وقال المعلم زفتة: أما أنا فأسوقه إلى شقة عباس شفة وأريه أضخم «طابية» في مصر.
فقال أحمد عاكف داهشا: أليس لهذا المزاح من نهاية؟ ألا تعلمون بأننا مهددون بهجر ديارنا وربما قذفوا بنا إلى بعض القرى القذرة.
فصاح نونو: ما أحلاها عيشة الفلاح!
فسال أحمد راشد: ألا تخافون الموت؟!
فقال المعلم زفتة: أعطني عمرا وارمني على رومل!
وقال المعلم نونو باهتمام مصطنع: الحق فيما قال أحمد أفندي؛ الألمان شياطين، وهم إذا هجموا على بلد انتشروا في كل مكان، وتخفوا في كل زي، فلا يبعد أن ترى غدا ألمانا معممين أو في ملاءات لف ... والله إني أخاف أن أفتح الصنبور لأتوضأ فيخرج لي مع الماء غواص ألماني.
وبغتة أطلقت صفارات الإنذار!
كانت الساعة السابعة مساء، فهبوا جميعا قائمين واختفت البسمات من وجوههم، وهرعوا إلى طريق المخبأ، وخاف كثيرون أن تحدث غارة عنيفة مدمرة كالتي تسبق الهجوم، وذكروا الإسكندرية والسويس وبورسعيد، بل ذكروا وارسو وروتردام! وبعد دقائق قلائل عج المخبأ باللاجئين، وجلس أحمد مع والديه وقد شمل الجميع قلق وخوف وكأن الأم قد كبر عليها ذاك الحرص على الحياة منها فدمعت عيناها، ومر ثلث ساعة في ذعر واضطراب وانتظار هو التعذيب عينه، ثم انطلقت صفارة الأمان! ودهش الناس، ثم لاح في أعينهم السرور والارتياح، وهتف بعضهم: «استكشاف .. استكشاف!» وهتف آخرون: «اقتربت الطيارة من حدود منطقة القاهرة ثم عادت وغيرت اتجاهها!» وتحرك التيار صوب باب المخبأ، وخرج مع الخارجين، وعلى بعد قريب من مدخل المخبأ رأى نوال متأبطة ذراع شقيقها الصغير محمد! والاثنان يضحكان ويوسعان الخطى نحو العمارة! خفق قلبه لمرآها كما تعود أن يخفق لمرآها أو لذكراها، وظل هنيهة يتبعها مقلتيه حتى غيبها المنعطف، ثم انقبض صدره ورانت عليه كآبة، وأحنقه ضحكها وأغضبه فكأنه فاجأها متلبسة بجريمة نكراء! وبلغ منه التأثر مبلغا لم يستطع معه العودة إلى القهوة قبل أن يروح عن نفسه قليلا بالمشي، فمضى إلى شارع الأزهر على مهل، وأخذت نفسه تسكن وتهدأ، حتى عاودته حالته العادية بأسرع مما كان ينتظر، بل أنحى على نفسه باللائمة لغضبه، وأنكره. ما الذي أوجب غضبه؟! ماذا أثار ثائرته؟! أوضحكها؟! يا عجبا! وهل حسب أنها تظل باكية إلى الأبد؟! ألم يضحك هو مرات سواء في الوزارة أم في القهوة؟! .. ألم يجر الابتسام على شفتي أمه نفسها في بعض الأحيان؟! فلماذا لا تضحك نوال؟ وماذا يغضب من ضحكها؟! حقا إنه النسيان، ذاك الدواء المر الذي يعقب العزاء ويستوجب الحسرة. العزاء عن آلامنا والحسرة على أنفسنا. نقول نسينا والحمد لله وهي سنة الحياة، فيهتف بنا هاتف: ولسوف تنسون وا أسفاه وهي سنة الحياة! وتنهد من الأعماق، ثم خطر له خاطر ليس بالجديد عليه، ولكنه كان يروغ منه، يشفق من مواجهته، بيد أنه قال لنفسه هذه المرة: «حتام أهرب وأتجاهل! ألا يخلق بي أن أواجه الحقيقة وأمعن النظر! أما زلت أحب نوال؟ لماذا يخفق فؤادي لمرآها ولذكراها؟»
وتفكر مليا - وهو آخذ في مشية المتمهل - ثم حدث نفسه مرة أخرى وقد تورد وجهه الشاحب خجلا كأنما اطلع على سره الناس جميعا: «حب، فوقه غضب. فوقه حزن، فوقه ذكرى مروعة. فلكي أخلص إلى هذا الحب ينبغي أن أدوس كرامتي وذكرى أخي وهو المحال .. بيني وبين الحب أخي وكبريائي، والحياة أهون من أن أمتهن في سبيلها هذين العزيزين!» كل هذا حق فهو يحب نوال، ولم يزايله حبها أبدا وإن حجبته الآلام كثيرا، ولكن محال أن يعترف لهذا الحب بغاية، فدون ذلك ما هو أقوى من الحب نفسه، ولكن حتام يمكث على كثب من النار وهو محموم؟!
51
অজানা পৃষ্ঠা