القوة الاقتصادية أو غيرها من القوى لدى هذا الشخص أو ذاك، لا لصالح أي حقيقة. وقد أدى ذلك إلى تفشي نزعة غريبة من جنون الريبة في الفن ونظرية ما بعد الحداثة، وكذلك في تلك الأفلام الشهيرة التي تدور أحداثها حول مؤامرات خيالية أو حقيقية. فكم عدد من يؤمنون أن فيلم أوليفر ستون «جيه إف كيه» - الذي يقدم لنا محاميا من نيو أورليانز يتحدى ببسالة من تآمروا في المؤسسة العسكرية لاغتيال الرئيس كيندي كي تستمر الولايات المتحدة في حرب فيتنام - يقدم أحداثا واقعية لا من وحي الخيال كما يتراءى؟
على الأرجح، قدم جان بودريار أشهر جزم فاضح حول الزيف الجوهري لثقافتنا؛ إذ صرح - مرددا أفكار فوكو - قائلا:
لقد أنشئت ديزني لاند لإخفاء حقيقة أن الدولة «الحقيقية» - أمريكا «الحقيقية» بأسرها - هي «في جوهرها» ديزني لاند (مثلما أقيمت السجون لإخفاء حقيقة أن المجال الاجتماعي بأكمله وبوجوده الكلي العادي هو السجن).
شكل 5-1: شارع «ماين يو إس إيه» (المصمم كي يحاكي مدينة أمريكية في مطلع القرن العشرين) من تصميم فريق المصممين في ديزني لاند، بمدينة أناهايم، كاليفورنيا. (أهذا هو الشارع الذي تسكن فيه؟)
ثم يواصل حدثيه واصفا ديزني لاند (بديكوراتها وألعابها الخيالية التي تصور عوالم القراصنة والغرب الأمريكي المتوحش وحياة المستقبل) بأنها:
تقدم على أنها خيالية لكي نؤمن بأن باقي البلد حقيقي، بينما في الواقع لم تعد لوس أنجلوس وأمريكا بأكملها التي تحيط بديزني لاند حقيقية، بل أصبحت تنتمي إلى عالم ما فوق الواقع، عالم المحاكاة. ولم تعد القضية قضية التمثيل الزائف للواقع (الأيديولوجية)، بل أصبحت تتعلق بإخفاء حقيقة أن الواقع لم يعد واقعا، والتمكن بهذه الطريقة من الحفاظ على مبدأ الواقع.
إن أوهام ديزني ليست حقيقية ولا زائفة، بل هي آلة ردع أنشئت بهدف إعادة إحياء وهم الواقع في اتجاه عكسي.
جان بودريار، «المحاكيات»، (1983)
نحن ببساطة أسرى عالم من الرموز خاضع لسيطرة الإعلام، خلقته الرأسمالية لأغراض خسيسة تتعلق بتصنيع رغباتنا، ويشير كل رمز فيه إلى رمز آخر ليس إلا، ضمن سلسة مخادعة من الأفكار. إن تلك الرموز ليست سوى محاكيات سطحية تستبدل الأشياء الحقيقية وعلاقاتها الفعلية (التي لا يدركها حقا سوى معتنقي الفكر اليساري ممن يستطيعون كشف تلك الأوهام) في عملية يطلق عليها بودريار «التحول إلى ما فوق الواقع». ومن ثم، فإننا لا نحصل أبدا على ما نرغب فيه على أي حال. لكن قد نقول خلافا لذلك إننا نحصل بالفعل على ما ندفع ثمنه، بغض النظر عن طريقة الإعلان عنه، على سبيل المثال، لا تختلف شطيرة هامبرجر من ماكدونالدز عن مليارات الشطائر التي ينتجها المطعم بنفس الطريقة، وهي لذيذة المذاق فعلا في رأي الكثيرين. وعلى نفس المنوال، إذا انبعثت منك رائحة عطر ديون، فإنك تضع عطر ديون. هذه النماذج ليست «مجرد» لعب بالرموز، رغم كم الإعلانات التي تحاول تحفيزنا على الاقتناع بشرائها. لكن، حتى أولئك الذين لم يقرءوا أي أجزاء من نظرية ما بعد الحداثة لم ينخدعوا تماما بها، ولا يؤمنون حقا بأن أي شخص قد انخدع إلى حد كبير. فلتقرأ - على سبيل المثال - استطلاعات الرأي حول السياسيين في جميع أنحاء العالم، أو حتى أبحاث السوق التي تدرس تأثيرات الإعلانات. لكننا عندما نسمع بودريار وغيره من أتباع نفس الفكر، يخيل إلينا أننا نأكل ونشرب وننام فوق رموز ومع رموز ليس إلا. يجمع هذا النوع من الجدل بين الهجوم الليبرالي القديم على الإعلانات (بوصفها تختلق احتياجات ليست لدينا «في الحقيقة») وبين بعض سمات التشاؤم الفرويدي الذي يدعي أن الرموز الدالة على الأشياء دوما ما تخدع، وأننا لن نستطيع أبدا بلوغ الشيء المرغوب فيه «حقا» من خلالها. على سبيل المثال، عندما استبدلت السلطات الفرنسية نسخة طبق الأصل من كهوف لاسكو في فرنسا بالكهوف الأصلية، طالبنا بودريار بتصديق أن لا فارق فعليا بين الاثنين. لكن حتى أشد زوار الكهوف سذاجة - فضلا عن مؤرخ متخصص في الفن - يمكن تعريفهم بسهولة بطرق التمييز بين الكهوف الحقيقية والزائفة وقد يفهمون كذلك دواعي حماية الآثار - حال وجودها - التي استدعت استخدام نسخة طبق الأصل للعرض على السياح.
