وقد اعترض على هذا المذهب (اللقانة)، القائل بوجود غريزة في الإنسان يميز بها الخير من الشر، كالحاسة التي يميز بها بين الألوان والأصوات: (1)
بأن الناس يختلفون في الحكم على الأشياء اختلافا كبيرا حتى في البديهات، ففي «سبارطة» كانت تعد السرقة عملا ممدوحا، ويعد القتل في «داهومي» واجبا من الواجبات فكيف يقال بعد: إن الناس منحوا غريزة لإدراك الخير والشر؟ مع أنا نراهم لا يختلفون هذا الإختلاف فيما يدرك بالحواس، فلا يقول قوم على الأسود أبيض، ولا يقول آخرون: إن الاثنين أكبر من الأربعة. (2)
وبأنا نشاهد أنا في كثير من الأعمال نتوقف عند الحكم عليها بأنها خير أو شر، ونحس أننا نحتاج فيها إلى إمعان النظر واستعمال الروية، ولو كان الحكم يرجع إلى حاسة فينا ما احتجنا إلى ذلك، كما لا نحتاج إلى إمعان النظر في إدراك الأسود والأبيض والجميل والقبيح. (3) نظرة عامة إلى هذه المذاهب
رأينا أن العلماء مختلفون فيما بينهم في معرفة المقياس الأخلاقي، وأن كل مذهب من المذاهب لم يسلم من اعتراضات ترد عليه، ولم يخل كذلك من وجهة نظر صحيحة.
وإذا ألقينا عليها الآن نظرة عامة رأينا أن من الخطأ الواضح الجري على مذهب السعادة الشخصية، لأن الإنسان لا يعيش وحده في هذا العالم، وهو مضطر في معيشته إلى التعاون مع أبناء جنسه، فليس من الحق إذن أن يبحث فقط وراء سعادته هو، فضلا عن أنا إذا رجعنا إلى الطبيعة الإنسانية رأيناها تدعو إلى عمل الخير للناس كما تدعو لعمل الخير لنفسه، فكثير مما يعمله الآباء والأمهات لأولادهم لا يعملونها لأنفسهم، بل هم قد يبذلون أنفسهم لخير أولادهم، وكأعمال الخيرين الذين يقصدون إلى إيصال الخير إلى الناس مهما نالهم من الأذى، بل نحن في أعمالنا اليومية نشعر بميل إلى إغاثة الملهوف، وإنقاذ المشرف على الخطر، ومساعدة المنكوبين ونحو ذلك ولو لم يعد علينا من ذلك منفعة خاصة، مما يدل على تأصل عاطفة الخير فينا، وحب الناس، وأن ليس شخصنا هو المحور الوحيد الذي تدور عليه الأخلاق.
وقد جاءت الأديان المختلفة لمحاربة «الأثرة» والتفاني في حب النفس، وحببت إلى الناس «الإيثار» والعمل لخير الناس، ووضعت المبادئ العامة لذلك نحو: «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به» و«أحب لأخيك ما تحب لنفسك» ومدح الله قوما بقوله تعالى:
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، نعم إن الطبيعة ركبت فينا حب ذاتنا ولكنها ركبت فينا أيضا حب غيرنا، وجعلت في استطاعتنا ألا نغلو في ذلك، وأن نحب الخير لنفسنا وللناس، ومن شاء أن يكون عظيما فليحب الخير أكثر مما يحب نفسه ويتبعه حيث كان.
