تقدمات
1 - أسباب النقل وتطوره
2 - عناصر النقل
3 - النقل والتنظيم الاقتصادي
4 - النقل البحري
5 - المقومات الجغرافية للنقل على اليابس
6 - النقل على اليابس
7 - موجز عن النقل الجوي
ملحق مصور
تقدمات
1 - أسباب النقل وتطوره
2 - عناصر النقل
3 - النقل والتنظيم الاقتصادي
4 - النقل البحري
5 - المقومات الجغرافية للنقل على اليابس
6 - النقل على اليابس
7 - موجز عن النقل الجوي
ملحق مصور
جغرافية النقل
جغرافية النقل
تأليف
محمد رياض
تقدمات
أكد السير ويليام بتي
W. Petty
أنه اكتشف في عدم وجود الطرق والموانئ الجيدة السبب في الركود الاقتصادي في أيرلندا.
سير ويليام بتي (1623-1687) السياسي والاقتصادي البريطاني في كتابه المسمى التشريح السياسي: دراسة في الركود الاقتصادي في أيرلندا خلال القرن السابع عشر، نقلا عن:
Aimé-Vincent Perpillon “Human Geography” Longmans 1966 .
تمثل شبكة النقل في أي إقليم أو منطقة درجة التقدم البشري حتى فيما لو كانت الظروف الطبيعية غير مواتية؛ ولهذا يقال: إن شبكة النقل الأرضي تعكس بصدق مدى مدنية المجتمع والمرحلة التقنية التي بلغها.
Aimé-Vincent Perpillou “Human Geography” Longmans 1969 .
بدون وسائل المواصلات لتبادل الفائض الإنتاجي، لا يمكننا أن نتوقع من أشكال الاقتصاد سوى إنتاج الإعاشة المباشرة فقط.
J. E. Spencer & W. L. Thomas “Cultural Geography” Willey, New York 1969 .
الفصل الأول
أسباب النقل وتطوره
(1) مسببات النقل
لماذا يحتاج الإنسان إلى النقل؟ هذا السؤال العريض قد يحتاج إلى شرح يتسم ببعض الطول، وإن كانت الإجابة عنه في اختصار شديد هي أن الإنسان، وعالم الحيوان عامة، يتصف بصفة أساسية هي الحركة المستمرة؛ ليس فقط سعيا وراء الغذاء، بل لأن الحركة جزء أساسي من تكوينه البيولوجي أيضا؛ فالأطراف للحيوان والأرجل للإنسان أجزاء عضوية حية تتطلب الحركة آليا - وما دامت الحياة تسري في العروق والشرايين - إلا إذا أصيب الكائن الحي بمرض يقعده عن الحركة.
والحركة المستمرة عند الإنسان قد أصبحت لها دوافع اقتصادية جوهرية بحكم الرغبة في الحصول على الغذاء في كل مراحل البشرية الحضارية، ومع التقدم الحضاري لم تعد هناك دوافع اقتصادية مباشرة في تحركات كل فرد، وإن كانت هذه الدوافع الاقتصادية تهيمن على خلفية الحركة بحكم انتماء الفرد لمجموعة بشرية تتحرك من أجل أرض أحسن أو أوسع. وبعبارة أخرى: إن حركة القوات المتحاربة، رغم أنها قد لا تكون في حد ذاتها بدافع الحصول على مزيد من الغذاء للمحاربين، فإنها تخضع لخطة معينة في التوسع من أجل مزيد من المكاسب الاقتصادية لصالح القبيلة أو العشيرة أو الدولة.
وهناك أيضا حركة قد تبدو بعيدة تماما عن الحركة الاقتصادية، مثل التحرك نحو مكان له قدسية خاصة في صورة الحج، أو التحرك لمجرد الترويح والنزهة واستكشاف ما يجهله الفرد من أماكن جغرافية أو خلوية، ولكن هذه الحركة في مجموع نتائجها أصبحت تكون نشاطا اقتصاديا لعدد آخر من الناس يكونون دائما في نهاية مثل هذه الطرق؛ يستقبلون هؤلاء الزائرين ويقدمون لهم الخدمات اللازمة من مأوى ومأكل وملهى.
ومجرد الحركة في حد ذاتها - وعلى الأخص بعد تكاثف خطوطها في حضارة العصر الصناعي - قد أصبحت نشاطا اقتصاديا يشغل وقت المتخصصين في صناعة وسائط النقل المختلفة من البدائية إلى الحديثة.
وقصارى القول أن الحركة عند الإنسان - فردا أو جماعات، سلعا أو أخبارا - يسيطر عليها دافع اقتصادي أصيل، سواء عند الفرد أو الجماعة المتحركة، أو عند الجماعة المستقبلة لهذه الحركة، وبالرغم من هذا فإنه بالإمكان أن نفصل مسببات الحركة إلى أسباب منفصلة؛ لكي يمكن دراستها وتحديد نوع الحركة، مع الأخذ في الاعتبار بما سبق ذكره من ترابط هذه الأسباب المنفصلة ترابطا حيا داخل الإطار الاقتصادي.
وأسباب النقل متعددة على رأسها: (1) البحث عن الغذاء عند الجماعات البدائية تكنولوجيا. (2) التجارة الإقليمية والدولية. (3) أغراض سياسية وعسكرية. (4) أغراض ترفيهية ودينية ومعنوية. (5) الحركة اليومية من المدن الرئيسية وإليها. (1-1) البحث عن الغذاء عند الجماعات البدائية تكنولوجيا
سنتحدث بالتفصيل عن هذا الموضوع فيما بعد. ويمكننا أن نلخص ما سبق قوله في أن الجماعات البشرية القديمة السابقة على الزراعة والرعي، والجماعات البدائية المعاصرة في غابات أفريقيا وصحاريها الجنوبية، وفي أمازونيا وجنوب الأرجنتين وشيلي وتيرادلفويجو، والقبائل المنتشرة في داخلية النطاق الغابي الكثيف في الملايو وبورنيو والفلبين وغينيا الجديدة (إيريان وبابوا)، وغالبية سكان مجموعات الجزر الباسيفيكية. هذه الجماعات كلها تمارس الانتقال الدائم والموسمي من أجل الحصول على الغذاء، في دوائر محدودة المساحة، أو تنتقل في قواربها وراء الأسماك في مساحات محدودة أيضا من مياه الباسيفيك. أما حركة رعاة الإبل والبقر في السفانا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط وصحاري منغوليا وسنكيانج، بالإضافة إلى رعاة الرنة في سيبيريا، والإسكيمو، صيادي الحيوانات البحرية في شمال أمريكا الشمالية؛ فحركتهم موسمية واسعة نسبيا، ومنتظمة سنويا.
ويشتمل انتقال هذه الجماعات غالبا على: «أ» في حالة السكن المستقر في أماكن الوفرة النسبية كالواحات أو النطاق الاستوائي أو نطاق السفانا أو جزر الباسيفيك، يقوم الشبان بالتنقل إلى معسكرات موسم المطر أو الصيد الوفير، بينما تظل معظم الجماعة في أماكن سكنها الدائم. «ب» في حالة البداوة الكاملة كما هو الحال عند أقزام وسط أفريقيا وبشمن كلهاري في أفريقيا الجنوبية، وإسكيمو الشمال الأمريكي، ولاب شمال اسكندنافيا وجماعات رعي الرنة السيبيرية، تنتقل الجماعة بكاملها، كبار السن وصغارهم، من مكان إلى آخر وراء الصيد أو إلى مناطق معينة تحددها إيكولوجية حيوان الصيد أو حيوان الرعي في العالم القطبي.
ويختلف الانتقال عند كل من الفئتين؛ فإن البداوة الكاملة تستدعي نقل كل ما تملكه الجماعة في ترحالها الموسمي، أو ترحالها الدائم بحثا عن الطعام عند جامعي الغذاء، بينما يقتصر التنقل في الحالة الأولى على معسكر الشباب فقط. ويترتب على اختلاف المستوى الحضاري عامة اختلاف في حجم المنقولات؛ فهي شديدة البساطة عند الجماعيين، بينما تتعدد المنقولات عند الرعاة أو الزراع البدائيين لتشمل المسكن ومستلزمات الحضارة الأعلى من أوعية متعددة الأغراض، إلى الطعام المحفوظ، إلى الملابس والأسلحة وأدوات الإنتاج المختلفة. وفي حالة الزراع البدائيين لا ينقل المسكن المبني عادة من الأخشاب، بل يترك ويبنى غيره في المكان الجديد.
وبناء على ذلك، فإن النقل عند الجماعيين لا يستلزم وسيلة نقل خاصة سوى النقل بواسطة الأفراد، وربما كان ذلك سببا من أسباب قلة منقولاتهم. ويشترك الزراع البدائيون مع الجماعيين في قلة منقولاتهم. أما الرعاة فإنهم يستخدمون حيوان الرعي في النقل، إما للحمل وإما للجر أو لكليهما معا.
وبرغم بساطة النقل عند الجماعات البدائية تكنولوجيا فقد كانت له آثار بعيدة بالنسبة لتعمير العالم؛ فإن الحركة المستمرة وراء الغذاء، سواء كانت للجماعيين أو الرعاة أو الزراع البدائيين، قد أدت طوال تاريخ الإنسانية إلى هجرات الشعوب الواسعة من أماكن محدودة على سطح الأرض، ليملئوا سطح القارات جميعا بحثا عن الغذاء. وهذه الهجرات قد تمت ببطء شديد. ولا شك أنها حدثت نتيجة تزايد العدد السكاني فوق موارد الإقليم الغذائية. وقد حدثت هذه الهجرات إما في صورة سلمية بسيطة وإما نتيجة الطرد بالقوة بواسطة جماعة وافدة غازية. ولكن هجرات الرعاة كانت دائما سريعة نسبيا نظرا لاستخدام وسائل النقل الحيوانية بالإضافة إلى التنظيم العسكري الذي يكون أساس حياة البداوة. (1-2) التجارة الإقليمية والدولية
ظهرت التجارة مع تقدم المستوى الحضاري والاقتصادي واستقرار الناس فيما بعد الثورة الإنتاجية الأولى - الزراعة واستئناس الحيوان - ونمو التخصص الإقليمي والاجتماعي في أشكال الإنتاج، ونوع الحرفة. وهذا التخصص في حد ذاته قد سبب نشوء التبادل التجاري، وما زال كذلك حتى الآن. وقد ارتبط حجم التبادل التجاري أولا بالاحتياجات المرغوبة، وثانيا بسعة وسائل النقل.
وفيما يختص بمدى تنوع الاحتياجات، فإن ذلك كان محدودا للغاية خلال معظم تاريخ الإنسان منذ اكتشاف الزراعة؛ ذلك أن الاكتفاء الذاتي كان هو النمط السائد في معظم مناطق الزراعة والرعي؛ فقد تأقلم الناس على أنواع الغذاء الذي يصنعه محصولهم الأساسي، وعلى أشكال الملبس الذي تمدهم به ظروفهم الإنتاجية والبيئية، وعلى أشكال الملبس الذي يرتبط بإيكولوجية المكان، وعلى أنواع الأدوات والأسلحة المرتبطة بتكنولوجية الإنتاج. وفيما عدا هذا كان احتياج المترفين إلى بعض المعادن والأحجار النادرة، وبعض منتجات من الأواني والمنسوجات الفاخرة المنتجة في أقاليم أخرى هو جل مكونات التبادل التجاري القديم. وفضلا عن ذلك ظهرت الحاجة إلى بعض المنتجات الضرورية من خامات مناطق بعيدة؛ كالحديد والنحاس والأخشاب الجيدة وخامات العطور والبخور وغير ذلك.
ولما كانت وسائل النقل محدودة السعة برغم تعدد أشكالها من قوافل الحمير أو البغال أو الخيول أو الإبل أو الإنسان، إلى عربات الجر والزحافات، إلى السفن النهرية والسفن البحرية، فإن التبادل التجاري في معظم فترات التاريخ المكتوب للبشرية، كان محدود الحجم ينطبق عليه خير انطباق المثل الشائع : «ما خف حمله وغلا ثمنه.»
أما التجارة فيما بعد العصر الصناعي فقد تغيرت صورتها تغيرا جذريا عما كانت عليه من قبل؛ فإن الاحتياجات البشرية من أجل الصناعة والاستهلاك قد توسعت بصورة مذهلة، بحيث شملت كل أشكال الإنتاج من الغذاء إلى الكماليات بين ساكني المدن، بينما تتحدد السلع المعروضة في الأسواق الريفية إلى أنواع قليلة من السلع الغذائية مقابل كثير من السلع المصنعة. وكذلك أدى انقسام العالم إلى متقدم صناعي ومتخلف أو نام ينتج الخامات بصفة أساسية، إلى نمط عالمي محدد في التجارة؛ فالسفن المتجهة إلى دول الشمال الصناعية تحمل خامات زراعية ومعدنية، والسفن المتجهة إلى الدول المدارية والجنوبية تحمل سلعا مصنعة، بالإضافة إلى بعض الأغذية الأساسية كطحين القمح أو الذرة، ومنتجات الوقود والطاقة المكررة.
وقد تبع ذلك أن التجارة الدولية في عصرنا الراهن تحتكر القدر الأعظم من حركة النقل العالمية، وبناء على هذا زادت حمولة وسائل النقل زيادة هائلة، سواء كان ذلك في القطارات أو الشاحنات أو السفن أو الطائرات، وما زالت سعة وسائل النقل في زيادة إلى مدى لا نستطيع التنبؤ به.
وخلاصة القول أن التجارة والنقل هما في كل الأوقات عبارة عن وحدة وظيفية واحدة ذات شقين.
ويمكننا أن نشير في هذا المجال أيضا إلى أن التوسع التجاري العالمي كان واحدا من أهم الأسباب في الكشوف الجغرافية الكبرى، وفي بناء الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى، وفي الاستيطان الحديث لقارات العالم الجديد. وبهذا يشترك البحث عن الغذاء واتساع النشاط التجاري معا في تعمير العالم بواسطة الهجرات الاستيطانية القديمة والحديثة. (1-3) الأغراض السياسية والعسكرية
بالرغم من أن الأسس الجوهرية في النقل ووسائله وطرقه تقاس على المعيار الاقتصادي ومدى عائد هذه الطرق ووسائل النقل، إلا أننا نلاحظ أن بعض أشكال النقل تبدو غير اقتصادية بالمعنى المفهوم؛ فهناك طرق تمد إلى أقاليم هامشية داخل الدولة الواحدة، والسبب راجع إلى خطة سياسية أو استراتيجية؛ فمثل هذا الطريق يقام إما من أجل تشديد قبضة الدولة على الإقليم النائي وتثبيت سلطانها فيه، وإما أن يقام من أجل سرعة الوصول إلى مناطق ذات منعة استراتيجية لحماية الدولة.
والأمثلة على ذلك كثيرة، على رأسها الخطوط الحديدية الأمريكية إلى داخل «الغرب البري أو الوحشي»، وطريق حديد سيبيريا والتركستان، وطريق حديد بشاور (الذي أقيم في الهند خلال الحكم الإنجليزي لتأمين الحدود الشمالية الغربية وإخضاع قبائل الباتان والسيطرة على ممر خيبر الاستراتيجي)، ومشروع فرنسا من أجل بناء خط حديدي من السنغال إلى النيجر، ومشروعها الذي لم يتحقق من أجل بناء خط حديدي من الجزائر إلى النيجر، والخط الحديدي السوداني الذي امتد إلى جنوب السودان مؤخرا.
ومثل هذه الطرق برغم نشأتها العسكرية غير الاقتصادية سرعان ما تصبح محورا لنشاط اقتصادي حديث يؤدي إلى تغير في شكل الإنتاج في الإقليم الذي يمر به. وخير دليل على ذلك أن خط حديد سيبيريا قد أصبح الآن - وبعد مرور حوالي 70 سنة على إنشائه - يجري داخل أكبر منطقة اقتصادية في العمق الأرضي السوفييتي.
وبالمثل فإن الأغراض العسكرية قد ساعدت دائما على نمو أشكال جديدة في وسائل النقل في حجمها أو كفاءتها أو سرعتها، فإن مبدأ استخدام العجلة (الدولاب) كوسيلة لتسهيل جر العربات بواسطة الحيوان، قد قفز سريعا حينما استخدمت العجلة في مركبات القتال الحيثية والفرعونية والآشورية، وفي حضارات الشرق الأوسط القديم عامة. وكذلك حظيت السفن والطائرات بدفعة تطور قوية خلال سباق التسلح قبل وخلال الحرب العالمية الأولى والثانية، وبصورة أكبر في فترة سباق التسلح التي يعيشها عالمنا المعاصر. وبرغم ما تؤدي إليه هذه المستحدثات من أضرار بالغة في الحروب، إلا أن الاستخدام السلمي لمنجزاتها يصبح فيما بعد نعمة كبرى على تقدم وسائل النقل. (1-4) الأغراض الترفيهية والدينية وغيرهما
باشتداد كثافة السكن والنشاط الاقتصادي الحديث في المدن تنشأ الحاجة الملحة إلى الترفيه في صور عدة؛ منها الاصطياف ورحلات عطلة نهاية الأسبوع والأعياد. وقد أدى هذا إلى امتداد طرق المواصلات إلى مناطق نائية في الجبال أو على سواحل البحار والبحيرات لم تكن تمتد إليها دون نشأة هذه المناطق الترويحية.
وباقتراب العالم من بعضه بواسطة التشابك الحضاري العالمي الراهن نشأت السياحة الدولية كوسيلة عملية لزيادة خبرة الأفراد بأجزاء العالم المختلفة. وقد أدت السياحة الدولية الراهنة إلى نمو سريع في وسائل نقل الركاب بحرا وجوا وبرا، وساعدت على إنشاء شبكة عظيمة من الطرق السريعة في كثير من الدول لجذب السياح إلى داخلية البلاد، وإلى إبراز معالم الزيارة في الأماكن الأثرية ومناطق اللهو والترويح.
وخلاصة القول أن السياحة الدولية قد أصبحت جزءا من نمط حياة الأفراد في كثير من الدول المتقدمة.
وأخيرا فإن الإنسان منذ القدم - بارتباطه الغيبي بقداسة وبركة أماكن معينة، وارتباطه الديني بتعاليم تحث على الحج إلى أماكن محددة - قد ساعد على نشأة طرق معروفة تتجه إلى تلك الأماكن. وأشهر أماكن الحج والمزارات مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس، وبنارس، ولورد، وروما. وتنمو العناية بهذه الطرق وتتزايد بصفة مستمرة لتخدم المزيد من الحجيج. (1-5) الحركة اليومية إلى المدن الرئيسية
نظرا لوظيفة المدن كمراكز خدمة رئيسية داخل أقاليمها، وكمناطق الصناعة الرئيسية، وكمراكز لنشاطات تجارية ومالية وثقافية وترفيهية وعلاجية، فإن هناك حركة دائمة يومية من إقليم المدينة إلى المدينة للاستفادة بهذه الخدمات. وهناك أيضا حركة دائمة تجلب خامات الصناعة إلى المدن أو تنقل المنتجات المصنعة إلى الأسواق خارج المدن. ونظرا لازدحام المدن عامة، فإن عددا لا بأس به من سكان المدن يسكن الضواحي لأسباب كثيرة من أهمها رخص الأراضي والإيجارات. ويؤدي هذا إلى حركة انتقال كثيفة من مجال المدينة الخارجي إلى داخلها تسمى حركة العمل اليومي، وهي حركة تؤدي إلى ضغط شديد على طرق المدينة.
جدول 1-1: المتوسط اليومي لعدد الركاب القادمين والمغادرين لمحطات السكك الحديدية الباريسية.
المجموع
759 ألف راكب (1) محطة سان لازار
300 ألف راكب (2) محطة الشمال
135 ألف راكب (3) محطة الشرق
85 ألف راكب (4) محطة أوسترليتز
82 ألف راكب (5) محطة ليون
72 ألف راكب (6) محطة مونبارناس
40 ألف راكب (7) محطة الأنفاليد
30 ألف راكب (8) محطة الباستيل
15 ألف راكب
خريطة 1-1: نموذج لحركة العمل اليومية في باريس (الحركة اليومية بواسطة السكة الحديدية فقط).
وحركة الانتقال في المدن ومحيطها تمثل في الواقع أكثف حركة انتقال بالمقارنة بأي من مجالات النقل الأخرى، وإن كانت هذه الحركة محدودة المسافات بطبيعة تمركزها حول المدينة الواحدة. وقد أدى هذا إلى نشأة كل أشكال المواصلات الكثيفة (طرق برية سريعة، طرق حديدية، موانئ جوية) حول المدن وفي داخلها (أوتوسترادات وجسور وأنفاق وخطوط حديدية معلقة ... إلخ). وتتضح هذه الصورة بكامل مشكلاتها في المدن الأمريكية الرئيسية، وفي المدن الأوروبية بصورة أقل حدة (انظر خريطة رقم 1-1). (2) التأثير المتبادل بين النقل والتجارة والتكتلات السياسية
إذا استثنينا وسائل النقل الجوي الحالية، فإننا نجد أن تكنيكية النقل عامة تنقسم إلى قسمين رئيسيين، هما وسائل النقل البري ووسائل النقل المائي. وإذا أردنا أن ندرس كلا من هذين القسمين على ضوء القوة المحركة وشكل وسيلة النقل وبنائها ووظيفتها، فإننا نجد تقسيمات كثيرة لأساليب النقل العالمية.
وفي خلال تاريخ الإنسان على ظهر الأرض الذي يمتد إلى عشرات الآلاف من السنين نجد أن هناك تقسيما يؤدي بنا إلى التعرف على مرحلتين تاريخيتين في وسائل النقل؛ المرحلة الأولى طويلة جدا، وتبدأ من بداية التاريخ الإنساني إلى حوالي قرن مضى. أما المرحلة الثانية فهي شديدة القصر لا تتجاوز القرن، ومع ذلك فإنه قد ابتكر فيها تنوع هائل، في شكل وسائل النقل ومبدأ الطاقة المستخدمة لتحريك مركبات النقل المختلفة البرية والمائية على السواء، من البخار إلى آلة الاحتراق الداخلي إلى القوى الكهربائية، وأخيرا بدايات استخدام الطاقة النووية. أما المرحلة الأولى الطويلة فقد تميزت بسيادة مبدأ موحد؛ هو استخدام الطاقات الطبيعية في تحريك المركبات البرية والمائية على السواء، فاشتملت على استخدام طاقة الانحدار الأرضي «الجاذبية الأرضية» وطاقة الانحدار المائي «قوى تيارات الماء النهرية والمحيطية والمد والجزر» وطاقة الرياح، والطاقات العضوية المتمثلة في الإنسان والحيوان.
وقد ترتب على اختلاف شكل الطاقة المستخدمة بين المرحلتين التاريخيتين في النقل، وفي داخل كل مرحلة، اختلافات هائلة في شكل وبناء مركبة النقل ووظيفتها. وأكبر الاختلافات تنحصر في حجم المركبة وسرعتها. وبما أن الطاقات المحركة الحديثة طاقات ميكانيكية غير عضوية ذات قوى غير محدودة بالقياس إلى الطاقات الطبيعية والعضوية التي كان يمكن استخدامها قديما، فإن المركبات صارت أكبر حجما وأكثر سرعة بدرجات غير متناسبة تماما مع حجم وسرعة المركبات في المرحلة التاريخية الأولى.
وصحيح أن للرياح طاقة تحريك عظيمة لا مثيل لها في قائمة المبتكرات الإنسانية، إلا أن استخدامها كان محدودا جدا خوفا من طاقتها المدمرة التي تظهر متكررة في صورة الأعاصير الجامحة. وحين تهب مثل هذه الأعاصير تبتعد المراكب الشراعية وغير الشراعية فورا عن المنطقة؛ وبالتالي فإن استخدام وسائل النقل المعتمدة على الرياح كانت دائما تحت رحمة طاقة غير مستأنسة.
وكذلك ترتب أيضا على سرعة المركبة في المرحلة التاريخية الثانية تغير هائل في وظيفة النقل؛ فلم يعد الانتقال مشقة بالنسبة للأفراد، ولم يعد مغامرة بالنسبة للتجارة، ولم يعد النقل مضيعة للوقت في حالتي الأفراد والبضائع. وبناء على هذا كله حدث تغير كمي وكيفي في وظيفة النقل الحديث، كان من آثاره ازدياد حجم التبادل التجاري العالمي بدرجة ساعدت بشدة على التخصص الوظيفي في النشاطات الاقتصادية في دول العالم وقاراته.
وكان من جراء هذا أن نشأ اليوم شعار يتردد على الألسنة في كل يوم وكل مكان: «لقد انكمش العالم.» أو «نحن نعيش في عالم منكمش المسافات والمساحات.» أو «إنه لعالم صغير ذلك الذي نعيش فيه اليوم.»
Shrinking, small World ؛ فالمسافات قد قصرت وتيسر الانتقال بسرعة غير معهودة، وبنيت وسائل لنقل كل أشكال البضائع والسلع من الخامات ذات الأحجام الكبيرة (الناقلات البرية والمائية لخام الحديد أو النحاس أو غيرهما من المعادن، جرارات الأخشاب العملاقة التي تعمل في مناطق الثروة الغابية، ناقلات البترول الخام والمكرر، أنابيب البترول والغاز، أسلاك التحميل العالية لنقل الطاقة الكهربائية، إلى جانب السفن والطائرات والقطارات العادية التي تنقل أشكالا لا حصر لها من السلع والبضائع). ولم يعد غريبا أن يعرف الإنسان في أي مكان أن هناك تخصصا إقليميا في السلع المعروضة في الأسواق؛ كروم وموالح وطماطم البحر المتوسط، لحوم وأجبان المراعي العلمية في الدانمرك وهولندا والأرجنتين، أخشاب النطاق المخروطي في كندا واسكندنافيا والاتحاد السوفييتي، المكيفات المنتجة في العالم الاستوائي؛ بن البرازيل وكاكاو أفريقيا وشاي آسيا، وغير ذلك كثير من التخصص الإقليمي في عالم الصناعة .
وخلاصة القول أن تطور وسائل النقل وتخصصها قد أدى إلى ربط العالم كله بشبكة كثيفة الخيوط من العلاقات التجارية، وساعد بصورة أو أخرى على إعادة توزيع أشكال النشاط الاقتصادي في أقاليم جغرافية متمايزة ومتخصصة.
ولئن كان تطور وسائل النقل يعد عاملا مساعدا على نمو الإمبراطوريات الاستعمارية خلال القرنين الماضيين، فإن هذه الإمبراطوريات بدورها قد ساعدت على نشأة الأنماط الاقتصادية المتخصصة عن سياسة عامدة. لكن وسائل النقل قد أدت خلال هذا القرن إلى سرعة انتقال الأفكار السياسية المختلفة؛ مما أدى بدوره إلى نشأة الحركات القومية في المستعمرات، وأفضى في النهاية إلى استقلال معظم هذه المستعمرات. وتحاول هذه الدول المستقلة - عن طريق سرعة الاتصال أيضا، ماديا وفكريا - أن تستفيد قدر الإمكان من تخصصها النمطي في إنتاج محصول أو خامة معينة، بزيادة وتحسين الإنتاج، وأن تتغلب في الوقت نفسه على مساوئ التخصص النمطي بإضافة عناصر إنتاجية جديدة؛ محاصيل أو معادن أو طاقة محركة، بالإضافة إلى الصناعة ولو على مقياس صغير.
وسوف يترتب على قرن المواصلات الحديثة والاستقلال والروح القومية والنزعة الإقليمية (فوق القومية المحدودة بحدود الدولة السياسية الحالية) تأثيرات مباشرة على التخصص الإقليمي العالمي الراهن في الإنتاج وأشكال استغلال الأرض في صورة تجميعات اقتصادية واسعة المساحة ومتعددة الإنتاج. وأكثر المؤشرات وضوحا وأقربها إلى التحقيق ما زالت تقع ضمن مجموعة الدول المتقدمة، وأغلبها كان صاحب مستعمرات سابقة. وقد كان هذا نتيجة طبيعية لظروف هذه الدول التي تتمتع بتنظيمات اقتصادية متعادلة ذات جذور تاريخية عميقة نسبيا، ولعل مجموعة السوق الأوروبية المشتركة، ومجموعة السوق المشتركة للدول الاشتراكية، سوف تصبح النمط السلفي الذي سوف تسعى إليه كتل العالم الأخرى كالكتلة الأفريقية والكتلة العربية والكتلة اللاتينية.
والذي يهمنا في هذا المجال أن نمو هذه التكتلات بما فيها من محاولات التعادل الإنتاجي بدلا من التخصص الإنتاجي البحت، سوف يؤدي إلى تغيرات عميقة في شبكة الاتصال العالمي الراهنة.
ويمكننا أن نتصور ماذا يمكن أن يحدث في عالم المواصلات على ضوء ما حدث تاريخيا في الماضي حينما كان التخصص الإنتاجي البحت هو الشكل الأساسي للتجارة، مثلا في عهد الإمبراطورية البريطانية والكمنولث البريطاني كان هناك تخصص مواصلات بمقتضاه كانت ليفربول ميناء القطن الأول، وموانئ جنوب بريطانيا بما فيها لندن نهاية للسلع الاستوائية والمدارية مثل الكاكاو والشاي. وفي عهد الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية كانت مرسيليا هي الميناء الفرنسي الأول الذي يتعامل في المنتجات المدارية القادمة من المستعمرات الفرنسية في آسيا وأفريقيا.
وحينما تندمج عدة دول في تكتل اقتصادي، كالبنلوكس أو السوق الأوروبية المشتركة، فإن تغيرا تدريجيا يطرأ على تخصص الموانئ ووظائفها الإقليمية، لكن هذا التخصص في حد ذاته قد يكون داعيا إلى استمرار جذب خطوط الحركة والمواصلات إليه، إذا كان الموقع مركزيا والخلفية مناسبة للتغير الناتج عن التكتل الاقتصادي الجديد. وقد كان هذا حال ميناء روتردام الهولندي بالنسبة لكتلة السوق الأوروبية، ومثله في ذلك ميناء مرسيليا الفرنسي.
وفي وسعنا أن نتصور انخفاضا كبيرا في المنافسة بين الموانئ المتشابهة التوجيه في حالة استمرار الاندماج الاقتصادي وتدعيمه في أي منطقة يحدث فيها ذلك. والسبب الرئيسي وراء ذلك يرجع إلى أن مثل هذه الموانئ المتشابهة التوجيه - كهامبورج وروتردام والهافر ولندن - سوف تتغير وظائفها من موانئ قومية إلى موانئ إقليمية كل منها يخدم النشاط الاقتصادي في حدود خلفيته الطبيعية والبشرية، وفي مثل هذه الحالة تميل الحركة البرية إلى الانخفاض أو الزيادة تبعا لحجم الخلفية الاقتصادية التي يخدمها كل ميناء على حدة. وفي هذا المجال أيضا نلاحظ تناقصا في الأهمية النسبية للموانئ المتطرفة مكانيا بالنسبة لحدود التكتل الاقتصادي كما حدث في هامبورج، برغم أنها كانت الميناء الألماني القومي الأول. وفي المقابل ترتفع الأهمية النسبية للموانئ المتمتعة بظهير بشري وإنتاجي كبير. (2-1) السوق الأوروبية كنموذج لتغيرات النقل
يعطينا ما حدث في أوروبا الغربية نموذجا معاصرا لما يحدث من تأثيرات التوجيه الاقتصادي على نمط النقل، ويلخص لنا ما سبق أن ذكرناه نظريا عن احتمالات التغير المرتبطة بإعادة توجيه الاقتصاد الأوروبي في صورة تسعى للتكامل. وفيما يلي دراسة مقتضبة عن الموانئ الرئيسية لدول السوق الأوروبية، كأحد مظاهر التغير في نمط النقل، علما بأن تغيرات مماثلة قد طرأت على توجيه خطوط النقل البرية والجوية لتخدم المناطق الكثيفة الإنتاج داخل كل دولة على حدة، وداخل التكتل الأوروبي بصفة عامة.
جدول 1-2: تطور الحمولة المشحونة والمنزلة في الموانئ الرئيسية لدول السوق الأوروبية. *
الميناء
1938
1965
حمولة 1965
مجموعة الحمولة مليون طن ٪ من الموانئ الاثني عشر
مجموع الحمولة مليون طن ٪ من الموانئ الاثني عشر
بالنسبة إلى حمولة 1938 (٪)
المجموع
153,3
100
434,6
100
283,5 +
روتردام «ه»
46,4
30,2
122,7
28,5−
264,6−
أنتفيرب «ب»
23,6
15,3
59,4
14−
252,1−
مرسيليا «ف»
10
6,5
56,8
13,4+
570,8+ +
هامبورج «أ»
25,8
16,7
35,3
8,3−
136,7− −
جنوا «ط»
7,3
4,7
34
8+
467,9+ +
الهافر «ف»
6,7
4,4
38
6,6+
570,5+ +
بريمن «أ»
9
5,9
17,5
4,1−
194,5− −
دنكرك «ف»
4,2
2,8
16,3
3,8+
383,4+
نابولي «ط»
2,9
1,9
15,5
3,7+
538,6+ +
فينسيا «ط»
4,2
2,7
14,6
3,4+
350,2+
أمستردام «ه»
5,7
3,7
13,9
3,3−
245,9−
روان «ف»
7,7
5
10,6
2,5−
137,3− − *
ملاحظات: «ه» = هولندا. «ب» = بلجيكا. «ف» = فرنسا. «أ» = ألمانيا. «ط» = إيطاليا.
تفسير العلامات في عمود 1965: − = نقص في نسبة الحمولة من المجموع الكلي للموانئ الاثني عشر الواردة بالنسبة لنصيبها عام 1938. + تساوي زيادة في نسبة الحمولة من المجموع الكلي للموانئ الاثني عشر الواردة.
تفسير العلامات في العمود الأخير: (−) أو (+) مقاسه إلى نسبة الزيادة الكلية لحمولة الموانئ الاثني عشر في 1965 عن 1938. (− −) تساوي نسبة نمو ما بين 100 بالمائة و200 بالمائة فقط في الفترة المذكورة. (−) تساوي نسبة نمو بين 200 بالمائة و300 بالمائة. (+) تساوي نسبة نمو بين 300 بالمائة و400 بالمائة. (+ +) تساوي نسبة نمو أعلى من 400 بالمائة في حمولة 1965 بالنسبة لحمولة 1938.
يلاحظ أن المقصود بالخطوط الرئيسية هي تلك التي يسير فيها خطان من خطوط المواصلات أو أكثر في اتجاه المحور نفسه، الخريطة نقلت (مع بعض التعديل) عن:
G. Parker, “The Logic oF Unity”, Longman, London 1968 .
يوضح هذا الجدول (
1-2 ) دلالات كثيرة ليست في حاجة إلى تعليق، والمهم بالنسبة لموضوعنا أن نلاحظ: (1)
هبوط كبير في ترتيب الموانئ الألمانية، وهي في الحقيقة أقل الموانئ الأوروبية نموا نتيجة تقسيم ألمانيا (= تأثير على نشاط هامبورج) وتطرف الساحل الألماني بالنسبة للقلب الألماني الصناعي مقارنا بقربه ويسر اتصاله بالبحر عن طريق الموانئ الهولندية والبلجيكية. (2)
ارتفاع حاد في مجموعة الموانئ الفرنسية والإيطالية التي يبدو أنها كانت أكبر مستفيد من نشأة السوق المشتركة بحكم علاقات المكان لكل من الدولتين، ولوجود قلوب صناعية قومية مجاورة للموانئ القومية؛ منطقة باريس الصناعية يخدمها ميناء الهافر، ومنطقة تورينو-ميلانو الصناعية تخدمها جنوا. (3)
بالرغم من النمو الهائل في حمولة ميناءي روتردام وأنتفيرب إلا أن هذا النمو كان أقل قليلا من درجة النمو العامة للموانئ الاثني عشر. ويجب ألا ننسى أن الميناءين كانا من قبل موانئ رئيسية في أوروبا الغربية، حمولة التعامل فيهما كبيرة كميناءي ترانزيت لألمانيا والقلب الصناعي البلجيكي والفرنسي الشمالي؛ ومن ثم فإن هناك حدودا لنسبة النمو لا تستطيع الموانئ تجاوزها إلا بمزيد من الاستثمارات الضخمة وبقصد أن تصبح موانئ شديدة الاحتكار. وهذا الأمر لا يتفق والخطوط العامة للسياسات القومية داخل وحدة السوق المشتركة. (4)
هامبورج ومرسيليا طرفا النقيض في درجة النمو خلال الفترة المذكورة. وقد سبق أن شرحنا خلفية هامبورج المتدهورة والمتناقصة. أما مرسيليا فإنها وجدت نفسها في موقع ممتاز على البحر المتوسط كنهاية جيدة لخطوط الحركة الحديدية والبرية والأنبوبية التي تعبر دول السوق من الشمال إلى الجنوب (فرنسا، ألمانيا، هولندا). ويوضح الخريطتان 1-2 و1-3 وتكاثف خطوط الحركة المتجهة إلى مرسيليا والصورة الاحتكارية لهذا الميناء بالنسبة لجنوب السوق المشتركة دون أن ينازعها منازع. وبالرغم من نمو هائل لحركة ميناء جنوا المشابه لمرسيليا، إلا أنه يخدم جيبا إيطاليا (منطقة الصناعة في غرب لمبارديا) مسدودا بواسطة جبال الألب من الشمال والغرب، بينما وراء مرسيليا طريق طبيعي مفتوح بامتداد الرون ورافده الساؤن في اتجاه طريق طبيعي آخر هو وادي الراين المؤدي إلى منطقة قلب الصناعة الألمانية في الراين الأوسط (شتوتجارت-مانهايم-فرانكفورت) وفي الراين الأدنى (الرور)، ومن ثم إلى المنطقة الصناعية الهولندية والبلجيكية، وبرغم التحسينات التكنولوجية التي تطرأ باستمرار على الطرق من جنوا إلى جنوب ألمانيا عبر جبال الألب في سويسرا والنمسا، إلا أن المتوقع أن تصبح مرسيليا روتردام أخرى لدول السوق الأوروبية، مطلة على البحر المتوسط.
خريطة 1-2: المحاور الأساسية للمواصلات في دول السوق المشتركة.
خريطة 1-3: صناعة تكرير البترول في أوروبا الغربية وخطوط الأنابيب الرئيسية. (1) خطوط ناقلات البترول الخام من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. (2)
الأنابيب الرئيسية في أوروبا الغربية: لاحظ المحور الأساسي لخط الأنابيب العابر لدول السوق من روتردام إلى مرسيليا عبر ألمانيا الغربية. (4) الحدود السياسية. (5) معامل تكرير ذات طاقة سنوية أكثر من 30 مليون طن. (6) معامل تكرير طاقتها بين 20 و30 مليون طن. (7) معامل تكرير طاقتها بين 15 و20 مليون طن. (8) معامل تكرير طاقتها بين 10 و15 مليون طن. (9) معامل تكرير طاقتها أدنى من خمسة ملايين من الأطنان. (10) مجموع طاقة التكرير في كل دولة. الخريطة منقولة بإضافات عن:
.
وعلى وجه العموم، فإن لدول السوق على القارة الأوروبية واجهتين بحريتين رئيسيتين ترتبطان بالمواقع الرئيسية للصناعة الأوروبية؛ الواجهة الأولى: هي تلك الممتدة من هامبورج إلى الهافر وتخدم مركز الثقل المتجمع في أوروبا الغربية، والواجهة الثانية: هي تلك الممتدة من مرسيليا إلى جنوا. وفيما عدا ذلك فإن الموانئ الأوروبية تخدم مناطق محلية مثل تريستا وفينسيا ونابولي في الجنوب، وشربورج ونانت في الغرب.
وقد سبق أن أوضحنا العلاقة بين مرسيليا وجنوا وبينا تفوق خلفية مرسيليا بالقياس إلى جنوا، برغم وجود المنطقة الصناعية الإيطالية في خلفية جنوا. أما في الواجهة البحرية الشمالية بين هامبورج والهافر، فإننا نتبين بصورة لا تدعو لمزيد من الشرح، المكان المركزي لروتردام وأنتفيرت بالمقارنة بهامبورج والهافر؛ فالميناءان الأخيران يقعان في أماكن متطرفة بالنسبة لقلب الصناعة الأوروبية، ويخدمان التجمع الصناعي في شمال ألمانيا ومنطقة باريس على التوالي. أما روتردام وأنتفيرب فإنهما تقعان على البوابة المباشرة لحوض الراين والرور ومنطقة الصناعة البلجيكية الفرنسية.
وقد كانت روتردام - من قبل تكوين السوق الأوروبية - تحتل هذا المركز المتوسط، وكان حجم التعامل التجاري فيها أكبر من أي ميناء أوروبي آخر، وذلك برغم السياسات القومية في ألمانيا وفرنسا قبل وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. وجاء تكوين السوق الأوروبية ليؤكد مرة أخرى أهمية المكان المركزي لروتردام ويجعلها في عام 1965 أكبر ميناء في العالم من حيث حجم التجارة التي يتعامل فيها، ويعطيها نموا زاد عن مرتين ونصف ما كان عليه حجم التعامل في عام 1938. وقد أمكن لروتردام أن تتعامل بكفاءة مع الحجم التجاري المتضاعف نتيجة الاستثمارات الضخمة من أجل التحسينات الشاملة الشاسعة في سعة الميناء والمخازن، والاستحداثات المستمرة في آلية الرفع والشحن والنقل.
ومن بين مؤشرات هذا الاستحداث إنشاء ميناء جديد كل الجدة على بعد قليل من الميناء الأصلي في اتجاه مصب النهر أطلق عليه اسم ميناء أوروبا
Europoort . وبطبيعة الحال فإن المركز المتوسط لروتردام على الجبهة البحرية الشمالية لدول السوق الأوروبية ما كانت تصبح له هذه الأهمية المعاد تأكيدها بصفة مستمرة بدون الخلفية الواسعة للميناء؛ فروتردام هي - من الناحية الطبيعية والاقتصادية - ميناء الراين الأول بدون منازع، وترتبط بالراين (بما في ذلك الرور) بكافة خطوط الحركة من القديم إلى الحديث والمتناهي الحداثة. وأقدم وسائل الاتصال هو الراين وشبكته المائية الضخمة، وأحدث وسائل الاتصال هي خطوط أنابيب البترول وشبكة الطرق البرية السريعة.
وتشارك أنتفيرب ميناء روتردام في موقعه المركزي، لكن حجم التعامل في هذا الميناء قد بلغ نصف مثيله في الميناء الهولندي، وبرغم ذلك فإن نمو الحركة في أنتفيرب قد بلغ نحو مرتين ونصف ما كان عليه التعامل عام 1938.
وخلفية هذا الميناء الرئيسية هي منطقة الصناعة البلجيكية الفرنسية، بحكم مسار نهر الشلد الذي تقع عليه، وبواسطة القناة الملاحية إلى منطقة لييج وشمال فرنسا الصناعي، ولكن أنتفيرب بدأت تمارس منافسة واضحة مع روتردام في إيجاد خطوط حركة حديثة وسريعة مع حوض الرور والراين بواسطة الطرق الحديدية والبرية.
وبرغم تطرف موقع الهافر بالنسبة للقلب الصناعي الأوروبي المشترك، إلا أن حجم التعامل فيها قد زاد بصورة أكبر مرتين مما حدث في روتردام وأنتفيرب، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى نمو ظهير صناعي جديد يمتد من باريس إلى الهافر على طول نهر السين، ويستفيد هذا النمو الصناعي من التكتل البشري في باريس ومن النهر كوسيلة نقل كثيف ورخيص.
أما هامبورج فإن تطرف موقعها بالنسبة للقلب الصناعي الأوروبي قد زاد عليه عامل سياسي أدى إلى انخفاض واضح في نمو حجم التعامل فيها بالقياس إلى الموانئ الأوروبية الأخرى؛ ذلك أن تقسيم ألمانيا إلى شرقية وغربية قد حرم هامبورج من التعامل مع ظهيرها الاقتصادي في حوض الألب، الذي كان يشتمل على مناطق الصناعة في تشيكوسلوفاكيا وإقليم سكسونيا وبرلين في ألمانيا الديموقراطية حاليا.
وقد كانت لندن هي أكبر موانئ أوروبا حركة وحجما في التجارة وعدد السفن، ولكن تكوين مجموعة السوق الأوروبية قد أدى إلى نمو هائل لميناء روتردام بحيث أصبحت الميناء الأول في كل القارة الأوروبية، على النحو الذي فصلناه عن موقعها.
ولكن ليس معنى هذا أن تسقط أهمية لندن كميناء بعد دخول بريطانيا السوق المشتركة؛ فهناك في أوروبا الغربية ما يسمى باسم «المثلث الذهبي» الذي يقع بين المناطق الثلاث: باريس (فرنسا) في الجنوب، برمنجهام (بريطانيا) في الشمال، وحوض الرور (ألمانيا) في الشرق (انظر الخريطة رقم 1-2). وفي هذا المثلث يتركز نحو ثلثي ثروة أوروبا الصناعية؛ الميدلاندز والجنوب الشرقي من بريطانيا، المنطقة الصناعية الفرنسية ومنطقة الصناعة في دول البنلوكس، منطقة الصناعة الألمانية في الراين والرور. وفي داخل هذا المثلث تتناظر أهمية موقع كل من روتردام ولندن؛ وبالتالي سيصبح للندن دورها كميناء هام من موانئ التبادل داخل السوق الأوروبية، بالإضافة إلى تجارتها التقليدية مع الكمنولث البريطاني والعالم الخارجي.
ولا يقتصر الأمر على نمو موانئ على حساب الأخرى؛ وبالتالي نمو نمط مواصلات بحرية جديد، بل إن شبكات النقل البري والجوي والنهري في داخل التكتل الاقتصادي الواحد سوف يعتريها أيضا تغير نمطي ملحوظ نتيجة لسقوط أهمية الحدود السياسية الراهنة، فمثلا سوف تتعدل شبكة الملاحة النهرية والقنوات في ألمانيا من توجيه قومي إلى الموانئ الألمانية، إلى توجيه اقتصادي إقليمي طبيعي إلى نهر الراين ومن ثم إلى هولندا.
وليس بوسعنا أن نستطرد أكثر من هذا وإلا دخلنا عالم النبوءات، وهو عالم غير علمي؛ لكثرة العوامل غير المرئية المؤثرة في اتخاذ القرارات البشرية، وتشابك هذه العوامل تشابكا يستحيل معه التنبؤ بطريقة استجابتها للقرارات والسياسات والخطط المرسومة.
ولكن يمكننا أن نلخص صورة التغير العميق الذي سوف يحدث في المستقبل في نمط المواصلات والنقل من واقعة شديدة الحداثة، شديدة التأثير؛ فلقد قررت بريطانيا - بعد دخولها السوق الأوروبية المشتركة - أن يتغير خلال فترة زمنية محدودة، نظام المقاييس والحجوم والأوزان البريطانية إلى المقاييس والمعايير المترية، بل تعدى الأمر ذلك أيضا إلى تعديل العملة إلى النظام العشري.
ولم يكن من السهل على الإطلاق أن يتخلى الإنجليز عن هذه الأنظمة التقليدية، التي يتغلغل أثرها ويتعمق إلى مستوى التعامل اليومي لكل فرد من سكان بريطانيا؛ مع الأخذ في الاعتبار بما هو معروف عن الروح المحافظة والاعتداد المتعجرف بكل ما هو بريطاني.
إن اتخاذ هذه الخطوة من جانب بريطانيا توضح استعدادها للتنازل من علياء سياستها الإنجليزية الصرفة وخضوعها للتغيرات التي تحدث في العالم المعاصر، وإدراكها أخيرا أنها ليست سوى جزء من أوروبا الغربية وليست عالما بذاته.
وكذلك سوف يكون على بريطانيا أن تتنازل موانئها عن احتكارها لعدد من السلع العالمية، وأن تصبح موانئها فيما بعد جزءا متكاملا من مجموعة موانئ أوروبا الغربية، وربما تتخلى أيضا عن نظام المرور التقليدي للسيارات لتتبع النظام الأوروبي للسير.
وبالمثل يمكننا أن نتصور تغيرات جذرية في نمط المواصلات في حالة قيام تكتلات اقتصادية فعلية في أجزاء أخرى من العالم. وبما أن وسائل النقل، وخاصة البرية والحديدية، في أجزاء كثيرة من العالم - باستثناء الولايات المتحدة وأوروبا واليابان - لا تكون شبكة نقل كثيفة ومتكاملة، فإن ردود الفعل في تغيرات النقل في معظم أجزاء العالم يمكن أن تكون أعمق من التغيرات التي حدثت في أوروبا الغربية؛ ومن ثم فإن عمق الجذور التاريخية في نمط المواصلات في الدول المتقدمة يمكن أن نعده عائقا وعقبة أمام الاستحداثات الواجب تنفيذها لمواجهة المواقف الاقتصادية الجديدة، بينما عدم وجود مثل هذه الخلفية التاريخية في النقل وكثافته، يعطي للدول الأخرى مرونة كبيرة في اتخاذ القرارات الخاصة بإنشاء شبكة النقل الحديثة بتكلفة أقل بكثير مما هو عليه الحال في الدول المتقدمة. (3) التطور العام لوسائل النقل
إن النقل بوسيلة أو أخرى يبدو أنه كان أمرا ضروريا للإنسان منذ نشأته، وأبسط وسائل النقل المعروفة هي استخدام الأيدي في الحمل. وكذلك الأكتاف والظهر بدون استخدام أية وسيلة مساعدة أخرى. لكن يبدو أن الإنسان منذ القديم قد عرف استخدام نوع من الوعاء، وأنواع من الخيوط والأحبال ليتمكن من زيادة طاقته على الحمل ونقل الأشياء، برغم أن القوة المحركة ظلت هي الطاقة العضلية التي تحرك الإنسان سيرا على الأقدام.
ويتضح من هذا أن الإنسان قد تقدم منذ فترة طويلة جدا على أنواع الحياة الحيوانية، مثل الجوريلا والقردة العليا؛ فالجوريلا مثلا لا تقدر على نقل أكثر مما تستطيعه يداها، ومن ثم تقضي الجوريلا معظم حياتها متنقلة ببطء من مكان إلى آخر لتأمين غذائها الذي تأكله على الفور وفي نفس مكان وجوده طبيعيا. وبالرغم من أن الجوريلا تقضي الليل دائما في مكان واحد، إلا أن هذا المكان لا يحتوي على أية أملاك سوى المكان.
وعلى النقيض تماما نجد المجتمعات الإنسانية حتى في أبسط صورها عددا وحضارة؛ فالمجتمع الإنساني البسيط يقيم معسكرا أو يحتل مكانا محميا آمنا (كهف أو حائط صخري أو مكان قريب من مصدر الماء) لبضعة أيام أو بضعة أسابيع، ويترك القادرون على النشاط والتجول المعسكر بحثا عن الطعام، وبالرغم من أنهم يأكلون بعض ما يحصلون عليه من صيد أو نبات في مكانه، إلا أنهم يعودون بطعام إلى المعسكر لتغذية الأطفال وكبار السن، وبعض الطعام يعالج بالتدخين أو الشي ليمكن تخزينه بعض الوقت، أو إلى وقت الحاجة والشدة، وحينما تقل موارد الطعام في المنطقة ينتقل المعسكر كله إلى منطقة أخرى ذات وفرة غذائية، وفي خلال التنقل تنقل بعض الممتلكات أيضا مثل الخيمة أو السقف المصنوع من القش المجدول على إطار من الأغصان، وغير ذلك مثل الأسلحة والأوعية والملابس الإضافية وأدوات الإنتاج والأدوات التي تستخدم في الطقوس أو تلك المرتبطة بالعقائد والممارسات الدينية بصورها المختلفة.
فإذا كانت وسائل النقل محدودة وبسيطة فإن المجتمع يحتفظ بممتلكات محدودة قابلة للنقل، وكذلك يصبح المجتمع قليل العدد، إلا إذا كانت المنطقة وفيرة الغذاء بصورة متجددة، وهو أمر لا يدعو للتنقل.
ولا شك أن وسائل النقل وتنوعها يرتبط بالكفاءة التكنيكية عند المجموعات المختلفة، ويعكس مدى احتياجهم للنقل. ولكن النقل أيضا عامل مهم في توسيع رقعة الأرض المستخدمة ويؤدي إلى التخصص الإنتاجي في المناطق المختلفة. وقد ازدهرت كثير من الدول البدائية القديمة - كدولة الباجندا في أوغندا في أفريقيا، ودولة الإنكا في أمريكا الجنوبية - نتيجة لتنظيم محكم للطرق التي تربط أرجاء الدولة بالعاصمة. والمثال التقليدي على ذلك هو الدولة الرومانية التي ربطت أجزاء كثيرة من عالمها بالطرق الرومانية المعروفة. وفي مصر كانت ملاحة النيل وفروعه في الدلتا هي الطرق الرئيسية السريعة التي يحكم عبرها الفراعنة بلادا ذات امتداد طويل، ويحمون جبهات واسعة من الألف الرابعة قبل الميلاد ضد غارات البدو الدائمة.
وليس لدينا أدلة على أن إنسان العصر الحجري القديم قد طور وسائل انتقال معينة وخاصة عبر الأنهار. ولعله كان يعبرها مع جذوع الأشجار العائمة طبيعيا أو متعمدا، ولكننا نملك أدلة على أن الإنسان في العصر الحجري الأوسط (حضارة ماجلموس في السويد) قد استطاع عمل الأرماث أو الطوافات
rafts
في منطقة بحيرات السويد الوسطى، وإلى جانب ذلك فإنه قد صنع قوارب بواسطة تجويف جذوع الأشجار بالطرق والدق أو الحرق، ولا تزال المجموعات البدائية تصنع قوارب مماثلة في جزر الباسيفيك وأنهار النطاق المداري والاستوائي.
لكن القوارب الحقيقية قد ظهرت لأول مرة - حسب معلوماتنا الراهنة - في خلال عصر النحاس في مصر منذ أكثر من ستة آلاف سنة، وهي قوارب مصنوعة من ربط قطع مجهزة من الأخشاب بعضها إلى بعض، كما كانت هناك قوارب كبيرة مصرية تعبر البحار المحيطة بمصر، وبرغم أن التجديف بواسطة الملاحين كان هو مصدر القوة المحركة لمثل هذه القوارب الكبيرة، إلا أن الرسوم المصرية الملونة على الأواني قبيل عام 3000ق.م تضيف شراعا إلى القوارب. وقد ظلت الملاحة البحرية على الأسس المصرية آلاف السنين، ولم يحدث فيها تطور إلى السفن الكبيرة المتعددة الأشرعة إلا حوالي تاريخ الكشوف الجغرافية الكبرى في القرن الخامس عشر، وهذا يعني أن النشاط البحري لعدد من شعوب البحر المتوسط قد تبنى مبدأ الملاحة المصري: الفينيقيون والإغريق والرومان، وأساطيل الدولة الرومانية الشرقية والدول العربية المتعددة في حوض البحر المتوسط.
أما النقل على الأرض فقد ظل لفترة طويلة جدا من حياة الإنسان قائما على أساس العضلات البشرية وحدها، وفي حوالي الألف السابعة قبل الميلاد انتقلت البشرية إلى العصر الحجري الحديث «النيوليتي» في الشرق الأوسط وهضاب إيران الغربية ومنطقة القوقاز. وأهم منجزات هذا الانتقال أن الإنسان استطاع لأول مرة أن يصبح منتجا للغذاء بدلا من الاعتماد على النتاج الطبيعي وحده. وإلى هذه الفترة التاريخية ترجع بدايات الزراعة واستئناس الحيوان معا.
وسواء كان الحيوان الذي بدأ استئناسه هو الحمار أو البغل فإن الذي يهمنا هو أن إنتاج الغذاء بواسطة زراعة المحاصيل الغذائية قد أدى إلى السكن الدائم للمجموعات الزراعية في قرى ثابتة. وأصبح من الضروري نقل المحصول المنتج في الحقول لتخزينه في القرية؛ ومن ثم كان استئناس الحيوان جزءا متمما لعملية الإنتاج الزراعي، وليس منفصلا عنه، حتى وإن كان الذين استأنسوا الحيوان أولا جماعات غير زراعية الأصل.
وقد أدى انفصال مكان السكن عن الحقل، واستقرار السكن، وتأمين الغذاء ووفرته النسبية، إلى نمو عددي للجماعات المستقرة لأول مرة في التاريخ. ومع كبر حجم السكان وانقسامهم إلى تخصص إنتاجي بين المزارع والتاجر والحاكم ... إلخ. تعددت حاجات السكان إلى أشياء أخرى غير الغذاء؛ ومن ثم نشأت البعثات التجارية إلى أماكن مختلفة لجلب المنتجات المطلوبة من أقاليم قريبة أو بعيدة. «وقد كان هذا هو حال مصر دائما خلال العهود الفرعونية؛ حيث نظمت التجارة بواسطة إرسال بعثات وحملات تجارية إلى ساحل الليفانت وجزر إيجة والبحر الأحمر والمحيط الهندي والنطاق المداري الأفريقي.» وبعبارة قصيرة ظهرت التجارة، ومعها نمت بسرعة طرق الاتصال البري والمائي، واتخذت المجتمعات المختلفة (دولا أو مدنا) كافة الوسائل لتأمين طرق المواصلات التي تهمها.
وسواء استخدم الحيوان في البداية للحمل أو الجر، فإن القفزة الأساسية في النقل البري حدثت عندما تم اختراع العجلة «الدولاب» في منطقة ما من الشرق الأوسط قبيل 3000ق.م؛
1
فقد أدت العجلة إلى زيادة هائلة في حجم ما تحمله عربة يجرها الحيوان بالقياس إلى أي وسيلة سابقة للنقل البري. «أقدم الأدلة تشير إلى استخدام الحيوان للحمل وليس الجر في الشرق الأوسط في عصر النحاس، وإن كانت هناك أدلة من العصر الحجري الأوسط في فنلندا تشير إلى أن أصحاب هذه الحضارة قد اخترعوا أقدم عربة: الزحافة الجليدية في هذا العصر المبكر. وهناك احتمال وجود الزحافة فوق سهول الشرق الأوسط قبل 4000ق.م.»
وقد انتشرت العربة ذات العجلتين أو ذات العجلات الأربع في الشرق الأوسط. ولم تأت الألف الأولى قبل الميلاد إلا وقد انتشرت من الصين إلى أوروبا الغربية. وبالرغم من هذا الانتشار الجغرافي لعربة العجلات، إلا أن استخدامها كان محدودا لتآكل وانفلاق كتلة الخشب الواحدة التي تكون العجلة، ولم يقدر للعجلة ذيوع الاستخدام إلا بعد أن أضيف إليها الإطار الحديدي الذي أعطاها عمرا أطول، ومكن من تطويرها إلى العجلة المعروفة حاليا (المتكونة من قرص دائري مركزي تخرج منه قضبان خشبية في صورة أنصاف أقطار الدائرة لتلتحم في أطرافها البعيدة مع الإطار الخشبي الخارجي، الذي يزيد من صلابته وإحكامه إطار حديدي خارجي). ويبدو أن استخدام إطار الحديد في العجلات قد حدث حوالي 2000ق.م أو بعد ذلك بقليل بعد ذيوع وانتشار تكنولوجية صهر وطرق الحديد في منطقة الأناضول والشرق الأوسط.
وبرغم انتشار العربة ذات العجلات إلا أن ذلك لم يقض على استخدام الحيوان في حمل البضائع، وخاصة في المناطق الوعرة التي لا تزال تستخدم فيها حيوانات الحمل حتى الآن، أو المناطق التي لا توجد فيها طرق صالحة لسير العربات.
ومبدأ العجلة - برغم أنه يؤخذ على أنه أمر بديهي في الوقت الحاضر - إلا أنه على أكبر جانب من الأهمية في النقل وغير النقل. والواقع أن ابتكار العجلة عبارة عن انتصار هائل للحضارة الإنسانية، مثله في ذلك مثل انتصارات أخرى؛ كاكتشاف الزراعة والنار والطاقات المحركة غير البيولوجية. والمبدأ في الأساس عبارة عن تحويل قوة أو حركة خط عمودي إلى حركة دائرية، وبتطبيق هذا المبدأ على النقل فإنه يؤدي إلى الإقلال إلى الحد الأدنى من الاحتكاك بالأرض؛ وبالتالي يمكن لوحدة الطاقة المحركة أن تحرك أثقالا كبيرة.
وعلى بساطة هذا المبدأ إلا أن اكتشافه كان أمرا عسيرا دون شك، وإلى الآن تمتلئ أشكالنا الحضارية المادية بهذا المبدأ من آلة البخار إلى القطار الحالي، إلى السيارة وإلى الطائرة. وبعبارة قصيرة فإن كل وسائل النقل البري الحالية تستخدم مبدأ العجلة.
وأخيرا فإن أحدث وسائل النقل العادية هو النقل الجوي. وهو في الواقع أكثر وسائل النقل مثالية من حيث إن الطيران يخترق أقصر الخطوط عادة بين نقطتين، دون العوائق التي تواجه النقل البري (جسور - أنفاق - مدن - مستنقعات ... إلخ) أو النقل البحري (مناطق العواصف أو التيارات أو الجزر أو السواحل التي تدور حولها السفن)، لكنه من حيث الحمولة أقل بكثير من القطارات والسفن؛ مما يرفع تكلفة النقل الجوي كثيرا، سواء بالنسبة للأفراد أو البضائع.
ويمكننا أن نلخص تاريخ التطور في وسائل النقل في واحد من أهم نتائج النقل؛ سرعة النقل والتنقل. وليس المقصود من السرعة مجرد السرعة في حد ذاتها ولكنها توضح بجلاء إمكانية انتقال الأفراد والسلع من مكان الإنتاج إلى مكان الاستهلاك في عالم شديد التشابك في علاقاته التجارية.
ففي المتوسط يقطع الإنسان على قدميه ما بين 20 و25 كيلومترا في 24 ساعة، باعتبار متوسط السرعة 4-5 كيلومترات في الساعة - إذا لم نأخذ في اعتبارنا طبيعة الأرض التي يخترقها (سهلية أو مضرسة شديدة الانحدار - رملية أو حصوية أو ترابية أو طينية - مكشوفة أو مليئة بالأدغال والأشواك والأشجار - مستقيمة أو تتعدد فيها العوائق المائية)، وباعتبار أن هناك طاقة محدودة للسير خلال اليوم الواحد قد لا تزيد في مجموعها عن خمس ساعات.
شكل 1-1: تطور العجلة (الدولاب): نماذج من الصين. (1) عجلة خشبية لا تدور حول محور. (2) عجلة ثقيلة من ألواح خشبية تدور حول محور خشبي أو معدني. (3) العجلة العادية (خشبية بإضافة إطار حديدي). الصورة الأولى نقلا عن:
R. Beals & H. Hoijer, “An Introduction to Anthropology” Collier, New York 1967 . الصورة الثانية والثالثة معدلتان عن:
Rudolf P. Hommel “China at Woak”, M.I.T., London. New ed. 1969 .
وفي المتوسط تقطع العربات التي تجرها الحيوانات بين 40-80 كيلومترا في 24 ساعة باعتبار متوسط السرعة 10-18 كيلومترا في الساعة وباعتبار طبيعة الطريق وانحداراته وضرورة تغيير حيوان الجر.
وفي المتوسط، ولأسباب خاصة، كان يمكن للرسل الذين يحملون أوامر أو رسائل بين القيادة العسكرية والحكم السياسي في الدولة الرومانية أن يقطعوا حوالي 300 كيلومتر في 24 ساعة على الطرق الرومانية، مع اعتبار ضرورة تغيير الجواد عدة مرات. وكذلك كان يمكن لعربة خيل أن تقطع بين 120 و180 كيلومترا لأسباب مماثلة، وهي كلها أسباب وظروف غير عادية.
أما اليوم فإن سفينة سريعة يمكن أن تقطع ألف كيلومتر خلال 24 ساعة، بينما يقطع قطار الحديد السريع 1500 كيلومتر في تلك الفترة الزمنية، وتلف الطائرة حول الكرة الأرضية أيضا خلال هذه الفترة (متوسط سرعة طائرة الركاب الحالية بين 800 وألف كيلومتر في الساعة)، وفي كل وسائل النقل الحديثة لا توجد اعتبارات إنهاك الطاقة التي تميز الحركة البيولوجية عند الإنسان والحيوان؛ ومن ثم فإنه يتأتى لمثل هذه الوسائل أن تظل سائرة دون الحاجة إلى الراحة اللازمة للكائنات الحية. (4) نقل الأخبار
لم نتكلم حتى الآن عن نقل الأخبار بكافة صورها؛ وذلك لأنها تختلف كثيرا عن نقل البضائع والأشخاص بحكم طبيعتها التي تستلزم وسائل أخرى غير وسائل النقل العادية، وخاصة قبل أن تكتشف الشعوب حروف الكتابة.
ولهذا يمكننا أن نقسم الأخبار المنقولة إلى قسمين أساسيين:
أولا:
نقل الخبر شفويا.
ثانيا:
نقل الخبر مكتوبا.
والخبر الشفاهي بلا شك أسبق بكثير في تاريخه من الخبر المكتوب، ولا يزال إلى الآن من أهم وسائل نقل الخبر بعد أن تطورت تكنولوجيته بصورة مذهلة، لكن نقل الخبر شفاهة قد انتابه دورة حياة بدأت به ثم قلت أهميته. وأخيرا عاد إلى مقدمة وسائل نقل الخبر في عالمنا المعاصر. أما نقل الخبر المكتوب فقد بدأ في فترة تاريخية أحدث بكثير جدا من النقل الشفاهي. ومنذ نشأته، وبرغم تقدم تكنولوجية النقل في هذا المجال، إلا أنه ارتبط أوثق الارتباط بالاستحداثات المختلفة التي طرأت على وسائل النقل العامة التي سبق شرحها. (4-1) الخبر المكتوب
وسوف نبدأ بهذا النوع من الأخبار برغم عدم سبقه تاريخيا على الخبر الشفوي. فمنذ عرف الناس الكتابة في سهول العراق ومصر، أصبح من الشائع أن ينقل الحكام والساسة والقادة أوامرهم كتابة إلى الولاة والعمال والقوات خارج العاصمة بواسطة رسول، سواء كان هذا الرسول شخصا يسير على قدميه أم يمتطي صهوة حيوان (غالبا من الحيوانات السريعة: الحصان والجمل على وجه التحديد)، أو أن تنقل الرسالة بواسطة الحمام الزاجل، وكان يمثل وسيلة سريعة جدا بالنسبة لذلك الوقت، وما زال الحمام الزاجل حتى الآن الرمز الذي نجده في مكاتب البريد في أنحاء العالم كناية عن سرعته وأهميته التاريخية في نقل الأخبار المكتوبة.
وفي الدول ذات المساحات الواسعة قديما - كمصر أو العراق وروما أو غيرها - كانت الدولة تهتم أيما اهتمام بتنظيم وسائل نقل الرسائل المكتوبة؛ فقد كانت هناك أبراج ومحطات لاستقبال الحمام الزاجل، ومحطات لتغيير جواد أو حيوان الرسول الذي يحمل هذه الرسائل، لضمان سرعة وصول الأخبار وانتظامها. وقد كانت الطرق بين هذه المحطات تعرف باسم طرق الرسل أو الرسائل
Kurierstrassen (من الأصل اللاتيني
currere
بمعنى يجري).
ومع استخدام الطرق بكثرة لنقل الأشخاص والبضائع بواسطة العربات التي تجرها الحيوانات، أصبح في الإمكان أن يضاف إلى وظيفة هذه العربة وظيفة نقل الرسائل الخاصة بالأفراد من بلد أو مدينة إلى أخرى. وخير مثال على ذلك تنظيم استخدام عربة نقل الأشخاص في أوروبا وفي العالم الجديد لنقل الرسائل من مكان لآخر خلال القرنين الماضين، وقد ترتب على شيوع نقل الرسائل بهذه الوسيلة أن أصبح يطلق على هذه العربات في أحيان كثيرة اسم «عربة البريد»، وفي المناطق النائية أو الجبلية في البلاد المتقدمة - كسويسرا والنمسا وفرنسا وألمانيا - أصبحت هيئة أو مصلحة البريد هي الوريث الطبيعي لعربات الخيل القديمة؛ ولذلك نجد هذه الهيئات تدير أسطولا من سيارات النقل العامة (الأتوبيس) تسير في خطوط منتظمة إلى المدن الصغيرة والضيع التي لا تمر بها وسائل النقل الحديدي. وما زال يطلق على هذه «الأتوبيسات» اسم البوستة
؛ مما يدل على أصلها التاريخي. وتقوم هذه الأتوبيسات بتأمين نقل الرسائل إلى جانب نقل الأشخاص إلى هذه الأماكن البعيدة، وفي لبنان أيضا نجد هذا الشكل من وسائل النقل المشترك للبريد والأشخاص نظرا لنقص المواصلات الحديدية.
ومع تطور وسائل النقل العامة من عربة الخيل إلى القطار أصبح القطار هو الوسيلة الرئيسية لنقل البريد داخل البلاد، ومع ميكنة وسائل النقل البري أصبحت هناك سيارات خاصة أو عجلات بخارية خاصة بمصلحة البريد لنقل الخطابات داخل المدن . وفي الدول ذات المساحات الكبيرة أصبح نقل الخطابات يتم بالجو نظير أجور أعلى قليلا، كذلك شاركت السفن في نقل الرسائل منذ القديم، لكن عصر الطيران الذي نعيشه قد قضى على نقل الخطابات على المسطحات المائية إلا في حالات محدودة مثل مناطق الجزر الصغيرة المبعثرة في أرخبيل، كأرخبيل الجزر اليونانية أو الأرخبيلات المتعددة في المحيط الباسيفيكي. لكننا نلاحظ وجود مراكز جوية رئيسية في مثل هذه الأرخبيلات تجمع فيها - أو تتوزع منها - الرسائل بحرا إلى الجزر الأخرى. كذلك ما زال النقل المائي مهما في نقل الرسائل في المناطق التي لا توجد فيها من وسائل النقل سوى المجاري النهرية كالنيل في النوبة أو السودان الجنوبي أو نهر الكنغو فيما بين كنشاسا وكيزانجابي في جمهورية زائيري، أو الأمازون في البرازيل، وفي هذه الحالة أيضا يطلق على البواخر النهرية اسم «البوستة».
ولم تعد الرسائل البريدية قاصرة على الخطابات، بل أخذ الناس منذ فترة في استخدام البريد لنقل الطرود التي تحتوي على سلعة ما في صورة هدية أو سلعة محدودة لغرض الاستخدام الشخصي للفرد المرسل إليه، سواء من أحد معارفه أو من محل تجاري. ونظرا لثقل الطرد بالنسبة للخطاب، فإن الطرود غالبا ما تنقل حتى اليوم نقلا سطحيا - أي بالقطار والبحر - وهناك أيضا طرود جوية، لكنها أكثر تكلفة في النقل إلا إذا كانت المسافة طويلة، أو أن المحتوى من المواد الهالكة. كما أن المسافات الطويلة تكاد تتساوى فيها تكلفة النقل الجوي والسطحي.
ونظرا لتشابك العالم وكثرة الترحال والسفر والتعارف، نتيجة لسهولة الانتقال في عصرنا الراهن، فإن كمية الرسائل والطرود التي تنقلها وسائل النقل العامة قد تضخمت بسرعة هائلة للدرجة التي أنشئت من أجلها وزارات أو هيئات شبه حكومية للبريد. وما زالت في بعض الدول الرأسمالية - وعلى رأسها الولايات المتحدة - عدة شركات كبرى للبريد. وفي المجموع - سواء كانت الهيئة البريدية حكومية أو شبه حكومية أو أهلية، فإن هناك عمالة كبيرة ومتزايدة في قطاع البريد لم يكن يحلم بها «الرسل» القدامى على صهوات جيادهم، وكميات هائلة متزايدة من الخطابات والطرود تبلغ آلاف المرات ما كانت تحمله «طرق الرسل» القديمة من رسائل وهدايا.
وبالرغم من كل ما حدث من تطوير في وسائل النقل، فإن عالمنا المعاصر ما زال يحتفظ ببقية واحدة من بقايا «الرسل» القدامى؛ تلك هي الرسائل الدبلوماسية التي لا تزال ترسل وتجمع بواسطة مبعوث خاص معتمد من وزارة الخارجية لدولة معينة؛ ليمر على عدد من مكاتب التمثيل السياسي والتجاري التابعين لدولته في عدة دول. ولا يزال مثل هذا الشخص يسمى بالاسم القديم
Courier
مع إضافة صفة الدبلوماسية إليه. كما أن السفير أو المبعوث السياسي أو التجاري أو الثقافي في البعثات الدبلوماسية الدولية ما هو في جوهره إلا «رسول» مقيم بالخارج، يقوم بتبليغ «رسائل» دولته إلى سلطات الدولة التي يقيم فيها؛ فالتمثيل الدبلوماسي - بصفة عامة - لم يخرج عن فكرة مبعوث دولة إلى دولة أخرى، كما كان ذلك منذ مئات السنين بين القبائل والدول القديمة.
ومع خطورة المواقف العالمية الراهنة أصبح هناك «رسول» أو «مبعوث» خاص من قبل حكومة ما، أو رئيس دولة ما، ينتدب للقيام بتبليغ رسالة على مستوى عال إلى رئيس دولة أخرى، وبذلك نعود مرة أخرى إلى مبدأ إرسال الخبر بواسطة الرسول المؤقت الذي يجري بين عاصمة بلاده وعاصمة أو عواصم أخرى. (4-2) الخبر الشفوي
قلنا إن نقل الأخبار بدأ منذ بداية البشرية شفاهة، والكلمة هنا لا تدل تماما على ما نقصده، فإنه يجب أن يفهم منها أنها تعني كل وسائل نقل الخبر بغير واسطة الكتابة؛ وبهذا فهي تتضمن نقل الخبر بالكلمات المنطوقة أو الرموز.
وأول وأسرع وسائل نقل الأخبار هي بدون شك - داخل الدائرة المحلية - التفاهم بالكلام المنطوق؛ أي الحديث. وهذه الوسيلة هي أحسن وسائل نقل الخبر؛ لأنها تتضمن مواجهة شخصية بين حامل الخبر ومتسلمه. وبما أن أحد أهم صفات الإنسان هي الكلام، فإن نقل الخبر من شخص إلى آخر يؤدي إلى سرعة إذاعته على بقية الناس، إلا إذا كان مقصودا أن يظل الخبر في طي الكتمان.
و«رسل» الملوك والزعماء القدامى والمبعوثون الخاصون للرؤساء الحاليين هم في الأساس ناقلو الخبر الشفوي. وكذلك كان إعلان الأخبار في الماضي في المدن والريف يتم بواسطة مندوب السلطة الذي يذيع البلاغ في الأسواق، حيث يتجمع الناس، مع ختام الخبر بالقول: والحاضر يبلغ الغائب. كما أن وظيفة رواة الأخبار في صورة القصائد والأشعار المحلية - مصحوبا بآلة موسيقية غالبا - كانت وظيفة هامة في المجتمعات القديمة والمجتمعات المنعزلة.
وفيما يختص بنقل الخبر من مكان بعيد إلى آخر - دون الالتجاء إلى الترحال والمواجهة الشخصية - ابتكرت كثير من القبائل البدائية في أفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية (قبل دخول الأوروبيين) وسائل هوائية لنقل الأخبار، تعرف في أفريقيا باسم تام تام
Tam Tam ، وهي عبارة عن دق الطبول بضربات معينة تتسمع إليها التجمعات المتباعدة، فتنقلها بدورها بدق الطبول أيضا، وبذلك ينتشر الخبر بسرعة مذهلة وسط الأحراش أو الغابات أو السهول أو الجبال. وفي حالات أخرى كان يمكن نقل الخبر ضوئيا - بدون الحاجة إلى إذاعته، وخاصة في حالات الحرب بين القبائل - حتى لا يعرف الأعداء بتحركات قواتهم، وفي هذا كانت تستخدم عواكس للضوء لنقل الإشارات المتفق عليها، أو استخدام الدخان بصورة متقطعة؛ في شكل رموز متفق عليها، لإعطاء الأخبار المرغوبة.
وفي العصر الحديث تطورت هذه الوسائل الشفاهية لنقل الأخبار تطورا هائلا بحيث تقطع المسافات الشاسعة في لحظة النطق بها، فإن جهاز الهاتف (التليفون) والهاتف المرئي قد حل محل نقل الخبر الشفوي كوسيلة من وسائل المواجهة الشخصية، وأصبح بالإمكان التحدث الشفوي بين شخصين تفصلهما آلاف الكيلومترات دون الحاجة إلى الانتقال الشخصي.
وكذلك نجد استخدام الموجات اللاسلكية (الراديو) قد أدى إلى إمكان نقل الخبر فور النطق به إلى أي مكان في العالم، بل إن التطورات الحديثة قد تمكنت من نقل الصوت البشري عبر الفضاء بواسطة الأقمار الصناعية، والحقيقة أن الراديو قد حل محل ناقل الأخبار المغني الجوال (من أمثال التروبادور في أوروبا في العصور الوسطى، أو الشعراء والقوالين والمداحين من الغجر وغيرهم في الشرق الأوسط)، ويضاف إلى قائمة مبتكرات نقل الخبر الشفوي التليفزيون، واستخدام الأقمار الصناعية في إمكانية توزيع الخبر المصور على أجهزة تليفزيونية في مساحة واسعة في وقت واحد للتغلب على قصر مدى الإرسال العادي في هذه الأجهزة. (4-3) وسائل مختلطة لنقل الخبر
وإلى جانب الوسائل السابقة الذكر، هناك أيضا وسائل أخرى لنقل الخبر يشترك فيها الخبر الشفوي والمكتوب، ومن أوائل هذا النوع المختلط أن ينقل «رسول» الخبر شفاهة مدعما برسالة مكتوبة، وفي العصر الحديث نجد أن البرقيات يشترك فيها النوعان معا، فمحتوى البرقية يكتب عند إرساله أو توزيعه، وينقل بطريق سلكي (مورس أو هاتف أو تلكس) أو لاسلكي (راديو)؛ أي يرسل بواسطة الرموز أو شفاهة أو الكتابة على البعد.
وكذلك الصحف والمجلات تنقل أخبارها شفاهة (المراسلون في صورة مقابلات شخصية أو التبليغ بمقابلاتهم تليفونيا أو برقيا، أو تلقي الأخبار من شركات الأخبار بواسطة البرقيات المرسلة بجهاز «التيكر» أو التليبرنتر)، ثم تصاغ هذه المحتويات الخبرية كتابة وتطبع وتوزع في صورة رسائل مكتوبة.
ولسنا نعرف ماذا يمكن أن يتم من تطورات في مجال نقل الأخبار، لكن الذي يهمنا هو أن العالم كله منذ القدم حتى اليوم تتزايد فيه أهمية الخبر بصورة كبيرة؛ مما يؤدي إلى اهتمامات متزايدة بهذه الوسيلة من وسائل النقل، خاصة مع الترابط والتشابك العالمي الراهن في مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية.
الفصل الثاني
عناصر النقل
يتكون النقل من العناصر الأربعة التالية: (1)
الطريق. (2)
وحدة الحمولة. (3)
القوة المحركة. (4)
نهايات الطرق
Termini . (1) الطريق (1-1) الطريق الطبيعي
ينقسم الطريق إلى قسمين رئيسيين: الطريق الطبيعي والطريق الصناعي، والطريق الطبيعي هو أرخص الطرق؛ لأنه مهيأ بواسطة القوى الطبيعية بدون أية استثمارات من أجل إنشائه. كما أنه لا يحتاج إلى نفقات لصيانته والإبقاء عليه، إلا في أضيق الحدود، وبهذه المواصفات فإن الطريق الطبيعي هو أحد هذه الطرق الثلاثة: الجو - البحر - النهر.
وفي مجال المقارنة بين هذه الطرق الثلاثة نجد أن الطريقين الجوي والبحري كانا أفضل من الطريق النهري في استخدامهما من أجل النقل، وذلك من حيث سهولة المرور فيهما دون احتياج إلى أية تعديلات على الإطلاق. أما الطريق النهري فبالرغم من أنه طريق طبيعي في أساسه، إلا أننا نجده في أحيان كثيرة يحتاج إلى نفقات عالية لتعديله، من حيث إجراء توسيعات في العرض أو تعميق المجرى أو تجنب انحناءات كثيرة بشق مجار مستقيمة، كما أنه يحتاج أيضا إلى حفر قنوات مختلفة لربط الطريق النهري بطريق نهري آخر، أو مد هذه المواصلة المائية إلى منطقة تحتاج إليها ولا توجد بها وسيلة نقل مائي طبيعية، ويؤدي ذلك إلى جعل الطريق النهري الطبيعي متعدد الاتجاهات في صورة شبكة مواصلات نهرية رخيصة، بدلا من تحدد النقل في الاتجاه الطبيعي لمسار النهر. وعلى أية حال فإن هناك أنهارا كثيرة تستغل للنقل على طبيعتها دون مثل هذه التعديلات المكلفة.
ولكن الطرق الطبيعية عامة برغم حرية استخدامها بأدنى الإنفاقات إلا أنها خاضعة تماما لسلطان الظروف الطبيعية.
فالطريق الجوي - برغم انفتاحه الحر - خاضع تماما للتقلبات الجوية العنيفة، ومن ثم فإن الطيران السليم يحتاج إلى مساعدة هامة تتمثل في محطات الأرصاد المختلفة التي تعطي الطائرة تنبؤات الجو الفورية، وتدعوها إلى تعديل مسارها إلى أعلى أو أسفل، أو تدعوها إلى عدم المخاطرة والاتجاه إلى ميناء جوي آخر. كما أن نظم الضغط الجوي عامة كانت تحدد مسارات معينة للطيران، ولو أن الطائرات الحديثة التي تطير على ارتفاعات عالية قد استطاعت تجنب الكثير من نقاط الضعف القديمة.
والطريق البحري المفتوح بحرية تامة يتعرض هو الآخر - بفعل عناصر الجو - إلى الاضطراب بدرجات متفاوتة، حسب قوة الأعاصير والرياح؛ ومن ثم فإن السفن - برغم الاستحداثات المعاصرة - تتعرض لتغيير خطوطها من آن لآخر تجنبا لخسائر لا داعي لها، وقد كانت الملاحة في البحار الشمالية معرضة لأخطار الجليد العائم
Iceberg ، لكن هذه المخاطرة قد قلت كثيرا نتيجة لاستخدام الرادار وغيره من الأجهزة التي تعين مواقع هذه الأخطار العائمة.