يتسم بعد الحداثيين عموما بتشاؤمهم؛ فالكثير منهم تؤرقه آمال ثورية ماركسية ضائعة، وغالبا ما يسيطر على المعتقدات والفن الذي يوحون به طابع سلبي لا بناء. وهم يعتقدون أن الرفاهية العامة ليست ظاهرة جيدة؛ لأنه عندما يمتلك الناس احتياجاتهم الأساسية، يسعى رجال الإعلان والتسويق إلى ملء الفجوة الناتجة عن ذلك كي يختلقوا قيمنا (المادية) ويحددوها لنا، بينما يطوي النسيان المحتاجين الحقيقيين بمنتهى السهولة؛ لذا، يحظى التسويق بالأولوية على الإنتاج. لقد أصبحنا نشعر أنه حتى العدالة أصبحت - أو قد تصبح - حدثا إعلاميا، مثل محاكمة أو جيه سيمبسون التي بثها التليفزيون، والتي تأثرت بوضوح جلي بأداء المحامين المسرحي والمبالغ فيه، وملابس المشاركين المختارة بعناية في هذه المسرحية الدرامية، والملخصات المنحازة سياسيا والمتحيزة لقوالب نمطية يقدمها المحامون ومراسلو التليفزيون في مقاطع صوتية. ألا تبدو المحاكمة بأكملها وهمية إلى درجة تثير الاشمئزاز؛ إذ يستخدم المشاركون الإعلام كي يتلاعبوا بالآراء من خلال التقمص الزائف لما يعتبرونه قوالب نمطية خيالية ونماذج مثالية مقبولة؟ أليس منطقيا أن نتساءل عن كيفية تحقيق عدالة نزيهة على منصة القضاء تلك؟ هل سينخدع القاضي والمحلفون حقا - وهم في النهاية أفراد ينتمون لمجتمعنا - بكل هذا التمثيل السافر؟ أم من المفترض أن نؤمن بوجوب تمتع إجراءات تحقيق العدالة في المحاكم بمصداقية أكبر من ذلك؟ يوجد شك حيال هذا داخل كل منا (وبالتأكيد داخل كتاب العديد من روايات المحاكم المثيرة)، وذلك الشك هو ما كان بعد الحداثيين على حق عندما أصروا على وجوده.
لكنهم نزعوا كذلك إلى تقديم وصف تشاؤمي مضلل للمعلومات التي نتلقاها وللنزاعات وحلولها؛ إذ ينتمي الكثير منهم في الواقع إلى اتجاه ما بعد نيتشوي طويل الأمد يجسد اليأس من المنطق. فعندما يقدم بعد الحداثيين رؤية سليمة تدفع بأن جميع الخطابات ترتبط في جوهرها بأنظمة السلطة التي قد تدعمها لأنها تعبر عن سلطتها، فإنهم يعطوننا انطباعا بأن ثقافتنا لا تزيد عن تفاعل معقد بين تهديدات متعارضة باستخدام القوة. إن تشككهم في الحقيقة يحرمهم في أغلب الأحيان من إبداء اهتمام سليم بأنشطة تقديم المبررات والتفاوض العقلاني والعدالة الإجرائية؛ إذ غالبا ما يفترض التأثير الماركسي والفرويدي ضمنيا أن كل ما نقوله يحمل إيحاءات السلطة وتهديد العرق والطبقة والمكانة الاجتماعية وألاعيب الهيمنة الجنسية. لكن هذا بالكاد ما يسمح للاتفاقات والقيود القانونية في المجتمعات الديمقراطية بأداء وظيفتها أو بتفعيل الاعتبارات الأدبية التي تؤدي إلى حماية حقوق الإنسان المفترض كونها عالمية ومتجاوزة للخصوصية الثقافية وليست ملكا لمجموعة بعينها. ولا يسمح كذلك بحقيقة أن السعي نحو التمتع بالصدق وبالتفكير الصائب ومحاولة دعم الادعاءات بأدلة قابلة للإثبات، وغيرها من المساعي، هي أمور لا غنى عنها إذا كنا نأمل أن نأتي إلى مائدة المفاوضات، حاملين في جعبتنا ما هو أكثر من بعض التهديدات الضمنية (أو أن نتعامل مع كتابة التاريخ أو اللاهوت أو الرواية على أنها أكثر من مجرد محاولات لإيقاع القارئ في شرك رواية خرافية). تخيل، على سبيل المثال، شخصا يعتقد أن أي شيء يتلفظ به أي سياسي (سواء أكان أمريكيا أم إسرائيليا أم روسيا أم من أي جنسية أخرى) هو دوما نوع من الإرهاب الإمبريالي أو اللاهوتي أو الذي تفرضه «دولة مارقة»؛ لا لسبب سوى أن حديثه يعكس ضمنيا - على سبيل المثال - سلطة المؤسسات السياسية والقوات المسلحة في الدولة التي ينتمي إليها.
بالطبع، تعكس العديد من تصريحات أولئك السياسيين بالفعل هذا الإرهاب وإلى حد مروع، لكن في حالات النزاع تحديدا قد يصبح من الأهم إبراز الأصوات الأكثر عقلانية، على سبيل المثال، أولئك الأكثر تقبلا لإصدار حكم عقلاني فيما يخص الذنب والمسئولية التي تنتج عن النزاعات.
إن أفضل ما يستطيع المرء قوله هنا، وما سأقوله بالفعل، هو أن بعد الحداثيين بارعون في مجال النقد التفكيكي لكنهم فاشلون تماما في مجال البناء، وعادة ما يتركون هذه المهمة لأولئك الليبراليين الصبورين في مجتمعاتهم ممن لم يزالوا على استعداد لمحاولة تحديد بعض من تلك الاختلافات بين الحقيقة والخيال على الأقل، التي يطمسها بعد الحداثيين تحت أكوام من الافتراضات المتشائمة حول حتمية الصراع الطبقي أو النفسي.
على الصعيد الآخر، أجال بعد الحداثيين الفكر على نحو واضح ولهدف أكبر في طبيعة التغيرات الثقافية منذ عام 1945، مطلقين عليها في النهاية «حالة ما بعد الحداثة». حسب تلك الرؤية لا ينظر إلى الوضع الدولي للمجتمعات على أنه خاضع للأطر السياسية أو الاقتصادية التقليدية، بل على أنه «وضع ثقافي». يشكل هذا الاعتماد على التحليل الثقافي (الذي يحظى بالاهتمام حاليا إثر حركة «الدراسات الثقافية» المزدهرة التي تأثرت تأثرا شديدا حتى هذه اللحظة بأفكار ما بعد الحداثة) إحدى أبرز المساهمات التي قدمتها ما بعد الحداثة إلى المجتمع المعاصر. إن أنشطة «الرأسمالية المتأخرة» والمجتمعات الديمقراطية هي بالطبع قضايا سائدة على الساحة، ولا يوجد حاليا بديل متاح لها (بالتأكيد منذ عام 1989). وحسب افتراض عام - حتى إن كان وهميا - يقتضي الوفرة المستمرة، ينظر بعد الحداثيين إلى هذه الأنشطة على أنها تنتج معلومات في الأصل لا أشياء؛ مما يتطلب في المقام الأول تحليلا ثقافيا.
