أولى الأمورِ بضيعةٍ وفساد ... أمرٌ يدبّرهُ أبو عبّادِ
حرقٌ على جلسائه، فكأنهمْ ... حضروا لملحمةٍ، ويومِ جلادِ
يسطو على كتابهِ بدواتهِ ... فمرمِّلٌ ومضمّخٌ بمداد
فكأنّهُ منْ ديرِ هزقلِ مفلتٌ ... حردٌ يجرُّ سلاسلَ الأقيادِ
وقالوا للمأمون يومًا: هجاك دعبل، فقال: من يجرؤ على هجاء أبي عباد مع سرعة انتقامه وعجلته جرؤ على هجائي مع أناتي وعفوي. قلت: وبدير هزقل كانت قصة المبرد وهي برواية الخالدي: قال المبرد: اجتزت بدير هزقل، فقلت لمن معي: اصعدوا بنا ننظر إليه، فدخلناه، فرأينا في بعض بيوته رجلًا كهلًا مشدودًا إلى أساطين ثابتة، وعليه أثر النعمة، فدنونا وسلمنا، فرد السلام، وسأل عن مقدمنا، فقلنا: من البصرة. قال: فما أقدمكم إلى هذا البلد، قلنا: لسماع الشعر، فأنشدنا:
اللهُ يعلمُ أنّني كمدُ ... لا أستطيعُ أبث ما أجدُ
نفسان لي: نفسٌ تضمنّها ... بلدٌ، وأخرى حازها بلدُ
وأرى المقيمةَ ليسَ ينفعها ... صبرٌ، وليسَ يفوقها جلدُ
وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجدُ الذي أجدُ
ثم قال: تنشدوني أو أنشدكم؟ قلنا: أنشدنا، فقال:
لمّا أناخوا قبيلَ الصّبحِ عيسهمُ ... وأرحلوها، وسارتْ بالهوى الإبلُ
وقلّبتْ من خلالِ السّجفِ ناظرها ... ترنو إليَّ، ودمعُ العينِ منهملُ
وودّعتْ ببنانٍ خلتهُ عنمًا ... ناديتُ: لاحملتْ رجلاكَ يا جمل
ويلي من البين! ماذا حلَّ بي وبها ... من نازحِ الوجد حلَّ البينُ وارتحلوا
يا راحل العيسِ! عرّجْ كي أودِّعهمْ ... يا راحلَ العيس! في ترحالكَ الأجل
إني على العهد، لم أنقضْ مودَّتهمْ ... يا ليتَ شعري بطولِ العهدِ ما فعلوا
قلنا: ماتوا. قال: وأنا والله أموت، فتمطي، وتمدد، ومات، فما برحنا حتى دفناه.
قلت: وبدير هزقل كانت القصة المعروفة لأبي هذيل العلاف.
٢٦٩ دير هند الصغرى: بالحيرة، وهو منسوب إلى هند بنت النعمان بن المنذر، المعروفة بالحرقة.
بنته هند وترهبت فيه. وكانت سكنته دهرًا إلى أن عميت وماتت، فدفنت فيه، وهو من أعظم ديارات الحيرة، وأعمرها وموضعه نزه، وحوله بساتين وأشجار.
قال هشام بن الكلبي: غضب كسرى على النعمان بن المنذر، فسجنه، فنذرت ابنته هند بأن تبنى ديرًا تسكنه حتى تموت إن رد الله أباها إلى بلده وملكه، فخلى كسرى عن أبيها، فوفت بنذرها، وبنت الدير، وعاشت فيه إلى أن ماتت، فدفنت فيه.
ولهند قصة مع خالد بن الوليد، ﵁، ذكرتها في المعجم، وهي التي قالت له:
فبينا نسوس الناسَ والأمرُ أمرنا ... إذا نحنُ فيهم سوقةٌ نتنصّف
فتبًا لدينا لا يدومُ نعيمها ... تقلّبُ تاراتٍ بنا وتصرَّفُ
وهي القائلة لقومها، وقد سألوها: ما فعل بك خالد بن الوليد؟
صانَ لي ذمّتي، وأكرم وجهي ... إنّما يكرمُ الكريمَ الكريمُ
ولهند أيضًا قصة معروفة مع المغيرة بن شعبة.
ولهذا الدير ذكر عند الشعراء. قال فيه معن بن زائدة الشيباني الأمير، وكان له منزل قريب من الدير:
ألاَ ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً ... لدى دير هندٍ والحبيبُ قريب
فنقضي لباناتٍ بلقيا أحبّةٍ ... ويورقُ غصنٌ للسّرورِ رطيبُ
وقال فيه أيضًا:
لئنْ طال في بغدادَ ليلى فربمّا ... يرى بجنوبِ الدّيرِ وهو قصير
٢٧٠ دير هند الكبرى: وهذا الدير بالحيرة أيضًا، بنته هند الكبرى، أم الملك عمرو بن هند، وهي ابنة الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي.
وفي صدر هيكله مكتوب: "بنت هذه البيعة هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر، الملكة بنت الأملاك، وأم الملك عمرو بن المنذر، أمة المسيح، وأم عبده، وأمة عبده، في زمن ملك الأملاك. خسرو أنوشروان، وفي زمن أفريم الأسقف، فالإله الذي بنت له هذا الدير يغفر خطيئتها، ويترحم عليها وعلى ولدها، ويقبل بها وبقومها إلى أمانة الحق، ويكون معها ومع ولدها الدهر الداهر".
1 / 58