والطريق النهري، برغم الأمان الذي يحيط به من حيث اقتراب الضفاف النهرية، وإمكان النجاة بسرعة، إلا أنه يتعرض هو الآخر لسلطان الطبيعة، كالفيضانات العالية أو التذبذب الموسمي لمستوى ماء النهر، أو الإطماء نتيجة لكميات الطمي التي تجلبها الفيضانات المدمرة؛ مما يحتاج إلى تعديلات مستمرة في الأرصفة النهرية. (1-2) الطريق الصناعي
أما الطريق الصناعي فيشمل كل الطرق التي يصنعها الإنسان على سطح الأرض، سواء كانت طرقا برية أو حديدية أو قنوات أو الأنفاق والجسور أو الطرق المعلقة، ويضاف إلى ذلك كل وسائل النقل الخاصة الأخرى؛ مثل شبكات التيار الكهربائي، وكابلات المواصلات السلكية وأنابيب المياه والغاز والبترول.
ولا شك أن هذه الطرق الصناعية تحتاج إلى استثمارات كبيرة عند إنشائها، وإن كان عائدها الاقتصادي يغطي هذه التكاليف مرات عديدة. كما أن مثل هذه الطرق تحتاج إلى صيانة دائمة، وتعديلات مستمرة، خاصة فيما يتصل بحجم استيعابها لكثافة النقل الذي يتزايد في الوقت الحاضر بدرجة كبيرة بفضل التشابك العالمي التجاري الراهن.
وبرغم التأكيد على أن هذه الطائفة من الطرق اصطناعية، إلا أن لا يجب أن ننسى أن بعض هذه الطرق - وخاصة الطرق القديمة مثل الطرق الرومانية أو طرق الممالك القديمة، والطرق الجبلية عامة - تخضع في اتجاهها وانحناءاتها لما نعرفه باسم «مدقات الحيوان»؛ أي الطريق الذي سلكه الحيوان باستمرار؛ مما أدى إلى تكوين خط مستمر عار من النبات أو ممهد تمهيدا معقولا بفعل أقدام الحيوان التي طرقته ملايين الملايين من المرات. مثل هذه «الطرق» كانت الرائد الأصلي في توغل الإنسان خارج مناطق معرفته إلى المناطق المجهولة، وهي في الوقت نفسه طرق آمنة لأنها لا شك تؤدي إلى مصادر مياه الشرب التي يعيش عليها الحيوان والإنسان.
وفي المناطق الجبلية تقود «مدقات» الحيوانات الجبلية - أنواع من الماعز والتياتل والغزال - إلى الممرات التي تخترق السلاسل الجبلية، وبذلك وفرت هذه المدقات على الإنسان التعرف على طبوغرافية الجبال أثناء ترحاله عبرها. ونظرا لأن هذه المدقات طرق يومية للحيوان - أي ليست طرق الجري والهرب من الحيوان المفترس - فإنها يمكن أن توصف بأنها تتبع الانحدارات اليسيرة في الجبال وتتجنب الانحدارات الشديدة؛ ومن ثم فهي تتلوى كثيرا لكي تصل إلى الممرات العليا بأقل الجهد، وهذا هو ما فعله الإنسان، وما يفعله إلى الآن برغم تقدم معارفه التكنية الحالية؛ فهو يلتزم قدر المستطاع بالطرق الذلولة ويتجنب الطرق الشاقة، إلا لأغراض أخرى دفاعية أو من أجل التهريب.
وفي إثر مدقات الحيوان في السهل والجبل جاءت قوافل الناس: مشيا على الأقدام أو ركوبا في عربات الحيوان، وفي أعقابهما جاءت الطرق الحديدية والبرية الحديثة.
لكن ما تسلح به الإنسان المعاصر من مبتكرات وفنون قد جعلته في الفترة الأخيرة - منذ حوالي الثلث الثاني من هذا القرن - يبتعد بعض الشيء عن هذه الطرق شبه الطبيعية، ويحاول تقصير المسافات بتجنب الدوران الطويل في المناطق الجبلية، وذلك بشق الطرق المعروفة حاليا باسم «سربنتينا»؛ أي التلوي السريع كما يتلوى الثعبان، ولم يكن في استطاعته ذلك لولا التقدم الذي تحقق في قوة محركات السيارات والقاطرات.
كذلك تجنب الإنسان الكثير من الطرق ذات الأقواس الطويلة بواسطة إنشاء الجسور الطويلة التي تعبر الوديان الجبلية العريضة أو الوديان النهرية في السهول. وقد كان الرومان أول من أنشئوا منذ فترة طويلة نظام هذه الجسور الطويلة العالية
Aqueduct . وخلاصة القول أن الطرق البرية الصناعية والطرق الحديدية وغيرها من وسائل النقل البري قد بدأت تتخلص - بدرجات متفاوتة - من الالتزام بالطرق شبه الطبيعية، أو التوجيه الطبيعي البحت للطرق بواسطة حفر الأنفاق وإقامة الجسور وتعديل الانحدارات (في حدود) بالردم أو الحفر. كما أنه تخطى الانحدارات الشديدة بالنقل المعلق.
وفيما يختص بحفر القنوات الملاحية نجد أن الإنسان قد التزم إلى حد كبير بالظروف الطبيعية وببعض المجاري القديمة المهجورة، أو المجاري النهرية الصغيرة، ولكنه في بعض الحالات يضطر إلى تشييد الأهوسة لرفع مناسيب المياه - مؤقتا - إلى خطوط ارتفاع أعلى لتمرير الملاحة.
وهذه الطرق الصناعية، برغم أن الإنسان اصطنعها إلا أنها بحكم وجودها في المحيط الطبيعي للكرة الأرضية - مثبتة على الأرض، ومعرضة للمناخ - تتأثر هي الأخرى بسلطان الظروف الطبيعية.
فإن الهزات الأرضية والتشققات التي تحدث من آن لآخر - في أماكن محدودة الامتداد - تؤدي إلى أضرار كبيرة تصيب الطرق البرية والحديدية والمعلقة، وكافة وسائل النقل الخاصة الأخرى من أسلاك وأنابيب. ومثل هذه المخاطر تتحدد بأماكن العالم الداخلة ضمن نطاق الزلازل والبراكين حول المحيط الباسيفيكي، وفيما بين الألب، عبر الأناضول والقوقاز وإيران والهملايا والتبت إلى إندونيسيا.
وتتعرض الطرق للعوامل المناخية بحيث تؤثر على مسارات النقل المنتظم بصورة واضحة في كثير من مناطق العالم؛ فالعواصف الثلجية التي تهب في المناطق الشمالية والعواصف الراعدة والانهيارات الجليدية في جبال العروض الوسطى والعواصف الرملية في الأقاليم الجافة، والأمطار الموسمية في العروض الدنيا، كلها مسببات لتعثر النقل في بعض الفترات، ويضاف إلى ذلك الفيضانات المفاجئة المدمرة، أو السيول الفجائية في المناطق الجافة، التي تخرب شبكة النقل وتمسح الطرق وتزيل الجسور وقضبان الخطوط الحديدية.
وقد أدى هذا إلى تقسيم الطرق - وخاصة البرية - إلى قسمين: (1)
طرق موسمية تعمل عليها وسائل النقل في موسم الصحو المناخي، وتتوقف عنها حركة النقل خلال الموسم المعادي. (2)
طرق كل الأجواء
All-Weather Roads
التي تبنى بغرض استخدامها خلال كل المواسم الرديئة والجيدة على السواء. وتختلف طرق كل الأجواء من إقليم جغرافي إلى آخر وتحدد مواصفاتها حسب نوع وكم العداء المناخي الذي يواجه النقل.
ففي المناطق المدارية - حيث العنصر المناخي المعادي هو المطر الموسمي - تتجه مواصفات الطريق إلى الطرق المرصوفة جيدا (دكة مكدامية وطبقة أسفلتية سميكة)؛ لتجنب تحويل الطريق إلى الطين السميك الذي يعوق الحركة خلال موسم سقوط المطر.
وفي المناطق الجافة يتجنب مهندسو الطرق أن يزول طرق كل الأجواء بواسطة السيول الفجائية، فيلجئون إلى حفر أنفاق فارغة من الأسمنت تحت الطريق لكي يمكن لمياه السيول أن تمر خلالها، وبهذا يمكن اصطياد المياه المتدفقة تحت الطريق دون أن يمس بضرر، ولكن طرق كل الأجواء في النطاق الجاف تتعرض حتى الآن لعنصر طبيعي معاد لم يمكن التغلب عليه حتى الآن؛ ذلك هو الكثبان المتحركة. وتتحرك هذه الكثبان ببطء ولكنها تجثم على الطريق فتقطعه، وكل ما يحدث الآن هو إنشاء طريق آخر في منطقة الكثيب الجاثم سيكون مآله الردم هو الآخر بعد بضع سنوات. ويمكن تثبيت الكثبان المتحركة في المناطق الممطرة، ولكن مشكلة المناطق الجافة هي ندرة المياه، كذلك يمكن توقيف حركتها بواسطة تثبيت سطح الكثيب بالأسفلت، وهي عملية مكلفة ونتائجها غير معروفة، ويمكن إيقاف الكثيب نسبيا بواسطة مصدات من الشجر وأسوار البوص والغاب.
وخلاصة القول أن الكثبان ما زالت قوى فوق مستوى القهر الإنساني من الناحية العلمية.
وفي المناطق الباردة تفتح طرق كل الأجواء على مدار السنة بواسطة إقامة معسكرات صيانة مستمرة لإخلاء الطريق من الثلوج والجليد المتراكم، وهي عملية مكلفة لكنها في حدود الإمكانية العملية طالما أن للطريق أهمية اقتصادية. أما الطرق ذات الأهمية المحدودة فتترك تحت غطائها الجليدي إلى أن يذوب الجليد في الربيع. (2) وحدة الحمولة
إن تطور وسائل النقل على النحو الذي ذكرناه من قبل، قد أدى إلى إحداث تعديلات كثيرة، ليس فقط في الوسيلة والطاقة المحركة والسرعة، ولكن أيضا في كمية البضائع المنقولة، ونوعية وحدة الحمولة ودرجة عموميتها أو تخصصها في نقل سلع بعينها.
وأول وحدات الحمولة تاريخيا هو الإنسان، تلاه الحيوان، ثم العربة على اختلاف أشكال قوة الجر أو الدفع المختلفة حتى يومنا هذا. (2-1) الإنسان كوحدة حمولة
يكون الإنسان أول وحدات الحمولة المعروفة. وما زال كذلك في ظروف طبيعية خاصة برغم التطور الهائل الذي حدث في النقل؛ ففي المناطق الجبلية الوعرة وفي الغابات الاستوائية الكثيفة، ما زالت الحمولة تنقل أساسا على رأس الإنسان، أو هو يجرها خلفه أو يدفعها أمامه. وقد اخترع الإنسان أشياء كثيرة تساعده على زيادة ما يحمله أو ينقله، وأهمها الأربطة والحبال والأحزمة التي يثبتها عند جبهته أو على كتفه لإحكام التحكم ولزيادة حجم أو وزن المنقول، كما اخترع أيضا أوعية من مواد مختلفة يشترط أن تكون خفيفة مثل سلال البوص والغاب، وسلال من جدائل نباتية في صورة الشبكة، وأوعية مختلفة فخارية أو من أنواع مختلفة من النسيج أو خشبية أو جلدية أو من الورق المقوى (كرتون). وكذلك استخدام ألواح من الخشب تثبت على الكتفين تتدلى من طرفيها الحمولة كما هي أو موضوعة داخل أوعية أخرى، أو ألواح من الخشب توضع فوق الرأس لتوسيع مسطح الحمولة، أو أواني معدنية خفيفة (غالبا من الصفيح).
وكل هذه الأشياء ما زالت تستخدم حتى الآن في كثير من مناطق العالم المتقدم أو المتخلف على السواء؛ ففي المدن يحمل الناس حقائب جلدية أو شبكية أو من القماش لمختلف أغراض الحمل من السوق إلى المسكن، وفي الأحياء الفقيرة من المدن النامية على وجه الخصوص، لا يزال هناك حمالون بالأجر، وفي محطات السكك الحديدية ومواقف السيارات العامة يوجد أيضا حمالون (وإن كان بعضهم يستخدم عربات خاصة يدفعها أمامه، وفي الدول المتقدمة أصبحت هناك «موتورات» صغيرة تجر أعدادا كبيرة من العربات المحملة بالبضائع، وكذلك في المطارات والموانئ). وهناك أشكال أخرى يصبح فيها الإنسان وحدة الحمولة، لا يمكن حصرها كلها.
وأيا كان الأمر فإن الإنسان كوحدة حمل له ميزة أساسية واحدة تفضل أشكال وحدات الحمل الأخرى؛ هذه الميزة هي إمكانية الحمل والصعود في منحدرات شديدة أو على الدرج أو النزول أيضا إلى مستويات أدنى، وإن كانت أشكال المصاعد والأوناش قد حلت هذه المشكلة في معظم الأحيان، إلا أننا لا نجدها متيسرة في كل مكان؛ ومن ثم فإن الإنسان هو أكثر وحدات الحمل مرونة في الحركة الرأسية؛ ومن ثم كان ذلك مبررا لوجود أعداد كبيرة من الحمالين في نهايات خطوط المواصلات الحديثة: الموانئ والمطارات ومحطات السكك الحديدية.
وكذلك فإن الإنسان من أكثر وحدات الحمل مرونة في الحركة الأفقية؛ فهو بإمكانه أولا الانتقال إلى داخل المخازن والمباني، وهو ما يصعب على الحيوان وآلات النقل الحديثة تحقيقه، وبإمكانه ثانيا أن ينتقل في معظم أشكال الأراضي المختلفة من مناطق وعرة إلى مناطق مستنقعية، ووسط الأشجار والأحراش والمروج والسهول والرمال، دون أن يتقيد بوجود طريق مرسوم أو معبد، أو حتى مجرد «مدق» حيواني.
وإن كان الحيوان يشارك الإنسان هذه المرونة - أي الحركة دون ما طريق من أي نوع - إلا أن لكل منطقة طبيعية حيوانا مؤهلا لها ومتخصصا فيها، بينما الإنسان من أي سلالة قادر على التنقل والنقل في كل الظروف الطبيعية المختلفة؛ ففي المناطق الرملية لا يسهل إلا على الجمل الحركة والنقل، وفي المناطق الوعرة نجد الحصان أو البغل هو الحيوان المتخصص، وفي السهول يمكن لكافة الحيوانات الحركة بدرجات متفاوتة، لكن في مناطق الغابات لا يسهل على الحيوانات الحركة إطلاقا.
وفي مقابل هذه المرونة والمميزات للإنسان كوحدة حمل، فإن له مساوئ كثيرة، وأول هذه المساوئ أن طبيعة تكوين الإنسان ووقوفه على قدميه معتدل القامة، تجعل مسطح ما يمكنه أن يحمل عليه - الرأس غالبا - مسطحا صغيرا، وهو برغم ما استحدثه من مبتكرات لزيادة مسطح الرأس، أو انحنائه قليلا ليتمكن من استخدام ظهره كمسطح للعمل - وهي عملية في حد ذاتها تؤدي إلى بطء حركته وإجهاده سريعا - إلا أن كل هذه الأشياء مرتبطة بعامل واحد هام هو أن للإنسان قدرة عضلية محدودة لا تمكنه أن يزيد وزن ما يحمل مهما كان ذلك على حساب السرعة، وتتفق معظم الملاحظات على أن الإنسان - مهما كان تكوينه العضلي - لا يمكنه أن يحمل وينقل أكثر من 50 كيلوجراما كحد أقصى، ولكن المتوسط هو في حدود 20 إلى 30 كيلوجراما لكي يتمكن من قطع مسافة معقولة.
والمأخذ الثاني على استخدام الإنسان كوحدة حمل يقع في مقدار السرعة والمسافة التي يمكن أن يقطعها، وهو حامل أحماله في اليوم الواحد، وإذا كانت سرعة الإنسان العادية حوالي 4-5 كيلومترات في الساعة، إلا أنه لا يمكن للإنسان أن يسير أكثر من ثلاث إلى خمس ساعات متواصلة. ولا شك أن السرعة تنخفض إلى حوالي ثلاثة كيلومترات أو أقل في الساعة في حالة حمل البضائع. كما أن السير المتواصل أيضا يقل إلى ساعتين على الأكثر تتوجب الراحة بعدها لفترة. وفي المتوسط نقول إنه إذا كان الإنسان - دون أن يحمل شيئا - قادرا على أن يقطع 30-50 كيلومترا في اليوم الواحد، فإن الإنسان مع ما يحمله من أثقال قد لا تزيد سرعته عن 25 إلى 35 كيلومترا في اليوم الواحد.
وليس وزن البضائع وحده هو العامل الحاسم، بل إن هناك اعتبارات كثيرة أخرى تساعد على تحديد ما يمكن أن يحمله الإنسان من وزن، وما يمكن أن يقطعه من مسافة، فطبيعة الأراضي التي يخترقها الإنسان عامل حاسم في هذا المضمار؛ فالأرض المضرسة الوعرة، أو الأرض ذات الانحدارات الشديدة، أو الأرض الصخرية أو الحصوية أو الرملية أو الطينية أو المستنقعية تؤدي إلى تغايرات كبيرة في سرعة الحركة، وتساعد بشدة على تحديد وزن الحمولة، ومن ثم المسافة التي يمكن قطعها في اليوم الواحد.
والظروف المناخية أيضا لها مثل هذا الدور في تحديد مواصفات الحمل بواسطة الإنسان؛ فالمناطق ذات الحرارة المرتفعة أو ذات الشمس المبهرة، أو مناطق الحرارة والرطوبة العاليتين، أو مناطق المطر الغزير أو البرودة الشديدة، لها دورها في جعل المنطقة جافة متربة، أو مطيرة طينية، أو باردة جليدية ملساء. كما أن الارتفاعات العالية كهضبة التبت وجبال الأنديز تؤدي إلى انخفاض الضغط الجوي؛ مما يؤدي إلى صعوبة الحركة وقلة الحمولة.
هكذا تترابط عوامل عديدة، بيولوجية (القدرة العضلية للإنسان)، وبيئية (الظروف الطبيعية للأرض والظروف المناخية والنباتية)، تؤدي في مجموعها إلى تغير في وزن الحمولة، ومقدار المسافة التي يمكن أن تقطع بهذه الوسيلة من وسائل النقل.
ويضاف إلى ذلك أن قوافل الحمالين كانت دائما في حاجة إلى تنظيم قوي يخطط تحركها، ويواجه مكاره الطريق الطبيعية، واحتمالات التعرض للسلب والإغارة، وبذلك كانت هناك حاجة إلى عقد اتفاقات متعددة مع القبائل والإمارات التي تعبر القوافل أراضيها، مثلها في ذلك مثل قوافل التجارة اللاحقة التي استخدمت الحيوان.
وتحتاج قوافل الحمالين أيضا إلى تنظيم الغذاء أو الحصول عليه خلال الطريق الطويل إلى جانب أشياء أخرى كثيرة. وقد بلغ الاهتمام بقوافل الحمالين أعلى مراحله في دولة الإنكا في أمريكا الجنوبية؛ فقد نصت شرائع الإنكا بدقة ووضوح على كمية ما يحمله الحمال والمسافة التي يقطعها يوميا، حماية لهؤلاء الحمالين من الاستغلال. ولا غرو في ذلك؛ فالتجارة في إمبراطورية الإنكا المترامية الأطراف في جبال الأنديز قد قامت على أساس قوافل الحمالين فقط، فبرغم استئناس اللاما إلا أن طرق الإنكا كانت جبلية مليئة بالدرج الذي يبنى للصعود والهبوط المباشر دون الحاجة إلى الالتفاف مع انحدار التضاريس.
وبرغم الصعاب المتعددة التي تواجهها قوافل الحمالين، فإن هذه القوافل قد أرست قواعد التجارة في الماضي، عبر مساحات شاسعة من الأرض، فعلى سبيل المثال كان الشاي في الصين يعبأ في صورة قوالب تحمل في سلال على ظهور الحمالين عبر الصين كلها ، وكذلك كانت هناك قوافل طويلة للحمالين من كاليفورنيا إلى جنوب أمريكا الوسطى؛ حيث كانت دولتا المايا أو الأزتك القديمتان. وإلى وقت قريب كانت هذه القوافل أساس الأرباح العالية التي جناها الاستعمار الأوروبي في أفريقيا وأمريكا الجنوبية، ونذكر على سبيل المثال أنه كان في الكمرون - خلال الحكم الألماني القصير - 14 ألفا من الحمالين يشتغلون في نقل المطاط الطبيعي إلى ميناء دوالا.
وقد حل الحيوان والعربات محل الإنسان كوحدة نقل في المناطق السهلية أو المكشوفة، ولكن الإنسان ظل وحدة الحمل الرئيسية لفترة طويلة في المناطق الجبلية والغابية الكثيفة، وبالرغم من انقضاء وقت طويل على استئناس الحيوان فإن النقل بواسطة الإنسان لا يزال عملية شائعة في ريف العالم المتخلف ومدنه. (2-2) الحيوان كوحدة حمل
لا شك في أن استخدام الحيوان في الحمل قد تلا الإنسان كوحدة حمل بآلاف السنين، ولقد ترتب على اكتشاف الإنسان لهذه الميزة عند الحيوان أثر كبير في النقل من حيث الحمولة والسرعة. ولا شك أيضا في أن استخدام الحيوان للنقل كان أسبق من فكرة استخدامه لجر الزحافات أو العربات.
وللحيوان في النقل مرونة مشابهة لمرونة الإنسان من حيث إنه لا يحتاج إلى طرق معينة للسير؛ ومن ثم يمكن أن ينتقل أفقيا في أي مكان تحدده له ظروفه المؤهلة له. في المناطق القطبية لا يمكن لغير الرنة والكلاب السير والحمل أو جر الزحافات وإن كان استخدامها في الحمل محدودا جدا لظروف تكوينها الجسدي، وفي الهضاب العالية لا يمكن إلا للياك في التبت واللاما في الأنديز السير والحمل دون الجر للوعورة البالغة في هذه الهضاب. والجمل العربي أكثر الحيوانات التي يمكن أن تستخدم للحمل في المناطق الصحراوية الأفريقية العربية ذات المسطحات المنبسطة والتضاريس السهلة نسبيا، بينما يسير بصعوبة في المناطق الصخرية مثل جبال تبستي وهضبة الحجاز وغيرهما من الهضاب في الصحراء الكبرى. أما الجمل البكتيري (ذو السنامين) فقد تأقلم على الصحاري الباردة والمناطق الوعرة الصخرية في وسط آسيا وهضاب إيران وأفغانستان وسنكيانج ومنغوليا، ويمكن للجمل أن يجر عربات، لكن ذلك يعتبر أمرا شاذا ونادرا، وخاصة في النطاق الأفريقي العربي الجاف.
أما الحصان والحمار والبغل فحيوانات حمل غير متخصصة بأقاليم محدودة، وإن كان الحمار لا يتوغل كثيرا في المناطق الباردة والحارة كما يحدث للحصان على وجه الخصوص. وهذه الحيوانات الثلاثة هي أكثر أنواع الحيوان قابلية للحمل والجر معا، وليس للحمار جهد كبير في النقل خارج الأراضي المنبسطة، بينما البغل أكثر هذه المجموعة قدرة على الحمل في المناطق الوعرة شديدة الانحدار، ويشاركه الحصان نسبيا في هذه الصفة، وهو إلى جانب ذلك يتفوق على الحمار والبغل بالسرعة العالية.
وأخيرا فإن الأبقار والجاموس تستخدم كحيوانات حمل - ونادرا كحيوانات جر - في المناطق المدارية الرطبة والمناطق الزراعية المدارية عامة. كما أن الأبقار تستخدم أيضا للحمل عند رعاة السفانا الأفريقية، وفي جنوب وجنوب شرق آسيا يستخدم الفيل المستأنس في حمل الأشخاص وجر أو دفع الأشياء الثقيلة كجذوع الأشجار المقطوعة. وقد أمكن أيضا استخدام أعداد قليلة من الفيل الأفريقي - لكن بدرجة أقل - في مثل هذا العمل في غابات الكنغو.
هذه التخصصات الإقليمية لحيوان الحمل والجر تجعل مرونته محدودة نسبيا بالقياس إلى مرونة الإنسان، لكنها ساعدت على نقل بضائع أكثر مما كان يستطيعه الإنسان.
ذلك أن مسطح الحمل عند الحيوان - بطبيعة تكوينه الجسدي ووقوفه على أربع - أكبر بكثير من مسطح الحمل عند الإنسان. فضلا عن ذلك فإن القوائم الأربع للحيوان تمكنه من حمل أوزان أكبر من قائمتي الإنسان، كما تعطي الحيوان ثباتا واستقرارا أكثر على الأرض.
وفي الوقت ذاته تتحدد سرعة الحيوان بظروف تكوينه الجسدي، كما تتحدد أيضا بوزن حمولته وطبيعة الأرض التي يسير عليها، وباستثناء الوعورة والانحدارات فإنه ليس لنوع الأرض والمناخ تأثير مماثل لما لهما على الإنسان، وذلك راجع إلى تخصص كل حيوان في إيكولوجية خاصة لا تتعداها استخداماته بواسطة الإنسان، وإلا فقد ميزاته كأداة للنقل؛ هذا إذا استطاع التأقلم خارج إيكولوجيته.
وقد أمكن للإنسان أن يزيد من قدرة الحيوان على الحمل بطريقة مماثلة لبعض مبتكراته في زيادة ما يحمله هو، وأكثر هذه الطرق شيوعا استخدام عصا تثبت على ظهر الحيوان بطرق مختلفة ويرتبط بطرفيها أنواع مختلفة من الأوعية المجدولة أو الشباك لتزيد الحمولة المنقولة.
وبرغم التطور الكبير في النقل، إلا أن استخدام الحيوان في الحمل ما زال شائعا في معظم أجزاء العالم، وخاصة العالم المتخلف، هذا بالإضافة إلى أن غالبية المناطق الزراعية حتى في البلاد المتقدمة لا تزال تستخدم الحيوان. كما أن الحيوان في معظم جهات العالم - باستثناء الرنة والكلاب والياك واللاما - يستخدم كحيوان ركوب بدرجات متفاوتة.
ولا شك في أن استخدام الحيوان في جر العربات بأشكالها المختلفة هو الدعامة الأساسية لبقاء الاعتماد عليه في عمليات النقل المحدودة المسافات في كل جهات العالم. ويرجع ذلك إلى أن وزن الحمولة التي يمكن أن يجرها تزيد عدة مرات عما يستطيع أن يحمله، كما يرجع أيضا إلى مرونة الحيوان والعربات التي يجرها في الانتقال داخل أراض لا تدخلها السيارات، وخاصة الحقول التي تضيق فيها الطرق ولا تسمح مواصفاتها الترابية أو الطينية بدخول سيارات النقل إلا بصعوبة ومخاطرة. (2-3) العربات كوحدة نقل
منذ أن اكتشف الإنسان مبدأ العجلة بدأت الثورة الحقيقية في عالم النقل والتجارة، ولا شك أن العربات الخشبية الأولى كانت صغيرة الحجم قلقة على الأرض، ولكن استخدام أربع عجلات للعربة سرعان ما أعطاها ثباتا أكثر وحمولة أثقل وإن استلزمت أكثر من حيوان لتحريكها.
والعربة الخشبية - بشتى أشكالها من البدائية إلى المتعددة الأغراض إلى عربة الليموزين الفاخرة لنقل الأشخاص، وعربات الملوك المذهبة، وعربات المسكن التي عمر الأوروبيون بواسطتها العوالم الجديدة كلها، وعربات المسكن التي تؤهل لمجموعات الغجر حرية الحركة في أماكن كثيرة من العالم - كلها كانت أكثر وسيلة للنقل تعايشت مع الإنسان في الغالبية الساحقة من تاريخه، وعاصرت كل أمجاده منذ أكثر من ثلاثة آلاف من السنين، وشهدت تطوره الزراعي وانقلابه الصناعي، وإمبراطورياته المتعددة ونمو نمط التجارة العالمي إلى مقدمات صورته الراهنة.
وبما أن أنواع هذه العربات تحركها طاقة الحيوان، فإنها أيضا اتسمت بمرونة كبيرة في الحركة ولم تتطلب طرقا خاصة ذات مواصفات معينة لتسير عليها، ولكن وجود مثل هذه الطرق قد ساعد دون شك على سرعة العربة. وقد بلغ متوسط سرعة عربات الركوب ما بين 15 و18 كيلومترا في الساعة، وبذلك فإنها أعطت للإنسان سرعات لم يحلم بها في نقل عدة أفراد دفعة واحدة، وسهلت بذلك المواصلات والرحلات والأسفار وعمليات الهجرة الفردية والجماعية. وقد أنشئت خطوط منتظمة لمثل هذه العربات للسفر قبل اختراع الوسائل الميكانيكية الحديثة، كذلك أعطت العربات مجالا أوسع لنقل البضائع والسلع من أماكن الإنتاج إلى السوق أو إلى موانئ التصدير.
وساعدت هذه العربات على تطور عدة فنون حرفية كالنجارة والأثاث والحدادة، وباختصار كانت صناعة عربات الحيوان في الواقع السلف الصالح لصناعة السيارات وقطارات السكك الحديدية المعاصرة، وليس أدل على ذلك من أن دترويت التي يوجد فيها أكبر تجمع في العالم لصناعة السيارات الأمريكية، كانت من قبل من أهم وأكبر مراكز صناعة عربات الخيول الأمريكية في القرن الماضي. وكذلك فإن شكل السيارات الأولى، كان يشير بوضوح إلى تأثرها الشديد بصناعة العربات؛ فقد كانت عربات فاخرة تحركها طاقة جديدة بدلا من طاقة الحيوان، ومثل ذلك تماما كانت أشكال عربات السكك الحديدية، وإلى جانب ذلك فإن قيام ونشأة محطات لإبدال الجياد وإصلاح العربة أو عجلاتها وحدادة العربة أو تغيير حدوة الحصان، قد ساعدت على أن تصبح هذه المحطات تدريجيا مراكز عمرانية، تنمو إلى مدن نشطة في حالة استجابة اقتصاديات المنطقة أو تجارتها أو مواقعها الجغرافية.
ولا شك أن عربات الحيوان - بحكم الجهد المحدود للطاقة المحركة، مهما بلغ عدد الحيوان المربوط إلى العربة - قد خضعت بشدة إلى الظروف الطبيعية للمناطق المختلفة، فالمناطق الوعرة كانت عقبة كئود، وفي المناطق الجبلية تحددت طرق الاختراق بوجود ممرات طبيعية غير شاقة الارتقاء والمناطق الطينية السميكة لم تكن تصلح كثيرا لمرور العربات بعجلاتها الضيقة العرض وحمولتها الثقيلة. كما أن العجلات لم تكن صالحة للحركة في المناطق الجليدية، وحل محلها عربات أخف، ومسطحات زاحفة بدلا من العجلات.
وبرغم بقاء العربات حتى الآن في المناطق الريفية، إلا أنها دخلت متحف الحضارة البشرية بعد اختراع السيارات بفترة وجيزة، وقد تعددت الآراء حول مخترع السيارة، ولكن الاتفاق على مجهودات كثيرة قد بذلت في هذا الاتجاه، وأن أول نجاح كان ذلك الذي تم على أيدي «جوتليب ديملار» الألماني (1887). ولكن السيارة لم تدخل ميدان النقل إلا حوالي 1920 بعد أن بدأت صناعتها في منطقة دترويت الأمريكية (التي ما زالت أكبر منطقة إنتاج سيارات في العالم حتى الآن). وسبب ارتباط السيارة بدترويت أنها كانت - كما قلنا - أحد المراكز الهامة في صناعة عربات الحيوان لفترة طويلة؛ ومن ثم فإن التقليد الصناعي الطويل في صناعات وسائل النقل القديمة كان كفيلا بأن يؤدي إلى أن تنمو في هذه المنطقة مصانع إنتاج لوسيلة النقل الجديدة.
ولقد أصبحت السيارة فعلا وريثة العربة في مرونة النقل البري من حيث تعدد اتجاهات شبكة الطرق البرية وترابطها بصورة أكثر من شبكة الخطوط الحديدية، وذلك لأن أي عمران مديني أو قروي حديث قد أصبح يستلزم وجود الطريق البري، وليس بالضرورة الطريق الحديدي؛ ومن ثم تتعمق شبكة الطرق البرية في أعماق المعمورة في صورة متشابكة، بينما يمر الخط الحديدي على الواجهات الرئيسية للأقاليم.
وقد أدت زيادة أعداد السيارات وتفاعلها مع شبكة الطريق المتزايدة إلى دور هام متعاظم لسيارات الركوب والشحن في عمليات نقل الأشخاص والبضائع. كما أن احتياجات النقل الحديثة قد أدت إلى نمو وتعدد أشكال سيارات الشحن وأحجامها من 3 أطنان إلى أكثر من 70 طنا. وفي الوقت نفسه أدخل عامل السرعة التي نعيشها الكثير من الاستحداثات على محركات هذه السيارات، وأصبح متوسط سرعة الشاحنات حوالي 60 كيلومترا في الساعة.
ومعنى ذلك أن حمولة النقل الحديثة وطاقتها المحركة قد تضاعفت عدة مرات بالقياس إلى عربات الحيوان؛ مما ساعد أيضا على إحداث تغيرات عميقة في نمط وإيقاع التجارة الحديثة.
أما فيما يختص بنقل الأفراد فإن السيارة قد أدت إلى تطور جذري بالقياس إلى سرعة عربة الحيوان ليس في حاجة إلى مزيد من البيان. وقد ساعد ذلك على سهولة انتقال الناس لكافة الأغراض الاقتصادية وغير الاقتصادية، داخل المدن وخارجها، بكثافة لا مثيل لها. وكانت إحدى نتائج مرونة الحركة وسرعة الانتقال بواسطة السيارات، تقليل الفروق الاجتماعية والثقافية والفنية بين المدينة والريف.
وإذا كانت السيارة بنوعيها: نقل البضائع والأفراد، أقل مرونة من عربات الحيوان القديمة من حيث احتياجها إلى طرق ذات مواصفات خاصة، فإن السكك الحديدية أقل مرونة من السيارة بكثير، وذلك بحكم ارتباطها بطريقها الحديدي الخاص.
لكن السكك الحديدية تتميز عن السيارة عامة - وسيارات الشحن خاصة - بحمولة هائلة في البضائع والأشخاص، وبسرعة مماثلة، إن لم تكن أسرع في أحيان كثيرة من السيارات، نتيجة تطور محركات القطارات. ونتيجة لأن القطار يستخدم طريقا لا يستخدمه غيره.
والسكك الحديدية أقدم بكثير من السيارة، ففكرة استخدام البخار لتكوين قوة دافعة بدلا من القوى البيولوجية الحية بدأت بجيمس وات عام 1769، لكن تحويل هذه القوة إلى حركة دفع للعربات بدأ في الربع الأول من القرن التاسع عشر، وأدخل ستيفنسون التحسينات التي أدت إلى إنشاء السكك الحديدية عام 1829. (2-4) وحدات الحمل غير الأرضي
أما فيما يختص بوحدات النقل غير الأرضي، فإنه لا شك أن أكبر حمولات النقل في الماضي والحاضر كان دائما مرتبطا بالنقل المائي؛ فالقارب القديم أكبر حمولة من حمولة الإنسان والحيوان، والسفينة الحالية، النهرية أو البحرية. (التي تصل حمولتها إلى عدة عشرات الآلاف من الأطنان وبعضها - ناقلات البترول - بلغ أكثر من 300 ألف طن) أكبر حمولة من الشاحنات والقطارات، وذلك لسبب بسيط هو أن كثيرا من مشكلات تحميل الوزن على العجلات وجسم العربة (معبرا عنها بضغط الوزن على السنتيمتر المربع)، أيا كانت لا وجود له بالنسبة للنقل المائي؛ لأن الماء يحمل بدرجات متوازنة جسم القارب أو السفينة.
لكن النقل المائي يختلف عن النقل على اليابس في أن مرونته مفقودة تماما لارتباطه المباشر بمسطح الماء، سواء كان نهرا أو بحيرة أو بحرا. وقد أحدث الإنسان بعض التعديلات في هذا الضابط الطبيعي بحفر قنوات ملاحية تصل شرايين النقل المائي الداخلي، أو قنوات تصل بين بعض البحار ذات الأهمية الحيوية في مسارات التجارة البحرية العالمية (قنوات السويس وبنما وكيل).
ويتصف النقل المائي أيضا بأنه أبطأ وسائل النقل الحالي، بينما كان في الماضي (سفن الشراع) أسرع من عربات الحيوان، خاصة إذا صادفت السفينة الرياح المواتية.
ولكن ضخامة السفن - كوحدة حمل - تغطي على كل مساوئها باستثناء نقل البضائع التي تفسد بسرعة. ولكن التجهيزات الحديثة للسفن قد تغلبت على ذلك أيضا.
وأخيرا فإن الطائرات قد أصبحت بعد أن اخترعها الأخوان رايت في عام 1903 من وحدات الحمل الحديثة للأشخاص والبضائع، وتتميز الطائرة بأنها أسرع وسيلة نقل في العالم، لكنها أكثرها تكلفة لصغر حجم الطائرة بالقياس إلى القطار والسفينة.
وبرغم حرية الملاحة الجوية دون عوائق تذكر، إلا أن الطائرة هي أقل وسائل النقل مرونة؛ لأن مسارها يتحدد بين نقطتي الإقلاع والهبوط فقط، وهي لذلك لا تخدم المناطق المتوسطة بين هاتين النقطتين، كما تفعل السفن ووسائل النقل الأرضي الأخرى.
ولكن الاستحداثات الجديدة في حجم الطائرات وسرعتها، واحتياج العالم إلى مزيد من السرعة في النقل يجعل للطائرة أهمية متزايدة في نقل الأفراد، وإن كان عدد من تنقلهم الطائرة الضخمة الحديثة ما زال أقل كثيرا عمن تحملهم السفن والقطارات من ركاب. (3) قوة الدفع
تختلف القوة الدافعة لوسائل النقل اختلافا كبيرا يمكننا من أن نقسمها إلى ثلاثة أقسام رئيسية: (أ)
قوة الدفع البيولوجية الحية. (ب)
قوة الدفع الطبيعية. (ج)
قوة الدفع الميكانيكية.
وتنقسم قوة الدفع البيولوجية إلى قسمين فرعيين، هما: القوة العضلية للإنسان والقوة العضلية للحيوان، ولسنا في حاجة إلى مزيد من الإيضاح في مزايا ومثالب كل منهما. لكن الملاحظ أن هذه القوة محدودة بطاقتها الحية فلا يمكن أن تزيد عنها. وقد استطاع الإنسان أن يضاعف هذه القوة عدة مرات بأن يضاعف مصدر القوة، فحين يقوم بجر شيء ثقيل يمكنه أن يربطه إلى حبل ويقوم بجذب الحبل أكثر من شخص أو أكثر من حيوان. وفي حالة القوارب الكبيرة يقوم عدة أشخاص باستخدام المجاديف العديدة لزيادة قوة القارب وسرعته. وفي حالة عربات الحيوان يمكن أن يقوم بالجر حيوانان إلى 12 حيوانا من أجل زيادة السرعة والحمولة، وأيا كان الأمر فإن لمثل هذه الوسيلة حدا أقصى تصبح بعده الطاقة المضافة طاقة مفقودة.
أما قوة الدفع الطبيعية فنعني بها استخدام اندفاع الماء في الأنهار لتسيير السفن والقوارب، واستخدام الرياح لتسيير الشراع في النهر والبحر، وكلاهما غير محدود الطاقة لكنهما بعيدان عن التحكم البشري في المدى والقوة إلا بقدر. وقد كونت هذه القوى الطبيعية أهم استخدامات الطاقة في وسائل النقل الكبيرة الحجم خلال الحقبة الكبرى من تاريخ البشرية.
وأخيرا فإن قوى الدفع الميكانيكية التي بدأت باستخدام البخار وانتهت بغرفة الاحتراق الداخلي (الموتور)، هي قوى غير محدودة الطاقة إلا بمواصفات الآلة المستخدمة وقوة احتمال الجسم المتحرك للضغوط والتوازن. وقد أصبحت أهم قوى الدفع في عالم النقل الحديث - من القطار إلى السيارة إلى السفينة والطائرة - سواء كان الوقود هو الخشب أو الفحم أو البترول بمشتقاته المختلفة أو الكهرباء، ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة الوقود الذري الذي لا تعرف تماما نتائج تعميمه المستقبلية على وسائل النقل، ولا تكلفته الفعلية على النطاق التجاري، ولا مدى الأمان الذي يتوافر للركاب والبضائع في مركبات تسير بهذه الطاقة الجديدة. ولكن الاتفاق العام هو أن الوقود الذري يعطي مدى أطول في الحركة، كما أنه صغير الحجم بحيث لا يحتاج إلى المحركات الضخمة ولا يشغل حيزا كبيرا من حجم المركبة؛ مما يعطي وفرا مكانيا يساعد على زيادة حمولة البضائع والأشخاص، أو يساعد على المزيد من السرعة، وذلك أن المركبة ستكون أخف وزنا. (4) نهايات الطرق
لكل طريق بري أو بحري أو جوي بداية ونهاية. ولكن البداية والنهاية متبادلة بالنسبة لوسيلة النقل بحيث يصح أن نسميها فقط النهاية لخط ملاحة أو سكة حديد أو طائرة، والبدايات فقط هي التي تحدد بالنسبة للركاب أو البضائع.
ونهايات الطريق قد أصبحت على أكبر جانب من الأهمية في عناصر النقل في الوقت الراهن؛ لأنه إليها تنتهي البضائع أو الركاب. وهذه النهايات تتراكب فوق بعضها وإن بدت منفصلة لأول وهلة.
فعلى سبيل المثال نجد أن الميناء البحري يعد نهاية لخط ملاحي، لكن هذا الميناء بعينة يكون أيضا نهاية لخط حديدي أو طريق بري أو هما معا. وقد يزيد الأمر تركيبا أن نجد ميناء جويا في المنطقة هو الآخر نهاية خط ملاحي جوي، وهذا هو حال الغالبية الساحقة من الحالات: الإسكندرية أو بيروت أو مرسيليا أو إسطنبول، ناهيك عن لندن ونيويورك وطوكيو ... إلخ.
فنهاية الطريق إذن هي بداية لطريق من نوع آخر والعكس صحيح، وهذا التزاحم المكاني لنهايات الخطوط هو صفة من مستلزمات النقل الحديث. وقد كان كذلك بدرجات أقل في الماضي، والخطورة الناجمة عن تزاحم نهايات الطرق في نقاط محدودة نسبيا من مدن العالم وموانئه، وعدم توزيع هذا التزاحم على نقاط أكثر، يؤدي إلى اختناق هذه النهايات بالحركة ويسبب بذلك مشاكل تنتهي ببطء التوزيع للسلع والأشخاص على اختلاف نهاية مقاصدهم، كما تسبب في إنشاء مخازن كثيرة تعرض البضائع للتلف أو الفقد، وهما خسارة مادية وضياع لسمعة ومستقبل هذه النهاية من الطرق.
ولهذا فإن تخطيط النقل والمواصلات يجب أن يراعي في حزم توزيع نهايات الطرق بحيث لا تتزاحم وتتكدس وتؤدي في النهاية إلى شلل يعجز الطريق عن عمله فيتحول تدريجيا إلى نهاية أخرى. كما أن توزيع النهايات فيه، في نفس الوقت، توزيع عادل لنشاط وسائل النقل والتجارة والعمالة القائمة عليهما على مدن أكثر؛ مما يقلل الفوارق الاقتصادية بين مدينة واحدة ومدن أخرى عديدة في ذات المنطقة أو داخل الدولة الواحدة؛ وبالتالي يجنبها الهجرة المتزايدة إليها على حساب المدن الأخرى. ولسنا بحاجة إلى مزيد من التفسير للأضرار الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والخدمات الناجمة عن تيارات الهجرة المتزايدة إلى مدن قليلة في عالمنا الراهن.
الفصل الثالث
النقل والتنظيم الاقتصادي
يعتمد النقل - لكي ينجح في أداء المهام الملقاة على عاتقه - اعتمادا أساسيا على فهم أصول الاقتصاد والإنتاج والاستهلاك وأنماطها المختلفة، وفي تطورها المستمر، وهو أيضا يعتمد اعتمادا كبيرا على فهم الأسس والقواعد التي تفرضها ظروف الأرض جغرافيا وبشريا. (1) الظروف الجغرافية وتأثيرها على النقل (1-1) الظروف الطبيعية
تتأثر خطوط النقل بصورة قد تكون حاسمة وفعالة بالأشكال العامة لسطح الأرض من تضاريس أو أنهار أو بحيرات ومستنقعات. وكذلك تتأثر بتوزيع كتل اليابس والماء؛ مما يدعو إلى إطالة أو قصر خطوط الملاحة البحرية، ونستطيع أن نتبين هذه الآثار الطبيعية فور المقارنة بين خريطتين للنقل والمظاهر الطبيعية؛ ففي الخريطة رقم 3-1 نستطيع أن نتبين أثر الجبال والهضاب والغابات في تخفيض كثافة شبكة النقل الحديدي في الولايات المتحدة بالمقارنة بالسهول الشرقية والوسطى ووادي كاليفورنيا، وتوضح الخريطة نفسها عددا كبيرا من الحقائق الأخرى المرتبطة بالنشاط البشري وأثره على كثافة النقل الحديدي.
خريطة 3-1: شبكة الخطوط الحديدية في الولايات المتحدة بالارتباط بالظواهر الطبيعية والبشرية. «أ» مناطق الشبكة الحديدية الكثيفة (نطاق السهول والمدن والصناعة والخدمات). «ب» مناطق الشبكة الحديدية المتوسطة الكثافة (نطاق السهول والزراعة). «ج» مناطق لا تكون فيها الخطوط الحديدية شبكة، وإنما خطوط متباعدة (الجبال ومناطق الرعي والتعدين). «د» الحدود السياسية للولايات المتحدة: (1) منطقة جبال الأبلاش ونيوإنجلند. (2) منطقة هضبة أوزارك. (3) الغرب الأمريكي الجبلي (جبال الروكي والكاسكيد وسيرانفادا) والهضاب العالية الباردة في الشمال والجافة في الجنوب). (4) نطاق زراعي جنوبي قليل المدن. (5) السهول العليا الأمريكية: نطاق الرعي الواسع. (6) فلوريدا: غابات ومستنقعات. لاحظ كيف تعبر الخطوط الحديدية جبال الأبلاش في قسمها الشمالي لتربط منطقتي الساحل الشرقي والبحيرات العظمى، بينما يمتد خط حديدي بطولها في النصف الجنوبي من الأبلاش بمحاذاة وادي التنسي. لاحظ أيضا كيف تكون الخطوط متقاربة في السهول العليا ثم تأخذ في التباعد في الغرب الجبلي والهضبي.
وما ينطبق على النقل الحديدي ينطبق أيضا على النقل البري، وما ينطبق على الولايات المتحدة ينطبق على غيرها من الدول في أوروبا وفي الهند والصين، وأماكن أخرى من العالم. وقد اخترنا الولايات المتحدة كنموذج لإيضاح المؤثرات الطبيعية والبشرية على شبكة النقل؛ لأن الولايات المتحدة تمثل - في مجموعها - أكثف شبكات النقل في العالم بالنسبة لمساحة واسعة. ومن الطبيعي أن نجد هذا النمط الكثيف في مناطق محدودة من المراكز الصناعية المدينية في بعض دول أوروبا الغربية كمنطقة الراين الأدنى في هولندا وبلجيكا، وحوض الرور، ومنطقة لندن، لكن هذه الشبكات لا تغطي مساحات واسعة كما هو الحال في الولايات المتحدة، وبرغم كثافة النقل الداخلي الأمريكي، وبرغم التقدم التكنولوجي الأمريكي في وسائل النقل، إلا أن العوائق الطبيعية أمام الاستثمار والاستيطان والنقل لا تزال قائمة. وهذا سبب آخر دعانا إلى اختيار الولايات المتحدة بالذات لهذا الغرض.
وهناك أمثلة كثيرة لتوضيح المؤثرات الطبيعية على النقل؛ فالحواجز المرجانية في المناطق الساحلية، أو طبيعة خطوط السواحل التي تعوق نشأة الموانئ والمرافئ الطبيعية، يشكلان مثالين آخرين على تدخل الظروف الطبيعية في نشأة الموانئ واتجاه خطوط الملاحة. والخلاصة أن خطوط المواصلات كثيرا ما تضطر للدوران حول العوائق الساحلية والجبلية، والنتيجة نفسها نلمسها في عدد آخر من الأشكال الطبيعية للأرض: المستنقعات والكثبان، والمناطق التي تتعرض للانهيارات الجليدية خلال الشتاء أو الربيع في العروض الوسطى، والخوانق والأودية العميقة في الأراضي التي تتصف بالوعورة والتضرس، كذلك تقوم البحيرات والأنهار العريضة بمثل هذا الدور المعيق للحركة، وكل هذه الأشكال تجبر خطوط المواصلات على الالتفاف والدوران حولها، وهو ما يؤدي إلى إطالة خطوط المواصلات كثيرا. ولا شك أن في إمكان التكنولوجيا الحديثة التغلب على بعض هذه العقبات، ولكن ذلك - فضلا عن كونه أمرا شديد التكلفة - فإنه لا ينفذ إلا في المناطق التي تستوجب إيجاد وإنشاء الخطوط المباشرة نتيجة لكثافة الحركة الاقتصادية والبشرية، وهذا أمر لا يحدث إلا نادرا؛ ذلك لأن نطاقات العوائق الطبيعية في مجموعها، لا تشكل أماكن الكثافة السكنية أو النشاط البشري الكثيف بطبيعة تكوينها الوعر أو المستنقعي أو الرملي.
والاستثناء الوحيد هو بناء الجسور على الأنهار مهما كان عرضها، بل بناء الجسور المعلقة الطويلة على المضايق البحرية حينما تتوافر الاستثمارات ويكون النقل في حاجة إليها، وبلا شك فإن الولايات المتحدة قد فاقت الدول الأخرى في بناء الجسور الضخمة، كتلك التي توجد في نيويورك وتربط بين منهاتن ولونج أيلند، وفي سان فرانسسكو عبر البوابة الذهبية. وخلال هذا العام تم ربط آسيا وأوروبا بجسر طويل ضخم على البسفور من أجل التغلب على مشكلة عبور السيارات والقطارات فوق هذا المضيق. أما البحيرات فغالبا ما توجد فيها وسائل نقل مائية منتظمة تقدم خدمات العبور للحركة التي لا تريد أن تدور حولها.
وعلى عكس فكرة عبور المضايق بالجسور (أو الأنفاق كما في اليابان، وكما بين بريطانيا وفرنسا عبر مضيق دوفر، فإن الإنسان تضايقه البرازخ التي تفصل بحار الحركة التجارية الكثيفة؛ ومن ثم فقد شق الإنسان هذه البرازخ الهامة وأقام محلها قنوات ملاحية أضخمها قناة السويس وقناة بنما، ومن بينها قناة كييل والقنوات الملاحية في منطقة البحيرات العظمى الأمريكية.
ورغم التعديلات التي يقيمها الإنسان - مد الطرق البرية فوق المياه، ومد المياه فوق اليابس - إلا أنها لا تمثل في الواقع سوى خدوش بسيطة ألحقها الإنسان بوجه الأرض (وذلك على الرغم من الأهمية القصوى التي يعلقها الإنسان على تلك التعديلات بالنسبة لمسار التجارة والنقل متحررا من العوائق الطبيعية). وبذلك تبقى الظروف الطبيعية عاملا شديد التأثير في خطوط المواصلات واتجاه الحركة.
وعلى هذا تلعب عدة أقاليم طبيعية دورا خطيرا في تحديد مسارات النقل في خطوط تلتزم بها التزاما متزمتا، وإلا أصبح النقل عملية مخاطرة غير اقتصادية، وأكثر هذه الأقاليم الطبيعية تحديدا وإلزاما للنقل، هي: (1) النطاق الجاف. (2) النطاق القطبي. (3) النطاق الاستوائي. وأخيرا (4) نطاق الهضاب والمرتفعات الشديدة الارتفاع مثل التبت أو الأنديز الوسطى في بيرو وبوليفيا.
والنطاق الصحراوي الجاف - برغم مكانه الجغرافي الممتاز بين عالم الدول المتقدمة الشمالية وعالم الخامات الهامة في النطاق المداري - لا يزال يكون عائقا طبيعيا أمام النقل؛ فالأنواع المختلفة من التكوينات السطحية الصحراوية تختلف فيما بينها في التمهيد للنقل اليسير أو إعاقته؛ فالصحاري الصخرية غير الحصوية، غير بحار الرمال الواسعة، غير شرائط الكثبان الرملية الناعمة المتحركة، ولكنها - وبغض النظر عن درجة الاختلاف في تسهيل أو عرقلة النقل - تشترك جميعا في وجود عقبة خطيرة موحدة: ندرة المياه.
ومن ثم فإن الطرق التي تخترق النطاق الجاف لا بد لها من الالتجاء إلى كثير من الالتفاف والارتداد والانحناء، لكي تتجنب المسافات الجافة الخطرة، وذلك بالتحرك في اتجاه المناطق القليلة التي توجد فيها مصادر للمياه.
وقد أدى وجود مجموعات الواحات المنتشرة داخل النطاق الجاف إلى أن تصبح هذه الواحات محطات إجبارية لا بد للطريق من أن يرتادها، ومثال ذلك ضرورة مرور الطرق البرية الحديثة في الصحراء الكبرى الأفريقية على واحات غات وغدامس وآير في طريقها من طرابلس إلى تشاد ، أو مرور طريق الجزائر أو مراكش على واحات توغرت وتوات والحجار لكي يصل إلى جاو أو تمبكتو على ثنية نهر النيجر، أو مرور طريق الحرير على واحات حوض تاريم لتجنب صحراء «تكلا مكان»، والاتجاه إلى يوقند وكشغر، ثم عبور سلسلة جبال تين شان إلى خوقند في حوض فرغانة ثم سمرقند وبخارى إلى هضاب غرب آسيا، وأخيرا إلى البحر المتوسط وأوروبا (انظر الخريطة 3-2).
خريطة 3-2: طرق التجارة البرية والبحرية القديمة: (1) طريق الحرير. (2) الطرق العابرة للصحاري العربية والأفريقية. (3) طرق أخرى. (4) طريق الشاي (ق17).
ولحسن الحظ توجد بعض الأنهار التي تخترق أجزاء من النطاق الجاف، مثل نهري سيرداريا وأموداريا (سيحون وجيحون في الكتابات العربية القديمة) في تركستان السوفييتية، وهو طريق يؤدي من سهول سيبيريا الغربية والأورال إلى الممرات الجبلية، ومن ثم إلى سهول الهند جنوبا. وكذلك نهرا الفرات ودجلة اللذان كونا طريقا هاما في الاتصال بين عالم المحيط الهندي والخليج العربي إلى البحر المتوسط وأوروبا.
وكذلك كان طريق النيل هو أطول طريق كامل يعبر الصحراء الكبرى الأفريقية ويربط بين عالم البحر المتوسط والشرق الأوسط، وبين العالم المداري الأفريقي.
ولهذا فإن طرق النقل الحديثة تتكاثف بشدة في المناطق الجافة حول مسارات الأنهار سابقة الذكر؛ ففي وادي النيل تمتد الطرق الحديدية والبرية بجوار مسار النهر في كل من مصر والسودان. كما أن النيل نفسه يستخدم بدرجات متفاوتة كطريق نقل أساسي في النوبة والسودان الجنوبي، وكطريق نقل ثانوي في السودان الأوسط.
وتتبع الطرق البرية الحديثة في الصحراء الكبرى طرق القوافل القديمة بصورة كبيرة، مما يدل على نفوذ الطبيعة في تحديد الطريق، برغم تغير وسائل النقل، فطريق السيارات الذي يعبر الصحراء الكبرى الغربية يمر من توغرت أو غراديا إلى واحات توات؛ حيث يلتقي أيضا بالطريق البري الحديث القادم من كولمبشار عبر وادي ساؤرا، ومن توات يتفرع الطريق إلى اتجاهين: أولهما يتجه إلى تمانراست في هضبة الحجار، ثم أجادس وزندر وكانو في شمال نيجيريا، والاتجاه الثاني يعبر صحراء تانزروفت مباشرة إلى جاو على النيجر.
وفي تركستان السوفييتية أيضا يتحدد مسار السكة الحديدية الرئيسية عبر النطاق الجاف بالتزام وادي سرداريا إلى نهري الأورال والفولجا. وفي إيران والجزيرة العربية تلتزم الطرق الحديثة أيضا بطرق القوافل القديمة بين الواحات المختلفة.
وفي النطاق القطبي - ومع تغير وسائل النقل - لا تزال الطرق النهرية القديمة هي طرق الاختراق الرئيسية لهذه الأصقاع القارسة البرد والمتطرفة مناخيا، ولكن السوفييت قد افتتحوا طريقا ملاحيا جديدا يمر بالسواحل الشمالية لسيبيريا من مورمانسك إلى فلاديفوستوك (قرابة ستة آلاف ميل بحري)، وبرغم أهمية هذا الطريق الجديد بالنسبة إلى الاستغلال الحديث للثروات المعدنية الكبيرة في النطاق القطبي السوفييتي، وبرغم ما يستخدمه السوفييت من وسائل شديدة الحداثة في فتح هذا الطريق للملاحة (استخدام محطمات الجليد التي تسير بالطاقة الذرية لفتح طريق مائي وسط الجليد البحري المتراكم)، إلا أن كل هذه الأسباب والوسائل المتقدمة تكنولوجيا لا تستطيع أن تفتح هذا الطريق إلا في خلال أشهر الصيف الثلاثة فقط! ففي خلال هذه الفترة القصيرة تهيئ الظروف المناخية المتغيرة لفتح طريق الملاحة الشمالي، وبذلك تساعد وسائل النقل الحديثة على القيام برحلاتها الموسمية.
وفي المناطق الاستوائية يقف النمو النباتي الهائل عقبة حقيقية أمام النقل الحديث؛ ومن ثم فإن الأنهار والأودية النهرية ما تزال خير طرق اختراق هذه المناطق؛ ولذلك فإن درجة الاعتماد على النقل النهري عالية بالنسبة لحوض الأمازون أو الكنغو. وعلى النحو نفسه تقف الهضاب والجبال الشديدة الارتفاع عائقا أمام النقل الحديث؛ إذ إنه لا يمكن ارتقاؤها إلا من نقاط ضعفها المتمثلة في وجود الانحدارات المعتدلة والممرات الجبلية؛ ومن ثم كان الطريق الطبيعي لارتقاء التبت يأتيها من الشرق، بينما تترك الطرق الجنوبية والشمالية للقوافل التقليدية.
وبرغم هذه العقبات فإن وسيلة واحدة من وسائل النقل الحديث تستطيع أن تتغلب عليها، تلك هي وسيلة النقل الجوي، وفعلا يلعب هذا النوع من النقل الدور الرئيسي في المناطق المذكورة، وخاصة في النطاق القطبي والاستوائي. وللنقل الجوي دوره أيضا في النطاق الجاف، لكن هذا النطاق مخدوم أيضا بوسائط نقل تتفق مع احتياجات الإقليم الاقتصادية، وتصل إلى حد الشبكة الكثيفة من وسائل النقل في بعض أماكن هذا العالم الجاف (مثل مصر وساحل الليفانت وتركستان السوفييتية)، كذلك فإن العالم الجاف تخدمه موانئ جيدة على الخليج العربي والبحر الأحمر والبحر المتوسط، وموانئ داخلية على بحر قزوين وبحر آرال. (1-2) الظروف البشرية
إذا كان للظروف الطبيعية مثل هذا التأثير الشديد على اتجاهات ومواصفات طرق النقل ووسائله، فإن للظروف البشرية أيضا دورها الهام في هذا المجال وأكثر العناصر البشرية تأثيرا هو مدى كثافة السكان في الأقاليم المختلفة، فحيث تظهر كثافة سكانية عالية ترتفع أيضا كثافة شبكة النقل كاستجابة طبيعية.
ولهذا نجد كثافة عالية لمختلف وسائل النقل البري والحديدي والنهري والبحيري والبحري والجوي في الولايات الشمالية الشرقية من الولايات المتحدة (المثلث الذي تحدده مونتريال الكندية في الشمال وشيكاجو في الغرب وواشنطن في الجنوب). وفي هذا الإقليم أكبر مدن أمريكا الشمالية: كويبك ومنتريال وترنتو في الجانب الكندي، وبوسطن ونيويورك وفيلادلفيا وبلتيمور وواشنطن على الجانب الأطلنطي، وملواكي وشيكاجو ودترويت وكليفلاند وبافلو وبتسبرج وسنسناتي في الداخل. وبينما تزدحم هذه المنطقة بخطوط الحركة، تصبح وسائل النقل محدودة بطرق قليلة في غرب الولايات المتحدة لقلة التزاحم السكاني (راجع الخريطة رقم 3-1).
ومثل هذه الحالة نجدها في الاتحاد السوفييتي؛ حيث تؤدي الكتلة السكانية الكبيرة في القسم الأوروبي إلى وجود شبكة نقل كثيفة، بينما كانت المنطقة الآسيوية ذات خطوط مواصلات محدودة. ولكن التطور الاقتصادي الذي طرأ على نطاق الإستبس فيما بين الصحاري وغابات سيبيريا الغربية قد أدى إلى نمو زراعي وصناعي وتعديني ومدني كبير. وقد انعكس ذلك بدوره على خطوط الحركة، فتطورت شبكة النقل في هذا الإقليم السوفييتي إلى كثافة ملحوظة، لكنها لا زالت أقل من احتياجات المنطقة.
وحتى في داخل الدول الصغيرة المساحة نجد أيضا الكتلة السكانية الكبيرة، بالإضافة إلى نشاطها الاقتصادي الكبير، تشكل عامل جذب لكثافة المواصلات، فلنلاحظ الفارق بين كثافة النقل في سهل الفلاندرز وقلة هذه الكثافة نسبيا في هضبة الأردين، وبين شبكة النقل في الرور والراين بالمقارنة بتلك في بافاريا.
هذا التجاوب بين الكثافة السكانية العالية وشبكة المواصلات لا يتم انطباقه دون أن يكون لهذه الكتلة السكانية الكبيرة نشاط اقتصادي يعتمد في جوهره على التبادل التجاري؛ ومن ثم يقوم النقل بوظيفته الأساسية: النقل التجاري، وليس نقل الأشخاص فقط، ولا أدل على ذلك من مقارنة كثافة النقل في مناطق الصناعة الحديثة في غرب أوروبا، بخطوط النقل في مناطق الإنتاج الزراعي البسيط في الهند أو الصين.
فالواقع أن الصناعة - باحتياجها الحيوي إلى مئات الخامات التي تتجمع لكي تدخل المصانع، واحتياجها الحيوي إلى تصريف السلع المصنعة وتوزيعها على أسواق الاستهلاك - توجب ارتفاعا كبيرا في خدمات النقل، بينما مناطق إنتاج الخامات المعدنية أو الزراعية في حاجة إلى شريان نقل ترسل بواسطته هذه الخامات إلى مناطق الصناعة.
ولا يقتصر تأثير العوامل البشرية في النقل على الكثافة السكانية ونوع النشاط الاقتصادي السائد، بل إن الحدود السياسية أيضا تقوم بدور هام في توجيه النقل من مكان لآخر، أو تقطع الاتصال بين شبكات النقل إلا في أماكن محدودة (راجع خريطة رقم 3-3).
ومن أمثلة تأثير العوامل السياسية نشأة الموانئ الجديدة في الدول التي استقلت حديثا كدليل على استقلال الدولة، ورغبة منها في توجيه تجارتها عبر موانئ تمارس سيادتها عليها؛ مثال ذلك بور سودان في السودان، أو تيما في غانا.
خريطة 3-3: تأثير الحدود السياسية على خطوط المواصلات الرئيسية والفرعية. (الخطوط الحديدية بين كندا والولايات المتحدة «منطقة تفصيلية غربي البحيرات العظمى».)
كذلك يدل على ذلك نشأة موانئ الترانزيت للدول التي لا تتمتع بواجهات ساحلية مثل بيروت بالنسبة للأردن، ودار السلام في تنزانيا بالنسبة لزامبيا أو شرق زائيري، وبنجويلا في أنجولا بالنسبة لزائيري، وبيرا في موزمبيق بالنسبة لروديسيا، أو تريستا الإيطالية بالنسبة للنمسا أو مرسيليا وجنوا وروتردام بالنسبة لسويسرا.
وكثيرا ما يؤدي تغير الأوضاع السياسية إلى توجيه تجارة دولة من ميناء لآخر. والحالة المثالية على ذلك ميناء هامبورج الذي كان يخدم القسم الشرقي من ألمانيا - جمهورية ألمانيا الديموقراطية الحالية - وتشيكوسلوفاكيا، وبعد انضمام هاتين الدولتين إلى كتلة الدول الشرقية وجهت المواصلات التجارية لهما إلى ألمانيا الشرقية على البلطيق بدلا من هامبورج.
وكذلك أحدث التغير السياسي لجمهورية كوبا تغيرا في نمط تجارتها الدولية، وبالتالي تغيرت أهمية خطوط المواصلات التي كانت تربطها بالولايات المتحدة إلى خطوط أخرى أكثر عالمية بدلا من تلك الخطوط الاحتكارية الأمريكية.
وعلى هذا النحو، يمكن أن نستمر في توضيح أثر الظروف البشرية على توجيه النقل ومواصفات الوسائل التي تستخدم في عمليات النقل، وخلاصة القول أن مجموع العوامل الجغرافية الطبيعية والبشرية تشارك مشاركة فعالة في رفع أو خفض كثافة خطوط النقل، هذا إلى جانب الشروط المختلفة التي تتحكم في اقتصاديات النقل، والتي سنوضحها فيما بعد. (2) التأثير المتبادل للنقل والنشاط الاقتصادي (2-1) أمثلة محددة
قلنا إن هناك علاقة حيوية بين هذين الموضوعين للدرجة التي تجعلنا ننظر إليهما على أنهما شقان لموضوع واحد. ومن الطبيعي أن ننظر اليوم إلى التفاعل المتبادل بين الإنتاج والتسويق والنقل على أنه شيء بديهي وضروري، ويرتبط هذا باعتيادنا الأمر الواقع، وهو اتجاه كل الإنتاج إلى السوق.
أما في الماضي فإن النظرة إلى هذا الارتباط لم تكن بديهية؛ لأن القليل من الإنتاج هو الذي كان يجد لنفسه الطريق إلى سوق محدودة، ومع ذلك كان النقل يشكل عنصرا حيويا في أحيان كثيرة، لكن هناك فارقا بين أهمية النقل في الماضي والحاضر؛ ذلك أن الارتباط لم يكن بغرض نقل السلع إلى السوق بقدر ما كان الغرض منه توفير مسببات النجاح في عملية الإنتاج في حد ذاتها؛ أي إن النقل كان موجها لخدمة الإنتاج في الأساس، وقد تسببت أشكال الطرق وطبيعتها - في الماضي - في نجاح أو تدهور الإنتاج في إقليم من الأقاليم؛ كما حدث في أيرلندا (راجع التقدمات) التي تسبب نقص الطرق والموانئ فيها في ركود اقتصادي خلال القرن السابع عشر، استمرت آثاره حتى هذا القرن.
وفيما يلي نسوق بعض أمثلة على مدى تدخل النقل كعنصر حاسم في نجاح أو فشل الإنتاج.
فقد اتفق الاقتصاديون الذين درسوا التغيرات التي طرأت على الزراعة الأوروبية، خلال القرون الثلاثة الماضية، على أن العقبة الأساسية في بطء التقدم الزراعي كان يعود إلى عدم كفاءة الطرق، فمثلا كانت رداءة الطرق في إقليم هازبروك (في الفلاندرز الفرنسية) - خلال القرن 18 وأوائل القرن 19 - تمنع نقل السماد إلى الحقول إلا في فترة متأخرة، بمعنى أن السماد يصل متأخرا عن الموسم الذي يجب فيه تغذية النبات، وسبب ذلك التأخير هو انتظار جفاف الطرق؛ لأن الأمطار تجعل الطرق طينا يستحيل معه النقل.
وفي مناطق أخرى من أوروبا كانت هناك شكوى من أن البضائع والأخشاب لم يكن يتم نقلها إلا بعد جفاف الطرق، وفي هذه الفترة بالذات يكون العمال منشغلين بأعمال الزراعة في الحقول؛ ومن ثم كان النقل يعاني أزمة في تدبير الأيدي العاملة التي يمكن تشغيلها. وعلى هذا فإن تصادف وقوع الوقت الملائم للنقل مع الوقت الملائم للزراعة - موسم البذار أو الحصاد أو قطف العنب أو حرث الأرض - كان يؤدي إلى توقف إحدى العمليتين: إما النقل وإما الزراعة؛ لأن مصدر الأيدي العاملة واحد؛ ومن ثم لم يكن هناك انتظام في عملية النقل الصناعي - نقل الأخشاب من الغابات إلى أفران المصانع، أو نقل الفحم من الموانئ النهرية إلى المصانع - إنما كانت هذه العملية تعتبر نشاطا ثانويا بالمقارنة بالنشاط الزراعي الذي كان الحرفة الرئيسية خلال القرون الماضية.
وقد ترتب على عدم انتظام النقل الصناعي أن المصانع كانت مضطرة إلى تخزين كميات كبيرة من الأخشاب أو الفحم أو الخامات لمدة ستة أشهر مقدما لكي ينتظم الإنتاج الصناعي. وكان هذا يحتاج إلى توسيع مساحة المصانع كثيرا لبناء المخازن، وبذلك كانت هناك إنفاقات كبيرة من رأس المال لا تعوضها أرباح الإنتاج؛ ومن ثم كانت أسعار المنتجات الصناعية عالية وأجور العمال منخفضة؛ مما سبب الكثير من الأمراض الاجتماعية والاقتصادية في بداية عهد الصناعة.
وتدل الدراسات العديدة على أن تكلفة النقل كانت تعادل 80٪ من سعر الفحم في حالة وجود المصانع على مسافة تقل عن مائتي كيلومتر من مصدر الفحم، وأن التكلفة ترتفع أكثر مع تزايد المسافة بين المصنع ومنجم الفحم.
ولسنا نريد أن نصور النقل على أنه كان وحده العامل المسئول عن تعثر الصناعة وآلام المجتمع في بداية العصر الصناعي في أوروبا، بل كانت هناك عوامل أخرى مرتبطة بمواقع المصانع والشروط الطبيعية في الإنتاج، وسياسات الدول وكارتلات الصناعيين، من بين عوامل أخرى كانت تلعب أدوارا هامة في حياة المجتمعات في تلك الفترة، لكن الذي نريد تأكيده أن تحسن وسائل النقل وتخصص فئة من المجتمع في عمالة النقل، كانتا من بين أسباب انتظام العمل الصناعي والزراعي ورخص منتجاتهما، واتساع السوق الاستهلاكية.
وفي الواقع نجد أن تحسن الطرق قد أدى إلى إيجاد أسواق للسلع المختلفة، وخاصة التوسع الواضح في سوق السلع الزراعية؛ بمعنى أن الطرق الجيدة قد ساعدت - بجانب عوامل أخرى - على إنشاء نظام تجاري منتظم متقارب الأسعار، حتى لو كانت الأسواق بعيدة عن مناطق الإنتاج، وتتضح هذه الحقيقة بصورة جلية حينما ندرس سلوك سوقين داخليتين كبيرتين تتباين فيهما شبكة النقل الحديدي والبري: هذان هما سوق الحبوب في الولايات المتحدة والهند؛ ففي الولايات المتحدة شبكة متقاربة المحاور من الخطوط الحديدية والبرية والنهرية تربط نطاق إنتاج الحبوب في السهول الوسطى بسوق الاستهلاك الضخم في المناطق الصناعية الشرقية ومنطقة الكثافة المدينية على ساحل الأطلنطي. وقد أدى ذلك إلى أسعار متقاربة للحبوب، ولم تكن فوارق الأسعار القليلة إلا تعبيرا عن البعد المكاني وتكلفة النقل؛ ذلك أن السوق منتظمة والحركة أيضا منتظمة في نقل السلع من أماكن الإنتاج إلى مراكز الاستهلاك، ويجب أن نضيف إلى هذا أن منطقة إنتاج الحبوب الأمريكية قليلة السكان؛ مما يسمح بتوجيه غالبية الإنتاج إلى السوق.
أما في الهند فإن كثافة السكان عالية، وخاصة في مناطق إنتاج الحبوب. كما أن شبكة النقل البري والنهري أقل كثافة من مثيلتها في الولايات المتحدة؛ ولهذا فإن الحبوب تستهلك في مناطق الإنتاج أو تدخل السوق بكميات محدودة؛ ولذلك نجد تفاوتا كبيرا في أسعار الحبوب داخل مناطق الهند المختلفة كتعبير عن عدم وجود سوق أو تجارة منتظمة، وكان نمط الهند مشابها لما كان عليه الحال في أوروبا في الماضي: استهلاك محلي واختلاف كبير في أسعار السلع نتيجة لنقص الطرق واختلاف كثافة السكان.
وتأثير النشاط الاقتصادي الحديث - الصناعة والخدمات - قوي وشديد الوضوح على النقل، ولا أدل على ذلك من أن في إقليم الراين الأدنى 40 كيلومترا من أطوال السكك الحديدية لكل 250كم
2 ، وفي بلجيكا 85 كيلومترا من السكك الحديدية لكل 250كم
2 ، وفي حوض الرور 5000 كيلومتر من أطوال السكك الحديدية لكل 250كم
2 .
وكذلك أدت مراكز الصناعة البريطانية إلى نمو الموانئ البريطانية في تعاملها مع وسائل النقل البحري إلى الحد الأقصى، وبالدرجة نفسها أثرت الصناعة على موانئ البحيرات العظمى الأمريكية وموانئ الشاطئ الشرقي، وعلى الأخص نيويورك وبوسطن ومنتريال.
ولكن إذا كان هذا هو الحكم السائد في الدول الصناعية أو المناطق الصناعية القديمة، فإن طرق النقل المختلفة في الدول الجديدة أو أقاليم الصناعة الجديدة تخضع للتأثير المضاد؛ أي إن نشأة الاستغلال الاقتصادي الحديث - الزراعي أو الصناعي، أو الصناعي والخدمات - تتم بفضل وصول خطوط المواصلات إلى المنطقة. (2-2) تأثير الخطوط الحديدية على النمو الاقتصادي والعمراني
الأمثلة كثيرة ومتعددة على تأثير النقل على إنشاء مناطق اقتصادية عمرانية جديدة؛ فخط حديد سيبيريا الذي أنشئ لأهداف سياسية واستراتيجية قد تسبب في تكوين قلب اقتصادي حديث للاتحاد السوفييتي يمتد وراء الأورال إلى جبال التاي وإلى قرب بحيرة بايكال في طرفه الشرقي.
وكذلك أدت الخطوط الحديدية العابرة لأمريكا إلى إقامة محاور عظيمة من النشاط الاقتصادي الحديث والنمو العمراني على طول هذه الخطوط في السهول الوسطى وفي السواحل الغربية التي تنتهي إليها هذه الخطوط، وبنفس الدرجة نشأ العمران والنشاط الحديث في الأرجنتين وأستراليا وجنوب أفريقيا.
ويبدو أن للخط الحديدي أثرا أكثر فعالية من الطريق البري أو النهري أو الجوي في دفع حركة العمران والاقتصاد الحديث؛ فهو الوسيلة الأولى في كمية الحمولة من البضائع والأشخاص بالنسبة لغيره من وسائل النقل الأرضية الأخرى. كما أنه أسرع وأكثر انتظاما من وسائل النقل الأخرى، وإلى جانب ذلك فإنه من الناحية النفسية دليل من الأدلة الدامغة على ثبات حركة الاتصال؛ لأن طريقه الحديدي مثبت إلى الأرض؛ ومن ثم يصبح وجوده القاعدة الأساسية التي ينبني عليها الاستقرار العمراني والاقتصادي الجديد، وبغض النظر عن كل هذه الأسباب أو غيرها، فإن الوقائع تؤيد وتؤكد قوة تأثير الخط الحديدي وفعاليته بالقياس إلى غيره من أساليب النقل الأخرى في الأراضي التي تعمر جديدا. (2-3) تأثير النقل البحري على نشأة الصناعة في الموانئ
ولا يقتصر أثر النقل على السكك الحديدية، بل إن النقل البحري أيضا كان ولا يزال له دوره الخطير على نشأة الموانئ ونموها المديني والتجاري والصناعي؛ فالموانئ عادة ليس لها مورد هام من موارد التعدين أو الطاقة أو الإنتاج الزراعي، بحكم وقوعها في المنطقة الساحلية ذات التربة الجيرية أو الطميية أو الرملية الحديثة التكوين، ولكن نشأة الميناء كمركز مواصلات تلتقي عنده نهايات الطرق البرية والبحرية - والنهرية أحيانا - يؤدي إلى عمليات تفريغ وشحن كبيرة، وعمالة هي الأخرى كبيرة في مجال الخدمات.
وقد لوحظ أن أماكن انتقال السلع والبضائع من وسيلة نقل إلى وسيلة نقل أخرى، يمكن أن تتحول إلى أماكن لمعالجة بعض هذه الحمولة معالجة صناعية؛ وبالتالي تقل تكلفة نقل الخامة إلى مراكز التصنيع في الداخل.
ومن ثم أصبحت كثير من الموانئ مراكز حيوية لنشوء الصناعات، وهي في معظمها صناعات تحويلية وليست صناعات هندسية كبرى، إلا إذا كانت هناك ظروف مواتية، كقرب مصادر الحديد والطاقة، ويستثنى من ذلك صناعات بناء السفن التي تتوطن في الأصل في عدد معين من الموانئ إذا توافرت شروط خاصة.
وعلى هذا نشأت كثير من الصناعات البتروكيمائية في موانئ استقبال ناقلات البترول الخام، وصناعات النسيج في موانئ استقبال خامات النسيج، وصناعات إعداد الأغذية والمكيفات في موانئ استقبال الخامات الزراعية.
وقد لوحظ أيضا أن الموانئ التي تمت فيها هذه الصناعات تقع غالبها على نهاية طريق ملاحي داخلي (نهري)؛ مما يؤدي إلى خفض تكلفة نقل السلع المصنعة إلى داخلية البلاد في اتجاه الأسواق الرئيسية. ومن الأمثلة على ذلك نيويورك التي تقع على نهاية طريق نهري داخلي هام يربطها بمنطقة البحيرات العظمى الأمريكية والكندية (طريق هدسن-موهوك)، وتبلغ العمالة الصناعية في نيويورك حوالي مليون شخص من مجموع سكان مجمع نيويورك المديني البالغ أحد عشر مليون شخص. وروتردام أيضا - التي تشتهر بالصناعات الغذائية والمكيفات، تقع على أهم طريق نهري داخلي في أوروبا الغربية (الراين)، وتخدم بذلك هولندا وبلجيكا وحوض الراين الألماني الفرنسي السويسري. وهناك أمثلة أخرى هامة: منتريال على نهر سانت لورنس، شنغهاي على مصب الطريق الملاحي العظيم في وسط الصين: اليانجتسي، الإسكندرية على الطريق الملاحي الصناعي (ترعة المحمودية) إلى الدلتا، مرسيليا عند مصب الرون، هامبورج عند مصب الألب، ليفربول عند مصب الميرزي، كلكتا عند مصب الجانج، وغير ذلك من الأمثلة كثير.
خريط رقم 3-4 (3) أنماط النقل العالمي
إن تفاعل العوامل الذاتية للنقل والعوامل الجغرافية الطبيعية والبشرية والاقتصادية، قد خط الهيكل العام لنمط النقل بأشكاله المختلفة، ولكننا نعود إلى أن نخص مرة أخرى نوع النشاط الاقتصادي بدرجة تأثير فعالة على شبكة النقل في الأقاليم المختلفة. ويمكننا أن نخلص - في هذا المجال - إلى قاعدة عامة وبسيطة:
كلما كان النشاط الاقتصادي مركبا ومتعددا فإنه يؤدي إلى شبكة نقل كثيفة متنوعة.
وبتطبيق هذه القاعدة يمكننا بسهولة أن نعمم نمط النقل في العالم من حيث كثافته ونوعه على النحو التالي: نقل كثيف ومتوسط وبسيط. (1)
نقل كثيف متعدد الوسائل: (بحري مع موانئ متعددة هامة - نهري - حديدي - بري - جوي مع تعدد الموانئ الجوية الهامة - أنابيب الغاز والبترول - شبكات نقل الطاقة - شبكة الاتصال السلكي واللاسلكي ... إلخ): يتركز هذا النمط في البلاد الصناعية الشمالية من الولايات المتحدة عبر أوروبا إلى الاتحاد السوفييتي واليابان. وبطبيعة الحال تختلف الكثافة والنوع من ناحية الكم وليس من ناحية الكيف في المناطق الهامشية داخل هذا النطاق الشمالي، مثل نطاق البحر المتوسط الأوروبي باستثناء شمال إيطاليا، ومثل معظم اسكندنافيا الشمالية، والشمال السوفييتي وكندا الوسطى والشمالية، ووسط غرب الولايات المتحدة وشمال اليابان.
خريطة 3-5: نموذج لنمط النقل الكثيف: النقل في فرنسا. (1) السكك الحديدية الرئيسية والفرعية. (2) الطرق البرية الرئيسية. (3) الملاحة الداخلية في الأنهار والقنوات. (4) الخطوط الجوية الداخلية. (5) الموانئ الرئيسية. (6) مراكز شبكة النقل الجوي الداخلي الرئيسية. لاحظ تكاثف شبكة النقل الحديدية والبرية والنهرية في شمال فرنسا، ولاحظ النمط المتكاثف في ظهير مرسيليا ووادي الرون إلى ليون؛ ومن ثم إلى باريس في اتجاه أو إلى الراين في اتجاه آخر. لاحظ تعدد الموانئ الكبيرة بحيث لا يوجد ميناء واحد محتكر، ولاحظ تمركز شبكة النقل الجوي الداخلي حول باريس مع وجود مركز آخر في ليون، وأخيرا هيمنة باريس على الشبكة الكثيفة للنقل بحكم خلفيتها وتاريخها ونشاطها الاقتصادي. (2)
شبكة نقل متوسطة الكثافة يسيطر عليها عدد قليل من وسائط النقل: غالبا يسيطر على النقل البري الطريق الحديدي ويتعاون معه ولا ينافسه الطريق البحري، كما تظهر أيضا خدمة النقل البحري مركزة في ميناء رئيسي واحد لكل إقليم أو دولة، وكذلك يتركز النقل الجوي في ميناء جوي واحد رئيسي في الدولة أو إقليم جغرافي كبير (شبكة النقل السلكي متوسطة الكثافة).