وهكذا، فإن نظرة ما بعد حداثية إلى التغيرات التي أحدثت أكبر تأثير في المجتمع المعاصر ستركز على قضايا مثل التكثيف الاستثنائي للزمان والمكان عبر وسائل الإعلام الجديدة (أتبنى هنا إجمالا رؤية ديفيد هارفي). (فقد أصبح في وسعنا الآن الاطلاع فورا على أحداث ومعلومات من أي مكان في العالم تقريبا عبر التليفزيون والإنترنت.) إن شبكة الإنترنت في العصر الحاضر ظاهرة ما بعد حداثية نموذجية؛ فهي (حاليا) غير مرتبة هرميا، وقطعا غير منظمة؛ أي تشبه الكولاج، وهو ما يتماشى مع تحول التركيز على إنتاج البضائع إلى التركيز على إنتاج خدمات المعلومات. (إنها قصة الثروات الهائلة التي تجمع أو تتبدد كل يوم، لا عن طريق بيع أشياء وشرائها، بل عبر عمليات تجارية في أسواق المال على يد مضاربين جالسين أمام شاشات تليفزيونية تتيح لهم الوصول عبر الكمبيوتر إلى معلومات تزيد عما كان متاحا في أي وقت سبق.) يرى البعض أن ذلك ناتج عن الآراء (آراء صناع القرار بالأسواق) المتذبذبة وصور الأخبار المتغيرة التي تفرض نفسها فرضا مخزيا فوق الواقع، وتلك أيضا سمة نموذجية من سمات «حالة ما بعد الحداثة»؛ فالكثير منا يعمل في عالم منقاد وغارق في المعلومات إلى حد لا يمكن تصديقه (أما من هم خارج هذا الإطار، فغالبا ما يعانون من الجوع أو الأمية أو المرض العقلي أو يكافحون في قاع الهرم الاجتماعي). إنه عالم يفوق قدرتنا على الاحتمال، فأينما نذهب يرهق حواسنا كم مفرط من الصور المنتشرة في المجلات والإعلانات وعلى شاشات التليفزيون وعلى ناطحات السحاب، وغيرها من الأماكن (تكررت هذه الشكوى كذلك في حقبة الحداثة)، بينما تؤدي تغييرات بسيطة في الأذواق إلى زيادة مبيعات البضائع بحيث تسيطر الموضة على الثقافة، وتصبح عملية تشكيل الآراء التي يتولاها الإعلام أحد مقومات العملية الاقتصادية.
إن جل هذا التشخيص الذي يقدمه بعد الحداثيين لحال مجتمعنا يعرضهم لتهمة المغالاة الشديدة في تقدير سذاجة مواطنيهم؛ فالكثير من نقدهم اللاذع لا يزيد عن محاولات مبالغ فيها لحمايتنا من مخاطر بديهية، تستحق بالكاد وضعها في هذا الإطار الجليل من النظريات غير المكتملة. في حين لا يرى البعض مشكلة في هذا الوضع؛ ففي عالم ما بعد مكلوهان (الفيلسوف صاحب نظرية تكنولوجيا وسائل الإعلام) الذي تحول إلى قرية كونية حيث نعيش جميعا الآن تقريبا، ويجمع بيننا التواصل الإلكتروني بدلا من العلاقات الاجتماعية الحقيقية، «بالطبع» قد تحظى الرموز بقيمة تفوق قيمة البضائع.
يجدر بنا إذن طرح السؤال التالي: إلى أي مدى يمكن تبرير «تفسيرية الشك» ما بعد الحداثية؟ إذ يكمن على أي حال تناقض تعجيزي في صميم هذا التحليل، فمثلا إذا زعم أحدهم أن كل شيء يتكون «فعليا» عبر صورة خادعة لا عبر الواقع، فكيف تأتي له أو لها «معرفة» ذلك؟ فهم يفترضون مسبقا نفس الفروق التي ينتقدونها. على أفضل الأحوال، يقدم أولئك النقاد سلسلة من الملاحظات المتعالية والتافهة على ما يمارسه «الآخرون» من خداع (للذات)، أو يكتفون بالتعبير عن استنكارهم - المبني على أسس أخلاقية ليبرالية راسخة - لنجاح صناعة الإعلانات والتليفزيون وغيرها من وسائل الإعلام في دفع الناس نحو استهلاك أشياء يعترضون هم عليها، بل وتصديقها. إنها رؤية لا تختلف عن تفضيل آراء سياسي على سياسي آخر، وليست دليلا جيدا على التمتع بإدراك مبتكر لوضع جديد حقا في المجتمع المعاصر.
لكن المشكلة الأهم هي التراجع الأكيد في قبول الأيديولوجيات والمعتقدات التقليدية الشائعة لدى أقلية مؤثرة. قد ينزع أحد أتباع شكوكية ما بعد الحداثة - مع استعداداه للاقتناع بجزء من مبدأ النسبية وإثر ملاحظة الكم الاستثنائي من التصورات المتنازعة حول الواقع، والمتاحة لنا داخل مجتمع يتسم بتعددية جلية وتسامح ملحوظ - نحو تفضيل اتجاه مثل ذلك الذي طرحه ريتشارد رورتي تحت مسمى «سخرية ما بعد الحداثة». لدى أتباع هذا الاتجاه شكوك حول حقيقة وجود أي «مفردات نهائية» ويدركون أن الآخرين لديهم مفردات مختلفة؛ أي إنهم لا يرون مفرداتهم «أقرب إلى الواقع» مقارنة بمفردات بقية الناس؛ ومن ثم لا يساورهم القلق إلا حيال احتمالية اختيارهم مفردات لا تناسبهم من بين مفردات اللغة المتنوعة؛ ومن ثم اكتساب هوية غير مناسبة. إن من ينتمي إلى هذا الاتجاه:
لا ينشغل بتقديم منهج أو برنامج أو أساس منطقي خاص به وبرفاقه، بل يكتفي بفعل ما يفعله جميع المؤمنين بسخرية ما بعد الحداثة ليس إلا؛ أي محاولة تحقيق الاستقلال الذاتي؛ فهو يحاول الخروج من أسر الاحتمالات الموروثة وخلق احتمالاته الخاصة، يحاول التخلص من مفردات نهائية قديمة وتكوين مفردات خاصة به. ويتسم أتباع هذا الاتجاه عامة بأنهم لا يطمحون إلى حسم شكوكهم حيال المفردات النهائية عبر كيان أكبر من ذواتهم؛ مما يعني أن معيارهم لتبديد الشكوك - معيارهم لتحقيق الكمال الخاص - هو الاستقلال الذاتي لا الاتحاد مع قوة خارج ذواتهم.
