ومن الرواة من يزعم أن أبا بكر شرع في قتال أهل الردة بعد عودة جيش أسامة، ومنهم من يدعي أن قتال ذي القصة والربذة جرى قبل عودة جيش أسامة. أما نحن فنميل إلى الاعتقاد أن القتال وقع قبل عودة الجيش؛ إذ لا يعقل أن تتواطأ غطفان على الهجوم على المدينة وتعلم بأن جيش أسامة رابط في شماله، بينما الروايات التي يستند إليها الواقدي والبلاذري تدل على أن قوة المسلمين كانت ضعيفة في ذلك القتال. (4) الشروع في العصيان
أول من شرع في العصيان خارجة بن حصين الفزاري من رؤساء بني فزارة؛ إذ إنه أوقف جابي الزكاة في طريقه إلى المدينة، وأخذ منه ما في يده، فرده على بني فزارة، ورجع الجابي إلى أبي بكر، أما القبائل التي ثارت وتظاهرت بالعداء فهي بنو أسد وغطفان، والبعض من بطون طيء، فاجتمع بنو أسد في سميراء، وعلى رأسهم طليحة بن خويلد، واجتمعت فزارة في جنوبي طيبة، واجتمعت عبس وذبيان في الردة والتف حولهم جماعة من كنانة، ولما كثر عددهم لم تحملهم البلاد؛ لأن المياه شحيحة، والمرعى قليل، فتفرقوا إلى فرقتين، فأقامت فرقة بالأبرق بالقرب من الربذة والأخرى في ذي القصة، وأمد طليحة فرقة ذي القصة بقوة من بني أسد، والداعي إلى تفرقهم هو أن الوقت كان ضيقا؛ لأن الرسول توفي في شهر ربيع الأول في السنة الحادية عشرة من الهجرة، وهذا التاريخ يوافق شهر حزيران سنة 632 ميلادية، والمياه على ما نعلم تشح في الصيف، وكذا المراعي تقل حينئذ، فبعثت غطفان وفدا إلى المدينة ليعرض على أبي بكر رغبتها في أن تقيم الصلاة وألا تؤتي الزكاة، وكان عيينة بن حصن الفزاري وأقرع بن حابس في الوفد.
فلم يلب أبو بكر طلبهم برغم إشارة بعض الصحابة عليه بالتساهل معهم إلى أن يعود جيش أسامة، إلا أنه في الوقت نفسه قدر خطورة الموقف لما عاد الوفد إلى أهله، وكان للوفد على ما يظهر مهمتان:
عفو الزكاة والاطلاع على قوة المسلمين في المدينة، وقد لاحظ أبو بكر ذلك؛ إذ لم يعد الوفد حتى جمع الصحابة وأطلعهم على حرج الموقف وكلفهم بحراسة المدينة ليلا ونهارا، فأقام رجالا في الأبراج لمراقبة الطرق الممتدة إلى المدينة من جهة البادية، ورتب قوة احتياطية في المسجد لتكون على استعداد للنجدة عند الحاجة، وحذر أهل المدينة بقوله: «إنكم لا تدرون أليلا تؤتون أم نهارا، وأدناهم منكم على بريد.» يشير بذلك إلى قرب المسافة بين المدينة والقبائل المتحفزة للهجوم، وقد يعجب الإنسان بصلابة أبي بكر في رفضه طلب الوفد بعد اطلاعه على أخبار عماله لدى القبائل وسماعه حديث عمرو بن العاص، وكانت جميعها تنبئ بارتداد العرب عامة أو خاصة، ولا يوجد في المدينة سوى نفر قليل وجيش أسامة بعيد عنها، فنظرا إلى ما ذكره الواقدي في كتاب الردة أن أبا بكر لم يكتف بالتدابير التي اتخذها في المدينة؛ بل طلب من القبائل العربية كأسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب أن تمده بالرجال، فأسرعت إلى نجدته، فأخذ الناس يتوافدون إلى المدينة بسلاحهم، وأرسلت جهينة أربعمائة راكب، وإذا صدقنا رواية سيف بن عمر التي نقلها الطبري ظهر لنا أن ظن أبي بكر كان في محله؛ إذ لم تمض ثلاثة أيام على عودة الوفد حتى كان المرتدون قد غزوا المدينة ليلا، ولا بد أن الوفد بعد عودته أخبر القبائل المتحفزة للهجوم عن ضعف قوة المسلمين في المدينة، وشجعها على الهجوم، وكانت من غطفان وهي عبس وذبيان وفزارة على ما نعلم. (5) المواقع التي جرى القتال فيها
وردت أسماء السميراء والربذة وطيبة والأبرق وذي القصة عند البحث في تجمع القبائل، ولا يوجد الآن من هذه الأسماء في الخرائط الحالية إلا السميراء. ولنا من الأخبار التي نستقيها من رواة العرب الأقدمين أن القبائل الساكنة في شرقي المدينة وعلى طرفي الطرق الذاهبة إلى العراق وخليج فارس هي بنو سليم، وهي أقربها إلى المدينة في الشمال الشرقي.