هذا هو نمط النقل في البلاد المنتجة للخامات الزراعية والكثيفة السكان، وتظهر هذه البلاد في داخل إطار النطاق المداري والموسمي من أمريكا اللاتينية (البرازيل والأرجنتين بصفة خاصة) في الغرب إلى عدد من دول أفريقيا الغربية، وخاصة نيجيريا وغانا، وغالبية دول البحر المتوسط والشرق الأوسط والهند وباكستان وجنوب شرق آسيا وشرقها، ويدخل في هذا النطاق أيضا دول الإنتاج الزراعي الجنوبية: نيوزيلندا وأستراليا وأفريقيا الجنوبية.
وفي داخل هذا النطاق أيضا نجد مناطق هامشية كبيرة لا تدخل هذا النمط من النقل المتوسط الكثافة. وكل داخلية أمريكا تمثل مناطق هامشية. وكذلك الأجزاء الشمالية من غرب أفريقيا والمناطق القليلة السكان في دول البحر المتوسط الأفريقية والآسيوية، وإيران والأناضول وأفغانستان والغالبية الساحقة من الجزر الآسيوية الجنوبية الشرقية والغالبية الساحقة من أستراليا الشمالية والوسطى.
خريطة 3-6: نموذج لنمط النقل البسيط: النقل في زائيري وحوض الكنغو. لاحظ كيف تتابع وسائل النقل النهري والحديدي لتكون طريقا واحدا، ولاحظ عدم وجود شبكة نقل بأي صورة، ولا وجود لخطوط أو وسائل نقل متنافسة، وسيطرة ميناء واحد على الدولة. (3)
شبكة نقل بسيط يسيطر عليها عنصر واحد من وسائل النقل (غالبا الأنهار أو خط حديدي منفرد أو طريق واحد تتعاقب فيه وسائل المواصلات إذا كانت هناك عقبات أمام وسيلة النقل). أما النقل بالأنابيب فيكاد يكون منعدما إلا في حالات إنتاج البترول. أما المواصلات السلكية فلا تكون شبكة، بل تتركز بدرجة كثافة قليلة أيضا داخل المدن، المواصلات اللاسلكية هي الأساس في الاتصال بأجزاء الدولة أو الإقليم، وأحيانا يكون للطيران أهمية واضحة في نقل الأشخاص، إذا كانت مساحة الدولة كبيرة كزائيري والبرازيل، والنقل البحري غالبا ما يقوم على أساس ميناء واحد للإقليم الجغرافي، بغض النظر عن الحدود السياسية للدول.
ويتمثل هذا النمط من النقل البسيط في داخل النطاق الاستوائي عامة، ومناطق القلة السكانية الملحوظة والاعتماد على إنتاج الخامات المعدنية، أو بعض الخامات الزراعية مثل حوض الأمازون، وحوض الكنغو، ونطاق السفانا الأفريقية، بما في ذلك السودان وإثيوبيا والصومال وشرق أفريقيا، ودول البترول العربية، كما يتعدى هذا النمط من النقل المناطق الحارة إلى المناطق القطبية في الشمال الأورو آسيوي وألسكا وكندا الشمالية، وداخلية الصين وسيبيريا ومنغوليا.
ولبيان مدى الاختلاف في هذه الأنماط الثلاثة من النقل، قارن بين شبكة النقل المتعددة في الراين الأدنى أو شمال شرق الولايات المتحدة، أو جنوب اليابان كنماذج للنمط الأول، وشبكة النقل في مصر أو لبنان أو سهل الهندوستان أو الصين أو سهول البمبا في الأرجنتين، أو جنوب شرق أستراليا أو نيجيريا الجنوبية الغربية كنموذج للنمط الثاني، والنقل البسيط في حوض الأمازون أو جمهورية زائيري أو إثيوبيا أو السعودية أو منغوليا أو ألسكا كنماذج للنمط الثالث من أنماط النقل. (4) نواح من مشكلات اقتصاديات النقل (4-1) حسابات القيمة الإنتاجية للنقل
من المتفق عليه أن النقل عملية إنتاجية، فكيف يخلق النقل قيمة إنتاجية؟ إن عملية النقل يمكن أن يعبر عنها بأنها مقياس زمني للمسافة المكانية بين منطقة الإنتاج ومركز الاستهلاك؛ أي مقياس زمني بين مواقع تبادل المنفعة. ويمكن أن يفلسف الفرق بين عمليتي الإنتاج والنقل على أنه شيء مماثل للفرق بين النقطة والخط؛ فالإنتاج يحدث في نقطة أو عدة نقاط متجمعة. أما النقل فهو عملية إنتاجية تحدث على طول خط حركة، وليس عند نقطة ثابتة؛ ومن ثم فإن مشاكل النقل لها صفات مكانية مختلفة تماما عن مشكلات الإنتاج، وذلك بحكم أن النقطة تختلف عن الخط «باعتبار أن الخط عبارة عن عدد لا نهائي من النقط المتلاصقة».
ويترتب على ذلك أن عملية الإنتاج في النقل تحدث عند أي نقطة من نقاط الخط وليس عند نقطة واحدة ثابتة، فمجرد مرور القطار أو السيارة، أو غيرهما من وسائل النقل - على طول خط الحركة - هو في حد ذاته عملية إنتاجية تزيد فيها القيمة الإنتاجية للنقل بازدياد المسافة المكانية. كما أن القيمة الإنتاجية للنقل يمكن أن تزداد خلال الطريق بإضافة حمولة جديدة لمسافة معينة أو لنهاية الخط؛ ومن ثم فإن المساهمة الإجمالية لكل النقاط على طول الخط أثناء السير، هي التي تكون القيمة النهائية التي تخلقها خدمات النقل.
وعلى هذا فإن القيمة الإنتاجية للنقل تساوي الفرق بين قيمة السلعة قبل النقل وبعده. وبعبارة أخرى فإن أجور النقل هي القيمة الإنتاجية التي تخلقها خدمات النقل، أو هي الدخل أو العائد لهذا النوع من النشاط الاقتصادي، وهو بذلك «دخل معتمد على الحركة بين النقطتين النهائيتين للطريق»، وبين عدد لا متناه (نظريا) من النقاط المتوسطة طوال الطريق.
ولما كان خلق القيمة معتمدا على الحركة، فإن إدارات أو شركات النقل تعتمد اعتمادا أساسيا على مجموعة كبيرة من الحسابات لكي تتمكن من تحديد لائحة أجور لنقل الأشخاص أو البضائع لمسافات مختلفة، فتحديد تعريفة النقل يترتب عليه نجاح أو فشل عملية النقل في تحقيق العائد الضروري للوفاء بكافة الالتزامات. وفي العادة تحسب الإنفاقات الإجمالية مثل أجور العمال والتشغيل وإيجارات الأراضي أو الأبنية أو المخازن، والفوائد المستحقة على الديون أو السندات التي تكون بواسطتها رأسمال الشركة أو الهيئة القائمة بتشغيل خط أو خطوط النقل، وتعادل هذه الجملة بحسابات الربح أو الخسارة على ضوء توقعات حركة النقل بالنسبة لأجور معينة؛ ولهذا لا بد من توافر سجلات دقيقة عن كل الإنفاقات والدخول في المكاتب الرئيسية وفي محطات الطرق وفي نهاياتها وبداياتها، وفوق هذا يجب أن يضاف حساب أجور النقل على الخطوط المنافسة. (4-2) مواقع الطرق
من خلال حساب خلق المنفعة في النقل ظهرت عدة آراء ونظريات عن المواقع التي يمكن أن تنشأ فيها الطرق بحيث تكون عمليات النقل عليها غير خاسرة، وتمر عملية إنشاء خط حركة بمرحلتين متكاملتين يلخصهما التساؤل عن: (1) هل هناك مبرر اقتصادي لإنشاء خط الحركة؟ (2) أي المواقع يجب أن يطرقها خط الحركة ويمتد عبرها؟
أولا:
مبررات إنشاء خط حركة: يبدأ التفكير في إنشاء تسهيلات جديدة في النقل في منطقة ما على أساس حسابات وتوقعات كثافة الحركة الاقتصادية للبضائع والأشخاص، على أن تكون هذه الحسابات مبنية على دراسة فعلية لحساب الأرباح والخسائر، وتبدأ العملية بوضع «فرض» أو «توقع» أو «تنبؤ» للحركة المنتظر مرورها على الخط المزمع إقامته، ثم تعمل حسابات تقديرية لتكاليف الإنشاء. ولا شك أن أول تعرف على احتياج منطقة ما لخط مواصلات جديد أو إضافي، ينبع من دراسة القدرات الكامنة للتنقل بين نقطتين على ضوء دراسة الحركة على الخط أو الخطوط الموجودة فعلا بين هاتين النقطتين، ويتبع ذلك دراسة توقعية أخرى لمدى ما سيؤدي إليه إنشاء الخط الجديد من خلق مسببات لزيادة حركة التنقل بين النقطتين، وقد تؤدي كل هذه الدراسات إلى قرار بإنشاء خط جديد، أو قد تؤدي إلى قرار بشراء حقوق خط موجود فعلا بهدف إدارته بطريقة أكثر كفاءة، وذلك بوضع استثمارات جديدة في منشآته ووسائل النقل التي تجري عليه أو تحسينه إداريا، وفي كلتا الحالتين - إنشاء خط جديد أو تحسين خط موجود - لا بد من عمل الكثير من الحسابات الخاصة بتكاليف التشغيل، وعلى العموم فإن التنبؤ بالتكاليف يعتمد على التوقعات المطروحة عن كثافة الحركة المرتقبة على الخط.
ثانيا:
اختيار موقع الطريق: يتبع الخطوة السابقة توقعات دقيقة لحسابات الدخل المنتظر، فبين أي نقطتين هناك في العادة عدد من الخطوط التي يمكن أن تصل بينهما، والخطوة الأساسية هي اختيار الخط الأفضل حتى يمكن أن يحصل التعادل بين مجموعتين من الاعتبارات؛ أولاهما: تلك التي من شأنها أن ترفع الدخل الناتج من التشغيل، والثانية: تلك التي يمكن أن تؤدي إلى خفض الأرباح.
ومن بين الاعتبارات الهامة في زيادة الدخل، محاولة توقع كمية الحركة التي يمكن أن يحملها الخط في النقاط المتوسطة بين نقطتي البداية والنهاية . وهناك في الواقع خطوط حركة ناجحة لأن مواقعها تؤدي إلى ضمان حركة نقل متوسطة، أو لأن هذه الخطوط قد نجحت في خلق حركة متوسطة، ومع ذلك فإن هناك خطوطا أخرى أساسها خدمة مباشرة بين نقطتي البداية والنهاية.
ولا يتوقف اختيار الطريق على هذه الاعتبارات فقط، بل هناك عوامل أخرى تلعب دورها الهام في اختيار مواقع الطرق، فأحيانا تكون أقصر المسافات بين نقطتين هي أنجحها من حيث تقصير المسافة والإقلال من مصاريف الإنشاء والتشغيل، لكن هناك عوائق جغرافية قد تقف عقبة أمام الطريق الأقصر تجعل نفقات تشغيله أعلى من الطريق الأطول، مثلا ارتقاء منحدرات عالية، أو المرور بمنطقة مستنقعية، أو عبور مجار مائية عديدة، أو وجود موسم يتعرض فيه الطريق للجليد أو الانهيارات الجليدية - كل هذه العوائق وغيرها تحتاج إلى استعدادات خاصة لا بد من إيجاد استثمارات لها إذا أريد فتح الطريق أمام الحركة بصفة مستمرة؛ ولهذا قد يكون الطريق الأطول أوفر ربحا في تشغيله، هذا بالإضافة إلى أن الطريق الأطول غالبا ما يمر بمناطق عمرانية تزيد من حركة النقل في منطقته الوسطى.
وفي الواقع تدل الدراسات الخاصة بتوقعات الحركة على طرق المواصلات، على أن الطرق القليلة التكلفة عند إنشائها ليست هي الطرق الأقل أجورا في نقل البضائع والأشخاص؛ نظرا لارتفاع نفقات تشغيلها، وبرغم ذلك فإن هناك عدة اعتبارات، سياسية أو استراتيجية أو اجتماعية، كانت تتدخل - ولا تزال - في اختيار الطرق ومساراتها لأسباب غير اقتصادية في كثير من الأحيان، ولكن مثل هذه الخطوط - كما سبق القول - تصبح على مر الزمن محاور لنشاط اقتصادي مستحدث، إلى جانب وظيفتها الأولى التي أنشئت من أجلها.
وفي الفترة الأخيرة دخل اتجاه حديث على موضوع معالجة وفهم خطوط المواصلات، والهدف الأساسي من الاتجاه الحديث هو النظر إلى الطرق كلها على أنها تكون نظاما للنقل والحركة وليست مجرد طرق فردية، ويطلق على هذه النظرة التجميعية الشبكة الهندسية، وبمقتضى ذلك ينظر إلى الطرق الجوية أو البرية على أنها بناء متكامل يربط عدة نقط (مدن)، وأن أية إضافة على هذه الشبكة لن تعني ربط نقطة بأخرى، بل نقطة بكل النقط التي تربطها الشبكة من قبل؛ ومن ثم فإن الإضافات الجديدة تخلق استجابات جديدة في كل الشبكة، وفي الواقع فإن نظرة الشبكة هذه ترتبط في أساسها بقيام عملية التخطيط والتنمية في المجالات الاقتصادية، التي تأخذ في الوقت الحالي نصيبا متزايدا من اهتمامات المفكرين والسياسيين والاقتصاديين، سواء في العالم النامي أو المتقدم.
وفي المجموع فإن قرارات إنشاء الطرق الجديدة عملية معقدة مركبة يحسب فيها حسابات كثيرة من وجهة نظر اقتصاديات النقل، بالإضافة إلى اعتبارات أخرى اقتصادية وبشرية وطبيعية. وقد أصبح اختيار الطريق من بين الاهتمامات التي تشغل بال الجغرافيا الاقتصادية وجغرافية النقل لما لها من حساسية وتأثيرات تنعكس على موضوع الإنتاج والتجارة الداخلية والخارجية معا. (4-3) وسائل نقل مختلفة وتكلفة نقل مختلفة
لكي نفهم بعض الأصول الأساسية في عمليات النقل، يلزمنا أن نعرف كم يتكلف النقل للتغلب على جاذبية الأرض واحتكاك وسيلة النقل بالأرض؛ أي كم تتكلف حركة وسيلة النقل بالنسبة للشحنة أو الأشخاص. وإحدى وسائل القياس هي معرفة تكلفة النقل بالنسبة للطن الواحد لكي يتحرك ميلا واحدا. وهذه النسبة هي التي يطلق عليها طن/ميل
Ton-mile .
وليس من السهل حساب تكلفة طن/ميل بالنسبة لكل وسائل النقل في كافة ظروف التشغيل، وتشتمل ظروف التشغيل على حسابات تحرك وسيلة النقل في طريق معبد أو غير معبد، في بيئة جبلية أو سهلية، في الشتاء أو في الصيف، في موسم الأمطار أو الجفاف، في البيئة القطبية أو الاستوائية، في جو عاصف مفاجئ أو في ظروف جوية عادية، فلكل من هذه الظروف احتياجات خاصة تؤدي إلى اختلاف حسابات التكلفة بالنسبة لوسيلة النقل ذاتها مع تغير الظروف، وليس هذا هو كل الاختلاف، بل هناك أوجه اختلاف أخرى مصدرها البشر وكثافة البشر وكثافة النشاط والحركة البشرية.
فبالنسبة لوسيلة النقل ذاتها يحدث اختلاف في التكلفة بين حركة ميناء حر وآخر مقيد بالجمارك، وبين حركة النقل في ميناء واسع مجهز، وبين ميناء آخر يضيق بالسفن ويؤخر شحنها أو تفريغها، بين ميناء تسير فيه الحركة طبيعية في وقت ما، ويضرب فيه عمال الشحن أو موظفو الميناء في وقت آخر، بين ميناء تخدم ظهيره وسائل نقل منتظمة وآخر تتذبذب فيه حركة النقل البري، وينطبق هذا على الموانئ الجوية والطرق البرية ومحطات السكك الحديدية. وهناك إذن عشرات المسببات التي تؤدي إلى تغير تكلفة نقل الأشخاص والبضائع.
وبرغم هذه الاختلافات العديدة المتداخلة والمتشابكة، فإنه في الإمكان حساب متوسطات تكلفة نقل طن/ميل على وسائل النقل، باعتبار أن ظروف تشغيلها عادية، ومن هذه الحسابات يتضح الكثير من الفروق في التكلفة كما يظهر من الأرقام التالية:
جدول 3-1: تكلفة نقل «طن/ميل» بوسائل النقل المختلفة.
النقل القديم
النقل الحديث
الوسيلة
سنت أمريكي للطن
الوسيلة
سنت أمريكي للطن
النقل بواسطة الحمالين: تكلفة الحمال الواحد
من 25 إلى 100
سفن البحيرات العظمى الأمريكية
0,1
عربات الخيل
25
السفن المحيطية
0,2
السفن النهرية
0,4
السكك الحديدية
1,4
النقل البري بالشاحنات
6
النقل الجوي
21
ويتضح من هذه الأرقام المتوسطة عدة حقائق نوجزها فيما يلي:
أولا:
أن النقل بالوسائل القديمة كان أعلى من مثيله بالنسبة للوسائل الحديثة، وينبع هذا أساسا من أن سعة الحمولة في وسائل النقل القديمة أقل بكثير من مثيلاتها في الوسائل الحديثة، ويكفي للمقارنة أن نتصور قدرة الحمال على النقل بالمقارنة بشاحنة حديثة تجري على الطريق السريعة من حيث الكمية المنقولة، ومن حيث السرعة في الأداء، وبالمناسبة فإن هذه المتوسطات الرقمية لتكلفة النقل تعطينا دليلا جديدا على صعوبة النقل في الماضي؛ ومن ثم اقتصار التجارة العالمية على السلع ذات القيمة، وتجنب السلع التي لها بدائل محلية كأنواع الأغذية والمنتجات الحرفية التي تستخدم في الأغراض اليومية (الفخار والأواني المستخدمة في الطهو)، بينما نجد التجارة العالمية في الوقت الراهن تتناول كل الأشياء المنتجة - غذائية أو حرفية، فضلا عن السلع الصناعية - وذلك بفضل التيسيرات التي قدمها نمو وسائل النقل.
ثانيا:
هناك فوارق كبيرة بين تكلفة النقل بالنسبة للوسائل المختلفة، والقاعدة العامة هي أن اتساع حجم الوسيلة وزيادة استيعابها للحمولات المنقولة تعمل على تخفيض أسعار النقل، ولما كانت وسائل النقل المائي عامة أكبر حجما فإنها بالضرورة أرخص كثيرا في أجور النقل، ويكفي أن تعرف أن النقل الجوي يكلف مائة ضعف أو أكثر بالمقارنة بالنقل المحيطي، وأن النقل الحديدي يكلف حوالي ربع تكلفة النقل البري، وهذا يفسر لنا الأهمية الضخمة للنقل البحري العالمي، ويوضح اعتماد التجارة العالمية على هذا النوع من النقل اعتمادا أساسيا، وبالمثل نرى أهمية النقل الحديدي بالمقارنة بالنقل البري، إلا في حالات خاصة. وكذلك تتضح أهمية النقل النهري الداخلي حتى بالمقارنة بالنقل الحديدي.
ثالثا:
إن الانخفاض المذهل في تكلفة النقل بالنسبة لسفن البحيرات العظمى الأمريكية يوضح لنا كيف أن وسائل النقل الخاصة بسلعة معينة يمكن أن تؤدي إلى هذا الاقتصاد الهائل في تكلفة النقل، فسفن البحيرات العظمى الأمريكية تتخصص في نقل خام الحديد من مناطق الإنتاج حول بحيرة سوبيريور إلى مناطق الصناعة الثقيلة حول بحيرة إيري. وكذلك هناك سفن خاصة تنقل الحبوب في البحيرات العظمى في الاتجاه نفسه؛ أي من مناطق الإنتاج في السهول الأمريكية الوسطى إلى مناطق الاستهلاك الضخمة داخل نطاق الصناعة والخدمات في شمال شرقي الولايات المتحدة وشرقي كندا، وفي مقابل ذلك تنقل السفن الفحم من موانئ بحيرة إيري إلى البحيرات الغربية. ولا شك أن تكلفة النقل في ناقلات البترول الخام والمكرر، وأنابيب نقل البترول والغاز الطبيعي، وأسلاك الكهرباء، وغيرها من وسائل النقل الخاصة، تؤدي بدورها إلى تكلفة نقل شديدة الانخفاض.
وإلى جانب هذه الحقائق النسبية التي توضح أثر التكلفة في نمو شكل أو أشكال من نمط التجارة الداخلية أو الدولية، فإن هناك عوامل أخرى غير أجور النقل، تتحكم أو تساعد على اختيار السلع لوسائل نقل معينة. وبعبارة أخرى فإن تكلفة النقل ليست كل شيء في عمليات النقل.
والتأمين هو من بين العناصر التي تلعب دورا هاما في رفع أو خفض تكلفة النقل؛ ذلك أن كل السلع المنقولة - بما في ذلك وسيلة النقل - مؤمن عليها من قبل شركات التأمين المختلفة، محلية كانت أو عالمية، وتمثل شركة اللويدز أكبر شركات التأمين في النقل البحري، ومما لا شك فيه أن ارتفاع قيمة التأمين أو انخفاضه يمكن أن يؤدي إلى تغير في جملة تكلفة النقل، وبذلك يلعب التأمين دورا منافسا بين شركات ووسائل النقل المختلفة.
ومن المعروف أن أجور النقل ترتفع كلما كانت مسافة النقل طويلة، لكن الملاحظ أن هذه الأجور لا ترتفع إلى ما لا نهاية، بل نجد نسبة تزايد الأجور تأخذ في الانخفاض بعد مسافة معينة، تحسب لكل وسيلة نقل في كل بيئة جغرافية واقتصادية وحضارية حسابا خاصا، ومعنى ذلك أن منحنى الأجور الخاصة بالنقل يأخذ في الانخفاض تدريجيا، ولا يزيد زيادة مطردة كلما طالت مسافات النقل، ولو كان الأمر غير ذلك لشكلت أجور النقل عبئا على التجارة لا تحتمله السلع التي تسوق في أماكن بعيدة عن مراكز إنتاجها.
ومع ذلك كله، فإنه يمكن التحكم في أسعار النقل بحيث لا تشكل إضافة خطيرة لسعر السلعة، وبذلك يصبح النقل أداة هامة من أدوات تخطيط الإنتاج السلعي وتوجيه حركته نحو السوق. ومن أهم طرق التحكم في أجور النقل تخطيطه في كل منطقة بحيث يصبح مرتبطا بوسيلة نقل معينة، أو إنشاء وسائل نقل خاصة بسلع معينة؛ مما يؤدي إلى خفض التكلفة كثيرا، وذلك برغم ما يتكلفه بناء الوسائل الخاصة في النقل من رأسمال تأسيسي، لكن العائد الاقتصادي في النهاية أكبر من النقل المشترك.
ومن الأمثلة القريبة للذهن أن الشحن بالقطارات أو السفن أو الطائرات المخصصة لركوب الناس أعلى أجورا من الشحن في قطارات البضائع أو السفن والطائرات المخصصة للشحن فقط. وكذلك الحال في نقل خام الحديد أو الحبوب أو الرمال في ناقلات مائية خاصة أرخص اقتصاديا من نقلها في سفن عادية، وبالمثل يصدق ذلك على نقل البترول في سفن خاصة، أو أنابيب، والأمثلة كثيرة: الغاز الطبيعي، والتيار الكهربائي من بين أمثلة أخرى كثيرة. (5) نظريات في مواقع الإنتاج والسوق وتكلفة النقل
نظرا للدور الذي يلعبه النقل في تسويق المنتجات أيا كانت، زراعية أو تعدينية أو صناعية، فإن كثيرا من الكتاب قد تكلموا عن نظريات خاصة بأثر النقل في التسويق، وبذلك تحديد مواقع الإنتاج الأولي والثنائي بالنسبة للأسواق. وفيما يلي عرض موجز لبعض هذه النظريات: (5-1) حلقات فون تونن
Von ThÜnen
1
كان يوهان هاينريخ فون تونن (1783-1850) - العالم الألماني - أول من كتب كتابة علمية مبكرة عن مواقع الإنتاج الأولي بالنسبة للسوق، نتيجة خبرته في إدارة إقطاعية زراعية لمدة أربعين عاما بالقرب من مدينة روشتوك (ميناء ألمانيا الشرقية حاليا على بحر البلطيق). وخلاصة النظرية ما يلي: (1)
إذا تصورنا مدينة واحدة منعزلة عن الاتصال بأية مدن أخرى، وتسيطر على ظهير إنتاجي خاضع لنفوذ سوق المدينة. (2)
وأن الظهير متناسق المظاهر من الناحية الطبيعية (مقومات الإنتاج الزراعي والرعوي والغابي من حيث ظروف التربة والتضاريس والمناخ)، وأنه ينتج محاصيل العروض الوسطى (كما هو الحال في مزرعة تونن). (3)
وأن الفلاحين راغبون في رفع أرباحهم بتعديل نمط إنتاجهم حسب طلب السوق. (4)
وأن هذا الظهير تخدمه وسيلة واحدة من وسائل النقل الأرضي (عربات الخيل في عصر فون تونن). (5)
فإن النتيجة هي أن تكلفة النقل تصبح مطردة الزيادة مع ازدياد المسافة بين مكان الإنتاج والسوق. ويترتب على ذلك أن أرباح الإنتاج هي التي تصورها معادلة فون تونن: ر = ق − (ت + ن).
حيث «ر» = الأرباح. «ق» = قيمة السلعة في السوق. «ت» = تكلفة الإنتاج. «ن» = تكلفة النقل.
ولتوضيح ذلك ساق فون تونن مثالين: الأخشاب والحبوب على النحو التالي:
جدول 3-2
إنتاج فدان من الأخشاب
إنتاج فدان واحد من الحبوب
البعد عن السوق «كم»
سعر السوق «ق»
تكلفة الإنتاج «ت»
تكلفة النقل «ن»
الربح «ر»
سعر السوق «ق»
تكلفة الإنتاج «ت»
تكلفة النقل «ن»
الربح «ر»
1
200
140
20
40
80
50
6
24
2
200
140
40
20
80
50
12
18
4
200
140
80
80
50
24
6
6
200
140
120
80
50
36
ويتضح من هذا أن حجم الإنتاج يؤدي إلى زيادة تكلفة النقل، فحيث إن حجم الأخشاب أكبر بكثير من حجم الحبوب، فإنها تستدعي عدة رحلات من الحقل إلى السوق بنفس وسيلة النقل؛ لهذا فإن نقل إنتاج فدان من الأخشاب يكلف أكثر من ثلاث مرات نقل إنتاج نفس الفدان من الحبوب.
وعلى ضوء ذلك فإن المنتج السلعي ذا الحجم الكبير (كالأخشاب) يجب أن يكون أقرب إلى السوق من المنتج ذي الحجم الأصغر؛ وعلى هذا يخرج فون تونن بدوائر إنتاجية مختلفة حول المدينة، وعلى أبعاد تمكنها من الربح الأعلى. وهذه هي حلقات فون تونن، كما يوضحها شكل رقم
3-1
السابق.
وبالرغم من أن تجربة فون تونن قد تقادم عليها العهد كثيرا، فلم تعد هناك وسيلة نقل واحدة بالطريقة التي عاشها (حجم محدود في النقل)، وبالرغم من الافتراضات الكثيرة التي وضعها لصياغة حلقاته - وكلها افتراضات نظرية - برغم ذلك كله فإن لهذه النظرية حتى الآن وجها من الصحة والقوة. صحيح أنه من الصعب أن نجد مكانا منعزلا، كما جاء في «دولة» فون تونن الافتراضية، وصحيح أن وسائل النقل من حيث السعة والسرعة والكفاءة، قد باعدت كثيرا بين واقعنا اليوم وواقع القرن 18، ولم تعد تكلفة النقل متزايدة باطراد زيادة المسافة، ولكن هناك تنظيما ما يقترب كثيرا من تنظيم فون تونن حول الأسواق المحلية أو الرئيسية، فما لم تكن هناك وسائل نقل رخيصة للمنتج الكبير الحجم، فإن هذا المنتج يميل إلى التمركز في حلقة قريبة من السوق.
ويضاف إلى ذلك عوامل أخرى كثيرة غير النقل، ومن بين هذه العوامل مدى تحمل المنتج للنقل الطويل. فالسلعة التي تتعرض للعطب السريع تنتج قريبا من السوق، والسلعة ذات الربح الأوفر هي التي يمكنها أن تتحمل إيجارات الأراضي المرتفعة القريبة من الأسواق، بينما تذهب السلع الأقل ربحا إلى حلقات إنتاجية بعيدة عن السوق؛ وعلى هذا يمكننا أن نقول إن الخضروات أو الألبان يجب أن تحتل الحلقة المجاورة للمدينة؛ لأنها من السلع السريعة العطب التي لا تتحمل نقلا طويلا، ولأن أرباحهما وفيرة، هذا في الوقت الذي تحتل فيه الحبوب وإنتاج الجبن أو الزبد حلقات خارجية.
وخلاصة القول أن نظرية فون تونن كانت نظرية رائدة في الدراسات الاقتصادية عامة، وأنها أوضحت أثر النقل على تنظيم أنماط الإنتاج في علاقتها بالسوق، وأن لهذه النظرية بعض القوة التطبيقية حتى وقتنا الراهن.
شكل 3-1: حلقات فون تونن
Von Thunen . (1) المدينة المركزية. (2) الطريق (يتشكل هنا من نهر ملاحي). (3) زراعة الحدائق ومنطقة إنتاج الألبان. (4) منطقة التحطيب (إنتاج الأخشاب وحطب الوقود). (5) زراعة الحبوب بدون فترة راحة (بور ). (6) زراعة الحبوب مع دورة بور + تربية الحيوان. (7) حبوب في دورة ثلاثية. (8) رعي الحيوان. (9) مدينة صغيرة لها مجالها التجاري الخاص. لاحظ في هذا الرسم للمدينة الافتراضية المنعزلة أن التجارة عبارة عن إنتاج أولي موجه إلى سوق مركزية واحدة هي المدينة، مع استخدام طريق واحد «النهر في هذا الشكل». النصف الأيمن من الدائرة يوضح الترتيب الواقعي لنطاقات الإنتاج على طول محور الطريق باتجاه المدينة (السوق)، وأن هذا الترتيب مرتبط بتكلفة النقل لكي يكون هناك ربح من عمليات الإنتاج والتسويق. أما النصف الأيسر فيمثل الحلقات الافتراضية مرتبة على أبعاد متساوية من مركز السوق، على أساس تكلفة النقل أيضا. نقلا بتصرف عن:
J. w. Alexander, “Economic Geography” Préntice-Hall, 1963 . (5-2) نظرية فاقد الوزن وتكلفة النقل
تعبر هذه النظرية - في جوهرها - عن العلاقة بين فقدان وزن السلع المنتجة بالنسبة للخامات المستخدمة في صناعة هذه السلع، وبين تكلفة النقل، وبذلك فإن النظرية هي محاولة لفهم مواقع الصناعات بين السوق من ناحية وبين أماكن إنتاج هذه الخامات. ويوضح الجدول اللاحق حالات مختلفة للتعرف على نماذج تؤيد هذه النظرية.
ويتضح من هذه الحالات الافتراضية أنه كلما كان فاقد الوزن كبيرا، كان من الأوفق إقامة المصنع في مصدر الخامة، كما هو واضح في حالتي 3 و4، بينما نجد في حالتي 1 و2 أن فاقد الوزن أقل؛ مما دعا إلى إقامة المصنع في مركز الاستهلاك؛ أي السوق.
لكن هذه النظرية تركز كثيرا على تكلفة النقل فقط، وتفترض أن ما عداها من العوامل التي تلعب دورها في سعر المنتج، عوامل متساوية الأهمية، ولكن ذلك ليس صحيحا في حسابات الواقع، فسعر نقل الخامة أقل بكثير من سعر نقل السلعة المصنعة أو شبه المصنعة. فإذا أدخلنا ذلك في حساباتنا نجد أن السوق تصبح عامل جذب أكبر لتوطين الصناعة بالقرب منها، بغض النظر عن فاقد الوزن.
كذلك تغفل هذه النظرية حقيقة كون أجور النقل لا تتضاعف بتضاعف المسافات، على نحو ما أسلفنا من قبل، بل إن أجور النقل تكون عالية نسبيا في المسافات المحدودة. وخلاصة القول أن سعر نقل وحدة معينة لمسافة ألف كيلومتر لا يساوي عشرة أمثال نقل هذه الوحدة مسافة مائة كيلومتر، ويتضح ذلك من الرسم البياني رقم
3-2 .
شكل 3-2: حساب التكلفة الإجمالية لأجور النقل في خمس نقاط. «س» = السوق، أ، «ب»، «ج» = نقاط في وسط الطريق. «م» = مصدر الخامة. لاحظ أن سعر النقل الإجمالي يؤكد ضرورة إقامة المصنع في السوق؛ حيث إن نقل الخامة إلى السوق هو أكثر الطرق توفيرا في أجرة النقل، وفي السعر النهائي للسلعة. لاحظ كذلك أن تكلفة النقل لا تزيد بنسبة متساوية لزيادة المسافة؛ ومن ثم فإن المنحنى يميل إلى الانخفاض بعد نقطة معينة، فلو كانت الزيادة في أجور النقل مطردة مع المسافة لكان سعر نقل الخامة عند السوق 110 بدلا من 80، أو كان سعر نقل السلعة المصنعة 176 بدلا من 120. نقلا عن:
J. w. Alexander, “Economic Geography” Prentice-Hall, 1963 .
شكل 3-3: حساب التكلفة الإجمالية لأجور النقل في خمس نقاط. «س» = السوق. «م» = مصدر الخامة. «أ» = نقطة نقل إلى السكة الحديدية. «ب» = نقطة إعادة شحن من النقل النهري إلى البري. «ج» = نقل نهري.
لاحظ أن انخفاض تكلفة النقل الإجمالية في نقطة «ب» تجعلها أكثر النقاط ملاءمة لإقامة المصنع، على عكس النقاط الوسطي في الرسم البياني السابق؛ حيث لا توجد نقاط إعادة شحن.
جدول 3-3
الحالة
فقدان الوزن
تكلفة النقل إذا كان المصنع
في مصدر الخامة
في مركز السوق (1) 1000 طن خامة تصنع إلى 1000 طن سلع
صفر
نقل ألف طن سلعة إلى السوق بسعر 20 جنيها للطن من المصنع للسوق = 20000 جنيه
نقل ألف طن خامة من المصدر إلى المصنع بسعر 10 جنيهات للطن = 10000 جنيه (2) 1000 طن خامة تصنع إلى 600 طن سلع
40٪
نقل 600 طن سلعة من المصنع إلى السوق بسعر 20 = 12000 جنيه
نقل ألف طن خامة من المصدر إلى المصنع بسعر 10 جنيهات للطن = 10000 جنيه (3) 1000 طن خامة تصنع إلى 400 طن سلع
60٪
نقل 400 طن سلعة من المصنع إلى السوق بسعر 20 = 8000 جنيه
نقل ألف طن خامة من المصدر إلى المصنع بسعر 10 جنيهات للطن = 10000 جنيه (4) 1000 طن خامة تصنع إلى 500 طن سلع
50٪
نقل 500 طن سلعة بسعر 17 جنيها للطن = 8500 جنيه
نقل ألف طن خامة من المصدر بسعر 9 جنيهات للطن = 9000
ويتضح من الشكل البياني رقم
3-2
أنه لو كان المصنع قد أقيم في مصدر الخامة، فإن تكلفة نقل السلعة المصنعة إلى السوق تصبح 120 وحدة للطن الواحد، بينما لو شيد المصنع في السوق لأصبح سعر نقل الخامة إلى السوق 80 وحدة فقط؛ ومن ثم يصبح من الأوفر اقتصاديا إقامة المصنع في مكان السوق. أما لو أقيم المصنع في أي من النقاط المتوسطة، فإن ذلك يعني تكلفة نقل الخامة إلى النقطة المختارة، يضاف إليها نقل السلعة المصنعة إلى السوق، فمثلا لو أقيم المصنع في نقطة «أ» فإن نقل الخام يصبح 30 وحدة + 112 وحدة هي تكلفة نقل السلعة المصنعة إلى السوق، وبذلك تكون جملة تكلفة نقل السلعة المصنعة إلى مركز الاستهلاك في السوق هي 142 وحدة، وباختصار فإن النقط المتوسطة في هذا الشكل أعلى تكلفة من نقطتي السوق ومصدر الخامة.
أما الشكل البياني رقم
3-3
فيعطينا مثالا آخر على إمكانية تفوق النقاط المتوسطة على نقطتي السوق ومصدر الخامة إذا توفرت فيه شروط معينة، أهمها أن تكون تلك النقطة ممثلة لمكان يتغير فيه نوع وسيلة النقل؛ أي من نقل بحري إلى بري، أو من نقل نهري إلى حديدي، وخلاصة ما يعطيه لنا هذا الشكل أن نقطة إعادة الشحن هي أنسب الأماكن لإقامة مصنع؛ لأنها أوفرها في تكلفة النقل: جملة التكاليف 117 وحدة (20 وحدة أجرة نقل الخام + 97 وحدة أجرة نقل السلعة المصنعة إلى السوق).
وفكرة النقاط الوسيطة على طول خط شحن تتغير فيه وسيلة النقل قد طبقت بنجاح كمواقع حديثة للصناعات؛ ومن ثم فإن الموانئ الكبيرة قد أصبحت في الفترة الأخيرة تضيف الوظيفة الصناعية إلى مجموع وظائفها الأخرى كتطور حديث في جغرافية الصناعة، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أن موانئ استقبال البترول الخام قد تحولت إلى مراكز للصناعات البتروكيميائية، وبدلا من إعادة شحن البترول الخام إلى مراكز الصناعة القديمة الداخلية، أصبحت مشتقات البترول تنقل في أنابيب وشاحنات خاصة في صورة مصنعة من الموانئ إلى مراكز الاستهلاك . (5-3) نظرية فيبر ومثلث المواقع في الصناعة
A. Weber
في عام 1909 نشر العالم الاقتصادي الألماني ألفريد فيبر نظريته الشهيرة عن مواقع الصناعات. وقد ضمنها عددا من أفكار الاقتصادي الألماني فيلهلم لاونهارت
W. Launhardt
التي نشرها ثمانينيات القرن 18.
وقد قدم فيبر لنظريته بافتراض مشابه لافتراضات فون تونن من حيث عزلة مكان معين وتجانسه إقليميا (دولة متجانسة طبيعيا ومناخيا وسلاليا وسياسيا)، لكنه يختلف عن فون تونن في أنه يتحدث عن عناصر إنتاجية مختلفة في التوزع والندرة، فقال: (1)
هناك موارد منتشرة الوجود كالرمال والمياه، وموارد يتحدد ظهورها بأماكن محددة كالفحم والحديد. (2)
إن العمالة متوفرة، لكنها مركزة في أماكن محددة. (3)
ومن ثم فإن تكلفة النقل تصبح مرتبطة بالوزن والمسافة.
وقد انتهى فيبر إلى القول بأن مواقع تشييد المصانع يجب أن تكون استجابة لثلاث قوى، هي: القيمة النسبية لتكلفة النقل، وتكلفة العمالة، وأخيرا عنصر «التجمع».
ويمكن أن نوضح نظرية فيبر بالأمثلة التالية:
أولا:
في حالة وجود سوق واحدة وخامة واحدة: (1)
إذا كانت الخامة منتشرة في أماكن عديدة فالمصنع ينشأ في السوق؛ حيث إن تكلفة النقل ستدفع فقط بالنسبة للخامة. (2)
إذا كان مصدر الخامة متوطنا في مكان معين. وكان الخام لا يفقد وزنا، فإن المصنع يقام في مصدر الخامة أو السوق بدون بروز عامل حاسم في التفضيل. (3)
إذا كان مصدر الخامة متوطنا وتفقد الخامة وزنا أثناء عملية تصنيعها، فإن المصنع ينشأ على الفور في مكان وجود الخامة.
ثانيا:
في حالة وجود سوق واحدة ومصدرين للخامة نجد الحالات التالية: (1)
الخامتان «أ»، «ب» منتشرتان؛ فإن عملية التصنيع تكون في السوق. (2)
خامة «أ» منتشرة، وخامة «ب» متوطنة في مكان، وبافتراض أن كليهما يشكلان خامات نقية أو قليلة الشوائب؛ فإن المصنع يقام في السوق؛ وذلك لأن تكلفة النقل سوف تدفع على الخامة «ب». أما إذا أقيم المصنع في مكان الخامة «ب» فإن تكلفة النقل سوف تدفع على السلعة المصنعة. وبما أن الخامتين لا تفقدان وزنا، فإن معنى ذلك أن تكلفة نقل السلعة المصنعة ستكون أعلى لأن وزنها = وزن الخامتين معا. (3)
الخامتان «أ» و«ب» نقيتان ومتوطنتان في مكانين، فإن المصنع يقام في السوق؛ لأن الخامتين سوف ترسلان إلى السوق مباشرة؛ وذلك لأنه لو أقيم المصنع في أحد مصادر الخامتين فإن النقل سيكون على النحو التالي: من مصدر خامة «أ» إلى مصدر خامة «ب»، ثم تصنع الخامتان وتنقل السلعة المصنعة إلى السوق، وهي في هذه الحالة تعني تكلفة نقل وزن الخامتين معا + تكلفة نقل وزن الخامة الأولى. (4)
إذا كانت الخامتان متوطنتين وتفقدان وزنا فإن الحل يصبح معقدا. وقد أدخل فيبر فكرة «مثلث المواقع» لحل هذه القضية (انظر الشكل رقم
3-4 ) بطريقتين، تبعا لظروف مختلفة. فإذا كانت إحدى الخامتين تفقد وزنا أكثر من الأخرى، فإن المصنع يقام إلى جوارها، أو إذا كانت الحاجة إلى إحداهما أكثر من الأخرى، فإن المصنع يقام عند مصدر هذه الخامة. أما الطريقة الثانية فتفترض أن فقدان الوزن متساو في كلتا الخامتين، والحاجة إليهما متساوية من ناحية الكمية؛ فإن المصنع يقام بينهما في نقطة «ج» لصغر المسافة بينهما وبين السوق (= 50كم من خامة أ إلى ج + 50كم من خامة ب إلى ج + 87كم من ج إلى السوق)، بينما تصبح المسافة المنقولة في أي من رءوس المثلث أكبر (100 + 100كم).
شكل 3-4: مثلث المواقع لألفريد فيبر. س = السوق. م1 = مصدر الخامة الأولى. م2 = مصدر الخامة الثانية. في الحالة الأولى ينقل الخام مباشرة إلى المصنع الذي يقام في السوق، ولا يشكل النقل تكلفة غالية. في الحالة الثانية تنقل الخامتان أولا إلى نقطة ج، ثم تنقلان معا إلى المصنع الذي يقام أيضا في السوق، وهو أقصر الطرق، ومن ثم أكثرها اقتصادا في عملية النقل (انظر النص).
وقد لقي مثلث فيبر هجوما على أساس: (1) أن تكلفة النقل لا ترتفع باطراد. (2) أن تكلفة النقل للخامات عادة أرخص من تكلفة نقل السلع المصنعة، وهذا هو الهجوم الذي تتعرض له حلقات فون تونن، وبرغم ذلك فإن نظرية فيبر تعد بحق الخطوة الكبرى في نظرية المواقع؛ ذلك أن النظرية يمكن أن تطبق على أرقام من واقع تكلفة النقل الفعلية، ويمكن تطوير «المثلث» إلى «مربع » مواقع في حالات معقدة مثل وجود سوقين وخامتين بدلا من سوق واحدة وخامتين.
ومما يذكر لفيبر أنه لم يقف موقف الملتزم الصارم بمثلث المواقع وأهمية تكلفة النقل في اختيار مواقع الصناعة، بل إنه قد اعترف بدور تكلفة العمالة كعامل آخر يحسب حسابه في مواقع الصناعة، فحيث تكون أجور العمال أرخص يمكن أن يصبح ذلك عامل جذب للصناعة. وقد ظهر ذلك بوضوح كعامل وراء خروج الاستثمارات الأمريكية إلى أوروبا واليابان، حيث العمالة الصناعية أرخص من مثيلتها في الولايات المتحدة.
وهناك نظريات أخرى مثل نظرية فيتر
F. A. Fetter
ونظرية تبادل التأثير بين الأسواق، وغيرهما. وهذه النظريات في مجموعها تسعى إلى توضيح أثر النقل على أماكن نشأة الصناعات في علاقتها بين السوق والإنتاج. (6) تعقد وتشابك مشكلات النقل
في ختام هذا الفصل الثالث نحب أن نؤكد على بعض النقاط الهامة في دور النقل كعامل مؤثر في النشاط الاقتصادي، ومن بين ما ترجع إليه أسباب هذا التأثير كفاءة الشحن والتفريغ مع قلة الخسائر إلى الحد الأدنى الممكن.
فالكفاءة تنطوي على معنيين: الأول سرعة الشحن والتفريغ؛ أي بعبارة أخرى عامل الزمن. والثاني قلة التكلفة في الشحن والتفريغ؛ أي مدى الاقتصاد في الأيدي العاملة التي تتولى هذه العمليات، ومدى استخدام الآلات الحديثة من روافع مختلفة الأحجام، ثابتة أو متحركة على محركات صغيرة. والتقليل من العمالة البشرية يعطي اقتصادا أكبر في تكاليف الشحن والتفريغ، حتى ولو كانت أجور العمال منخفضة في الدول النامية والمختلفة. ويرتبط بالكفاءة أيضا استخدام نظام «الصندقة» (من صندوق)
Container System ، وهو نظام حديث تعبأ بمقتضاه في داخل صناديق ضخمة حمولات كثيرة ذات اتجاه واحد؛ ومن ثم ترفعها الأوناش الكبيرة من القطارات أو الشاحنات إلى ظهر السفن، أو بالعكس، وفي هذا توفير للجهد والعمالة وزيادة في الأمان وتقليل التلف إلى الحد الأدنى.
وقلة الخسائر في عمليات الشحن والتفريغ تنطوي هي الأخرى على مفهوم واحد محدد؛ ذلك هو زيادة الأرباح، وعلى الرغم من أن كافة السلع والبضائع معرضة لبعض الخسائر أثناء عمليات النقل، فإن الإقلال من هذه الخسائر - ما أمكن - يؤدي إلى زيادة أرباح النقل من ناحية وأرباح السلعة في السوق من ناحية ثانية؛ وذلك لأن قيمة الخسائر تضاف عادة - أو تحسب على سعر السلعة. وأيا كان الأمر، فإن البضائع والسلع تختلف فيما بينها بطبيعة تعرضها للخسائر، أو درجة احتياجها لسرعة النقل. فخام الحديد الناعم يخسر حوالي 25٪ من وزنه أثناء عملية التفريغ والشحن، وبعض البضائع سريعة العطب؛ مما يؤدي إلى خسارة جزء منها مع طول انتظارها على أرصفة الموانئ أو في مخازنها.
النقطة الثانية هي أن شرايين المواصلات المفردة أو الشرايين المزدوجة التي تصبح وحدها دعامة النقل الرئيسية في إقليم أو دولة، تتعرض إلى ضغوط شديدة في عمليات النقل؛ مما قد يتسبب عنه تأخير أو تلف في بعض الأحيان. والأمثلة على ذلك خطوط السكك الحديدية في أستراليا الغربية أو سيبيريا الشرقية أو كندا الوسطى والغربية، أو أفريقيا الوسطى، أو خط حديد الصعيد في مصر، أو خطوط السكك الحديدية في السودان ... إلخ. والسبب الرئيسي راجع إلى عدم وجود طرق نقل أخرى مساعدة تجري موازية لهذا الخط أو ذاك، بل على العكس نجد أن طرق النقل الأخرى، برية أو نهرية، كثيرا ما تتعامد على محور النقل الرئيسي وتلقي بحمولاتها على عاتق الخط الرئيسي مما يزيد في أعبائه. وبذلك فإن النمط العام للنقل في مثل هذه الحالات يصبح متكاملا مع اختلاف وسيلة النقل، بينما كان يجب أن يكون منافسا أو مساعدا بمعنى وجود عدة طرق تجري في محور واحد. ومن الطبيعي أن تزداد الخسائر الناجمة عن كثرة الحركة في هذا النمط من النقل، خاصة إذا تعرض الخط إلى التعطل بفعل عوامل طبيعية، كالفيضانات أو الانهيارات الثلجية أو السيول المفاجئة، وذلك حسب اختلاف البيئات الطبيعية.
النقطة الثالثة هي أن وسائل النقل تتعرض لتأثير عدد من الظروف البشرية الطارئة التي تسبب توقف العمل فترات محدودة أو طويلة نسبيا. وأهم هذه الظروف إضرابات عمال الشحن من أجل رفع الأجور، ومما لا شك فيه أن الخلل الناجم عن الإضرابات - حتى لو استغرقت وقتا قصيرا - يتضخم كثيرا في سير عمليات النقل؛ لأنه يؤدي إلى ارتباك كبير في الزمن المتعاقد عليه من أجل نقل السلع، وتستغرق عملية إعادة الأمور إلى سيرها الطبيعي وقتا وجهدا إضافيين .
كذلك يحدث الإضراب بين عمال الشحن احتجاجا على البطالة التي يتسبب فيها دخول الآلات الحديثة في عمليات النقل بدلا من العامل البشري. ومما يزيد الأمور تكلفة أن هيئات الموانئ أو مرافق النقل تضطر إلى دفع معاشات تقاعد للعمال الذين تسببت الآلات الحديثة في تقاعدهم، وكل هذا يؤدي إلى زيادة رسوم النقل في الموانئ أو محطات السكك الحديدية، وهو بدوره يزيد تكلفة النقل.
وللتكنولوجيا الحديثة دورها أيضا في إحداث بطالة أو كساد في عدد من الموانئ النشطة سابقا، فإن كبر غاطس السفن نتيجة لزيادة حمولتها، كثيرا ما أدى إلى أحد أمرين: أولهما أن تهبط الحركة في الموانئ غير المجهزة لاستقبال هذه السفن من حيث عمق مياه المرفأ وأطوال أرصفته ومساحة مخازنه، وحجم شرايين النقل البري التي تخدم الميناء، ويؤدي ذلك إلى تحول السفن الكبيرة إلى موانئ أرحب وأكثر تلاؤما مع متطلبات النقل الحديثة، وفي هذا نلمح اتجاها واضحا نحو ازدياد احتكارية عدد قليل من الموانئ، بينما تكسد الحركة في موانئ كثيرة اعتيادية. والأمر الثاني أن تلجأ الموانئ إلى استثمارات ضخمة لتعميق الميناء وإطالة أرصفته، وتجهيزه بالوسائل الحديثة، وزيادة رقعة المخازن، وإيجاد وسائل نقل برية أكثر كفاءة، لمواجهة الحجم المتزايد للسفن والبضائع.
ومن بين الأسباب البشرية الأخرى التي تؤدي إلى تغير كبير في وظائف الموانئ بالارتباط باحتياجات العصر، نشأة موانئ جديدة أو أرصفة خاصة في الموانئ الواسعة، مخصصة ومجهزة لاستقبال ناقلات البترول الضخمة أو العملاقة، وإذا استمر اتجاه العالم إلى الاعتماد المتزايد على ناقلات ضخمة، فإن ذلك سوف يكون مصدر تهديد خطير للموانئ الصغيرة التي كانت تتعامل مع ناقلات البترول الصغيرة أو الاعتيادية.
ومجمل القول في هذا الصدد أن كثيرا من الموانئ التي لا تستطيع مواجهة أساليب النقل البحري والبري الحديثة، مضطرة - للأسف - إلى البحث عن أشكال جديدة من الوظائف والنشاطات الاقتصادية في قطاع الصناعة أو قطاع الخدمات؛ لمواصلة إمداد السكان بمصادر للرزق، فإذا كانت هذه الموانئ في مواقع ملائمة فإنها تتحول إلى تكثيف حرفة السماكة، أو الاتجاه إلى الصناعات التحويلية أو الصناعات الخفيفة، أو على الأقل إلى النشاط السياحي والترفيهي، وذلك حسب ظروفها الطبيعية ومواقعها وظهيرها. ورويدا رويدا قد تهدأ الحركة ويتحول السكان إلى مناطق أخرى، وتصبح هذه المدن الموانئ قرى هادئة يقصدها طلاب الراحة وأصحاب المعاشات! ولا شك أن هذه الصورة، مهما كانت درجة قتامتها، قد تكررت كثيرا في الماضي؛ فإن عهد السفن التجارية وسفن المحركات والموتورات قد قضى على نشاط كثير من الموانئ النشطة في عصر السفن الخشبية ذات الشراع، وأن كثيرا من هذه الموانئ قد تحولت في بريطانيا وفرنسا والبحر المتوسط وغير ذلك من أماكن، إلى النشاط الترفيهي والسياحي، أو على أحسن الفروض إلى قرى تعيش على السماكة.
ولا يقتصر الأمر على الموانئ البحرية أو النهرية أو مراكز تجمع المواصلات البرية الأخرى، بل إن عصر الطيران النفاث قد أحدث تغيرات سريعة جدا في مواقع المطارات وتجهيزاتها بالقياس إلى ما كانت عليه في عصر طائرات المحركات. فاحتياجات النفاثات السريعة إلى مدارج طويلة قد غير مواقع المطارات، وتكنيك الهبوط والإقلاع والشحن والتفريغ وقاعات استقبال الركاب، ويتذكر الكثير منا أحجام المطارات القديمة بالقياس إلى المطارات الحديثة.
وكما كانت هناك في عصر سفن الشراع موانئ بحرية عديدة في الإقليم الواحد، كان هناك في عصر طيران المحركات مطارات عديدة في الإقليم الواحد. وقد كان ذلك مرتبطا بمدى الطيران القصير لتلك الطائرات، وحاجتها إلى النزول للتزود بالوقود على مسافات معقولة. أما مدى الطيران في العصر النفاث فقد زاد كثيرا؛ مما دعا - من ناحية اقتصاديات النقل - إلى ضرورة تباعد المطارات؛ ومن ثم نما نمط الموانئ الجوية الاحتكارية، وأصبح هناك عدد محدود من المطارات في العالم، تشكل نقط التقاء رئيسية في خطوط النقل الجوي العالمية. أما المطارات الصغيرة القديمة فإنها تخدم النقل الجوي الداخلي الذي ما زال يستخدم أنواع الطائرات القديمة، أو نفاثات صغيرة قصيرة المدى بحيث يمكن تشغيلها اقتصاديا على شبكة الخطوط الداخلية في إقليم أو دولة.
وبرغم الاستثمارات الكبيرة في المطارات الدولية التي تخدم حركة الطيران النفاث، إلا أن التقدم التكنولوجي قد يؤدي بها إلى دور أقل أهمية ويؤدي إلى مزيد من احتكارية عدد أقل من المطارات في شبكة النقل الجوي العالمي. ومصدر هذا الخطر أننا على وشك الدخول في عصر طيران ما فوق حاجز الصوت، والسرعة الهائلة التي تطير بها مثل هذه الطائرات تضطر إلى تباعد أكبر بين محطات الإقلاع والهبوط، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن اختراق حاجز الصوت - وما يؤدي إليه من ضوضاء - قد يكون غير محتمل بالنسبة للمدن التي تمر فوقها، فإن أغلب الظن أن الاتجاه هو إلى إنشاء مطارات خاصة لهذه الطائرات بعيدة نسبيا عن المدن الحالية، واتخاذ مسارات جوية بعيدة عن مراكز التجمع المديني، ومعنى ذلك: (1)
استثمارات جديدة مقابل إنشاء المطارات الجديدة. (2)
إطالة خطوط الطيران فوق حاجز الصوت لتجنب مناطق المدن المركزية. (3)
إطالة زمن الانتقال البري من المطار إلى المدينة، أو اتخاذ وسيلة نقل جوية أخرى أكثر ملاءمة وأسرع كالهليكوبتر (الطائرات العمودية).
هذه التغيرات في مجملها تزيد من تكلفة النقل الجوي، وهو ما لا تسعى إليه شركات الملاحة الجوية إلا في أضيق الحدود لكي تصبح وسيلة نقل قادرة على المنافسة.
والخلاصة أن هناك عدة عوامل متداخلة تعقد مشكلات النقل في العصر الحديث، برغم الاستمرار في كثافته، نوجزها على النحو التالي: (1)
مجموعة متغيرات ذاتية: ونقصد بها المتغيرات التي تطرأ على تكنولوجية وسائل النقل بهدف توسيع أحجامها، ولكنها تؤدي إلى نمو نمط احتكاري في عدد يسير من نقط الانطلاق ونهايات خطوط الحركة أيا كان نوع وسيلة النقل. (2)
مجموعة متغيرات في اقتصاديات النقل: وهذه تؤدي إلى ارتفاع كبير في الاستثمارات والقروض والفوائد المدفوعة على تلك القروض، وكلها تعود وتنصب على أجور النقل وتشكل عبئا على كاهل الركاب أو الشاحنين. (3)
مجموعة العناصر الطبيعية: وهذه تتحكم أو تعطي أفضليات معينة لخطوط النقل بالارتباط بالتنظيم الطبيعي في الأقاليم أو الدول. (4)
مجموعة العناصر البشرية: وترتبط هذه بعدد كبير من العوامل البشرية تبدأ بالتوزيع الإقليمي للكتل السكانية ومراكز الأسواق الرئيسية، والتنظيم الإقليمي للنشاطات الاقتصادية المختلفة، وتنتهي بالتراكيب والمكونات السياسية التي تحدد وتوجه النقل في الإطار القومي أو الإقليمي أو الاتحادي. (5)
وأخيرا: فإن تفاعل هذه المتغيرات والعوامل معا يجعل من عملية النقل - وخاصة النقل التجاري الناجح - عملية حساسة وسريعة التذبذب ما لم تكن مرنة المرونة الكافية، ويدعو هذا إلى عقد عدد كبير من الاتفاقات الثنائية أو الإقليمية أو الدولية لتنظيم النقل، وإلى تخطيط مستمر للإبقاء على مرونته في مواجهة التغيرات السريعة الطارئة أو المستحدثة في أشكال الإنتاج وأنماط التسويق. وأخيرا وليس أخرا؛ أن يظل النقل نشاطا اقتصاديا رابحا، ومن أجل هذا تعقد كثير من المؤتمرات ويحدث الكثير من المشاورات والاستشارات على نطاق محلي ودولي في شتى مجالات النقل، بما في ذلك وسائل المواصلات البريدية والسلكية واللاسلكية.
الفصل الرابع
النقل البحري
(1) أهمية النقل البحري
عرفنا من قبل أن النقل البحري لم يكن أسبق وسائل النقل، لكن النقل المائي عامة كان أسبق وسائل النقل الثقيل الذي عرفه الإنسان، وهو ما زال حتى الآن؛ فالنقل الثقيل مرتبط أساسا بالنقل المائي البحري والنهري، وسوف نرجئ الكلام عن النقل النهري إلى الفصل السادس لأنه يرتبط أساسا بمجموعة وسائل النقل الداخلي على اليابس.
في الماضي لم يكن هناك منافس فعلي للنقل المائي فيما يختص بالسلع الكبيرة الحجم الثقيلة الوزن، وخاصة في عهد سفن الشراع، ولكن في يومنا الحاضر نجد البحار مليئة بالحركة البحرية والمنافسة على أشدها بين السفن الآلية الحديثة بجانب المنافسة التي يلقاها النقل البحري من جانب أشكال النقل البري المختلفة، وخاصة السكك الحديدية التي قللت كثيرا عمل السفن الساحلية والتجارة الساحلية، وفوق هذا فإن هناك الطيران التجاري كعامل جديد في المنافسة الحادة في نقل الأفراد،
1
وهو منافس له مستقبله في نقل السلع. وأخيرا فإن خطوط الأنابيب لنقل أنواع من السلع السائلة أو الغازية قد دخلت مضمار المنافسة مع النقل البحري.
جدول 4-1: نمو حركة النقل البحري لسلع الأحجام الرئيسية
Main bulk commodities . *
السلعة
كمية المنقول الإجمالية
كمية المنقول بواسطة ناقلات الخام
أداء النقل البحري
في المجموع العام
بالنسبة لناقلات الخام
1960
1965
1969
1960
1965
1969
1960
1965
1969
1960
1965
1969
مليون طن متري
مليون طن/ميل بحري
مجموع
228
327
419
38
159
308
746
1260
1833
122
624
1491
خام الحديد
101
152
214
31
98
181
264
527
919
98
356
822
الحبوب
46
70
60
1
17
36
248
386
307
5
95
218
الفحم
46
59
83
3
30
60
145
216
405
13
146
347
البوكسيت والألومينا
17
21
30
3
12
19
34
46
84
6
21
54
الفوسفات
18
25
32
2
12
55
85
118
6
50 *
سنوات مختارة عن جدول 8 ص114 من مجلة النقل البحري باريس 1970.
وبرغم هذه الأشكال من المنافسة، فإن النقل البحري ما زال ينقل 78٪ (أواسط الستينيات) من وزن التجارة العالمية، وهو ما يساوي 68٪ من قيمة مجموع التجارة العالمية. وفي مقابل ذلك يساهم النقل الجوي بنقل ما يعادل 0,5٪ من قيمة التجارة العالمية، بينما 31,5٪ من القيمة الإجمالية للتجارة تنقل بالطرق البرية المختلفة بين الدول ذات الروابط الأرضية، وخاصة في القارة الأوروبية.
ولعل الجدول التالي يوضح لنا - بما فيه الكفاية - أهمية النقل البحري في عصرنا الذي اشتدت فيه كثافة التبادل السلعي بين الدول، كبيرها وصغيرها، غنيها وفقيرها. فلم تعد هناك دولة - مهما كانت كفايتها الذاتية من الموارد - قادرة على الانعزال التجاري. والولايات المتحدة خير مؤشر على ذلك الاتجاه؛ فبرغم مواردها المحلية الكبيرة، إلا أنها مضطرة إلى استيراد المزيد من خامات المعادن الرئيسية كالحديد والنحاس، ومصادر الطاقة كالبترول، ومضطرة إلى تسويق منتجاتها الأولية كالحبوب، ومنتجاتها الصناعية المختلفة إلى أنحاء العالم. (2) تطور النقل المائي
لقد أدرك الإنسان القديم بالتجربة والخطأ والمشاهدة قيمة الماء في حمل الأشياء الثقيلة، كجذوع الأشجار وغيرها، أو من مشاهدته لبعض الحيوانات الثقيلة التي تسبح بيسر وسرعة على صفحة المياه الداخلية. (2-1) النقل المائي البدائي
وقد سبق أن ذكرنا أن أقدم معلوماتنا تشير إلى أن المصريين القدماء هم أول من صنعوا القوارب الحديثة، وأول من سيروها في المياه الداخلية وعلى مسطحات البحار، وهم أيضا أول من اكتشف مبدأ تسيير السفن والقوارب بواسطة قوة الرياح، وذلك باستخدام الشراع. لكن سبق ذلك بمراحل تجارب عديدة تبدأ من الرمث أو الطوافة، ثم تمر بالقارب المحفور من جذع شجرة واحدة إلى فكرة القارب المصنوع من جدائل الغاب، وفكرة القارب المصنوع من الجلد المشدود إلى إطار من الخشب أو الغاب، وكل هذه الأنواع من القوارب لا زالت موجودة في عالمنا المعاصر بين كثير من المجتمعات البدائية تكنولوجيا.
فالقارب المحفور
dug out
لا زال شائعا بين غالبية سكان جزر الباسيفيك، ويضاف إليه لتثبيته على صفحة الماء عوامات من كتل خشبية خفيفة مربوطة إلى قائمتين ممتدتين أفقيا بعرض القارب، وتسمى مثل هذه القوارب
outrigger ، وقد تكون له مثل هذه العوامة على جانب واحد في معظم الحالات، وعلى كلا الجانبين في أحوال قليلة، والقارب المحفور بدون عوامات موجود بكثرة بين الشعوب البدائية التي تعيش على ضفاف الأنهار الاستوائية الأفريقية والأمريكية (راجع شكل
4-1 ).
أما القوارب المصنوعة من جدائل الغاب، فتتميز بخفة واضحة في الوزن، ولكنها ليست مهيأة لحمولة كبيرة، ولعدد كبير من الأشخاص، ومثل هذه القوارب شائعة عند سكان مناطق المستنقعات في النطاق المداري الأفريقي حيث يكثر الغاب الطبيعي، ويجمع مثل هؤلاء السكان نوعي القارب المحفور للحمولات الأكبر، وقارب الجدائل للحركة السريعة الفردية غالبا، وفي المناطق الضحلة، لصيد الأسماك بالرماح المسننة (هاربون).
والقارب المصنوع من الجلد ما زال شائعا عند الأسكيمو وبعض قبائل الأمريند (الهنود الحمر) في شمال شرق أمريكا الشمالية، وهو قارب خفيف يسهل نقله، كما أنه سريع الحركة ويستخدم في الصيد كوظيفة أساسية، ويسمى كاياك
Kayak
أو أومياك
Umiak ، وعند الأمريند في شمال أمريكا الشمالية يصنعون قوارب من لحاء الأخشاب مثبتة إلى إطار هيكلي ويسمى كانو
Canoe ، وهو أيضا خفيف الوزن والحركة.
شكل 4-1: بعض أنواع النقل المائي القديم والبدائي المعاصر. (1) القارب المحفور
Dog out . (2) القارب ذو العوامة
Outrigger . (3) القارب الجلدي المشدود على هيكل خشبي
Canoe .
وهناك أنواع أخرى كثيرة، لكنها عبارة عن تغايرات مختلفة ومحلية لا تخرج عن جوهر الفكرة الأساسية التي ذكرنا بعض أشكالها الرئيسية.
وهذه الأشكال جميعا ذات سعة محددة، سواء في نقل الأشخاص أو البضائع، ومعظمها يستخدم في الملاحة الداخلية على الأنهار أو الملاحة الشاطئية، باستثناء القارب المحفور ذو العوامة
Outrigger
الذي يمكن استخدامه في مياه البحر المفتوح، لكنه أيضا مقيد بمسافات محدودة؛ وذلك بحكم كون عالم الباسيفيك عالم جزري يعيش سكانه على غذاء البحر؛ مما أدى بالناس إلى ضرورة المخاطرة في البحر المفتوح من أجل الصيد والانتقال من جزيرة إلى أخرى.
كل هذه الأنواع من القوارب تسير بواسطة المجاديف - أي الطاقة البشرية - وقد تستخدم أحيانا قوة الأمواج المتكسرة على الشواطئ
Surf
من أجل الاتجاه إلى الشاطئ بسرعة، وفي هذا المجال نلاحظ أن القوارب الخفيفة تسير بمجداف واحد يصبح هو محرك السرعة ودفة القارب التي توجهه إلى الاتجاهات المرغوبة. أما القوارب المحفورة فقد تستخدم أكثر من مجداف واحد حسب عدد الركاب والسرعة المرغوبة، وفي أحيان كثيرة - في المناطق الاستوائية والمدارية - تستخدم الحربة العريضة الرأس للتجديف؛ إذ لا توجد مجاديف خاصة.
وعلى وجه العموم - نظرا لخفة وزن القوارب، ولشكلها الانسيابي، ولتكوينها من جذع شجرة أو من مواد خفيفة - فإن هذه القوارب لا تمتلك دفة (سكان) لتوجيه القارب، بل تستخدم المجداف في التوجيه. (2-2) مبدأ الملاحة البحرية المصري
أما القوارب المصرية فكانت مصنوعة على أساس مبدأ مخالف لبناء القارب كما سبق توضيحه ومهيأة لوظيفة النقل الثقيل؛ فالقوارب المصرية عبارة عن عملية «إنشاء» من صنع الإنسان حسب خطة مرسومة يراعى فيها مبدآ السعة والطفو؛ فهي تجميع لقطع خشبية تثبت إلى بعضها في صورة معينة متفقة مع المبادئ السابق ذكرها. وفي البداية كان المجداف هو القوة المحركة والموجهة، لكن سرعان ما أضيف الشراع من أجل طاقة دفع أقوى عشرات المرات من دفع المجداف، كما أضيفت الدفة كجهاز منفصل عن قوة التحريك من أجل التوجيه مع قوة الشراع، وبذلك نستطيع أن نقول: إنه منذ الألف الثالثة قبل الميلاد، اخترع المصريون الشراع والدفة معا، وهما - كما نعرف - الأساس الذي قامت عليه الملاحة البحرية إلى وقت قريب.
ولعل الدافع إلى اختراع الشراع هو الرياح الشمالية المعتدلة القوة التي تسيطر على مصر معظم أشهر السنة، وبذلك تصبح هذه الرياح أكبر عامل مساعد على صعود النيل من الشمال إلى الجنوب، في حين تستخدم القوارب قوة تدافع المياه في اتجاهها من الجنوب إلى الشمال. وبعبارة أخرى استخدم المصريون قوة دفع غير بيولوجية؛ الرياح ودفع الماء، في رحلاتهم النيلية صعودا وهبوطا.
وقد أدت فكرة الشراع إلى جرأة المصريين القدماء في المخاطرة داخل البحار المحيطة، ولعل ذلك كان مرتبطا باحتياجات الدولة الفرعونية إلى أنواع من التبادل التجاري بأشكاله المختلفة. وكان من بين سلع التجارة الرئيسية في الدولة المصرية استيراد أخشاب شرق وشمال شرق البحر المتوسط ؛ مما أدى إلى علاقات مستمرة وملاحة منتظمة إلى ساحل الليفانت وقبرص وكريت. وكذلك أدى احتياجهم إلى منتجات العالم المداري نتيجة للترف الفرعوني واحتياجات المعابد المصرية، إلى الملاحة في البحر الأحمر والمحيط الهندي إلى بلاد بنت (غير معروفة على وجه التأكيد، وقد تكون منطقة ما من سواحل المحيط الهندي في أفريقيا أو آسيا). (2-3) الملاحة البحرية في العالم القديم
وتلا ذلك نهضة ملاحية كبيرة في البحر المتوسط من قبل الفينيقيين والإغريق والرومان والعرب على التوالي. ولقد قام الفينيقيون برحلات بحرية واسعة في البحر المتوسط الغربي على وجه الخصوص ابتداء من الألف الثانية قبل الميلاد. ولا شك أنهم وصلوا إلى مضيق جبل طارق الذي كان يعرفه الملاحون الإغريق باسم أعمدة هرقل، ويقال: إن الفينيقيين قد جابوا البحار الساحلية لأوروبا الغربية في بريتاني الفرنسية وجنوب وغرب الجزر البريطانية.
أما الإغريق فقد انتشرت سفنهم في طول وعرض البحر المتوسط، كما كان البحر الأسود ومضيق الدردنيل والبوسفور مركزا هاما للملاحة الإغريقية إلى حوض البحر الأسود، وعند الدردنيل قامت واحدة من أهم المدن الإغريقية: طروادة التي كانت تحتكر تجارة البحر الأسود وتتحكم في العبور من آسيا إلى أوروبا منذ وقت مبكر إلى أن هزمها ائتلاف المدن الإغريقية في حرب طروادة المشهورة حوالي 1200ق.م. وعلى هذا النحو فإننا نجد البحر المتوسط منذ منتصف الألف الثانية قبل الميلاد يغص بالملاحة والسفن البحرية المصرية والفينيقية والإغريقية، بينما يحتكر المصريون الملاحة (شبه منتظمة) في البحر الأحمر، والإغريق ملاحة البحر الأسود، والفينيقيون ملاحة الحوض الغربي للبحر المتوسط (خاصة بعد إنشاء قرطاجة حوالي 900ق.م، التي سقطت على أيدي الرومان بعد ذلك بحوالي 800 سنة). أما الرومان فقد أسسوا سلطانهم البحري متأخرا - ربما في القرن الثالث قبل الميلاد - والمرجح أنهم اعتمدوا كثيرا على الأسطول الإغريقي في البداية.
ويأتي دور العرب مبكرا في الملاحة البحرية في الخليج العربي وبحر العرب. والمرجح أيضا أنه في الألف الأولى قبل الميلاد، كانت السفن العربية المختلفة والسفن الصينية المختلفة تتبادل التجارة في عالم المحيط الهندي بأكمله، وبالرغم من السيادة البحرية العربية في البحر المتوسط ابتداء من القرن الثامن أو التاسع الميلادي، إلا أن السيادة العربية في المحيط الهندي كانت أكثر بروزا، لما في هذا العالم الجنوبي من ثروات طائلة تنقل إلى عالم البحر المتوسط العربي والأوروبي. ومن الشائع أن العرب قد اخترعوا جهاز البوصلة لتسهيل الملاحة البحرية، وإن كان هناك من يرد أصل البوصلة إلى الصين. وعلى أية حال فإن الأوروبيين قد نقلوا هذا الجهاز عن العرب متأخرا؛ وبذلك فإن البوصلة قد ساعدت الملاحيين على ارتياد البحار الواسعة دون خوف من فقدان اتجاههم الصحيح؛ ومن ثم أحدثت ثورة هائلة في عالم النقل البحري.
ومع نمو التجارة في البحر المتوسط في العهد المملوكي في مصر، ونمو أساطيل البندقية (فنتسيا) وجنوا التجارية، ونمو أساطيل البرتغال وإسبانيا، وأساطيل مناطق الشمال الأوروبي (اتحاد الهانزا التجاري مؤسسا على نشاط النورسمن البحري السابق) قد أدى إلى دفعة هائلة في بناء السفن وحجمها ومتانتها وعدد أشرعتها.
لكن كل هذا النمو في بناء السفن لم يخرج كثيرا عن الإطار الأساسي الذي بدأه المصريون القدماء منذ آلاف السنين: (1)
السفينة المركبة من تجميع قطع خشبية حسب خطة معينة وسعة معينة. (2)
الشراع كقوة دافعة. (3)
الدفة كموجه لسير السفينة.
وبمثل هذه السفن المطورة حدثت الكشوف الجغرافية الكبرى، وعلى هذه الأساطيل الخشبية نمت ونشأت الإمبراطوريات الاستعمارية العظمى. (2-4) العصر الصناعي وثورة النقل البحري
وظل الأمر على ذلك النحو حتى القرن التاسع عشر؛ ففي عصر الصناعة بدأت الاختراعات تتوالى على العالم بسرعة كبيرة، وأول ما طرأ من تغيير على السفن البحرية هو استخدام البخار كقوة دافعة جنبا إلى جنب مع الشراع. وبعد فترة صغيرة أمكن استخدام البخار وحده دون الحاجة إلى الشراع؛ ففي 1819 عبرت السفينة «سفانا» المحيط الأطلنطي من أمريكا إلى بريطانيا (29 يوما) باستخدام طاقة البخار وحدها.
والخطوة التالية كانت تغير مادة بناء السفينة من الخشب إلى الحديد. وقد استلزم ذلك جرأة كبيرة؛ لأن الحديد في خواصه العامة مادة لا تطفو مثل الخشب، لكن التجارب العديدة قد نجحت في النهاية في أواخر القرن التاسع عشر . أما الدفة فقد ظلت كما هي موجه السفينة.
وبذلك نجد أن نهاية القرن التاسع عشر قد شهدت ثورة عارمة في النقل البحري؛ فالبخار يعطي للسفينة طاقة محركة قوية مستمرة؛ مما زاد من سرعة السفينة. في أحيان قد تكون سرعة الرياح أكبر دفعا من الطاقة الميكانيكية، لكنها في هذه الحالة تصبح قوة هوجاء تؤدي بالسفينة إلى مخاطر غير مأمونة؛ لأنها قوة لا يمكن التحكم فيها إلا بإنزال الأشرعة وضمها، كذلك فإن قوة الرياح أمر خارج عن مدى تحكم الإنسان؛ ومن ثم كانت الرحلات البحرية تتم في أوقات متفاوتة المدة؛ لأنها تعتمد على الرياح الطيبة وتتجنب الرياح العاصفة. أما الطاقة الميكانيكية فإنها تعطي السفينة انتظاما في الدفع قابل للتحكم البشري بيسر وسهولة، وهو ما يؤدي في النهاية إلى انتظام خطوط الملاحة وتحدد مدة الرحلة من مكان لآخر بدقة لا بأس بها.
وقد أعطى تغير خامة بناء السفن من الأخشاب إلى الحديد ميزات أخرى؛ فالحديد أقوى مقاومة في الماء من الخشب؛ وبذلك ارتفع عمر السفينة في المتوسط من 15-20 سنة إلى حوالي أربعين عاما أو أكثر.
ونظرا لأن للخشب مقاومة معينة تصبح بعدها المقاومة ضعيفة، فإن حجم السفينة طولا وعرضا كان يتحدد بقوة تحمل الأخشاب لضغوط الماء وضغط الحمولة. أما الحديد فأقوى بكثير؛ مما يؤدي إلى إمكان إعطاء حجم أكبر من السفينة المصنوعة من الخشب.
ولا يقتصر الأمر على اتساع حجم السفينة؛ وبالتالي زيادة حمولتها، بل إن قوانين سعة السفينة الخشبية والحديدية مختلفان؛ فنظرا لسمك الأخشاب المستخدمة في بناء السفينة وضخامة الأخشاب التي تدعم هيكل السفينة، فإن سعة السفينة الخشبية تكاد تقترب من وزنها فارغة. فإذا كان وزن السفينة الفارغة 200 طن، فإنها تستطيع أن تحمل حمولة موازية أو أزيد قليلا. أما متانة الحديد وقلة سمكه وسمك دعاماته في هيكل السفينة بالقياس إلى الخشب، فإنه قد أعطى السفينة سعة أكبر وحمولة قد تصل إلى ثلاثة أضعاف وزنها الفارغ.
وبذلك فإن السفينة الحديثة قد زادت سرعتها كثيرا بالمقارنة بالسفينة الخشبية، كما زادت سعتها بدرجة أكبر، ولكن هناك توافق بين حمولة السفينة وسرعتها؛ فالسفن الكبيرة والحربية تسير بسرعات أكبر من السفن الصغيرة، ليس فقط لكبر المحرك المولد للطاقة، بل إن ذلك مرتبط أيضا بقوة وتحمل السفينة للضغوط أثناء سيرها.
ومتوسط السرعات للسفن (خاصة بعد إدخال ماكينات الديزل كطاقة محركة بدلا من آلات البخار العتيقة) يتراوح بين 12 و35 عقدة في الساعة. (العقدة البحرية مسافة = 1852 مترا.) كما أن متوسطات الحمولة قد زادت كثيرا في سفن الركاب العابرة للمحيطات، وهي تتراوح بين 25 ألف طن و55 ألف طن، بينما متوسط الحمولة لسفن الركاب في البحار الصغيرة يتراوح بين 5 آلاف وعشرة آلاف طن.
أما السفن التجارية فإن سرعتها ووزنها ما زالا أقل بكثير من السفن المخصصة للركاب، متوسط السرعة حوالي 10-12 عقدة، ومتوسط الحمولة بين 5 آلاف و10 آلاف طن، لكن نوعا واحدا من سفن الشحن قد حدثت فيه ثورة هائلة في بداية الستينيات من هذا القرن؛ تلك هي ناقلات البترول التي ارتفعت حمولتها من 10-30 ألف طن إلى أن قاربت نصف مليون طن.
ومع دخول الطاقة النووية مجالات توليد الطاقة والدفع يمكن أن نتوقع تطورا جديدا للسفن في السرعة والسعة والقوة. وهذه الطاقة ما زالت قاصرة على السفن والغواصات الحربية، بينما جهز الاتحاد السوفييتي بعض سفن محطمات الجليد بمثل هذه الطاقة. وقد ساعدها ذلك على الحركة القوية المستمرة دون اللجوء إلى موانئ التموين، كما ساعدها على إنشاء أجهزة تحطيم كبيرة وقوية في عملها من أجل شق الطريق الملاحي في المحيط المتجمد الشمالي، وفتح الموانئ التي تتجمد مياهها - مثل فلاديفوستوك - للملاحة طول السنة. (3) أنواع السفن الحالية
مع التقدم الذي لمسناه في بناء السفن ووزن حمولتها ومع تقدم أشكال التجارة وتنوعها واحتياجها المستمر إلى وسائل نقل عامة وخاصة، فإن السفن أيضا قد تعددت أنواعها كثيرا وتخصصت في مضمار النقل إلى حد بعيد، فأصبح هناك سفن الركاب، وسفن البضائع، وسفن الركاب والبضائع معا، وسفن نقل البترول وسفن نقل خام الحديد، وسفن أخرى لأغراض خاصة كسفن صيد الأسماك وسفن صيد الحيتان، وسفن المصنع التي تجوب البحار مع أسطول صيد صغير يعطيها الصيد لتقوم سفينة المصنع بتعبئة وإعداد الأسماك ونقلها إلى الموانئ القريبة، لتقوم السفن الأخرى بنقلها بدورها إلى موانئ الاستيراد. وفيما يلي دراسة موجزة للأنواع الرئيسية من السفن الحالية. (3-1) ناقلات الحديد والبترول
السفن المتخصصة في نوع ما من أنواع النقل معروف أمرها ولا تحتاج إلى شرح كثير؛ فسفن نقل الحديد عبارة عن صنادل هائلة الحجم تقوم بتعبئة خام الحديد أو الحديد الناعم من موانئ إنتاج الحديد إلى الموانئ القريبة من مراكز الصناعات الحديدية الثقيلة. وأشهر هذه السفن هي تلك التي تعمل في البحيرات العظمى الأمريكية بين موانئ تصدير الحديد في غرب بحيرة سوبيرير (مثل ميناء دولوث) وتنقلها عبر البحيرات إلى بحيرة إيري؛ حيث توجد صناعات ثقيلة كثيرة (دترويت لصناعة السيارات، كليفلند لصناعة الحديد، وينقل منها أيضا إلى مراكز صناعة الحديد والصلب الأمريكية الرئيسية في بتسبرج وأكرون).
