وكان من جراء هذا أن نشأ اليوم شعار يتردد على الألسنة في كل يوم وكل مكان: «لقد انكمش العالم.» أو «نحن نعيش في عالم منكمش المسافات والمساحات.» أو «إنه لعالم صغير ذلك الذي نعيش فيه اليوم.»
Shrinking, small World ؛ فالمسافات قد قصرت وتيسر الانتقال بسرعة غير معهودة، وبنيت وسائل لنقل كل أشكال البضائع والسلع من الخامات ذات الأحجام الكبيرة (الناقلات البرية والمائية لخام الحديد أو النحاس أو غيرهما من المعادن، جرارات الأخشاب العملاقة التي تعمل في مناطق الثروة الغابية، ناقلات البترول الخام والمكرر، أنابيب البترول والغاز، أسلاك التحميل العالية لنقل الطاقة الكهربائية، إلى جانب السفن والطائرات والقطارات العادية التي تنقل أشكالا لا حصر لها من السلع والبضائع). ولم يعد غريبا أن يعرف الإنسان في أي مكان أن هناك تخصصا إقليميا في السلع المعروضة في الأسواق؛ كروم وموالح وطماطم البحر المتوسط، لحوم وأجبان المراعي العلمية في الدانمرك وهولندا والأرجنتين، أخشاب النطاق المخروطي في كندا واسكندنافيا والاتحاد السوفييتي، المكيفات المنتجة في العالم الاستوائي؛ بن البرازيل وكاكاو أفريقيا وشاي آسيا، وغير ذلك كثير من التخصص الإقليمي في عالم الصناعة .
وخلاصة القول أن تطور وسائل النقل وتخصصها قد أدى إلى ربط العالم كله بشبكة كثيفة الخيوط من العلاقات التجارية، وساعد بصورة أو أخرى على إعادة توزيع أشكال النشاط الاقتصادي في أقاليم جغرافية متمايزة ومتخصصة.
ولئن كان تطور وسائل النقل يعد عاملا مساعدا على نمو الإمبراطوريات الاستعمارية خلال القرنين الماضيين، فإن هذه الإمبراطوريات بدورها قد ساعدت على نشأة الأنماط الاقتصادية المتخصصة عن سياسة عامدة. لكن وسائل النقل قد أدت خلال هذا القرن إلى سرعة انتقال الأفكار السياسية المختلفة؛ مما أدى بدوره إلى نشأة الحركات القومية في المستعمرات، وأفضى في النهاية إلى استقلال معظم هذه المستعمرات. وتحاول هذه الدول المستقلة - عن طريق سرعة الاتصال أيضا، ماديا وفكريا - أن تستفيد قدر الإمكان من تخصصها النمطي في إنتاج محصول أو خامة معينة، بزيادة وتحسين الإنتاج، وأن تتغلب في الوقت نفسه على مساوئ التخصص النمطي بإضافة عناصر إنتاجية جديدة؛ محاصيل أو معادن أو طاقة محركة، بالإضافة إلى الصناعة ولو على مقياس صغير.
وسوف يترتب على قرن المواصلات الحديثة والاستقلال والروح القومية والنزعة الإقليمية (فوق القومية المحدودة بحدود الدولة السياسية الحالية) تأثيرات مباشرة على التخصص الإقليمي العالمي الراهن في الإنتاج وأشكال استغلال الأرض في صورة تجميعات اقتصادية واسعة المساحة ومتعددة الإنتاج. وأكثر المؤشرات وضوحا وأقربها إلى التحقيق ما زالت تقع ضمن مجموعة الدول المتقدمة، وأغلبها كان صاحب مستعمرات سابقة. وقد كان هذا نتيجة طبيعية لظروف هذه الدول التي تتمتع بتنظيمات اقتصادية متعادلة ذات جذور تاريخية عميقة نسبيا، ولعل مجموعة السوق الأوروبية المشتركة، ومجموعة السوق المشتركة للدول الاشتراكية، سوف تصبح النمط السلفي الذي سوف تسعى إليه كتل العالم الأخرى كالكتلة الأفريقية والكتلة العربية والكتلة اللاتينية.
