وترامى هتاف من بعيد، فانطلقت شرارة الحماس في الطريق، وصاح المأمور بصوت ملؤه الوعيد: «النظام.» وخرج الكواء من الدكان واندفع يهتف مع الهاتفين. وضحك أيوب دون أن يبرح مجلسه، ومر الموكب كزلزال، وجرى في إثره ألوف وألوف، ولم يبق قاعدا في الطريق كله إلا أيوب، وتراجع لصق الجدار ليتفادى من الراكضين، وراح يغني بصوت لم يسمعه أحد:
البخت لو مال حتعمل إيه بشطارتك.
ووقف المأمور ببدلته البيضاء وشريطه الأحمر في وسط الطريق، والتيار المندفع يتجنبه فينحرف إلى يمينه أو إلى يساره. ولم يحدث من الجنود اعتداء إلا حوادث شبه فردية، وإذا بشاب ينقض على المأمور فجأة، ويوجه إلى بطنه لكمة ضارية. ترنح المأمور ثم سقط، وفر الشاب كالريح، ووقفت النغمة في حلق أيوب، وحملق وهو يداري إغراء بالضحك، ورأى الجنود وهم ينفجرون، فيهوون بهراواتهم على الناس جزافا، وطارد المخبرون الشاب، ولكن فصلت بينهم وبينه موجات متلاطمة من البشر، وتتابعت الأحداث بسرعة جنونية؛ دوت طلقات نارية، وفي ثوان تفرق الناس في كل عطفة حتى خلا الطريق، وأغلقت الدكاكين، ونهض المأمور معتمدا على ذراع ملازم، وصاح برئيس المخبرين: الويل لك إذا لم تأت به.
وأرهقت الأحداث عيني أيوب، ولم يبق في الطريق أحد سواه، حتى الجنود ركضوا في أعقاب الهاربين، وأغمض عينيه ليستريح، وأخذته نوبة من الضحك في الطريق الخالي، والتفت إلى دكان الكواء فوجده مغلقا، ورغب في تذكر الأغنية ولكنه لم يفلح، وأغلق عينيه مرة أخرى، غير أن وقع حذاء ثقيل دعاه إلى فتحهما، رأى المخبر يقبل نحوه بنظرة صلدة. كيف انشقت عنه الأرض؟ ومضى يقترب منه حتى أخفى عنه الطريق والسماء، وحملق أيوب فيه دون أن ينبس وهو يعاني قساوة الوحدة، وصاح المخبر بصوت كالسوط: ماذا يضحكك يا مجرم؟
فانكمش أيوب فوق الكرسي مغمغما: لم أضحك.
فصاح وهو يقرب منه وجهه: تضرب المأمور ثم تضحك؟
فمد أيوب ذراعيه، كأنما ليتقي الشر، وقال: معاذ الله .. أنا لم أبرح مكاني. - فاهمني أعمى يا ابن الحية؟
ولطمه لطمة شديدة طرحته أرضا، وأطاحت بطربوشه عشرين مترا. تأوه أيوب دون أن يحاول النهوض، ولكن المخبر شده من رباط رقبته حتى احتقن وجهه، ثم قام وهو يترنح، وقال بصوت منكسر: حرام .. والله ما تركت مكاني طول الوقت. - اخرس .. عيني لم تتحول عنك لحظة.
وصفعه مرة أخرى، وأخرج صفارته ونفخ فيها، وجاءت قوة من الجنود، فأشار إلى أيوب قائلا: اقبضوا على المجرم الذي ضرب مأموركم.
ودوى انفجار شديد فتجمدوا في أماكنهم، وقال جندي: صوت قنبلة.
অজানা পৃষ্ঠা