وكذلك هناك سفن نقل خام الحديد من ميناءي ست أيل
Sept ils
وبور كاتييه في كويبك الشرقية لنقل حديد لبرادور وكويبك (من شيفر فيل وجانيون على التوالي) إلى حوض سنت لورنس ومنه إلى البحيرات العظمى؛ حيث تتركز أكبر مراكز استهلاك الحديد في الصناعة الأمريكية والكندية. وفي أوروبا يقوم ميناءا نارفيك النرويجي ولوليا السويدي بنقل حديد كيرونا جيلفار إلى أمريكا سابقا والدول الأوروبية الصناعية حاليا في منطقة بحر الشمال أو إلى مراكز الصناعة السويدية.
أما ناقلات البترول فهي أكثر السفن الحالية تخصصا في العالم؛ إذ هي عبارة عن مجموعة كبيرة من الخزانات التي يضخ إليها البترول الخام أو المكرر، وتقوم بنقله من ميناء التصدير إلى موانئ الاستهلاك الرئيسية في أمريكا وأوروبا واليابان.
وتكون ناقلات البترول في الوقت الحاضر أضخم سفن بناها الإنسان على سطح البحار، فإذا كانت حمولات السفن الكبيرة في المتوسط تصل إلى نحو 50 ألف طن، فإن ناقلات البترول قد تجاوزت هذه الحمولة منذ فترة طويلة نسبيا، ويبلغ متوسط حمولة الناقلات الضخمة الآن أكثر من مائة ألف طن. وهناك ناقلات يابانية وفرنسية تزيد عن مائة وخمسين ألف طن، وناقلات يابانية تزن أكثر من 250 ألف طن.
2
وتبني اليابان الآن ناقلة تزيد عن ثلث مليون طن! ومع ذلك فهناك أقزام صغيرة محلية لنقل البترول تصل إلى أقل من عشرة آلاف طن.
ولا شك أن ضخامة الناقلات تؤدي إلى خفض أسعار النقل بشكل ملحوظ، وهذا هو انعكاس مباشر للاحتياج الشديد للإنسان والصناعة الحالية في كل مكان إلى البترول كمصدر سهل للطاقة بالقياس إلى الفحم الذي يأخذ حيزا كبيرا داخل سفن النقل؛ ومن ثم تنخفض أجور نقل الطاقة السائلة بالقياس إلى الطاقة الجافة، كذلك فإن بناء هذه الناقلات الضخمة تمليه احتياجات الدول الصناعية الكبيرة التي تفتقر إلى مصادر محلية للوقود، وعلى رأس هذه الدول اليابان وأوروبا الغربية.
لكن البترول كمصدر للطاقة، ومولد لحركة الكثير من وسائل النقل السطحي (القطارات والسيارات) والنقل الجوي، قد أصبح جزءا لا يتجزأ من الحضارة الصناعية منذ أوائل هذا القرن. ومهما قيل عن قصر عمر البترول، فإن التقديرات الكثيرة التي ذكرت منذ السنوات العشرين الماضية لم تنته إلى الوضع المتشائم الذي أعلن من قبل عدة مرات؛ فالبترول ما زال موجودا وكمية إنتاجيه تتزايد نتيجة الضخ الأكبر، ونتيجة الكشوف المستمرة لحقول البترول الجديدة في مختلف جهات العالم. ويترتب على ذلك أن كمية استهلاكه تتزايد بوضوح في كل الدول المتقدمة والمتخلفة على حد سواء.
إن اعتماد العالم على البترول يتزايد وسيظل كذلك فترة غير معروفة في المستقبل، ومن ثم كان التقدم الشديد في صناعات ناقلات البترول لكي تتمكن عمليات النقل بالوفاء باحتياجات الصناعة والخدمات العالمية.
ولكن ضخامة ناقلات البترول الجديدة ومدى اقتصاديات تسييرها وصعوبة التحكم في مناورتها داخل الموانئ وخارجها من الناحية الملاحية، واحتياجها إلى منشآت خاصة في موانئ التعبئة والشحن، أو موانئ التفريغ، والأخطار الناجمة عن الحرائق وتلوث مياه البحر في حالات الكوارث المتعددة الأسباب، تحتاج إلى أجهزة أمن أرضية وبحرية أضخم مرات ومرات عما هي عليه اليوم أحجام أجهزة الأمن البحرية. وهذه كلها تكون مشكلات كثيرة، لكن المعروف أن الأضرار الناجمة عن التقدم لها دائما حلول ناجحة، ولو بعد حين.
كذلك من المشكلات الرئيسية الناجمة عن الناقلات العملاقة هذه، أنها لا بد وأن تتجنب المرور في الطرق الملاحية القصيرة التي تعبر كلا من قناتي السويس وبنما؛ ذلك أن هاتين القناتين لم تحفرا بالطريقة التي يمكن أن تسمح بمرور مثل هذا الغاطس الكبير للسفن الضخمة. وقد يصبح تعميق وتوسيع هاتين القناتين من أجل تسيير الناقلات العملاقة استثمارا غير اقتصادي؛ لأن عائد هذا المرور أقل من تكلفة أعمال التوسيع والتعميق المستمرة.
وعلى أية حال، فإن تكلفة النقل القليلة في الناقلات الضخمة تسمح لها بأن تسير في البحار حول أفريقيا وأمريكا الجنوبية دون الاحتياج إلى المرور في القنوات المشار إليها. وكذلك يمكن أن تحل المشكلة جزئيا بواسطة خطوط من أنابيب البترول تنشأ عند بداية ونهاية القنوات الملاحية؛ مما يؤدي إلى إمكان ضخ البترول من السفن العملاقة من جهة، وإعادة ضخه من الأنابيب إلى سفن مماثلة عند النهاية الأخرى لخط الأنابيب، وقد لجأت مصر إلى هذا الحل عندما أعلنت مشروعها لإنشاء خط أنابيب من السويس إلى غرب الإسكندرية في عام 1973.
وإلى جانب هذا فإن اتجاه اليابان - دون غيرها - إلى إنشاء الناقلات الضخمة بدرجة أكثر من غيرها من الدول أمر يعبر عن الضرورات التي تفرضها احتياجات اليابان الاقتصادية إلى هذا النوع من النقل الهائل الحجم للبترول من أقرب مصادره إليها (وهو عالم الخليج العربي) دون احتياج إلى المرور في القنوات الملاحية الضيقة (خط السير هو من الخليج العربي إلى المحيط الهندي وعبر مضيق ملقا إلى بحر الصين ثم إلى موانئ اليابان). (3-2) سفن النقل العامة
تنقسم هذه السفن من حيث درجة الانتظام في المواعيد الملاحية إلى النوعين: (1)
السفن النظامية. (2)
السفن المتسكعة.
وكذلك يمكن أن نقسم السفن من حيث نوعها والحمولة التي تنقلها إلى ثلاثة أنواع، هي: (1)
سفن نقل الأشخاص، وهذه تدخل نوع السفن النظامية. (2)
سفن نقل الأشخاص والبضائع معا، وهي أيضا تدخل تصنيف السفن النظامية. (3)
سفن البضائع فقط، وهذه هي النمط الأساسي للسفن المتسكعة.
وفيما يلي موجز للصفات الأساسية في عمليات النقل لهذه الأنواع الثلاثة من السفن:
أولا سفن نقل الأشخاص:
وهذه هي السفن المنتظمة في خطوط ملاحية منتظمة، يحكمها مواعيد إبحار ورسو محددة (باستثناء الطوارئ التي تؤجل الإبحار والوصول إلى ميناء الرسو، كالعواصف أو العطب أو إضراب عمال الموانئ أو إضراب عمال شركة البواخر ذاتها).
وهذه السفن غالبا تتكون من عدة أسطح (طبقات)، وتنقسم إلى عدد كبير من الغرف التي تختلف في أحجامها وأثاثها تبعا لقيمة أجرة الرحلة، وتحتل باطن السفينة عدة أقبية أو مخازن وعنابر تخصص لنقل البضائع؛ وذلك لأن السفينة - مهما كانت حمولتها من الأشخاص وأمتعتهم - لا يمكن أن تقاوم الرياح والأمواج دون ثقل يجعل حركتها أكثر استقرارا وسط المياه؛ ومن ثم تقوم هذه السفن أيضا بنقل الكثير من البضائع داخل مخازنها الكبيرة.
ولكن البضائع التي تنقل بواسطة سفن الركاب المنتظمة هي البضائع التي يراد إرسالها بسرعة من ميناء إلى آخر؛ ومن ثم فهذه الواسطة من وسائط النقل البحري عبارة عن وسيلة نقل سريع للبضائع
Express cargo ، وذلك لتحدد وانتظام مواعيد القيام والوصول قدر الإمكان؛ ولهذا فإن نقل البضائع بهذه السفن أكثر تكلفة من نقلها على سفن النقل المتسكعة أو سفن البضائع والأشخاص معا.
وتنقل هذه السفن أيضا البريد والطرود البريدية، للأسباب المذكورة: سرعة وتحدد مواعيد هذه السفن في الإقلاع والوصول. وهناك أنواع مختلفة من هذه السفن؛ فهناك السفن المحيطية الضخمة التي تصل في المتوسط إلى حمولة 50 ألف طن أو أكثر. وهذه السفن تقوم برحلات طويلة عبر الأطلنطي من أوروبا إلى أمريكا، أو منهما إلى أفريقيا وأستراليا وشرق آسيا، أو من أمريكا إلى اليابان وشرق آسيا والمحيط الهندي. (انظر كثافة الخطوط الملاحية في المحيطات وقارن بين الكثافة الهائلة للحركة الملاحية في المحيط الأطلنطي الشمالي بالقياس إلى بقية المحيطات).
وهناك سفن نقل الأشخاص المنتظمة المواعيد في البحار الإقليمية أو المناطق الجغرافية المحدودة؛ مثال ذلك مجموعة الخطوط الملاحية للشركات الإيطالية والفرنسية واليونانية والمصرية والتركية في البحر المتوسط. وكلها تكون شبكة نقل بحري هام للأشخاص والبضائع داخل هذا المسطح المائي المتوسط بين أوروبا وأفريقيا وآسيا. وعلى النحو نفسه الملاحة البحرية في البحر الكاريبي وخليج المكسيك والشاطئ الشرقي الأمريكي، أو الملاحة البحرية الكثيفة في بحر الشمال بين بريطانيا وهولندا وألمانيا والدانمرك والنرويج، أو الملاحة المنتظمة في بحر المانش بين بريطانيا وفرنسا، أو الملاحة في بحر البلطيق، وغير ذلك كثير في أوروبا وجنوب شرق آسيا وشرق آسيا.
ولا تزيد حمولة هذه السفن عن عشرة آلاف طن إلا في أحوال خاصة، وذلك لكثرة الشركات الملاحية والمنافسة وقصر المسافات في المجموع، وهي في مجموعها أقل بهاء من سفن نقل الأشخاص المحيطية، التي تراعى فيها الفخامة قدر الإمكان لطول زمن الرحلة ولكثرة المنافسة.
وهناك سفن أصغر لنقل الأشخاص والبضائع في البحار المغلقة والبحيرات الكبرى، مثل سفن بحر قزوين والبحيرات العظمى الأمريكية وبحيرة فكتوريا أو تنجانيقا، وهي أيضا مقيدة بخطوط ملاحية ومواعيد منتظمة.
وأخيرا هناك سفن عابرة للمضايق لنقل الأشخاص والبضائع؛ مثل سفن المانش العابرة بين شربورج وكاليه والهافر الفرنسية وبين سوثهامبتون ودوفر الإنجليزيتين، وبين روتردام وموانئ شرق إنجلترا، وموانئ البحر الأيرلندي بين جزيرتي بريطانيا وأيرلندا، والسفن الساحلية النرويجية التي تكون وسائل نقل أقل تكلفة على طول السواحل النرويجية الطويلة. وكذلك سفن المعابر عبر مضيق السوند بين الدانمرك والسويد، أو التي تخدم النقل عبر مضيق البسفور والدرونيل.
ثانيا سفن البضائع والأشخاص:
وهذه الأنواع من السفن تهتم أساسا بنقل البضائع بين الموانئ الهامة الإقليمية أو العالمية، ويضاف إليها وظيفة نقل الأشخاص، ولكن نقل الأشخاص هنا يتم في المناطق التي لا توجد فيها سفن نقل الأشخاص بدرجة كافية، أو أن تكون عملية انتقال الأشخاص أصلا عملية غير كثيفة. ولهذه السفن عدد قليل من غرف الركاب بالقياس إلى سفن نقل الأشخاص، ولكنها في مجموعها تكون خطوطا ملاحية منتظمة أو شبه منتظمة؛ لأنها ترتبط بعمليات شحن أو تفريغ البضائع، وهي عملية لا يمكن التحكم فيها تماما؛ ومن ثم فإن أجور النقل على هذه السفن - بضائع أو أشخاصا - أقل بكثير من أجور النقل على سفن النوع الأول، الشديدة الانتظام في مواعيدها.
فمثل هذه السفن بإمكانها انتظار البضائع، بينما لا يمكن ذلك بالنسبة لسفن نقل الأشخاص. وهذه السفن عادة أقل وزنا من سفن الأشخاص. وقد لا تزيد حمولتها عن عشرة إلى عشرين ألف طن حسب البحار والمحيطات التي تعمل فيها، ولكنها عادة دون الخمسة آلاف طن، ويرتبط ذلك بعملية إمكان الشحن والإقلاع دون تأخير كثير؛ وذلك لأن السفينة الكبيرة لا تحتمل اقتصاديا الإقلاع بحمولة صغيرة.
ثالثا السفن المتسكعة:
وهي سفن تجارية خالصة، ولا تحمل ركابا بالمعنى المفهوم.
3
وليس لهذه السفن موانئ نهاية أو بداية، إنما هي تنقل من ميناء إلى آخر دون أي ارتباط سوى الارتباط بنقل البضائع إلى الوجهة المرغوبة (بطبيعة الحال يقترن ذلك بأهلية السفينة للإبحار في المحيطات أو البحار العاصفة دوما). وهناك سفن متسكعة كبيرة تعمل في المحيطات والبحار وسفن صغيرة تعمل فقط في المياه الداخلية كالبحر البلطي أو المتوسط.
وبرغم أن السفن المتسكعة تتبع شركات لها جنسيات معينة، إلا أن هذه السفن قد تعمل في مناطق بعيدة عن مقر شركاتها الرئيسية بصفة مستمرة. ومن أهم الأمثلة على ذلك سفن البضائع النرويجية.
والرحلات الخاصة بهذه السفن غير منتظمة وليست مقيدة بأية مواعيد ولا اتجاه معين سوى الاتجاه إلى الموانئ التي تحمل إليها البضائع، وبعد أن تفرغ شحنتها قد تجد من البضائع ما تتعاقد على شحنه إلى ميناء آخر. ويمكننا أن نعطي مثالا على ذلك: (1) حمولة سفينة متسكعة من السيارات والأدوات الهندسية تتجه من هامبورج إلى جنوب أفريقيا (كيبتاون). (2) تتجه السفينة بعد ذلك إلى الهند لتحمل شحنة من القطن إلى أستراليا، وقد تنقل بعض السلع معها إلى الهند أو ميناء آخر في طريقها. (3) تحمل السفينة قمحا من أستراليا وتتجه به إلى الصين. (4) من الصين تحمل السفينة خام حديد تتجه به إلى اليابان. (5) من اليابان تنقل السفينة سلعا مصنعة وأجهزة كهربائية ومنسوجات إلى غرب أفريقيا. (6) تحمل السفينة من غرب أفريقيا كاكاوا وبنا وتتجه بالشحنة إلى بريطانيا.
وعلى هذا النحو يمكننا أن نتصور ما يحدث للسفن المتسكعة في المناطق المتخصصة في أنواع معينة من الخام أو المصنعات.
ونظرا لعدم الارتباط بأية مواعيد أو جهة معينة، فإن أجور النقل على هذه السفن هي أقل أجور يمكن الحصول عليها، ولا تخضع هذه الأجور إلى أسعار ثابتة، بل يمكن التحكم فيها حسب العرض والطلب، وفي أحيان يمكن أن تقبل السفينة عرضا رخيصا لنقل شحنة في اتجاه ميناء معين تكون السفينة قد تعاقدت معه على نقل حمولة معينة، وحينئذ تصبح أية حمولة تحملها السفينة إلى هذا الميناء مكسبا صافيا. فإذا عدنا للمثال السابق يمكن أن نقول إن بإمكان السفينة أن تحمل من كيبتاون أية حمولة (فواكه مثلا - أو أسماكا) من كيبتاون إلى ميناء هندي؛ حيث إنها متجهة في هذا الاتجاه لسبق تعاقدها على نقل شحنة قطن إلى أستراليا، وبذلك تصبح الشحنة من كيبتاون إلى الهند مكسبا يضاف إلى مكاسب السفينة، ومن ثم يمكن أن تنقل الشحنة بأسعار مخفضة.
وعلى هذا النحو من حرية ومرونة التصرف في السفن المتسكعة نجدها تنقل ما يقرب من نصف الحمولة التجارية العالمية، وتصبح منافسا خطيرا لسفن البضائع المنتظمة، خاصة في مجال البضائع التي تحتمل التأخير مثل القطن أو السيزال أو بعض المعدات الهندسية. (4) الأسطول التجاري العالمي
منذ الكشوف الجغرافية الكبرى اتجهت الدول الأوروبية إلى إنشاء أساطيل كبيرة لحماية ممتلكاتها أو تدعيمها أو الحصول على المزيد منها. وقد ظل الأمر كذلك سائدا: من يمتلك أسطولا أضخم يمكنه مواصلة استعمار مناطق أكثر، ويمكنه أن يدعم هذه الممتلكات، وفي الوقت نفسه كانت هذه الأساطيل تجارية وحربية معا. وكان العصر الذهبي لمثل هذه الأساطيل هو وقت التجارة المثلثة التي استمرت قرنين من الزمان، من منتصف القرن السابع عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر. وهذه التجارة المثلثة عبارة عن رحالات ثلاث تقوم بها السفينة لكي تستكمل دورة ربح هائلة: (1)
من أوروبا الغربية إلى خليج غانا (الساحل الممتد من السنغال إلى أنجولا الحالية)، من هناك تحمل الرقيق الأفريقي من سجون القلاع الساحلية التابعة لبريطانيا والبرتغال وفرنسا وغيرها من الدول ذات الأساطيل. (2)
تتجه السفينة إلى أمريكا الوسطى وخليج المكسيك والشاطئ الشرقي للولايات المتحدة والبرازيل، فتنزل شحنة الرقيق الأفريقي وتحمل منتجات المناطق المدارية الأمريكية من قطن وسكر وغيره بالإضافة إلى المعادن (الفضة على وجه خاص). (3)
تتجه السفينة بحمولتها عبر الأطلنطي إلى موانئ غرب أوروبا حيث تباع شحنتها من منتجات المناطق المدارية.
وكانت مكاسب السفن هائلة من هذه التجارة المثلثة، حتى إن ويليام بت - رئيس الوزارة البريطانية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر - كان يشجع على تجارة الرق بوصفها وازعا أساسيا لنمو الأسطول البريطاني والإمبراطورية البريطانية لكثرة الأرباح. وكان ذلك أيضا رأي الأميرال نلسون.
4
وحينما ألغي الرقيق في أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر، قامت بريطانيا بدور حامية حمى الرقيق، وأصبح لسفنها الحق في تفتيش السفن التجارية أيا كانت جنسيتها في أعالي البحار. وقد مكن ذلك بريطانيا من بناء أسطول كبير ومكنها من زيادة سيطرتها على البحار واحتلالها الكثير من النقط الهامة الملاحية في العالم مثل جبل طارق ومالطة وعدن وسنغافورة.
وعلى أية حال، حينما دخل البخار والسفن الحديدية عالم النقل البحري، كانت بريطانيا دون شك على رأس قائمة الدول البحرية. وقد أدى ذلك إلى بقاء الأسطول التجاري الإنجليزي مسيطرا وقتا طويلا على جزء كبير من التجارة العالمية، في الوقت الذي كانت روسيا والولايات المتحدة وألمانيا منشغلة بتدعيم وحدتها الإقليمية الأرضية، وتكوين الدولة الحديثة.
شكل 4-2: تطور نمو الأسطول التجاري العالمي. (1) الأسطول العالمي. (2) الأسطول الإنجليزي. (3) الأسطول الأمريكي. (4) بقية العالم. (5) بقية أوروبا.
وفي مطلع هذا القرن كان الأسطول الإنجليزي يكون وحده حوالي 55٪ من مجموع حمولة الأساطيل التجارية في العالم، ولكن اتجاه الدول الصناعية الحديثة إلى التجارة الدولية قد أدى بدوره إلى اهتمام كبير من جانب دول عدة - على رأسها النرويج، واليابان، والولايات المتحدة - بتدعيم أساطيلها التجارية، وقد ترتب على ذلك أن نقص تفوق الأسطول الإنجليزي في خلال ال 15 سنة الأولى من هذا القرن بالنسبة إلى حمولة الأسطول العالمي؛ ففي بداية الحرب العالمية الأولى (1914) أصبح الأسطول البريطاني يشكل نحو 45٪ فقط من حمولة الأساطيل العالمية.
وظلت الدول المختلفة تنمي أساطيلها التجارية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وخاصة إيطاليا وألمانيا والسويد وغيرها من الدول، وذلك بالإضافة إلى الاتحاد السوفييتي. وترتب على نمو حمولة الأسطول العالمي هبوط شديد في حمولة الأسطول الإنجليزي، فبلغت حوالي 25٪ فقط في نهاية الربع الأول من هذا القرن. وقد هبطت بعد ذلك نسبة حمولة الأسطول الإنجليزي إلى حوالي 12٪ من مجموع حمولة الأسطول العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وتدل الأرقام والإحصاءات على أن حمولة الأسطول العالمي كانت قد بلغت 49 مليون طن عام 1914، وظلت ترتفع بعد ذلك، وإن انتابها انخفاض جزئي خلال الأزمات والحروب (أزمة 1929 على وجه الخصوص). وفي 1948 بلغت حمولة الأسطول العالمي حوالي 80 مليون طن، وفي 1955 ارتفعت إلى مائة مليون طن، وفي 1960 وصلت الحمولة إلى 130 مليون طن، وزادت في 1965 إلى 155 مليون طن، وفي 1967 إلى 182 مليون طن، وأخيرا بلغت الحمولة 227,5 مليون طن في منتصف 1970.
وبعبارة أخرى فإن الأسطول التجاري العالمي قد تضاعف أكثر من أربع مرات ونصف في خلال نصف قرن (1914-1970)، وهذا التقدم المذهل في الحمولة يعبر عن - ويعكس بوضوح - موضوعين أساسيين:
الأول:
نمو التجارة العالمية نموا هائلا خلال نصف القرن الذي يبدأ من نهاية الحرب العالمية الأولى.
والثاني:
نمو أساطيل الدول المختلفة لكي تستطيع أن تسهم في نقل تجارتها أو الإفادة من الأرباح التي تجنيها عمليات النقل البحري العالمي (كالنرويج وهولندا والسويد).
وتترتب الدول فيما بينها على أساس حمولة أسطولها التجاري على النحو الذي يعطيه الجدول التالي:
جدول 4-2: حمولة الأساطيل التجارية القومية التي تزيد عن 3 ملايين طن.
الحمولة بملايين الأطنان
الدولة
1966
1967
1968
1970
1970٪ إلى 1966
1 ليبيريا
20,6
22,6
25,7
33,3
161,6
2 اليابان
14,7
16,8
19,6
27
183,6
3 بريطانيا
21,5
21,7
21,9
25,8
120
4 النرويج
16,4
18,3
19,7
19,3
117,6
5 الولايات المتحدة
10,8
18,4
19,7
18,5
171,3
6 الاتحاد السوفييتي
9,5
10,6
12,1
14,8
155,8
7 اليونان
7,1
7,4
7,4
10,9
153,5
8 ألمانيا غ
5,7
6
6,5
7,8
136,8
9 إيطاليا
5,8
6,2
6,6
7,5
129,3
10 فرنسا
5,2
5,6
5,8
6,5
125
11 بنما
4,5
4,7
5,1
5,6
124,5
12 هولندا
5
5,1
5,3
5,2
104
13 السويد
4,4
4,6
4,9
4,9
111
14 إسبانيا
2,2
3,4
15 الدانمرك
2,8
3
3,2
3,3
117,8
وهناك بعض الدول التي تزيد حمولة أسطولها التجاري عن مليون طن، هي بالترتيب: الهند (2,4)، كندا (0,4)، بولندا (1,6)، يوجسلافيا (1,5)، فنلندا (1,4)، الأرجنتين (1,2)، تايوان (1,1)، قبرص (1,1)، وأخيرا بلجيكا وأستراليا وألمانيا الديموقراطية، ولكل منها مليون طن.
وبتحليل هذا الجدول نجد أن الدول السبع الأولى، باستثناء بريطانيا والنرويج، هي نفسها التي سجلت زيادة كبيرة في حمولة أسطولها التجاري، زادت عن مرة ونصف قدر ما كانت عليه في السنوات الخمس 1966-1970. وكانت أعلى نسبة زيادة هي تلك التي سجلتها اليابان. أما فيما يختص بالولايات المتحدة فإن نسبة كبيرة من أسطولها التجاري غير عاملة. وقد كانت حمولة الأسطول الأمريكي العامل حوالي أحد عشر مليون طن عام 1967، من مجموع حمولة قدرها 18 مليون طن.
والملاحظة الثانية الجديرة بالاهتمام هي أن الأساطيل التجارية للدول الأوروبية الغربية تزيد بدرجة أقل بكثير من غيرها من الدول. وقد كان أدنى نمو هو ذلك الذي سجلته هولندا والدول الاسكندنافية وكلها أقل من 20٪ في المدة المحسوبة، بينما تراوحت الزيادة في بريطانيا وإيطاليا وفرنسا بين 20٪ و30٪ في المدة ذاتها.
جدول 4-3: تحليل الأسطول التجاري للدول الرئيسية. *
الدولة
سفن البضائع
ناقلات البترول
ناقلات خامات المعادن وسلع الأحجام الكبيرة ٪ من أسطول الدولة ٪ من الأسطول العالمي ٪ من أسطول الدولة ٪ من الأسطول العالمي ٪ من أسطول الدولة ٪ من الأسطول العالمي
ليبيريا
10
4,5
58
22,4
31
21,6
اليابان
27
10,2
34
10,8
29
16,9
بريطانيا
29
10,3
47
14
15
8,1
النرويج
13
3,4
46
10
36
14,8
الولايات المتحدة
54
13,5
25
5,5
11
4,3
الاتحاد السوفييتي
40
8,3
23
4
2
0,4
اليونان
41
6
35
4,4
20
4,7
ألمانيا غ.
52
5,6
21
1,8
19
3,2
إيطاليا
20
2,1
36
3,1
28
4,5
فرنسا
22
1,9
54
4
11
1,5
بنما
29
2,2
58
3,8
8
0,8
هولندا
45
3,2
38
2,3
9
1
السويد
27
1,8
33
1,8
32
3,2
إسبانيا
31
1,4
41
1,7
8
0,5
الدانمرك
36
1,6
40
1,5
13
0,9
العالم: مليون طن
72,4
86,1
46,6
العالم: ٪ من الأسطول العالمي
32٪
38٪
21٪ *
المصدر: الأرقام والنسب المئوية من أسطول كل دولة نقلا عن: “Maritime Transport” 1970, O. E. C. D. Paris 1970, P, 129
أما النسب المئوية الأخرى فمن حساب المؤلف.
وقد يبدو غريبا أن تتصدر ليبيريا أساطيل العالم التجارية، وأن يرتفع أسطول بنما أيضا إلى هذا الترتيب العالمي، وهما دولتان صغيرتان مواردهما محدودة، وليستا أيضا مثل النرويج أو اليونان اللتين تعتمدان على الدخل الذي يدره أسطولهما التجاري، والحقيقة أن هناك عدة دول تسمح برفع علمها على السفن في مقابل معين، ومثل هذه السفن في الحقيقة أمريكية أو بريطانية أو غير ذلك من الجنسيات. ولعل ذلك راجع إلى هرب شركات الملاحة من الضرائب العالية في بلادها فتفضل رفع علم أجنبي، ومعظم السفن التي ترفع العلم الليبيري وعلم بنما هي سفن أمريكية. وهناك دول أخرى تسمح بذلك مثل لبنان الذي تبلغ حمولة السفن التي ترفع علمه حوالي 300 ألف طن، والصومال الذي تبلغ حمولة السفن التي ترفع علمه نحو 370 ألف طن، ومعظم السفن التي ترفع علم الصومال هي سفن بضائع عادية (72٪ من الحمولة).
وبالرغم من أهمية الحمولة العامة لأساطيل الدول التجارية، إلا أن الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لنا هو أن نحلل تركيب الأسطول التجاري لكل من هذه الدول الرئيسية، بمعنى أن نعرف اتجاه كل دولة في بناء أو امتلاك أنواع معينة من السفن، وماذا يعني ذلك بالنسبة لنشاط كل دولة على حدة، وما هي نسبة ما تملكه الدولة من نوع معين إلى الحمولة العالمية لهذا النوع. وفيما يلي نورد جدولا يوضح هذه الحقائق بالنسبة للدول الرئيسية سابقة الذكر (راجع أيضا جدول تحليل الأسطول العالمي في آخر هذا الفصل).
يعطينا الجدول السابق الحقائق التالية:
أولا:
في مجال المشاركة الدولية في أنواع السفن الثلاث الرئيسية نجد: (1)
ارتفاع كبير في مساهمة الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان في سفن البضائع بالنسبة لأسطول البضائع العالمي. وإذا أضفنا الاتحاد السوفييتي، فإننا نجد هذه الدول الأربع تحتكر خمسي حمولة سفن البضاعة العالمية. وتمتلك الدول ال 15 المذكورة في الجدول 76٪ من الأسطول العالمي لسفن البضاعة. ويوضح هذا نمطا أقرب إلى التعادل في توزيع سفن البضاعة على كل دول العالم التي تمتلك أساطيل تجارية كبيرة كانت أم صغيرة. فسفينة البضاعة هي أكثر السفن استخداما لمختلف الأغراض التجارية، على عكس السفن المتخصصة في نقل سلع معينة؛ ومن ثم فإن غالبية دول العالم تمتلك هذا النوع من سفن النقل العامة. (2)
تحتكر الدول الخمس الأولى (ليبيريا وبريطانيا واليابان والنرويج والولايات المتحدة) 62,7٪ من حمولة ناقلات البترول العالمية كلها. ويعطينا هذا صورة عن الدور الذي تلعبه ناقلات البترول في اقتصاديات هذه الدول (باعتبار أن أسطول ليبيريا جزء من الأسطول الأمريكي) وما يحمله هذا الأسطول من أرباح لدول تشارك في عمليات النقل البترولية كالنرويج واليونان. وعلى العموم فإن أسطول ناقلات البترول قد زاد كثيرا عن حمولة سفن البضائع، وقاربت حمولته خمسي الحمولة العالمية للأسطول التجاري العالمي بجميع أنواعه، وفي هذا مؤشر قوي على مدى أهمية البترول في الوقت الحاضر، ويعكس نمط التباعد المكاني بين مناطق الإنتاج الرئيسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والكاريبي، بين مناطق الاستهلاك الرئيسية في العروض المعتدلة؛ مما يدعو إلى مزيد من الاهتمام بهذا النوع من النقل المتخصص.
ومن المؤشرات الأخرى على أهمية البترول في النقل البحري أن الدول ال 15 الواردة في الجدول تمتلك 91٪ من حمولة أسطول ناقلات البترول العالمية. وهذا هو عكس النمط الذي لاحظناه في توزيع سفن البضاعة على دول العالم البحرية. (3)
فيما يختص بناقلات الخامات المعدنية والسلع ذات الأحجام الكبيرة نجد أيضا نمطا احتكاريا؛ فهذه الدول ال 15 تمتلك 87,5٪ من مجموع حمولة هذا النوع من السفن في العالم. ويزداد النمط الاحتكاري ظهورا إذا عرفنا أن الدول الخمس الأولى (ليبيريا واليابان والنرويج وبريطانيا والولايات المتحدة) تمتلك وحدها 65,7٪ من جملة الحمولة العالمية، بينما تتوزع بقية الحمولة بشيء من التقارب على بقية الدول الواردة في الجدول. ويعطينا هذا التوزيع دليلا على التخصص في نقل السلع الكبيرة أو الخامات المعدنية من مناطق الإنتاج إلى أسواق الاستهلاك.
ثانيا:
في مجال تركيب الأسطول التجاري لكل دولة: (1)
برغم ضخامة الأسطول التجاري الليبيري إلا أنه - كما تدل الأرقام - موجه توجيها خاصا نحو السفن المخصصة لنقل سلعة واحدة، وليس أدل على ذلك من أن ناقلات البترول والخامات المعدنية تشكل وحدها نحو 90٪ من هذا الأسطول الضخم، وهذا هو أعلى تخصص نلاحظه في أي من أساطيل العالم التجارية. ولا شك أن هذا يعكس بصدق مدى تأثير الشركات الأجنبية التي تستخدم علم ليبيريا على تركيب هذا الأسطول التجاري؛ ففي حالة أي أسطول قومي نجد توازنا ملحوظا بين أنواع السفن التي تشترك في تكوين الأسطول، لكن حيث إن الأسطول الليبيري لا يمثل أسطولا وطنيا، فإنه خاضع تماما لمصالح الشركات التي تدفع الرسوم المطلوبة مقابل رفع العلم. (2)
تمثل اليابان الصورة المضادة لتركيب الأسطول الليبيري، فهنا نجد توازنا بين جميع أنواع السفن التي تكون الأسطول التجاري الياباني: 63٪ لناقلات البترول والخامات المعدنية، 27٪ لسفن البضائع العامة، 6٪ لسفن الركاب وسفن الشحن الحديثة للمعبآت
Container ، 4٪ لسفن صيد الأسماك والحيتان. ولا شك أن الارتفاع الملحوظ في الناقلات المتخصصة في البترول والخامات المعدنية يعكس صورة الاحتياج الصناعي الياباني لموارد الطاقة من الشرق الأوسط وأستراليا، والاحتياج إلى الموارد المعدنية (وخاصة الحديد والحديد الخردة) من مناطق كثيرة على رأسها الحديد الخام من أمريكا اللاتينية والخردة من الولايات المتحدة .
والصورة نفسها نجدها في الأسطول البريطاني؛ حيث ترتفع نسبة الناقلات الخاصة إلى 62٪، وتظهر سفن البضائع وسفن الركاب والشحن الحديثة بنسبة عالية (37٪). (3)
يظهر توازن أكثر في تركيب الأسطول الأمريكي؛ حيث ترتفع نسبة سفن البضائع إلى أكثر من النصف وتنخفض الناقلات الخاصة إلى قرابة الثلث، كما ترتفع نسبة سفن الركاب والشحن الحديث إلى 10٪، ولكن هذا التركيب المتوازن ينعكس تماما إذا ما أدخلنا نسبة كبيرة من أسطولي ليبيريا وبنما ضمن الأسطول الأمريكي. (4)
يمثل الأسطول السوفييتي عكس النمط الليبيري تماما، فإن نسبة الناقلات الخاصة في مكونات هذا الأسطول هي الربع فقط، وتكون سفن البضاعة 40٪ وسفن الركاب والشحن الحديثة 8٪. ويختلف الأسطول السوفييتي عن بقية أساطيل العالم التجارية في أن نسبة سفن صيد الأسماك هي أعلى نسبة في العالم؛ إذ تبلغ 27٪ من حمولة كل الأسطول السوفييتي. وفي الوقت نفسه فإن الحمولة الفعلية لسفن صيد السمك السوفييتية (أربعة ملايين من الأطنان) تكون حوالي 52٪ من مجموع حمولة أسطول الصيد العالمي بأجمعه، وصحيح أن الاتحاد السوفييتي يحتل المرتبة الثانية أو الثالثة في ترتيب دول العالم من حيث كمية الصيد البحري، إلا أن هذا الأسطول الضخم كان خليقا به أن يحتل المرتبة الأولى الإنتاجية في العالم. وهناك الكثير من الأقوال عن المهام الاستراتيجية التي تؤديها سفن صيد الأسماك السوفييتية في كل بحار العالم. ولعل هذا هو المبرر الوحيد لضخامة أسطول الصيد السوفييتي.
وتشكل سفن الصيد 50٪ من حمولة أسطول أيسلندا، وهي بذلك تتفوق على أسطول السماكة السوفييتي من حيث نسبة المشاركة في تركيب الأسطول القومي، لكن حمولة هذه السفن الأيسلندية هي 60 ألف طن فقط. وعلى العموم فإن ارتفاع النسبة في أيسلندا أمر مفهوم؛ لأن صيد البحر يكاد يشكل المصدر الأساسي للاقتصاد في تلك الدولة القطبية، وتكون سفن الصيد 21٪ من الأسطول التجاري في بيرو، 20٪ في كوبا، 17٪ في جنوب أفريقيا ، 15٪ في بولندا، 14٪ في ألمانيا الشرقية، 13٪ في البرتغال، 12٪ في إسبانيا، 6٪ في كندا، 1٪ في بريطانيا. (5)
تختلف الدول فيما بينها في تركيب أسطولها التجاري، فالبعض أقرب إلى النمط الليبيري مثل النرويج (82٪ للناقلات الخاصة)، والبعض ينتمي إلى النمط الياباني أو الإنجليزي مثل فرنسا (66٪ للناقلات الخاصة، 22٪ لسفن البضاعة، 10٪ لسفن الركاب والشحن الحديثة، 3٪ لسفن الصيد)، ومثلها في ذلك إيطاليا (64٪، 20٪، 15٪، 1٪ على التوالي). وأخيرا فإن الأسطول الألماني التجاري، والهولندي والإسباني يمثلون النمط الأمريكي من حيث انخفاض نسبة الناقلات الخاصة إلى أقل من 50٪ من حمولة الأسطول.
ولا شك أنه أصبح واضحا الآن أن كل أسطول يتكيف مع سياسات الدولة التي يخدمها مثل أساطيل اليابان وبريطانيا وأمريكا والاتحاد السوفييتي ... إلخ، أو يتكيف مع المهام الملقاة عليه كمصدر خارجي للدخل القومي، كما هو الحال في الأسطول النرويجي أو اليوناني أو الدانمركي، أو هو أسطول مستعار مثل أسطول بنما وليبيريا. ويترتب على هذا أن يتخذ الأسطول نمطا معينا في تركيبه، بحيث تظهر صور مختلفة من التوازن بين السفن، أو ميل إلى التركيز على نوع أو آخر من السفن.
ويمكننا الاستطراد إلى ما لا نهاية في تحليل الأسطول العالمي التجاري، ولكننا نكتفي بهذا القدر، محيلين القارئ إلى جدول (
4-9 ) الذي يظهر فيه تحليل الأسطول العالمي كله بصورة تفصيلية، وذلك لكافة السفن التي تزيد حمولتها المسجلة
Gross Registered Tonnage G.R.T
عن مائة طن. (انظر الجدول في آخر هذا الفصل). (5) درجة الاعتماد على النقل البحري
يمكن أن تقاس هذه الدرجة بمقياسين: حمولة الأسطول التجاري إلى عدد السكان داخل كل دولة، والثاني كمية التجارة الداخلة والخارجة من موانئ الدولة إلى عدد سكانها. ويعطينا المقياسان عدد ما «يحوزه» (نظريا) الفرد من حمولة الأسطول أو كمية البضائع الداخلة والخارجة من الموانئ بالطن، ويلخص جدول (
4-4 ) النتائج التي توصل إليها أندريه فيجاري في هذا الصدد.
وتتضح من هذا الجدول عدة حقائق على أكبر جانب من الأهمية، وهي في حد ذاتها ليست حقائق جديدة، ولكنها تدعم بالرقم ما كان معروفا من قبل. (1)
أن هناك عددا كبيرا من الدول التي تمتلك أسطولا تجاريا أو يرفرف علمها على السفن التجارية، تعتمد اعتمادا كبيرا على عائد هذه السفن من أرباح. فإذا كان المتوسط العالمي 0,05 فإنه يمكن تصنيف الدول على النحو التالي: (أ)
دول تحت المتوسط: الهند وبولندا والاتحاد السوفييتي. (ب)
دول عند المتوسط: الولايات المتحدة ويوجسلافيا. (ج)
دول أعلى من المتوسط: بريطانيا - اليابان - اليونان - إيطاليا - ألمانيا الغربية - فرنسا - هولندا - السويد - هونج كونج - لبنان. (د)
دول شاذة (اعتماد شديد على عائدات السفن): تتصدرها ليبيريا ثم النرويج ثم بنما.
جدول 4-4: درجة الاعتماد على النقل البحري. *
الدولة
حمولة السفن (مليون طن) 1966
كمية البضائع المارة بالموانئ (مليون طن) 1964
عدد السكان (مليون شخص) 1966
درجة الاعتماد على النقل البحري
بالقياس إلى حمولة الأسطول فرد/طن
بالقياس إلى حركة الموانئ فرد/طن
ليبيريا
20,6
6
1
19,04
5,51
بريطانيا
21,5
86,4
55
0,39
1,59
النرويج
16,4
38,9
3,7
4,41
10,54
اليابان
14,7
194,3
98,8
0,14
2,00
الولايات المتحدة
10,8
381,5
196,8
0,05
1,98
الاتحاد السوفييتي
9,5
83,6
223,2
0,04
0,36
اليونان
7,1
10,7
8,5
0,83
1,26
إيطاليا
5,8
110,7
51,8
0,11
2,16
ألمانيا الغربية
5,7
94,3
59,6
0,09
1,61
فرنسا
5,2
114,3
49,4
0,10
2,36
هولندا
4,9
141,9
12,4
0,39
11,70
بنما
4,5
71,6
1,2
3,52 - †
السويد
4,4
50,9
7,8
0,56
6,65
الهند
1,7
25,6
483
0,003
0,05
بولندا
1,1
26,3
31,6
0,03
0,84
يوجسلافيا
1
10
19,7
0,05
0,52
هونج كونج
0,9
11,4
3,8
0,24
3,09
لبنان
0,7
37,1
2,4
0,31
16,28
العالم
171,1
3040
3280
0,05
0,96 *
André Vigarié “La Circulation Maritime” Editions Génin, Paris 1968, P. 114 . †
لم يضع «فيجاري» رقما؛ لأن البضائع المذكورة تمر عبر قناة بنما ولا تنزل إلى الموانئ إلا بنسبة ضئيلة جدا. (2)
بالنسبة إلى درجة الاعتماد على حركة الموانئ داخل كل دولة نجد فوارق كبيرة بين الدول الثماني عشرة المذكورة في الجدول. فإذا كان المتوسط العالمي 0,96 طن للشخص فإن تصنيف الدول يكون كالآتي: (أ)
دول تحت المتوسط: الهند - الاتحاد السوفييتي - يوجسلافيا - بولندا. ومعنى ذلك أن هذه الدول لا تزال في معاملاتها التجارية البحرية محدودة جدا، وأن جزءا كبيرا من حركتها التجارية ما يزال ينقل بوسائل النقل البري (الحديدي على وجه خاص). وتتضح هذه الحقيقة أكثر من كتلة الدول الاشتراكية التي تترابط فيما بينها بشبكة حديدية جيدة. وبعبارة أخرى فإن هذه الدول (باستثناء الهند) ذات توجيه بري في حركة النقل التجاري. (ب)
دول عند المتوسط: بريطانيا - الولايات المتحدة - اليونان - ألمانيا الغربية، ويعني هذا أن مجموع الدول هذه ومثيلاتها تقوم موانئها بخدمتها، بالإضافة إلى القليل من عملية الترانزيت التجاري. (ج)
دول أعلى من المتوسط: ليبيريا - اليابان - إيطاليا - فرنسا - السويد - هونج كونج، وتمثل هذه الدول عمليات الترانزيت الكبيرة بالإضافة إلى خدمة حركتها التجارية. وفيما يختص باليابان وفرنسا نجد أن جبهاتهما البحرية الطويلة تسمح بمثل هذه الحركة التجارية الخاصة بالدولة أو الترانزيت إلى الدول المجاورة، وكذلك الحال فيما يختص بإيطاليا وهونج كونج. (د)
دول شاذة (تعيش أساسا فيما يبدو على الترانريت ): لبنان - هولندا - النرويج. وهذه الدول لها خلفية خاصة من حيث مواقعها وعلاقاتها بالدول المجاورة. ففي لبنان أصبحت بيروت الميناء الأول في شرق البحر المتوسط الآسيوي لخدمة تجارة الترانزيت مع عدد كبير من الدول العربية (الأردن - سوريا - وبدرجات أقل العراق والكويت والسعودية). وقد جاء ذلك نتيجة ظرف طارئ هو احتلال إسرائيل لأراضي فلسطين. وقد كانت حيفا من قبل ذلك ميناء هاما منافسا. أما هولندا فإنها تقوم بخدمة منطقة الرور الصناعية بصفة خاصة وحوض الراين بدوله المختلفة بصفة عامة. أما النرويج فهي إحدى مناطق الترانزيت لاسكندنافيا، ويضاف إلى ذلك أن لبنان نهاية خطوط أنابيب البترول السعودية والعراقية على البحر المتوسط، وأن النرويج تتعامل في الغالبية الساحقة من خام الحديد السويدي الذي يصدر عن طريق ميناء «نارفيك» النرويجي. (6) الموانئ والمرافئ (6-1) احتياجات الميناء الجيد
تحتاج البضائع ويحتاج الركاب الذين يستخدمون النقل البحري إلى وسيلة لتسهيل الوصول إلى السفن أو مغادرتها. وهذه التسهيلات هي التي تقدمها الموانئ. وكذلك تحتاج السفن إلى كل ما يؤهلها للقيام برحلتها. وهذه الاحتياجات من مياه عذبة ووقود وإصلاحات وغير ذلك تحصل عليها من الموانئ أيضا.
وفي دراستنا للموانئ يجب أن نلاحظ أن هناك قسمين متكاملين يشكلان الميناء؛ ذانك هما: الميناء في حد ذاته الذي ترسو فيه السفن، والمرفأ أو المكان الذي يقع فيه الميناء. والمرفأ إذن مرتبط في عمومياته وتفصيلاته بالظروف الجغرافية الطبيعية ارتباطا تاما. أما الميناء - وهو الجزء الذي تنتهي إليه حركة السفينة أو تبدأ منه - فيرتبط ارتباطا وثيقا بشكل المرفأ، وما يقوم به الناس من عمل لجعله صالحا لرسو السفن وحركة التجارة والنقل؛ أي إنه يتكون غالبا من الإنشاءات الهندسية مثل الأرصفة والروافع والمخازن وغير ذلك من وسائل التسهيلات الأرضية، وتتلخص احتياجات الميناء الجيد في النقاط التالية: (1)
مياه عميقة: وهذه ترتبط بالمرفأ الطبيعي في أساسه ، وقد تكون المياه العميقة دائمة كما هو في الخلجان الواسعة، أو مؤقتة كما هو في الخلجان الضيقة المرتبطة بحركة المد والجزر اليومية، وفي هذه الحالة يمكن المحافظة على عمق المياه بإقامة أهوسة تقفل المياه العالية داخل الأحواض وحول الأرصفة إلى أن تأتي موجة المد التالية. وهناك موانئ تتمتع بحركة مد وجزر تحدث أربع مرات في اليوم مثل سوثهامبتون في جنوب بريطانيا؛ مما يجعلها ميناء جيدا. (2)
الأمان: وقد يكون هذا الأمان الذي يقدم للسفن ناجما عن طبيعة المرفأ الذي يتكون من خليج طبيعي، أو الذي يقع على مصب نهري واسع (كهامبورج أو لندن). ولكن في كثير من الموانئ المفتوحة - مثل الإسكندرية أو بيروت - يحتاج الأمر إلى بناء حواجز أمواج خارجية لكي تعطي السفن الراسية الأمان المطلوب ضد الأمواج العالية التي قد تصيب السفينة بأضرار نتيجة اصطدامها المتكرر بالرصيف الذي ترسو عليه. (3)
قناة ملاحية أو ممر ملاحي واضح واسع داخل الميناء تتحرك فيه السفن من الخارج إلى الأرصفة أو بالعكس، ويمكن أن تقام هذه القناة أو القنوات داخل الميناء بواسطة نسف صخور القاع أو استخدام الكراكات بصفة مستمرة مع تحديد مسار القناة بالعلامات البحرية المعروفة، وبالأضواء، لتحدد للسفن الممر الذي يجب أن تجتازه السفينة. وتسعى سلطات الموانئ دائما إلى تطهير هذه الممرات ونقل حطام المراكب التي قد تغرق داخلها. ونظرا لأن قيادة السفن داخل الموانئ عملية صعبة فإن القبطان يترك قيادة السفينة داخل الميناء للمرشد البحري الذي يصعد إلى السفينة بمجرد ظهورها خارج الميناء؛ ذلك لأن المرشد وحده هو الذي يعرف الكثير عن طبوجرافية الميناء وقاعه، والممرات التي يجب أن تسلكها السفينة لكي تصل إلى الرصيف. (4)
تسهيلات التموين: يحتاج الميناء الجيد إلى توفير عدد من التسهيلات الضرورية للسفن الراسية قبل أن تغادر الميناء. ومن أهم هذه التسهيلات الحصول على المياه العذبة وعلى الوقود وعلى الغذاء، وتوفير أو شحن بطاريات الكهرباء، أو الحصول على تيار كهربائي من الميناء خلال رسو السفينة على الرصيف. (5)
الأرصفة والروافع: يحتاج الميناء الجيد أيضا إلى أرصفة كافية، وإلا اضطرت السفن إلى الانتظار فترة طويلة خارج الميناء قبل أن تفرغ أو تشحن حمولتها. ويترتب على ذلك غرامات تدفعها هيئة الميناء إلى أصحاب السفن نتيجة لتعطلها، كذلك تحتاج عملية الشحن والتفريغ إلى وجود عدد كاف من الروافع المثبتة على الأرصفة، وعدد آخر من الروافع العائمة لتسهيل هذه العملية بعيدا عن الرصيف، وعدد كاف من الصنادل البحرية التي يمكن أن تفرغ فيها شحنات السفينة لكي تتجه بها إلى الأماكن المناسبة لإعادة الشحن على الأرصفة التي قد لا تستطيع أن تصل إليها السفن. وإلى جانب هذا تحتاج الموانئ الجيدة إلى قوة عاملة كافية من عمال الشحن والتفريغ المدربين، كي لا يطول زمن بقاء السفينة في الماء أكثر مما يجب. (6)
مواصلات جيدة: لكي تتم شروط الميناء الجيد يجب أن يكون متمتعا بوسائل مواصلات جيدة بالداخل: أنهار وقنوات أو طرق حديدية وبرية لكي تجلب البضائع المراد شحنها، أو تنقل البضائع التي تم تفريغها إلى داخلية الدولة. وكذلك قد يحتاج الميناء الجيد أيضا إلى وجود مطار قريب يستقبل الركاب وبعض البضائع التي تحتاج إلى النقل السريع داخل الدولة. (7)
إدارة الميناء: لكل ميناء إدارة خاصة حكومية أو شبه حكومية، أو شركة مساهمة تتولى إدارته بمشكلاته المعقدة واحتياجاته المستمرة للتحسين والإصلاح، ومراقبة العمل ومشكلات العمالة والعمال وغير ذلك. وإلى جانب ذلك فإنه توجد مكاتب حكومية في الموانئ، أهمها مكاتب الجمارك، وإدارة الجوازات والهجرة والأمن الداخلي للميناء، وإدارة الحجر الصحي على الأشخاص والسلع الزراعية، ومكاتب المواصفات السلعية عامة، وكل هذه المكاتب والإدارات الحكومية قد لا تخضع لإدارة الميناء خضوعا مباشرا، ومن ثم يجب التنسيق المستمر كي لا تكون هناك تسهيلات من ناحية وتعطيل لسير العمل من ناحية أخرى. (8)
المخازن: يحتاج الميناء الجيد أيضا إلى أبنية متعددة لتخزين البضائع التي تفرغ أو التي تشحن من الميناء، وقد تعددت أشكال هذه المخازن في الوقت الحاضر تعددا كبيرا؛ مما يؤدي بالموانئ إلى استمرار التوسع كي تصبح صالحة للعمل، ومن بين هذه الأبنية المخازن العامة التي تصلح لكثير من أنواع السلع، ومخازن الحبوب الضخمة
Grain elevators
والمخازن المبردة، وأبنية تجهيز السلع بالحزم والإعداد للشحن ... إلخ. (9)
الأرصفة الجافة أو الأحواض الجافة: وهذه هي آخر الاحتياجات اللازمة للميناء الجيد، وهي تمكنه من زيادة العمالة ودخل الميناء، وذلك بالقيام بعمليات الإصلاح والصيانة والطلاء وغير ذلك مما يلزم السفن.
وعلى ضوء هذه الظروف: عمق المياه في الميناء، وسهولة الحركة والحماية، وسرعة النقل والشحن، واتساع الميناء وتعدد أرصفته وحسن إدارة وتوافر المخازن ... إلخ. تتحدد أحجام الموانئ وسعة حجم التجارة التي تتعامل فيها. لكن تغير أحجام السفن والحاجة إلى أعماق متزايدة من أجل السفن العملاقة، سواء كانت سفن ركاب أو سفن شحن أو ناقلات بترول، قد أدى إلى تغير حجم الحركة في الموانئ التقليدية؛ فقد قلت مساهمة كثير من الموانئ في حجم التجارة القومي أو الإقليمي، في مقابل نمو نشاط احتكاري للتجارة متركز في عدد قليل من الموانئ. وكذلك علينا ألا نغفل الجوانب السياسية التي تساعد على تنشيط أو تدهور الحركة التجارية في عدد من الموانئ (راجع الفصل الأول).
وفي هذا المجال يمكننا أن نعود إلى أمثلة سبق ذكرها: تدهور نسبي في حركة التجارة في هامبورج بعد دخول ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا ضمن دائرة الدول الشرقية، أو النمو الهائل للحركة التجارية في ميناء روتردام نتيجة لموقعه الممتاز على عتبة الإقليم الصناعي في كتلة السوق الأوروبية. وكذلك يمكن أن نضيف تركز الحركة التجارية في شرق البحر المتوسط في ميناء بيروت وتحولها عن ميناء حيفا بعد احتلال اليهود لفلسطين، أو تدهور حجم التجارة في ميناء شنغهاي الصيني بعد تحولها إلى النظام الشيوعي مباشرة (نتيجة توقف أشكال التجارة الرأسمالية الغربية)، لكنه عاد إلى مباشرة نشاطه التجاري الرئيسي فيما بعد. (6-2) تصنيف الموانئ من حيث المواقع والأهمية
وإلى جانب هذه العوامل، فإن هناك عاملا حاسما آخر في تحديد حجم التجارة في الموانئ العالمية، فمناطق الإنتاج الصناعية تتعامل موانئها في أحجام تجارية أعلى بكثير من المناطق غير الصناعية؛ ونظرا لأن المحيط الأطلنطي الشمالي يضم أكبر تركز للصناعة على كلا ساحليه فإن موانئه تساهم بنسبة عالية في التجارة المحمولة بالبحر بالقياس إلى أي منطقة بحرية أخرى في العالم، ويتضح ذلك من الجدول التالي:
جدول 4-5: مساهمة المحيطات المئوية في التجارة المحمولة بحرا.
المحيط أو أجزاؤه
النسبة المئوية للتجارة البحرية
النسبة المئوية
في 1961
1964
من الأسطول العالمي 1955
الأطلنطي الشمالي
40,5
41,2
50,65
البحر المتوسط
11,3
15,7
14,85
الأطلنطي الأوسط والجنوبي
18
18,4
15,96
الأطلنطي بأكمله
69,8
75,3
81,46
الهندي
18,9
11,2
2,35
الباسيفيكي
11,2
13,4
13,84
وفي داخل هذا التقسيم العام لمواقع الموانئ على المحيطات العالمية نجد ارتفاعا كبيرا في مناطق معينة لحجم التجارة لا يبرره سوى أن مثل هذه الموانئ عبارة عن موانئ ترانزيت لمنطقة واسعة. وأكبر الأمثلة توضيحا لهذه الحقيقة هونج كونج وسنغافورة وعدن والسويس وبيروت وروتردام.
وبناء على هذه الظروف - من بين مجموعة ظروف أخرى - يمكننا أن نرتب الموانئ الرئيسية في العالم على النحو التالي: (الأرقام أمام الميناء تشير إلى حمولة السفن الداخلة والخارجة
N.R.T. ، وذلك لعامي 1961، 1962. أما الأرقام المحصورة بين الأقواس فتشير إلى حمولة السفن سنة 1965.)
جدول 4-6: موانئ يزيد التعامل فيها عن 30 مليون طن سنويا.
السويس 155
ميناءا عبور قناة السويس على أضخم طريق بحري يربط المناطق المدارية بالمناطق الصناعية
بور سعيد 154
لندن 88
ميناء التجارة الإنجليزي الأول، وميناء ترانزيت لأوروبا
موانئ أوروبا الغربية على الأطلنطي الشمالي
روتردام (122)
ميناء ترانزيت هولندي ألماني
أنتفيرب (59)
ميناء ترانزيت بلجيكي فرنسي ألماني
قناة كييل 41
نقطة عبور ملاحة البلطيق إلى الأطلنطي
الهافر 38
الميناء القومي الفرنسي الأول
هامبورج (35)
الميناء القومي الألماني الغربي الأول
ليفربول 30
ميناء منطقة الصناعة في لانكشير ومستورد الخامات الأول
نيويورك؟
الميناء الأول للمنطقة الصناعية الأمريكية
البحر المتوسط
مرسيليا (57)
ميناء فرنسي قومي + ترانزيت لدول السوق الأوروبية
جنوا (34)
الميناء القومي الإيطالي الأول
سنغافورة (70)
موانئ عبور هامة على بوابتي الباسفيك الشرقية والغربية
بنما (65)
موانئ الباسفيك
يوكوهاما (65)
موانئ اليابان الرئيسية
تاجويا (34)
أوزاكا (32)
هونج كونج (33)
ميناء ترانزيت أساسي إلى الصين وجنوب شرق آسيا + صناعة
ويدخل في هذه الفئة موانئ تصدير البترول من الخليج العربي، وأرقامها متغيرة بتغير الإنتاج.
جدول 4-7: موانئ تتراوح جملة التعامل فيها بين 15-30 مليون طن.
موانئ على طريق الأطلنطي الشمالي
سوثهامبتون 28 (ميناء إنجليزي رئيسي في الجنوب)
مالمو 17 - هالسنجبورج 20 - جوتبورج 17 (موانئ السويد)
بريمن 19 (ميناء ألماني رئيسي تجاري وصناعي)
نابولي (16)
ميناء إيطالي جنوبي هام على طريق البحر المتوسط
موانئ الأطلنطي الأوسط والجنوبي
مركايبو 29 - أوروبا 24
موانئ تصدير بترول فنزويلا
لاس بالماس 29
ميناء ترانزيت في جزر الكناريا
سانتوس 30
ميناء تصدير البن البرازيلي
موانئ أمريكية ويابانية على الباسيفيك
سان فرانسسكو 26 - لوس أنجيلوس 22
طوكيو 17
جدول 4-8: موانئ تتراوح جملة التعامل فيها بين 5 و15 مليون طن.
موانئ أوروبا الغربية على طريق الأطلنطي الشمالي
كوبنهاجن 130 - استكهولم 11
الدانمرك - السويد
جدينيا 7 أوسلو 5
بولندا - النرويج
أمستردام (14) روان (10)
هولندا - فرنسا
دنكرك (16) بلفاست 7
فرنسا - أيرلندا
جلاكبو 7 - نيوكاسل 9
بريطانيا
مانشستر 7 - شربورج 5
بريطانيا - فرنسا
موانئ على طريق البحر المتوسط
فنيسيا (15) ليفورنو 7
في إيطاليا
بيريه 12 إسطنبول 7
اليونان - تركيا
الإسكندرية 8
مصر
موانئ على الأطلنطي الجنوبي
كيبتاون 11 بوينس أيرس 8
في جنوب أفريقيا - الأرجنتين
ريوديجانيرو 13
البرازيل
سدني 13 - ملبورن 11
موانئ على الباسيفيك في أستراليا
موانئ المحيط الهندي الرئيسية
دربان 11 - بمباي 12
جنوب أفريقيا - الهند
كلكتا 7 - مدراس 6
الهند
كولمبو 10 - كراتشي 6
سريلانكا - باكستان
فريمانتل 14
أستراليا
ويتضح من هذه التصنيفات الثلاثة أن من بين 60 ميناء رئيسيا (تعامل أكثر من خمسة ملايين من الأطنان سنويا) نجد 40 ميناء واقعة في حوض المحيط الأطلنطي (25 ميناء على طريق المحيط الأطلنطي الشمالي بين أوروبا وأمريكا + 9 موانئ رئيسية في البحر المتوسط + 7 موانئ في المحيط الأطلنطي الأوسط والجنوبي). ويعني هذا أن 66٪ من الموانئ الكبرى في العالم مرتبطة بحوض الأطلنطي، ويتفق هذا مع ملخص الحركة التجارية في المحيطات كما جاء في جدول (
4-5 ). ويلي ذلك في الترتيب المحيط الباسيفيكي؛ حيث توجد اليابان وموانئ غرب الولايات المتحدة وأستراليا الشرقية، وكلها موانئ حركة. ومجموع الموانئ الرئيسية في حوض الباسيفيك أحد عشر ميناء، منها أربعة موانئ في اليابان وحدها. وأخيرا تأتي الحركة والموانئ الرئيسية قليلة في المحيط الهندي، فمجموع الموانئ الرئيسية به هي سبعة فقط، ولكن علينا أن نلاحظ أن موانئ تصدير البترول من الشرق الأوسط، وخاصة من الخليج العربي (موانئ إيران والدول العربية المنتجة) تعيد الميزان إلى وضعه الطبيعي في كم الحركة في حوض المحيط الهندي.
ولعل أكثر الأمثلة توضيحا لأهمية الصناعة والموقع الجغرافي على المحيطات الثلاثة على حجم التجارة التي تتعامل فيها الموانئ هو أن نيويورك (+ 30 مليون طن) فيلادلفيا وبلتيمور (+ 25 مليون طن) تقع على الساحل الشرقي وفي المنطقة الصناعية الكبرى في الولايات المتحدة، بينما يصبح حجم التجارة في سان فرانسسكو ولوس أنجيلوس - وهما على الساحل الغربي للولايات المتحدة بعيدا عن المركز الصناعي الأمريكي - أقل من ذلك بكثير.
خريطة 4-1
وفي المجموع هناك حوالي 150 ميناء كبيرا في العالم (حجم التجارة السنوي يزيد عن مليونين من الأطنان) منها حوالي الثلثين مركزين على شواطئ المحيط الأطلنطي والبحر المتوسط (انظر الشكل
4-2 ).
وتختلف الموانئ فيما بينها اختلافا كبيرا؛ فميناء سوثهامبتون مثلا ذو مياه عميقة ويمكنه أن يستقبل سفنا ضخمة (إلى حدود غاطس قدره 40 قدما)، بينما ميناء روتردام لا يستطيع أن يستقبل مثل هذه السفن الضخمة (إلى حدود غاطس قدره 33 قدما فقط). وليس معنى هذا أن ميناء سوثهامبتون أكثر حركة من روتردام، بل العكس صحيح. وعلى أية حال فإن سفن البضاعة الكبيرة ومعظم سفن الركاب لا يزيد غاطسها عن 20-25 قدما. وهناك كثير من سفن البضائع المتوسطة والصغيرة لا يزيد غاطسها عن 15 قدما.
كذلك لا يعني حجم التجارة التي يتعامل فيها الميناء أن السفن التي تزور هذا الميناء من نوع كبير أو صغير؛ فقد دلت الدراسات على أن الكثير من السفن الصغيرة هي التي ترفع حجم التجارة في الميناء؛ لأنها أكثر ترددا على الموانئ من السفن الكبيرة التي تستغرق وقتا أطول في ترددها لارتباطها بخطوط أو بحمولات كبيرة تذهب بها بعيدا عبر المحيطات، فمن بين 12 ألف سفينة دخلت ميناء إنفرس البلجيكي عام 1938 كانت هناك سبعة آلاف سفينة أقل من ألفي طن، وأقل من مائة سفينة أكثر من ثمانية آلاف طن. وكذلك في أوائل الستينيات دخلت روتردام 25 ألف سفينة حمولتها 64 مليون طن، في الوقت الذي دخلت فيه لندن 55 ألف سفينة حمولتها 88 ألف طن، وهذا يعني أن السفن المتعاملة مع روتردام أكبر من تلك في لندن.
وقياس أهمية الميناء أمر صعب. وهناك مقياس وزن الحمولة التي تشحن وتفرغ في الميناء من البضائع، لكن هناك سلعا معينة ذات حمولة عالية وموانئ معينة تتعامل فيها؛ مثال ذلك سفن نقل خام الحديد في البحيرات العظمى الأمريكية، ولو أخذنا هذا المقياس لوجدنا أن ميناء دولوث مثلا سوف يصبح حجم التعامل فيه أعلى أو مساويا لميناء لندن أو نيويورك؛ ولذلك يفضل أن يستخدم مقياس يعتمد على أساس الوزن الصافي للسفن الداخلة والخارجة من الميناء. ويسمح هذا المقياس بضم كل السفن سواء سفن الركاب أو غيرها دون تمييز، وبذلك يعطي صورة أصدق لحركة الميناء البحرية.
وتختلف الموانئ فيما بينها في شكل الإدارة التي تتولاها؛ فهناك موانئ تديرها الحكومات؛ مثل موانئ مصر وفرنسا وإيطاليا وعدد من دول الكومنولث البريطاني. وبعض الموانئ خاضعة لإشراف المجالس البلدية، وهو يمثل عددا قليلا من الموانئ (مثل ميناء بريستول في إنجلترا). وهناك الموانئ الأمريكية التي تختلف فيها إدارة الموانئ من شركات خاصة إلى اشتراك بين الشركات والبلديات والدولة أو الولاية، فمثلا ميناء نيويورك تشترك في إدارته هيئة مشتركة تضم ولاية نيويورك وولاية نيوجرسي ومجلس بلدية نيويورك. وفي الماضي كانت بعض شركات السكك الحديدية تمتلك الموانئ ومنشآتها، كما كان في بريطانيا حتى عام 1047، وفي الولايات المتحدة ساهمت شركات السكك كثيرا في إنماء الموانئ (مثل فيلادلفيا وبلتيمور)، ولكنها لم تملك مثل هذه الموانئ. (6-3) تصنيف الموانئ من الناحية الوظيفية
تنقسم الموانئ من الناحية الوظيفية إلى عدة أقسام، ولكن علينا أن نعرف منذ البداية أن هذه الأقسام لا تمنع تعدد الوظائف في الميناء الواحد، كأن يكون ميناء حربيا وتجاريا في وقت واحد، ولكننا نصف الميناء غالبا بوظيفته الأولى، وفي أحيان كثيرة يصعب علينا إعطاء صفة واحدة للميناء من حيث وظيفته، لتفاعل عدة وظائف معا في الميناء الواحد، وبدرجات شبة متكافئة، ومع ذلك فإنه لا بد لنا من أن نوضح بعض الوظائف الأساسية في أنواع الموانئ لنعرف شيئا عن ارتباطات الوظيفة بشكل الميناء وحركته. (أ) الموانئ الحربية
إن الوظيفة الأساسية لميناء حربي أو قاعدة بحرية كبيرة استراتيجية في جوهرها، وأهم الاحتياجات في مثل هذا الميناء هو مرسى واسع، وفي القاعدة البحرية الكبيرة نجد أيضا مراسي عديدة واسعة، إلى جانب عدد كبير من تسهيلات الإصلاح مثل الأحواض الجافة، وربما أيضا (في عدد قليل من الموانئ الحربية) ترسانة خاصة لبناء السفن الحربية بأنواعها المختلفة أو تخصص في بناء نوع واحد من أنواع هذه السفن، وتجهيزات عسكرية خاصة بتسليح هذه السفن.
وأهم ما يميز الميناء الحربي هو موقعه الجغرافي بالنسبة للمياه التي يتحرك فيها الأسطول الحربي الرابض في هذا الميناء، ولذلك تتعدد الموانئ الحربية إذا كان الساحل طويلا، أو إذا كان للدولة أكثر من واجهة بحرية ذات أهمية عسكرية بالنسبة لأمن الدولة أو بالنسبة لأطماع الدولة التوسعية؛ ولهذا فإن تغير استراتيجية الدولة العسكرية من هجوم إلى دفاع، أو من انتقال مركز الثقل العسكري من بحر إلى آخر يؤدي بدوره إلى تغيرات في أهمية الميناء الحربي.
ومن الأمثلة على ذلك أن ميناء شاثام
Chatham
الإنجليزي كان له دور هام كقاعدة بحرية خلال الحرب الإنجليزية الهولندية في القرن السابع عشر، وبالمثل كان لدوفر وبورتسموث وبفنبورت أهمية عسكرية كموانئ إنجليزية على بحر المانش خلال الحروب الإنجليزية الفرنسية أيام إمبراطورية نابليون، وانتهت هذه الأهمية بعد سقوط نابليون في 1815، وبعد توحيد ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر، وأخذت تتطلع إلى تكوين إمبراطورية استعمارية في أفريقيا بعد مؤتمر برلين 1895، بدأت أهمية نمو الأسطول الحربي الألماني تظهر، ومعها تتركز أهمية عسكرية لعدد من موانئ ألمانيا الصغيرة المطلة على بحر الشمال، وعلى الأخص في جزيرة هليجولند المواجهة لميناء هامبورج ومصب الألب.
وفي خلال التوسع الاستعماري للإمبراطورية البريطانية أخذت بريطانيا تقيم عددا من القواعد البحرية في مناطق متعددة من العالم لتأمين أملاكها وتجارتها من مستعمراتها؛ لهذا نجد بريطانيا تستولي على عدد من المفاتيح البحرية وتحولها إلى قواعد حيوية لأساطيلها العسكرية، ومن أمثلة ذلك ميناء جبل طارق الذي يتحكم في البحر المتوسط كله، بما في ذلك الشريان البحري الحيوي الذي يمر عبر قناة السويس إلى عالم المحيط الهندي. وكذلك قامت مالطة بدور مماثل داخل البحر المتوسط. وكذلك قبرص والإسكندرية.
وكذلك سيطرت القاعدة البحرية الإنجليزية في هونج كونج على جزء هام من تجارة الصين. وفي الوقت نفسه كانت قاعدة بحرية لأسطول إنجليزي في شرق آسيا وبحر الصين، وبالمثل كان لسنغافورة وملقا أهمية حيوية للملاحة في جنوب شرق آسيا؛ فهي بمثابة مفتاح جوهري بين عالمي المحيط الهندي والباسيفيكي، وبين أوروبا وآسيا وأستراليا في وقت واحد، والبحرين واتحاد إمارات الخليج وعمان كلها كانت مفاتيح إنجليزية على خليجي عمان والعربي (الفارسي سابقا) يتحكم في الطريق الذي اقترحته ألمانيا خلال فترة توسعها والمعروف باسم خط برلين-بغداد (خط حديدي)، وكان الغرض منه تهديد أملاك بريطانيا من المحيط الهندي، وهي في الوقت نفسه منطقة كانت تنتهي إليها أطماع روسيا القيصرية في الوصول إلى المحيط الهندي عبر إيران.
وكانت عدن تسيطر على مفتاح أقصر طرق المواصلات البحرية في الهند وآسيا إلى أوروبا عبر قناة السويس، وهي في الوقت نفسه مركز بحري إنجليزي يسيطر على منطقة البحر العربي من شرق أفريقيا إلى السواحل الغربية للهند وسواحل الجزيرة العربية.
وكذلك كانت الولايات المتحدة - ولا زالت - تحتل قاعدة جوانتنامو في الساحل الجنوبي لجزيرة كوبا، وذلك لتأمين نفوذها في البحر الكاريبي وحماية مداخل قناة بنما. وكذلك قبلت قاعدة بيرل هاربور (في جزر هاواي) قاعدة الأسطول الباسيفيكي الأمريكي المتقدم في اتجاه آسيا الشرقية وجنوب شرق آسيا؛ ولهذا فإن ضرب اليابان لهذا الميناء في بداية حربها مع أمريكا، قد أوقع كل الاستراتيجية الأمريكية العسكرية في الباسيفيك في مأزق خطير لفترة طويلة، ولولا القنابل الذرية الأمريكية التي أسقطت على كل من هيروشيما ونجازاكي لكن سير الحرب الأمريكية اليابانية قد اتخذ طرقا أخرى أطول زمنا بكثير مما انتهى إليه الأمر، وبنفس الطريقة كان اهتمام اليابان بإنشاء قاعدية بحرية في جزيرة «تروك» للسيطرة على جنوب غرب الباسيفيك (في شرق مجموعة جزر كارولين). وكذلك كان اهتمام فرنسا بميناء طولون الحربي لتأمين أملاكها في شمال أفريقيا وغرب أفريقيا.
وفي الوقت الحاضر، ومع تغير التوازن الدولي، أصبح للولايات المتحدة اهتمامات عالمية؛ ومن ثم أنشأت أساطيل حربية جوالة في مناطق معينة من العالم؛ لتأمين نفوذها ومصالحها الاقتصادية؛ ففي الباسيفيك الجنوبي الغربي تمثل الفلبين قاعدة بحرية للأسطول الأمريكي السابع الذي أصبح يحل محل القواعد البحرية البريطانية العديدة في جنوب شرقي آسيا (سنغافورة وملقا وهونج كونج). ولا شك في أن ذلك التركيز في الموانئ الحربية قد نجم عن تغير الخطط العسكرية، مرتبطا في ذلك بتطور السفن الحربية، ومؤدى هذا التطور هو التركيز على قوة الضرب الحديثة الواسعة المدى بواسطة حاملات الطائرات والغواصات الذرية الحاملة للصواريخ بأشكالها المختلفة.
وبالمثل يقوم الأسطول السادس الأمريكي بدوره في حماية مصالح أمريكا وحلف الأطلنطي في جنوب أوروبا والشرق الأوسط، ويسد الطريق على التوسع السوفييتي من البلقان في اتجاه البحر المتوسط. والقاعدة الرئيسية للأسطول السادس الأمريكي كانت نابولي، لكن تغير مسار الأحداث خلال العشرين سنة الماضية قد جعل منطقة شرق المتوسط أهم من غرب المتوسط وجنوب أوروبا، خاصة بعد خروج الاستعمار الفرنسي من شمال أفريقيا، واستقلال ليبيا، ونمو الاتجاهات السياسية والعسكرية العربية تجاه التوسع الإسرائيلي، واستقلال قبرص، ودخول الأسطول السوفييتي بين الحين والحين إلى البحر المتوسط، ثم أخيرا موقف مالطة المستقلة من قاعدة الأسطول الغربي، كل هذه الأحداث جعلت الولايات المتحدة تسعى إلى تقريب قاعدة أسطولها السادس من منطقة الأحداث. ويتمثل ذلك في سعيها للحصول على مركز بحري في اليونان، بالإضافة إلى إمكانية استخدام موانئ فلسطين. وكذلك لا نعفي تحرك الأحداث الجديدة بين المعارضة والحكومة في قبرص من دوافع أمريكية مرتبطة بتركيز قواها البحرية في شرق المتوسط.
هكذا نرى أن القواعد البحرية العسكرية تتأثر بتغير الاستراتيجية العسكرية وتغير تكنولوجية السفن الحربية وقوتها الضاربة، بالإضافة إلى الأحداث السياسية، وكل هذه التغيرات تؤدي إلى مزيد من التركيز في عدد الموانئ الحربية بالنسبة للصراع العالمي؛ ومن ثم فإن أهمية جبل طارق أو مالطة أو عدن أو سنغافورة قد أصبحت متضائلة في مقابل التركيز على نابولي أو بيريه مثلا. ولا شك أن الغواصات الذرية الصاروخية - بقدرتها على البقاء تحت الماء وقتا طويلا، بالإضافة إلى مدى صواريخها الطويل - قد أدت أيضا إلى مزيد من التضاؤل في أهمية الموانئ الحربية.
ومع ذلك فإن الموانئ الحربية المعروفة ما زال لها أهمية محلية بالنسبة للحروب المحلية أو المحدودة وبالنسبة للدولة الواحدة؛ لأن لكل دولة احتياجا حيويا إلى قاعدة أو قواعد بحرية يرسو فيها أسطولها الوطني. ومن أهم الأمثلة على ذلك طولون وبرست بالنسبة لفرنسا.
ولا شك في أن حجم التجارة الذي تتعامل فيه الموانئ الحربية كان بصفة دائمة حجما صغيرا؛ فالغالب أنه يوجد إلى جانب الميناء العسكري أو قريبا منه ميناء تجاري هام، فمرسيليا لا تبعد كثيرا عن طولون، وسوثهامبتون مجاورة لميناء بورتسموث الحربي، وكيل بالقرب من فلهامسهافن. لكن هناك موانئ عسكرية وهي في الوقت نفسه ذات أهمية في التجارة مثل نابولي بالنسبة لجنوب إيطاليا، وبرست التي تزورها سفن شحن كبيرة، وبليموث كميناء للركاب والتجارة الساحلية في جنوب بريطانيا، وشربورج كميناء ركاب لخطوط الملاحة عبر الأطلنطي، وفي مثل هذه الموانئ المزدوجة الوظيفة نجد القاعدة البحرية منفصلة عن ميناء الشحن أو الركاب حسب شكل الميناء، فخليج سان فرانسسكو هو من الاتساع بحيث يمكن الفصل التام بين الميناء الحربي والميناء المدني، بينما لا يتسع الأمر لذلك الفصل الواضح في ميناء سان ديجو القريب من لوس أنجيلوس، ويتسع خليج طوكيو للفصل بين ميناء حربي عند يوكوسوكا بعيدا عن يوكوهاما. وكذلك يتسع بحر اليابان الداخلي لإنشاء ميناء حربي عند كوري
Kure
بالقرب من ميناء هيروشيما.
وعلى وجه العموم، فإن الميناء الحربي يختلف باحتياجاته عن الميناء المدني؛ ومن ثم فإن الموانئ الحربية الرئيسية في غالب الأحيان بعيدة بعدا معقولا عن الموانئ التجارية. (ب) موانئ الصيد
هناك عدد من الموانئ التي ترتبط منذ بضعة قرون أو أكثر بعمليات صيد الأسماك البحرية؛ مثال ذلك موانئ الهانزا القديمة على بحر الشمال، وموانئ شرق بريطانيا، هما يرتبطان بالصيد في منطقة شطوط الدوجر في وسط هذا البحر، وميناء سان مالو في نيوفوندلاند المرتبط بالصيد البحري في منطقة مصب السنت لورنس ومنطقة التقاء تياري الخليج ولبرداور، ولكن أحيانا تتغير مناطق الصيد الرئيسية نتيجة هجرة نوع السمك السائد في منطقة لأخرى لأسباب غير معلومة، ويؤثر ذلك بشدة على نشاط ميناء الصيد.
ومن أهم الأمثلة في الماضي هجرة سمك الباكلاه من منطقة موانئ الهانزا، وبالتالي تدهور هذه الموانئ وأفول نجمها. وكذلك في العصر الحديث تغير مسار الأسماك في بحر المانش؛ مما أدى إلى هبوط كبير في نشاط ميناء بركسهام الإنجليزي، وانتقال الخبرة ورأس المال في هذه المنطقة إلى موانئ شرق بريطانيا؛ حيث الصيد أوفر في منطقة الدوجر. وكذلك انتقال السردين من أمام شواطئ البرتغال في الخمسينيات من هذا القرن، وظهوره أمام شواطئ المغرب ومنطقة جزر الكناريا، وعلى نطاق محلي اختفى السردين من ساحل الدلتا المصرية في خلال السنوات العشر الأخيرة، وظهر محله الجمبري (القريدس).
وعلى المنوال نفسه قل سمك السلمون بدرجة ملحوظة في خلجان ومصبات الأنهار في غرب كندا بعد أن كانت منطقة ذات شهرة عالية لفترة طويلة. وقد ظهر السلمون بكثرة في الشواطئ الآسيوية المطلة على الباسيفيكي الشمالي، وخاصة شواطئ كمتشكا، وبالمثل تغيرت موانئ صيد الحيتان في شمال أوروبا وأمريكا واتجهت هذه الحرفة إلى موانئ جنوب العالم؛ وذلك لانقراض الحيتان في المياه الشمالية.
وإلى جانب هذه التغيرات التي تطرأ على الموانئ نتيجة هجرة الأسماك أو نتيجة لقلتها (بعد الإكثار من صيدها)، فإن هناك تغيرات أخرى تطرأ على موانئ الصيد نتيجة للتغير الذي حدث في تكنولوجية الصيد وبناء سفن الصيد الحديثة. ومن أهم هذه التغيرات السفن المعروفة باسم
Large Stern
ذات الدفة الكبيرة والعريضة في المؤخرة، وسفن المصنع، وأنواع الشباك الحديثة، والروافع الكبيرة، وآلات الجر على ظهر المراكب، بالإضافة إلى استخدام أجهزة تردد الصدى للكشف عن تجمعات الأسماك في أعماق البحار.
هذه التغيرات التكنولوجية في السفن المخصصة للصيد قد مكنت حرفة السماكة من التوغل في أعالي البحار؛ مما ترتب عليه فقدان كبير لأهمية الصيد في المياه القريبة من الشواطئ، أو مناطق الشطوط البحرية في مناطق الأرصفة القارية، وبذلك فإن الكثير من موانئ الصيد التقليدية التي تستخدم سفن الصيد الصغيرة نسبيا (حتى تلك المجهزة بالمحركات) قد قلت أهميتها. وفي مقابل ذلك حدث تركيز في عدد موانئ الصيد الرئيسية بحيث أصبح هناك عدد محدود من القواعد لأساطيل صيد كبيرة تغيب عن الموانئ أسابيع أو أشهرا طويلة، وهذا هو الاتجاه نفسه الذي لاحظناه في تقلص أهمية الكثير من الموانئ الحربية وتركزها في عدد محدود مؤهل للتغيرات الجديدة.