ريتشارد رورتي، «الاحتمال، والسخرية، والتضامن»، (1989)
تتمحور الفكرة هنا حول إدراك أن الافتقار إلى الأسس وإمكانية حدوث أي شيء هو أمر جيد؛ إذ سيؤدي إلى مزيد من الليبرالية لأنه سيحد من القيود المفروضة على المناقشات حول الممكن، فضلا عن تكوين وعي لدى المرء بأن موقفه في تلك المناقشات نسبي؛ بمعنى أن وجهة النظر المعارضة قد يكون لها كذلك ما يبررها. يعتبر رورتي ذلك نوعا من السخرية الوجودية، فمن يتبنون هذا الاتجاه تساورهم الشكوك حول المفردات التي يستخدمونها؛ إذ إن مفردات الآخرين تبدو كذلك ناجحة في أداء مهمتها. ولا يمكن محو تلك الشكوك عن طريق أي «إجابة نهائية» أو موقف تأسيسي؛ إذ لن يتيقن المرء قط من أن الآخرين أدركوا أجزاء من الواقع تزيد عما أدركه هو (عبر مفرداته الخاصة). أما في المجالات الفنية لا الفلسفية أو السياسية، فيزعمون تعدد أساليب الإبداع الفني مع عدم وجود أسلوب مفضل لتفسيره. بالطبع، من المفترض أن تتشابه الفلسفة مع النقد الفني أو الأدبي تشابها أكبر من المعتقد؛ ومن ثم، تنبع السخرية من عجزنا الدائم عن النظر إلى أنفسنا أو إلى المفردات التي نستخدمها أو إلى النظرية أو المجال الفني الذي نتبناه نظرة جدية تماما؛ إذ لم يعد بوسعنا (في سياق ما بعد حداثي) الاعتماد على الأفكار أو الحجج الكبرى المتجاوزة والفاصلة، بل علينا الاعتماد بعضنا على بعض وعلى النتائج التفسيرية التي تترتب على الحوارات التي نجريها بيننا (بما فيها الإبداع الفني). وهكذا، تصبح معايير النجاح معايير عملية تماما. لقد تعاقبت المفردات المختلفة وتعاقب المتنافسون عليها على مر التاريخ، فمنذ فترة قصيرة كان «الرسم الهندسي الجديد» سائدا، والآن أصبح الفنانون البريطانيون الشباب ومعرض «سينسيشن» يتصدران المجال. ولا تتمتع الحركات السياسية بوضع أفضل من الحركات الفنية في هذا السياق. فعلى سبيل المثال، التحول من السياسة التاتشرية إلى سياسة حزب العمل الجديد ليس سوى تغير مفردات من منظور رورتي - يتضمن كذلك القصص الملفقة التي تهدف إلى تلميع صورة السياسيين، والتي تصاحب كل حكومة - ولا يتعلق بظهور مناقشات أو مبادئ سياسية جديدة قائمة على أساس وجيه.
إذا قبلنا هذا النوع من وجهات نظر ما بعد الحداثة، فسيصبح لدينا بالقطع شكل من ليبرالية ما بعد التنوير، وهو نموذج قد يتمتع بالتأكيد بأكبر قدر من الجاذبية في الولايات المتحدة؛ نظرا لالتزامها العام بمبدأ التعددية الثقافية، ولإيمانها بالحقوق وبفكرة تحسين الذات، فضلا عن احتوائها على نسبة كبيرة من المؤمنين بالمعتقد المسيحي داخل إطارها الواسع كدولة علمانية. وهي أيضا وجهة نظر علاجية - لا فلسفية - فهي تقترح ببساطة «مناقشة الأمر تفصيلا»، لكن هذا الاقتراح يظل بالطبع مجرد اقتراح، وفي حالة تبني هذا الشكل (الساخر) من أشكال الليبرالية وفقا للنمط ما بعد الحداثي الدقيق، فلن يزيد عن كونه شكلا من أشكال الحياة المتعددة.
ربما كان من الأصعب رؤية هذا النوع من نظرة ما بعد الحداثة، الذي يدعو إليه رورتي شاغلا قائما ومستمرا في بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا، فضلا عن الدول المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي؛ حيث يتبنى الكثير ممن قبلوا الجلوس إلى مائدة الحوار مواقف غير قابلة للنقاش، حتى وإن لم تكن مواقف (قومية أو إسلامية أو مسيحية أو ماركسية) تقليدية يتجلى ثباتها وفقا للنظرية. لكن عندئذ سيطرح بعد الحداثيين المتشككون تعليقا صائبا على ذلك يزعم أن المشكلة تكمن تحديدا فيما يعتنقه بعض الناس من معتقدات يقينية غير مبررة تماما. ومن ثم، عندما نطالب بإجراء «حوار بناء» في أيرلندا الشمالية، فعلينا كذلك - وفقا لوجهة نظر ما بعد الحداثة - أن نطالب بتمتع أطراف الحوار الرئيسية بدرجة ما من النسبية الساخرة، وهو شرط قد يجدون صعوبة واضحة في تحقيقه.
إذن، تميل معتقدات ما بعد الحداثة نحو نسبية وتعددية ثقافية. وفي خضم ذلك تقبل بسهولة وسذاجة كبيرتين الوضع اليقيني السائد حاليا؛ وهو أن معظمنا في الغرب الآن نؤمن بأننا نحيا في مجتمعات تحطمت فيها وجهات النظر التقليدية. وعلى الرغم من أننا قد نؤمن ب «منطق» الوفاء بالوعود، فهل يمكن أن نظل مؤمنين به لوقت أطول في ضوء السياسة الواقعية الحداثية، وفي إطار يشبه على أي نحو الإطار الذي آمن به كانط وهيوم؟ إن تلك المبادئ التقليدية - وبدائلها - تفتقر حاليا على ما يبدو إلى أساس راسخ. يعبر جون جراي عن هذا الرأي قائلا:
إن حالة ما بعد الحداثة التي تتضمن وجهات نظر متعددة ومؤقتة، وتفتقر إلى أي أساس عقلاني أو متجاوز أو إلى رؤية موحدة للعالم، هي حالة خاصة بنا، قدر كتبه التاريخ علينا، ومن العبث التظاهر بغير ذلك.