والذي يهمنا في هذا المجال أن نمو هذه التكتلات بما فيها من محاولات التعادل الإنتاجي بدلا من التخصص الإنتاجي البحت، سوف يؤدي إلى تغيرات عميقة في شبكة الاتصال العالمي الراهنة.
ويمكننا أن نتصور ماذا يمكن أن يحدث في عالم المواصلات على ضوء ما حدث تاريخيا في الماضي حينما كان التخصص الإنتاجي البحت هو الشكل الأساسي للتجارة، مثلا في عهد الإمبراطورية البريطانية والكمنولث البريطاني كان هناك تخصص مواصلات بمقتضاه كانت ليفربول ميناء القطن الأول، وموانئ جنوب بريطانيا بما فيها لندن نهاية للسلع الاستوائية والمدارية مثل الكاكاو والشاي. وفي عهد الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية كانت مرسيليا هي الميناء الفرنسي الأول الذي يتعامل في المنتجات المدارية القادمة من المستعمرات الفرنسية في آسيا وأفريقيا.
وحينما تندمج عدة دول في تكتل اقتصادي، كالبنلوكس أو السوق الأوروبية المشتركة، فإن تغيرا تدريجيا يطرأ على تخصص الموانئ ووظائفها الإقليمية، لكن هذا التخصص في حد ذاته قد يكون داعيا إلى استمرار جذب خطوط الحركة والمواصلات إليه، إذا كان الموقع مركزيا والخلفية مناسبة للتغير الناتج عن التكتل الاقتصادي الجديد. وقد كان هذا حال ميناء روتردام الهولندي بالنسبة لكتلة السوق الأوروبية، ومثله في ذلك ميناء مرسيليا الفرنسي.
وفي وسعنا أن نتصور انخفاضا كبيرا في المنافسة بين الموانئ المتشابهة التوجيه في حالة استمرار الاندماج الاقتصادي وتدعيمه في أي منطقة يحدث فيها ذلك. والسبب الرئيسي وراء ذلك يرجع إلى أن مثل هذه الموانئ المتشابهة التوجيه - كهامبورج وروتردام والهافر ولندن - سوف تتغير وظائفها من موانئ قومية إلى موانئ إقليمية كل منها يخدم النشاط الاقتصادي في حدود خلفيته الطبيعية والبشرية، وفي مثل هذه الحالة تميل الحركة البرية إلى الانخفاض أو الزيادة تبعا لحجم الخلفية الاقتصادية التي يخدمها كل ميناء على حدة. وفي هذا المجال أيضا نلاحظ تناقصا في الأهمية النسبية للموانئ المتطرفة مكانيا بالنسبة لحدود التكتل الاقتصادي كما حدث في هامبورج، برغم أنها كانت الميناء الألماني القومي الأول. وفي المقابل ترتفع الأهمية النسبية للموانئ المتمتعة بظهير بشري وإنتاجي كبير. (2-1) السوق الأوروبية كنموذج لتغيرات النقل
يعطينا ما حدث في أوروبا الغربية نموذجا معاصرا لما يحدث من تأثيرات التوجيه الاقتصادي على نمط النقل، ويلخص لنا ما سبق أن ذكرناه نظريا عن احتمالات التغير المرتبطة بإعادة توجيه الاقتصاد الأوروبي في صورة تسعى للتكامل. وفيما يلي دراسة مقتضبة عن الموانئ الرئيسية لدول السوق الأوروبية، كأحد مظاهر التغير في نمط النقل، علما بأن تغيرات مماثلة قد طرأت على توجيه خطوط النقل البرية والجوية لتخدم المناطق الكثيفة الإنتاج داخل كل دولة على حدة، وداخل التكتل الأوروبي بصفة عامة.
অজানা পৃষ্ঠা