ومع ذلك فإن هناك الآن نوعين من موانئ الصيد: قواعد أساطيل الصيد الحديثة في أعالي البحار، وموانئ الصيد القومية ذات الأهمية المحدودة، ومن أمثلة قواعد الأساطيل الحديثة ميناء مورمانسك في شمال الاتحاد السوفييتي وميناء بتروبا فلوفسك في جنوب شبه جزيرة كمتشكا كقاعدتين للأسطول السوفييتي في المحيط الشمالي والأطلنطي، وللأسطول السوفييتي في المحيط الباسيفيكي. وكذلك أصبح ميناء سفينوسي «سفينمونده» البولندي الحديث قاعدة لأسطول الصيد البولندي في بحر الشمال والأطلنطي. وعلى النطاق المحلي نجد الإسكندرية تخدم كقاعدة لسفن الصيد المصرية في أعالي البحار «الأطلنطي» بينما لا تزال موانئ الصيد التقليدية في شمال الدلتا (خاصة عزبة البرج قرب دمياط) تمارس أعمالها في المياه الإقليمية وشرقي المتوسط.
وليست عملية الصيد من العمليات المنفصلة عن التجارة؛ ولهذا نجد أن غالبية موانئ الصيد البحري التقليدية والجديدة تستخدم موانئ تجارية أو تقع غير بعيدة عنها، بوصف أن هذه الموانئ تكون أيضا سوقا جزئية لتجارة الأسماك، وأحيانا نجد أن موقع ميناء صيد قد تعدل بواسطة خطوط المواصلات الجديدة، أو تغير بالنسبة لمركز ثقل الدولة، ليصبح بعد ذلك ميناء تجاريا هاما. وبعبارة أخرى نجد حرفة الصيد تكون الوظيفة الأقدم للميناء ثم تتحول بعدها وظيفة الميناء إلى التجارة مع زوال الصيد أو بقائه بدرجات متفاوتة. وفي أحيان أخرى تسبق الوظيفة التجارية في الميناء وظيفة صيد الأسماك نتيجة للتغيرات التكنولوجية التي أدت إلى ظهور أساطيل صيد السمك الحديثة. والكثير من موانئ النرويج التجارية كانت في الأصل - وما زالت - موانئ صيد، فعلى سبيل المثال ظل ميناء نارفك في شمال النرويج ميناء صيد إلى أن وصله الخط الحديدي القادم من كيرونا والذي يحمل معه الحديد الخام السويدي المصدر إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. وكذلك كانت معظم موانئ الشاطئ الشمالي لبريطانيا.
ومع ذلك فإن هناك موانئ صيد قديمة أو حديثة تكاد لا تتعامل إلا في حرفة صيد الأسماك؛ مثال ذلك عدد من موانئ الشاطئ الشرقي لبريطانيا، أو بعض موانئ فرنسا، وموانئ خليج فندي وشبة جزيرة نوفاسكوشيا في كندا. أما الموانئ التي تجمع بين الصيد والتجارة فإنها عادة تتكون من قسمين منفصلين: مراسي سفن الصيد ومراسي وأرصفة سفن البضائع أو الركاب. (ج) موانئ العبور
برغم صغر مثل هذه الموانئ إلا أنها تحتاج إلى تجهيزات خاصة بها، وقد تكون مثل هذه الموانئ جزءا من موانئ تجارية كبيرة، مثل سوثهامبتون أو الهافر أو دييب أو دنكرك أو مالو أو كوبنهاجن، وقد تكون وظيفتها الأولى هي أنها ميناء عبور فقط مثل كاليه ودوفر على بحر المانش، وموانئ العبور الخاصة بقطارات السكك الحديدية موانئ شديدة التخصص، وأكثر الدول التي يوجد فيها موانئ عابرات القطارات هي الدانمرك واليابان من أجل تسهيل المواصلات في دولتيهما اللتين تتكونان من عدة جزر كبيرة، وبرغم ذلك فإن العابرات، وعابرات القطارات، قد أصبحت غير ملائمة للانتقال السريع الذي أصبح سمة هذه السنوات الأخيرة؛ ومن ثم فإن الدول القادرة ماليا قد أصبحت تبني الجسور الطويلة فوق الممرات المائية الفاصلة في أضيق نقاطها. وكذلك أخذت فكرة الأنفاق تحت الماء تأخذ طريقها إلى الوجود؛ مثال ذلك النفق الذي يوجد في أودي سوند وستروستروم في الدانمرك، ونفق موجي- شيمونوسكي الذي يربط بين جزيرتي هندو وكيوشو في أقصى جنوب غرب اليابان، وأفكار إنشاء نفق عبر المانش بين كاليه ودوفر.
ومثل هذه الموانئ الخاصة بالعبور توجد دائما في ظروف جغرافية متشابهة من حيث مواقعها على مضايق مائية، وفي مناطق آهلة بكثير من السكان والنشاط الإنتاجي؛ مما يدعو إلى كثافة الحركة. ومن أهم الأمثلة على ذلك هارويتش ودوفر وفولكستون ونيوهافن، وكلها موانئ عبور بين بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا، وتتعامل هذه الموانئ في كثير من تجارة البضائع بين أوروبا الغربية وبريطانيا.
وعلى وجه العموم فإن موانئ العبور تكاد أن تقتصر على أوروبا الغربية والجنوبية (جبل طارق - سبتة وطنجة، موانئ العبور بين إيطاليا وصقلية؛ وبصورة أقل وضوحا بين إيطاليا وفرنسا وسردنيا وكورسيكا ، وبين اليونان وجزر بحر إيجة اليونانية). وكذلك تظهر هذه الموانئ في اليابان، وفي النرويج نوع آخر من موانئ العبور، تلك هي التي تعبر - بواسطة سفن صغيرة (معديات) - الفيوردات العميقة الطويلة بدلا من أن تلف الطرق وتدور حول هذه الفيوردات ذات الشواطئ الشديدة الوعورة. (د) موانئ التموين
من الصعب تحديد مفهوم هذه الموانئ وفصل هذه الوظيفة عن وظائف أخرى، ومع ذلك فإن بعض الموانئ تصبح بالنسبة لخطوط الملاحة الطويلة - موانئ تموين بالماء العذب والوقود والغذاء؛ أي إن هذه قد تكون موانئ عادية ذات وظائف أخرى، لكنها بالنسبة لخطوط ملاحية معينة تصبح موانئ تموين؛ مثال ذلك الموانئ التي توجد على طول خط الملاحة الذي يربط غرب أوروبا بالشرق الآسيوي (بور سعيد أو جبل طارق أو عدن أو كولمبو في سيرلانكا).
وترتفع قيمة موانئ التموين لكثرة السفن التي تدخلها، ومما يدل على ذلك: أن ميناء عدن كان ثاني موانئ المحيط الهندي من حيث حمولة السفن التي تزور هذا الميناء، وذلك برغم ما هو معروف من أن حجم التجارة في ميناء عدن أقل بكثير من ميناء مثل مدراس أو دربان.
وفي المحيط الأطلنطي كانت بعض موانئ الجزر المتناثرة - مثل جزر فيرد والكناريا - تعد موانئ تموين، وفي المحيط الباسفيكي كانت مانيلا (الفليبين) وسوفا (فيجي) وباجوباجو (جزر ساموا) وبابيتي (جزر سوسيتي) موانئ ومحطات تموين في الباسيفيكي الجنوبي، وهو نولولو في وسط الباسيفيكي. وكذلك كانت كيبتاون ميناء تموين هاما على طول طريق رأس الرجاء الصالح.
وفي فترة استخدام الفحم كوقود للسفن البخارية كانت هناك موانئ متخصصة في تموين السفن بالفحم اللازم لها لرحلتها الطويلة. ولكن التغير في القوة الدافعة للسفن من الفحم إلى آلات الديزل قد قضى على هذه الحرفة تماما. (ه) موانئ إعادة الشحن
هناك عدد من الموانئ التي تقوم بتجميع تجارة بحرية إقليمية، سواء في ذلك الصادرات أم الواردات؛ وسبب ذلك أن الكثير من الموانئ المحلية لا تقع على طول الطرق البحرية الرئيسية؛ ومن ثم فإن سفن البضائع الكبيرة تترك حمولة البضائع المتجهة إلى مثل هذه الموانئ المحلية في أحد الموانئ الرئيسية في المنطقة، ويعاد شحن هذه البضائع بعد ذلك بواسطة سفن أصغر تعمل في المياه المحلية لهذا الإقليم، وقد تكون ضحولة المياه في الموانئ لأسباب جغرافية؛ مثل موانئ غرب أفريقيا مثلا، سببا آخر يدعو السفن الكبيرة لتجنب هذه الموانئ، هذا بالإضافة إلى أن صغر حجم التجارة يؤدي أيضا إلى عدم التوجه إلى مثل هذه الموانئ.
وعلى سبيل المثال نذكر أن بور سعيد كانت ميناء رئيسيا لإقليم شرق المتوسط، وأن بيروت تعد الآن كذلك، وأن بيريه أو سالونيكا هو الميناء الرئيسي لبحر إيجة وجنوب البلقان. وكان جبل طارق الميناء الرئيسي للتجارة الغربية وقتا طويلا، كبورت هاركورت (في نيجيريا) لموانئ غرب أفريقيا، ولشبونة بالنسبة لموانئ المستعمرات البرتغالية في أفريقيا، وغير ذلك من الأمثلة كثير. (و) الموانئ الوسيطة والموانئ الحرة
قد يبدو أن هناك تشابها بين موانئ إعادة الشحن وهذا النوع من الوظائف، وهذا الفارق الجوهري هو أن موانئ إعادة الشحن لا يحدث فيها أن البضائع تدخل حيز الدولة؛ أي إنها لا تعامل جمركيا، وتظل في الميناء إلى أن يعاد شحنها (بالبحر أو بالبر). أما الموانئ الوسيطة فإنها موانئ تجارية عادية، لكن تجارها يقومون باستيراد البضائع ويقومون بتخليصها جمركيا ثم يعاد بيعها بعد ذلك إلى بلاد أخرى؛ مثال ذلك أن لندن تتعامل في الشاي المستورد في المحيط الهندي: جزء يباع في الأسواق الداخلية وجزء يباع في الأسواق الخارجية. ومرسيليا تتعامل في منتجات غرب أفريقيا المدارية ثم يعاد بيع هذه السلع إلى أمريكا. وكذلك تقوم روتردام وأنتفيرب (إنفرس) بدور الميناء الوسيط لعدد من السلع المدارية، وتقوم سنغافورة بدور الميناء الوسيط لماليزيا وإندونيسيا. كانت عدن ميناء وسيطا لمنطقة شرق أفريقيا وأجزاء من الجزيرة العربية. وكذلك بيروت بالنسبة لعدد من دول غرب آسيا العربية.
أما الموانئ الحرة، أو الأرصفة الحرة
Free Zone
في ميناء ما فهي منطقة غير جمركية، ولا توجد موانئ حرة مطلقة، بل هي دائما عبارة عن جزء من الميناء يترك حرا جمركيا، ويعاد منه الشحن إلى جهة التسليم (مثل موانئ إعادة الشحن) أو يتعامل داخلها أشخاص من جنسيات أجنبية بقصد عدم استخدامها داخل الدولة.
ومن أهم أمثلة الموانئ الحرة في أوروبا هامبورج وبريمن في ألمانيا، وكوبنهاجن في الدانمرك، ومالمو واستكهولم في السويد، وفي إيطاليا نجد ميناء تريستا الذي يخدم تجارة يوجسلافيا.
وهناك أيضا اتفاقات خاصة بين دولتين لاستخدام جزء من الميناء كمنطقة حرة؛ مثال ذلك جزء من ميناء دار السلام لاستخدامه لحساب الكنغو (جمهورية زائيري)، وكذلك اتفاق الأرجنتين وإسبانيا على استخدام جزء من ميناء قادس الإسباني لإعادة توزيع السلع الأرجنتينية المتجهة إلى أوروبا، وفي المكسيك أربع موانئ من هذا النوع لخدمة أمريكا الوسطى، وفي البرازيل يقوم ميناء ريوديجانيرو بهذه الوظيفة، ومثل ذلك بيروت في لبنان، ولا توجد موانئ حرة في بريطانيا أو فرنسا أو هولندا، وفي هذه الدول تتم جمركة السلع. ولكن الجمارك يعاد دفعها إلى التجار في حالة إعادة الشحن، وتدعي سلطات ميناء روتردام أنها برغم وجود منطقة حرة فيها، إلا أنها ميناء حر أكثر من أي ميناء حر آخر، وفي الولايات المتحدة خمسة موانئ حرة، ويقول «مورجان»
5
إن مبدأ الموانئ الحرة ليس عملية ذات أرباح كبيرة. (ح) موانئ مرتبطة بالتغيرات التكنولوجية البحرية
لقد ذكرنا طرفا عن التغيرات التي أحدثتها التغيرات التكنولوجية في موانئ صيد الأسماك والموانئ الحربية. وهناك أيضا تغيرات أخرى؛ ففي الماضي - حين كانت الرياح هي القوة المحركة للسفن - كانت هناك موانئ مراسي للاحتماء، أو ما يمكن أن نسميه الموانئ الملاجئ، وهي عبارة عن خلجان أو موانئ هادئة المياه تلتجئ إليها السفن الشراعية حين تهب العواصف الشديدة وترتفع الأمواج، ولم تكن مثل هذه الملاجئ موانئ عادية بصفة منتظمة، وإنما كان بعضها موانئ مستخدمة، وبعضها أماكن معروفة للقباطنة في مناطق معينة يلجئون بسفنهم إليها حتى تنتهي العاصفة، دون أن تكون هناك ميناء بالمعنى المعروف.
ولكن تحول السفن إلى طاقة الدفع الآلية - بخار أو ديزل - قد جعل السفن الحديثة أقدر بدرجة كبيرة على مواجهة العواصف والرياح الشديدة. ومن الطبيعي أن تلتجئ أكبر السفن إلى مناطق حماية في حالة هبوب عواصف بالغة العنف، وألا تبارح الميناء إلا بعد انتهاء الأزمة، لكن الملاجئ هنا غالبا هي أقرب الموانئ لمسار السفينة. كذلك قلت احتمالات العواصف المفاجئة لأن التنبؤ الجوي من محطات الأرصاد والاتصالات اللاسلكية وتوزيع معلومات الطقس تجعل بإمكان السفن تجنب الدخول في مناطق العواصف والاستعداد لمواجهتها إذا لم يكن هناك إمكانية لتغيير مسار السفينة، أو لأن السفينة بعيدة عن الشواطئ (السفن عابرة المحيطات).
ونتيجة لكبر أحجام السفن في الوقت الحاضر لم تعد بعض الموانئ - وخاصة الموانئ التي تقع على المصبات الخليجية مثل لندن وهامبورج - صالحة لاستخدام هذه السفن الكبيرة؛ ومن ثم نشأ ما يعرف باسم «الموانئ المتقدمة» أو «الموانئ الخارجية» التي تقام في أماكن ذات عمق يسمح لغاطس هذه السفن بالدخول وإلقاء مراسيها على الأرصفة. ومن الطبيعي أن تكون هذه الموانئ المتقدمة قريبة دائما من الميناء الكبير الأصلي.
ومن أمثلة الموانئ المتقدمة ميناء تيلبري على التيمز خارج ميناء لندن الأصلي، وميناء كوكسهافن كميناء متقدم يخدم هامبورج، وبرمرزهافن كميناء متقدم لميناء بريمن، وميناء الهافر بالنسبة لروان على مصب السين، ولميناء متادي على مصب الكنغو ميناء متقدم هو بنانا، لكن التقدم التكنولوجي في عمليات تطهير وتعميق الموانئ قد أعاد لمتادي أهميتها وجعل بنانا ميناء متقدما هامشيا، والحالة نفسها نجدها في موانئ أخرى كثيرة.
وفي بعض الأحيان كانت الموانئ المتقدمة تصبح بعد فترة موانئ عادية، ويعاد بناء أو إيجاد ميناء متقدم آخر لها؛ مثال ذلك موانئ بريطانيا الخليجية كبريستول وجلاسجو، فإن موانئها المتقدمة قد أصبحت هي الأخرى قليلة الاستخدام لاستمرار الزيادة في أحجام السفن، وفي كثير من الموانئ البريطانية لم يعد بالإمكان الحصول على أماكن لموانئ متقدمة بعد تضخم حجم السفن كثيرا وقلة الموانئ ذات المياه العميقة الصالحة لدخول السفن الكبيرة (أكثر من 125000 طن)، وترتب على ذلك أن بريطانيا أصبحت تواجه مشكلة خطيرة بالنسبة لاستقبال سفن خام الحديد.
وفي المناطق التي لا يمكن فيها إقامة موانئ متقدمة، مثل معظم ساحل غرب أفريقيا، يتم التفريغ والشحن من السفينة الواقفة بعيدا عن الميناء بواسطة صنادل خاصة، ويؤدي هذا إلى ارتفاع تكلفة النقل وزيادة نسبة الفاقد أو التالف، وقد قامت بعض حكومات دول غرب أفريقيا بإنشاء موانئ حديثة عميقة لتجنب إضاعة الوقت ورفع تكلفة النقل، ولكن هذه الموانئ الجديدة تحتاج إلى استثمارات كبيرة، وأحدث موانئ غرب أفريقيا الذي تغلب على هذه المشكلة، هو ميناء «تيما» الواقع في غانا قرب مصب نهر الفولتا. وقد أنشئ في البداية خصيصا لشحن البوكسايت. •••
وهناك إلى جانب هذه الأنواع من الموانئ ووظائفها أشكال أخرى؛ فهناك الموانئ التي تخدم التجارة الساحلية داخل الدولة، ولكن هذه تختلف بين التجارة بين الجزر اليونانية أو حول الجزيرة البريطانية أو بين جزر اليابان - وكلها تستخدم سفن ركاب وشحن صغيرة - وبين التجارة الساحلية في الاتحاد السوفييتي أو البرازيل أو الولايات المتحدة أو أستراليا، وكلها تستخدم سفنا كبيرة الأحجام من النوع العابر للمحيطات؛ ومن ثم فإن موانئ مثل هذه السفن الكبيرة تختلف كثيرا في تجهيزاتها عن الموانئ الصغيرة.
وهناك أيضا موانئ ذات حمولات ضخمة لكنها تتكون من سلعة واحدة مثل البترول، ومن ثم فإن هذه الموانئ تختلف عن بقية الموانئ المعروفة، وذلك باستخدامها تجهيزات خاصة يسيطر على شكلها الأساسي الأنابيب والطلمبات (المضخات)؛ مثال ذلك ميناء الأحمدي في الكويت، أو رأس تنورة (في الخليج العربي)، أو ميناء كوراساو (في البحر الكاريبي).
ويجب أن نلاحظ أننا لم نخصص التجارة كوظيفة لأنواع معينة في الموانئ؛ وذلك لأن التجارة عنصر أساسي في الموانئ يتداخل باستمرار مع معظم الوظائف الأخرى بحيث لا يمكن أن نقول إن هذا ميناء تجاري وذلك غير تجاري، إنما الاختلاف في هذا أو ذاك راجع إلى اختلاف كمي في حجم التجارة.
وأخيرا فإن الموانئ الرئيسية هي أيضا موانئ سفن ركاب كبيرة، بينما الموانئ غير الرئيسية قد تزورها وقد لا تزورها سفن الركاب من أي حجم؛ يرتبط ذلك دون شك بموقع الميناء وجنسية شركة الملاحة وكثافة الحركة. (6-4) أشكال المرافئ وأنواعها
لا يسعنا قبل أن ننهي الكلام عن الموانئ إلا أن نلم بموجز مبسط عن الأشكال والأنواع الجغرافية للمرافئ. وهذه الأشكال في مجموعها ترتبط بأنواع السواحل التي تقع عليها الموانئ.
ومعظم المرافئ توجد في المناطق الساحلية الغارقة التي ينجم عنها تعرجات كثيرة في خط الساحل، تتخذ صورا متباينة الاتساع والعمق نطلق عليها اسم الخليج. ومن أمثلة الموانئ والمرافئ الواقعة على السواحل الغارقة نذكر خليج لندن، وخليج بورتسموث وسوثهامبتون، ومرفأ فالتا (مالطة) وبيريه (اليونان)، وعلى الساحل الأمريكي نذكر الخليج الذي يقع عليه مرفأ بورتلاند (ولاية مين في شمال شرقي الولايات المتحدة) ونيويورك وبوسطن وسان فرانسسكو. وكذلك مضيق جوان دي فوكا وبوجت ساوند اللذان تقع عليهما عدة مرافئ هامة في شمال غرب الولايات المتحدة وغرب كندا، مثل فكتوريا (على جزيرة فانكوفر) وفانكوفر (كندا) وسياتل وتاكوما (الولايات المتحدة). ومعظم الممرات الملاحية في هذه المنطقة ذات أعماق تبلغ في المتوسط مائة متر، وفي شرقي كندا تقع هاليفاكس وسدني (نوفا سكوشيا وجزيرة برتون المجاورة على التوالي) على خلجان غارقة ممتازة ملاحيا. وكذلك خليج سان جون على خليج فندي في الساحل الكندي الشرقي.
وفي الكاريبي نجد أيضا موانئ على سواحل غارقة؛ فميناء فيلمستاد في جزيرة كوراساو الذي يوجد على مرفأ خليجي على الساحل الجنوبي الغربي، محمي من الأمواج التي تثيرها الرياح الشمالية الشرقية الدائمة. وقد أصبحت موانئ هذه الجزيرة الهولندية الصغيرة على جانب كبير من الأهمية بالنسبة لشحن بترول فنزويلا الذي ينتج من خليج ماركيبو الضحل، وترتب على ذلك أن ميناء فيلمستاد أصبح من موانئ العالم الرئيسية.
كذلك أعطى الساحل الغارق في شرق أستراليا مرفأ واسعا جيدا تقع عليه سدني، وفي مدغشقر يقع ميناء ديجو سوريز على خليج يدعي الفرنسيون أنه أحسن مرفأ في العالم، وفي أفريقيا نجد أيضا عددا من المرافئ التي تقع على السواحل الغارقة مثل ميناء بنزرت في تونس، ودوالا في الكمرون وباتورست وفريتون في غمبيا وسيراليون، وممبسة وبيرا ولورينز وماركيز على خليج ديلاجوا، وفي آسيا نجد ميناء ترنكومالي (سريلانكا) وموانئ عديدة في سواحل اليابان وكوريا والصين الجنوبية.
وحينما ترتبط السواحل الغارقة بمصب نهري فإن ذلك يعطي مرفأ ممتازا محميا من الرياح، وهو يتوغل كذلك بدرجات كبيرة داخل الأرض، ويطلق على ذلك التكوين ريا
Ria
أو المصب الخليجي، ومثل هذا التكوين موجود بصورة صغيرة في شبه جزيرة بريتاني (فرنسا) وبريطانيا وشمال غرب إسبانيا، وفي الولايات المتحدة نجد منطقة خليج تشيزابيك وبالتيمور ونيوبورت ونورفولك من هذا النوع، وفي أمريكا الجنوبية يظهر هذا الشكل في ريوديجانيرو وسانتوس وباهيا، ولعل (ريا) ريوديجانيرو هو أكبر وأحسن المرافئ الطبيعية؛ فالوادي الغارق يكون خليجا قطره 45 كيلومترا وعمق مياهه في حدود 38 مترا، وفي آسيا يكون ساحل الطين الجنوبي من هونج كونج إلى هانجشو أحسن مثال لهذه الخلجان في العالم، وفيه كثير من الخلجان الواسعة غير المستخدمة استخداما جيدا كمرافئ ممتازة.
وثمة نوع آخر من الخلجان العميقة الناجمة عن غرق الوديان السفلى لكثير من الأنهار في المناطق الباردة، ولعلها وديان كونتها الأنهار الجليدية. وهذه تسمى عادة فيورد
Fiord ، وهي عبارة عن خلجان كثيرة التعمق والتداخل المعقد بين اليابس والماء، تتميز بسواحل جبلية وعرة شديدة الانحدار؛ ومن ثم فإن الفيوردات العميقة تصبح عقبة لا يمكن التغلب عليها بالنسبة للمواصلات البرية، ولكن معظم الفيوردات تقع في مناطق قاحلة قليلة الإنتاج؛ نظرا للبرودة وارتفاع التضاريس وفجائية الانحدارات، وتظهر الفيوردات بكثرة في النرويج وشمال غرب اسكتلندا والساحل الغربي لكندا، وألسكا وسواحل جرينلاند وجنوب شيلي وجنوب غرب نيوزيلاندا. وهكذا فإن مواقع هذه الفيوردات في المناطق الباردة النائية يجعلها - برغم أهميتها كمرافئ - غير ذات فائدة من حيث إمكانية نمو الموانئ الكبيرة.
ومن أمثلة الفيوردات لوخ فيين
Loch Fyne
في غرب اسكتلندا الطويل الضيق وتتراوح أعماقه بين 45 مترا ومائتي متر، وفي النرويج تقع نارفك على فيورد «فست» الواسع العميق. ولعل هذا هو من أهم الموانئ الواقعة على فيوردات لأنه - باتصاله بالطريق الحديدي مع كيرونا - يقوم بنقل الحديد السويدي إلى أماكن تصديره في أوروبا وأمريكا، وفيورد تروندهايم عبارة عن خليج هائل الأبعاد؛ إذ يبلغ طوله 115 كيلومترا ومتوسط عرضه ثمانية كيلومترات، مع مدخل ضيق يربطه ببحر الشمال. وكذلك فيورد أوسلو كبير ومتشعب (حوالي مائة كيلومتر طولا).
وهناك نوع آخر من الخلجان تكونت نتيجة غرق مناطق منخفضة متكونة من صخور صلبة ينجم عنها شكل من الخلجان تسمى فيارد
Fiard ، وبغض النظر عن أصل التكوين فإن الخليج الناتج يكون مرافئ جيدة، والمثال على ذلك أن عددا من موانئ السويد تقع على خلجان من هذا النوع مثل كارلسكرونا وجيفليه وسوندسفال، بينما جوتبرج تقع على مصب خليجي غارق (ريا)، ونوع ثالث يسمى فيرد
Foehrd
يظهر في السواحل السهلية نتيجة هبوط مصبات خليجية، مثل تلك التي توجد في إقليمي شلزفج، هولشتين وسواحل البلطيق، وأهمها ذلك الذي تقع عليه ميناء كييل الألماني، وفي جتلند الدانمركية عدد من التكوينات الخليجية لكنها غير عميقة، وباستثناء آرهوس لا توجد موانئ جيدة في شبه الجزيرة هذه.
وإلى جانب هذا توجد أنواع أخرى من المرافئ بعضها يحتوي على موانئ جيدة والبعض الآخر لا يضم مثل هذه الموانئ، ولا يرجع السبب في ذلك الاختلاف إلى أن المرفأ ليس جيدا، ولكن يرجع أحيانا إلى أن أشكال التكوين المورفولوجي للمنطقة (انحدارات شديدة أو تكوين شواطئ وحواجز رملية تسد مدخل المرفأ) هي التي تتحكم في أقدار تكوين ميناء ما أو تمنع قيام مثل هذا الميناء، كذلك هناك عوامل أخرى بشرية تلعب دورها، فليس مجرد وجود مرفأ ممتاز داعيا إلى حتمية وجود ميناء جيد، بل لا بد وأن تتوافر لهذا الميناء العوامل التي تكونه: نشاطات اقتصادية، وتجمعات بشرية، وعلاقات مكانية، وبعبارة أخرى يجب أن يكون للميناء ظهير
Hinterland .
ومن أنواع المرافئ الجيدة تلك التي تتكون عند بركان لعبت التعرية دورها في تشقيق أحد جوانبه وساعدت عملية غرق الشواطئ على تكوين قوس كبير محمي من الرياح والأمواج، لكن في غالب الأحيان لا تقوم الموانئ هنا إما لصغر حجم المنطقة التي يقوم فيها البركان، أو لخشية تكرر ظاهرة البركنة، هذا بالإضافة إلى أن الشاطئ يصبح وعر المرتقى، وربما كانت عدن الميناء الوحيد الكبير الذي يقوم في ظروف مشابهة لهذا النوع بعض الشيء؛ فالميناء يقوم في حماية عنقين بركانيين.
ومن الأشكال الطبيعية الأخرى التي تهيئ مرافئ جيدة ما يعرف باسم المرافئ المرجانية. وهذه المرافئ تتكون داخل البحيرات التي تكونها مجموعات الجزر الشائعة الانتشار في المحيط الباسيفيكي والمعروفة باسم أتول
Atoll ؛ فالتكوين المرجاني لهذه الجزر عبارة عن بحيرة واسعة في شكل قوس أو دائرة يحيط بها التكوين المرجاني من الخارج. وهناك أماكن كثيرة في الباسيفيكي تصلح لتكون موانئ محمية ممتازة من هذا النوع؛ مثال ذلك جزيرة تروك التي حولها اليابانيون قبل الحرب العالمية الثانية إلى قاعدة حربية بحرية هائلة.
فمحيط البحيرة الوسطى في هذه الجزيرة كان طوله 225 كيلومترا، وفي داخل البحيرة عدة جزر تصلح مراسي للسفن، وبيرل هاربور (هونولولو) وسوفا (فيجي) وفلمستاد (كوراساو) موانئ مرجانية من هذا النوع، لكن مثل هذه الموانئ لا تظهر إلا إذا كانت هناك مجموعة من الظروف والعوامل البشرية والمكانية التي تساعد على نشأة الميناء، وبدون ذلك لا يقام الميناء؛ فالمحيط الباسيفيكي مليء بهذه الظروف الطبيعية، لكن القليل منها هو الذي أقيمت عليه موانئ جيدة، وعلى وجه العموم فإن مثل هذه الموانئ تحتاج إلى تطهير مستمر لمداخل الميناء وأعمال صيانة كثيرة كي يظل الميناء مفتوحا للملاحة.
وهناك أيضا الموانئ التي يمكن أن تقام على ألسنة أو حواجز ساحلية؛ إذ تصبح هناك أماكن محمية بينها وبين خط الساحل المقابل، لكن هذه الموانئ لا تصلح في الأماكن التي تتعرض للعواصف العنيفة (هاريكين أو تورنادو ... إلخ)؛ وذلك لأنها غير مرتفعة بما فيه الكفاية لكي تحمي المنطقة الداخلية من الأمواج العالية. ومن الأمثلة على ذلك ميناء فنيسيا (البندقية) الذي قام في حماية مثل هذه الحواجز، وميناء لاجوس (نيجيريا) يقع في مدخل مد وجزر وراء حاجز من هذا النوع. وكذلك الإسكندرية تقع كلها على حاجز ساحلي كان يحميه أيضا (في الماضي) جزيرة فاروس التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من المدينة والميناء، وفي خليج المكسيك نجد ميناء جالفستون يقوم على الجزء الداخلي من حاجز ولسان رملي. وقد كسي هذا الحاجز بحوائط من الأسمنت المسلح لمنع تآكله، وفيما بين اللسان والشاطئ مسطح مائي كبير (لاجونة) عمقت مياهها بواسطة الكراكات.
وبذلك أصبح في الإمكان تحويل هيوستن إلى ميناء كبير داخلي. وعلى المنوال نفسه نجد ميناء موبيله شرقي دلتا المسيسبي الذي يقع على لاجونة ساحلية كبيرة بعد حفر قناة من أمام الشواطئ والألسنة عبر اللاجونة يبلغ طولها حوالي 60 كيلومترا. وكذلك أقيم ميناء دربان (جنوب أفريقيا) على حاجز مماثل ، ومثله ميناء لوبيتو (أنجولا)، ومن الطبيعي أن كل هذه الموانئ تحتاج إلى عمل دائم لتطهير قاع اللاجونات من تراكم الإرسابات، وتعميق المجرى، وحماية الألسنة من التآكل. وقد أصبح ذلك ممكنا مع تقدم آلات الحفر من الروافع والبناء الميكانيكية التي تعمل فوق مسطحات الماء.
ونوع آخر من الموانئ يقوم في الشواطئ التي توجد أمامها جزر تحميها من العواصف والأمواج، وفي أحيان تضم هذه الجزر بعد ذلك إلى الميناء. ومن الأمثلة التاريخية الإسكندرية. ومن الأمثلة الحديثة نسبيا بمباي (الهند). أما الموانئ التي لا تزال محمية بالجزر، فمن أمثلتها هونج كونج، وميناء جورجتاون في جزيرة بنانج (مضيق ملقا بين ماليزيا وسومطرة)، ولو أن الميناء هنا يقوم على ساحل الجزيرة في مواجهة الشاطئ الماليزي.
وهناك مجموعة أخرى من الموانئ توجد على مصبات الأنهار أو فروع الدلتاوات النهرية، أو على الأنهار العريضة في الداخل (مثل ميناؤس في داخل حوض الأمازون). وقد كان هذا النوع من الموانئ يجد في هذه الظروف الطبيعية ما يهيئ مرافئ جيدة محمية بواسطة وجود ضفتي المصب أو النهر. ولكن الكثير من هذه الموانئ قد أهملت بعد أن أصبحت السفن ذات حجم كبير، وذلك راجع إلى استمرار تراكم الإرسابات النهرية. ومن الأمثلة على ذلك ميناء بريستول على نهر الأفون الذي لم يعد باستطاعته استقبال سفن حمولتها أكثر من ثلاثة آلاف طن، وأصبح على السفن الأكبر من ذلك أن تتعامل مع الميناء الجديد الذي أقيم على الشاطئ مباشرة، والذي يسمى ميناء أفون ماوث
Avon mouth (ميناء متقدمة).
وقد ظلت دمياط ورشيد موانئ مصر الرئيسية طوال التاريخ حتى تحولت عنهما التجارة إلى بور سعيد والإسكندرية. ولا تزال البصرة وعبدان على المصب المشترك لشط العرب وقارون موانئ مفتوحة بواسطة الحفر الدائم بواسطة الكراكات في الحواجز الخارجية وقاع النهر. وكذلك كلكتا التي تقع على الهوجلي (فرع من فروع دلتا الجانج)، والتي يتغير مستوى القاع عندها بين المد والمد عمقا يبلغ حوالي 60سم. وهناك تفكير في إقامة قناة ملاحية عميقة في هذه المنطقة بدلا من الاعتماد على المسار الطبيعي للهوجلي .
ونيو أورليانز على مصب المسيسبي ليست مفتوحة للسفن ذات الغاطس الكبير إلا بواسطة أعمال التطهير المستمرة التي تجعل مستوى القاع 35 قدما (حوالي 11 مترا) لمسافة حوالي 190كم لكي تصل السفن من البحر إلى الميناء. وهناك موانئ تجمع بين مصب خليجي
Estuary
ومصب نهري مثل المصبات الخليجية الدلتاوية لليانجتسي كيانج وسيكيانج اللذين تقع عليهما شنغهاي وكانتون على التوالي، ولكن عملية الإرساب تجعل الإبقاء على الموانئ عملية صعبة للدرجة التي تعد معها كانتون غير قادرة على استقبال السفن الكبيرة، وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية في نمو هونج كونج كميناء متقدمة (هذا إلى جانب أهمية هونج كونج السياسية والاستراتيجية والاقتصادية بحكم أنها ملك لبريطانيا).
أما المصبات الخليجية الحقة فهي تلك التي تتميز بحدوث ظاهرة المد والجزر بصورة متكررة؛ مما يجعل الميناء مفتوحا، والكثير من موانئ بحر الشمال الألمانية والإنجليزية موانئ من هذا النوع (هامبورج - بريمن - لندن - هل - ليفربول ... إلخ)، وفي فرنسا أيضا نجد بوردو وسان نازير ونانت والهافر، وفي هولندا روتردام وبلجيكا أنتفيرب (إنفرس)، وفي البرتغال لشبونة و«أوبورتو»، وفي أمريكا فيلادلفيا ومنتريال، وفي أستراليا ملبورن وبرزبين وفريمانتل وأدليد، وفي أفريقيا بوما وماتادي على مصب الكنغو.
وفي كثير من هذه المصبات الخليجية تكون الأعماق كبيرة بحيث لا تحتاج الملاحة إلى موجات المد والجزر (عمق المياه في مصب الكنغو حوالي 70 مترا)، ولكن بعض المصبات تحتاج إلى التطهير المستمر (مثل موانئ إنجلترا)؛ مما يؤدي إلى أهمية موجات المد والجزر في الدخول والخروج من الموانئ.
وفي حالات كثيرة نجد أن الموانئ تحتاج إلى أعمال هندسية صناعية - مهما كان شكل المرفأ الطبيعي ملائما أو غير ملائم - وذلك لمزيد من الحماية ولمزيد من الأعماق. وأهم الأعمال الهندسية الخاصة بالحماية هي إقامة حواجز الأمواج - طويلة أو قصيرة - وقد تشتمل أعمال التعميق على حفر قنوات ملاحية داخل الميناء؛ ومن ثم فإنه في أحيان كثيرة يصعب في البداية تمييز الميناء الطبيعي والصناعي؛ ذلك أن كل الموانئ صناعية بأرصفتها وأعماقها وعمليات صيانتها. أما المرفأ فهو تكوين طبيعي في أساسه إذا كانت تتوافر فيه الحماية بطريقة أو أخرى. وقد يكون المرفأ صناعيا؛ حيث لا تهب الطبيعة أشكالا من الحماية الطبيعية، أو حيث يظهر بوادر حماية طبيعية يطورها الإنسان، مثال ذلك أن تكون هناك رأس ساحلية أو بداية رأس، يستغلها الإنسان في إقامة حواجز أمواج كامتداد للامتداد الطبيعي. وكذلك تقام موانئ صناعية في كثير من أشباه الجزر، أو عند ظهور بروز في الساحل؛ مثال ذلك بيروت وحيفا وفالباريزو (شيلي) ولاجويرا (فنزويلا).
وقد يكون خط الساحل مستقيما، وعلى ذلك تنشأ الحاجة إلى ميناء، ومن ثم تمد حواجز الأمواج من كلا الاتجاهين بحيث تتقابلان على خطين مختلفين؛ مثال ذلك تاكورادي (غانا)، بورت إليزابث (جنوب أفريقيا)، الدار البيضاء، مدراس (الهند). ومدراس هي من أهم الأمثلة على الموانئ الصناعية في العالم؛ حيث تجتاح الرياح والعواصف الموسمية الشمالية الشرقية المنطقة بأكملها. وهناك موانئ على مرافئ طبيعية، لكنها تتحول إلى موانئ صناعية نتيجة توسيعها أو تجنبا للإرسابات، ومن أمثلة ذلك ميناء الهافر الذي تحول من واجهة مطلة على مصب نهر السين إلى واجهة مطلة على بحر المانش، وذلك بإقامة حواجز أمواج كبيرة، ومرسيليا التي تقع على مرفأ حوضي صخري ممتاز جعلها ميناء جيدا لألفي سنة، لم تستطع أن تواجه نمو حركة التجارة والملاحة إلا بعد إقامة سبعة أحواض وحاجز أمواج كبير لحمايتها من الرياح الغربية، وتشبه تريستا مرسيليا في ظروفها، وكذلك الجزائر وجنوا وغير ذلك كثير في البحر المتوسط. (7) خلفية الميناء
Hinterland
لا تقوم الموانئ كشيء قائم بذاته، بل إنها نهاية طرق برية وبداية طرق بحرية لنقل البضائع أو الأشخاص؛ ومن ثم فإن الميناء يرتبط بخلفيته؛ فكلما كانت الخلفية كبيرة أصبحت أهمية الميناء كبيرة. وتختلف خلفية كل ميناء حسب ظروف الخلفية؛ فهناك الخلفية البسيطة التي ترتبط بطريق واحد للمواصلات البرية إلى الميناء وتنقطع خلفية الميناء بانقطاع هذا الطريق ، ولكن إذا كان هذا الطريق يشتبك مع غيره من طرق أخرى فإن الخلفية تتعقد، بل ويحدث هنا في منطقة التشابك تنافس بين عدة موانئ لجذب تجارة هذه الخلفية، ولا يحدث مثل هذا الصراع بين الموانئ إلا في المناطق المخدومة خدمة ممتازة بشبكات النقل الأرضي: نهرية وحديدية وبرية، ومثل هذا لا يوجد إلا في أوروبا الغربية وأجزاء من أمريكا الشمالية (خاصة الولايات المتحدة).
وفي بقية القارات تصبح خلفية الموانئ بسيطة أو مركبة تركيبا بسيطا، مثلا قد يكون هناك تنافس بسيط بين الإسكندرية وبور سعيد والسويس، لكن خلفية الإسكندرية عادة ما تمتد إلى أسوان، وفي أحيان تمتد إلى شمال السودان، هنا يحدث صراع بين الإسكندرية وبور سودان على تجارة شمال السودان، ويساعد على تحديد التنافس مصدر التجارة أو وجهتها؛ فالإسكندرية تطل على البحر المتوسط وأوروبا، بينما بور سودان أكثر اتجاها إلى المحيط الهندي واليابان، ومع ذلك فإن نقص شبكة المواصلات الحديدية بين أسوان ووادي حلفا (شمال السودان) يجعل المنافسة غير واضحة، هذا بالإضافة إلى أن هذه الجزء من السودان قليل السكان (= سوق محدودة)، غير متقدم (= سوق محدودة) قليل الإنتاج (= تجارة صادرات وواردات محدودة أيضا).
وإذا قارنا هذا المثال المحدود بمثال آخر في منطقة شبكة نقل كثيفة متكاملة في أوروبا، فإننا نجد الفوارق ضخمة والمنافسة حادة من أجل جذب التجارة من ميناء إلى آخر؛ فالصراع شديد بين موانئ هامبورج وروتردام من ناحية وتريستا وجنوا من ناحية أخرى على تجارة وسط أوروبا (تشيكوسلوفاكيا والنمسا وسويسرا وجنوب ألمانيا). وكذلك هنا يتقرر الصراع بتأثير مصدر أو اتجاه البضائع والأشخاص. ولكننا نضيف إلى ذلك نوع وسيلة النقل السائدة (سريعة/بطيئة) وأيضا مدى التسهيلات المعطاة في ميناء لتجارة دولة أو أخرى بالنسبة للتسهيلات التي يقدمها ميناء آخر، وهو ما يؤدي إلى اتفاقيات خاصة بين سلطات الميناء والدولة المعنية من أجل تسهيل مرور تجارتها، وهنا تتدخل التيارات والاتجاهات السياسية في تقرير مثل هذه الاتفاقيات بصورة أو أخرى، فمثلا كانت هامبورج تتعامل في كثير من تجارة تشيكوسلوفاكيا، لكن بعد أن تحولت تشيكوسلوفاكيا إلى مجموعة الدول الشرقية تحول جزء كبير من تجارتها إلى موانئ ألمانيا الشرقية. وهناك أمثلة عديدة على دور السياسة في اتجاه التجارة. وقد سبقت الإشارة إلى بعضها في الفصول السابقة. (8) صناعة السفن
إن السيطرة التي تمارسها كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على صناعة بناء الطائرات، وضعف دورهما في صناعة بناء السفن، التي احتكرتها دول أوروبا الشمالية الغربية واليابان حاليا، لهي حقيقة تعكس بعض الظروف الخاصة بكل منهما؛ فمعظم السفن تبنى لحساب شركات ملاحية خاصة تعمل في جو من المنافسة الدولية؛ ومن ثم فإن هذه الشركات الملاحية تقدم طلباتها حيث تجد أحسن العروض المواتية في داخل بلادها أو خارجها؛ ومن ثم أصبح من الشائع في صناعة بناء السفن أن تكون - في جزء كبير من أعمالها - صناعة للتصدير. أما أبحاث الفضاء والملاحة الجوية فإنها أعمال خاصة بالدولة وتتضمن الكثير من الأسرار الاستراتيجية؛ مما يؤدي إلى اهتمام خاص بها من جانب الدولتين العملاقتين. ونظرا للتكلفة العالية في هذه الاتجاهات فإنها لا تصبح صناعة تصدير إلا في القطاع الخاص ببناء الطائرات التجارية.
ولفترة طويلة احتكرت بعض دول أوروبا الغربية، وخاصة بريطانيا، بناء السفن، ولكن إلى جانبها كانت هناك صناعة سفن على نطاق كبير في فرنسا وألمانيا وهولندا والنرويج. وبعد الحرب الثانية مباشرة حدثت تطورات خطيرة في شمال غرب أوروبا؛ فقد تدهورت صناعة بناء السفن البريطانية في مقابل نمو هائل في نفس الصناعة في دول اسكندنافيا، لكن هذا التطور سرعان ما طغى عليه نمو اليابان في صناعة بناء السفن بصورة مذهلة تبوأت معها صدارة الدول في هذا المضمار.
وتتركز صناعة السفن البريطانية في منطقتين؛ الأولى في ساحلها الشمالي الشرقي (منطقة مركزها نيوكاسل) والثانية في الساحل الشمال الغربي (على نهر الكلايد ومركزها جلاسجو)، والمراكز الرئيسية في المنطقة الشمالية الشرقية كانت تضم أسماء مدن كثيرة منها بليث والتين الأدنى وهبورن وسندرلاند والتيز الأدنى. وعند بداية هذا القرن كانت هذه المنطقة تنتج نصف حمولة السفن الإنجليزية وثلث حمولة السفن العالمية، وفي نهاية الخمسينيات كانت هذه المنطقة تصنع 45٪ من حمولة السفن الإنجليزية. وكانت بذلك ولفترة طويلة، أكبر منطقة مركزية في العالم في صناعة السفن، تليها مباشرة منطقة هامبورج ثم منطقة كلايد وأخيرا منطقة جوتبورج (السويد) أرقام سنة 1959.
أما منطقة الكلايد فقد بدأت بنمو صناعة السفن الحديدية، بينما كانت منطقة الشمال الشرقي ذات تقليد قديم في صناعة السفن الخشبية، ولقد ظلت منطقة الكلايد معروفة بأنها أكثر أنهار العالم شهرة في بناء السفن حتى عام 1950 حين تفوقت عليها منطقة مصب الألب (هامبورج) وجوتا ألف (جوتبورج). وقد بنت منطقة الكلايد عددا من السفن الضخمة الذائعة الصيت مثل «كوين ماري» و«كوين إليزابث».
وإلى جانب هاتين المنطقتين الإنجليزيتين فقد كانت هناك صناعة سفن جيدة في بلفاست (أيرلندا الشمالية) وبيركنهد (قرب ليفربول) «وبار إن فيرنس» (ولاية كمبرلند شمال ليفربول). ولم يكن على مصب التيمز ومنطقة لندن أية صناعة للسفن تستحق الذكر؛ فلقد تدهورت صناعة السفن في هذه المنطقة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر (بعد نمو السفن الحديدية)، بينما نمت هذه الصناعة في الشمال الشرقي على أساس وجود الفحم المحلي في منطقة نيوكاسل.
ومنذ عام 1929 لم تزد الحمولة من السفن الجديدة التي تصنعها ترسانات بريطانيا عن مليون ونصف مليون طن سنويا، بينما بلغت الحمولة السنوية في العالم 10,3 ملايين طن عام 1964. وهناك استثناءات محدودة تخطت فيها بريطانيا أرقام 1929؛ ففي سنوات 1913 و1920 كانت الحمولة الجديدة السنوية أكثر من مليوني طن، والدليل على مدى نمو صناعة السفن في العالم وجمود موقف بريطانيا ثم تخلفها، هو أن مجموع الحمولة السنوية في عام 1980 كان في العالم 1,2 مليون طن أنتجت منه بريطانيا مليون طن وحدها (انظر شكل
4-3 ).
شكل 4-3: تطور مساهمة الدول الرئيسية في بناء السفن.
وفي مقابل هذا الركود البريطاني نجد نمو صناعة السفن في الدول الأوروبية يستمر بخطى ثابتة؛ ففي السويد على سبيل المثال كانت الحمولة المنتجة عند بداية القرن الحالي أقل من عشرة آلاف طن، ارتفعت إلى 857 ألف طن عام 1959، ومعظم هذا التقدم قد حدث بعد عام 1945، فمنحنى صناعة السفن السويدية، كان يسير دون ارتفاع منذ عام 1910، مع انخفاض شديد خلال أزمتي 1913، 1929، وتوقف خلال فترة الحرب (1939-1944)، وقد تخصصت الترسانات السويدية في بناء ناقلات البترول وحاملات الأحجام الكبيرة (كالحديد الخام). وكان الأسطول النرويجي الكبير هو العميل الأول لصناعة السفن السويدية.
وكذلك نمت صناعة بناء السفن الدانمركية نموا متوازنا ابتداء من عام 1950، وأصبحت تنتج قرابة الحمولة التي كانت تنتجها السويد فيما بين الحربين، بينما نمت صناعة السفن النرويجية بسرعة وسبقت الدانمرك، ولكل من صناعتي السفن النرويجية والدانمركية ميزة وجود أسطول تجاري كبير لكل منهما، ويعني ذلك وجود عميل دائم داخل الدولة، ولكنهما أقل من الترسانات السويدية حظا؛ حيث إن في السويد عددا كبيرا من الصناعات المختلفة المرتبطة ببناء السفن.
وتتنافس ألمانيا مع بريطانيا والسويد في الحصول على المركز الثاني في صناعة السفن بعد اليابان؛ فلقد بدأ النمو الألماني في هذه الصناعة بسرعة بعد 1949 ووصل في 1958 إلى قمة إنتاجية قدرها 1,4 مليون طن، وذلك بالقياس إلى قمة إنتاجية وصلتها الترسانة الألمانية في الفترة بين الحربين العالميتين، وقدرها نصف مليون طن، ومع ذلك فإن التوسع الألماني في صناعة السفن أقل من مثيله في السويد، وأقل بكثير من مثله في اليابان، في عام 1964 هبط الإنتاج الألماني إلى 890 ألف طن. وكذلك تميزت بعض الدول بنمو سريع في صناعة السفن منذ نهاية الخمسينيات مثل هولندا وفرنسا وإيطاليا ويوجسلافيا. وقد عانت هذه الدول - وخاصة هولندا - كثيرا من التوقف في هذه الصناعة خلال فترة الستينيات.
ولا شك أن نمو صناعة السفن في أوروبا خلال فترة ما بين الحربين العالميتين قد جاء في أساسه نتيجة تخلف صناعة السفن البريطانية عن استخدام التكنولوجيات الحديثة في صناعة الصلب وصناعة السفن من الصلب، ووراء هذا عدد من العوامل بينها الروح المحافظة البريطانية التي منعت الترسانات الإنجليزية من تقبل الاستحداثات الجديدة في التكنولوجيا. وقد أدت هذه الاستحداثات إلى نفقات بناء أقل في الصناعة الأوروبية عنها في الإنجليزية، فمثلا أخذت السويد تكنيكا جديدا استخدمه الأمريكيون خلال فترة الحرب، وهو عبارة عن تقسيم عملية التجميع إلى عدة عمليات تجميع صغيرة، واستخدام «اللحام» بدل «البرشمة» في صنع هيكل السفينة. وقد أدت هذه وغيرها من الوسائل الجديدة إلى تقليل الوقت كثيرا في بناء السفينة.
كذلك بدأت السويد وبعض الدول الأوروبية في تقديم سفن موحدة المواصفات تبنى في صورة سلسلة متكاملة (كمبدأ الإنتاج الكمي). وقد أدى ذلك إلى تخفيض التكلفة كثيرا. وكذلك فإن تنظيم نقابات العمال البريطانية على أساس المهنة - عامل لحام أو عامل بناء مثلا - على عكس نقابات العمل السويدية القائمة على أساس نوع الصناعة - عمال الترسانة ككل مثلا - قد ساعد على تجنب الكثير من المطالبات التي يقدمها عمال مهنة معينة، أو غير ذلك كالإضرابات، كذلك فإن صناعة السفن الإنجليزية مقسمة على عدد كبير من الترسانات المتوسطة المساحة، ونمط صناعة ونقل ألواح الصلب قد تغير من الاعتماد على الفحم (إنجلترا) في مناطق داخلية، إلى نمط ساحلي (استيراد الفحم أو الوقود)، وقد ترتب على ذلك أن كثيرا من الدول الأوروبية تبني معامل الصلب في المنطقة الساحلية عند الترسانة، بل في بعض الأحيان ساعد انخفاض أجور نقل الصلب بالسفن على استيراد ألواح الصلب من الولايات المتحدة أو اليابان مباشرة إلى الترسانات الأوروبية.
أما في اليابان فإن الملاحة البحرية كانت شائعة منذ فترة طويلة بحكم تكوين اليابان من عدد كبير في الجزر تحتاج إلى التنقل المستمر، لكن التقليد الحضاري الياباني الإقطاعي كان يمنع السفر خارج المياه اليابانية، حتى لا تفسد عزلة الشعب؛ ومن ثم لم تكن هناك سفن عابرة للبحار، وفي عهد الإصلاح بعد عام 1868 أمكن إنشاء عدد من السفن الكبيرة بواسطة شركات خاصة. وفي عام 1890 بنيت في اليابان أول سفينة من الصلب، وفي 1896 قدمت الحكومة منحا وإعانات للشركات التي تبني سفنا حمولتها أكثر من 700 طن، ومع ذلك فإن نمو صناعة السفن اليابانية ظل يسير ببطء شديد، وفي 1901 أنشئ أول مصنع للصلب في اليابان.
وعندما بدأت الحرب العالمية الأولى كانت السفن اليابانية قد بلغت أحجاما كبيرة؛ فقد كانت حمولة السفن المبنية في 1890 لا تزيد عن عشرة آلاف طن، زادت إلى أكثر من 50 ألف طن في الفترة بين 1901-1913، ثم زادت الحمولة بتأثير الحرب واحتياج الدولة إلى سفن، في سنة 1914 بلغت الحمولة المنزلة إلى البحر 85 ألف طن ارتفعت إلى 650 ألف طن 1919، لكن الكساد حل بهذه الصناعة وغيرها بعد أن أفاقت الدولة الأوروبية من تأثير الحرب ، بالإضافة إلى الأزمات العالمية المتكررة؛ ففي سنة 1929 - وكانت تمثل سنة رواج - أنزلت اليابان إلى البحر 65 ألف طن جديدة فقط، ولم يزد الإنتاج عن 400000 طن إلا خلال الثلاثينيات. وهكذا فإن نمو الصناعة اليابانية في هذا المضمار كان له مقدمات طويلة اكتسب فيها اليابانيون خبرات بناء السفن، ونضيف إلى ذلك أيضا التوسع العسكري الياباني الذي أدى إلى الاهتمام بالبحرية كثيرا.
وفي خلال الخمسينيات (1956) تفوق الإنتاج الياباني على بقية الإنتاج العالمي في بناء السفن، وفي خلال الخمسينيات أيضا نمت التجارة الدولية بصورة واسعة ومذهلة، وخاصة في قطاع نقل البترول؛ مما أدى إلى رفع حمولة أساطيل التجارة ونقل البترول الأمريكية واليونانية كثيرا، وأدى هذا إلى طلبات كثيرة من أصحاب هذه الأساطيل على ترسانات العالم لإنشاء سفن جديدة، وبرغم أن تكلفة الإنتاج الياباني لم تكن تتميز بالانخفاض الشديد بالمقارنة بتكلفة الإنتاج الأوروبي إلا أنه كان بإمكان اليابان تلبية الطلبات وتسليم السفن في وقت أقصر؛ لأن الترسانات الأوروبية كانت محجوزة من قبل في تنفيذ عقود سابقة، كذلك كان بالإمكان التوسع في الترسانات اليابانية بتحويل الترسانات العسكرية إلى مدنية، وكذلك لوجود عدد كبير من مهندسي هذه الصناعة من المدنيين والعسكريين السابقين، ويضاف إلى هذا كله وجود قوة عمل كبيرة في اليابان، ونمو صناعة الصلب اليابانية التي تكون أحد الأسس في صناعة السفن، وفوق هذا فإن هروب رءوس الأموال الأمريكية إلى اليابان والحرب الباردة، قد ساعدا على تنمية هذه الصناعة بصورة مضاعفة.
خريطة 4-2
ويشكل الأسطول الياباني التجاري الكبير عميلا ثابتا عند الترسانة البحرية اليابانية. وقد كانت حمولة الأسطول التجاري الياباني في سنة 1941 6,1 ملايين طن. وكان يحتل المركز الثالث في العالم. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية كان معظم الأسطول التجاري الياباني غارقا في قاع الباسيفيك، ولم يكن المتبقي منه سوى ما حمولته 750 ألف طن. وقد بني الأسطول مرة أخرى وبسرعة كبيرة وأصبح يحتل المرتبة الخامسة عام 1964 بحمولة قدرها 10,8 ملايين طن، وفي عام 1970 أصبح الأسطول التجاري الياباني يحتل المرتبة الثانية من بين الأساطيل العالمية التجارية، بحمولة قدرها 27 مليون طن، كذلك تتزايد الحاجة في اليابان - للصناعة والتجارة ونقل الخامات - إلى مزيد من الحمولة البحرية في أسطولها التجاري؛ فالاحتياج إلى البترول وحده قد تزايد من 25 مليون طن في 1959 إلى 70 مليون طن في 1970، ويتوقع أن يصل إلى 130 مليون طن في 1980، وعلى المنوال نفسه يتوقع ازدياد حجم التجارة اليابانية إلى أرقام مضاعفة، وتبني الترسانة اليابانية الآن ناقلات بترول وزنها 300 ألف طن، ومشروعات لأكثر من ذلك (نصف مليون طن) وناقلات خامات في حدود مائة ألف طن.
أما في أمريكا فإن الاهتمام ببناء السفن كان محدودا - لا شك نتيجة التوسع الأرضي داخل المساحات الهائلة في الولايات المتحدة - ولكن صناعة السفن كانت مهمة في موانئ نيوإنجلند الأمريكية خلال عصر السفن الخشبية، وحينما انتقلت السفن إلى عصر الحديد والصلب سبقت بريطانيا أمريكا بعدة عشرات السنين في هذا المضمار؛ نظرا لتطور صناعة الحديد والصلب الإنجليزية، ولم تنتقل أمريكا إلى السفن الجديدة إلا بعد بداية هذا القرن، وحتى بعد ذلك ظلت الولايات المتحدة متخلفة نسبيا؛ نظرا لاهتمام الصناعة الأمريكية بالتركيز على إنتاج الآلات والسيارات والقاطرات وغير ذلك من الإنتاج الصناعي. لكن احتياجات أمريكا للسفن الحربية والتجارية خلال الحرب العالمية الثانية قد أدى إلى نمو سريع جدا لهذه الصناعة حتى أصبحت الصناعة الثانية بعد صناعة الطائرات، وفي عام 1943 بلغت الحمولة المنزلة إلى البحر 11,6 مليون طن. وقد هبط هذا الرقم إلى 75 ألف طن فقط عام 1955.
والسفن الأمريكية لا يمكن أن تنافس في السوق العالمي السفن الأخرى؛ لارتفاع الأجور في الولايات المتحدة؛ مما أدى بالحكومة إلى منح إعانات لصناع السفن الأمريكيين (قانون 1936). وتتركز صناعة السفن الأمريكية في خمس ترسانات على الأطلنطي: هي بوسطن، فيلادلفيا (ترسانتان)، بالتيمور، نيوبورت.
لكن ترسانات أمريكا أكبر مما تنتج من سفن تجارية؛ وذلك لأن جزءا من إنتاجها يذهب إلى الأسطول الحربي الأمريكي . كما أن الترسانات الأمريكية تقوم بعمليات إصلاح كبيرة أكثر من الدول الأخرى، فأرباحها السنوية من إصلاح السفن تبلغ 435 مليون دولار بالمقارنة ب 210 ملايين دولار في صناعة إصلاح السفن في الترسانات والأحواض البريطانية، وأحواض إصلاح السفن تختلف في نمط توزيعها عن ترسانات بناء السفن؛ إذ إن هذه الأحواض تميل إلى الانتشار على طول الطرق الملاحية الهامة بدلا من التركز في نقط محدودة، كما رأينا في مراكز الصناعة.
جدول 4-9: تحليل الأسطول العالمي، أرقام منتصف 1970، تشتمل على كافة السفن البحرية فوق حمولة مائة طن. أرقام الحمولة بآلاف الأطنان المسجلة.
الدولة
ناقلات البترول ٪ من مجموع أسطول الدولة
ناقلات خام المعادن وسلع الأحجام الكبيرة ٪ من مجموع أسطول الدولة
سفن البضائع العمومية ٪ من مجموع أسطول الدولة
أسطول السماكة ٪ من مجموع أسطول الدولة
سفن مختلفة الوظيفة ٪ من مجموع أسطول الدولة
مجموع حمولة الأسطول
مجموع العالم
86139,9
38
46651,8
21
72396,4
32
7803,6
3
14498,9
6
227489,9
الأرجنتين
502,5
40
97,1
8
580,8
46
7,1
0
78
6
1265,5
الاتحاد السوفييتي
3460,4
23
206,9
2
5941,9
40
3996,7
27
1226,1
8
14832
إسبانيا
1423,4
41
269,8
8
1054
31
432,6
12
261,1
8
3440,9
أستراليا
189,5
18
416,1
39
269,1
25
5,4
0
164
18
1074,1
إسرائيل
0,4
0
342,2
48
330,8
46
4,9
1
35,6
5
713,9
أفريقيا الجنوبية
0,6
0
24,1
5
301,5
59
85,2
17
99,1
19
510,5
ألمانيا الغربية
1642,8
21
1494,8
19
4099,2
52
147,2
2
497
6
7881
ألمانيا الشرقية
178,1
18
149
15
471,9
48
136,2
14
53,4
5
988,6
إندونيسيا
87,7
14
480,6
75
1,2
0
73
11
642,5
أيرلندا
3,2
2
81,7
47
65,9
37
1,3
1
22,9
13
175
أيسلندا
8,4
7
45
38
59,3
50
6,6
5
119,3
إيطاليا
2720,8
36
2088,6
28
1471
20
82,8
1
1084,4
15
7447,6
باكستان
11,3
2
501
89
0,3
0
53,4
9
566
البرازيل
572,7
33
235,3
14
480,6
49
5,8
0
67,2
4
1721,6
البرتغال
248,1
28
11,1
1
373
43
110,1
13
127,7
15
870
برمودا
463,4
68
145,1
21
50,5
7
21,2
3
3,3
1
683,5
بريطانيا
12032,4
47
3849,9
15
7523,6
29
135,4
1
2183,5
8
25824,8
بلجيكا
304,9
29
318,3
30
350,9
33
15,2
1
72,9
7
1062,2
بلغاريا
163
24
152,2
22
300,4
44
55,4
8
15,1
2
686,1
بنما
3289,3
58
419,2
8
1630,7
29
12,8
0
293,9
5
5645,9
بولندا
62,2
4
249,8
16
978,8
62
230,7
15
55,8
3
1580,3
بيرو
78
21
18
5
196,3
52
81,2
21
4,3
1
377,8
تايوان
235,5
20
142,2
12
755,6
65
28,2
3
4,7
0
1166,2
تركيا
169,6
24
21,2
3
367,6
53
1,3
0
137,1
20
696,8
الدانمرك
1339,5
40
445,7
13
1186,7
36
27,2
1
315,2
10
3314,3
رومانيا
69,3
20
152
45
89,6
26
23
7
7,3
2
341,2
سنغافورة
71,2
17
29,1
7
318,3
75
0,6
0
5,2
1
424,4
السويد
1609,4
33
1549,6
32
1346,5
27
20,9
0
394,3
8
4920,7
سويسرا
59,8
30
135
69
1,1
1
195,9
شيلي
52,3
17
22,2
7
211
69
6
2
16
5
307,5
الصومال
102,7
28
266,4
72
369,1
الصين
116,5
13
717,9
83
0,8
0
32,8
4
868
فرنسا
3477,5
54
731,5
11
1396,8
22
195
3
657,1
10
6457,9
الفلبين
139,5
15
90,5
10
684,7
72
6,1
0
25,6
3
946,4
فنزويلا
249,1
63
88,7
23
1,3
0
53,5
14
392,6
فنلندا
670,6
48
99,3
7
500,4
36
3,7
0
123,2
9
1397,2
قبرص
121,1
11
35,9
3
940,2
83
41
3
1138,2
كندا
250,5
10
1265,6
53
341,5
14
128,5
6
413,8
17
2399,9
كوبا
6,3
2
254,6
76
65,7
20
6,3
2
332,9
كوريا الجنوبية
286
34
144
17
354,5
42
51,3
6
13,8
1
849,5
الكويت
423,7
72
145,7
25
14,6
2
7,7
1
591,7
لبنان (×)
295
ليبيريا
19331,8
58
10177,8
31
3350,3
10
2,2
0
434,5
1
33296,6
مصر (×)
75
239
المكسيك
241
63
32,1
8
57,4
15
5,4
2
45,2
12
381,1
النرويج
8856,9
46
6958,2
36
2525,2
13
182,3
1
824,4
4
19346,9
هولندا
1984,7
38
482
9
2357,6
45
56,9
1
325,5
7
5206,7
هونج كونج
88,6
13
244,2
37
321,6
48
0,9
0
15,7
2
671
الهند
287,9
12
790,3
33
1224,1
51
1,4
0
98
4
2401,7
الولايات المتحدة
4687,9
25
2079,9
11
9873,6
54
73,6
0
1748,2
10
18463,2
اليابان
9228,1
34
7885,9
29
7377,8
27
977,6
4
1534,3
6
27003,7
يوجسلافيا
255
17
294,6
19
929,8
61
0,8
0
35,4
3
1515,6
اليونان
3872,4
35
2183,6
20
4450,9
41
37
0
408,1
4
10952
بقية العالم
469,2
15
165,4
6
1968,9
65
163,4
5
265
9
3031,9
ملاحظات: (1)
تشتمل السفن مختلفة الوظيفة على سفن الشحن الحديثة (المعبآت
container )، وناقلات الغاز السائل، وناقلات المواد الكيمائية، وسفن الأبحاث، وسفن نقل الأشخاص المنتظمة
Linora . (2)
يشتمل أسطول كندا على أسطولها في البحيرات العظمى. (3)
يشتمل أسطول الولايات المتحدة على أسطولها في البحيرات العظمى، كما يشتمل على الأسطول الاحتياطي (غير العامل في الوقت الحاضر). (×) أرقام مصر ولبنان عن 1969 من الكتاب السنوي الإحصائي للأمم المتحدة 1969.
المصدر: “Maritino Transport” 1970, O.R.C.D. (org. for economic co-operation and development Paris 1970), Table XXllb, P. 129 .
الفصل الخامس
المقومات الجغرافية للنقل على اليابس
نظرة تجميعية
يشتمل النقل على اليابس على كافة وسائل النقل المعروفة قديما وحديثا باستثناء النقل البحري والجوي. ونظرا لأن النقل على اليابس متعدد الأنواع بهذه الصورة ولأنه مرتبط أشد الارتباط بالظروف الطبيعية من ناحية والظروف البشرية من الناحية الأخرى، فإن من الواجب أن نلقي نظرة تجميعية شاملة على العوامل التي تساعد أو تناهض عمليات النقل المختلفة على سطح القارات الخمس، في الماضي وفي الحاضر. (1) العنصر البشري في النقل
لما كان النقل عملية بشرية محضة، تربط بين الإنتاج والاستهلاك في منطقة محلية، أو بين مدينة وظهيرها، أو على مستوى إقليمي واسع، فإن العامل البشري يبرز لنا أولا وقبل كل شيء كعنصر أساسي في أنماط النقل، بل هو يكون البناء الأسفل الذي تقوم فوقه كل مقومات النقل الأخرى، ولكن نظرا لأن هذه حقيقة شائعة، فإن الإشارة إلى العنصر البشري لن تظهر كثيرا في الصفحات التالية إلا حينما تدعو الحاجة إلى تفسير نمط شاذ من أنماط النقل، أو بعبارة أخرى حينما لا يظهر النقل بصورة واضحة في إقليم ما، أو حينما تشتد كثافة النقل بصورة هائلة في منطقة ما.
وسبب هذا الشذوذ في نمط النقل إنما يرجع أولا وقبل كل شيء إلى نوع الاقتصاد السائد، ففي المناطق التي تسيطر عليها اقتصاديات الجمع (= جمع النباتات التي تنمو طبيعيا، والصيد والسماكة) وفي المناطق التي يكون نمط الاقتصاد فيها أوليا (= زراعة أولية أو رعي تقليدي) فإن نمط النقل لا ينمو إلا في أبعاد ضيقة تتحدد بانتقال الأشخاص في أغلب الأحيان؛ ذلك أن هذه الأشكال من الاقتصاد في أساسها يمكن أن تسمى اقتصاديات الاكتفاء الذاتي أو الإعالة أو اقتصاد الإعاشة؛ فالإنتاج يتوازى - بدرجات مختلفة حسب ظروف طبيعية أو بشرية مختلفة - مع المتطلبات الغذائية للمجتمع؛ ومن ثم فإنه يمكن لنا أيضا أن نسميها اقتصاديات إنتاج الغذاء، وفي مثل هذه الحالات نجد المجتمعات تتكون من وحدات إنتاجية أو اقتصادية صغيرة العدد مبعثرة أو متركزة في مناطق الحصول على الغذاء مباشرة، وهي بذلك ليست في حاجة إلى تطوير وسائل نقل خاصة بالمنتجات الغذائية إلا في أضيق الحدود.
وفي المناطق التي يتكاثف فيها النقل بدرجات فوق العادة، فإن ذلك يعكس صورة مناطق نشاط احتكارية أكثر من اللازم، وتظهر هذه المناطق في الوقت الحاضر في نطاقات صغيرة المساحة شديدة الجاذبية في داخل الدول الصناعية، مثل حوض الرور أو منطقة ساحل بحيرة إيري الجنوبي أو منطقة شيكاجو أو منطقة لندن ونيويورك وباريس وموسكو. ولقد نمت هذه المناطق الاحتكارية بفضل ظروف تاريخية وظروف علاقات المكان وظروف توفر الخامات في عصر الصناعة الحديثة، بالإضافة إلى نمو وظائف الخدمات في المدن العملاقة، وعلى رأسها وظائف خدمات التجارة بشتى أشكالها: الداخلية والخارجية والترانزيت. ومثل هذا التركيز الشديد، وإن كان من الناحية الاقتصادية مرتبطا بالتكامل الصناعي والتجاري الاحتكاريين، إلا أنه من الناحية الاستراتيجية أصبح يكون نمطا تاريخيا على عكس النمط الانتشاري الصناعي الحالي في الدول الكبرى الجديدة، وهو من ناحية النقل يمثل عبئا ضخما على كافة وسائل النقل؛ مما يدعو إلى المزيد منها فوق ما فيها من كثافة، ولا شك أن المزيد من وسائل النقل في هذه المناطق أصبح أمرا شديد التكلفة بصورة تسترعي الانتباه، فأسعار الأراضي في مثل هذه المناطق عالية جدا، وإعادة تنظيم المباني ونهايات الطرق البرية أو الحديدية أو النهرية أو البحرية (في حالة الموانئ) أيضا تصبح شديدة التكلفة، ويدعو هذا أو ذاك إلى كثرة بناء الطرق المعلقة للنقل البري أو الأنفاق للنقل الحديدي والبري. ولا شك أن الاستثمارات في هذه الطرق أصبحت حدية؛ ومن ثم فإن تكلفتها تعود بدون شك على السلع المنتجة فترتفع أسعارها.
وهكذا فان التكثيف الشديد لوسائل النقل في المناطق الاحتكارية - داخل مناطق اقتصاديات الصناعة - أمر لا يعود بالنفع على السلع المنتجة في وجه المنافسة العالمية، ويؤدي أيضا إلى سلسلة من التفاعلات في رفع الأسعار ومطالبات رفع الأجور لمواجهة ارتفاع نفقات المعيشة، ثم تفشي البطالة والتضخم والكساد (أو نمو صناعات الحرب)؛ ومن ثم فإن نمط المناطق المحتكرة يجب أن يتغير لحل الكثير من هذه المشكلات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية.
وفيما عدا هذين الاستثناءين في شكل النقل، فإن النقل عامة يخضع لتوزيع الكتل البشرية والأسواق على أساس من الكم والنوع: الكم يساوي سوقا رائجة لسلع الإنتاج الكبيرة
Mass Production ، والنوع يساوي سوقا رائجة لأنواع مختارة من السلع ذات القيمة النادرة (وبالتالي القيمة النقدية العالية). فالهند سوق رائجة للمنسوجات القطنية العادية، وسويسرا سوق رائجة للمنسوجات القطنية الدقيقة الصنع، والأسماك المعلبة تجد سوقا رائجة بين الفقراء ومتوسطي الدخل في أوروبا، بينما الأسماك المجمدة تجد سوقها عند الأغنياء في شعوب أوروبا. (2) العناصر الطبيعية في النقل على اليابس
نظرا لأن دراسة العناصر الطبيعية منفصلة في تأثيراتها المختلفة على النقل على اليابس يفتت الموضوع المجمع، فإن أحسن دراسة شاملة لهذه العناصر هو تجميعها في صورة إقليمية لتوضيح كافة التفاعلات الطبيعية كمقدمات مساعدة أو مناهضة للنقل في كل إقليم على حدة.
والأقاليم الطبيعية الرئيسية التي تجمع عددا كبيرا من الصفات في قالب واحد هي: (1)
الأقاليم المدارية بأقسامها العديدة: الاستوائية والموسمية وأقاليم السفانا. (2)
الأقاليم الجافة بأقسامها الحارة والباردة، وأقسامها البشرية: المأهولة وشبه المأهولة بالسكان. (3)
أقاليم العروض الوسطى والمعتدلة بقسميها الرئيسيين: السهول والجبال. (4)
الأقاليم الباردة أو أقاليم العروض الشمالية. (2-1) الأقاليم المدارية
تتسم هذه الأقاليم عامة بارتفاع في: (1)
الحرارة. (2)
الرطوبة الجوية. (3)
المطر الساقط.
ولكنها تختلف فيما بينها في تنظيم منحنيات كل من هذه العناصر على مدار السنة، فالإقليم الاستوائي يتميز بتماثل رتيب في ارتفاع كميات الأمطار ودرجات الرطوبة الجوية والحرارة على أشهر السنة مع فوارق بسيطة، والاختلافات الناجمة عن التغاير التضاريسي قد لا يكون لها أثرها الواضح سوى في خفض معدلات الحرارة، لكن هذه المعدلات تظل متماثلة على أشهر السنة، والاستثناء الوحيد ذو القيمة - من ناحية الامتداد المكاني - هو منطقة الأنديز العالية في داخل النطاق المداري الأمريكي.
ويترتب على هذه الظروف نمو الغابات الاستوائية الكثيفة بأنواعها المختلفة، والتي يصلح بعضها للاستغلال الخشبي الحديث؛ ومن ثم نجد طرقا محددة في اتجاهات هذه الموارد الخشبية. والغابات الاستوائية في مجموعها صعبة الاختراق وتكون عائقا واضحا أمام النقل، ولكن النقل ليس عملية أساسية نظرا لسيادة نظم اقتصاديات الإعاشة عند الغالبية الساحقة من سكان المناطق الاستوائية في الأمازون أو الكنغو أو غرب أفريقيا أو غابات جزر جنوب شرقي آسيا؛ ومن ثم لا يوجد تبادل تجاري إلا في أضيق الحدود، ومع دخول هذه المناطق جميعا في دائرة نفوذ المناطق الصناعية الشمالية، كمنطقة إنتاج للخامات الأولية (معدنية وبيولوجية نباتية وحيوانية) ظهرت الحاجة إلى طرق للنقل، وكانت الأنهار هي الوسيلة الطبيعية الوحيدة للنقل، وبرغم بعض العوائق التي تظهر في هذه الأنهار مثل شلالات لفنجستون على الكنغو الأدنى، إلا أن أنهار الأمازون والكنغو والنيجر قد استغلت كطرق اختراق ونقل ممتازة، ولا تزال هذه الأنهار تكون الشرايين الرئيسية للنقل السطحي داخل النطاق الاستوائي في أفريقيا وأمريكا الجنوبية.
وإلى جانب الأنهار ظهرت طرق أخرى حديدية وبرية في محاور متعامدة مع محور النقل النهري وليست موازية له. وبعبارة أخرى فإن ما نجده من وسائل نقل أرضية غير النهر ليست مواصلات منافسة للنقل النهري، بل إنها وسائل مكملة لهذا الشريان الرئيسي، في مجموعة من الطرق بعضها مائي وبعضها حديدي وبعضها بري لكنها في مجموعها ذات اتجاه واحد، ونادرا ما تتصل بغيرها من الطرق الأخرى (انظر خريطة 3-6: النقل في زائيري كنموذج للنقل في الإقليم الاستوائي).
وبرغم بطء النقل النهري، إلا أن غالبية المواد المنقولة هي من السلع التي تتحمل البطء مثل الخامات المعدنية أو المنتجات النباتية من أخشاب أو بن أو كاكاو أو ثمار نخيل الزيت ... إلخ. وكذلك فإن تكلفة إنشاء الطرق الحديدية والبرية عالية نظرا لكثرة أعمال تمهيد الأرض مثل قطع الأشجار وإقامة الجسور لعبور الأنهار الصغيرة والكبيرة، ونظرا لوجوب إنشاء طرق كل الأجواء التي لا يصلح غيرها للسير في التربة الاستوائية الموحلة والمستنقعية في أحيان كثيرة، وعلينا أن نلاحظ أن النطاق الاستوائي كان خاليا من أنواع الحيوانات التي يمكن للإنسان استخدامها في الحمل أو الجر نتيجة للظروف الإيكولوجية في هذا النطاق. والحيوان الوحيد الذي تم استئناسه على نطاق ضيق هو الفيل في غابات حوض الكنغو، بواسطة البلجيكيين، تقليدا لما يفعله الهنود منذ وقت طويل، لكن الفيل الأفريقي يختلف عن الفيل الهندي، والطبيعة البرية في أفريقيا تختلف عن طبيعة السكن البشري الكثيف في الهند، وعلى العموم فإن استخدام الفيل في الكنغو لم يكن موجها لخدمة عملية النقل، لا من قبل البلجيكيين ولا من قبل السكان الأصليين، وإن استئناسه قد تم بأعداد قليلة جدا لأنه كان في نية البلجيكيين تكوين فرقة فرسان تركب الفيلة لإحكام الرقابة على أجزاء الكنغو الشاسعة.
أما في المناطق المدارية الموسمية في جنوب وشرق آسيا، فإن عملية التفاعل بين عناصر الحرارة والمطر والرطوبة الجوية تختلف عما شاهدناه في النطاق الاستوائي، فالحرارة العالية معظم السنة تتميز بفصل تهبط فيه الحرارة هبوطا نسبيا أثناء هبوب الرياح الموسمية الداخلية؛ وبالتالي تقل الرطوبة الجوية ولا تسقط الأمطار، وبرغم قصر هذا الفصل إلا أنه قد أدى إلى اختلافات كثيرة عن المنطقة الاستوائية، تنعكس في ظهور الغابات الموسمية، وهي أقل كثافة من الاستوائية. كما أنه يؤدي إلى ظهور الأعشاب في المناطق التي تقع في ظل الأمطار. كذلك أدى الارتفاع التضاريسي إلى تغيرات محلية في مكونات المناخ والنبات الطبيعي كما هو في هضاب جنوب الصين وجبال الهند الصينية وهضبة الدكن في شبه جزيرة الهند.
وقد أدت هذه الظروف، مع ظروف بشرية أخرى لا نعرف على وجه الدقة خلفيتها ومدى فاعليتها، إلى نمو سكني مستمر وكثيف في المناطق الموسمية، لكن معظمه كان يتكون من مجتمعات اقتصاديات الإعاشة الموجهة للاستهلاك المباشر؛ مما أدى إلى قلة الحاجة إلى النقل، وعوضا عن النقص الواضح في النقل والتجارة الداخلية في هذا الإقليم، فإن نمطا من التجارة الخارجية قد نشأ في منطقة جنوب وشرق آسيا؛ ذلك أن عدة وحدات وتنظيمات سياسية قديمة قد قامت في المنطقة، تتراوح بين الإمارات الإقطاعية وبين الإمبراطوريات الكبيرة (الصين - إمبراطورية المغول في الهند - مملكة سيام وكمبوديا وأنام في الهند الصينية - الإمارات والسلطنات الإسلامية في الملايو). وهذه الوحدات السياسية كانت دائما تستدعي قدرا من التجارة والنقل؛ ومن ثم جاءت النهضة المبكرة في النقل البحري الصيني والهندي في المحيط الهندي وبحار الصين وجنوب شرق آسيا، وكذلك كانت هناك الطرق البرية (القوافل) التي تربط هذا الإقليم بغيره من الأقاليم عبر جبال وسط آسيا.
ولا شك أن الظروف الإيكولوجية قد ساعدت على وجود حيوانات يمكن استئناسها واستخدامها في النقل داخل الإقليم الموسمي، وعلى رأس هذه الحيوانات الأبقار والجاموس، وإلى جانب ذلك البغال في الهامش الجبلي للإقليم الموسمي، والخيول التي وردت إليه من النطاقات الجافة المجاورة، وكذلك الفيلة التي استؤنست من فترة طويلة في الهند والهند الصينية.
وإلى جانب ذلك فإن الإقليم يتميز بكثرة الأنهار، ومعظمها صالح للنقل بواسطة القوارب المحلية الكبيرة: اليانجتسي كيانج وسيكيانج في الصين، والميكونج والمينام وإيراوادي في الهند الصينية، والجانج وبراهما بوترا في سهل الهندوستان. وقد أدت هذه الأنهار خدمات جليلة في النقل وتوسيع نطاق التجارة والنفوذ السياسي إلى داخلية هذه الأحواض النهرية. وتتميز هذه الأنهار عامة بظاهرة الفيضان السنوي الطويل المرتبط بسقوط المطر الموسمي، وهو الأمر الذي كان يؤدي إلى عرقلة الملاحة النهرية في هذا الموسم، وفي أحيان كثيرة تقل المياه في مجاري الأنهار الصغيرة الأحواض خلال موسم الجفاف؛ مما يعرقل الملاحة أيضا، أو يؤدي إلى توقفها فترة من الوقت.