ثم يليها بنو كلاب إلى شمال بني سليم، ثم عبس وذبيان في شرقي حرة خيبر إلى الشمال، أما قبائل طيء فتسكن في جبلها أجأ وسلمى، وفي شرقي بني عبس وذبيان وفزارة من غطفان في وسط وادي الرمة وعلى جانبيه، وتأتي بعدها قبائل بني أسد، وموقع سميراء على ما يظهر من الخريطة واقع إلى شمالي وادي الرمة، ويبدأ منه وادي السميراء الذي يصب في الوادي في جوار الحاجر. (6) الربذة
يذكر ياقوت الحموي أن موقع الربذة على الطريق التي تصل موقع فيد بالمدينة، وفيد في حي طيء وهي قرية من قرى جبل شمر واقعة إلى شرقي جبل سلمى على الطريق التي تصل الكوفة بالمدينة، ويمر بها طريق الحج، وهي بعيدة عن المدينة مسافة ست مراحل وتلقى فيها عدة طرق من الجوف والعراق والمدينة وبريدة والرس والربذة على هذه الطريقة، وهي تبعد عن المدينة أربعة وعشرين فرسخا، وواقعة إلى شمالي شرقها، ولعل موقع حناكية الحالي هو موقع الربذة القديم أو قريب منه؛ لأن بعده عن المدينة زهاء ثمانين ميلا، والفرسخ العربي طوله أربعة كيلومترات ونصف كيلومتر، أو أربعة كيلومترات، والذي يجعلنا نميل إلى ذلك أن القوة لم تجتمع في الربذة؛ بل في الأبارق، وكلمة أبارق اسم خاص لبعض المحلات تدل على أرض حجرية ورملية مختلطة، وموقع الحناكية بالقرب من حدود حرة خيبر، والحرة على ما نعلم أرض بركانية خامدة وفيها محلات لتراكم الماء فيها، وما دامت القبائل مجتمعة فيها فلا بد حينئذ من وجود الماء بها، والحناكية واقعة في بطن وادي الحمض. (7) ذو القصة أو البقعاء
والظاهر أن كلتيهما تدلان على موقع واحد واقع في شرقي المدينة وقريب منها، وهو بلا شك على الطرق التي تمتد إلى المدينة في غرب الربذة أو في جنوبها، وهو إما الشقرة أو سابية، والأخبار تدل على أن أبا بكر بعد أن هزم المرتدين في البقعاء طاردهم بخيله إلى ثنايا العوسجة بالقرب من الركبة، وهذا الموقع الأخير واد يصب في الرمة، ولعله وادي الركب الذي ينبع من حرة خيبر، ويجري شمالا في شرق وثنايا العوسجة في المحل الضيق الذي يتسلق فيه الطريق صاعدا إلى رأس الوادي أو ينزل منحدرا منه.
أما موقع طيبة الذي اجتمع فيه غطفان وفزارة فلم نعثر عليه في معجم البلدان، ولعله في شرقي الربذة أو في شماليه، أو إنه موقع طابة في سفح جبل سلمى الجنوبي في شمالي السميراء، وهو من ديار غوث بن طيء. (8) مباغتة المدينة
لم يهجم المرتدون بكل قوتهم؛ لأنهم أرادوا أن يكونوا خفافا فتركوا قسما منهم في ذي حسى بين ذي القصة والمدينة ليكون رداء لهم، واقتربوا ليلا من المدينة ولم يباغتوها؛ لأن العيون أخبرت المسلمين بدنوهم فقاتلتهم الربايا الخارجية، وأسرع أبو بكر بمن في المسجد فأنجد الربيئات وهزم الهاجمين، ولم يكتف بذلك بل هاجمهم على الجمال التي تستقي الماء من الآبار لإسقاء مزارع المدينة إلى أن نفرت الإبل من الجلود المنفوخة التي دهدهها الفارون من أعلى الروابي، فرجعت على أعقابها نافرة حتى دخلت المدينة.
অজানা পৃষ্ঠা