وظلت الكآبة ناشرة رداءها على البيت الثاكل، ولم تفتر همة أحمد عاكف في التنقيب عن مسكن جديد، رحمة بوالدته، ولأنه هو أيضا، ضاق بالحي صدرا، وقد خلفت الصدمة في أعصابه الرقيقة آثارا عميقة، فعاوده بعض أرقه القديم، وتلبسته حال من القلق النفسي بات معها سريع الانفعال، سريع التأثر، كثير المخاوف مستسلما للحزن. وألقت في صدره الجياش أحزان الماضي والحاضر، وتوجس خيفة مما يخبئه المستقبل ومما عسى أن يلده من الأحزان والآلام، وقال لنفسه، وهو يذكر والديه: إن سعادتنا بأحبائنا اليوم مرتهنة بالدموع التي نسكبها على فراقهم غدا، وطفق يردد بيت أبي العلاء:
ومن لم تبيته الخطوب فإنه
سيصبحه من حادث الدهر صابح
فلم تكن أعصابه مما يعين على تحمل غير الدهر وآلام الحياة، وأوشك أن يقع فريسة لمرضه القديم، ولذلك صدقت رغبته في هجر الحي. وفي ذلك الوقت كثر إطلاق صفارات الإنذار ليلا ونهارا، ولكن لم تضرب المدينة كما حدث في سبتمبر، ثم تحرجت الحالة الحربية بتوالي تقدم قوات المحور، فعبرت الحدود المصرية، وتوغلت فيها، حتى جاوزت مرسى مطروح التي كانت تعد أهم خط دفاعي عن مصر، ثم استولت على فوكة والضبعة، وبلغ التحرج منتهاه بتقدم القوات المعادية إلى العلمين! .. تخايلت الإسكندرية لأعين الغزاة وتهامس الناس بأن الضرورات الحربية تنذر بتحويل الوطن إلى خرائب تنعق فيها البوم، ومستنقعات يرعاها البعوض.
وفي مساء اليوم الذي بلغت فيه قوات المحور العلمين اجتمع الصحاب بقهوة الزهرة كعادتهم، فتلاقوا بالبشر والسرور، وملئوا الجو برنين ضحكاتهم، لم يفكر أحد منهم في الهجرة أو تخزين بعض المواد الغذائية، ولا شغل أحد نفسه بتقدير الحالة التي تنشأ عن الغزو والحرب في المدن، أو كانوا يتمثلون هذه الحالة مازحين ضاحكين كأن الأمر لا يعنيهم، ولسان حالهم يقول: «الأمر لله وليحدث لنا ما يحدث للناس جميعا!» ولم يختلف أحمد عاكف عنهم في شيء، بيد أنه وجد في الاجتماع بهم - ذلك اليوم - لذة مضاعفة، كأنه وجد في مجتمعهم الصغير ملاذا من القلق العام الذي أخذ يساور النفوس، لم يخل قلبه من خوف وقلق ولم يخل من سرور، كان يفكر فيما يحتمل أن يحدث فينقبض صدره، تتمثل له تلك الحالة التي يختلط فيها الحابل بالنابل وتمحي التبعات وتنهار القيم فيجد في أعماقه شعورا بلذة خفية تعكسها أعصابه المتوترة، كأن ذاك الغزو المرتقب سيبيد فيما يبيد أحزانه وآلامه، وسيمحو فيما يمحو من آثار الماضي آثار ماضيه.
قال سيد عارف بلهجة المتثبت مما يقول: اسمعوا آخر الأخبار .. قسم رومل جيشه جناحين، وجه الأول نحو الإسكندرية وهبط بالثاني صوب الفيوم.
وقال أحمد راشد: سمعت أن الإسكندرية تضرب بالقنابل من الجو ومن البر حتى هجرها أهلوها إلى دمنهور. - هل انتهى الإنجليز حقا؟ - إنهم يحرقون أوراقهم ويرحلون نساءهم! - متى يبلغ الألمان القاهرة؟ - غدا أو بعد غد. - إلا إذا ساروا بجيشهم المظفر شرقا إلى السويس. - سمعت من ثقة أن جنود الباراشوت يهبطون جماعات في الحقول.
وتساءل المعلم نونو: ما عسى أن يفعل أحدكم لو هبط عليه جندي من أولئك الجنود وأمره أن يدله على موقع حربي؟!
فأجاب سيد عارف فورا: أمضي به إلى شقة سليمان بك عتة وأقول له : «هاك السفير البريطاني!»
فهتف به سليمان عتة محنقا: أولى بك أن تستوهبه بعض الأقراص اللازمة لمرضك!
অজানা পৃষ্ঠা