وفي الوقت الحاضر لم تعد الحيوانات وسيلة النقل الرئيسية، وإن ظلت كذلك في كثير من المناطق الريفية: فلقد دخلت السكة الحديدية والطرق البرية مجال النقل في هذه الأقاليم الموسمية نظرا لكثافة السكان. ونظرا لتحول الكثير من هذه المناطق إلى إنتاج الخامات الأولية للصناعة، أو إنتاج الغذاء للتجارة الداخلية والخارجية، وتزداد كثافة النقل البري والحديدي الحديث في أجزاء الإقليم الموسمي المنتج للخامات الصناعية مثل سهل الهندوستان ودلتا الجانج ومنطقة غرب الهند (كلها تنتج القطن والجوت والشاي) بالقياس إلى المناطق التي لم تنتقل بعد إلى هذا النوع من الإنتاج (جنوب الصين أو الهند الصينية في مجموعها التي لا تزال تنتج الغذاء من أجل الكفاية المحلية).
أما إقليم السفانا فإن تفاعلات ظروفه المناخية مماثلة تماما لظروف المنطقة الموسمية مع فارق واحد، هو قلة كمية الأمطار الساقطة، وامتداد موسم الجفاف فترة زمنية أطول، وقد ترتب على ذلك قلة النمو الشجري، وسيطرة الحشائش على النبات الطبيعي للإقليم؛ ولهذا جاء اسم الإقليم مرتبطا بحشائش السفانا.
ونظرا لسيادة النمو الشجري فإن السفانا أصبحت - على عكس النطاق الاستوائي - منطقة مكشوفة يسهل التحرك فيها. وقد كانت كذلك بالفعل، منطقة الهجرات الرئيسية للشعوب والقبائل المختلفة في أفريقيا على وجه خاص، وفي أمريكا الجنوبية وأستراليا بوجه عام، ويزيد من التحرك أن منطقة السفانا صالحة لوجود الحيوان الذي يمكن استئناسه، وخاصة الأبقار. كما أنها صالحة لاستخدام الخيول أيضا، وفي أطرافها المجاورة للنطاق الصحراوي تصبح صالحة لدخول الإبل. وهكذا فإن الظروف الطبيعية المكشوفة قد ارتبطت بوجود حيوانات يمكن أن تصلح لاستخدامات النقل والحركة السريعة أو البطيئة.
ونضيف إلى هذا أن في نطاقات السفانا أنهارا أو أجزاء من نظم نهرية كبيرة تصلح أيضا للملاحة ولأغراض النقل: في أفريقيا يجري معظم مسار نهر النيجر في نطاق السفانا في غرب أفريقيا. وكذلك مسار نهر السنغال، وفي إقليم السفانا الشرقي يخترق نهر النيل السودان الجنوبي بروافده الكثيرة: بحر الغزال وبحر الجبل ونهر السوباط والنيل الأبيض، وفي نطاق السفانا في أفريقيا جنوب خط الاستواء نجد نهري الزمبيزي واللمبوبو، بالإضافة إلى أعالي الكنغو. أما الأنهار القصيرة في السفانا شرق أفريقيا وفي أنجولا فهي أنهار قصيرة لا تصلح للملاحة، ونجد في السفانا الأمريكية بعض روافد الأمازون الشرقي وأنهار البرازيل الشرقية وعلى رأسها نهر ساو فرانشيسكو، وهي في مجموعها أنهار صالحة أساسا لنقل الأخشاب مع ملاحة محدودة، وفي سفانا أستراليا مجموعة صغيرة من الأنهار التي تصب في خليج كاربنتاريا.
ولكن النقل النهري في نطاقات السفانا يكاد يقتصر على أنهار السفانا الأفريقية، وخاصة النيل في السودان الجنوبي والأوسط، والنيجر في مالي ونيجيريا والسنغال في جمهورية السنغال والزمبيزي الأدنى في موزمبيق. وبما أن معظم نطاقات السفانا تمثل مناطق قليلة السكان، ومعظمهم يكونون مجتمعات تعيش على إنتاج الكفاية الغذائية، ومن ثم فإن حركة النقل والتجارة كانت محدودة، ولا تزال قاصرة على التنقل التقليدي للرعاة في سفانا أفريقيا والجماعين والصيادين في سفانا البرازيل وأستراليا؛ ولهذا نجد غالبية مناطق السفانا خالية من الطرق الحديثة البرية أو الحديدية، إلا إذا كانت هناك مناطق إنتاج حديث، وفي هذه الحالة نجد خطوطا حديدية مفردة (غير مزدوجة) وذات اتجاه واحد، وقد ترتبط هذه الخطوط بالنقل النهري لتكون معه محورا رئيسيا للنقل الحديث؛ مثال ذلك سكة حديد السودان، والملاحة النهرية في النيل الأبيض، وبحر الجبل، وبحر الغزال (انظر خريطة المواصلات في السودان رقم 5-1). وكذلك السكة الحديدية الممتدة من دكار إلى باماكو على نهر النيجر، والخط الحديدي الممتد من بنجويلا في أنجولا إلى مناجم النحاس الغنية في زامبيا وكاتنجا، ثم امتداده بعد ذلك شرقا إلى موانئ موزمبيق على المحيط الهندي، والطرق البرية محدودة وتحتاج إلى تجهيزات خاصة لكي تصبح صالحة للاستخدام خلال موسم الأمطار. ومن أهم هذه الطرق الطريق الذي يربط كوناكري في جمهورية غينيا مع باماكو على النيجر الأعلى. وكذلك الطريق الذي يشق زامبيا وروديسيا وتنزانيا (وهو جزء من طريق القاهرة- الكاب) والطريق البري الحديث بين نطاق النحاس في زامبيا وميناء التصدير الجديد في دار السلام.
وتدفع النشاطات الاقتصادية والاتجاهات السياسية إلى مزيد من الطرق الجديدة، مثلا خط حديد الأبيض-واو في السودان هدفه اقتصادي واستراتيجي معا، والخط الحديدي الذي يبنى الآن بين زامبيا وتنزانيا هدفه «نقل نحاس زامبيا» وسياسي (ابتعاد زامبيا عن موانئ التصدير التي تسيطر عليها البرتغال في كل من أنجولا وموزمبيق). وكذلك تشتد كثافة النقل الحديث في القسم الشرقي من السفانا البرازيلية، حيث يزرع البن وحيث تتركز النشاطات الزراعية الحديثة في البرازيل. وكذلك في أستراليا يمتد خط حديدي عبر السفانا من كوينزلاند على الساحل الشرقي إلى سهول خليج كاربنتاريا.
خريطة 5-1: المواصلات في السودان.
وعلى وجه العموم، فإن السفانا بيئة غير طاردة للسكن أو السكان لأنها بيئة مكشوفة يمكن اختراقها، وفيها مقومات إنتاج جيدة، ولكن ظروفها الحضارية والاقتصادية المتخلفة جعلتها تنتمي إلى نمط المواصلات البسيط في الوقت الحاضر.
وليس تنبؤا أن نقول إن السفانا - بإمكاناتها العديدة وامتداداتها السهلية الواسعة - توازي وتماثل الأقاليم المعتدلة السهلية في أوروبا وأمريكا، وإنها في المستقبل - وإذا واتتها الظروف - سيكون لها ما للأقاليم المعتدلة من دور اقتصادي هام؛ ومن ثم ستتكاثف فيها وسائل النقل، وهي مماثلة للأقاليم المعتدلة من حيث فصلية الأمطار، ولو أنها أكثر حرارة، في مقابل برودة الشتاء في الأقاليم المعتدلة، وهما متشابهان من حيث سيطرة السهول على المنظر التضاريسي العام، مع القليل من الارتفاعات، وتخترقها أنهار جيدة يمكن أن تصبح خطوط مواصلات جيدة مثلها في ذلك مثل أنهار أوروبا وأمريكا الشمالية، وسوف يتم ذلك حينما يقوم الإنسان بإحداث التعديلات اللازمة في النظم المائية للأنهار ، كما حدث من قبل في أوروبا وأمريكا، ويحتوي إقليم السفانا على مناطق شاسعة لإنتاج الحبوب (دخن - ذرة - أرز) مثل السهول في الأقاليم المعتدلة (قمح - ذرة - شيلم)، وتتميز عنها أنها أيضا صالحة لأنواع أخرى من النباتات التي تصلح خامات صناعية مثل القطن والسيزال، وكل ما ينقصها لتتشابه مع الأقاليم المعتدلة مصادر الطاقة، ونقص التكنولوجيا، والأولى يمكن تدبيرها بالمشروعات الهندسية على الأنهار الكبرى والصغرى، والثانية يمكن تداركها بالتعليم. (2-2) الإقليم الجاف
يمتد هذا الإقليم في محور شرقي غربي في العالم القديم مع ميل إلى الشمال الشرقي في آسيا وإلى الجنوب والجنوب الغربي من أفريقيا، وأهم صفاته الطبيعية التي تميزه عن الأقاليم الطبيعية الأخرى في العالم هو الجفاف، لكن الإقليم يمكن أن يقسم إلى قسمين رئيسيين على ضوء معدلات الحرارة؛ فهناك الإقليم الجاف المداري في أفريقيا (الصحراء الكبرى والصحراء العربية والصومالية وصحراء ثار الهندية، وصحراء كلهاري)، والإقليم الجاف البارد (صحاري وسط آسيا من منغوليا إلى إيران). وكذلك يمكن تقسيمه على الأساس التضاريسي إلى الإقليم الجاف الهضبي (إيران أفغانستان، سنكيانج «تركستان الصينية»، منغوليا)، والإقليم الجاف السهلي (سهول وسهول عليا) في تركستان السوفييتية والصحراء العربية الأفريقية، وفي داخل هذا القسم نجد مناطق هضبية متميزة بارتفاعها الواضح مثل هضبة الحجار وجبال تبستي في الصحراء الكبرى والحافة الانكسارية للبحر الأحمر، وخاصة في اليمن وعسير في الصحراء العربية.
وعلى هذا الأساس أو ذلك الأساس تتحدد كثير من مسهلات ومعوقات النقل، فضلا عن معوق رئيسي يربط بين هذه الأقسام جميعا هو الجفاف.
والحيوان الذي يمكن استئناسه في الإقليم الجاف هو الجمل، ولو أنه يختلف بين الجمل البكتيري (ذي السنامين) في النطاق البارد، والجمل العربي في النطاق الجاف المداري. وإلى جانب الجمل توجد الخيول والحمير، وفي أحيان البغال. والخيول أصلا من وسط آسيا (من حيث نشأة استئناسه)؛ ومن ثم فهو شائع في تلك المناطق بينما هو رمز الغنى والوفرة في النطاق الجاف المداري؛ ولذلك تقل أعداده فيها. أما الحمير فقد يكون موطنها الأساسي الشرق الأوسط وأفريقيا، ولكنها أكثر استخداما عند المجتمعات الزراعية المستقرة في الإقليم الجاف الهضبي والمداري عنها في وسط آسيا، ويوجد الحمار أيضا عند الرعاة الذين يعيشون بالقرب من الواحات والمناطق الزراعية في الصحاري العربية الأفريقية، وأخيرا فإن البغل يظهر في المناطق الهضبية والجبلية الآسيوية أكثر من ظهوره في النطاق الجاف العربي الأفريقي.
ولقد استخدمت هذه الأنواع المختلفة من الحيوان في الحمل والجر. وكانت الإبل هي التي تمثل خطوط المواصلات الطويلة أو الدولية مع كثير من التحفظ في وسط آسيا أو في المنطقة العربية الأفريقية، وذلك راجع بدون شك إلى التحمل الكبير الذي يتصف به الجمل عن غيره من حيوانات النقل التجاري في الإقليم الجاف، هذا فضلا عن أن طاقته في الحمل أكبر من الحصان وغيره من الحيوانات؛ فالجمل هو أكثر الحيوان تأقلما على الجفاف.
أما النقل القصير أو المحلي فكانت تستخدم فيه قوافل البغال في المناطق الهضبية، وقوافل الحمير في السهلية، وقد ترتب على نوع التجارة المنقولة، وطول الطريق، ونوع حيوان النقل، أن نشأت محطات متخصصة للقوافل غالبيتها للراحة والتموين في أجزاء الطريق، بينما كانت توجد في نهايات تلك الطرق المحطات الكبيرة التي كانت - في الواقع - أسواقا زاخرة بكل أشكال النشاط الثالث: تجارة جملة وتجارة تجزئة، وكلاء تجاريون، تنظيمات أشبه ما تكون بالأعمال البنكية والائتمانية، خانات (فنادق) ومقاه ومحلات للتسرية والترويح، مخازن للسلع، مصادر للأخبار والثقافة، وسائل نقل أخرى. وخلاصة القول أنها كانت مشابهة تماما لوظائف الموانئ الحالية من حيث تكدس التجارة والخدمات والتقاء عدة طرق من المواصلات من أنواع مختلفة في مكان واحد، ومن بين قائمة طويلة من هذه المحطات نذكر: كشغر، خوقند، سمرقند، مرو، بغداد، دمشق، مكة، القاهرة، أسيوط، الفاشر، طرابلس، فاس، كانو، تمبكتو.
وهذا الغنى الهائل في محطات ونهايات طرق القوافل - الذي انعكس في أنماط المعمار الرائعة وفي المراكز الثقافية والعلمية والمالية التي كانت تعج بها هذه المحطات - هو نقيض الفقر المدقع الطبيعي في بقية الإقليم الجاف في العالم القديم.
شكل 5-1: تطور وسائل النقل البيولوجي. (1) تهيئة مسطح الرأس المنحدر بوسادة لإمكان الحمل المتوازن على الرأس . (2) الحمل على الظهر مع ترك الأيدي حرة: ربط الحمولة بشريط إلى الجبهة. (3) عمود الحمل لشخص واحد يوضع على الكتفين. (4) عمود الحمل لشخصين: الأحمال الثقيلة. (5) عمود الحمل لشخصين أو أربعة أشخاص، وقد تطور فيما بعد إلى المحفة. (6) المتوازيان لنقل الأحمال الثقيلة بواسطة الحيوان أو (7) الإنسان
Travois ، نقلا عن:
J. E. Spencer & W. L. Thomas “Cultural Geography” Willey New York 1969 .
شكل 5-2: وسائل النقل البيولوجي. (1) الشكل الأساسي للسرج الذي يوضع على حيوان الحمل. (2) الشكل الأساسي للزحافة. نقلا عن المصدر السابق.
ولكن هذا التناقض البين يرجع إلى علاقات الموقع للإقليم الجاف؛ فهو يقع بين ثلاثة أقاليم غنية منذ أقدم العصور: إقليم البحر المتوسط والعالم الأوروبي من ناحية، وإقليم المحيط الهندي وشرق آسيا من ناحية ثانية، والإقليم المداري الأفريقي من ناحية ثالثة؛ ومن ثم أفاد سكان العالم الجاف إفادة كبيرة من القيام بعمليات النقل والوساطة التجارية، عبر أرض لا يعرفها غيرهم، وبواسطة حيوانات نقل لا يعرفها غيرهم، وهم في ذلك تماما يشابهون الملاحين الفينيقيين والإغريق في الماضي. وكانوا يقومون بدور مماثل لما قام به الأسطول التجاري الإنجليزي لبريطانيا، وكما يفعل الأسطول النرويجي أو اليوناني الحالي لبلاده: استغلال ظرف طبيعي وتأقلم تام وتجاوب مستمر بين الناس وهذا الظرف الطبيعي.
وبالرغم من انقضاء العهد على تجارة القوافل إلا أن العالم الجاف ما زال حلقة أساسية من حلقات التجارة الدولية، والفضل في ذلك يعود أيضا إلى علاقاته المكانية المتوسطة البرية والبحرية والجوية. وقد أدى ذلك إلى تصارع القوى الدولية في القرن الماضي والحالي على العالم الجاف في مجموعه؛ فالنفوذ الروسي القيصري المتوسع كان يتجه إلى العالم الجاف بكل ثقله منذ القرن التاسع عشر، ونجح في الحصول على كل وسط آسيا. وفي الوقت نفسه اصطدم هذا الاتجاه بنفوذ بريطاني قادم من المحيط الهندي يضغط هو الآخر للحصول على العالم الجاف. وقد وقفت هذه الاتجاهات المتصارعة عند حدود الهضبة الإيرانية الأفغانية في الشرق والهضبة الأرمينية والأناضول في الغرب؛ أي إن التوسع الروسي والبريطاني ابتلعا المناطق السهلية من النطاق الجاف: الأولى وسط آسيا والثانية النطاق الغربي الجاف. وكذلك حاولت ألمانيا القيصرية أن تمد يدها إلى النطاق الجاف بوسيلة مواصلات برية تمثلت في سكة حديد برلين-بغداد، لكن هذه اليد كانت أطول مما يجب فلم تستمر طويلا، ومن أجل تحقيق الهدف نفسه احتلت فرنسا نصف العالم الجاف الأفريقي.
وفي مجال العلاقات البحرية للعالم الجاف كانت المنطقة الرئيسية للصراع على مناطق المواصلات - ولا زالت - منطقة الشرق الأوسط؛ حيث يقترب البحر المتوسط من ذراعين بحريين للمحيط الهندي، هما البحر الأحمر والخليج العربي، ولقد تنافست بريطانيا وفرنسا خلال القرن التاسع عشر على هذه المنطقة، ومن قبل حاولت إمارات أوروبا المفككة الحصول على هذه الحلقة الجوهرية في النقل العالمي، وتم ذلك لفترة في صورة الاحتلال الصليبي الفاشل لليفانت. وقد فشل لأنه - بدلا من استقدام التجارة العالمية واحتكارها - أوقف التجارة بجعل المنطقة منطقة اضطراب وحرب، وهما شرطان لا تتعايش معهما التجارة على الإطلاق. وقد شجع ذلك على انتقال خطوط التجارة إلى الشمال عبر سهول قزوين وأوكرانيا، وإلى الجنوب عبر مصر (في بعض الأحيان). وكذلك تتصارع القوى الغربية والشرقية التي خلفتها الحرب العالمية الثانية من جديد على كل المنطقة الجافة من منغوليا في الشرق إلى موريتانيا في الغرب وإلى الصومال في الجنوب، ويشمل هذا كل الصراعات المختلفة بين الاتحاد السوفييتي والصين، وبين أمريكا والاتحاد السوفييتي، وبين النفوذ الأوروبي والأمريكي، وأخيرا العربي والصهيوني.
وأهمية العالم الجاف في الوقت الحاضر تعدت الاقتصار على طرق الاتصال العالمية، وأضافت إليها مصادر الثروة الجديدة في العالم الجاف، وخاصة البترول في المنطقة العربية الأفريقية الجافة؛ ولهذا فإن طرق المواصلات في العالم الجاف في الوقت الحاضر وإن كانت بعيدة عن أن تكون شبكة، إلا أنها متعددة ومتنوعة. فبرغم أن خطوط المواصلات الحالية كثيرة نسبيا إلا أنها لا تتنافس مع بعضها لأنها كلها ذات اتجاهات واحدة: فالطرق الحديدية والبرية في منغوليا ووسط آسيا السوفييتية لا تتشابك، وإنما هي خطوط طويلة تصل مناطق الإنتاج الواحية أو المعدنية أو الأماكن الاستراتيجية بشبكة المواصلات السوفييتية، ومع ذلك فهناك شبكة نقل لا بأس بها في مناطق الكثافة الإنتاجية، وخاصة منطقة طشقند-زرفشان -ألما أتا (أعالي نهر سرداريا ووديان جبال تيان شان وقرغيزيا الغنية بالمراعي والمعادن). وعلى هذا فإن المواصلات الحديثة في العالم الجاف السوفييتي لا تزال مرتبطة بالظروف الطبيعية الجافة؛ أي إنها عبارة عن خطوط طويلة تقطع الصحاري غير المأهولة ولا المنتجة وتسير في اتجاه المناطق المنتجة في منتجعاتها التي كونتها الظروف الطبيعية: الوديان الخصيبة ذات المياه الدائمة أو التي تكفي الاحتياج الأساسي لسكان مستقرين في نمط قروي أو مدني على سفوح القوس الجبلي الكبير تيان شان-بامير-هند كوش.
ولكن ليس من شك في أن إمداد الخطوط الحديدية والطرق البرية عبر صحاري وسط آسيا وسهوبها قد أدى إلى زيادة الاهتمام ببعض الأماكن؛ ومن ثم حدث التعمير الكبير في قازاكستان السوفييتية، والتنمية العظيمة لمصادر الثروة المائية في بحر آرال ومشروعات التنمية المقترحة من أجل تحويل بعض مياه نهر الأوب إلى وسط آسيا في صورة سدود وقنوات تحويل طويلة. وعلى هذا النحو نرى أن نمط المواصلات الحديثة قد بدأ بداية مرتبطة بالظروف الطبيعية: عبور اللامعمور الجاف إلى مناطق العمران، وفي هذا تشابه المواصلات الحديثة، من ناحية النوع، طرق القوافل القديمة العابرة للامعمور دون أن تأبه به. ولكن المواصلات الحديثة أخذت من حيث الشكل والكم صورة أثبت من طرق القوافل القديمة (طريق حديدي أو بري مثبت بالأرض) ووسيلة أسرع وحمولة أكبر، والخطوة الأخيرة في الاختلاف أن المواصلات الحديثة بدأت في إحداث التأثير الاقتصادي المعروف على الأرض التي تعبرها: التعمير والإنتاج.
وفي بقية العالم الجاف نجد أن المواصلات الحديثة عبارة عن طرق حديدية أو برية تخترق الإقليم من طرف إلى آخر دون أن تكون شبكة نقل معقولة إلا في حالة تركيا، حيث توجد مجموعة من الخطوط الحديدية تخدم أجزاء لا بأس بها من الهضبة الجافة في الأناضول. وبطبيعة الحال فإن الأنهار والنقل النهري منعدم في هذا النطاق باستثناء منطقتي الدجلة-الفرات والنيل.
أما النطاق الجاف في العالم الجديد فإنه لم يكن - بعلاقات موقعه - مساويا للعالم الجاف في العالم القديم؛ ومن ثم فإن السكن فيه قد اقتصر على جماعات بدائية محدودة تمارس اقتصاديات الاكتفاء الذاتي، مثل الأستراليين الأصليين ومجموعات الأمريند في صحاري أريزونيا ونيومكسكو وكاليفورنيا وشيلي، لكن النمط الاقتصادي في هذه المناطق قد تغير كثيرا بعد الاستيطان الأوروبي، وظهرت كثير من مناطق التعدين والرعي الحديث؛ ومن ثم مدت عدة خطوط حديدية في هذه الأقاليم. ونظرا لأن المناطق الصحراوية في الأمريكتين صغيرة المساحة فإنها تقع غالبا داخل شبكة مواصلات جيدة بين الأقاليم الغنية التي تقع على أطرفها. أما الصحراء الأسترالية فمساحتها كبيرة ونمط النقل الحديث فيها مشابه - من حيث القلة - للصحراء الكبرى أو منغوليا في العالم القديم. (2-3) أقاليم العروض الوسطى
تحتل هذه الأقاليم مناطق ممتازة من حيث الظروف الطبيعية والعلاقات المكانية منذ القدم، وتمتد هذه الأقاليم بمساحات واسعة في القارات الشمالية، وخاصة أوروبا وأمريكا الشمالية، وبمساحات ضيقة صغيرة في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وأستراليا، ومن الناحية التضاريسية يمكن أن تقسم هذه الأقاليم إلى نطاقين رئيسيين: السهول والجبال، وتمتد السهول في نطاق عرضي كبير في أوروبا وآسيا من خليج بسكاي في غرب أوروبا إلى سهوب قازاكستان في آسيا الغربية، مشتملة بذلك على السهل الأوروبي الأعظم. أما النطاق الجبلي فيقع إلى الجنوب من السهل الأوروبي ويشتمل على السلاسل الألبية المتصلة والمتقطعة بواسطة الوديان والسهول الصغيرة في حوض البحر المتوسط.
وفي آسيا الشرقية وأمريكا الشمالية تنتظم السهول والجبال في صورة نطاقات طولية من الشمال إلى الجنوب؛ فاليابان وكوريا عبارة عن مناطق جبلية تمتد كجزء من حلقة النار من الشمال إلى الجنوب حتى جزيرة فرموزا أو تايوان، وإلى الغرب من هذه الجبال يمتد سهل الصين العظيم من منشوريا إلى حوض يانجستي كيانج، الذي يحده غربا هضاب وجبال النطاق الجاف في منغوليا. وفي أمريكا الشمالية تتعاقب السهول والنطاقات الجبلية من الشرق إلى الغرب: السهل الساحلي الشرقي المقطع في منطقة سانت لورنس والذي يتسع جنوبا إلى أن يدخل المنطقة المدارية في فلوريدا، يليه إلى الغرب نطاق جبال الأبلاش ثم نطاق السهول العظمى الأمريكية، ثم نطاق البراري أو السهول العليا، ثم الكورديليرا الأمريكية بما فيها من وديان ضيقة خصبة (منطقة بوجيت ساوند وفانكوفر، وادي كاليفورنيا).
وفي أمريكا الجنوبية يتكون إقليم العروض الوسطى من سهول الأرجنتين ومنطقة لابلاتا تليها إلى الغرب سلسلة الأنديز في شيلي الوسطى بما تحتويه من وديان صغيرة. وفي جنوب أفريقيا نجد الإقليم مماثلا للعروض الوسطى من حيث امتداد أودية وسلاسل جبلية في صورة أشرطة ضيقة من الشرق إلى الغرب تتمثل في منطقة الكاروو ووديانها الضيقة ومنطقة كيبتاون. وهذه المناطق عامة تقع لضيق مساحتها على هامش العروض الوسطى وتتأثر كثيرا بظروف الجفاف الذي يسيطر على النطاق الصحراوي إلى الشمال منها. وكذلك الحال بالنسبة لإقليم العروض الوسطى في أستراليا: عبارة عن وديان ضيقة وسلاسل من التلال والجبال غير المرتفعة التي تفصل بينها وبين النطاق الصحراوي وشبه الصحراوي الذي يقع شمالها، وبرغم ذلك فإن العروض الوسطى الأسترالية هي أكثر مناطق الاستقرار الأوروبية كثافة من حيث السكن والسكان في أستراليا.
والظروف المناخية في العروض الوسطى ظروف ممتازة من حيث وضوح أقسام السنة وضوحا جيدا من حيث الحرارة والمطر. وكذلك تتعادل كل عناصر المناخ معا، فلا يسيطر عنصر مناخي واحد على ظروف الإقليم المناخية - مثل البرودة التي تسيطر على الإقليم القطبي أو الجفاف الذي يسيطر على الإقليم الجاف، أو المطر الدائم الذي يسيطر على النطاق الاستوائي - ومن ثم كان الإقليم المعتدل معتدلا فعلا من حيث اشتراك كل العناصر المناخية في تشكيل المناخ وتقسيمه إلى أربع فصول واضحة.
وقد كان لتفاعل الظروف التضاريسية والمناخية تأثير واضح في شكل النشاط البشري ووسائل النقل منذ العصور القديمة؛ فالسهول أو الوديان تجعل الانتقال سهلا، كما كان لتوفر مصادر المياه والغذاء النباتي والحيواني بالنسبة لجماعات الصيد في العصور الحجرية أثر واضح في انتشار المجموعات البشرية انتشارا كبيرا على مسطح الإقليم دون الحاجة إلى التزاحم حول مراكز محددة مثل الإقليم الجاف، وحينما انتقلت مجتمعات العروض الوسطى إلى الزراعة كان النمط المنتشر للسكان والسكن أيضا هو النمط السائد لكثرة الأراضي التي يمكن أن تعد للزراعة بعد قطع الغابات، ولم يحدث التركيز السكاني والسكني إلا في المدن. وهذه ظاهرة من ظواهر المجتمعات التي تبلغ مرحلة عالية من التنظيم السياسي القائم على أسس اقتصادية ثابتة: الزراعة والتجارة. وقد حدث ذلك مبكرا في حوض البحر المتوسط، وانتقلت منه هذه التنظيمات إلى السهل الأوروبي. ومهما قلنا عن تكدس السكان والسكن في مدن العصور الوسطى فإن ذلك لا يساوي التكدس الهائل الذي حدث بعد الثورة الصناعية في العروض الوسطى. ونظرة واحدة إلى خريطة الكثافة السكانية في سهول أو وديان العروض الوسطى الأوروبية أو الأمريكية توضح الفوارق الكبيرة بين نمط الكثافة في مناطق وأقاليم الصناعة والريف.
ويرجع ذلك بطبيعة الحال إلى عيب جوهري في أصول وجذور التنظيم الإنتاجي في النمط الصناعي كحرفة اقتصادية؛ هذا العيب هو التجميع الشديد للخامات وتصنيعها في نقاط محدودة المساحة جدا: المصنع، ويستدعي ذلك تكدسا بشريا حول المصنع للقيام بكل عمليات التحويل المركب، والنقل والخدمات والإدارة. أما الزراعة فهي - من الناحية الجغرافية أكثر الحرف الإنسانية تعادلا في توزيع السكان وانتشارهم بكثافات معقولة على مسطحات الأرض الصالحة للزراعة. ولا شك أن ذلك مرتبط بأن الإنتاج الزراعي إنتاج أفقي مرتبط بالظروف الجغرافية ارتباطا وثيقا، بينما الإنتاج الصناعي إنتاج رأسي مرتبط أساسا بقوانين اقتصادية أكثر منه بقوانين طبيعية «على أنه لا يجب أن نهمل عددا من القوانين الطبيعية التي أثرت في مواقع أقاليم الصناعة: علاقات المكان ومصادر الطاقة والخامات».
وأيا كانت الأوضاع البشرية التي أهلت العروض الوسطى في كل جهات العالم لأن تصبح أكثر مناطق العالم من حيث تكامل شبكات النقل الحديث، فإنه لا يجب أن ننسى أن الظروف الطبيعية لهذه الأقاليم كان لها دورها الفعال في ذلك الاتجاه، ومهدت له بصورة متكافئة في أجزاء هذه الأقاليم.
فمن الناحية التضاريسية تشتمل العروض الوسطى على أعظم سهول العالم امتدادا ومن أكثرها خصبا، وتخترق هذه السهول مجموعة كبيرة من الأنهار معظمها عريض هادئ الجريان، وبذلك ظهرت السلسلة الفقرية الأولى في تنظيم النقل والاتصال؛ ففي أوروبا مجموعة عظيمة من الأنهار الهادئة التي تخترق كل أجزاء السهل فيما يشبه المحاور المتوازية، تقطع السهل من الجنوب إلى الشمال متعامدة بذلك على الامتداد المحوري الأصلي للسهل: من الغرب إلى الشرق، ويكفي أن نذكر أنهارا كالسين والراين والألب والأودر والدنيبر والفولجا لكي نعرف كيف كانت السهول الأوروبية محظوظة طبيعيا؛ لأن الطبيعة قد أقامت لها هذه المحاور العظيمة من طرق النقل التي تخترق السهل في كل مكان إلى أعماق أعماقه.
وقد استفاد الإنسان من هذه الطرق الطبيعية استفادة هائلة، وحولها من مجرد محاور إلى شبكة نقل متكاملة بواسطة القنوات التي شق معظمها في اتجاه محور السهول - أي من الغرب إلى الشرق - رابطا بذلك الكثير من هذه الأنهار في شبكة نقل مائي داخلي عظيمة كانت هي في الواقع الأساس المتين الذي ارتكزت عليه الصناعة والنقل الصناعي الثقيل، قبل أن تنشأ شبكات النقل البرية والحديدية الحالية، وما زال النقل المائي الداخلي يكون عصب النقل الصناعي الثقيل في أوروبا.
ورغم موسمية التصريف النهري في هذه الأنهار في صورة فيضانات الربيع الناجمة عن ذوبان الجليد في مناطق المنابع الجبلية، إلا أن أمطار الصيف والشتاء - في شرق وغرب السهول على التوالي - تجعل مستوى المياه في هذه الأنهار محتفظا بحد أدنى صالح للملاحة. وكذلك على عكس الأنهار القصيرة التي لا تحتمل أحواضها الذبذبة في كمية المطر المتساقط أو الجليد الذائب. مثل هذه الأنهار القصيرة تتعرض لذبذبات كبيرة تجعل الملاحة فيها غير منتظمة، وبذلك فإن عامل المناخ - بانقسامه المتعادل إلى الفصول الأربعة الواضحة - كان له دور هام في انتظام الملاحة في هذه الأنهار.
فضلا عن ذلك فإن هذه الأنهار قد كونت في منابعها العليا ممرات وطرق اختراق جيدة لسلاسل جبال الألب التي تفصل بين السهل الأوروبي ومناطق الوديان الخصيبة في حوض البحر المتوسط.
وهذه السلاسل الألبية، برغم كونها كتلا جبلية كبيرة، إلا أنها لم تكن حاجزا يمنع الحركة المستمرة في كل أجزائها؛ فهي من ناحية الارتفاع ليست جبالا شاهقة كجبال آسيا الوسطى أو الأنديز، ومن ناحية الامتداد ليست أيضا سلاسل طويلة مانعة كالهملايا أو هندكوش أو الأنديز، ومن ناحية ثالثة فإنها لا تفصل بين إقليمين متباينين مثل سهول الهند وهضبة التبت، أو وديان أفغانستان والسند من ناحية وصحاري التركستان من ناحية ثانية، بل إنها تفصل بين أقاليم متشابهة: السهل الأوروبي وسهل لمبارديا، أو السهل الأوروبي وسهول المجر ورومانيا.
وحتى في إقليم الجبال نجد الأنهار تكون طرقا بعضها صالح للاستخدام الملاحي، وأعظم أنهار النطاق الجبلي الأوروبي هو نهر الدانوب في وسط وجنوب شرق أوروبا، وروافده العديدة في سهل المجر والصرب، ويماثله في الأهمية - وإن لم يكن من حيث الضخامة والحركة - نهر الرون في جنوب فرنسا، ورافده الساءون الذي يصل السهل الأوروبي بالبحر المتوسط، وفيما عدا ذلك فإن أنهار البحر المتوسط تتكون من أحواض محلية صغيرة قليلة الأهمية ملاحيا باستثناء نظام البو في شمال إيطاليا.
وعلى عكس المحاور النهرية العديدة في السهل الأوروبي، وفي الشاطئ الشرقي لأمريكا الشمالية، فإن السهل الأمريكي الأوسط تخترقه في العروض الوسطى شبكة مائية طبيعية عظيمة القيمة الملاحية تتمركز كلها حول محور المسيسبي: روافده التي تمتد في صورة مروحة هائلة لتغطي أهم مناطق السهول الوسطى الأمريكية بشبكة نقل طبيعية متكاملة: الأوهايو والتنسي في الشرق والميزوري وأركنساس في الغرب. ولنهر أوهايو أهمية ضخمة؛ حيث إنه يربط طبيعيا بين منطقة الصناعة والازدحام السكاني في بنسلفانيا وأوهايو بوسط الولايات المتحدة.
وقد ربط نظام المسيسبي النهري بأعظم نظام نهري للنقل في العالم، ونعني به سانت لورنس وبحيراته العظمى، التي تكون محور نقل مائي هائلا في القسم الشرقي من العروض الوسطى الأمريكية، وقد تمت شبكة النقل المائي الداخلي هناك بربط نظام سانت لورنس بالهدسن الذي يخترق سلسلة الأبلاش الشمالية؛ ومن ثم أصبح للنقل على سانت لورنس بوابة مفتوحة طول العام على المحيط عند نيويورك «على عكس مصبه الذي يتعرض للتجمد خلال الشتاء»، وبذلك صحح الإنسان بعض أخطاء الطبيعة لمصلحته الاقتصادية . أما في أوروبا فإن غالبية أنهار العروض الوسطى تنتهي إلى بحار مفتوحة طول العام مع استثناء وحيد هو الفولجا الذي صحح الإنسان نهايته أيضا بربطه بقناة ملاحية حفرت عام 195 ويبلغ طولها 101 كيلومتر إلى الدون والبحر الأسود.
وتشبه جبال الأبلاش جبال أوروبا من حيث قلة الارتفاع النسبي وسهولة اختراقها بواسطة تتبع مجاري الأنهار الشرقية والغربية. أما الكورديليرا الأمريكية فإنها أضخم المناطق الجبلية في العروض الوسطى من حيث اتساعها وتعقدها وتعدد سلاسلها الجبلية، لكنها أيضا ليست صعبة الاختراق.
ويسيطر على سهل الصين العظيم تصريف نهري رئيسي يمثله نهر هوانجهو أو النهر الأصفر، وعلى عكس أهمية أنهار أوروبا وأمريكا، نجد الهوانجهو نهرا غير مستأنس إلا في الفترة الأخيرة، فكثير من فيضاناته المدمرة كانت تؤدي إلى تحول مجراه تحولا كاملا من مسار إلى مسار آخر يبعد عنه بضع مئات من الكيلومترات؛ ولهذا كانت أهمية النهر محدودة في النقل، وإن كانت منطقة هذا السهل من أكثف مناطق العالم سكانا. ولقد تغير كل هذا نتيجة الإنشاءات الهندسية العديدة التي أقيمت عليه، أو التي هي قيد الدرس (انظر الخريطة 5-2).
ويحف بالسهل الصيني من الجنوب طريق ملاحي ممتاز يكونه يانجستي كيانج؛ ومن ثم حفر الصينيون قناة ملاحية جيدة تصل بين الوادي الأدنى لهوانجهو والوادي الأدنى لليانجستي لكي يمكن خدمة الجزء الشرقي من سهل الصين. وقد عرفت هذه القناة باسم القناة العظمى.
وأخيرا فإن العروض الوسطى الجنوبية لا يوجد فيها تصريف نهري يستحق الذكر - من ناحية الأهمية الملاحية - سوى البارانا ومصبه الواسع في كل من الأرجنتين وأوروجواي.
خريطة 5-2: مشروعات تنظيم هوانجهو، وطريق الملاحة الرئيسي على اليانجستي.
وفي المناطق الجبلية المنعزلة من العروض الوسطى نجد أن النقل الشاطئي والبحري أسهل بكثير من النقل على اليابس، والأمثلة التقليدية على ذلك هي النرويج واليونان واليابان؛ حيث تنتشر ألسنة الجبال في اتجاهات عديدة تاركة وديانا قزمية المساحة تستغل استغلالا كثيفا، ويربط بينها الملاحة الساحلية؛ لأنها أسرع وأكبر حجما وأقل تكلفة من النقل الجبلي الوعر الطويل، وبرغم وجود منطقة امتداد سهلية لا بأس بها في جنوب جزيرة هنشو، إلا أن الملاحة في بحر اليابان الداخلي بينها وبين جزيرتي شيكوكو وكيوشو، قد أدت خدمات جليلة في الربط البشري والاقتصادي لجزر اليابان.
ومع اشتداد حركة النقل أنشئ نفق بين هندو وكيوشو للسكك الحديدية لتأمين حركة نقل سريعة للأفراد والبضائع. وعلى هذا النحو لنمط النقل في العروض المعتدلة يمكن أن نضم أيضا نيوزيلندا التي تشابه اليابان كثيرا في الملاحة الشاطئية، ولو أن الحركة الداخلية للنقل أقل عشرات المرات من حيث الكثافة بالقياس إلى اليابان، ونفس الحالة يمكن أن تنطبق على اسكتلندا والبحر الأيرلندي، بينما في بقية إنجلترا يتكاثف النقل النهري والبري في منطقة السهول الشرقية والجنوبية الشرقية بوصفها جزءا من السهل الأوروبي.
وإلى جانب النقل النهري، فإن العروض الوسطى قد استخدمت الحيوان في النقل منذ القدم. وقد جاء الحيوان المستأنس إلى السهول الأوروبية عن طريق الجماعات الرعوية في وسط آسيا، وعن طريق البحر المتوسط، حيث استأنس أصحاب الحضارات القديمة في الشرق الأوسط الخيول والبغال والحمير منذ العصر النيوليتي «الحجري الحديث». وقد كان الحصان هو أكثر الحيوانات التي استخدمت في السهول الأوروبية في النقل؛ نظرا لملائمته لهذه الأجواء. ونظرا لأنه قد استخدم أيضا كحيوان ركوب سريع، وحينما استوطن الأوروبيون أمريكا الشمالية فإنهم قد جلبوا معهم الحصان الذي سرعان ما انتشرت أعداده بسرعة كبيرة، وأتقن الأمريند ركوبه للدرجة التي يخال معها الإنسان أنهم قد عرفوه قبل وصول الأوروبيين، ولكن ذلك ليس صحيحا.
وقد ظل الحصان وسيلة النقل الرئيسية في أوروبا طوال العصور التاريخية حتى فترة اختراع القطار. وكان الحصان يستخدم أيضا في جر عربات ثقيلة الحمولة «عند المناجم» تجري على قضبان لتسهيل حركة الجر، وبذلك كان الحصان أول طاقة تستخدم في جر القطارات إلى أن حلت محله طاقة البخار ثم الديزل والكهرباء.
وفي الوقت الحاضر ساهمت الظروف الطبيعية عامة في انتشار شبكة النقل الحديث في كافة العروض الوسطى؛ ذلك أن السهول والوديان قد ساعدت على مد الخطوط الحديدية والطرق البرية دون عناء أو رأسمال كبير. أما في الجبال فإن التقدم التكنولوجي الحديث قد ساعد على مد الطرق والخطوط الحديدية بواسطة الأنفاق والجسور، وبواسطة فكرة الطريق الحلزوني «السربنتين».
كما أن وسائل النقل الخاصة في المناطق الجبلية متوفرة بكثرة في العروض الوسطى، بينما تظهر في حالات قليلة في جبال المناطق المدارية أو الجافة. ولا شك أن هذا مرده إلى الكثافة السكانية والتقدم الاقتصادي، ونمو التكنولوجية الحديثة مع تطبيقاتها المتنوعة في دول نطاق العروض الوسطى. (2-4) العروض الشمالية
تحتل هذه العروض إقليمين رئيسيين، هما: إقليم الغابات المخروطية وإقليم التندرا، وهما لا يتمثلان إلا في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، فقارات العالم الجنوبية لا تصل إلى هذه العروض العليا إلا في أقصى جنوب أمريكا الجنوبية، وهي مساحة صغيرة من الأرض كثيرة الفيوردات والجزر الصخرية، بما في ذلك جزيرة تييرا دلفويجو ومجموعة فلكلاند وشتلند الجنوبية، وكلها في حدود درجة العرض60 جنوبا. أما قارة إنتاركتيكا فمساحة ضخمة من اليابس تغطيها حقول الجليد الدائم، وخالية من السكن الدائم، وعلى وجه العموم فإن هذه الجزر تستخدم النقل البحري، فضلا عن أن عدد السكان متناه في القلة (سكان تييرا دلفويجو من الأمريند الذين ينقسمون إلى قبائل عديدة، منها: الأوتا والياهاجان، وهي تعيش على صيد الحيوانات البحرية، وعددهم في تناقص مستمر (الياهاجان كان عددهم 36 شخصا في 1938)).
وتشغل الغابات المخروطية والتندرا مساحات شاسعة من آسيا وأمريكا الشمالية، ومساحات محدودة من أوروبا، وذلك بفضل وصول كتل الهواء الدافئة وتيار الخليج الذي يؤدي إلى رفع درجة الحرارة؛ ومن ثم يقلل فرص نمو الغابات المخروطية في شمال أوروبا.
والظروف الطبيعية السائدة هي سهول واسعة تتحول إلى مستنقعات كبيرة في مناطق كثيرة أهمها منطقة سيبيريا الغربية وخليج هدسن والماكنزي الأدنى، ولكن توجد بعض المرتفعات المتوسطة كما هو الحال في سيبيريا الشرقية وشمال اسكندنافيا وأيسلندا أو جرينلاند وبافن ولبرادور وألسكا ومعظم جزر المحيط الشمالية. وهذه الجبال تؤدي إلى تكوين حقول من الجليد الدائم، وخاصة في جرينلاند وبافن وسبتزبرجن «سفلبارد».
وتسيطر البرودة الشديدة معظم السنة على المناخ، وهو بذلك عكس الأقاليم المدارية، ولكن هناك صيف قصير، قد ترتفع فيه درجة الحرارة ارتفاعا كبيرا، وخاصة في المناطق الداخلية القارية مثل سيبيريا الشرقية ومنطقة سهول كندا الشمالية، ويؤدي هذا إلى مدى حراري سنوي كبير، وإن كان المدى اليومي ضعيفا.
والحيوانات الوحيدة التي يمكن استئناسها هي الرنة في آسيا والكاريبو في أمريكا الشمالية، هذا إلى جانب الكلاب القطبية. وقد استخدمت هذه الحيوانات منذ فترة طويلة في النقل، وخاصة جر الزحافات؛ لأن الأرض المتجمدة لا تسمح إلا بمثل هذا النوع من وسائل النقل غالبية السنة.
وأنهار العروض الشمالية طويلة وواسعة ومعظمها بطيء الجريان، لكن يعيبها أنها تتجمد فترة طويلة من السنة، ولم تكن هذه الأنهار ذات فائدة للسكان الأصليين في عمليات النقل «الفائدة الوحيدة كانت صيد الأسماك»، ولكن هذه الأنهار تستخدم في الوقت الحاضر في نقل الأخشاب إلى المناشر الآلية المنتشرة قرب هذه المجاري، ويعوق النقل في هذه الأنهار الشمالية أن المنابع تذوب مياهها قبل المصبات؛ مما يزيد في عرقلة حركة النقل.
ونظرا لأن هذه المناطق في مجموعها لم تكن تنتج غير الفراء والأخشاب إلى عهد قريب، فإن خطوط المواصلات الحديثة فيها كانت محدودة جدا، ولكن هذه المناطق أصبحت الآن تنتج عددا من المعادن الهامة في الاتحاد السوفييتي وكندا؛ مما أدى إلى بناء طرق برية صالحة للاستخدام في كل الأجواء؛ ففي الاتحاد السوفييتي تمتد السكك الحديدية ببطء من جنوب سيبيريا إلى أعالي نهر لينا لتربط وسط لينا الغني بالفحم والماس بالشبكة الحديدية السوفييتية. وكذلك بني خط حديدي قصير من منطقة إنتاج النيكل والكوبالت في نوريلسك
Norilisk
إلى مصب الينسي لتصدير هذه المعادن الهامة، وأنشئ خط حديد منذ أول هذا القرن يربط موسكو باركانجلسك على البحر الأبيض، وآخر يربط لننجراد بمورمانسك في أقصى شبة جزيرة كولا، وإلى جانب ذلك هناك طريق كوليما البري الذي يربط ميناء ماجادان على بحر أوخستك بمناجم الذهب الغنية في أعالي نهر كوليما وأعالي نهر إنديجاركا، ويمتد الطريق بعد ذلك إلى ياكوتسك على نهر لينا الأوسط.
وفي اسكندنافيا، بعد ظهور حديد كيرونا السويدية، أنشئ خط حديدي يربط شمال خليج بوثنيا بالمحيط الأطلنطي الشمالي في النرويج مارا بمنطقة مناجم جيلفار وكيرونا، وينتهي إلى ميناء نارفيك النرويجي حيث ينقل الحديد بحرا إلى أوروبا الغربية.
وإلى جانب الطرق البرية والحديدية في شمال أوروبا وآسيا، فإن هناك خطوط الملاحة الساحلية، وخاصة في النرويج والاتحاد السوفييتي. ولعل الطريق البحري الشمالي السوفييتي هو أطول الطرق الملاحية في العروض العليا، ولو أنه لا يستخدم كله في خلال الصيف القصير.
وفي كندا مدت خطوط حديدية في لبرادور إلى مناجم الحديد الغنية في شيفرفيل وجانيون في وسط شبه الجزيرة، كما يوجد خط حديدي يربط ميناء تشرشل على خليج هندسن بمنطقة القمح الربيعي في البراري الكندية الغربية، ولكن حركة النقل عليه قليلة ولا يستخدم حاليا إلا لنقل المنتجات المعدنية في مناطق متناثرة قرب هذا الخط. •••
وفي ختام هذا الفصل نعود إلى تلخيص أهم مظاهر التفاعل بين الظروف الطبيعية وطرق النقل على اليابس، وأول ما يبدو لنا هو أن السهول هي أكثر أشكال الأرض تشجيعا على حركة الانتقال، وخاصة بالنسبة لوسائل النقل الحديثة والبرية، وعلى العكس تقف الجبال بتضرسها ووعورتها عائقا أمام النقل وتحدد مناطق معينة للعبور «الممرات الجبلية»، ولكن الإنسان أيضا استطاع أن يتغلب على ذلك بحفر الأنفاق، وإن كان ذلك يستدعي إنفاقات رأسمالية وتكنولوجية كبيرة.
وتختلف السهول فيما بينها اختلافا جوهريا من حيث تقدم التسهيلات أو إقامة العقبات أمام طرق النقل؛ فالسهول الجافة تقف عائقا لم يمكن التغلب عليه حتى الآن، مع استثناءات محدودة؛ حيث تستدعي الظروف الاقتصادية نشأة طرق نقل مختلفة، مثل صحاري الشرق الأوسط المنتجة للبترول والسهول المتجمدة - كما هو في التندرا - تقف عائقا أمام الطرق الحديثة إلا في حالات محدودة جدا. وكذلك تصبح السهول الغابية عقبة أمام النقل؛ لأنها تقتضي قطع الأشجار وتمهيد الطريق. وتختلف سهول الغابة من حيث المناخ؛ فهناك الغابات المخروطية والغابات الاستوائية، والأولى أسهل في شق طرق الانتقال الحديثة، بينما الثانية تستدعي عمليات مكلفة في قطع الغابات الكثيفة وبناء الجسور لعبور الأنهار والنهيرات والمستنقعات العديدة.
ولا شك أن أحسن السهول قاطبة هي السهول المفتوحة التي تنمو فيها أنواع الأعشاب، فمن السهل القضاء على الأعشاب وشق الطرق، لكن هنا أيضا يتدخل الاختلاف المناخي، فالسهول العشبية المدارية «السفانا» تختلف كثيرا عن سهول الإستبس؛ ففي السفانا يحتاج الأمر إلى بناء طرق كل الأجواء وإقامة جسور عديدة على الطريق الواحد تجنبا للمطر الغزير الذي يسقط في موسم الصيف. أما في الإستبس فإن الأمطار، ولو أنها صيفية، إلا أنها ليست غزيرة كما هو حال السفانا.
وأكثف شبكات النقل الأرضية حاليا توجد في منطقة سهول الغابات النفضية في أوروبا أو أمريكا، ولكن هذه الغابات قد أزيلت منذ انتشار الزراعة في أوروبا، وبذلك حل سهل مكشوف منظم زراعيا بواسطة الإنسان محل سهل غابي قديم. وقد ساعد ذلك على تقدم المواصلات تقدما كبيرا في هذه المناطق.
وفي دراستنا للتفاعلات الطبيعية مع طرق النقل يجب ألا ننسى دور الإنسان والنشاط الاقتصادي الذي يتخطى في كثير من الأحيان العقبات الطبيعية من أجل المنفعة الاقتصادية.
الفصل السادس
النقل على اليابس
(1) النقل النهري (1-1) الأنهار في قوالبها الطبيعية
يعد النقل النهري من أسبق وسائل النقل وأكثرها أمنا في معظم الحالات. كما أنه من وسائل النقل الرخيصة بفضل حمولة القوارب والسفن النهرية الكبيرة. وفضلا عن ذلك فإننا لا نشك في أن النهر كان المدرسة الأولى لتعلم النقل البحري.
وقد بدأ النقل النهري في الأنهار الهادئة ذات الانحدارات المعقولة. وبعبارة أخرى نشأ النقل في كثير من أنهار السهول، ولا زال كذلك عند الجماعات البدائية، ولقد كان النيل الأدنى والفرات وأنهار غرب أوروبا والسند والصين من أقدم الأنهار التي استغلت في النقل المائي الداخلي.
وتختلف الأنهار فيما بينها ككل عن وسائل النقل الأخرى على اليابس بالصفات الآتية: (1)
الأنهار لا تحتاج إلى بناء مثل الطريق البري أو الحديدي، بل إنها طريق طبيعي في أساسه. (2)
لأنها طريق طبيعي فإن الملاحة تضطر أن تتبعها برغم الانعراجات الكثيرة، وخاصة في الأجزاء الدنيا من الأنهار، حيث تضعف قوة النهر وتكثر الظاهرة الطبيعية المعروفة باسم «مياندر». (3)
يمكن استخدام مياه الأنهار في تحريك القارب دون الحاجة إلى طاقة خارجية؛ أي يمكن استخدام طاقة المياه الجارية في تحريك القارب في اتجاه المصبات، كذلك يمكن استخدام الطاقة العضلية للإنسان في توجيه القارب، أو في الصعود عكس اتجاه تيار الماء، ولكن سرعان ما ابتكر الإنسان الشراع لاستخدام طاقة الرياح التي تعطي القارب سرعة وقوة أكبر من الطاقة العضلية، وأخيرا أمكن إضافة محركات ميكانيكية إلى القوارب وسفن الأنهار وصنادلها.
ولكن الإنسان لم يترك الأنهار التي يستخدمها في الملاحة على طبيعتها أو اتجاهاتها؛ فقد استطاع أن يمد المجاري المائية الطبيعية صناعيا إلى حيث يريد، ولكن علينا أن نلاحظ أن الإنسان الذي حفر القنوات لإيجاد طريق اتصال مائي بأنهار أخرى أو بحار مجاورة، لم يستطع في الماضي أن يفعل ذلك إلا مستجيبا إلى عامل التضاريس؛ لأنه لم يكن قد تمكن بعد من اكتشاف فكرة الأهوسة التي ترفع مناسيب المياه في أجزاء معينة لكي ترتفع القوارب والسفن فوق العقبات التضاريسية. وهذه هي الفكرة التي مكنت الإنسان في الوقت الحاضر من اختراق مناطق ذات انحدارات كبيرة. وأكبر مثال على ذلك قناة بنما، ومع ذلك فإن كثرة الأهوسة والأبواب في القنوات تؤدي إلى بطء الحركة وإلى كثرة التكاليف، وهما شرطان لا يتعايش معهما النقل المائي الداخلي المتميز بالرخص؛ لذلك يفكرون بحفر قناة أخرى غير بنما تمر بمنطقة سهلية في كوستاريكا أو نيكاراجوا.
ولذلك فإن أغلبية القنوات الداخلية بين الأنهار تسير في مناطق التضاريس الملائمة، وأكبر نموذج على ذلك هو أنهار السهل الأوروبي الأوسط.
وهناك نقطة أخرى هامة في عملية ربط الأنهار بعضها ببعض، تلك هي ألا يربط نهر موسمي الجريان بنهر آخر غير موسمي، أو نهران موسميان معا؛ لأن ذلك يؤدي إلى نقل نهري موسمي، وهو أمر نادر ولا يتفق مع اقتصاديات النقل؛ لأن تشغيل الأسطول النهري سوف يتعطل فترة انخفاض مستوى الأنهار.
وفي المجموع نرى أن النقل النهري مرتبط بالظروف الطبيعية التي تسود حوض كل نهر على حدة؛ ولهذا فإنه أكثر وسائل النقل على اليابس ارتباطا بالظاهرات الطبيعية، فالأجزاء العليا للأنهار غير صالحة للملاحة لكنها تصلح لنقل الأخشاب إلى محطات المناشر. أما أجزاء النهر التي تجري في أودية غير سريعة الانحدار، أو تلك التي تخترق السهول؛ فهي أصلح الأجزاء للنقل النهري، كذلك يعتمد نوع السفن المستخدمة على طبيعة المجرى من حيث الاتساع أو الضيق، ومدى عمق القاع.
ويمكن أن نقسم أنهار العالم فيما يختص بالنقل إلى قسمين رئيسيين: أنهار المناطق المدارية، وأنهار المنطقة المعتدلة والباردة. (أ) الأنهار المدارية
هذه الأنهار في مجموعها عبارة عن نظم هائلة للنقل إذا ساعدت الظروف الطبيعية والبشرية والاقتصادية على ذلك. من أوضح الأمثلة النظام النهري للأمازون والكنغو، فهما ليسا نهرين، بل مجموعة هائلة من الأنهار التي ترتبط في المجاري الدنيا بمصب واحد، وبذلك فإنها تكون نظم نقل تغطي إقليما كبيرا، ويساعد على ذلك أن مستوى المياه في هذه الأنهار يتذبذب بدرجات بسيطة لكثرة الروافد وسيادة نظام المطر الاستوائي الدائم؛ مما يجعل الملاحة صالحة كل أشهر السنة.
لكن هناك مجموعة من الأنهار المدارية التي تتميز بذبذبة واضحة في مستوى الماء الجاري، وهذه هي الأنهار التي تجري في النطاق المداري الفصلي المطر؛ كإقليم السودان الطبيعي، والإقليم الموسمي في آسيا. وتتميز هذه الأنهار بفيضان موسمي مثل النيل أو الجانج أو النيجر والسنغال. والغالب أن الفيضان يحدث في مواسم معينة تساعد على الملاحة خلال ذلك الموسم، وبإضافة الإنشاءات الهندسية على مجاري الأنهار - مثل النيل أو الزمبيزي - تصبح الملاحة ميسرة معظم أشهر السنة. وعلى العموم فإنه برغم صلاحية الأنهار المدارية عامة للملاحة إلا أنه مما يؤخر استخدامها الاستخدام الأمثل في النقل أنها كلها تجري في داخل دول متخلفة أو نامية؛ مما يؤدي إلى حجم محدود في السلع المنقولة؛ وبالتالي ضعف واضح في أساطيل النقل النهرية، حتى لو كانت هذه الدول تعتمد على النهر اعتمادا رئيسيا في شبكة النقل مثل جمهورية زائيري. (ب) أنهار المنطقة الباردة والمعتدلة
تختلف المكونات الطبيعية والمناخية اختلافا واضحا في هذه الأقاليم عن الأقاليم المدارية؛ مما يؤدي إلى اختلافات واضحة بين أنهار كل من القسمين، فعلى سبيل المثال، نجد أن الأمطار في هذه الأقاليم أقل من الإقليم المداري في كميتها وتختلف عنها في نظم سقوطها. لكن الإقليم المداري يتميز بارتفاع في درجات الحرارة؛ مما يترتب عليه ارتفاع درجة التبخر، بينما نجد التبخر أقل كثيرا في أنهار المناطق المعتدلة .
وتعتمد مناسيب المياه الجارية في أنهار المناطق المعتدلة والباردة على الصفات التضاريسية العامة والمواقع والامتدادات الجغرافية للأحواض العليا لتلك الأنهار. فهناك دون شك فروق كثيرة بين أنهار تقع منابعها في مناطق جبلية أو هضبية عالية، وأنهار أخرى منابعها في مناطق أقل ارتفاعا، وبين أنهار تحتوي في منابعها على بحيرات كبيرة وأخرى لا تظهر فيها مثل هذه الظاهرات التي تقوم بمثابة منظم لكمية التصريف المائي، وفروق أخرى بين الأحواض العليا لأنهار توجد في مواجهة المطر وأخرى في ظل المطر، وبين أنهار تتعدد منابعها وأخرى تتحدد المنابع فيها بمجرى وحيد. ولهذه الأسباب - وغيرها كثير - لا يتشابه نهران حتى في حالة جريانهما في منطقة أو إقليم واحد؛ فكل نهر نسيج قائم بذاته.
وعلى سبيل المثال، يختلف المسيسبي عن الأوب؛ فكل منهما يصرف حوضا شاسع الأبعاد، تبلغ مساحته ست مرات قدر مساحة فرنسا. لكن ظروف الموقع واتجاه المجرى واختلاف المناخ في أجزاء الحوض تجعل هناك اختلافات شاسعة فيما بينهما؛ فالمسيسبي يجري في سهول معمورة داخل النطاق المعتدل وينتهي على حافة النطاق المداري، بينما نهر أوب يجري في وسط مستنقعات سيبيريا الغربية الهائلة، وفي داخل نطاق بارد في أجزائه الوسطى ونطاق الصقيع الدائم في أجزائه الدنيا؛ ومن ثم فإن الأوب يخترق مناطق قليلة السكان أو نادرة السكان في معظم أقسامه. ويترتب على ذلك أن حركة النقل النهري في المسيسبي أكثف أضعافا مضاعفة بالمقارنة بالأوب، حتى في أجزاء الأوب العليا؛ حيث يمر النهر بمناطق مأهولة بالسكان بقدر معقول.
ومعظم الأنهار التي تجري في السهول ذات انحدار بطيء، وهذا في حد ذاته يعد عاملا مشجعا على استغلال النهر في الملاحة، لكن الانحدار البطيء لا يعني الجريان الهادئ لمياه الأنهار خلال أشهر السنة؛ فهناك مواسم الفيضانات التي تسرع فيها المياه ، وقد تصبح خطرة على الملاحة؛ وعلى هذا فإن نظام الجريان لمياه الأنهار هو الذي يحدد، في الواقع، الصلاحية الملاحية للأنهار. وفي هذا المجال يجدر بنا أن نلاحظ عددا من الظروف التي تتحكم في نظام جريان الأنهار؛ وبالتالي صلاحيتها الملاحية:
أولا:
الأنهار التي تتغذى أحواضها من الأمطار المحيطية. وهذه الأحواض النهرية تتلقى الأمطار القادمة من البحار والمحيطات مباشرة، مثل غالبية أنهار فرنسا أو بريطانيا. وفي هذه الأنهار لا نجد تغيرا كبيرا في نظام الجريان؛ فالأمطار منتظمة السقوط معظم أشهر السنة، حتى ولو كانت تسقط بكميات غير كبيرة، وإذا كانت هذه الأنهار تجري فوق صخور مسامية - كما هو الحال في معظم الصخور الإرسابية الجيرية في غرب أوروبا - فإن ذلك يصبح عنصرا مهما في إحداث توازن في كمية المياه الجارية في الأنهار، فالمياه الزائدة تتسرب في الصخور لتعود إلى الظهور في حالة نقصان مستوى الماء في الأنهار. ويزيد في توازن الجريان المائي أن الظروف المناخية في أحواض الأنهار المحيطية تتصف بالانتظام، فلا تعتريها تغيرات مفاجئة كالعواصف العنيفة أو الجفاف النسبي إلا في نادر الأحوال. ويترتب على ذلك أن ذبذبة مستوى الماء تصبح صغيرة، وجريان الماء غير متقلب بين الضعف والعنف، وكلها شروط لازمة لملاحة نهرية دائمة.
ثانيا:
أنهار السهول القارية، وهذه تمثل طرف النقيض بالنسبة للأنهار المحيطية. فإذا أخذنا الفولجا والسين كمثالين لوضح لنا اختلاف شديد فيما بينهما؛ ففي الوقت الذي يتغذى فيه السين بأمطار محيطية مباشرة ومستمرة طوال العام، نجد حوض الفولجا يتلقى أمطارا صيفية قليلة. وفضلا عن ذلك فإن منابع الفولجا تتجمد خلال أشهر الشتاء. ويترتب على ذلك فيضان عال في الربيع بعد ذوبان جليد الشتاء، وتستمر المياه العالية في الفولجا خلال الصيف نتيجة لسقوط الأمطار. وقد أقام السوفييت الكثير من السدود على نهر الفولجا لأغراض كثيرة، من بينها تنظيم جريان النهر وجعله طريقا ملاحيا هاما معظم السنة.
ثالثا:
الأنهار التي تجمع صفات مشتركة بين التأثيرات المحيطية والقارية. وهذه هي الأنهار التي تتغذى بمصادر الجليد الذائب في منابعها، وأمطار الصيف في مجاريها الوسطى والدنيا، مثل اليانجستي والمسيسبي، وتتسم فيضانات مثل هذه الأنهار بسرعة جريان هائلة وارتفاع كبير في منسوب المياه؛ مما يؤدي في أحيان كثيرة إلى إغراق مساحات كبيرة من الأراضي المجاورة؛ فاليانجستي قد يفيض ويغرق مائة ألف كيلومتر مربع خلال الفيضان في مجراه الأدنى، والمسيسبي يغرق حوالي سبعين ألف كيلومتر مربع، ويعزل الكثير من القرى والمدن الصغيرة في مجراه الأدنى أيضا. ومن الطبيعي أن نظام الملاحة يتعرض سنويا للتوقف خلال ذروة الفيضان.
رابعا:
الأنهار ذات النظم التعويضية، وهذه هي الأنهار التي تتجمد مياه منابعها بينما تسقط أمطار شتوية في بقية حوضها. ويترتب على ذلك أن مستوى الماء لا يعتريه تذبذب كبير؛ فالأمطار تعوض انحباس مياه المنابع المتجمدة، وحينما تنقضي أمطار الشتاء تكون مياه المنابع قد بدأت في الذوبان والجريان، والراين مثال طيب لهذه الأنهار ذات النظم التعويضية. (ج) بناء الأنهار
Strombau
أو «تعبيد» الطرق النهرية
سبق أن ذكرنا في فصول سابقة أن الأنهار كانت أولى وسائل النقل الثقيل التي استخدمها الإنسان منذ فترة طويلة، ولا تزال الأنهار كذلك فيما يختص بالنقل الثقيل داخل اليابس الأرضي. وقد استخدم الإنسان الأنهار على صورتها الطبيعية، متحملا مخاطرها الطبيعية، وطول طرقها الملتزمة بكثرة منحنياتها وانثناءاتها، ولا يزال الإنسان يستخدم الأنهار في صورتها الطبيعية حتى الآن في كثير من جهات العالم، مكتفيا بقدر ضئيل من التعديل والإنشاء الخاص برسو السفن النهرية وتأمين نقل السلع منها أو إليها، وهذا هو شأن غالبية النقل النهري المداري: التزام بالمجاري الطبيعية مهما طالت امتداداتها، والتكيف مع نظم جريانها المائي، سواء كان جريانا دائما أو موسميا.
ومن ثم فإن النقل النهري المداري يتسم بالبطء الشديد. ويترتب عليه أن السلع المحمولة نهريا في الأقاليم المدارية تتحدد مواصفاتها بالحجم الكبير واحتمال الزمن الطويل الذي يستغرقه النقل، وتحمل نسبة واضحة من الفاقد. وهذه المواصفات هي بعينها التي تمنع استغلال موارد كثيرة من منتجات الأقاليم المدارية قابلة للتلف نتيجة البطء والفاقد الكبير؛ مثال ذلك الفواكه المدارية سريعة العطب كالموز والمانجو، وبرغم ذلك فإن النقل النهري يؤدي خدمات جليلة في الأقاليم المدارية.
ويتعدى ذلك الأقاليم المدارية إلى بعض أنهار الأقاليم المعتدلة، مثل نهر اليانجستي في وسط الصين؛ فهذا النهر في جزئه الأدنى من الاتساع والعمق بحيث يسمح باستخدامه دون إنشاءات هندسية مكلفة؛ فسفن البحر تدخل النهر وتتوغل فيه حتى «ووهان» (هانكو قديما)، وهي مسافة تبلغ حوالي ألف كيلومتر، ويخدم النقل النهري في حوض اليانجستي عددا من السكان يزيد على مائتي مليون. وتستخدم القوارب الشراعية الصينية التقليدية المعروفة باسم
Junk
في الملاحة في الجزء الأوسط من نهر اليانجستي.
وهناك ما يقرب من 25 ألف قارب من هذا النوع تخدم النقل بين «ووهان» وبنج شانج
، عند المندفعات المائية العنيفة المسماة مندفعات إيشانح
Ichang ، وتجر القوارب في هذه المندفعات بالحبال. ويقوم عدد كبير من الناس المستقرين في منطقة المندفعات بوظيفة جر السفن إلى أعلى المندفعات. وبعد تخطي هذه العقبة الكئود، التي كانت كثيرا ما تؤدي إلى غرق بعض السفن، تدخل الملاحة النهرية إقليم ستشوان الغني. وقد أقامت الصين مؤخرا سدا على النهر في هذه المنطقة لتنظيم الملاحة وتوليد الطاقة، وقد ترتب على السد المزود بالأهوسة ثورة كبيرة في النقل على اليانجستي، كما ساعد ذلك على تزويد سفن «الجانك» الصينية التقليدية بمحركات لكي تقصر زمن رحلتها وتقلل اعتمادها على عمالة «جر الحبال» أو «جر اللبان» في منطقة التيار السريع عند مندفعات إيشانج (راجع الخريطة 5-2).
وفي حالات أخرى كان لا بد من توقف الملاحة عند الشلالات والمندفعات المائية العنيفة التيار. ويترتب على ذلك إنشاء طريق بري أو حديدي بحذاء النهر طوال مسافة العقبة، وقد تم ذلك في نهر الكنغو عند شلالات لفنجستون وستانلي؛ حيث مد خط حديدي بين متادي وكنشاسا لتجنب شلالات لفنجستون، وخط حديدي أقصر بين كيزانجاني وبونتيرفيل لتجنب شلالات ستانلي، ومثل هذه الحالة نجدها أيضا على نهر مجدلينا في جمهورية كولمبيا.
وعلى العموم فإنه في منسوب معين من الحضارة يصبح النقل المائي عملية ذات أهمية قصوى؛ لأنه - كما قلنا - قادر على نقل السلع الثقيلة بسهولة وبتكاليف قليلة. وحتى القرن 19 كانت هناك طرق مائية على جانب كبير من الأهمية، أدت إلى قيام عدد من الأسواق الهامة. وكانت هذه الأسواق تستمد أهميتها من مواقعها على الطرق المائية الداخلية، أو عند ملتقى الطرق البحرية والنهرية، والأمثلة كثيرة نذكر منها لندن وهامبورج ومدن الراين ونيويورك ونيو أورليانز ومدن اليانجستي ومدن أخرى في الاتحاد السوفييتي. وبالرغم من منافسة الطرق الحديدية والبرية، إلا أن النقل النهري لا يزال يتمتع بأهمية واضحة، خاصة تلك الأنهار التي تدخل الإنسان في توجيهها بإنشاءاته الهندسية المختلفة.
ويجب ألا ننسى أن قيمة الطريق المائي الداخلي تعتمد على عدة عوامل نذكر منها عدد الأنهار التي تخترق المنطقة واتجاه النهر واتجاه الروافد وطبيعة المجرى والجريان المائي، وكل هذه العوامل تساعد على تكوين شبكة نقل مائي داخلي مهمة، أو تؤدي إلى تكوين شريان واحد للنقل المائي، خاصة إذا كان التكامل الاقتصادي والإنتاجي هو صفة الإقليم الذي يخترقه النهر أو الأنهار المعنية.
وقد عدل الإنسان منذ فترة طويلة نسبيا مسارات الطرق النهرية لكي تخدم أغراضه في النقل الرخيص. وكانت أنهار المناطق المعتدلة هي التي حظيت بالإنشاءات الهندسية من أجل سد احتياجات النقل الكثيف آنذاك، وخاصة في أوروبا. فمنذ القرن السادس عشر استخدم الماء لنقل الحبوب وخام الحديد، خاصة في المجاري النهرية الملائمة لعمليات النقل الدائم. وكذلك استخدم النهر في نقل الركاب؛ لأنه أكثر توفيرا للراحة والهدوء من الانتقال في عربات الخيول. وقد لعب السين واللوار والرون أدوارا هامة في نقل الأشخاص في فرنسا خلال القرنين السابع والثامن عشر؛ فالمسافر من باريس إلى ليون كان يأخذ «عربة الماء» من باريس حتى أوكزير
Auxrre
على رافد السين المسمى يون
Yonne ، ثم يستقل عربة الخيول إلى شالون على نهر الساءون؛ ومن ثم يركب النهر إلى ليون. ولا شك أن رحلات النهر كانت أطول مسافة وزمنا من الرحلات بواسطة الطرق البرية، لكنها كما قلنا أكثر راحة من الجهد الذي يلقاه المسافر في عربات الخيل.
واليوم لا يتعامل النقل النهري مع الأشخاص أو السلع سريعة العطب أو تلك التي يكون الطلب عليها سريعا يأخذ صفة الاستهلاك اليومي في الأسواق الكبيرة. لكن دور النقل النهري هام، ونفوذه واضح على مناطق الصناعة، فإنه لا توجد منطقة صناعية لا تستخدم الطريق النهري إلا فيما ندر. وغني عن البيان أن نفصل الكلام عن مواقع الصناعة في نشأتها وتطورها الحديث، وعلاقتها الوثيقة بالنقل النهري والمائي الداخلي في بريطانيا (التيمز والمرزي والكلايد)، وفي ألمانيا (الراين والنكر والماين والألب)، وفي فرنسا (السين والرون والميز)، وفي الولايات المتحدة (الهدسن والبحيرات العظمى والأوهايو)، وفي الاتحاد السوفييتي (الدنيبر والدون والفولجا).
وفي الدول النامية تلجأ الصناعة إلى مواقع رابحة على الأنهار والمجاري المائية الداخلية. ومن أهم الأمثلة المعاصرة منطقة حلوان للصناعة الثقيلة في مصر؛ حيث يستفاد من أسطول حديث من الصنادل النهرية لجلب خام الحديد من أسوان على بعد نحو ألف كيلومتر وجلب موارد الطاقة (فحم وبترول) من الشمال. وبالطريقة نفسها استفادت منطقة الصناعة الثقيلة الهندية من توافق وجود حقول الفحم والحديد متجاورين في حوض نهر دامودار الذي يصب بالقرب من دلتا الجانج. وعلى هذا الأساس قامت مصانع الحديد والصلب وكثير من الصناعات الكيميائية والهندسية في مجموعة من المدن تتراص على طول مجرى دامودار، من أهمها: مدن إزانسول - يايكاينجار، رانيجانج، بورنبور، كولتي، دورجابور.
ولكي يواجه النقل المائي الداخلي الأعباء الملقاة على عاتقه في عصر الصناعة الراهن. كان لا بد من إجراء الكثير من الاستحداثات الخاصة بكفاءة السفن والصنادل والأرصفة والشحن والتفريغ الآلي، وإقامة المخازن، ومد طرق خاصة من الأرصفة النهرية إلى المصانع، ولم يكن مستطاعا أن يقوم الإنسان بهذه الاستحداثات مع بقاء الأنهار على حالها الطبيعي؛ ومن ثم كان لا بد من «تمهيد» الأنهار أو «تعبيدها» أو «إعادة بنائها» بحيث تقبل وسائل النقل الثقيلة الحديثة، تماما كما يحدث حين تتكاثف الحركة على الطرق البرية القديمة؛ مما يؤدي إلى توسيعها وتمهيدها لكي تتحمل مرور الشاحنات الثقيلة، ويؤدي إلى تجنب الحنيات الكثيرة وجعل الطريق مستقيما قدر الإمكان لتوفير الأمان وتقصير المسافات.
وقد اشتدت حركة النقل النهري في عصر الصناعة الحديث، واتجهت أكثر وأكثر إلى التعامل مع السلع والخامات ذات الأحجام الكبيرة، كالرمال والحديد «خاما وخردة»، والفحم، والأسمنت، والسيارات والآلات الكبيرة، وترتب على ذلك ضخامة حجم الصنادل، وزيادة عدد وحدات الصنادل التي تدفعها قاطرة مائية واحدة. وللتدليل على ذلك فإن مجموعة صنادل تدفعها أو تقطرها قاطرة واحدة على نهر الراين قادرة على نقل حمولة حجمها أو وزنها يعادل حمولة خمسة قطارات بضاعة حديدية مرة واحدة. وفي الحقيقة فإن أنهار النطاق الصناعي في أوروبا أو أمريكا أو الاتحاد السوفييتي، تعج بحركة كثيفة قوامها أساطيل ضخمة من الصنادل والقاطرات والقوارب التي تسير بالمحركات، وتمتلئ موانئها النهرية بأرصفة طويلة متعددة ومتخصصة في سلع أو خامات معينة. وهذه الأرصفة نفسها هي نهاية خطوط السكك الحديدية والطرق البرية والطرق الخاصة (أنابيب وطرق حديدية ضيقة ... إلخ). وعلى هذا فالروافع والأوناش تنقل السلع مباشرة من السفن إلى وسائل النقل البري أو بالعكس. هذه الحركة الكثيفة استدعت تمهيد الأنهار، ولكن ذلك تم على مراحل وفترة زمنية طويلة.
وقد بدأ تعديل الأنهار بتنظيم خاص لتعديل الانحدارات، وذلك لتسهيل عملية صعود القوارب والسفن في اتجاه المنابع، أو تعميق المناطق الضحلة من قاع الأنهار، ويتم تعديل الانحدارات بواسطة إنشاء سدود وإقامة أرصفة لرفع المراكب وإنزالها عبر السدود، لكن ذلك كان يأخذ جهدا كبيرا ووقتا طويلا، فعلى سبيل المثال كان رفع مركب وإنزالها عند بون دلارك «على السين قرب باريس» يستغرق في القرن 17، سبع ساعات ويحتاج إلى خمسين حصانا ومائتي سجين.
وفي القرن السابع عشر أدخل تحسين على السدود بمقتضاه بنيت «أهوسة» (بوابات) في جسم السد، وقد تحسن نظام تشغيل البوابات في القرن التاسع عشر كثيرا، بحيث بات في الإمكان رفع السفن وإنزالها في وقت قصير نسبيا وبجهد أقل كثيرا مما كان في الماضي. وقد بذلت فرنسا جهودا كبيرة ابتداء من القرن الثامن عشر لجعل الأنهار الصالحة للملاحة طبيعيا، أنهارا ملاحية فعلا، وقد تم ذلك بإنشاء مزيد من السدود والأهوسة ذات البوابات في حوض السين وروافده، ثم على نهر الساءون، وأخيرا على نهر الميز. وفي بريطانيا أدخلت تحسينات كثيرة على عدة أنهار هامة كان على رأسها نهر الميرزي ذو المصب الخليجي الواسع، وذلك في القرن 18؛ لخدمة المنطقة الصناعية في جنوب لانكشاير. وفي ألمانيا أيضا وجهت دولة بروسيا وإمارات ألمانيا المختلفة اهتماما متزايدا خلال القرن نفسه لتحسين الملاحة في أنهار إقليم براندنبورج بالقرب من برلين، ونهر الماين، رافد الراين في مجراه الأوسط. لكن اهتمام الألمان كان منصبا على تحسين قاع الأنهار، أو إنشاء قنوات ملاحية في القطاعات النهرية التي يصعب تعديل قاعها.
وفي هذا المجال يجب أن نلاحظ أن هناك فروقا بين مصطلحين: القناة
Canal ، والنهر الذي دخل عليه تعديل ما، وخاصة حفر قاعه أو إنشاء قناة موازية له، وهو ما يقابل
Canalisation . والفرق الأساسي بينهما أن القناة هي خلق صناعي تماما لا صلة لها بالمجرى النهري الطبيعي (في أحيان يستفاد من مجرى نهري قديم أو مهجور في حفر القناة). وأكثر من ذلك أن القنوات غالبا ما تتعامد على محاور الأنهار لتربط بينها. أما العملية الأخرى فهي تكاد تشبه إنشاء القناة «سواء كان حفر القاع في قطاع طويل أو إقامة موازية وملاصقة لمجرى النهر»، ولكنها مرتبطة تماما بمسار النهر الطبيعي؛ ومن ثم أصبح من الأوفق إطلاق المصطلح الألماني بناء الأنهار
Strombau
على العمليات التي تقام في النهر نفسه على النحو السابق شرحه.
ولقد مكنت تكنولوجية القرن الماضي والحالي من إعادة صياغة الأنهار بإحداث تعديلات كاملة في القاع والجوانب والثنيات النهرية. وأكبر مثال على النهر الذي أعيدت صياغته هو الراين؛ فقد شقت مجار مستقيمة تربط الثنيات في صورة طريق ملاحي مباشر يقلل المسافة والزمن، وصححت أوضاع طبقات الرمل التي تتراكم في قاع الأنهار بواسطة حواجز خشبية تدق في القاع لتوجيه الإرساب في اتجاه بعيد عن المجرى المطلوب تعميقه. ويساعد على توجيه الإرساب إلى الوجهة المرغوبة قوة تيار الماء التي تحفر القاع؛ لأن الحواجز الخشبية كانت تدق في صورة معاكسة لاتجاه التيار مما يدعوه للحفر. ولقد «بنيت» كثير من أنهار أوروبا خلال القرن التاسع عشر بهذه الطريقة، كان على رأسها الراين والأودر والألب، وبعض أجزاء من نهر الدانوب في ألمانيا، ونهر كلايد في اسكتلندا، والتيمز في بريطانيا، واللوار والجارون والرون في فرنسا.
وقد كانت هذه الوسائل مفيدة في أنهار السهل الأوروبي الغربي، حيث الأنهار صغيرة الأحجام وقليلة الاتساع. أما بالنسبة للأنهار كبيرة الأحواض عريضة المجاري، فإن هذه الوسائل لم تأت بالنتائج المرغوبة، خاصة إذا كان التصريف المائي موسميا أو شبه موسمي؛ ولهذا قام المهندسون السوفييت بأعمال أخرى على أنهار الاتحاد السوفييتي الواسعة، وخاصة على نهر الفولجا. وكان من أهم ما ابتكره السوفييت في هذا المجال حفر فتحات في المناطق والجوانب التي يرسب فيها النهر حمولته، ويؤدي ذلك إلى أن الماء الذي يدخل في هذه الأرصفة الإرسابية يصبح ضعيفا وراكدا، والخطوة التالية إنشاء سد أمام الفتحات حيث التيار ضعيف لا يساعد على الحفر والتآكل؛ ومن ثم يتكون خزان مائي كبير يستخدم في أغراض متعددة نذكر منها: (1)
التحكم في مناسيب المياه خلف السد، والتغلب بذلك على موسمية التصريف؛ ومن ثم تمكين الملاحة النهرية من الاستمرار طوال أشهر السنة (إلا تلك التي قد تتجمد فيها المياه). (2)
توليد الطاقة الكهربائية. (3)
الاستفادة بمياه الخزان أيضا في ري أراض عطشى للماء، ومن أكبر الأمثلة على ذلك سد وخزان ريبنسك في أعالي الفولجا (شمال موسكو) وسد كويبيشيف في وسط الفولجا، وسد فولجوجراد في الفولجا الأدنى، وسد تسيمليانسك على نهر الدون، وسد وخزان كاخوفكا على الدنيبر الأدنى، وغيرها كثير (انظر خريطة رقم 6-1).
خريطة 6-1: بناء النظم الملاحية النهرية السوفييتية. الخزانات والسدود: (1) ريبنسك. (2) جوركي. (3) كاما. (4) كويبيشيف. (5) فولجوجراد (ستالينجراد). (6) تسيمليانسك. (7) كاخوفكا. (8) كريمنتشوج. (9) كييف. القنوات الملاحية: قناة البلطيق - البحر الأبيض، قناة الفولجا - موسكو (مضاعفة تموين موسكو بالماء)، قناة الفولجا - الدون (لاحظ الأهمية القصوى لهذه القناة التي افتتحت عام 1952؛ فهي تحول الفولجا إلى نهر ملاحي مفتوح إلى البحر الأسود. كما أنها ربطت الملاحة النهرية والبحرية بين البحر الأسود في الجنوب وبحر البلطيق في الشمال الغربي والبحر الأبيض في الشمال وبحر قزوين في الجنوب الشرقي.