جون جراي، «صحوة التنوير»، (1995)
رغم ذلك - وكما حاولت التوضيح فيما سبق - ينبغي مقاومة هذه الحالة، ومنعها من تبرير نوع من الاتجاه اللاتفريقي الساخر. إن الادعاء بامتلاك بصيرة تفكيكية راجحة يعتمد على مفاهيم الحقيقة، فالفكرة التي تزعم أن الذات تخضع للتشكيل الاجتماعي بطرق متنوعة ومختلفة تعجز على ما يبدو عن تدمير فكرة البشر كأفراد لكل منهم قصة حياة فريدة يكتبها بنفسه، أو فكرة أن حقوق الأفراد القانونية ينبغي الدفاع عنها في الإطار السياسي من خلال الرجوع إلى مبادئ أو مثل عالمية، مثل تلك التي تدعو إلى المساواة أمام القانون. ومن ثم، ينبغي عدم تجاهل المعتقدات التي تؤدي إلى الرجم العلني لامرأة «زانية» بوصفها انعكاسا ل «نمط الحياة السائد هناك» مقارنة بالنمط «السائد هنا». يبدو أن نسبية ما بعد الحداثة - سواء كانت ساخرة أم لا - قد لا تزيد في الحقيقة عن دعوى مستترة لتقبل التعدد، تناسب الأنماط الشديدة الاختلاف من المواقف العرقية والجنسية والفردية التي حظيت باهتمام كبير - في مجتمعات الرخاء والعيش المترف على الأقل - أثناء حقبة ما بعد الحداثة. لقد بذل فكر ما بعد الحداثة جهدا عظيما من أجل توضيح اختلافات الهوية المتضمنة هنا والدفاع عنها، لكن تلك الاختلافات غالبا ما تؤدي في واقع الأمر إلى صراعات مريرة يحتاج حلها إلى مبادئ أفضل من مبادئ ما بعد الحداثة تلك. يرى البعض أن المثلية الجنسية تتعارض مع دينهم، بينما يرى آخرون، مثلي، أنها مسألة أذواق ولا تشتمل في ذاتها على عواقب أخلاقية، ويعتقد آخرون أنها تتضمن المشاركة في ثقافة أو اتباع نمط حياة يستحق بالفعل الدفاع عنه كنظام كامل لكن لا يمكن قبوله كحق إلا عندما لا يؤثر سلبا على حقوق الآخرين. بناء على ذلك، ما زال الكثير من مفكري ما بعد الحداثة في حاجة إلى قبول الحقيقة الأخلاقية النهائية المتضمنة في فكرهم، التي ينبغي في رأيي ألا تعبر عن نسبية لا مبالية، بل تعبر في أفضل الأحوال عن تقبل حقيقة أن القيم المتضمنة في الأعمال الفنية المختلفة وأنماط الحياة المتباينة هي - كحقيقة لا تقبل الشك - غير متساوية ومتنازعة غالبا. لكن تقبل مزاعم بعد الحداثيين المتنوعة على سبيل المثال ليس تقبلا نسبيا «بطبيعته» (رغم أنه كثيرا ما يظن هكذا خطأ). إن التقبل هو استعداد قائم على مبدأ لتحمل التعبير عن معتقدات يرى المرء أنها خاطئة ويمارسها من أجل هدف أكبر؛ مثل حرية البحث أو تمتع الآخرين بالاستقلال الذاتي أثناء تشكيل هويتهم أو كتابة روايتهم الخاصة، لكن في رأيي شريطة ألا يؤذوا الآخرين في أثناء ذلك. لكن ينبغي ألا يسمح لأي قدر من التقبل أو الشكوكية ما بعد الحداثية بالتعارض مع المثل التي يعبر عنها إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان (رغم أن بعضها قابل للمناقشة) أو اتفاقية جنيف على سبيل المثال.
كما زعمت على مدار هذا الكتاب، تشبه ما بعد الحداثة إلى حد ما بيانا حزبيا، فهي في الأساس مجموعة من المعتقدات لا يعتنقها الجميع في حقيقة الأمر، ومن المستبعد أن تعكس الحالة العامة التي يعيشها الرجال والنساء في المجتمع المعاصر. فإذا لم يكن لدينا إيمان مسبق بفكر ماركس وفرويد - أو أيديولوجية أخرى - فسيستحيل علينا تعميم معتقدات ما بعد الحداثة باعتبارها تشخص الأوضاع «الفعلية» التي نعيشها. (وبالطبع، إذا فعلنا ذلك فسنصبح عندئذ متقبلين لذلك النوع من الالتزام الأيديولوجي الأكبر الذي طالما هدفت ما بعد الحداثة إلى مقاومته.) يعبر هانز بيرتينز تعبيرا بليغا عن هذا فيما يلي:
لا يعتنق الكل - رغم أن وجود ما بعد الحداثة ومناصريها في كل مكان قد يوحي بغير ذلك - وجهة النظر التي ترى أن اللغة تشكل الواقع لا تمثله، أو أن الفرد الحداثي المستقر والمستقل قد حلت محله دمية ما بعد الحداثة التي غالبا ما يحدد الآخرون هويتها ودائما ما تخضع للتشكيل، أو أن المعنى أصبح مؤقتا وخاضعا للمفاهيم الاجتماعية، أو أن المعرفة لا يمكن اعتبارها معرفة إلا ضمن بنية خطابية محددة؛ أي ضمن هيكل سلطة محدد.
هانز بيرتينز «فكرة ما بعد الحداثة»، (1994)
البدائل
لقد حقق نقد ما بعد الحداثة نجاحا كبيرا في إطار النصح الأخلاقي، لكن ادعاءه بتقديم إدراك فريد لحقيقة الحالة التي نعيشها، أو وصف كامل ودقيق للمجتمع، لا يقوم على أسس مقنعة. من المهم إذن أن ننظر إلى أفكار أتباع ما بعد الحداثة وإنجازاتهم باعتبارها جزءا من صورة أكبر تعكس التفاعل مع الاتجاهات العقائدية الأخرى؛ ففي جميع المجالات التي تناولناها - من الفلسفة إلى الأخلاقيات والنشاط الفني - توجد اتجاهات فكرية بديلة مفعمة بالحيوية خارج تلك التي روج لها بعد الحداثيين، أشهرها الاتجاه الليبرالي الأنجلو أمريكي. من بين من تبنوا هذا الاتجاه - على سبيل المثال - كتاب مثل جون راولز، وجوزيف راز، ومايكل ساندل، وستيوارت هامبشير، وإيمي جتمان، ومارثا ناسبام، وويل كيمليكا، وجون جراي، ورونالد دوركين، وبرايان باري، ومايكل والزر. يبدو أن ريتشارد رورتي هو الفيلسوف الأنجلو أمريكي الوحيد المعروف لدى معظم منظري ما بعد الحداثة.