ويقول «سبنسر»: إن الواجب ألا نبالغ في الأثرة ولا في الإيثار، لأنا إذا بالغنا في أيهما أضعنا المقصود منه، فلو أن كل إنسان يبحث عن لذة نفسه فقط لكان ذلك شر طريق لحصول الإنسان على لذائذه الشخصية، لاحتياج كل إنسان إلى الآخرين، فلو قصر كل إنسان في جمعية نظره على نفسه لتضرر الجميع، وكذلك الإيثار، فلو قصد كل إنسان بكل عمل نفع الآخرين وأهمل نفسه لم يكن ذلك في مصلحة الناس، لأنه باهمال نفسه يضعف ويقعد عن عمل الخير للناس، وليس يستطيع غيره أن يقوم بمصالحه هو، لأنه أدرى بها - والنتيجة التي وصل إليها «سبنسر» أنه يجب أن نوفق بين الأثرة والإيثار، وكلما رقيت أمة مالت لديها الأثرة والإيثار إلى الإتحاد وتكوين عنصر واحد - فالإنسان في الجمعية الراقية لا تتعارض في نفسه الأثرة والإيثار، بل يرى خيره في حبه للناس ويرى نفسه عضوا من جسم، فائدة العضو تفيد الجسم وفائدة الجسم تفيد العضو. - إذن - لا يصح أن نتبع المذهب القائل: بأن المقياس سعادة الشخص. كذلك لا نرى من الحق اتباع مذهب السعادة العامة وإن كان أرقى مما قبله وأشرف، لأن هذا المذهب يجعل الناس لا يحكمون على عمل إلا بعد حساب لذائذه وآلامه، فهو يجعل الحكم الأخلاقي عملية حسابية، والفضيلة ليست فضيلة في ذاتها، وإنما هي فضيلة لأنها تنتج لذة أكبر، وهذا يفقدها ما فيها من جمال وتقديس، واتباع هذا المذهب يجعل الناس جامدين ليس لديهم الشعور القوى نحو الفضيلة، إنما ينظرون إلى النتائج الجافة للأعمال، فضلا عن أنه يترك تقدير ما ينتج عن العمل من اللذائذ والآلام إلى الشخص نفسه، والشخص عرضة لأن يخطئ في الحساب، خصوصا وهذا المذهب يتطلب بعد النظر وحساب النتائج القريبة والبعيدة معا، وكثيرا ما يخدع الإنسان نفسه في حساب اللذائذ والآلام إذا رأى في العمل مصلحته الشخصية، فيوهم نفسه أن في العمل منفعة عامة، وبذلك يتعرض لخطأ شنيع.
ونحن أميل إلى نوع من أنواع اللقانة، وهو أن الإنسان خلق وفي أعماق نفسه قوة تريه بعض الأعمال خيرا وأخرى شرا، لا بالنظر إلى ما ينتج عنها من لذائذ وآلام ولكن لأنها نفسها كذلك، فهو يحس بطبعه بفضيلة ورذيلة، ويشعر أنه مأمور من نفسه بأن يعمل الفضيلة ويتجنب الرذيلة، وهو مكلف أن يطيع هذا الأمر مهما كانت نتائجه، وأن يضحى لذلك بكل اللذائذ التي يتوقعها، فهو يرى الصدق فضيلة، وشعوره أو عقله يريه ذلك كما تريه عينه الأسود أسود والأبيض أبيض، وكما أنا لا نحكم على الأسود بأنه أسود نظرا لنتائجه فكذلك لا نحكم على الصدق بأنه خير لنتائجه، ولكن لأن نفسي تريني أنه فضيلة وأني ملزم بالعمل على وفقه، وإذا كذبت شكلت لي محكمة في باطن نفسي تحكم علي بالإساءة، وتوقع علي عقوبة التأنيب، تلك طبيعتنا التي خلقنا عليها.
والقانون الأخلاقي الذي يرينا الخير والشر ويأمرنا وينهانا جزء من طبيعتنا، وهو - وإن اختلف عند الناس حسب بيئتهم وتربيتهم فأساسه موجود فيهم، في المتوحش والمتمدين، وفي الراقي وغير الراقي - ففي باطن الإنسان شعور بالواجب، وأمر بعمله، وعقوبة على مخالفته، ومكافأة على طاعته، وكل إنسان يشعر بذلك من غير أن ينتظر حساب ما في العمل من لذائذ وآلام، وأمعن الناس في الإجرام وأشدهم قسوة يضطرب إذا أجرم، لا خوفا من العقاب فقط ولكن لأنه خالف أيضا قانون الأخلاق، وكل إنسان مسئول أمام ضميره عن إطاعة هذا القانون الأخلاقي، ومسئول كذلك أمام الله، فقد ربط الله الثواب والعقاب بهذا القانون، وجعل الجنة جزاء العدل والصدق والشجاعة ونحوها من الفضائل، كما جعل النار عقابا لأضدادها من ظلم وكذب وجبن، وأن هذا القانون الأخلاقي الذي في نفوس الناس هو الرابطة بينهم جميعا، على أساسه يمدحون ويذمون، ويكافئون ويعاقبون.
অজানা পৃষ্ঠা