وفي أواسط القرن الحالي - بعد فترة من عدم الاهتمام بالملاحة النهرية نتيجة لمنافسة الخطوط الحديدية والبرية - عاد الاهتمام قويا بالملاحة الداخلية لتوفير سبل النقل الرخيص للبضائع والسلع ذات الأحجام الكبيرة، وقد ترتب على ذلك أن الأعمال التي تقام «لتمهيد» الأنهار أصبحت قوية وأكثر كفاءة عما كانت عليه في القرن الماضي. كما أنها أصبحت متعددة الأغراض، كما رأينا في الاتحاد السوفييتي؛ ففي الولايات المتحدة وأوروبا أصبحت السدود تخدم غرضين: تنظيم مناسيب المياه في الأنهار طول العام، وتوليد الطاقة. ومن أهم الأمثلة على ذلك مشروع وادي التنسي في الولايات المتحدة، ومشروعات سدود وأهوسة سانت لورنس والبحيرات العظمى في كل من كندا والولايات المتحدة، هذا بالإضافة إلى أعمال كثيرة وسدود على روافد المسيسبي.
وقد كان «بناء» الأنهار بالطريقة التي سبق شرحها غير مجد في أحواض الأنهار ذات التصريف الفقير أو ذات الانحدارات الكبيرة؛ مثال ذلك نهرا اللوار والجارون في غرب فرنسا؛ لهذا ترك المهندسون مبدأ «بناء» النهر جانبا، واتجهوا إلى حفر قنوات جديدة تستخدم مياه النهر، وتسير بجواره أو موازية له قدر الإمكان، فعلى سبيل المثال حفرت قناة الجارون بين تولوز ولانجون «جنوبي بوردو» والمعروفة باسم القناة الجانبية. وهناك قناة دي ميدي التي تربط الجارون بالبحر المتوسط من تولوز عبر ممر الكركسون، ومثال ذلك أيضا القناة الطويلة التي حفرت بموازاة اللوار الأعلى حتى مدينة برير
Braire «قرب نيو أورليانز»، وتستكمل هذه القناة مسارها من طرفيها: الشمالي إلى حوض السين، والجنوبي إلى حوض الساءون-الرون.
وقد بذلت فرنسا جهدا كبيرا في سبيل تصحيح مسار الرون في خطط متتابعة هدفها الأساسي جعل الطريق النهري أكثر استقامة، وتعميق المجرى، وفي النهاية حفر قنوات جانبية على الجانب الأيسر للنهر في المناطق التي صعب تصحيح المجرى فيها بين ليون وآرل. (1-2) تحويل الأنهار من محاور إلى شبكات نقل
جنبا إلى جنب مع الأعمال التي تمهد الأنهار للملاحة، لم يعد كافيا أن يصبح النهر محورا واحدا للنقل المائي الداخلي، خاصة إذا كانت هناك عدة أنهار تسير متوازية فإنها ستشكل طرقا للنقل متوازية غير مترابطة، ولذلك اتجه التفكير إلى ربط هذه الأنهار بحيث تكون شبكة نقل مائي متعددة الاتجاهات، بدلا من أن تصبح مجرد خطوط حركة ذات اتجاه واحد (انظر خريطة 6-2).
وقبل التفكير في تكوين مثل هذه الشبكات كانت هناك جهود كثيرة لربط الأحواض النهرية ببعض، بالقرب من خطوط تقسيم المياه. وقد كان الانتقال من مجرى إلى آخر يحدث في الماضي بواسطة حمل السلع على الدواب والعربات عبر الحواف المنخفضة التي تفصل مناطق المنابع، وخاصة في مناطق التعرية القديمة، كالوديان النهرية المهجورة أو مناطق الركامات الجليدية النهائية المتخلفة عن التعرية الجليدية في البلايستوسين، ومثل هذا كان شائعا في أنهار كندا والقسم الشرقي من الولايات المتحدة، وفي السويد، وفي فنلندا، ومناطق البحيرات المازورية في شمال شرق بولندا «بين بعض منابع الفستيولا الأوسط ومنابع نهر برجولتا الذي يصب في البلطيق عند كالينجراد - كوينجزبرج سابقا في بروسيا الشرقية»، وفي روسيا على طول الطرق النهرية بين البلطيق والأسود.
وفي غالبية الأحيان كان هناك سكان يشتغلون بهذه الوسيلة من وساطة النقل بين منابع الأنهار، عند نقط إعادة التفريغ والشحن. وقد انتشرت هذه الظاهرة كثيرا في القرنين 12، 13 في شمال إيطاليا وسهول الفلاندرز الهولندية والبلجيكية. وكانتا من أقاليم النشاط التجاري الواسع آنذاك: تجارة الشرق في شمال إيطاليا، وتجارة مدن الهانزا في الفلاندر.
وفي القرن السابع عشر بدأت الخطوات الأولى لربط الأنهار بعضها بالبعض الآخر في أوروبا الغربية، ومن أقدم هذه القنوات قناة صغيرة بين ويثام وترنت في إقليم لنكولن شاير في شرق بريطانيا، وتعود قناة برير التي تربط السين واللوار إلى أواسط القرن السابع عشر (1642).
خرية6-2: طريق الراين كمركز عصبي للنقل المائي الداخلي في أوروبا الغربية. (1) اتجاه النقل إلى السهل الأوروبي الأوسط بواسطة قناة ميتلاند إلى النظم النهرية في الفيزر والألب والأودر والفستيولا. (2) اتجاه النقل إلى محور النظام الملاحي الدانوبي: الربط بين بحر الشمال والبحر الأسود عبر النمسا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ويوجسلافيا وبلغاريا ورومانيا. (3) اتجاه النقل إلى شمال فرنسا وحوض السين ومنطقة باريس: الربط بين الراين وبحر المانش. (4) اتجاه النقل جنوبا بين بحر الشمال ووسط أوروبا والبحر المتوسط عبر النظام النهري للساءون والرون.
أما نظام القنوات الكبيرة بين الأنهار المختلفة فترجع إلى أواخر القرن 18 وأوائل القرن 19. وهذه هي الفترة التي تسمى عصر القنوات أو عصر «حمى القنوات»، وإليها ترجع معظم القنوات المائية الداخلية في أوروبا وشرق أمريكا؛ ففي بريطانيا صدر أكثر من 82 تشريعا بإنشاء قنوات جديدة في الفترة بين 1791 و1794! وفي فرنسا زادت أطوال القنوات من 1271 كيلومترا في عام 1815، إلى 4700 كيلومتر عام 1860. وقد بدأ عهد القنوات مبكرا في أمريكا الشمالية، فحفرت قناة ويلاند في كندا «بين بحيرتي إنتاريو وإيري؛ لتجنب شلات نياجارا» عام 1824، وقناة إيري في الولايات المتحدة «بين نهر الهدسن وبحيرة إيري» التي استغرق إنشاؤها بين 1818 و1825.
أما في ألمانيا، فبرغم التحسينات التي أدخلت على الأنهار مبكرا، إلا أن تأخر الوحدة السياسية قد أدى بدوره إلى تأخر إنشاء شبكة النقل النهري وحفر القنوات؛ ففي نهاية القرن الماضي لم يكن في ألمانيا سوى 1700 كيلومتر من القنوات مقابل نحو خمسة آلاف في فرنسا، وفي عام 1899 افتتحت الملاحة في قناة دورتمود-إيمز بغرض تحويل تجارة حوض الراين الألماني إلى ميناء إمدن الألماني، بدلا من استخدام الموانئ الهولندية. وفي 1899 أيضا بدأ مشروع القناة الوسطى
Mittelland Kanal
بغرض فتح الإقليم الشرقي للنقل الرخيص وإيجاد علاقة متينة بين منتجات الشرق الزراعية ومنتجات الراين الصناعية، وقد تم الانتهاء من القناة عام 1914، ولم تكن قادرة على تقبل سفن وصنادل ذات حمولة أكثر من 700 طن، بالمقارنة بقناة الإيمز (ألف طن).
وفي 1921 بدأ العمل في «بناء» نهري الماين والنكر، رافدي الراين في جنوب ألمانيا. وتخدم ملاحة النكر منطقة شتوتجارت الصناعية، بينما المفروض أن تستكمل الملاحة في الماين قناة الماين-الدانوب (179كلم) بين بامبرج على الماين وكيلهايم على الدانوب.
وعلى الرغم من أن «عصر السكك الحديدية» في القرن 19، «وعصر السيارة» في القرن العشرين. وقد أديا إلى فقدان أهمية الملاحة النهرية فترة طويلة، إلا أن الاهتمام عاد بشدة إلى القنوات والأنهار ابتداء من منتصف القرن الحالي، خاصة في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ومناطق أخرى خارج النطاق الصناعي مثل البرازيل. وفي الحقيقة أصبحت الملاحة الداخلية نمطا من أنماط النقل المعاصرة التي يشتد الطلب عليها، ويدخلها التحسين والتخصص بصفة منتظمة لما له من ميزات نلخصها فيما يلي: (أ) مميزات ومساوئ النقل النهري
يمكن أن نلخص المميزات العامة للنقل المائي الداخلي في النقاط التالية:
أولا:
في النهر لا يوجد طريق يبنى أو يشيد بالمعنى الذي نفهمه بالمقارنة بالطريق البري أو الحديدي أو خطوط الأنابيب أو أسلاك التليفون أو النقل المعلق، وذلك بالرغم من أنه من الضروري استخدام الكراكات لتعميق المجرى وإزالة الإرسابات. وقد سبق أن قلنا إن الأنهار المدارية ودون المدارية قد لا تحتاج إلى أعمال تمهيدية إلا في أضيق الحدود؛ ومن ثم يصبح النقل المائي في الأنهار والمجاري الطبيعية أرخص وسائل النقل على اليابس.
ثانيا:
إن النقل المائي الداخلي هو أكثر أشكال النقل على اليابس ملاءمة للسلع ذات الوزن الثقيل والأحجام الكبيرة كالأخشاب والحديد والفحم والأسمنت ... إلخ. وفي مقابل ذلك فإن للنقل النهري عددا من المساوئ التي ذكرنا طرفا منها فيما سبق، ويمكن أن نجملها فيما يلي:
أولا:
المجرى المائي الطبيعي، وإلى حد ما القنوات، أطول من الطرق البرية الصناعية؛ وذلك بحكم أن الأنهار تنحدر مستجيبة لظروف التضاريس، أو ترسم أقواسا كبيرة تجنبا للعوائق التضاريسية، أو نتيجة لضعف قوة الجريان في المناطق السهلية المنبسطة، وبالرغم من أن القنوات عمل صناعي، إلا أن الإنسان لا يستطيع إلا أن يستجيب إلى الانحدارات الطبيعية أثناء شق مسارات القنوات، وإلا أصبح العمل شديد التكلفة، أو تكون نتيجته النهائية كثرة الأهوسة والبوابات على طول القناة؛ مما يزيد من تكلفة تشغيل القناة، فضلا عن إطالة زمن عبورها، وبذلك لا نتوقع أن تكون القنوات خطوطا مستقيمة إلا حينما تسمح الظروف الطبيعية بذلك. وفضلا عن ذلك فإن القنوات يجب أن تصل بين نهرين في نقاط مختارة صالحة للملاحة، وبذلك فإن القنوات لا تخترق أقصر الطرق بين نهرين متوازيين.
ثانيا:
إن حفر القنوات يحتاج إلى استثمارات عالية من رأس المال والإنفاقات الكبيرة في العمالة والآلات، والتعويضات التي تدفع لأصحاب الأراضي التي تخترقها القنوات. وفي الوقت نفسه تحتاج القنوات إلى نفقات مستمرة من أجل صيانة جوانبها وتطهير أعماقها. وفي الوقت نفسه فإن كثيرا من القنوات تحتاج إلى أهوسة مختلفة الوظائف، وإلى إنشاء جسور كثيرة فوقها لكيلا تنقطع مسارات الطرق الأخرى.
ثالثا:
يعترض النقل النهري عدة عقبات طبيعية منها الشلالات والمندفعات المائية والجنادل ، ومنها التغيرات الموسمية التي تطرأ على مستوى الماء، سواء كان سببها فصلية المطر أو تجمد المياه خلال الشتاء في بعض الأقاليم.
رابعا وأخيرا:
هناك عيب جوهري في النقل المائي عامة، سواء كان نقلا داخليا أو نقلا بحريا، هذا هو البطء الذي تتسم به مركبات الماء؛ نظرا لحجمها وصعوبة مناورتها بالقياس إلى السيارات، وذلك برغم التحسينات التي تطرأ على الطاقة المحركة للقوارب والسفن؛ ولهذا السبب فإن النقل المائي الداخلي والبحري معا قد تخصصا في نقل السلع التي لا تعطب سريعا، والتي لا تحتاج إلى سرعة توصيلها، وهي - كما قلنا - السلع ذات الأحجام والأوزان الثقيلة. ومن الأمثلة على بطء النقل النهري أن السفن تقطع المسافة بين أنتفيرب وليج في بلجيكا في يومين ونصف اليوم رغم أن المسافة لا تزيد عن 150كلم، وأن المسافة بين باريس والهافر التي لا تزيد عن 150كلم في خط مباشر، تقطعها السفن في نهر السين في أحد عشر يوما. (ب) أنظمة النقل النهري الرئيسية
برغم المساوئ التي ذكرناها، فإن احتياج الصناعة والتجارة في النصف الثاني من القرن الحالي تدعو إلى تحسين هذا النوع من النقل الرخيص. وينتشر نمط النقل المائي الداخلي في كل مكان تؤهله له ظروف الأنهار واحتياجات النشاط الاقتصادي، وبعبارة أخرى فإن النقل النهري يوجد في كل مكان توجد فيه الأنهار، لكن نوع وحجم ودرجة الاعتماد عليه تختلف جذريا من مكان إلى آخر، وليس بوسعنا أن نتتبع النقل النهري في كافة المناطق، وسنقتصر هنا على موجز لخصائص وطبيعة النقل النهري في الأماكن الرئيسية من العالم التي طورت هذا الشكل من أشكال النقل. ويوجد في العالم ست مناطق تبرز فيها قيمة النقل النهري، هي: أوروبا الغربية، نظام الفولجا في الاتحاد السوفييتي، نظام النقل النهري في أمريكا الشمالية، نظام النقل النهري في الصين، نظام الأمازون في البرازيل، وأخيرا نظام بارانا-بارجواي في الأرجنتين وأورجواي.
أولا:
أنظمة النقل النهري في أوروبا الغربية : تمثل مجموعة الأنهار الأوروبية التي تخترق السهل الأوروبي من فرنسا إلى ألمانيا، مرورا ببلجيكا وهولندا، أكثر الأنظمة النهرية استخداما في النقل النهري؛ ففي هذه المنطقة نجد عدة أنهار هامة صالحة في معظم أجزائها للملاحة طبيعيا: السين، الشيلد، الميز، الراين (بروافده العديدة: الموزيل، الليب، الرور، الماين، النكر)، الإمز، الفيزر، الألب.
وقد أضيف إلى هذه المجاري الطبيعية الملاحية مجموعة من القنوات التي تربط محاور هذه الأنهار جميعا في عدة أماكن، بحيث أصبحت كل منطقة السهل الأوروبي الغربي تتخللها المجاري المائية الطبيعية والصناعية الصالحة للملاحة في كل مكان؛ فهناك مجموعة قنوات تربط السين بالميز، والشيلد بالميز، والميز بالراين الأدنى. وهذه القنوات من الكثرة بحيث يصعب تخصيص واحدة منها بالذكر، ومع ذلك فإن أكثر هذه القنوات أهمية هي تلك الوصلة بين الميز والشيلد التي تجاور الحدود البلجيكية الهولندية، وهي القناة المعروفة باسم «قناة ألبرت»، وترجع أهميتها إلى أنها طريق مختصر يخدم تجارة صادرات وواردات النطاق الصناعي البلجيكي على الميز فيما بين لييج ونامور، بالإضافة إلى جزء من النطاق الصناعي الزراعي في شمال فرنسا، فبدلا من أن يتجه النقل بعد لييج شمالا إلى هولندا، يتجه غربا إلى ميناء بلجيكا الأول في أنتفيرب، وبهذا نختصر المسافة وتنشط الحركة في ميناء بلجيكي قومي.
وهناك مجموعة أخرى من القنوات التي تربط أعالي السين بالراين الأوسط عند ستراسبورج وبالموزيل؛ ومن ثم إلى الراين الأوسط أيضا، وتخدم هذه القنوات بالإضافة إلى نهر الموزيل منطقة إنتاج الحديد في اللورين الفرنسية والفحم في السار الألمانية، وترتبط قنوات السين الأعلى والراين الأوسط معا مع نظام الساءون والرون في اتجاه البحر المتوسط. وفي ألمانيا وهولندا تمتد مجموعة من القنوات تربط الراين وحوض الرور «ونهر الرور والليب» بالأنهار الألمانية الشمالية (الإيمز والفيزر والألب)، ومن ثم ترتبط بعد ذلك بنهري الأودر والفستيولا في بولندا، وأهم قنوات المنطقة هي قناة ميتلاند، وأخيرا فإن الراين يرتبط بالدانوب بواسطة نهر الماين وقناة الماين-الدانوب.
ونظرة واحدة إلى خريطة 6-2 يوضح لنا أن الراين يكون العصب المحوري للنقل النهري في أوروبا الغربية؛ فهو - كما أسلفنا - يكون همزة الوصل بين مجموعة أنهار السهل التي تتجه إلى بحر الشمال وبحر المانش من الألب إلى السين، وهمزة الوصل بين أنهار السهل الأوروبي الغربي وسهل وسط أوروبا وشرقها حتى حوض الفستيولا في بولندا، وهمزة الوصل بين نظام أوروبا الغربية ونظام حوض الدانوب والبحر الأسود، وأخيرا يكون الراين همزة الوصل - بالإضافة إلى السين - مع نظام الرون والبحر المتوسط.
خريطة 6-3: الملاحة الداخلية في ألمانيا ووسط أوروبا. (1) أنهار حمولة السفن فيها أكثر من ألف طن. (2) أنهار غير صالحة للملاحة. (3) قنوات حمولة السفن فيها أكثر من ألف طن. (4) قنوات حمولة السفن فيها من ألف إلى 500 طن. (5) أنهار حمولة السفن فيها أقل من 500 طن. (6) قنوات حمولة السفن فيها أقل من 500 طن. (7) الحدود السياسية.
وشبكة السهل الأوروبي الغربي هي أعقد شبكات النقل المائي الداخلي في العالم، وهي في الوقت ذاته أقدمها، وتمتلئ بأنواع متباينة من أحدث وأقدم وسائل النقل المائي. ونظرا لتاريخها القديم، فإنها أيضا متباينة السعة والعمق، بحيث لا يمكن للسفن الكبيرة أن تخترقها كلها؛ ولهذا السبب نجد الأنواع التالية من السفن: (1)
السفن الفلمنكية، عمق غاطسها 180سم، وحمولتها لا تتجاوز 180 طنا، وهي وسيلة النقل الرئيسية في قنوات شمال فرنسا وشمالها الشرقي التي تتسم بالضيق والضحولة. (2)
السفن المتوسطة التي تتراوح حمولتها بين 700 و1000 طن، وتنتشر في قنوات بلجيكا وهولندا وشمال غرب ألمانيا وقناة ميتلاند ودورتموند والإيمز. (3)
السفن الأوروبية التي يبلغ غاطسها 250سم، وحمولتها تصل إلى 1350 طنا، وتظهر كوسيلة النقل الرئيسية في الراين والماين والنكر وأجزاء من قنوات هولندا وبلجيكا، وفي السين بين باريس والهافر. (انظر الخريطة رقم 6-3).
ويحتاج الأمر إلى اعتماد خطة معينة لتوحيد وسائل النقل النهري، وتوسيع القنوات، وتعميقها بحيث يمكن النقل مباشرة دون الحاجة إلى إعادة شحن من سفن كبيرة إلى صغيرة.
ثانيا:
شبكة النقل النهري السوفييتية : معظم هذه الشبكة حديثة أنشئت بعد الثورة الشيوعية والتطور الصناعي السوفييتي؛ ومن ثم فهي تضم أحدث وأثقل وسائل النقل النهري الداخلي، باستثناء النقل الداخلي في البحيرات العظمي الأمريكية. ومعظم السفن النهرية السوفييتية تزيد حمولتها عن ألفي طن، ويكون الفولجا العمود الفقري للنقل المائي الداخلي في الاتحاد السوفييتي، وهو بذلك يشابه مكانة الراين بالنسبة لشبكة السهل الأوروبي الغربي، ولكن على نطاق أكبر من حيث اتساع النهر وضخامة السفن وطول المسافات، فالفولجا - كما يتضح من خريطة رقم 6-1 - يربط الملاحة النهرية بين البحر الأبيض والبلطيق في الشمال بالبحر الأسود، ويربط بين بحر قزوين الداخلي وبين البحر الأسود المفتوح للملاحة الدولية.
خريطة 6-4: الملاحة النهرية في الولايات المتحدة. الأهمية النسبية للملاحة النهرية والشاطئية. الأرقام بملايين الأطنان تدل على الحمولة المنقولة بوسائل النقل المائي في القطاعات المختلفة لنهر المسيسبي وساحل خليج المكسيك.
ويرجع الفضل في ذلك الدور الرئيسي للفولجا إلى قناة الدون-الفولجا التي شقت عام 1952، ويبلغ طول القناة 101كلم، وبعد إجراء عدد من التعديلات في الأنهار أصبح من الممكن في عام 1964 انتقال السفن حتى حمولة 5000 طن من البحر الأسود إلى البلطيق عبر الدون والفولجا والقنوات التي تربط بحيرة التخزين عند ريبنسك ببحيرة أونيجا ثم لادوجا، وأخيرا نهر النيفاثم لننجراد. وتعرف هذه القنوات باسم قناة أو طريق مارينسكي، وتعود في أصلها إلى القرن الثامن عشر. وقد أجرى السوفييت عليها تحسينات كثيرة؛ فاختصرت زمن قطع القناة من 18 يوما إلى يومين فقط، وعلى وجه العموم فإن الفولجا يخدم مساحة كبيرة، ويشكل هو وقنواته والأنهار التي يتصل بها مجاري ملاحية تبلغ أطوالها مجتمعة حوالي 112 ألف كيلومتر.
ثالثا:
شبكة النقل النهري في أمريكا الشمالية : هناك نظامان نهريان رئيسيان في أمريكا الشمالية، هما: نظام سانت لورنس ونظام المسيسبي (انظر الخريطة 6-4)، ونظام سانت لورنس-البحيرات العظمى هو أضخم نظام من نوعه للنقل المائي الداخلي. وقد أدخلت عليه من التعديلات ما جعله أقرب إلى نظام الملاحة البحرية منه إلى النقل النهري، وتحولت موانئ البحيرات العظمى إلى موانئ بحرية شديدة النشاط والتخصص، ويتوغل هذا الطريق المائي 3760 كيلومترا في داخلية شرق أمريكا الشمالية، وذلك بفضل القنوات العديدة في النهر نفسه، وبين البحيرات، وخاصة بين إنتاريو وإيري، وبين هورون وسوبييرير. وتزيد حمولة السفن في البحيرات العظمى عن عشرة آلاف طن.
ويحمل طريق المسيسبي بضائع أقل بكثير من طريق سانت لورنس، لكنه يكون مع رافده الأوهايو طريقا جيدا يخترق السهول العظمى الأمريكية من خليج المكسيك إلى قلب المنطقة الصناعية في منطقة البحيرات وبنسلفانيا وأيوا؛ إذ يتصل كل من المسيسبي والأوهايو بقنوات ملاحية مع البحيرات العظمى، وينقل طريق المسيسبي بضائع الأحجام الكبيرة: الفحم والقطن والحديد والأخشاب والقمح.
رابعا:
نظام الملاحية النهرية في الصين : سبق أن عالجنا هذا الموضوع من قبل (راجع: الفصل الخامس المقومات الجغرافية للنقل على اليابس)، وخلاصة القول أن اليانجتسي يقوم بدور المحور الأساسي للنقل في وسط الصين، خاصة مع غياب وسائل نقل أخرى موازية له، بل إن محور النقل الحديدي في عمومه يتعامد على اليانجتسي في محور شمالي جنوبي.
وقد أدخلت الصين تحسينات عديدة على القناة الكبيرة القديمة التي تربط هوانجهو باليانجتسي، وإلى جانب ذلك فهناك العديد من المجاري المائية التي تخترق السهل الكبير، وكلها تستخدم في النقل الرخيص.
خامسا:
نظام الأمازون النهري : تبلغ أطوال الأمازون وروافده الملاحية خلال موسم الفيضان ما يقرب من 58 ألف كيلومتر، ويبلغ الأمازون الأدنى والأوسط من العمق والاتساع ما يسمح للسفن المحيطية أن تصعد فيه حتى مدينة ماناوس التي تبعد عن المصب 1600 كيلومتر، ويمكن السفن النهرية المتوسطة والصغيرة أن تبحر في الأمازون صعودا حتى بلدة إيكتوس داخل حدود بيرو، وتبعد هذه البلدة عن مصب الأمازون بما يقرب من 3680 كيلومترا، وفي خلال موسم الفيضان يمكن للسفن النهرية أن تنتقل في روافد كثيرة من روافد الأمازون، وتتوقف الملاحة خلال موسم الجفاف لكثرة المندفعات المائية، لكن يمكن للقوارب الصغيرة التي تستخدم الطاقة العضلية للإنسان من عبورها، وبرغم ضخامة النهر وإمكاناته بالنسبة للملاحة الداخلية، إلا أن الحركة فيه ضئيلة جدا بالمقارنة بأوروبا الغربية أو الصين؛ وذلك لأن إقليم الأمازون لا يزال من الأقاليم العذراء، قليل السكان وقليل النشاط الاقتصادي.
سادسا:
نظام بارنا-باراجواي : هذا هو أهم النظم النهرية في أمريكا الجنوبية من ناحية النشاط الاقتصادي، وكثافة النقل النهري، ويصب نهرا بارانا وباراجواي معا في خليج لابلاتا العريض الذي تقع عليه بوينس آيرس ومونتفيديو، وتتوغل السفن البحرية في نهر بارانا حتى مدينة سانتافي، على مبعدة 240كلم من المصب، وبعد ذلك يصبح النهر ملاحيا بالنسبة للسفن النهرية حتى مدينة أسنشن عاصمة باراجواي، التي تقع على بعد 1360كلم من المصب. أما نهر أوروجواي، الذي يصب في خليج لابلاتا أيضا؛ فهو صالح للملاحة حتى بلدة سالتو (250كلم من المصب)، حيث تتوقف الملاحة نتيجة وجود المندفعات المائية. (ج) النقل النهري في ألمانيا كمثال للنقل الحديث
تبلغ أطوال المجاري المائية في ألمانيا الاتحادية الصالحة للملاحة 5149 كيلومترا، منها 4375 كيلومترا صالحة للملاحة العادية طوال السنة. وتبلغ أطوال المجاري المائية الصالحة لاستقبال السفن والصنادل التي تزيد حمولتها عن ألف طن، ما يقرب من 3250 كيلومترا.
وأهم المجاري المائية الطبيعية الصالحة للملاحة - بعد كثير من التعديلات وأعمال البناء التي شرحنا طرفا منها فيما قبل - هي: (1)
نهر الراين من بازل على الحدود السويسرية إلى أن يدخل الحدود الهولندية. ويضم نظام الراين الملاحي عدة روافد هامة للملاحة، على رأسها الليب والرور في حوض الرور، والموزيل الذي يتجه عبر إقليم أيفل-هنزريك الجبلي إلى لكسمبورج والسار واللورين الفرنسية، ثم نهر الماين الذي يخترق شمال بافاريا، والمؤدي إلى الدانوب فيما بعد، وأخيرا نهر النكر الذي يخدم منطقة بادن-فرتمبورج الصناعية. (2)
الفيزر من مدينة كاسل حتى المصب عند بريمن، وهو يخدم القطاع الطولي الأوسط من ألمانيا الاتحادية، وهو في مجموعه صالح لملاحة السفن المتوسطة فيما عدا القسم الأدنى الصالح للسفن الكبيرة، ويرتبط النهر أيضا بمجموعة الأنهار الألمانية الأخرى بواسطة قناة ميتلاند. (3)
نهر الألب، وهو صالح للملاحة الكبيرة من هامبورج حتى الحدود المشتركة مع ألمانيا الديمقراطية، لكنه صالح أيضا للملاحة داخل ألمانيا الديمقراطية وتشيكوسلوفاكيا حتى براها «براغ»، وبذلك فهو نظام نهري طويل كان له دور هام في اقتصاديات النقل المائي الداخلي حينما كانت هناك ألمانيا موحدة؛ فهو يخدم المنطقة الصناعية الثقيلة في إقليم ساكسونيا العليا (ألمانيا الديمقراطية)، وإقليم يوهيميا الصناعي (تشيكوسلوفاكيا)، هذا فضلا عن خدمة منطقة برلين بطريق نهر سبري وقناة ميتلاند، وقد تضاءلت أهمية نظام الألب الملاحية إلى حد بعيد نتيجة التغيرات السياسية في ألمانيا. (4)
الدوناو «الدانوب» في جنوب شرقي بافاريا، ابتداء من كيلهايم حتى باساو على الحدود النمساوية الألمانية، وتستكمل الملاحة بعد ذلك على طول مسار الدوناو في النمسا والمجر ودول البلقان حتى البحر الأسود.
أما أهم القنوات الملاحية فهي: (1)
قناة الراين-الرون. (2)
قناة الراين-الماين-الدوناو. (3)
قناة دورتموند-إيمز (التي تصل بين الرور وميناء إمدن على بحر الشمال). (4)
قناة ميتلاند التي تصل بين الإيمز والفيزر والألب.
وفي أواسط الستينيات كان عدد السفن المشتغلة بالنقل النهري في ألمانيا الاتحادية نحو 8800 وحدة نهرية بين صندل وسفينة، مجموع حمولتها حوالي خمسة ملايين من الأطنان، وهذا في حد ذاته رقم ضخم يوضح لنا دلالة وأهمية النقل النهري والمائي الداخلي في ألمانيا. وقد كانت الحمولة المنقولة بواسطة النقل المائي في عام 1936 تعادل 11700 مليون طن/كلم، ارتفعت بصورة مذهلة إلى 40044 مليون طن/كم في عام 1961، وفي السنة ذاتها بلغ متوسط كثافة حمولة النقل في السنة على كل كيلومتر من أطوال المجاري المائية الملاحية نحو 7565 طنا، وهذا رقم عال جدا بالمقارنة بدولة كفرنسا التي بلغت فيها متوسطات الحمولة للكيلومتر الطولي طوال السنة 1203 طنا فقط، وبهذا يتأكد لنا ضخامة النقل النهري في ألمانيا مرة أخرى.
وتترتب السلع التي يحملها النقل المائي الداخلي على النحو التالي:
30٪ من مجموع الحمولة فحم.
20٪ من مجموع الحمولة مواد البناء والرمال.
15٪ من مجموع الحمولة معادن.
25٪ من مجموع الحمولة أخشاب وحبوب وهيدروكاربورات.
وكان ترتيب النقل في الشبكات المائية على النحو التالي (من حيث حجم الحركة والتعامل):
61,2٪ موانئ نهر الراين.
17,6٪ القنوات في كل ألمانيا الاتحادية.
15,6٪ حمولة نهري الماين والنكر.
5,6٪ حمولة بقية الشبكة النهرية (الألب والفيزر والدانوب).
ويتضح من هذا التوزيع الثقل غير العادي لنهر الراين في شبكة النقل النهري، ولا شك أن ذلك مرتبط أولا بكثافة النشاط الاقتصادي، وثانيا بأنه محور النقل الرئيسي في ألمانيا الاتحادية ووسط أوروبا.
خريطة 6-5: تخطيط ميناء دويزبرج-الرور على نهر الراين (ألمانيا الغربية).
وعلى الراين موانئ كثيرة تتعامل في حمولات عالية، ولكن ميناء ديوزبرج يتفوق عليها جميعا بحمولة تعامل بلغت في أوائل الستينيات 35 مليونا من الأطنان، وهو بذلك أكبر ميناء نهري في العالم، وبرغم التنظيمات الدقيقة للحركة في هذا الميناء الضخم إلا أن كثافة التعامل تتزايد بصفة مستمرة، ويشتمل الميناء على ثلاثين حوضا، وتبلغ أطوال أرصفته جميعا أربعين كيلومترا (انظر الخريطة رقم 6-5).
وقد احتل الفحم حوالي 40٪ من مجموع السلع المتعامل فيها في هذا الميناء، تلاه في ذلك الخامات المعدنية، وعلى رأسها خام الحديد، ثم الحبوب والبترول.
وفي ألمانيا الاتحادية 300 شركة للنقل النهري بعضها تابع لمجموعات صناعية كبيرة مثل شركة أسطول الراين المتحدة، وعلى العموم يحتل النقل النهري المكانة الثانية في النقل الداخلي في ألمانيا الاتحادية، وذلك بعد السكك الحديدية؛ ففي أوائل الستينيات كانت أنصبة وسائل النقل المختلفة على النحو التالي:
46٪ للنقل الحديدي.
36٪ للنقل النهري.
16٪ للنقل البري.
2٪ للنقل بواسطة الأنابيب.
ولا شك أن هذه الصورة قد تغيرت كثيرا خلال السنوات العشر الماضية، وعلى الأخص نصيب الأنابيب من النقل الذي زاد كثيرا عما كان عليه. (2) السكك الحديدية (2-1) ثورة النقل على اليابس
يمثل النقل الحديدي على سطح الأرض مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة العالمية، تتسم بالسرعة والقوة كواسطة من وسائط النقل. وقد أدى النقل الحديدي إلى إحداث ثورة حقيقية في علاقات المكان الجغرافية على سطح القارات، كما أدى إلى إحداث تغير واضح في العلاقات الإنتاجية في أقاليم النشاط الاقتصادي الحديث. وعلى وجه العموم يمكن أن نقول إن النقل الحديدي قد أدى إلى خلق ظروف واجهت الإنسان بفوائد غزو المكان والزمان.
وقد يبدو هذا التأكيد لدور السكك الحديدية مبالغا فيه، أو أنه ينصرف إلى كافة وسائل النقل دون تخصيص، لكن الطريق الحديدي في واقع الأمر - وبرغم أنه أقل في حمولته من الطريق المائي - يمثل تمام التمثيل الثورة الصناعية في وسائل النقل على اليابس؛ فقد كان - ولا يزال - أسرع وسائل النقل الكبير الحجم على يابس الكرة الأرضية، وهو لا يزال في مجموعه أرخص هذه الوسائل جميعا.
وصحيح أن النقل البحري الحديث يمثل الوسيلة التي انتظمت من خلالها العلاقات التجارية العالمية المتشابكة المعاصرة، ولكنه صحيح أيضا أن النقل الحديدي كان الممهد الأول لنشأة هذه العلاقات التجارية العالمية الكثيفة المعاصرة؛ فهو الذي كون الشرايين الرئيسية التي بني حولها النشاط الاقتصادي الحديث، وهو الذي فتح آفاق المكان الجغرافي أمام تكاثف النشاط الإنتاجي الصناعي والزراعي داخل إطارات البناء الحضاري الصناعي.
وبعبارة أخرى فإن النقل الحديدي أدى إلى إعادة تنظيم العلاقات الإقليمية في مجالي الإنتاج والتجارة على السطح المعمور من اليابس، في حين أن النقل البحري - في صورة مجردة - هو جسر متحرك، تستكمل عليه عملية النقل لتربط بين يابس معمور وآخر؛ فالنقل البحري إذن - في صورة مجردة أيضا - وسيلة نقل خالصة مائة في المائة، تستجيب لحركة التجارة العالمية وتجعلها عملية مربحة. وهذا مستمد من وظيفة النقل البحري الأساسية كمعبر وجسر فوق السطح المائي.
أما النقل الحديدي فيشتمل على وظيفة أخرى هامة، إلى جانب اشتراكه مع النقل البحري في وظيفة النقل الخالصة؛ تلك هي أن النقل الحديدي كان - ولا يزال - يستخدم بكفاءة في توظيف أنواع كثيرة من الأنشطة الاقتصادية في الأقاليم التي يراد غزوها اقتصاديا.
وفضلا عن هذا كله، فإن أهمية النقل الحديدي على اليابس تتضاعف إذا ما تذكرنا أن اليابس هو مأوى الإنسان بوصفه كائنا أرضيا، وأن مجال عمرانه ونشاطه الأساسي هو سطح القارات؛ ومن ثم فإن تنظيمه العمراني والاقتصادي والسياسي والاستراتيجي مشدود إلى اليابس. ويترتب على ذلك أن تنظيم وسائل النقل الأرضية تشكل أكبر عناصر التأثير على التجمع البشري، وتعكس بصورة مباشرة نشاطات الإنسان الفعلية في الإنتاج والتنقل والتبادل التجاري، بنفس القوة التي تعكس خططه ورغباته في ممارسة هذه الأنواع المختلفة من الأنشطة في المناطق غير المستغلة استغلالا كافيا، أو في الأقاليم البكر. وبما أن النقل الحديدي هو أرخص وسائل النقل الأرضي وأكثرها حمولة وثباتا، فهو إذن أكثرها فعالية.
وفي هذا قيل كثيرا: إن «أطوال الخطوط الحديدية ما هي إلا مقياس للمدينة»
Railroad mileage is an index of civilization ، وقيل أيضا: إنه يمكن الحكم على درجة التقدم الاقتصادي والاجتماعي من شكل شبكة النقل الحديدي. (2-2) هل تقلصت أهمية السكك الحديدية؟
بالرغم من هذه الأهمية للسكك الحديدية في النقل والتنظيم الاقتصادي إلا أن الكثير من الدارسين يرى أن السكك الحديدية تمثل أدوات مرحلة ازدهرت، وإننا قد عبرنا قمتها وبدأنا استخدامات تكنولوجية جديدة في عالم النقل، ويبني هؤلاء وجهة نظرهم هذه على دراسات واقعية تؤكد خلاصة نتائجها أن السكك الحديدية بقايا ماض قريب، وتراث نظام اقتصادي دخل مرحلة التفكك؛ إذ لا شك في أن السكك الحديدية وليدة العصر الصناعي في صوره الأولى. وقد أسهمت مساهمة جبارة في تثبيت أقدام الصناعة وفتح آفاق شاسعة أمام الاستخدام الاقتصادي المعدني والزراعي والسلعي. وقد ظلت السكك الحديدية مسيطرة على النمط الأساسي للنقل على اليابس لمدة قاربت قرنا من الزمان، وبدأت تهبط إلى مرتبة أدنى مما كانت عليه منذ الربع الثاني من هذا القرن.
والحقيقة أن السكك الحديدية لم تعد قادرة على الاستجابة لكل متطلبات الاقتصاد الحديث، والسبب في هذا راجع إلى عدد كبير من العوامل المتداخلة. ومن أهم هذه العوامل المنافسة الشديدة التي أصبحت تواجه النقل الحديدي من جانب وسائل النقل الأخرى: القديمة منها والمستحدثة؛ فالتحسن واضح وملموس على النقل المائي الداخلي. وقد سبق أن عالجنا ذلك بما لا يدعو لمزيد من التنويه. والنقل البري على الطرق قد قفز قفزة سريعة منذ الربع الثاني من هذا القرن، وأصبحت السيارة والشاحنة منافسا له السبق في مرونة الحركة التي لا تتوفر في السكك الحديدية، والنقل الجوي يركز تفوقه منذ منتصف هذا القرن على استيعاب أكبر لحركة نقل الناس، ويسعى منذ فترة للدخول كمنافس قوي في مجال نقل سلع معينة.
ومن ناحية ثانية أدت التغيرات التقنية الكثيرة في مضمار الصناعة إلى إحداث تغيرات مماثلة في الصورة الكلاسيكية لمواقع الصناعات. ولا شك أن عصر البترول كان رأس العناصر المؤثرة في تقنية الصناعة، وأنه أدى إلى زحزحة بعض الصناعات من مواقعها العتيدة جوار مصادر الفحم. وليس هنا مجال للإسهاب في موضوع مواقع الصناعة، لكن يهمنا أن نركز - كمثال - على أن عصر البترول قد سحب قدرا كبيرا من أهمية النقل الحديدي بظهور وسائل النقل الأنبوبي للبترول والغاز الطبيعي، بعد أن نمت أهميتها كمصادر للطاقة في الصناعة الحديثة، بدلا من الفحم الذي كان يشغل حيزا مهما من حمولة النقل الحديدي.
وكذلك لا يمكننا أن نغفل ما للتقنية الجديدة من أثر في تخلص كثير من الخامات المعدنية من شوائبها في أماكن المناجم، والاقتصار على نقل الركائز المعدنية النقية، وهو ما أثر في تقليل حمولة النقل الحديدي من المناجم الداخلية إلى الموانئ وأماكن الصناعة. ولا شك في أن للثورة الأوتوماتية في عالم الصناعة متطلباتها الخاصة في نواحي الإنتاج والاستهلاك، وأنه سوف يكون لها نمطها الخاص في عالم النقل، حينما يقدر لها الذيوع والانتشار كنمط سائد في تكنولوجية الصناعة الحديثة.
والخلاصة أن النقل الحديدي قد نزل عن مكانته ورتبته، منذ أن تحول قدر كبير من الصناعة عن الفحم إلى مصادر الطاقة الأخرى. وعلى هذا يمكننا أن نقول - بشيء من التجاوز والتعميم: إن عصر سيادة السكك الحديدية كان مرتبطا بعصر سيادة الفحم، وإنهما سويا كانا يعبران عن مجموعة الشروط والارتباطات التي سادت عصر الصناعة الأول خلال القرن الماضي وأوائل القرن الحالي.
وعلى أية حال فإنه لا يجب أن نفهم من ذلك أننا لم نعد في حاجة إلى النقل الحديدي؛ فكل ما حدث أنه لم يعد «ملكا» على وسائل النقل على اليابس، بل أصبح «فردا» من بين مجموعة وسائل النقل الأرضية، وحتى هذه الحقيقة ليست شائعة في أجزاء العالم بنفس الدرجة والقوة، بل هي تكاد أن تقتصر على المناطق التي تتميز بمساحات صغيرة وكثافة في وسائل النقل النهري والبري والجوي والأنبوبي، وتغير في تقنية الصناعة. وبعبارة أخرى فإن السكك الحديدية قد تخلت عن مركزها القيادي في مناطق الصناعة الأوروبية والأمريكية الكثيفة. وهذه هي المناطق التي أقفلت فيها كثير من المحطات الوسطى في الطرق الحديدية تجنبا للخسارة الناجمة عن قصر المسافات والمنافسة الناجحة للنقل البري المرن.
أما في المناطق والدول ذات المساحات الكبيرة، وخاصة في داخلية القارات حيث لا توجد طرق نقل أرخص بالنسبة للأحجام الكبيرة والأوزان الثقيلة، فإن النقل الحديدي ما زال العنصر السائد في وسائل النقل الأرضية، ويتضح هذا بجلاء من دراسة النقل الحديدي في الاتحاد السوفييتي بصورة عامة، وفي القطاعين الأوسط والغربي في كل من كندا والولايات المتحدة، وفي أستراليا وفي الصين وفي الهند والأرجنتين والبرازيل وجمهورية أفريقيا الجنوبية، وزائيري، وإلى حد بعيد في نيجيريا والسودان. (2-3) تطور السكك الحديدية
يؤكد موطن السكك الحديدية الأول، وبدايات استخدامها، أصل منشئها كوسيلة النقل الناجحة بالنسبة لعصر الصناعة، فأول شكل للنقل الحديدي نشأ عند المناجم الإنجليزية والألمانية؛ ففي الأصل كان الطريق الحديدي عبارة عن ألواح خشبية تدفع فوقها عربات الفحم من المنجم إلى ضفة النهر، حيث تنقل مائيا بعد ذلك إلى المصانع. وقد جاءت فكرة الألواح الخشبية لتسهيل عملية دفع العربات بعد أن حفرت عجلات العربات الطريق بحيث جعلته وعرا مضرسا غير صالح للاستخدام. ومنذ 1670 شاع استخدام ألواح الخشب عند غالبية المناجم، ولحماية هذه الألواح من التآكل والتكسر غطيت بألواح حديدية، وحينما حلت العجلات المعدنية محل الخشبية في العربات، ظهرت أمام التجربة سهولة الدفع نتيجة لانزلاق المعدن فوق المعدن.
ثم أخذت التحسينات والابتكارات تتوالى بسرعة، فاستبدلت الألواح الخشبية المغطاة بصفائح الحديد، بقضبان من الحديد الزهر في عام 1767 عند مناجم كولبروكديل
Coalbrookdale ، وفي عام 1775 عند مناجم شفيلد وفي 1794 عند مناجم درهام. لكن هذا الابتكار في وسيلة النقل ظل مقتصرا على مناطق التعدين، وبرغم شيوعها فإنها ظلت عبارة عن قضبان ثبت إلى الأرض بمواصفاتها الطبيعية دون أي تعديل في شكل التضرس الأرضي، لكن التحسين أخذ يطرأ على خامة القضبان حتى أمكن صنع قضبان من الصلب عام 1820 على إثر اكتشاف طرق صهر الحديد الجديدة باستخدام فحم الكوك.
وكانت الخطوة الثانية في النقل الحديدي تحسين وسيلة الدفع والحركة؛ فقد ظلت العربات تدفع بالطاقة البشرية أو الطاقة العضلية الحيوانية (الخيول). وكانت الدفعة الكبرى في النقل الحديدي هي استخدام طاقة غير عضوية في الدفع أو الجر؛ ففي 1769 صمم جيمس وات
J. Watt
أول آلة بخارية ناجحة. وكان ذلك في مدينة جلاسجو (اسكتلندا)، وفي 1775 تمكنت شركة بولتون-وات
Boulton-Watt
في برمنجهام من بناء أول آلة بخارية شغلت لضخ المياه من منجم للفحم. وتوالت بعد ذلك استخدامات الآلة البخارية كقوة محركة في الصناعة وكقوة في الدفع
1
إلى أن أمكن استخدامها كقوة دفع في النقل الحديدي عند المناجم في عام 1813؛ فقد كانت أول قاطرة بخارية تلك التي استخدمت عام 1813 لجر عربات الفحم بين المناجم والأرصفة النهرية على نهر التاين (منطقة نيو كاسل في شمال بريطانيا)، ويقال: أول استخدام فعلي لقاطرة بخارية سبق ذلك في منطقة مناجم جنوب ويلز عام 1804، وكان سرعة القاطرة 3,5 أميال في الساعة.
وإلى جورج ستيفنسون
G. Stephenson (1781-1848) يرجع الفضل الأكبر في تحسين القاطرة البخارية حتى أصبحت وسيلة نقل نافعة وقادرة على المنافسة مع طرق النقل البري والقنوات الملاحية. وقد جاءت هذه الخطوة تحت إلحاح احتياجات الاقتصاد وضغوطه الكثيرة في إقليم لانكشاير؛ إذ إن التقدم الصناعي في الربع الأول من القرن الماضي كان يدعو إلى وسائل نقل ذات كفاءة بالنسبة للسلع ذات الأحجام والأوزان الكبيرة، وخاصة الفحم والقطن بين ليفربول ومانشستر. وفي 27 سبتمبر 1825 افتتح أول خط حديدي في العالم لنقل الركاب. وكان ذلك بين ستوكتون ودارلنجتون، جنوبي نيو كاسل. وكان طول هذا الخط 15 كيلومترا فقط، وفي 1830 نجح الخط الحديدي المزدوج بين ليفربول ومانشستر؛ لأن سرعته كانت ضعف سرعة عربة الخيل، وتكاليف النقل نصفها.
وقد ترتب على نجاح الخط انتشار الخطوط الحديدية، وخاصة بعد عام 1837، ولم تأت سنة 1841 حتى كانت أطوال الخطوط الحديدية في بريطانيا قد بلغت 2520 كيلومترا.
ودارت معركة منافسة شديدة وعنيفة بين شركات السكك الحديدية والشركات التي تستخدم القنوات كوسيلة للنقل، لكن النجاح كان حليف النقل الحديدي الجديد؛ لأنه تميز بمقياس موحد للقضبان الحديدية مما كان يمكن من نقل السلع مسافات طويلة دون إعادة شحنها، وذلك في الوقت الذي كانت فيه البضائع تتعرض للشحن والتفريغ عدة مرات لاختلاف حجم القنوات وتغير السفن التي تسير في تلك القنوات المتغيرة السعة والعمق. وقد كان ذلك من دواعي بطء النقل وكثرة التالف والفاقد. ولا شك في أن سرعة النقل الحديدي قد أدى إلى إمكانية نقل السلع التموينية والغذائية، دون الخوف من عطبها؛ مما ساعد على خفض تكاليف الحياة، وخاصة بين فقراء المدن وعمالها، وبناء على هذه الأسباب مشتركة خرجت السكك الحديدية ظافرة في معركتها الأولى ضد كافة وسائل النقل الأرضية الأخرى. (2-4) نمط انتشار السكك الحديدية خارج بريطانيا
بعد النجاح الذي حققته السكك الحديدية في بريطانيا كوسيلة نقل عصرية، بدأ هذا النمط من النقل ينتشر في القارة الأوروبية وخارجها، لكن البدايات كانت ضعيفة، وتكاد أن تقتصر على ربط العواصم بضواحيها لخدمة نقل الركاب؛ مثال ذلك الخطوط القصيرة التي مدت بين باريس وسان جرمان وباريس وفرساي، وبرلين بوتسدام، ونورمبرج-فيرث، وسان بطرسبورج (لننجراد حاليا)-تساركوي-سيلو، وليون-سان إتيين، وبروكسل-مالين (مشلين). وبعد ذلك أخذت الخطوط تطول قليلا لتربط بين مدن رئيسية؛ مثال ذلك ليبزيج- درسدن، وسان بطرسبورج-موسكو، والإسكندرية-القاهرة، ونيويورك-ترنتون. وعلى سبيل المثال بلغت أطوال السكك الحديدية في فرنسا 570 كيلومترا في عام 1841؛ أي كانت خمس أطوال السكك الحديدية البريطانية في السنة ذاتها.
والسبب في قصر أطوال الخطوط الحديدية راجع في أساسه إلى أن بداية هذه الخطوط كانت حكومية في غالبية الدول الأوروبية؛ مما جعل التمويل محدودا ومعارضة الشركات التي تتولى النقل بوسائل الأخرى فعالة وناجحة في جعل هذه الخطوط الجديدة خطوط ركاب قصيرة تخدم نشاطا مترفا (نقل الأفراد من الضواحي الغنية إلى العواصم). وعلى هذا النحو ظلت السكك الحديدية بعيدة عن النقل التجاري، وهو أحد أركان وظائفها.
وعلى سبيل المثال ظلت فترة الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن الماضي في فرنسا فترة المناقشات الحامية الوطيس والجدل العنيف عن مساوئ ومزايا النقل الحديدي الجديد، من حيث مدى ما يوفره من أمان وسرعة واقتصاد في التكاليف، وحينما ظهرت بوادر نجاح السكك الحديدية في بريطانيا في أواخر الثلاثينيات، بدأت معركة جدلية وتشريعية في فرنسا حول منح الشركات امتيازات لمد الخطوط الحديدية ، وأخيرا نجح ضغط الشركات، وصدر في سنة 1841 تشريع يقضي بمنح هذه الامتيازات.
وعلى عكس فرنسا لاقت الخطوط الحديدية في بلجيكا نجاحا مبكرا؛ فقد مدت الحكومة البلجيكية شبكة نقل حديدية منظمة في معظم منطقة السهول البلجيكية، واستمرت الحكومة في إدارة النقل الحديدي وإنشاء خطوط جديدة منذ 1833 حتى 1850، حين كفت الدولة عن إنشاء الخطوط، وأخذت الشركات تقيم خطوط نقل جديدة. وبعد فترة أخذت الشركات في التوسع والاندماج مع بعضها، ومنافسة الخطوط الحكومية؛ مما أدى بالحكومة إلى شراء امتيازات الشركات منذ 1870، أو أن تبرم معها اتفاقات منذ 1873، وفي 1874 أصبحت الدولة تمتلك نصف الشبكة الحديدية، وفي 1880 أصبحت تمتلك ثلثي هذه الشبكة.
وقد كانت ألمانيا ممزقة سياسيا بين إمارات عدة صغيرة أكبرها كانت مملكة بروسيا. ونظرا لهذا الوضع السياسي فقد ارتبطت الخطوط الحديدية بكثير من الشك والريب حول الهدف الأساسي من مدها، والخوف من أن تؤدي إلى زيادة نفوذ الإمارات الكبيرة، وابتلاع الإمارات الصغيرة؛ ولهذا نجد أشكالا مختلفة لنشأة السكك الحديدية في ألمانيا، فبعضها كان خطوطا قومية أنشئت على حساب الإمارات والحكومات، وبعضها ترك كمشروعات فردية للمستثمرين من الأفراد والشركات، والبعض الثالث ساهمت فيه مجهودات حكومية وفردية. وقد حاولت مملكة بروسيا أن تهيمن على إنشاء شبكة حديدية متكاملة في ألمانيا، كوسيلة للتوحيد السياسي بزعامتها. وقد ظلت هذه المحاولة متعثرة إلى أن جاء بسمارك ووحد ألمانيا في 1861، وتم له بعد ذلك شراء الخطوط الحديدية. وهكذا فإن العوامل السياسية كانت وراء امتداد الخطوط الحديدية في ألمانيا؛ فهي في مرحلة التفكك السياسي كانت خطوطا مبعثرة غير مترابطة، وفي مرحلة التوحيد السياسي أصبحت شبكة نقل متكاملة.
وعلى وجه العموم نستطيع أن نقول: إن البدايات المختلفة للنقل الحديدي في أوروبا قد اختلف كثيرا عما حدث في بريطانيا؛ ففي حين كان النقل الحديدي موجها أولا إلى خدمة مناطق الصناعة في بريطانيا، وقائما على مجهودات الشركات الفردية، نجده في القارة الأوروبية يقع في علاقات ذات خلفيات متعارضة من جانب الشركات الاستثمارية والاتجاهات القومية. وحينما اشتركت الدولة والشركات في مد الخطوط الحديدية (كل على حدة وفي أوقات مختلفة أو متزامنة) كان الهدف الطبيعي هو استقطاب أكبر جانب من حركة النقل ذات الأرباح السريعة، وقد تمثل ذلك في نقل الأفراد في مناطق الحركة الكثيفة، بدون شك تلك التي تحدث بين المدن الكبرى وضواحيها وخلفياتها الاقتصادية؛ ولهذا تميزت الخطوط الحديدية الأوروبية بتركيز واضح حول المدن والعواصم .
وقد أدى تضارب المصالح بين الشركات والاتجاهات القومية فيما بعد إلى تدخل حكومي أكبر، وهو الذي مهد الأمر في النهاية إلى سيطرة الدولة على شبكات النقل الحديدية في صورة ملكية عامة أو مشاركة فعالة مع الشركات. وكانت النتيجة النهائية لهذه السيطرة الحكومية أن يتغلب الاتجاه القومي في مشروعات الخطوط الحديدية، وهذا الاتجاه القومي كان يعني تداخل عناصر مختلفة في تنفيذ الشبكة الحديدية. ومن أهم هذه العناصر التكامل الأرضي للدولة، والأغراض السياسية والأهداف الاستراتيجية، واتجاهات التوسع الإقليمي، هذا بطبيعة الحال جنبا إلى جنب مع الاستجابة لمتطلبات النقل في مناطق الصناعة الموجودة فعلا، والمناطق التي يراد تنميتها. وقد كانت هذه المتطلبات الاقتصادية العامل الأول في توجيه شبكة النقل الحديدية البريطانية.
خريطة 6-6: الخطوط الحديدية في الولايات المتحدة عام 1860. (1) الخطوط الحديدية. (2) طرق عربات الخيل العابرة لغرب الدولة. يلاحظ أن الخطوط الحديدية في عام 1840 كانت مقصورة على امتدادات قصيرة بين المدن في منطقة الساحل الشرقي. وكان أطول خط حديدي آنذاك هو الممتد من بوسطن إلى نيويورك ثم واشنطن، ولم يكن هناك خط واحد عابر لسلسلة جبال الأبلاش ليربط بين الساحل الشرقي ومنطقة البحيرات، وفي عام 1860 - كما يتضح من الخريطة - نمت الخطوط الحديدية بسرعة إلى أن أصبحت شبكة نقل حديدية وليس مجرد خطوط مفردة. ولكن الشبكة الحديدية اقتصرت على منطقة الشمال الشرقي بين الساحل وإقليم البحيرات. وقد كانت هذه الشبكة تقل في كثافتها تدريجيا كلما بعدنا عن الشمال الشرقي حتى تصير خطوطا مفردة في منطقة السهول الجنوبية بين الساحل ومحور نهر المسيسبي. أما إلى الغرب من هذا النهر، فلم تكن الخطوط الحديدية قد امتدت بعد، وأصبح يتعين على المسافر أن ينتقل إلى وسيلة النقل القديمة : عربات الخيل التي كانت تكمل الطريق بين الشاطئ الشرقي والغربي للولايات المتحدة.
وعلى وجه العموم، فإن الاتجاهات القومية التي كانت وراء امتداد الشبكات الحديدية الأوروبية - وإن لم تكن في الكثير من الحالات عملية ذات ربح وفوائد مباشرة - فقد كانت لها مبرراتها الوجيهة التي يمكن أن نلخصها فيما يلي:
أولا:
إن الكثير من الشركات والمساهمات الفردية الاستثمارية في مجالات النقل الحديدي كانت تتميز بتواجد رأسمالي أجنبي (في أحوال كثيرة كان رأسمال إنجليزيا). وهذا في حد ذاته كان دافعا للحساسية القومية المماثلة لحساسية الدول النامية في الوقت الحاضر تجاه رءوس الأموال الأجنبية الاستثمارية؛ ومن ثم كان الاتجاه القومي يرمي إلى تكبيل رءوس الأموال هذه بشروط واتفاقات مختلفة ترمي أولا وقبل كل شيء إلى تقييد حركته وإلزامه بامتياز ذو زمن معين.
ثانيا:
إن علاقات المكان الجغرافي في القارة الأوروبية كانت تختلف جذريا عن تلك في الجزيرة البريطانية؛ ففي القرن الماضي (وفي أوائل القرن الحالي) لم تكن الحدود السياسية لمعظم الدول الأوروبية حدودا «آمنة»، بل كانت مثارا للنزاعات والحروب؛ ومن ثم كان من الواجب أن تراعي الدول في توجيه خطوطها الحديدية مبدأين: أولهما تأمين مواصلات سريعة وسهلة إلى مناطق الحدود، وثانيهما التركيز على أهمية العاصمة بجعلها المركز الرئيسي الذي تلتقي فيه خطوط الحركة من كافة أنحاء الدولة، ولا تزال الخطوط الحديدية الأوروبية تحمل هذا الطابع إلى الآن، كما هو الحال في فرنسا وإسبانيا وبلجيكا وألمانيا (قبل تقسيمها) والاتحاد السوفييتي. (2-5) حمى السكك الحديدية
الملاحظ أنه إذا كان هناك بطء شديد في انتشار السكك الحديدية في النصف الأول من القرن 19، فإن ذلك كان أمرا طبيعيا، فليس من الطبيعي تقبل وسيلة نقل جديدة غير معروف مدى الأمان الذي توفره ولا درجة كفاءتها في التشغيل، وليس من الطبيعي ألا تحاربها وسائل النقل السائدة، وهي في هذا تتفق تماما مع الطبيعة الإنسانية: عدم تقبل الجديد بسرعة، وانقسام الناس إلى فئتي المحافظين والمجددين تجاه كل جديد حتى تخف المعارضة بثبوت صلاحية الجديد.
وحينما أخذ الناس يتقبلون الوليد الجديد، كان تقبلهم هذا في صورة نهم شديد، فبعد عام 1850 ظهر ما عرف فيما بعد باسم «حمى السكك الحديدية» في القارة الأوروبية بصفة خاصة، وفي أجزاء أخرى من العالم بصفة عامة (وعلى الخصوص في الولايات المتحدة)، ولا يوجد لدينا مقياس لمعرفة درجة حرارة «حمى السكك الحديدية» أحسن من بعض أرقام نتتبع بها أطوال السكك الحديدية في العالم؛ ففي عام 1840 كانت الأطوال الحديدية العالمية 8000 كيلومتر، قفزت إلى 38000كلم عام 1850، وقفزة أكبر إلى 263000كلم عام 1881. وفي تلك السنة كانت أطوال الشبكة الحديدية العالمية موزعة على القارات على النحو التالي:
أوروبا
172000كم
آسيا
15000كم
أفريقيا
4000كم
أمريكا
165000كم
أستراليا
7000كم
وفي عام 1951 - أي بعد مرور قرن على حمى السكك الحديدية - بلغت أطوال الشبكة العالمية 1300000 كيلومتر، تختص الولايات المتحدة منها ب 350000كلم وحدها. ومنذ ذلك التاريخ لم يحدث تغير كبير في طول الخطوط الحديدة، باستثناء الخطوط الجديدة في أفريقيا وبعض مناطق آسيا وأمريكا الجنوبية؛ أي في العالم النامي، بينما تجمدت الخطوط الحديدية في أمريكا الشمالية وأوروبا نظرا لمزاحمة وسائل النقل الأخرى، بل إن الاتجاه في كثير من المناطق الأوروبية والأمريكية هو إلى وقف الحركة على بعض الخطوط، وإقفال المحطات في كثير من الخطوط. (2-6) مشكلات تكنولوجية في السكك الحديدية (أ) الطرق الحديدية
لأن السكك الحديدية تمثل طريقا مصنوعا؛ فإنه له مشكلاته الكثيرة، مثله في ذلك الطريق البري أو طرق الملاحة الداخلية التي يتدخل فيها الإنسان. وقد استفادت السكك الحديدية كثيرا من الخبرات المتجمعة عن إنشاء الطرق البرية وتحسين الملاحة النهرية وشق القنوات. ونعني بالطريق البري ذلك الطريق القديم الذي كانت تسلكه عربات الخيل، وليس الطريق البري الحديث. فبرغم أن الطريق البري القديم كان يقتضي إنشاءات أقل كثيرا من الطريق الحديث، إلا أنه كانت له مشكلاته الخاصة بتسوية الانحدارات وتدريجها وعمل «السربنتين» (الطرق التي تتلوى في المناطق الجبلية)، والمعابر التي تقام فوق العوائق المائية ... إلخ. وقد استفاد مهندسو الطرق الحديدية من الخبرات السابقة كلها. ومن الأدلة التي تشير إلى ذلك أن عمال بناء الخطوط الحديدية كان يطلق عليهم في بريطانيا في أوائل عهد السكك الحديد الاسم
Navvies ، وهو الاسم الذي كان يطلق على بنائي القنوات.
وأول مشكلات بناء الخط الحديدي كانت ضرورة تمهيد الأرض بحيث توضع القضبان وعوارضها الخشبية على أرض مستوية، سواء كانت سهلية أم منحدرة انحدارا طفيفا؛ ومن ثم كان لا بد لبعض مسارات الخط أن ترتفع عن مستوى الأرض فوق جسر، أو أن يحفر لها مسارات منخفضة عن مستوى الأرض المجاورة؛ وذلك لكي يحتفظ الخط بتدرج بسيط إلى أعلى أو أسفل، أو أن يحتفظ باستواء عام قدر الإمكان.
ويرجع ذلك إلى أن كتلة القطار الضخمة لا تمكنه من ارتقاء المنحدرات مثل السيارة، التي تستطيع ارتقاء طريق انحداره 7٪ أو 8٪ (بمعنى أن الانحدار يصل إلى 7 أو 8 سنتيمترات في كل متر من طول المنحدر). أما السكك الحديدية فتقاس انحدارات طرقها إلى الألف وليس إلى المائة؛ بمعنى انحدار مليمترات في كل متر. والطريق الحديدي الجيد هو ذلك الذي لا تتعدى انحداراته عن 5 في الألف، وتصل الانحدارات في الطرق الحديدية الجبلية إلى 25 في الألف كحد أقصى.
ومع تطور سرعة القاطرة، خاصة بعد عام 1850، لم يعد في الإمكان وجود منحنيات ذات أقواس صغيرة في الخط الحديدي؛ ولهذا ظهرت الأقواس الكبيرة في الخطوط عند تغيير اتجاهها؛ وذلك حتى يمكن للقطار أن يستمر في سيره بسرعة معقولة.
2
وعلى العموم فإن تقدم صناعة القطار وازدياد الحاجة إلى النقل الحديدي، قد ترتب عليهما ظهور مهارة كبيرة في إنشاء الطريق الحديدي وتثبيت مساره. وقد اقتضى الأمر حفر أنفاق كثيرة في المناطق الجبلية كي يتجنب الطريق الحديدي الدوران حول العوائق التضاريسية، ولكي يتمكن من إنجاز مهمته في عالم النقل: الاقتصاد في طول الطريق وتوفير زمن نقل السلع والركاب. ومن أضخم إنجازات هندسة السكك الحديدية مجموعة الأنفاق الألبية بين إيطاليا وسويسرا، وأطولها نفق سمبلون الذي يبلغ طوله 19,7 كيلومترا.
3
وهناك أيضا الجسور العالية في الأودية الجبلية، أو الجسور الطويلة التي تعبر الأنهار الواسعة، أو تلك التي تعبر مناطق المستنقعات، أو المصبات الخليجية الواسعة. ومن أمثلة ذلك الجسر الذي يعبر خليج فورث
Firth of Forth
في اسكتلندا، وذلك الذي يعبر الدوناو في رومانيا عند بلدة تشرنا فودا بين بوخارست وكونستانزا، وذلك الذي يعبر جزءا من بحيرة جريت سولت في ولاية يوتا الأمريكية، ولولا أرباح السكك الحديدية الفعلية أو المرتقبة لما أمكن القيام بهذه الأعمال الهندسية المكلفة. (ب) قوة الجر وسرعة القاطرات
ومن المشكلات الأخرى التي جابهها النقل الحديدي بنجاح، مشكلة زيادة قوة القاطرات من أجل تحقيق هدفين: أولهما زيادة سرعة القطار واختصار الزمن في قطع المسافات لكي يثبت النقل الحديدي عن جدارة سيادته على عالم المكان والفواصل الزمانية. وكان ثانيهما زيادة قدرة القطار على جر عدد كبير من العربات، سواء كانت عربات ركاب أو بضائع، وذلك لكي يتمكن النقل الحديدي من التوفير في أجرة النقل، ويصبح فعلا وسيلة نقل قادرة على المنافسة مع الوسائل الأخرى، طبعا حسب شروط ومواصفات السلع القادرة على تحمل أعباء النقل الحديدي العالية بالنسبة للنقل النهري.
وقد ترتب على ذلك أن قوة القاطرات زادت من طاقة قدرها 20 حصانا في البداية إلى متوسط 5000 حصان في الوقت الحاضر، بل إن هناك قاطرات تصل قوتها إلى ثمانية آلاف حصان، تستخدم للنقل السريع الطويل أو لجر عدد كبير من العربات. وكذلك كانت حمولة القطار في البداية نحو مائتي شخص زادت إلى ألف أو ألف وخمسمائة شخص في الوقت الحاضر، وبالمثل كانت حمولة قطارات البضائع بضعة مئات من الأطنان في البداية، بينما تصل الآن إلى ما بين 1500 و2000 من الأطنان. وفي الولايات المتحدة قطارات بضائع تصل حمولتها إلى ثمانية آلاف طن! أما سرعة القطار فقد زادت من 40 كيلومترا في الساعة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إلى متوسط يتراوح بين 90 و110كلم في الساعة في الوقت الراهن. وفي الولايات المتحدة قطارات تسير بسرعات أكبر بكثير، تصل في متوسطها 130-150كلم. وقد كان هذا التقدم نتيجة تطور آلة الدفع في القاطرة من البخار إلى الديزل.
وقد ساعد استخدام الطاقة الكهربائية في الدفع على زيادة سرعة القطارات إلى سرعات تكاد تكون خيالية بالنسبة للنقل على سطح الأرض، وأسرع قطار عامل على الأرض الآن هو خط طوكيو-أوزاكا المسمى خط أكبريس توكايدو
Tokaido ، الذي تبلغ متوسط سرعته 185كلم في الساعة.
وقد سجل هذا الخط - في التجارب - سرعة بلغت 240كلم/ساعة! وسجل خط نيويورك واشنطن سرعة متوسطها 175كلم/ساعة، بينما سجلت قاطرات كهربائية أمريكية من هذا النوع سرعة بلغت 250كلم في التجارب. وفي فرنسا يبلغ متوسط سرعة القطار بين مرسيليا وباريس 120كلم، وسجلت أقصى سرعة على قطاع من خط تولوز -باريس عام 1967، وقد بلغت مائتي كيلومتر في الساعة.
وليست هذه السرعات التجريبية هي الحد الأقصى لتخيل الإنسان؛ ففي أمريكا وكندا وغيرهما محاولات لاستخدام قاطرات نفاثة ذات سرعات أعلى مما هو مسجل الآن.
لكن يجب أن يكون معروفا أن السرعات العالية ليست اقتصادية، بل تكلف كثيرا في استهلاك الطاقة، وتحتاج إلى خطوط حديدية خاصة؛ لأنه لا يمكن تشغيل القطارات السريعة والبطيئة معا على خطوط واحدة. كما أنها ليست اقتصادية؛ لأنها تقتضي مسافات طويلة كي تبرر الطاقة الهائلة التي تستهلكها، بينما غالبية الناس يركبون مسافات محدودة خلال موسم العمل السنوي.
وعلى العموم فإن التطور الهائل في السرعة لم يكن في المستطاع تحقيقه لولا أنه سار جنبا إلى جنب مع تقدم مماثل في صلابة القضبان والتحكم المركزي الكهربائي في إشارات المرور الخاصة بالقطارات، وفي تحويلات الخطوط، والرقابة الدقيقة على المسارات وتنظيم أوقات السير بدقة متناهية، وتقوية أجهزة إيقاف القطار (الكابحات أو الفرامل). (ج) التنسيق العلمي بين الوقت والنقل الحديدي
خلاصة القول أن السكك الحديدية قد نجحت في تقصير زمن الانتقال من مكان إلى آخر بصورة مرتبطة باحتياجات العصر الحالي؛ فقد كانت أقصى سرعة سجلت في الماضي البعيد للانتقال على الطرق البرية على النحو التالي: 145 كيلومترا في العصر الروماني (باستخدام الفرسان للطرق الرومانية المعروفة) و240كلم في اليوم في القرن التاسع عشر (سفر متواصل بعربات الخيل لمدة 24 ساعة)، ولكن متوسط السرعات في الماضي كانت عادة نصف هذه السرعات القصوى؛ أي حوالي 120كلم في اليوم الواحد بعربات الخيل. وفي مقابل ذلك كان يمكن قطع مسافة 1200كلم في اليوم بواسطة السكك الحديدية خلال أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية، وحوالي نصف هذه المسافة في الطرق الحديدية القليلة الكفاءة؛ مثل خط سيبيريا عند بداية إنشائه. وفي الوقت الحاضر يمكن للقطارات التي تسير بالديزل أو الكهرباء أن تقطع في المتوسط حوالي 2500 كيلومتر أو أكثر في اليوم الواحد.
وليست السرعة في صورتها المجردة هي كل ما يهمنا إبرازه، بل إن تنظيم القطارات في مواعيد مرتبطة باحتياجات الإنسان هي العنصر الأكثر أهمية في النقل الحديدي. وبعبارة أخرى إن نجاح السكك الحديدية الحديثة في الاستجابة إلى متطلبات العصر الحديث هي أكبر منجزاتها. وأكبر دليل على ذلك تنظيم مواعيد قطارات معينة بين مدن تشتد بينها الحركة، بحيث يتمكن رجل الأعمال من قضاء أعماله والعودة إلى بيته في اليوم نفسه. ومن الأمثلة على ذلك قطار باريس-ستراسبورج: يترك القطار باريس في الساعة الثامنة صباحا، ويقطع المسافة (500كلم) في أربع ساعات وخمس دقائق؛ أي إن رجل الأعمال يمكن أن يصل ظهرا في ستراسبورج ويقوم بأعماله مع الشركات المعنية في فترة العمل التي تبدأ بعد فترة الغداء مباشرة، ثم يركب قطار السابعة مساء ويصل باريس الحادية عشرة مساء. وفي مثل هذه القطارات أجهزة تليفونية تمكن رجال الأعمال من الاتصال بمكاتبهم أو الشركات التي يتفاوضون معها، أو الاتصال بمنازلهم، وأكثر من ذلك فبعض هذه القطارات مزودة بمحل صغير للحلاقة، ومكاتب وسكرتارية يمكن أن تستأجر خلال الرحلة لإنجاز المكاتبات الهامة والتقارير العاجلة بلغات مختلفة.
وقد عممت «قطارات الأعمال» هذه في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من البلاد المتقدمة. وبطبيعة الحال فإن تسيير مثل هذه القطارات يقتضي دراسة مضنية لأرقام الحركة بين مدن معينة، ونوعية المتنقلين، حتى يمكن إعداد قطار واحد أو أكثر في اليوم الواحد، استجابة لكثافة الحركة. ولا تقتصر هذه الدراسة على حركة المسافرين بالقطارات، بل تمتد لتشمل حركة السفر اليومية على الخطوط الجوية أو الطرق البرية، وذلك لكي تستوعب وتجتذب أكبر عدد من المتنقلين، وبالفعل فإن خطوط الطيران الداخلي في بريطانيا وفرنسا بدأت تشكو من منافسة «قطارات الأعمال» التي سحبت عددا من المترددين عليها من قبل.
ولا شك في أن هذا التنظيم العلمي لاحتياجات النقل السريع في العالم المتقدم يعكس حقيقة وهدفا تسعى السكك الحديدية إلى تحقيقه. أما الحقيقة فهي أن السرعة التي تحققت في قوة القاطرات قد مكنت النقل الحديدي من التوفيق بين متطلبات المتنقلين وبين استخدامهم للقطار. وأما الهدف فهو أن السكك الحديدية، بمزيد من التحسينات في كافة وسائل الراحة والخدمات، دخلت من جديد ميدان المنافسة مع السيارة والطائرة. ولا شك أن السكك الحديدية تمتلك مميزات كبيرة تمكنها من تحقيق نجاح مرتقب في ميدان نقل الأشخاص في المسافات المتوسطة (500-1000كلم)، فالطائرة لا تزال متفوقة في مجال النقل على مسافات طويلة، والسيارة أقدر من القطار في المسافات القصيرة، والميزة الأساسية للسكك الحديدية هي الاقتصاد في الوقود وتكلفة التشغيل بالنسبة للعدد الكبير من الأشخاص الذين يقلهم القطار، مقارنا بالسيارة والطائرة. (د) التكنيك الحديث ونقل البضائع
وإذا كان النقل الحديدي بدأ ينظم نفسه ويعاود الكرة في ميدان نقل الأشخاص، بعد أن كانت السيارة والطائرة قد سحبت منه أفضليته، فإن ميدان نقل السلع والبضائع لا زال - مع بعض التحفظات في أقاليم النقل النهري - حكرا على النقل الحديدي في المسافات المتوسطة والطويلة معا. وفي الحقيقة فإن نقل البضائع هو جوهر وجود السكك الحديدية؛ فهو مسبب ابتكارها ومحرك تطورها، وهو في اختصار الخلفية التي تقوم عليها كينونة النقل الحديدي.
إن نقل البضائع بواسطة السكك الحديدية ظل فترة طويلة جدا (بالقياس إلى عصر السكك الحديدية) يستخدم عربات البضاعة المعروفة: وهي إما رصيف متحرك على العجلات الحديدية توضع فوقه البضائع، وإما عربات مقفلة بأكملها، أو ذات جوانب بينما سقفها مفتوح، لنقل الخامات المعدنية والصناعية والنباتية ذات الأحجام الكبيرة، أو لنقل الحيوانات، وإما عربات «الفنطاس» لنقل المواد السائلة كالبترول، وقد تطور النقل البري على هذه الأسس جميعا، فأصبحنا نجد شاحنات ذات مواصفات مختلفة ذات كفاءة في النقل. وقد أدى هذا إلى منافسة قوية للنقل الحديدي، خاصة وأن النقل البري أكثر مرونة وأسرع وأقل تكلفة من حيث عدم تعدد وسائل الشحن؛ ذلك لأن النقل البري هو الذي ينطبق عليه شعار «من الباب إلى الباب» خير انطباق.
لكن النقل الحديدي ظل متفوقا على النقل البري في مجالين؛ أولهما أنه في مجموعه أرخص في التشغيل من الشاحنات؛ نظرا للحجم الكبير الذي يحمله، وثانيهما أنه أقدر من الشاحنة على المنافسة في المسافات الطويلة. وقد قدر الحد الأدنى الاقتصادي لنقل البضائع بالسكك الحديدية بمسافة 300 كيلومتر.
وبرغم ذلك فإن مشكلة «نهاية الخط» ظلت تسيطر على نقل البضائع بواسطة السكك الحديدية؛ فالبضائع يجب أن تشحن وتفرغ، وتتكرر العملية في بداية ونهاية الطريق الحديدي. ولتقليل الفاقد والتالف في عملية التفريغ والشحن المتكرر، ابتكرت هيئة السكك الحديدية البريطانية نظام «الصندقة» (من الصندوق الكبير
Container )، ونقلت السكك الحديدية الأخرى عنها هذا النظام، وهذا النظام عبارة عن تعليب البضائع المتجهة إلى وجهة واحدة في صناديق خشبية ضخمة ذات أبعاد وأحجام مصنفة، توضع على عربة السكك الحديدية أو ترفع عنها آليا بواسطة ونش متحرك على قضبان. وقد وفر نظام الصندقة كثيرا من الجهد؛ فالسيارة التي تأتي بالبضائع في مثل هذه الصناديق تتقدم حتى تكون قرب أو بمحاذاة عربة القطار؛ ومن ثم يقوم «الونش» برفع الصندوق ووضعه على عربة القطار، وبذلك فإن عدد الأيدي العاملة في التفريغ والشحن نقص إلى الحد الأدنى، ونقص الوقت اللازم للتفريغ والشحن إلى حد مذهل، ولم يعد هناك فاقد أو تالف في البضائع بالمقارنة بنظام الطرود الصغيرة الذي كان سائدا من قبل. ولم يقتصر الأمر على كل هذه المحاسن، بل تعداه إلى تقليل قيمة التأمينات المدفوعة على نقليات السكك الحديدية؛ لأن الفاقد بهذه الطريقة لم يعد ممكنا، إلا في حالة الحوادث الجسمية كالاصطدام أو انقلاب القطار، ولم يعد بوسع لصوص القطارات إسقاط الطرود الصغيرة أثناء سير القطارات؛ فلقد أصبح غير ممكن أن يحركوا هذه العبوات الضخمة.
لكن عبء عملية الصندقة قد وقع على عاتق شركات الشحن التي تقوم بتجميع البضائع المرسلة في وجهة واحدة داخل هذه الصناديق الكبيرة، وعلى هذه الشركات أيضا تفريع الصناديق وتوزيع الطرود إلى نهاياتها المرغوبة.
وقد ساعد نظام الصندقة على سرعة عمليات الشحن والتفريغ في النقل البحري، بل والجوي أيضا، وتقليل الفاقد أثناء عملية النقل بين السكك الحديدية والسفن، وبالرغم من الفوائد التي جناها النقل بواسطة الصناديق إلا أن هناك بعض مشاكل مرتبطة بتوحيد أحجام الصناديق،
4
وطريقة رفعها بالأوناش؛ مثال ذلك هل يحمل الصندوق من أعلى أم من أسفل؟ ولا شك أن الرفع من أعلى أسهل وأسرع، ولكن ذلك يقتضي أن يكون قاع الصندوق قويا ليحتمل الوزن الذي بداخله. ويمكن التغلب على هذه المشكلة بإضافة إطارات حديدية حول الصندوق، ولكن هذه الإطارات تتعرض للصدأ خلال عمليات النقل البحري، وقد يمكن صناعة الإطارات من الصلب، لكنه مكلف؛ ولهذا توضع إطارات حديدية مغطاة بالألمنيوم.
وقد تعددت أنواع الصناديق حسب نوع البضائع التي تحملها؛ فهناك صناديق خاصة للثلاجات (البرادات) واللحوم، وأنواع أخرى ذات تنظيم داخلي لحمل السلع الزجاجية أو الفخاريات، أو الدراجات. وهناك صناديق مفتوحة لنقل طوب البناء بأشكاله المختلفة، وقرميد أسقف البيوت، وصناديق أخرى مجهزة بضغط الهواء لنقل السلع المسحوقة (البودرة). وهذه تمكن من ضغط المسحوق أو سحبه أثناء عمليات ملء أو تفريغ الصندوق.
ونظرا لتوحيد القياسات وإنتاج السلع وتبادلها ونقلها بكثرة، فإن فكرة الصندقة، وإن كانت ناجحة تماما، إلا أنها لم تعد كافية في المناطق ذات الكثافة العالية في النقل السلعي؛ فالصندقة تتضمن تأخيرا في عمليات ترتيب السلع داخل الصندوق في شركة الشحن من أجل تجميع السلع المنقولة في الاتجاه الواحد، لهذا فإن عدة تطبيقات جديدة في مجال نقل السلع قد لاقت نجاحا كبيرا في عدد من الدول الصناعية.
ففي النقل الحديدي في أمريكا الشمالية أصبحت السلع تجمع في شاحنات مجرورة، ثم ترفع تلك الشاحنات بحمولتها كما هي فوق عربة السكة الحديدية بعد فكها من الجرار. وعلى هذا النحو أصبحت عربات السكك الحديدية عبارة عن رصيف حديدي يجري على عجلاته، يحمل فوقه شاحنة كاملة بعجلاتها، وتسمى هذه الطريقة النقل على الظهر
.