لذا، لن نجد على الأرجح إنجازات راسخة لفكر ما بعد الحداثة في مجالي الفلسفة أو السياسة أو حتى في مجال الفكر الأخلاقي، بل في الثقافة الفنية. ربما تخرج سياسيات حقبة ما بعد الحداثة من دائرة الاهتمام مع تغير الظروف التي تسببت في ذيوعها، لكن ما سيبقى - إذا بقي كذلك تصور ما للتاريخ والتراث - هو تصور لما بعد الحداثة بوصفها ظاهرة ثقافية، تركت لنا مجموعة من الأعمال الأصلية الكبرى على مدار الثلاثين عاما الأخيرة التي شهدت تأثيرها ، تحديدا لكتاب مثل أبيش، وبارثلماي ، وكوفر، وديليلو، وكثيرين غيرهم. وبالتأكيد يحتل عدد كبير من أولئك المشتغلين بالفنون الأخرى نفس المكانة باعتبارهم نماذج ل (بعض) أفكار ما بعد الحداثة، من بينهم جوزيف بويس، وكريستيان بولتونسكي، وفرانك جاري، وفيليب جلاس، وجان لوك جودار، وروبرت روشنبرج، وريتشارد روجرز، وسيندي شيرمان، وفرانك ستيلا، وجيمس ستيرلينج، وكارلهاينز شتوكهاوزن، وفيم فيندارس.
شكل 5-2: «جارية» (1955-1958) لروبرت روشنبرج. («الصورة تؤدي إلى النسبية التي تؤدي بدورها إلى الشك.» ما الهدف إذن من الدجاجة التي تعتلي العمل؟)
لكن من المهم تذكر أنه في الفنون أيضا ظلت الاتجاهات البديلة موجودة؛ لسببين رئيسيين؛ وهما استمرار الاتجاهات الحداثية، ووجود عدد كبير من الفنانين الذين تعلموا بعض الأفكار من حركة ما بعد الحداثة دون أن يتحولوا إلى أتباع مخلصين لها. فيبدو أن بعض الحركات الحداثية قد استأثر بها بعد الحداثيين مباشرة، مثل «الدادية» وطريقة دوشامب في تقديم الأغراض العادية «المكتشفة» كأعمال فنية، والبنائية (من خلال تأثيرها على الرسم التبسيطي أو رسم الحقل اللوني)، والسريالية (التي ألهمت كولاج ما بعد الحداثة بصوره التي لا تجمعها علاقة منطقية، كما في أعمال روشنبرج على سبيل المثال). ليس من الصعوبة بمكان ملاحظة ذلك التشابه والترابط بين حقبة وأخرى (لا يوجد جديد هنا)، ويرجع التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة هنا إلى مجموعة من القيم المختلفة (على سبيل المثال، لا تستند سريالية ما بعد الحداثة إلى نظرية فرويد الكاملة). كذلك أدى هوس ما بعد الحداثة بالاختلاف السياسي - وبالفن بوصفه تعبيرا عن مغزى سياسي - إلى هجوم حتمي على ادعاء الحداثيين (الشامل) بوجود متعة (حتى وإن كانت مجرد متعة فردية برجوازية) مستمدة من السمات المباشرة أو الشكلية للأعمال الفنية. ورغم ذلك - كما ذكرت سابقا - استطاع الرسم التعبيري الجديد تطوير سمات حداثية وتحقيق ازدهار في هذه الحقبة، دون أي ولاء كامل أو واضح لمعتقدات ما بعد الحداثة، وهو ما ينطبق أيضا على الاتجاه التجريدي والاتجاه الواقعي بالتأكيد.
بالتأكيد نجح قدر كبير من النشاط الفني البارز في الفترة التي بدأت منذ عام 1945 (وتحديدا منذ عام 1970، لأهداف هذا الكتاب ) في التوصل إلى حالة من التوفيق بين الأفكار الحداثية وما بعد الحداثية. (بالطبع، سنواجه قدر الصعوبة نفسه الذي واجهناه في تعريف ما بعد الحداثة عندما نعرف «الحداثة» في مواجهة «ما بعد الحداثة»، ومن الصعب للغاية تصنيف بعض الفنانين في هذا السياق.) فعدد كبير من أكثر الكتاب تأثيرا - مثل ميلان كونديرا، وإيتالو كالفينو، وسلمان رشدي، وجون بارث، وجوليان بارنيز، وماريو بارجاس يوسا، ومارجريت آتوود، وإمبرتو إيكو - ممن تتضمن أعمالهم الكثير من قضايا هذه الحقبة؛ هم أبعد ما يكون عن الانتماء المطلق لفكر ما بعد الحداثة. وهو ما ينطبق كذلك على فنانين مثل جنيفر بارتليت، وأنتوني كراج، وريتشارد ديبينكورن، وإريك فيشل، وهوارد هودجكين، وديفيد هوكني، وبيل جاكلن، وآر بي كيتاي، إلى جانب الكثير من المؤلفين الموسيقيين البارزين مثل جون آدامز، وهاريسون بيرتويسل، وجيورج ليجاتي، وفيتولد لوتوسوافسكي.
لذا، توازن روايات إمبرتو إيكو (وهو في حد ذاته أحد منظري ما بعد الحداثة البارزين) - على سبيل المثال - بين الحداثة وما بعد الحداثة؛ فروايته «اسم الوردة» (1983) تبدو كرواية بوليسية مبنية على السعي الحداثي نحو الحقيقة، لكنها تتبنى أسلوبا ما بعد حداثي واضحا عندما «لا تكشف سوى قدر ضئيل جدا من الحقائق مع تعرض المحقق للهزيمة»، حسبما يصرح إيكو في ملحق الرواية. في الرواية، يقول ويليام باسكرفيل إنه اكتشف أن هورجيه هو القاتل «عن طريق الخطأ»؛ إذ كان يظن أن الأدلة تحوي نمطا مستمدا من سفر الرؤيا، لكنه في الحقيقة كان نمطا عرضيا. فقد نجح في حل الكثير من الألغاز الفرعية لكن لم يتوصل إلى حل لغز الحبكة الرئيسي إلا عبر تفسير خاطئ (ساخر). لكن حالما لعب شون كونري دور ويليام في الفيلم المقتبس عن الرواية، نجح على ما يبدو في حل اللغز؛ لأنه ليس بوسع الفيلم التجاري تعريض جمهوره للكثير من إحباطات ما بعد الحداثة.
