عمرو بن الجموح ﵁
وهذا عمرو بن الجموح ﵁ وأرضاه الذي لم يُسمع عنه شيئًا قبل إسلامه، ولا أحد كان يعرفه في الجزيرة العربية، فعقليته كانت ساذجة وبسيطة ومحدودة جدًا، لدرجة أنه قعد سنين طويلة يسجد لصنم من خشب عمله بيديه، لا أقول: عشرين أو أربعين سنة، بل أكثر من ستين سنة وهو يسجد لصنم صنعه بيده، فوهن العظم وخط الشيب في الرأس، وكان المفروض أن يزداد حكمة كما يقولون، لكن كان كبيرًا جدًا في السن ولا يوجد عقل، وكان يمكن أن يموت في أي لحظة ويغلق الستار على حياة تافهة لا تساوي شيئًا في ميزان الناس، بل ولا في ميزان التاريخ ولا في ميزان الله ﷿، لكن الله ﷾ أراد له الهداية، فآمن بعد الستين، وحدث انقلاب هائل في حياته، أو قل: حدث انعدال هائل في حياته، ففطرته عدلت، وعقله المظلم استنار، وطموحاته التافهة الفارغة عَظُمت.
وهنا تأمل في عمرو بن الجموح كيف صار يفكر بعد الإسلام، وكيف أن عرجته الشديدة لم تمنعه من الجهاد في سبيل الله، وكان معذورًا في ذلك، فعندما تجهز المسلمون لغزوة أحد أصر عمرو بن الجموح أن يخرج مع المسلمين للجهاد، وحاول أبناؤه أن يمنعوه من الخروج، لكنه ذهب يشتكيهم إلى رسول الله ﷺ، ولم يقل: أنا معذور بنص القرآن الكريم: ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ﴾ [النور:٦١]، بل ذهب إلى رسول الله ﷺ وقال له: (يا نبي الله إن أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير وهم يتذرعون بأني أعرج، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة)، فأنا لا أريد عرجتي هذه أن تمنعني من الجهاد ومن دخول الجنة، وانظروا إلى أي حد هو مشتاق إلى الجهاد، وانظروا إلى الأهداف العالية والطموحات السامية، فقال رسول الله ﷺ لأبنائه: (دعوه لعل الله ﷿ يرزقه الشهادة)، وتأمل قوله: (يرزقه الشهادة)، أي: يرزقه الموت فالشهادة موت، لكنه موت في سبيل الله، فتأمل الهدف الذي صار عند عمرو بن الجموح، والأمنية التي تمناها الرسول ﷺ لـ عمرو بن الجموح ثم رفع عمرو بن الجموح يده إلى السماء وقال: اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي خائبًا.
فالخيبة أن يعود إلى أهله سالمًا، والغاية والأمنية والمطلب والفوز أن يموت في سبيل الله، فما الذي حصل في عقل وقلب وجوارح عمرو بن الجموح ﵁؟ وكيف تغير هذا التغيير الهائل؟ فقد قعد أكثر من ستين سنة في الكفر ولم يمض عليه في الإسلام غير ثلاث أو أربع سنوات، وكيف نما فكره وعقله بهذه الصورة؟! لقد صنع الإسلام عمرو بن الجموح وصيَّره إنسانًا، فعرف طريق ربه ﷿، وقبل هذا كان شخصًا آخر، لكن الآن أصبح عمرو يعيش حياة عظيمة، هي حياة الإنسان كما أراده الله ﷿: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة:٣٠]، فلا ينفع أن يكون خليفة الله ﷿ يعيش حياة الكفر والشرك واللعب والمعصية والتفاهة والفراغ، بل حياة الخليفة حياة جادة، وحياة الخليفة حياة الإنسان.
وحقق الله لـ عمرو بن الجموح ما تمناه، فمات شهيدًا في هذه الغزوة، ولم يمنعه العرج من أن يقوم بشيء عجز عنه كثير من الأصحاء، فيا ترى من كانت نقطة بدايته أسهل نحن أم عمرو بن الجموح؟ ويا ترى مَنْ منا مرت عليه ستون سنة في أفكار قديمة خاطئة لا يستطيع أن يغيرها الآن؟ ويا ترى من فينا رضي أن يسجد لخشب ستين سنة؟ ويا ترى من فينا شديد العرج ومع ذلك يشتاق إلى جهاد ونضال وشهادة؟ لا شك أن بدايتنا أسهل، ولكن نحتاج إلى لحظة صدق، ونحتاج إلى أن نقبل الإسلام بالمعنى الذي يريده الله ﷿، لا المعنى الذي تريده أهواؤنا وشهواتنا ورغباتنا، ونعمل كسيدنا إبراهيم ﵊: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:١٣١]، فتسليم كامل مطلق، فكل حياتنا لله ﷿ وحده، وهذا هو الشيء الذي كان عند الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
3 / 7