تشتمل أعمال الكثير من الكتاب البارزين مثل إيكو على بعض عناصر ما بعد الحداثة الجلية، لكنها تحوي كذلك عددا من السمات التقليدية الأكثر ثباتا، التي تساعد بالتأكيد في وضع تلك الأعمال بالقرب من مركز الثقافة، في الموقع الذي تتمنى على الأرجح أن ترى نفسها فيه.
فيض من الأعمال الفنية العظيمة خارج إطار ما بعد الحداثة
ما زال العنصر الرئيسي في التجربة الفنية لدى الكثير من الأفراد ينتمي إلى نوع من الواقعية الليبرالية، أكثر التزاما بإمكانية الوصول إلى الحقيقة، وإمكانية بلوغ حقيقة ترتبط ارتباطا وثيقا بالاعتبارات السياسية والإنسانية، مقارنة بما بعد الحداثة. لقد قدم الروائيون الليبراليون التقليديون - أمثال جون أبدك، وبرنارد مالاماد، ونورمان ميلر، وسول بيلو، وفيليب روث، وهاينريتش بول، وإيان ماكيوان - أعمالا ما زالت تلعب دورا بالغ الأهمية في فهم الكثير من الناس للحياة المعاصرة، وهو نفس الدور الذي لعبته أعمال جون آشبيري، وفرانسيس بيكون، وإنجمار بيرجمان، ولوسيان فرويد، وجونتر جراس، وهارولد بنتر، وفرنسوا تريفو، وغيرهم. تلك هي مجرد قوائم أسماء قابلة للنقاش، لكنها تذكرنا هنا بالأساليب التي تمكننا كأفراد من تقديم أعمال تسجل القيم التي تهمنا وتحفظها، والتي لا تنتمي إلى نظريات أو حتى إلى التزامات سياسية واضحة. لقد كان فن ما بعد الحداثة جزءا بارزا حقا من هذا الحراك كله لكنه لم يكن بالتأكيد الجزء المهيمن.
رغم ذلك لعب فن ما بعد الحداثة دورا بالغ الأهمية في تجديد الصراع بين الشكوكية والإيمان، بين الليبرالية واليسار الماركسي، بين استراتيجيات فرض الأيديولوجيات وبين الحفاظ على الهوية المستقلة. وقد تحمل في تلك النواحي الجزء الأكبر من عبء تقديم توصيف ونقد «لنمط حياتنا الآن» منذ ستينيات القرن العشرين. ربما لم يتمكن مفكرو ما بعد الحداثة من إفساح مجال لهم في الأنشطة اليومية الفعلية التي يؤديها السياسيون المحترفون - ولم يؤثروا فيها سوى أقل تأثير في رأيي - على الرغم من أنهم ساهموا مساهمة كبيرة في وضع منهج يتسم بالمزيد من الليبرالية في التعامل مع سياسات «الهوية» الخاصة بالجنسانية والعرق. لقد نزعوا بوصفهم نقادا ثقافيين إلى رؤية الاعتبارات الأخلاقية والسياسية بوصفها جدلا حول شرعية أنواع معينة من النشاط «التمثيلي» الخاضع لسيطرة الصورة.
في هذا الكتاب، حاولت أن أقدم وصفا ونقدا لما بعد الحداثة؛ لأنني أومن أن الفترة التي شهدت أعظم تأثير لها قد انتهت الآن؛ فمؤسسو فكر ما بعد الحداثة يواجهون بدورهم الآن شكوكية جيل جديد؛ لهذا السبب حاولت فيما سبق التركيز على أفكار ما بعد الحداثة التي أرى أنها تتمتع بأطول استمرارية ممكنة. إن المعارك التي نشبت حول ما بعد الحداثة (على العكس تماما من تلك التي أثيرت حول الحداثة) تمتعت بسمة مميزة - ويرجع الفضل في ذلك إلى «نشأة النظرية» - ألا وهي طرح الأسئلة الفلسفية الخالدة. إن هذه الجدلية الضمنية العميقة - بين المنطق والشكوكية، وبين الواقع والصورة، وبين قوى الاحتواء والإقصاء السياسية - تقع في قلب فكر ما بعد الحداثة، وهي جدلية سوف تستمر في الاستحواذ على اهتمامنا لفترة زمنية قادمة.
مراجع
In addition to the references and citations I have given throughout the text, the following support and provide background to some of the essential points, topics, and examples discussed in each chapter of this book.
الفصل الأول
Frederic Jameson’s comments on the Western Bonaventura Hotel in Los Angeles are made in his
Capitalism (Verso, 1991), pp. 40, 42, 44.
الفصل الثاني
Jean-François Lyotard attacks the prevailing grand narratives in
The Postmodern Condition: A Report on Knowledge (Manchester University Press, 1984).
Edward Said’s account of the imposition of the Western imperialist grand narrative onto Oriental societies, along with a discussion of Flaubert’s encounter, can be found in his
Orientalism (Harmondsworth, 1985).
George Lakoff and Mark Johnson explore the influence of Derridean deconstruction in
Metaphors We Live By (University of Chicago Press, 1980).
The remarks from Alun Munslow are taken from his
Deconstructing History (Routledge, 1997).
See Deborah Lipstadt,
Denying the Holocaust: The Growing Assault on Truth and Memory (Penguin, 1993) to get an idea of the consequences of a postmodern approach to history writing.
The 'witch’ example is from Richard J. Evans,
In Defence of History (Granta, 1997) 218f., reporting Diane Purkiss,
The Witch in History: Early Modern and Twentieth Century Representations (Routledge, 1996), pp. 66-8.
Bruno Latour’s comments on Einstein’s relativity theory can be found in Noretta Koertge (ed.),
A House Built on Sand (Oxford University Press, 2000), 12 and 181ff.
Alan Sokal and Jean Bricmont refute the postmodernist 'attack on science’ in their
Intellectual Impostures (Profile, 1998).
Emily Martin’s article 'The Egg and the Sperm - How Science Has Constructed a Romance Based on Stereotypical Male-Female Roles’ is printed in Evelyn Fox Keller and Helen E. Longino (eds),
Feminism and Science (Oxford University Press, 1996), p. 103. Scott Gilbert’s article is cited by
Koertge op cit., p. 63.
الفصل الثالث
Foucault’s discussion of the episteme takes place in his
The Order of Things: An Archaeology of the Human Sciences (Tavistock, 1970).
Men, when they get angry and abuse women, seem to find stereotypical, subordinating norms alarmingly available. See George Lakoff,
Women, Fire and Dangerous Things: What Categories Reveal about the Human Mind (University of Chicago Press, 1987), 380ff.
الفصل الرابع
Brian McHale presents his views on ontological uncertainty in postmodernist writing in his
(Methuen, 1987), pp. 26-43.
For a fuller analysis of the development of postmodernist ideas in music, see Christopher Butler,
After the Wake: An Essay on the Contemporary Avant Garde (Oxford University Press, 1980), pp. 25-37.
Michael Fried discusses the 'theatricality’ of minimalism in
Art and Objecthood (Chicago University Press, 1998), 148ff.
Rosalind Krauss explores the idea of
re -production in photography in her
The Originality of the Avant Garde and Other Modernist Myths (MIT Press, 1985), quote taken from p. 170.
For a more sympathetic account of Bofill’s work, see Charles Jencks,
Classicism in Art and Architecture (Academy, 1987), 258ff.
الفصل الخامس
For reasons to despair about reason, see John Burrow,
The Crisis of Reason: European Thought, 1848-1914 (Yale University Press, 2000).
The arguments for universalist values have been eloquently put forward by Brian Barry in his
Culture and Equality (Polity, 2001).
See David Harvey,
The Condition of Postmodernity (Blackwell, 1980) for a discussion of the influence of the modern media on culture.
قراءات إضافية
There are a number of anthologies of postmodernist writings, of which the most committed is Thomas Docherty (ed.),
Reader (Harvester Wheatsheaf, 1993). Ihab Hassan’s seminal articles on postmodernism are collected in his
The Postmodern Turn (Ohio State University Press, 1987). Derrida’s thoughts on literature are conveniently brought together in Derek Attridge (ed.),
Jacques Derrida: Acts of Literature (Routlege, 1992). Steven Connor’s
(Blackwell, 1989) is strongly committed to an eclectic range of postmodernist theories. Charles Jencks’s alternative view is neatly summarized in his
What Is Postmodernism? , revised edn. (Academy, 1996).
For an account of the politics of postmodernism, following Jameson, see
The Origins of Postmodernity (Verso 1998). On nationalist narratives in the postmodern period, looked at from a broadly postmodernist theoretical standpoint, see Elleke Boehmer,
Colonial and Postcolonial Literature (Oxford University
Nation and Narration (Routledge, 1990). An excellent early example of the use of Marx, Freud, and deconstruction in literary analysis is Terry Eagleton,
Criticism and Ideology (NLB, 1976). Useful because they make period contrasts are Patricia Waugh,
(Arnold, 1992) and Peter Brooker,
Modernism/Postmodernism (Longman, 1992).
The following are critical but also informative about postmodernist tendencies. For an account of the influence of Marx on intellectuals in this period, see J. G. Merquior,
Western Marxism (Paladin, 1986). The new literary theory encountered surprisingly little published opposition, but see the interestingly entitled
Fraud: Literary Theory and the End of English
by Peter Washington (Fontana, 1989) and Christopher Butler,
Interpretation, Deconstruction, and Ideology (Clarendon Press, 1984), and, for a general critique, John M. Ellis,
Against Deconstruction (Princeton University Press, 1989) and Raymond Tallis,
Not Saussure (Macmillan, 1988). A brilliant account of the relationship of science to political and moral considerations is given by Philip Kitcher in his
Science, Truth and Democracy (Oxford University Press, 2001). The tendency to the local story attitude of postmodern philosophy has inspired a reply from Thomas Nagel, which defends his view of the value and possibility of objectivity in philosophy and of the abstracting 'view from nowhere’ in ethics, expressed in his
The Last Word (Oxford University Press, 1997).
An influential model for non-linguistic phenomena analysed as text was Roland Barthes,
Système de la mode (1967; tr. as
The Fashion System , Hill and Wang, 1983). This approach became common to all 'semiotic’ approaches to culture. For a survey, see Robert Hodge and Gunter Kress,
Social Semiotics (Blackwell, 1988). For a study of the different subject positions open to us within postmodernist theory and the contemporary novel, see Kim Worthington,
Self as Narrative (Clarendon Press, 1996). For Habermas’s critique of postmodernism, see
inter alia
his
The Philosophical Discourse of Modernity (MIT Press, 1987). Edward Lucie-Smith,
Art Today (Phaidon, 1995) is an excellent survey of the many current schools of art. An essential resource is to be found in Kristine Stiles and Peter Selz (eds),
Theories and Documents of Contemporary Art (University of California Press, 1996).
مصادر الصور
(1-1) John Portman & Associates. (3-1) © Cindy Sherman/Metro Pictures. (4-1) © Jasper Johns/VAGA, New York/DACS, London 2002. Leo Castelli Gallery, New York. (4-2) © Jeff Koons Productions Inc. (4-3) © Malcolm Morley. Norman and Irma Braman collection. Courtesy of Sperone Westwater, New York. (4-4) © Richard Estes. Marlborough Gallery, New York. (4-5) © Anthony Caro. Photo © Tate, London 2002. (4-6) © Michael Craig-Martin. Australian National Gallery, Canberra. (4-7) © Jeff Wall. Musée national d’art moderne, Paris. Photo © RMN. (4-8) © Martin Charles. (4-9) © Charles Jencks. (4-10) © ARS, NY and DACS, London 2002. Judy Chicago collection. Photo © Donald Woodmann. (4-12) © Cindy Sherman/Metro Pictures. (4-13) © Barbara Kruger. Mary Boone Gallery, New York. (4-14) © Elizabeth Murray. Pace Wildenstein, New York. (4-15) © Robert Colescott. Phyllis Kind Gallery, New York. (5-1) From Ghirardo,
Architecture after Modernism (1996) © Bettmann/Corbis. (5-2) © Robert Rauschenberg/DACS, London/VAGA, New York 2002. Museum Ludwig Köln. Photo © Rheinisches Bildarchiv.
অজানা পৃষ্ঠা