وفي فرنسا أدخلت تعديلات على هذه الطريقة بمقتضاها تدخل عجلات الشاحنة في جيوب معدة على سطح عربة القطار، وذلك لتقليل ارتفاع الشاحنة بما يتفق مع الأنفاق التي تعبرها الخطوط الحديدية أو الجسور التي تمر من تحتها، وتسمى هذه الطريقة نظام الكانجرو
Kangarou System
تشبيها لها بحيوان الكانجرو الأسترالي الذي يوجد في بطنه كيس أو جيب يحمل فيه الصغار. وأهم مزايا طريقة الكانجرو عدم الحاجة إلى استخدام الونش كما يحدث في الطريقة الأمريكية؛ فالجرار يصعد بالشاحنة فوق ظهر العربة الحديدية ثم يتركها، وفي محطة الوصول يستقبلها جرار آخر تربط إليه وينطلق بها إلى وجهتها. وفي هذا أيضا مزية السرعة وتقليل إشغال عدد من الأيدي في عملية النقل الحديدي (انظر القسم المصور، الفصل الثامن من هذا الكتاب).
وقد ابتكر الناقلون في السكك الحديدية أفكارا أخرى لأنواع معينة من السلع ذات الحجم الكبير والتي لا يسهل صندقتها، كالفحم وخام الحديد والأسمنت، والطين الخاص بعمل الفخاريات والصيني، وذلك بشرط أن يكون هناك استمرار يومي لشحن مثل هذه السلع من مكان ثابت إلى آخر: مثلا من المناجم إلى المصانع. ومن أهم المبتكرات في هذا الصدد قطار بضاعة يتكون من عدد ثابت من عربات النقل ذات مواصفات واحدة، لا يفك رباطها بين بعضها البعض، وتمر العربات - في حالة الفحم وخام الحديد - تحت أنبوب يفرغ شحنة محدودة داخل كل عربة، ثم يقلع القطار إلى وجهته. وهناك تفتح العربة من أسفل أوتوماتيكيا لتفرغ حمولتها في فتحات خاصة بعدد العربات، ثم يكمل القطار دورته متجها إلى المنجم. وهكذا يمكن للقطار أن يقوم بعدة رحلات يومية دون توقف يذكر، ودون تدخل كبير من جانب اليد البشرية، ودون فاقد أو تالف يذكر. وقد قدرت هيئة السكك الحديدية البريطانية أنه بهذه الطريقة التي تسمى القطار الدائري المرح
Merry-go-round
يمكن نقل خمسة ملايين طن من الفحم في السنة باستخدام 205 من العربات، بدلا من استخدام 2000 عربة بالطريقة العادية.
وهناك أنواع مختلفة من العربات موجهة لخدمة سلع خاصة، لمزيد من المحافظة عليها؛ مثال ذلك العربات التي تنقل صفائح وملفات الصلب الثقيلة، المجهزة بغطاء حديدي منزلق للمحافظة على الملفات من عوامل الجو.
وإذا كان النقل الحديدي قد أصبح في إمكانه نقل الشاحنات فوق ظهره فإن العكس قد حدث أيضا؛ فقد أصبح في الإمكان نقل العربات الحديدية التي تنقل السوائل، كالبترول وبعض المواد الكيميائية، فوق مجرورات كبيرة تربط إلى جرار ضخم يتجه بها على الطريق البري صوب وجهتها، دون الحاجة إلى تفريغ الحمولة مرتين: الأولى عند محطة السكة الحديدية، والثانية عند المصنع أو المكان المتجهة إليه هذه الحمولة. ومعنى هذا اختصار عمليات النقل إلى النصف، وتوفير الوقت بنسبة كبيرة. ولمزيد من الوصف راجع بعض هذه المستحدثات في الفصل الثامن القسم المصور من هذا الكتاب.
هذا ولا يمكننا تتبع جميع أشكال الاستحداثات التي أدخلتها السكك الحديدية في العالم لمواجهة مشكلات النقل، ومحاولة استقطاب النقل السلعي مرة أخرى، فإن تتبعها قد يخرجنا عن موضوعنا الأساسي بعض الشيء. ويمكننا أن نقول: إنها كلها تنطوي على محاولات لتطبيق مبدأ السرعة والأمان ورخص الأجور. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك أن التحسينات تمتد إلى القضبان ونظام الإشارات الأوتوماتيكية لمزيد من الأمان. (2-7) متاعب النقل الحديدي (أ) العمالة البشرية
برغم التحسينات المذكورة في النقل الحديدي، فإن هناك مشكلات مستعصية سببها الرئيسي العامل البشري وليس العنصر المادي، وهذا يثبت من جديد أن التقدم التكنولوجي أسرع بكثير من التقدم البشري عامة؛ وذلك لأن العلاقات المادية بسيطة بالقياس إلى العلاقات البشرية والحضارية الشديدة التعقيد والتشابك والتداخل. وعلى هذا فإن التقدم الذي أحرزه تكنيك النقل يعوقه في أحيان كثيرة إضرابات عمال الشحن أو عمال السكك الحديدية أو عمال صناعة السكك الحديدية. ويؤدي هذا إلى تكدس البضائع، سواء كانت طرودا عادية، أو صناديق موحدة القياس، أو شاحنات مختلفة الأنواع. ويترتب على ذلك أن جميع المكاسب التي يجنيها التقدم التكنولوجي، يجبها العامل البشري في علاقاته المتفاعلة داخل جميع المستويات الاجتماعية في المجتمع الواحد أو المجتمع الدولي.
وإلى جانب ذلك، فإن للنقل الحديدي عيبا يختص به بالمقارنة بالنقل البري، ذلك هو أنه لا توجد تلك العلاقة المباشرة التي تتضمنها المواجهة الشخصية بين العملاء من الشاحنين وبين صاحب أو مدير شركة للشحن البري، فهيئات السكك الحديدية عادة أجهزة إدارية كبيرة تنتفي فيها المسئولية المباشرة بين الشاحن وإدارة النقل السلعي الحديدي؛ وبالتالي يصعب تحديد المسئولية في التأخير والتلف أو الفاقد. (ب) النقل الحديدي في سوق المنافسة
على الرغم من هذه المصاعب التي يسببها العامل البشري في النقل الحديدي، نجد أن السكك الحديدية عامة قد نجحت في تثبيت أقدامها في نقل السلع، في مواجهة منافسة متزايدة من جانب كافة وسائل النقل الأرضية الأخرى، بما في ذلك النقل المائي الداخلي والنقل الجوي. ولكن الصورة غير ذلك تماما في نقل الأشخاص؛ ففي هذا المضمار تفقد السكك الحديدية أرضا كثيرة، وخاصة في مواجهة الطريق البري والجوي.
النقل الحديدي في سوق المنافسة؛ مثال من الولايات المتحدة
جدول 6-1: أولا: في مجال النقل السلعي (بليون طن/ميل).
السكك الحديدية
النقل النهري
النقل البري
أنابيب البترول
النقل الجوي
السنة
طن/ميل ٪
طن/ميل ٪
طن/ميل ٪
طن/ميل ٪
طن/ميل ٪
1940
412
63
118
18
62
9
59
9
0,014
0,002
1950
628
57
163
15
172
16
129
12
0,318
0,03
1960
595
45
220
17
285
21
228
17
0,780
0,06
1967
742
42
274
15
388
22
391
21
2,600
0,15
جدول 6-2: ثانيا: في مجال نقل الأشخاص (بليون شخص/ميل).
السنة
السكك الحديدية
النقل النهري
النقل البري *
مترو المدن †
النقل الجوي
شخص/ميل ٪
شخص/ميل ٪
شخص/ميل ٪
شخص/ميل ٪
شخص/ميل ٪
1939
23
65
1,5
4,3
9
26
0,9
2,7
0,6
2
1949
35
53
1,4
2,1
22
34
0,8
1,3
6,7
10
1969
13
13
3,3
2,7
25
20
85,5
67 *
ملاحظات: المقصود النقل «بالباصات» فقط، وبذلك لا يشتمل على السيارات الخاصة. †
المقصود أنواع النقل الحديدي الكهربائي داخل نطاقات وحدود المدن فقط. وقد أدمج في السكك الحديدية في أرقام 1969. الأرقام نقلا عن (مع بعض التعديل في الكسور العشرية)
Information Please Almanac, 1970, P. 185 .
ويمكننا أن نلخص نتائج الجدولين على النحو التالي:
أولا:
في مجال النقل السلعي نجد زيادة كبيرة في حمولة كل وسائل النقل، ولا يزال النقل الحديدي مسيطرا بحصة تزيد عن خمسي الحمولة السلعية. لكن هناك اتجاها إلى التناقص في نسبته المئوية بالقياس إلى ارتفاع متزايد في حصة النقل البري والأنبوبي، وتذبذب واضح في حصة النقل النهري (الذي يشتمل على النقل في البحيرات العظمى). والخلاصة أنه في نحو ربع قرن كانت نسبة الزيادة في هذه الوسائل على النحو التالي (باعتبار سنة 1940 سنة الأساس = 100): السكك الحديدية 180، النقل النهري 232، النقل البري 626، النقل الأنبوبي 612، النقل الجوي 18514.
رغم أن نمو حمولة السكك الحديدية قد سجلت أقل نسبة، إلا أنه يجب علينا أن ندرك أن هناك حدودا للنمو بالنسبة لشبكة الخطوط الحديدية، وإلا أصبحت خاسرة اقتصاديا، وأن التحسينات التكنولوجية التي طرأت هي المسئولة عن هذا النمو في الحمولة؛ لأن أطوال الخطوط الحديدية لم تزد في تلك الفترة.
ثانيا:
في مجال نقل الأشخاص نلحظ المنافسة القوية من جانب النقل الجوي والبري. وقد كانت السكك الحديدية تساهم بنقل نحو ثلثي المسافرين في عام 1939، وارتفعت هذه المساهمة إلى 74٪ عام 1944. ولا شك أن ذلك الارتفاع كان نتيجة الحرب العالمية الثانية، واتجاه عمليات النقل الجوي والبري للأغراض العسكرية. ومنذ نهاية الحرب أدى النمو السريع في إنتاج السيارات والطائرات، وافتتاح طرق برية سريعة وإنشاء شبكة نقل جوي داخلية كثيفة، إلى جذب المسافرين إلى النقل الجوي والبري لتفوقهما على النقل الحديدي بالمرونة (الطريق البري) والسرعة (الطريق الجوي).
ومما لا شك فيه أن عظم مساحة الولايات المتحدة وتباعد مراكزها الإنتاجية والحيوية أعطى الطيران الداخلي مجالا مثاليا لممارسة نشاطه بنجاح في وجه وسائل النقل الأرضية، وهذا هو ما يحدث أيضا في الدول ذات المساحات الشاسعة، كالاتحاد السوفييتي وأستراليا وكندا، مع فوارق التقدم التكنيكي ومنافسة شركات الطيران في الولايات المتحدة بالقياس إلى الدول الأخرى.
أما النقل البري فقد نجح في اجتذاب المسافرين إليه في نوعين من المناطق: أولهما منطقة الكثافة المدينية الهائلة في شرق الولايات المتحدة، والثانية في المناطق الريفية والرعوية الواسعة التي تقل فيها خدمات السكك الحديدية (راجع الشكل
3-1 [والخرائط]
5
3-1 و6-9).
ونتيجة لهذا فإننا نجد أن السكك الحديدية كانت الوسيلة الوحيدة، من بين وسائل النقل المذكورة، التي سجلت نقصا في خدمة نقل الأشخاص خلال السنوات خلال 1939-1969. فإذا اعتبرنا أرقام 1939 = 100، فإننا نجد أرقام 1969 كانت على النحو التالي:
السكك الحديدية 56,5٪.
النقل المائي الداخلي (النهري والبحيرات) 220٪.
النقل البري العام (الباصات) 273٪.
النقل الجوي 12503٪.
وعلى الرغم من نجاح وسائل النقل الأخرى في جذب المسافرين عن السكك الحديدية، فإن الإحصاءات تؤكد أن القطار هو أكثر أمانا وأن السيارة هي أكثر وسائل نقل الأشخاص تعرضا للحوادث، ولا يحتاج الجدول التالي إلى إبراز أكثر دلالة لهذه الحقيقة:
جدول 6-3: حوادث السير في الولايات المتحدة.
وسيلة النقل
مليون شخص/ميل
عدد الوفيات
عدد الوفيات لكل مليون شخص/ميل
1968
1966
1968
سيارات خاصة وتاكسي
1530000
36500
2,40
2,40
سيارات خاصة على الطرق الرئيسية
42000
530
1,20
1,30
الباصات
66600
160
0,22
0,24
السكك الحديدية
13100
13
0,12
0,10
الطيران الداخلي
86900
258
0,24
0,30 (ج) القضبان الحديدية ومقاييسها
تشكل القضبان الحديدية الطريق الخاص للنقل الحديدي، ومنها استمد هذا النوع من النقل اسمه، ويتكون الطريق الحديدي من خطين متوازيين من القضبان الحديدية مثبتة إلى الأرض بواسطة عوارض خشبية (أو حديدية أو من الخرسانة المسلحة حسب ظروف البيئية وتآكل العوارض)، وتسمى هذه العوارض «فلنكات»، وتمهد الأرض جيدا، بحيث لا تكون هناك انحدارات كبيرة، ثم تثبت الفلنكات بطرق وأعداد مختلفة حسب سرعة ووزن القطارات، وعلى هذه الفلنكات تثبت القضبان الحديدية.
ونظرا لأن هذا الطريق الحديدي الخاص هو الأساس الذي يقوم عليه النقل الحديدي، فإن الاهتمام الذي يوجه إلى صيانته بالغ الأهمية في السكك الحديدية، وهو في الحقيقة الشغل الشاغل لهيئات السكك الحديدية: هناك دائما إصلاحات وتغيرات وتفتيش مستمر على مدى ثبات الفلنكات والقضبان، منعا للاهتزازات أو الانزلاق وحوادث الخروج عن الخط والانقلاب. وبعبارة أخرى فإن تأمين الخط الحديدي هو أساس الأمان النسبي الذي يتمتع به النقل الحديدي بالمقارنة إلى وسائل النقل الأرضية الأخرى.
وكل التحسينات التي طرأت على النقل الحديدي (السرعة وثقل القاطرات وعربات الركاب أو البضاعة) ما كان لها أن تتم لولا حدوث تحسينات كثيرة مماثلة في القضبان والطريق الحديدي؛ ففي بداية عصر السكك الحديدية كان وزن المتر الواحد من القضيب الحديدي 20 كيلوجراما، وأصبح متوسط وزنه الآن 50 كيلوجراما، ولمضاعفة مقاومة القضبان للنقل والسرعة ارتفع وزن المتر في الولايات المتحدة إلى ما بين 65 و80 كيلوجراما. لكن مثل هذه القضبان الثقيلة تكلف غالبا، ومن ثم فإن هناك محاولات عديدة في أوروبا لتقليل التكلفة بابتكارات جديدة؛ مثال ذلك استخدام قضبان طويلة مثبتة إلى العوارض بمواد مرنة (بلاستيك) تحيط بطبقة من الصلب لزيادة تقويته، وتتكون قاعدة القضبان من الكاوتشوك أو البلاستيك، ولنعومة السير تلحم القضبان إلى بعضها لأطوال مائة متر أو أكثر مع جعل الفواصل القليلة مشطوفة بزوايا متقابلة في طرف القضبان لكي يتمدد هذا القضيب الطويل أو ينكمش دون ترك فاصل يزعج السير.
وإلى جانب ذلك فإن الطرق الحديدية لا تتميز باتساع واحد بين القضيبين، وفي العالم ثلاثة مقاييس، هي: (1)
السكة الضيقة، وهي التي يبلغ اتساع قضبانها 3 أقدام و6 بوصات؛ أي 1,06 متر. (2)
السكة العادية، ويبلغ اتساع قضبانها 4 أقدام و8,5 بوصات، أي 1,43 متر. (3)
السكة العريضة التي يبلغ اتساع القضبان فيها 5 أقدام و3 بوصات، أي 1,6 متر.
وقد اتخذت الدول واحدا من هذه المقاييس بناء على ظروفها وخلفيات الاستثمار الحكومي والأهلي. والملاحظ أن كثيرا من المستعمرات البريطانية في أفريقيا قد أنشئت فيها خطوط حديدية ضيقة، وهو ما يعوق النقل السريع. ولكن معظم أجزاء العالم تستخدم المقياس العادي، بينما يستخدم الاتحاد السوفييتي المقياس العريض، وأيا كان المقياس الذي تستخدمه الدولة، فإن ذلك لا يعني شيئا إلا إذا كان هناك مقياسان مختلفان، ففي هذه الحالة يصبح النقل الحديدي عملية مكلفة؛ لما يتضمنه من تفريغ وشحن عند نقط التقاء الخطوط ذات المقاييس المختلفة. وقد كان ذلك من بين معوقات النقل الحديدي في مصر، حينما كانت الخطوط الرئيسية الحكومية (مقياس عادي) تلتقي بخطوط الشركات الأهلية (سكة ضيقة). وقد ألغت مصر هذه السكك الضيقة بعد انتهاء امتيازاتها.
ويمثل تعدد المقاييس في أستراليا حالة لا مثيل لها، وتؤدي فعلا إلى إقامة عقبات لا داعي لها أمام النقل الحديدي، ومثل هذه الحاجة نجدها بصورة مخفضة في الهند والبرازيل.
ففي إقليمي أستراليا الغربية وكوينزلاند نجد السكة الحديد الضيقة، وفي إقليم نيوساوث ويلز السكة الحديد العادية المقياس، وفي إقليمي فكتوريا وأستراليا الجنوبية تسود السكة الحديدية العريضة؛ وسبب الاختلاف راجع إلى أن كل إقليم كان يبني خطوطه الحديدية في وقت مغاير لغيره، وفي غياب خطة مركزية عامة، وعدم وجود سلطة مركزية ذات نفوذ، وبسبب هذا الاختلاف في مقاييس الخطوط الحديدية الأسترالية تحدث إضاعة كبيرة للوقت وتلف للبضائع في النقل الحديدي؛ فالقطار يستغرق 14 يوما ليقطع الرحلة من مدينة سدني في نيوساوث ويلز إلى مدينة بيرث في أستراليا؛ نظرا لتغير مقياس الطريق الحديدي ثلاث مرات: المقياس العادي في نيوساوث ويلز، والعريض في فكتوريا وأستراليا الجنوبية، والضيق في أستراليا الغربية، بينما يمكن أن تستغرق هذه الرحلة خمسة أيام فقط لو كان هناك مقياس حديدي موحد. وقد شعرت أستراليا بضرورة توحيد القياس. ومنذ عام 1961 بدأت تنفيذ خطة التوحيد بالنسبة للخطوط التي تربط عواصم الأقاليم السابق ذكرها، وفعلا تم تنفيذ أول مرحلة في عام 1968، حينما حول الخط الضيق إلى المقياس العادي بين مدينتي بيرث وكالجورلي في أستراليا الغربية. (2-8) أنماط الخطوط الحديدية
خريطة 6-7: أداء السكك الحديدية الألمانية.
الأهمية النسبية للحركة على الخطوط الحديدية وتأثير الانقسام السياسي لألمانيا على انفصال الحركة الثقيلة؛ نتيجة تكوين مراكز اقتصادية جديدة لها توجيه مخالف في كل من ألمانيا الغربية والشرقية.
إن أطوال الخطوط الحديدية ومدى كثافة شبكة النقل الحديدي في معظم الأقاليم هي نتاج تفاعل أربعة عناصر، هي: (1)
درجة التقدم في مضمار الحضارة الصناعية بمعناها الواسع؛ أي الأخذ بمبدأ الإنتاج للتسويق. (2)
كثافة السكان. (3)
درجة التقدم في استغلال الموارد الطبيعية. (4)
شكل التضاريس.
وتنتج هذه العناصر معا أشكالا مختلفة من الشبكات الحديدية؛ فالعناصر الثلاثة الأولى تلعب دورها واضحا في تكوين شبكة كثيفة، كما هو الحال في بريطانيا وشرق الولايات المتحدة وشمال فرنسا ونطاق الراين الألماني وشمال إيطاليا، من بين مناطق أخرى كثيرة. وتحدد أشكال التضاريس شبكة الخطوط بمسارات محددة في المناطق الجبلية أو بشبكة واسعة في مناطق السهول. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك الخطوط الحديدية المتحددة المسارات في جنوب فرنسا، والمنتشرة في صورة شبكة في السهل الفرنسي الشمالي (انظر الخريطة 6-9).
وتحدد مناطق الإنتاج اتجاه الخطوط الحديدية بينها وبين موانئ التصدير، ويتضح هذا في سهول البمبا في الأرجنتين، كما توضحه شبكة الخطوط الحديدية في أستراليا وجنوب أفريقيا وزائيري ونيجيريا بوضوح شديد (انظر الخريطة 3-6، 6-10).
وليست الكثافة السكانية وحدها دافعا لوجود شبكة حديدية؛ ففي الصين أو جاوة نجد خطوطا حديدية قليلة، وذلك بالرغم من أن النقل الحديدي رخيص. لكن العبرة في مد الخطوط الحديدية بكثرة تنقل الأفراد والبضائع، وهما شرطان لم يكن لهما وجود واضح في الصين إلى فترة غير بعيدة.
ويمكننا أن نضيف إلى العناصر الأربعة السابقة عنصرا خامسا يتدخل بوضوح في مدى كثافة الحركة على الخطوط والشبكات الحديدية؛ ذلك هو الحدود السياسية القومية التي تؤدي بالضرورة إلى انخفاض كثافة الشبكة وحركة النقل معا. وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبل (انظر الخريطة رقم 3-3)، ويؤكد ذلك أيضا حالة ألمانيا بعد تقسيمها (انظر الخريطة 6-7).
خريطة 6-8: أداء السكك الحديدية الفرنسية ، نموذج لشبكة حديدية كثيفة.
وخلاصة القول أنه يمكننا أن نميز بين ثلاثة أنماط في الخطوط الحديدية، هي: الشبكة الكثيفة، والخطوط العابرة للقارات، وخطوط الاختراق.
أولا:
الشبكة الكثيفة
Net work : وهذه هي الشبكة الحديدية التي تخدم منطقة ازدحام سكاني وكثافة في الإنتاج والخدمات، كمنطقة لندن أو الرور، موسكو، أو بلجيكا. وتتكون الشبكة عادة من خطوط حديدية متقاربة، متوازية ومتقاطعة في نقاط عديدة لكي تقوم بخدمة المنطقة خدمة جيدة. وقد بلغت الشبكات المحلية درجة التشبع في عدد من المناطق أو الدول، مثل بلجيكا وألمانيا الغربية وبريطانيا وشمال شرق الولايات المتحدة. وفي مثل هذه الحالات لا نجد خطوطا حديدية جديدة، بل على العكس في بعض الحالات إلغاء لخطوط أو تقليل الخدمة على خطوط أخرى. وفي مقابل ذلك تبنى وصلات جديدة بين بعض الخطوط لتقصير المسافات في المناطق التي تشتد بها كثافة النقل السلعي أو نقل الأشخاص. ومثل هذه الوصلات الجديدة تبنى أيضا بغرض تبسيط شكل الشبكة، أو تحويل قطارات الحركة البطيئة أو السريعة عليها، حسب مقتضيات الحال.
والمناطق التي تتمتع بمثل هذه الشبكات الكثيفة هي بعينها المناطق التي تزيد فيها منافسة وسائل النقل الأخرى للسكك الحديدية؛ مما يسبب لها خسارة واضحة. وقد كان هذا هو السبب الذي دعا الكثيرين إلى الاعتقاد بأن السكك الحديدية قد فقدت عرشها، ولكن - وكما قلنا من قبل - فإن هذه المناطق، بما فيها من نشاطات بشرية متعددة، كانت قد دعت إلى نشأة شبكة حديدية كثيفة من قبل، وتدعو إلى جانبها كثافة وسائل النقل الأخرى للأسباب نفسها.
وقد ركزت هيئات النقل الحديدي جهودا خارقة، سبق أن ذكرنا طرفا منها، من أجل تحسين النقل الحديدي وتسهيله؛ لتمكين السكك الحديدية من الوقوف بنجاح أمام منافسة وسائل النقل الأخرى. وقد كان إقفال بعض الخطوط الحديدية أو تقليل الحركة عليها، من بين الوسائل التي اتبعتها هيئات السكك الحديدية لتحسين موقفها المنافس. وقد يؤخذ ذلك على أنه تراجع. لكنه في الواقع تراجع حكيم؛ فهو يقلل من خسائر الخطوط غير الناجحة، ويزيد من المقدرة على المنافسة في مناطق أخرى. وقد بلغت أطوال الخطوط الحديدية التي أقفلت في وجه الحركة في فرنسا 2000 كيلومتر عام 1938، ارتفعت إلى 15 ألف كيلومتر عام 1958. وفي بريطانيا أقفلت 6700 كيلومتر من الخطوط الحديدية بين أعوام 1949-1961، واقترحت تقارير لجنة بيتشنج
Beeching
عام 1963، مزيدا من إقفال الحركة على خطوط أخرى. وفي الولايات المتحدة بلغت أطوال السكك الحديدة القمة عام 1916 (425 ألف كم) انخفضت إلى 417كلم عام 1925، ثم إلى 393 ألف كم عام 1940 وإلى 355 ألف كم عام 1969. ومعنى ذلك أن 62 ألف كم من أطوال السكك الحديدية الأمريكية قد أغلقت في الفترة 1925-1969.
ثانيا:
الخطوط العابرة للقارات
Trans-continental : هذا هو النمط الثاني من الخطوط الحديدية، والهدف منه ربط الأراضي البعيدة المختلفة في تركيبها الاقتصادي والسكاني عبر مساحات ومسافات واسعة. وفي النهاية نجد الخطوط العابرة للقارات تربط بين محيطين أو بحرين متباعدين عبر دولة واحدة أو عدة دول. ومن أمثلة الخطوط العابرة للقارات داخل الدولة الواحدة، خط حديد سيبيريا الذي يربط أجزاء الاتحاد السوفييتي من المحيط الباسيفيكي إلى البحر البلطي. وإذا استكملنا شبكة الاتصال الحديدي بين الاتحاد السوفييتي والدول الأوروبية سوف نجد خطا حديديا عابرا للقارات يربط بين المحيط الباسيفيكي في الشرق والمحيط الأطلنطي في الغرب. وهناك أيضا مجموعة الخطوط العابرة لأمريكا الشمالية في كندا والولايات المتحدة (راجع خريطة 6-9)، وهي التي تربط المحيطين الأطلنطي والباسيفيكي في عدة نقاط.
وفي أستراليا نجد أيضا الخط العابر للدولة من الشرق إلى الغرب. وفي أمريكا الجنوبية يعبر الخط الأرجنتين وشيلي ليصل بين المحيطين الأطلنطي والباسيفيكي. وفي أفريقيا خط عابر معقد الاتجاهات، لكنه يربط بين المحيط الهندي (في نقطتين هما بيرا في موزمبيق، ودار السلام في تنزانيا) والمحيط الأطلنطي الجنوبي في نقطة واحدة هي بنجويلا-لوبيتو في أنجولا)، وبذلك يعبر هذا الخط أنجولا وزائيري وزامبيا، ومن هنا يتفرع إلى اتجاهين: القديم منهما يتجه جنوبا عبر زمبابوي (روديسيا) إلى موزمبيق، والحديث (في مرحلة الإنشاء) يتجه شمالا عبر زامبيا وتنزانيا إلى دار السلام.
خريطة 6-9: الخطوط الحديدية العابرة للولايات المتحدة.
وبرغم سبق أوروبا في استخدام النقل الحديدي، إلا أنه لا يوجد فيها خط عابر للقارة أنشئ بهذا الهدف، أو بناء على خطة مسبقة هدفها الوحيد عبور القارة، وبرغم ذلك فإن في أوروبا الآن خطوطا عابرة كثيرة، ربما أكثر من أي قارة أخرى. وقد جاء هذا نتيجة اقتراب الشبكات الحديدية القومية من بعضها؛ ومن ثم ربطت إلى بعضها، باتفاقات دولية؛ مثال ذلك الخط العابر من البحر المتوسط في إيطاليا إلى موانئ بحر الشمال في ألمانيا وهولندا، والذي حفرت من أجله عدة أنفاق طويلة في جبال الألب في سويسرا والنمسا.
وأشهر الخطوط العابرة في أوروبا قطار الشرق السريع الذي يمتد من إسطنبول ويمر ببلجراد وفيينا وشتوتجارت وباريس ولندن. وفي الحقيقة فإن الجزء الممتد من إسطنبول عبر بلغاريا ويوجسلافيا قد أنشئ بهدف سياسي، كجزء من خط برلين-بغداد ليربط بين ألمانيا والدولة العثمانية، ويهدف إلى تهديد مصالح بريطانيا في الخليج العربي والمحيط الهندي. وكان ذلك في بداية هذا القرن، حيث كان هناك تحالف بين ألمانيا وإمبراطورية النمسا والدولة العثمانية ضد الإمبراطوريتين الإنجليزية والفرنسية.
ومن بين الخطوط الأخرى العابرة لأوروبا إكسبريس الشمال بين باريس وموسكو مرورا ببرلين، وإكسبريس الجنوب بين مدريد وباريس، وإكسبريس البحر المتوسط-بريطانيا من مرسيليا إلى لندن مرورا بباريس وكاليه ودوفر إلى لندن، وإكسبريس روما-برلين مبتدئا بنابولي، ومرورا بفلورنسا وميلانو وإنسبروك وميونخ. ويمكننا أن نجد في أوروبا خطوطا عابرة كثيرة أخرى، ويجب أن نلاحظ وجود المعابر البحرية التي تكمل الطرق الحديدية إلى كل من بريطانيا والجزر الدانمركية والسويد.
فهناك عبارات بحرية تنقل القطار بحمولته من الموانئ الفرنسية (وخاصة كاليه) والبلجيكية (أوستند) والهولندية (روتردام) إلى الموانئ الإنجليزية المقابلة، وعبارات أخرى تعمل بانتظام بين كوبنهاجن وموانئ دانمركية أخرى إلى مالمو والموانئ السويدية المقابلة. وقد كانت هناك عبارات على مضيق البسفور. لكن الجسر الجديد الذي تم افتتاحه في أواخر عام 1973 فوق هذا المضيق قد سهل العبور الحديدي لأول مرة بين أوروبا وآسيا، ومما يسهل الانتقال بين الشبكات الحديدية القومية في الدول الأوروبية أنها كلها تتخذ مقياسا موحدا للقضبان الحديدية، وهو المقياس العالمي (4 قدم و8,5 بوصات).
ثالثا:
خطوط الاختراق
Intragressive, Iine of Penetration : وهذا النمط عبارة عن خط يمتد من ميناء ما صوب الداخل حيث توجد منطقة إنتاج أو تجمع سكاني. ومثل هذه الخطوط نادرة الظهور في القارة الأوروبية، باستثناء مناطق محدودة، مثل إقليم لابلند في شمال اسكندنافيا (نارفيك-كيرونا) والشمال السوفييتي الأوروبي (خط كوتلاس-أوختا-فركوتا-سالكهارد).
وقد كان نمط السكك الحديدية الفرنسية في 1850 من هذا النوع، حيث امتدت الخطوط الحديدية من باريس إلى 12 مدينة في صورة إشعاع نجمي مركزه العاصمة الفرنسية. وكانت توجد خطوط حديدية منعزلة بين متز ونانسي وبين ديجون وشالون، وبين روان
Raonne (على أعالي اللوار) وليون، وبين أليه
Alés
وأفنيون ومرسيليا.
وفي عام 1860 ظهر هذا النمط الإشاعي في النقل الحديدي الإنجليزي. وبطبيعة الحال كانت لندن مركز هذا الإشعاع، مع خطوط منعزلة في شمال إنجلترا، والسبب في ظهور خطوط الاختراق على هذا النحو في القرن الماضي في فرنسا وبريطانيا راجع إلى أن خطوط التجارة أقدم من الخطوط الحديدية، وأنه كان على هذه الخطوط أن تتبع حركة التجارة والنقل لكي تصبح استثمارات ناجحة اقتصاديا، وتثبت أنها قادرة على استيعاب النقل التجاري ومنافسة الطرق الأقدم.
وهذا الارتباط بطرق التجارة يفسر لنا سبب امتداد الخطوط الحديدية في نفس الاتجاه الذي كانت تسلكه القنوات والطرق النهرية الملاحية، مثال ذلك المحوران القديمان للنقل النهري في بريطانيا: المرزي-التيمز، والسفرن-الهمبر. ويتقاطع هذان المحوران عند برمنجهام، المركز الصناعي الكبير في بريطانيا.
أما في القارات الأخرى، فإن طرق الاختراق ظاهرة واضحة من دراسة أي خريطة للخطوط الحديدية، وخاصة في المناطق المدارية، حيث تظهر مناطق محدودة للنشاط الاقتصادي في الداخل، تحتاج إلى طريق حديدي يربطها بميناء التصدير، أو حيث تكون العاصمة في الداخل؛ ومن ثم يمتد منها خط حديدي إلى ميناء الدولة. والأمثلة كثيرة على خطوط الاختراق الحديدية في إثيوبيا وبرما وتايلاند وشمال أستراليا وبيرو والبرازيل.
خريطة 6-10: النقل في نيجيريا، نموذج لسيادة النقل الحديدي. يلاحظ أن الطرق الحديدية والنهرية لا تتنافس، بل كل يجري في مساره مكملا للآخر، والحال نفسه نجده بالنسبة للطرق البرية التي تتعامد على محور الخطوط الحديدية ، ونادرا ما تجري موازية لها، وبذلك فإن شبكة النقل النيجيرية عبارة عن محاور رئيسية تسيطر عليها الخطوط الحديدية. لاحظ أيضا أن الخطوط الحديدية مرتبطة في اتجاهاتها الرئيسية بين ميناءي التصدير في لاجوس وبورت هاركوت، وبين مناطق إنتاج الخامات الزراعية والتعدينية الموجهة للتصدير، وهي بذلك تمثل خطوط الاختراق أصدق تمثيل. مناطق النشاط الاقتصادي: (1) نطاق القطن والفول السوداني. (2) نطاق جديد في الشمال الشرقي تمتد إليه الخطوط الحديدية لأغراض استراتيجية في هذه المنطقة من الدولة، بالإضافة إلى الرغبة في التعمير السكاني والاقتصادي. (3) نطاق الكاكاو والقطن. (4) نطاق الأخشاب والمطاط. (5) نطاق نخيل الزيت. (6) منطقة التعدين في هضبة جوس (القصدير والكولمبايت). (7) منطقة الفحم (لجنايت) في إينوجو (8) منطقة إنتاج البترول الجديدة في دلتا النيجر. (2-9) ملكية الخطوط الحديدية
منذ بداية عصر السكك الحديدية اختلفت الدول في شكل ملكية الطرق الحديدية؛ ففي بريطانيا بدأ النقل الحديدي بشركات خاصة. وكذلك كان الحال في الولايات المتحدة. أما في القارة الأوروبية فقد كان الميل واضحا إلى امتلاك الدولة لهذه الوسيلة الجديدة من وسائل النقل؛ ففي فرنسا وبلجيكا وألمانيا أشرفت الدولة على الخطوط الحديدية، واشترت امتيازات الشركات الخاصة التي كان قد سمح لها بإقامة الخطوط الحديدية في بداية العصر الحديدي. وهكذا نجد مبدأين: الشركات الخاصة، وإشراف الدولة بطريقة أو أخرى (شركات وطنية مساهمة - تأميم شركات خاصة - ملكية كاملة للدولة).
وقد كان في بريطانيا عدد كبير من الشركات التي تمتلك خطوطا حديدية. ونتيجة للتضارب والمضاربة، أصدرت الحكومة البريطانية قانونا عام 1921 يقضي بإدماج هذه الشركات المتعددة في أربع شركات رئيسية، كنوع من التنظيم في مجال النقل الحديدي. وبعد الحرب العالمية الثانية أممت بريطانيا النقل الحديدي كله (عام 1948). وهكذا أصبحت الولايات المتحدة وبوليفيا، ومناطق أخرى قليلة في العالم تسير على مبدأ ملكية الشركات للخطوط الحديدية، بينما يسود في بقية العالم أنواع وأشكال مختلفة من ملكية الدولة أو مساهمتها بنسب مؤثرة في إدارة السكك الحديدية.
وتعطينا الولايات المتحدة مثالا ممتعا في دراسة ملكية الشركات للخطوط الحديدية، ففي بداية عصر السكك الحديدية في أمريكا كانت المنافسة على أشدها بين الشركات على اجتذاب الركاب والبضائع في مناطق محدودة. وعلى سبيل المثال كانت هناك في عام 1850 أحد عشرة شركة تعمل على خط حديدي واحد، طوله 400كلم، يربط بين مدينتي بفلو (على بحيرة إيري) ومدينة الباني (على أعالي نهر الهدسن)، وفي عام 1911 كان في الولايات المتحدة أكثر من 1300 شركة تعمل في النقل الحديدي. لكن المنافسات الحادة والمضاربات والأزمات، بالإضافة إلى اندماج الشركات في تجميع
أو ترست
Trust ، قد أدى إلى إخراج (أو إفلاس أو بيع) الشركات الضعيفة وخروج الشركات الكبيرة في صورة أقوى وأكثر احتكارا. وفي الوقت الحاضر (الستينيات) توجد 105 من الشركات تكاد تسيطر تماما على كل شبكة النقل الحديدية الأمريكية، ومن أمثلة اندماج الشركات أن شركة نيويورك المركزية
N.Y.Central System
ضمت إليها شركة توليدو وأوهايو، وأصبحت بذلك تمتلك 16 ألف كيلومتر من أطوال السكك الحديدية الأمريكية (5٪ من طول الشبكة الأمريكية) وتنقل سنويا 45 مليون راكب (11٪ من حركة الركاب) و165 مليون طن من البضائع (13٪ من حركة البضائع الأمريكية)، وفي أواسط الستينيات اندمجت هذه الشركة مع شركة شيزابيك وأوهايو.
وأكبر شركات السكك الحديدية الأمريكية هي «أتشيزون توبيكا وسانتافي»
Atchison Topeka and Santa Fe Road ، التي تمتلك 21 ألف كيلومتر من الخطوط الحديدية التي تمر عبر 12 ولاية بين شيكاجو ولوس أنجلوس. وتمتلك كل شركة من شركات الخطوط الحديدية الأمريكية محطاتها ومخازنها وورش الإصلاح والقاطرات والعربات وخطوطا تلغرافية وتليفونية، فضلا عن خطوطها الحديدية، ولكن كل هذه الشركات تنتمي إلى «اتحاد السكك الحديدية الأمريكية» الذي يخطط كثيرا لتحسين النقل الحديدي منذ إنشائه عام 1923، وبالرغم من ملكية الشركات لعرباتها ، إلا أن عربات البضاعة تعمل في صورة تجميع بين الشركات حتى لا تتعرض البضائع لعمليات التفريغ والشحن كثيرا. (2-10) حقائق رقمية عن السكك الحديدية
أصبحت صناعة النقل الحديدي من الصناعات ذات الثقل في عالم الصناعة في الوقت الحاضر؛ فهي تضم أعدادا كبيرة من الأيدي العاملة والمهندسين والخبراء والإداريين والفنيين، كما تشتمل في أحيان كثيرة على ورش ومصانع للعربات والقاطرات، وفي أحيان أخرى يمتد نشاط هيئات وشركات السكك الحديدية إلى قطاعات أخرى في عالم الصناعة والخدمات.
وقد سبق أن رأينا أن شركات السكك الحديدية الأمريكية تحتكر كثيرا من الخدمات. وتمتلك أيضا شاحنات برية من أجل إحداث تكامل في النقل وتحقيق مبدأ النقل من الباب إلى الباب. ويمكن أن تعطينا الأسطر التالية فكرة عن ضخامة العمليات التي تقوم بها السكك الحديدية الفرنسية في عالم النقل والخدمات والصناعة.
تمتلك الحكومة الفرنسية 51٪ من أسهم شركة السكك الحديدية الفرنسية الوطنية
S.N.S.F . ولهذه الهيئة (عام 1969) 36 ألف كم من أطوال الخطوط الحديدية، منها 9000 كيلومتر من الخطوط المكهربة، وتشتغل على هذه الخطوط 6500 قاطرة بخارية (فحم) و3000 قاطرة ديزل، و1400 قاطرة تسير بالدفع الكهربائي، 375 ألف عربة ركاب وشحن، ويعمل بالشركة 360 ألف شخص.
وتتميز الشركة بتكامل رأسي وتركز أفقي. ويتمثل التكامل الرأسي في امتلاك محطات كهربائية تنتج حوالي 1700 مليون كيلووات ساعة من الطاقة، وامتلاك 39 مصنعا لبناء القاطرات والعربات وسيارات الشحن وقوارب العبور (عبارات)، كما تمتلك الشركة ثمانية سفن منها ثلاث سفن للركاب وثلاث أخر للبضائع وسفينة عبور. ويتم التكامل باشتراك مالي مع شركات الصناعة الميكانيكية والهندسية. ولها أيضا أسهم ومصالح في 90 شركة صناعية ومالية، ومن بينها بعض شركات النقل الأخرى. أما التركيز الأفقي فيظهر في صورة امتلاك الشركة لعدد كبير من السيارات السياحية والباصات والفنادق، بالإضافة إلى مدارس ومراكز تدريب العمال. وكذلك تمتلك مدنا للعمال بلغ مجموعها أكثر من مائة ألف مسكن.
هذا وتبلغ أطوال السكك الحديدية في العالم الآن حوالي 1,25 مليون كيلومتر، منها حوالي 400 ألف كم في أوروبا و355 ألفا في الولايات المتحدة و135 ألفا في الاتحاد السوفييتي. وبعبارة أخرى تمتلك هذه الأقاليم الثلاثة حوالي ثلاثة أرباع الخطوط الحديدية في العالم. وتترتب دول العالم الأولى من حيث أطوال الخطوط الحديدية على النحو التالي: الولايات المتحدة 355 ألف كلم، الاتحاد السوفييتي 135 ألف كلم، كندا 72 ألف كلم، الهند 57 ألف كلم، أستراليا 44,6 ألف كلم، الأرجنتين 44 ألف كلم، البرازيل 38 ألف كم.
وتتسم الخطوط الحديدية في الدول الأربع الأخيرة باختلافات كبيرة في مقاييس خطوطها الحديدية؛ ففي الهند 26 ألف كم من الخطوط ذات المقياس العادي والباقي خطوط ضيقة. وفي أستراليا أكثر من نصف الخطوط من النوع الضيق، وفي الأرجنتين 24 ألفا خطوط عريضة، وخمسة آلاف كم خطوط عادية، و15 ألفا خطوط ضيقة، وفي البرازيل تسود نسبة عالية من الخطوط ذات المقياس العادي.
وتمتلك فرنسا أطول شبكة حديدية في أوروبا؛ ففيها 36 ألف كم من الخطوط الحديدية، منها تسعة آلاف كم من الخطوط المكهربة، تليها في ذلك ألمانيا الغربية بأطوال حديدية قدرها 34 ألف كلم، منها 8,5 آلاف كم من الخطوط المكهربة، ثم بريطانيا بأطوال قدرها 29 ألف كم منها ستة آلاف مكهربة، وفي إيطاليا 21 ألف كم من الأطوال الحديدية منها 13 ألفا مكهربة، وهي بذلك أعلى نسبة في الخطوط الحديدية المكهربة في الدول الأوروبية. وتمتلك اليابان 28 ألف كم من الخطوط الحديدية موزعة على خطوط الدولة (21 ألفا منها 5,4 آلاف كم مكهربة) وخطوط الشركات (سبعة آلاف كم منها 5,8 آلاف مكهربة). (2-11) السكك الحديدية بين الاستثمار الخاص والتخطيط
نموذج من الاتحاد السوفييتي
نقصد بهذا المثال دراسة تطبيقية للفرق بين إنشاء الخطوط الحديدية في مسطح قاري كبير كالاتحاد السوفييتي، في بداية عهد الاستثمار الفردي الذي كان يسعى لتأمين أكبر عائد من الأرباح، وبين التخطيط المدروس من أجل تكامل وتفاعل النقل مع برامج التنمية الاقتصادية، وليس معنى ذلك أن العفوية في عصر الاستثمار الفردي - شركات أو أفرادا - لم يكن عملية اقتصادية ناجحة.
بل إن مثل ذلك الاستثمار كان يتطلب دراسة دقيقة لمناطق الحركة أو المناطق التي يمكن أن يؤدي فيها خط النقل الحديدي إلى حركة ونشاط اقتصادي. ولكن هذه الاستثمارات الفردية لم تغامر بفتح أراض جديدة للنشاط الاقتصادي؛ لأن ذلك يؤجل أرباحها فترة طويلة، بينما تستطيع الحكومات أن تتحمل ذلك ضمن إطار كبير من خطط التنمية الاقتصادية. وفيما يلي دراسة موجزة لإنشاء الخطوط الحديدية في الاتحاد السوفييتي في عهدين: القيصري والسوفييتي. (أ) في عهد القيصرية
عرفت روسيا القيصرية «حمى» السكك الحديدية متأخرة عن كثير من الدول الأوروبية الغربية؛ ففي 1738 أنشئ أول خط حديدي امتد بين سان بطرسبورج (العاصمة) وضاحيتها تساركوي-سيلو
Tsarkoie-selo ، أنشأه المهندس الألماني فوق جرتزنر. ومضت فترة طويلة حتى أنشئ أول خط رئيسي في عام 1851 بين بطرسبورج وموسكو، وفي عام 1860 بلغت أطوال الشبكة الحديدية الروسية 1500 كيلومتر، بينما كانت في الولايات المتحدة في ذلك التاريخ قد زادت عن خمسين ألف كيلومتر.
وبينما كان الأمريكيون يرون في الخطوط الحديدية شرايين أساسية لفتح الآفاق الواسعة للبلاد أمام التقدم الاقتصادي، لم تهتم حكومة القيصر بهذه الوسيلة الجديدة من وسائل النقل، بل تركت هذا المجال الحيوي في أيدي المضاربين والمغامرين، ويتمثل ذلك أصدق تمثيل في الفترة بين 1770-1880، وهي الفترة التي شهدت «ملوك» النقل الحديدي في روسيا، من أمثال فون مك
Von Meck
ودرفوز
Dervoz
وبولياكوف
. وقد قصر هؤلاء «الملوك» اهتماماتهم على روسيا الأوروبية؛ حيث تتركز النشاطات الاقتصادية الحديثة؛ وحيث يمكن أن تجني الخطوط الحديدية أرباحا طائلة. أما بقية الدولة فكانت متخلفة فقيرة بحيث لم تبرر - عند هؤلاء المستثمرين - عملية شق الطرق الحديدية فيها.
وهكذا ظلت الخطوط الحديدية محدودة في أطوالها وتوزعها؛ ففي عام 1880 كانت الأطوال الحديدية 19 ألف كيلومتر. وفي هذه السنة بالذات بدأت حكومة القيصر تنفذ - بواسطة الجيش - خطا حديديا يمتد إلى بلاد التركمان في وسط آسيا، وواضح أن الدافع الجوهري لهذه الخطوة من جانب حكومة القيصر هو دافع استراتيجي وعسكري. وفي عام 1886 وصل هذا الخط إلى بلدة ميرف
Merv (مرو) على الحدود الإيرانية التركمانية حاليا. وفي عام 1888 وصل الخط إلى مدينة سمرقند، ذات الشهرة التاريخية كمحطة قوافل رئيسية طوال كل العصور التاريخية. وبعد قليل من إنشاء هذا الخط ظهرت أهميته الاقتصادية في فتح وسط آسيا أمام التجارة؛ فقد زادت صادرات تلك المنطقة من الجلود والقطن والفراء إلى روسيا الأوروبية.
ويعود إنشاء خط حديد سيبيريا إلى الرغبة في دعم التوسع الروسي سياسيا وعسكريا، مثله في ذلك مثل خط حديد التركستان. وقد بدأ في إنشاء خط سيبيريا عام 1892. وكانت الرحلة من فلاديفوستوك عبر سيبيريا إلى روسيا الأوروبية رحلة شاقة قبل إتمام هذا الخط، إذ كان على المسافر أن يستخدم أجزاء من أنهار إيرتش وأوب وينسي وآمور، ليكمل الانتقال البري بواسطة العربات والزحافات، أو على ظهور الخيل، ورغم مشقة الرحلة فقد كان هناك ثمة درب واضح بين فلاديفوستوك والأورال، وهو بصورة عامة الطريق الذي التزمته السكك الحديدية الجديدة.
وقد اتبع المهندسون الذين أنشئوا خط حديد سيبيريا المناطق سهلة الاختراق في سيبيريا الغربية، مبتعدين قدر الإمكان عن مناطق العوائق الجغرافية، فتجنبوا التاييجا (الغابات المخروطية) السيبيرية، وساروا بحذاء حدها الجنوبي حتى نهر أوب، ولكنهم في سيبيريا الوسطى اضطروا مرغمين إلى اختراق مناطق جبلية كثيرة، والتفوا بالخط الحديدي جنوبي بحيرة بايكال، وفي القسم الشرقي من الخط استفادوا من وادي آمور وسهول منشوريا حتى وصلوا إلى فلاديفوستوك بعد عشر سنوات شاقة؛ أي في عام 1902. وقد كان العمل يسير بمعدل مد 700 كيلومتر من الخط الحديدي كل عام، تحت ظروف المناخ القاسية وقلة الأيدي الماهرة. وقد بلغ عدد الأنفاق التي حفرت في المناطق الجبلية 300 نفق، ويبلغ طول الخط 7800 كيلومتر، وهو بذلك أطول خط حديدي عابر للقارات في العالم أجمع.
وقد ظهرت أهمية سكة حديد سيبيريا بسرعة خلال الحرب الروسية اليابانية (1904-1905). كما أن الانتقال من طوكيو إلى لندن، الذي كان يستغرق 50 يوما بالبحر عبر قناة السويس، كان يستغرق 16 يوما عبر سكة حديد سيبيريا، مع أن سرعة القطارات في ذلك الوقت لم تزد عن 35 كيلومترا في الساعة في معظم قطاعات هذا الخط. لكن الأهمية الاقتصادية قد ظهرت خلال عشر سنوات من افتتاح هذا الطريق، فقد عمر مليون فلاح روسي وأوكراني مناطق الإستبس حول نهر إيرتش؛ وهي منطقة تعد امتدادا للأراضي السوداء في جنوب روسيا الأوروبية، وفي عام 1913 بلغت الأطوال الحديدية في روسيا 67 ألف كيلومتر. (ب) في العهد السوفييتي
بعد انتهاء العهد القيصري عام 1917 أخذ الحزب الشيوعي يوجه كل جهوده من أجل تطوير الدولة الجديدة صناعيا. وكان يرى في تطوير وسائل النقل الأساس الذي يمكن أن ينبني عليه النمو الاقتصادي. وكان النقل الحديدي يحتل مكانا مرموقا في نظر المخططين لضخامة الدولة وتباعد مناطقها. لكن الظروف السياسية التي مرت بها الدولة السوفييتية في بداية نشأتها أدت إلى تعطيل خطط التنمية كثيرا، ومع ذلك فإن الاهتمام بتطور السكك الحديدية كان يسير بشكل مرض، فحولت الخطوط الحديدية المفردة إلى خطوط حركة مزدوجة في كثير من المناطق التي تستدعي ذلك. وتدريجيا بدأت الخطط الاقتصادية تأخذ طريقها إلى التطبيق، ومعها إنشاء طرق حديدية جديدة. وكان من جراء ذلك ظهور شبكة حديدية كثيفة في المنطقة الأوروبية، وظهور شبكة جديدة شرقي الأورال، تربط بين أقاليم الأورال والتركستان وكوزباس، تخدم ثلاثة أهداف في هذه المنطقة: (1)
نقل الآلات والمعدات والبترول والخامات المعدنية من الغرب إلى الشرق. (2)
نقل الفحم والخشب والحبوب من الشرق إلى الغرب. (3)
نقل البترول والمعادن والقطن من الجنوب إلى الشمال.
وبناء على هذه الأهداف الثلاثة أصبحت المحاور الأساسية للخطوط الحديدية الهامة على النحو التالي: (1)
خط تركستان-سيبيريا
Turk sib : وقد كان هذا باكورة الطرق الحديدية في التخطيط السوفييتي في منطقة شرق الأورال. وبدأ العمل فيه عام 1930، ويبدأ هذا الخط من مدينة نوفوسيبيرسك، على خط حديد سيبيريا، إلى مدينة «ألما أتا» - عاصمة جمهورية قازاكستان السوفييتية، وطول الخط 1400 كيلومتر. وقد استكمل فيما بعد ليصل إلى خطوط تركستان القديمة. وقد فتح هذا الخط القسم الشرقي من قازاكستان وسفوح جبال تين شن، وينقل عليه الفحم من إقليم كوزباس وخشب التاييجا السيبيرية إلى قازاكستان مقابل القطن والبترول والجلود إلى الشمال. وتمثل نوفو سيبيرسك واحدة من أهم وأكبر المراكز الصناعية في سيبيريا (تعدين ومصانع للصلب والحديد ومسابك للمعادن ومصانع للجرارات والطائرات). ومنذ إنشاء هذا الخط زاد سكان مدينة «ألما أتا» من 60 ألف شخص إلى 230 ألفا خلال عشر سنوات، وهم يزيدون الآن عن نصف مليون شخص.
خريطة 6-11 (2)
خط حديد كاراجندا: ويبدأ من بترو بافلوفسك على خط سيبيريا ويتجه جنوبا إلى كاراجندا، ثم يمتد إلى بحيرة بلكاش. وقد ساعد هذا الخط على تنمية استغلال حقول الفحم الغنية في كاراجندا، التي ينقل منها إلى منطقة الأورال الصناعية، كما أدى إلى إمكانية استغلال مناجم النحاس الكبيرة التي توجد حول بحيرة بلكاش، وخاصة عند كونرادسكي. (3)
خط سيبيريا الجنوبي
Iougsib : وهو خط على جانب كبير من الأهمية؛ يربط منطقة الأورال الجنوبية بقازاكستان الشمالية وإقليم كوزباس المنتج الكبير للفحم. ويبدأ الخط من مدينة ماجنتو جورسك في الأورال ويمر بمدينة تسلينوجراد (حيث يتقاطع مع خط كاراجندا)، ثم مدينة بارناول على أعالي نهر الأوب (حيث يتقاطع مع خط ألما أتا)، ثم يخترق إقليم كوزباس، وينتهي إلى مدينة أباكان على الينسي الأعلى. ويخترق هذا الخط أقاليم الزراعة في شمال قازاكستان ويربط عدة مناطق تعدينية كبيرة. (4)
خط الأورال الجنوبي: ويربط بين ماجنتوجورسك ومدن كارتلاي وترويتسك وشيليابنسك، وكلها مناطق تعدين هامة في جنوب الأورال. وقد ساعد هذا الخط، مع الخطوط الأخرى، على جعل ماجنتوجورسك واحدة من أهم مراكز الصناعة الثقيلة في الاتحاد السوفييتي.
وإلى جانب ذلك فإن السوفييت قد فتحوا بعض المناطق الشمالية أمام الاستغلال التعديني الحديث بواسطة مجموعة من الخطوط الحديدية معظمها مركز في الشمال السوفييتي الأوروبي. ومن أهم الخطوط ذلك الذي يمتد إلى طرف الأورال الشمالية ويمر بحوض البتشوار وحوض الدفينا الشمالي، ويربط المنطقة بحوض الفولجا في الجنوب ولننجراد في الغرب. وينقل هذا الخط أخشاب المنطقة، وفحم فركوتا وبترول أوختا، وحديثا مد الخط من فركوتا عبر شمال الأورال إلى بلدة سالكهارد على مصب نهر الأوب، حيث ظهرت منطقة غنية من مناطق الغاز الطبيعي في حوض الأوب الأدنى.
وهناك مشروع آخر لمد خط حديدي من خط سيبيريا إلى حوض لينا الأوسط؛ حيث توجد ثروة تعدينية كبيرة. وقد بدأ المشروع من مدينة تايشت على خط سيبيريا ووصل إلى براتسك على أعالي نهر أنجارا، وإلى أوست كوت وكيرنسك على أعالي نهر لينا، وتهدف الخطة إلى مد الخط بعد ذلك إلى مدينة ياكوتسك على أواسط لينا.
وهكذا فإن الاهتمام بالنقل الحديدي كوسيلة لتأسيس نشاط اقتصادي حديث، قد أدى - في خلال حوالي 35 عاما - إلى تركيز للنقل في سيبيريا الغربية والوسطى والتركستان، وساعد بدون شك على حسن استغلال مصادر الطاقة الغنية المتمثلة في فحم حوضي كوزباس وكاراجندا، وبترول إقليم باشكيريا (بين الأورال والفولجا). وقد حدا هذا النشاط بالكثير إلى القول أن الاتحاد السوفييتي قد أنشأ في تلك المنطقة «قلبا» اقتصاديا جديدا، بدلا من الاعتماد على النشاط الاقتصادي المكثف في القسم الأوروبي من الدولة فقط. (3) النقل البري
لا شك في أن النقل البري هو أسبق وسائل النقل الذي عرفه الإنسان، وذلك حينما كان يتنقل ويتحرك على قدميه، أو ينقل بعض الحمولات على رأسه وكتفيه وظهره، وحينما استأنس الحيوان. ويمكننا أن نقسم النقل البري إلى قسمين واضحين؛ هما: (1)
النقل والتحرك على اليابس دون وجود طريق ممهد؛ أي الانتقال على الطرق الطبيعية كما مهدتها الطبيعة دون أي تدخل من أجل تمهيدها وتعبيدها. (2)
النقل والتحرك على طرق مهدها الإنسان بوسائل مختلفة.
ومن الطبيعي أن يكون النقل على الطرق الطبيعية أسبق من الطرق الممهدة بواسطة الإنسان، ولكن ليس معنى ذلك أن الإنسان قد استغنى عن الطرق الطبيعية؛ فهو لا يزال يستخدمها في النقل التقليدي بواسطة قوافل الحمالين أو قوافل الحيوان في النطاقات المتخلفة اقتصاديا، أو حيث لا يوجد من الظروف البشرية والاقتصادية ما يدعو إلى تمهيد الطرق، مثل قلة الحركة والتجارة في النطاقات الجبلية العالية أو الوعرة أو الصحاري أو الغابات الاستوائية البدائية. (3-1) الطريق البري الطبيعي
هناك كثير من أشكال الطرق البرية الطبيعية أقلها تحددا الطرق التي تخترق السهول، حيث تتعدى إمكانات التنقل بين نقطتين لعدم وجود عوائق طبيعية واضحة ومانعة (باستثناء المستنقعات والأنهار العريضة والغابات صعبة الاختراق). وتحدد الأودية النهرية طرقا طبيعية واضحة في أحواض الأنهار العليا والوسطى. وكذلك تتحدد الطرق الجبلية بالممرات الجبلية، وتتحدد الطرق في الصحاري والنطاقات الجافة بأماكن ونقط الحصول على المياه. وفي الغابات الاستوائية تشكل ضفاف الأنهار طرق الاختراق الطبيعية الواضحة والمأمونة. أما في نطاقات الأعشاب والأحراش فإن الطريق الطبيعي يصبح غير محدد - مثله في ذلك مثل مناطق السهول - لكن يتداخل في هذه التحديدات أو التسهيلات الطبيعية للطريق البري الطبيعي عناصر بشرية متعددة تؤدي إلى تفضيل طريق على آخر أو تكثيف الحركة على طريق؛ مما يؤدي إلى اعتبار الطرق الأخرى طرقا طبيعية ثانوية أو احتياطية.
وأهم العناصر البشرية التي يجب أن نذكرها هي مدى عدوانية القبائل والمجتمعات التي يمر بها الطريق، أو مدى مسالمتها ومصالحتها، أو مدى ضعفها وعدم قدرتها على عرقلة حركة الطريق. ولهذا نجد أن الدول - حينما نشأت - كان همها الشاغل تأمين طرق التجارة والنقل البرية (والنهرية والبحرية بطبيعة الحال أيضا)، وذلك إما بمد نفوذها السياسي والعسكري، وإما بعقد اتفاقات مع المجتمعات التي تمر أجزاء من الطريق عبر أراضيها.
وقد سبق أن أشرنا إلى الطريق البري الطبيعي مرات متعددة فيما سبق. (انظر الفصلين الثالث والخامس)، وأشهر الطرق الطبيعية البرية كانت طرق قوافل الحيوان والحمالين في العالم القديم؛ وسبب ذلك أن مناطق الإنتاج كانت - ولا تزال - تنتظم في مجموعتين من الأقاليم: النطاق المعتدل (البحر المتوسط وأوروبا) الذي أصبح - نتيجة لخلفيته الحضارية وكثافته السكانية - سوقا رائجة ودائمة لمنتجات المجموعة الثانية من الأقاليم الإنتاجية؛ ونعني بها النطاق المداري والموسمي في أفريقيا وآسيا، وفيما بين هاتين المجموعتين من الأقاليم الإنتاجية المتنوعة يقف العالم الجاف كنطاق فاصل يمتد امتدادا شاسعا من منغوليا في الشرق إلى الصحراء الأفريقية في الغرب؛ ولهذا كان لا بد للتجارة العالمية أن تخترق النطاق الجاف؛ ومن ثم كانت الإبل هي الحيوان الرئيسي الذي اعتمد عليه النقل القديم على طول تلك الطرق العابرة للقارات.
ويكفي أن نتذكر طريق الحرير بين الصين والبحر المتوسط وأوروبا، وطرق القوافل العربية بين المحيط الهندي والبحر المتوسط، وطرق الصحراء الكبرى بين الإقليم المداري الأفريقي والبحر المتوسط، لندرك أهمية النقل على الطرق البرية الطبيعية القديمة. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أسماء بعض الطرق الأخرى للدلالة على قدر الحركة التجارية القديمة وتنوعها: طريق العنبر بين بحر البلطيق والشمال من ناحية وحوض البحر المتوسط من ناحية ثانية، طريق اليشم أو اليشب (حجر كريم أخضر اللون
Jade ) بين الصين والشرق الأوسط وأوروبا، وطريق الشاي بين الصين وروسيا الأوروبية.
وطريق الشاي هو من أحدث الطرق البرية الطبيعية، وأكثرها تطرفا نحو الشمال؛ فقد كان يعبر أطراف المنطقة الجافة في منغوليا، ويسير محاذيا للحد الجنوبي للغابات المخروطية الباردة في سيبيريا والسهل الروسي. ويمكن أن نقدم دراسة موجزة لهذا الطريق كنموذج للطرق الطبيعية القديمة؛ فقد ظهر هذا الطريق في القرن السابع عشر، وكانت تستخدم فيه أنواع مختلفة من وسائل النقل: عربات العجلات وعربات الزحافات والنهر وقوافل الإبل، بين بكين - حيث يبدأ طريق الشاي - ومدينة كالجان. كانت العربات تستخدم الطريق الإمبراطوري، وبين كالجان وكياختا
Kiakhta (على ضفاف نهر أورخون
Orhon ، الذي يصب على الشاطئ الشرقي لبحيرة بايكال) كان للمغول حق نقل التجارة بقوافل الإبل عبر صحراء جوبي.
وابتداء من كياختا حتى بطرسبورج (لننجراد حاليا) كان التجار الروس ينقلون التجارة في رحلة تستغرق ستة أشهر. وكان الطريق من أركوتسك حتى بطرسبورج يسمى التراكت
Tract ، وهو طريق طبيعي قديم يلتزم بالحافة الجنوبية للتاييجا المخروطية الروسية والسيبيرية. وكانت معظم الرحلة تتم خلال فصل الشتاء، حيث يغطي الجليد الأرض والأنهار والمستنقعات، وبذلك لا تكون هناك عقبة أمام النقل. كما أن النقل بالعربات الزحافة الثقيلة كان يسير بسرعة أكبر على الجليد الصلب، خلافا لعربات العجلات التي تسير في الصيف في أرض المطر أو الجليد الذائب الموحلة؛ مما يؤدي إلى بطء سير العربات، ويعرضها للتوقف أو انكسار العجلات. هذا فضلا عن احتياج النقل الصيفي إلى التزام الطرق المؤدية إلى الجسور العابرة للأنهار؛ مما يؤدي بدون شك إلى إطالة الطريق.
وطريق التراكت هذا أقدم من طريق الشاي، ويرجع تاريخ استخدامه إلى القرن الخامس عشر، كطريق التوسع التجاري والسياسي لإمارة موسكو ودولة روسيا صوب سيبيريا. وقد استخدم بعد ذلك في القرن الثامن عشر لنقل السلع الصينية، وعلى رأسها الشاي، الذي يؤرخ دخوله إلى روسيا بتلك الفترة. وقد ظل استخدام طريق التراكت لنقل الشاي عليه طول الفترة بين 1775 و1903. وقد حل خط حديد سيبيريا محل طريق التراكت منذ ذلك التاريخ.
وعلى طول طريق التراكت ازدهرت أسواق كثيرة، كونت فيما بعد (وخاصة بعد إنشاء خط حديد سيبيريا) نواة المدن السيبيرية الكبيرة في الوقت الحاضر. وقد كان من الطبيعي أن تكون أسواق طريق التراكت أسواقا موسمية؛ نتيجة لموسمية حركة النقل. ومن أهم تلك الأسواق أركوتسك، توبلسك، تيومن، إربيت، برم (انظر الخريطة 3-2). وكانت إربيت وبخني نوفوجراد (جوركي حاليا) تمثلان أسواقا مركزية للشاي، وذلك بحكم الموقع الجغرافي لكل منهما، فمدينة إربيت تقع على نهاية طريق التراكت في سيبيريا الغربية، وعلى سفوح الأورال الشرقية، غير بعيدة عن ممر تورا الذي يخترق سلسلة الأورال في تلك المنطقة، وبخني نوفوجراد تقع على الفولجا بعد أن يخترق الطريق جبال الأورال، وبذلك تصبح كل منهما سوقا للتجميع (إربيت) والتوزيع على مدن وأسواق روسيا الأوروبية (بخني نوفوجراد). وكانت سوق إربيت تعقد في شهر فبراير (شباط) بينما تعقد سوق نوفوجراد في شهر يوليو (تموز)، حيث يفد إليها تجار الجملة من المدن الروسية. وعلى وجه العموم كان الشاي الآتي من الصين يباع ست أو سبع مرات في الأسواق الهامة على طول الطريق، ويصل أوروبا بعد أن يكون سعره قد زاد كثيرا نتيجة لنفقات النقل وتعدد تبادله بين التجار.
وقد أقام التجار الروس محطات كثيرة على طول الطريق لخدمة النقل والمسافرين؛ فقد كانت هناك عمليات تغيير وإصلاح العربات، وتغيير الخيول وخانات (فنادق) لخدمة الركاب، ومحلات خدمات أخرى للبيع والشراء.
وفي أوروبا في القرن السابع عشر كانت الطرق عبارة عن دروب ومسارات حددتها عجلات العربات وحوافر الخيل وأقدام الناس. وكانت هذه الطرق تعبر الأنهار عند المخاضات (المناطق الضحلة)، كما كانت مضطرة إلى الالتفاف حول المناطق المستنقعية، وتعوق مساراتها مخلفات الحقول التي يرميها الفلاحون.
وخلاصة القول أن السير كان بطيئا للغاية خاصة إذا كانت المناطق وعرة التضاريس؛ فعلى سبيل المثال كانت عربة الخيل تقطع المسافة بين مدريد وبورجوس في شمال إسبانيا (200 كيلومتر) في 18 يوما. ولم تكن الطرق البرية في الولايات المتحدة بأحسن حالا من مثيلاتها في القارة الأوروبية. ولا تزال الطرق المكدامية في جنوب الهند تتشابه مع الطرق الأوروبية والأمريكية في القرن السابع عشر؛ فهذه الطرق الهندية تتقلص خارج المدن إلى دروب ضيقة، ومعظمها تعبر الأنهار على معابر حجرية كي لا تغوص العجلات في الرمال الناعمة، ولا توجد جسور على الأنهار إلا نادرا، ويرجع ذلك إلى أن معظم أنهار الهند الجنوبية أنهار صغيرة الأحواض موسمية الجريان (في أحيان كثيرة لا تجري المياه في تلك الأنهار إلا لفترة شهرين أو ثلاثة أشهر فقط)؛ ومن ثم فإن تكلفة بناء الجسور تصبح استثمارا بلا عائد معظم السنة، هذا فضلا عن ضعف حركة النقل البرية عامة في الهند، حيث يسيطر النقل الحديدي على تجارة السلع.
وقصارى القول أن الطرق البرية الطبيعية تتميز باعتماد شديد على ظروف البيئة الجغرافية، فتصبح الطرق وعرة صعبة الارتياد خلال مواسم الأمطار بالنسبة للنقل بالعربات والعجلات، سواء كان ذلك في أوروبا القرن السابع عشر أو معظم الأقاليم المدارية في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية في الوقت الحاضر؛ ولهذا يمكننا أن نفسر ظاهرة ارتباط الطرق البرية القديمة في غرب آسيا بالمناطق الرملية الحصوية التي لا تتحول إلى أوحال خلال موسم المطر الشتوي. وبالمثل نفسر ارتباط الطرق البرية القديمة في أوروبا بالتربة الطباشيرية أو اللومية التي تغطي الحجر الجيري. وكذلك كان النمو النباتي الغزير عقبة أمام النقل البري؛ ومن ثم تجنبت الطرق البرية المناطق الغابية، والتزمت قدر الإمكان بأراضي الأعشاب والحشائش المكشوفة، كالإستبس في النطاق المعتدل والسفانا في النطاق المداري.
وحينما كانت العقبات التضاريسية تجبر الطريق على دخول منطقة غابية، فإنه كان على الإنسان أن يبذل جهدا كبيرا في قطع الأشجار وإبقاء الطريق مفتوحا أمام الحركة، وعلى هذا النحو يمكن أن نستطرد كثيرا في ذكر المعوقات الطبيعية العديدة أمام النقل البري. لكن التقدم التكنولوجي قد أوجد كثيرا من الحلول لمثل هذه المشكلات. (3-2) الطريق المعبد
يختلف الطريق المعبد عن الطريق الطبيعي في أن الإنسان قد تدخل بتسوية سطح الطريق بوسائل وتكنولوجيات مختلفة، وذلك بإضافة مواد صلبة تجعل الطريق ظاهرة مقاومة للظروف المناخية السائدة، وبذلك يصبح الطريق المعبد تركيبا مغايرا لصفات الأرض التي يمر عليها؛ فهو لا يصبح موحلا إذا تحولت الأرض إلى وحول وبرك في موسم الأمطار ولا يصبح ترابيا أو رمليا في موسم الجفاف.
والعقبة المناخية الوحيدة التي تقف أمام الطريق المعبد وتجعله جزءا من الأرض المحيطة به هي ظاهرة تساقط الثلوج في العروض الباردة أو المرتفعات العالمية، ويماثلها في القوة ظاهرة الكثبان الرملية المتحركة، لكنها ليست موسمية الحدوث مثل ثلوج الشتاء.
والمادة الأساسية التي استخدمها الإنسان لجعل سطح الأرض صلبا هي الأحجار، وذلك لقدرتها على مقاومة سير العجلات، ومقاومتها للظروف المناخية. كما أنها مادة ليست صعبة التشغيل، وهي في الوقت ذاته شائعة الانتشار في معظم البيئات الجغرافية. وقد استخدم الإنسان الأحجار في صور مختلفة. وأشيع صور استخدامها قديما كان قطعها في صورة «بلاط» متشابه الأحجام، يصقل سطحه العلوي، ويثبت بعمق كاف في التربة، بحيث يعطي الطريق سطحا متساوي المنسوب. وأشهر الطرق التي صنعت على هذا النحو كانت الطرق الرومانية في العالم القديم، وطرق دولة الإنكا (في جبال الأنديز في بيرو).
وقد كانت طرق الإنكا مشابهة للطرق الرومانية من حيث البناء، لكنها تختلف كثيرا في توظيفها؛ فالطرق الرومانية كانت معدة للنقل بواسطة العجلات والخيول؛ ومن ثم كان «مهندسو» الطرق في روما يراعون انحدارات الطرق بحيث لا تزيد عن زوايا معينة، لا تستطيع معها عربات الحيوان الصعود أو الهبوط. أما طرق الإنكا فكانت معدة أساسا لحركة الإنسان كوحدة حمل ونقل؛ إذ إن شعب الإنكا لم يستأنس حيوانات ذات قيمة في الحمل والجر ولم يعرفوا العجلة إلا بعد القرن 16. وعلى هذا فإن مشكلة زوايا الانحدارات لم يكن لها وجود أمام «مهندسي» الطرق في دولة الإنكا؛ ومن ثم فإن طرق الإنكا كانت مليئة بالدرج في صورة «سلالم» منحوتة في الصخر عند المنحدرات.
وقد اتسمت طرق الإنكا بالاستقامة؛ إذ لم تقف المنحدرات عقبة أمامها. وكذلك كانت الطرق الرومانية تسير في خطوط مستقيمة قدر الإمكان، لتقصر زمن الرحلة بتقصير المسافة بين نقطتين. لكن في المناطق الجبلية كانت هذه الطرق تضطر للسير مع أضعف زوايا الانحدار التضاريسي؛ مما كان يجعلها تسير في أقواس طويلة. وقد أهملت الطرق الرومانية بعد سقوط الدولة، ولم يعد باقيا منها سوى بقايا متناهية الصغر يحافظ عليها كآثار حضارة عظيمة خلت. وفي الواقع لم يشهد النقل البري منذ الطرق الرومانية أي تقدم يذكر بل على العكس شهد تدهورا واضحا في بناء الطرق، ولم يعد لبناء الطريق أهمية إلا بعد الانقلاب الصناعي وظهور السيارة.
هذا ولم تقتصر الطرق المعبدة على الرومان والإنكا؛ فالطرق الصينية القديمة كانت معبدة بالحجارة، ويضاف إليها، في المناطق الجبلية، مسارات محفورة لتسهيل حركة العجلات؛ مثال ذلك الطريق الذي كان يربط شمال الصين بحوض اليانجتسي عبر تلال تسن لنج. وقد اشتهر الباجندا في أوغندا، بأنهم بناة طرق. لكن طرق الباجندا كانت تستخدم لحركة الإنسان؛ ومن ثم لم تعبد بالمعنى المفهوم، وإنما كانت تنقى من الأعشاب لتظل مفتوحة أمام الحركة طول السنة، وربما ساعدت التربات الحمراء، من لاترايت وغيره، في هذه المنطقة الأفريقية الاستوائية، على بقاء سطح الطريق صلبا نوعا ما، لكثرة الحركة عليه؛ إذ المعروف أن مثل هذه التربات الحمراء تتحول إلى ما يشبه «الطوب» بتعرضها للأمطار المباشرة؛ مما يؤدي إلى تسرب مكوناتها الجيرية إلى الداخل وارتفاع ملوحتها، وتصلب سطحها.
ومما هو جدير بالملاحظة أن الحضارات العليا القديمة في الشرق الأوسط لم تعبد طرقا برية. ولعل هذا مرتبط بنسبة الأمطار القليلة في سهول العراق والشام ووجود حيوان الحمل الصحراوي الذي لا يستدعي طريقا معبدا، سواء كان هذا في التربة الفيضية العراقية أو بادية الشام وواحاتها، أو سهول الليفانت الساحلية الضيقة، أو هضاب إيران، أو سهول السند. ولا شك في أن وجود النيل في مصر، وفروعه العديدة في الدلتا، قد أدى إلى اهتمام المصريين بالنقل النهري في هذه الطرق الطبيعية العظيمة، خاصة وأن النقل النهري كان يحمل أوزانا وأحجاما أكبر بكثير من النقل البري على ظهور الحيوان أو في العربات؛ ومن ثم كانت الطرق البرية قليلة وقصيرة، ومتعامدة على محور النيل وفروعه الدلتاوية العديدة.
وفي خلال فترة تقسيم أوروبا إلى إمارات وإقطاعيات صغيرة لم يكن الاهتمام بالطرق البرية كبيرا، ولم تكن هناك خطة معينة في بناء الطرق، التي تركزت كلها حول عاصمة الإمارة أو قلعة الحاكم؛ ومن ثم اقتصرت أعمال بناء الطرق على بناء الجسور والطرق المؤدية إليها لبضعة كيلومترات على أحسن الفروض. وقد كان الهدف من بناء هذه الطرق فرض المكوس وضرائب العبور على التجارة التي تخترقها؛ أي إن الطريق كان وسيلة لجمع الأموال. وقد أدى نقص الطرق في العصور الوسطى إلى شيوع استخدام النقل النهري في أوروبا الغربية.
ولا شك في أن نقص سلطة سياسية مركزية على نطاق إقليمي واسع كان واحدا من أهم الأسباب في تدهور النقل البري وقلة الاهتمام ببناء الطرق وصيانتها. وحينما بدأت الوحدات السياسية الكبيرة تظهر في صورة دول القوميات الأوروبية خلال القرن السابع عشر وما بعده، بدأت الطرق البرية تظهر من جديد في صورة طرق طويلة تخترق الدولة، وتربط العاصمة بأقاليمها البعيدة. ولكن يجب أن نضيف إلى ذلك عاملا اقتصاديا هاما، فابتداء من القرن السابع عشر أخذ حجم التجارة في التزايد بعد الكشوف الجغرافية وبداية استيطان العالم الجديد من ناحية، والسيطرة على تجارة المنتجات المدارية من عالم المحيط الهندي من ناحية ثانية. وفي القرن الثامن عشر بدأت الثورة الصناعية، وأخذ تكامل النشاط الاقتصادي يأخذ دوره داخل أوروبا الغربية: نشأة المصنع والمدينة الصناعية، وتكدس السكان في تلك المدن، والحاجة إلى تأمين الغذاء من الريف، والحاجة إلى تأمين الخدمات الصناعية. وقد أدت هذه النشاطات المتكاملة إلى اهتمام متزايد بطرق النقل، ومن بينها الطريق البري.
وفي 1775 ظهرت في إنجلترا الطرق المعروفة باسم الطرق المكدامية؛ وهي طرق محسنة، يستخدم فيها الرصف بالحجارة مع سطح أملس. وهذه الطريقة في رصف الطرق جاءت نتيجة لجهود ثلاثة من الأشخاص: متكاف وماكادم وتلفورد. وفي فرنسا تحسنت الطرق بعد إنشاء إدارة أبحاث خاصة بالطرق والجسور عام 1831. وقد أدى تحسن الطرق إلى استخدام عربات نقل ثقيلة قادرة على حمل سلع تصل إلى ما بين طن وطن ونصف كحد أقصى، وتصل سرعتها القصوى إلى ما يقرب من ثلاثين كيلومترا في اليوم الواحد. ولكن القفزة الكبرى التي جعلت للطريق البري أهميته وحيويته المعاصرة راجعة إلى ابتكار السيارة؛ أي إن التطور الحديث في صناعة الطريق قد ارتبط بتغير وسيلة النقل البري من الاعتماد على العربة والطاقة العضلية للحيوان في الجر، إلى استخدام الطاقة الميكانيكية. (3-3) العربة والسيارة
عرف الإنسان استخدام العجلة الحربية منذ القدم، وطور عربة العجلات لنقل الأشخاص والسلع بعد ذلك. وأقدم ما لدينا من الأدلة يشير إلى وجود العجلة عند السومريين حوالي 3500ق.م، وأنها في حدود الألف الثالثة قبل الميلاد كانت شائعة في سهول العراق، وأنها دخلت وادي السند حوالي 2500ق.م، واستخدمها أصحاب الحضارة المينوية في كريت 2000ق.م، كما كانت شائعة في الأناضول في التاريخ نفسه وعرفها المصريون - عن طريق غزو الهكسوس لمصر - حوالي 1650ق.م.
6
وتظهر العجلة أيضا في الصين حوالي 1450ق.م (حضارة أنيانج في إقليم هونان).
وأقدم أنواع العربات هي تلك التي تستخدم عجلتين (دولابين) فقط. وقد عرفت العربة ذات العجلات الأربع فيما بعد، لكن استخدامها ظل محدودا وغير مرغوب لفترة طويلة. ويرجع ذلك إلى أن القدماء لم يستطيعوا أن يطوروا بنجاح قرصا يدور معه المحور الذي يربط العجلتين الأماميتين عندما تلف العربة يمينا ويسارا. وفيما يمكن أن نستخلصه من الآثار الرومانية لم يتمكن الرومان من تحقيق ذلك أيضا؛ ولهذا ظلت العربة ذات العجلتين شائعة الاستخدام لفترة طويلة، لسهولة استخدامها، ولكنها بدون شك أقل في كفاءتها للنقل من العربة ذات العجلات الأربع.
ولم تكن هذه هي العقبة الرئيسية أما تطوير العربة للنقل الثقيل، بل كانت هناك مشكلة ربط الحيوان إلى العربة؛ ففي الماضي كانت الطريقة الشائعة هي استخدام حلقة من الجلد توضع في رقبة الحيوان، تشده إلى العربة، وبذلك كان الجر يتجنب قوة الكتفين ويكتفي بالرقبة؛ مما كان يعوق تنفس الحيوان، ولا يؤدي إلى استخدام جيد لقوة السحب الكامنة في عضلات الحيوان. وفي القرن العاشر والحادي عشر الميلادي تمكن الإنسان من تغيير طريقة ربط الحيوان إلى العربة؛ وهذه الطريقة كانت عبارة عن إسار من الجلد الناشف يستقر فوق لوح الأكتاف؛ مما يؤدي إلى استخدام أمثل لكل طاقة الحيوان، ولا يعوق تنفسه، وترتب على ذلك أيضا ازدياد سطح العربة ووزن السلع المنقولة. وقد شاع استخدام هذه الطريقة ابتداء من القرن الثالث عشر.
وعلى هذا فإن التطور كان بطيئا جدا، ربما استغرق ألفي عام أو أكثر في المناطق المختلفة، حتى أمكن للإنسان أن يطور استخداما أمثل لمبدأي العجلة وقوة الشد الحيوانية، وبعد ذلك تتالت الاستحداثات بسرعة؛ ففي القرن السادس عشر ظهرت أول عربة تستخدم اليايات (زنبركات حديدية) التي كان من شأنها امتصاص الصدمات التي تتعرض لها العجلات في دوراتها على الطريق، وبذلك أمنت قسطا كبيرا من الراحة لركاب العربة، أو قسطا من الأمن بالنسبة للسلع القابلة للكسر. وفي القرن الثامن عشر هجنت أوروبا عامة - وفي بريطانيا بصفة خاصة - أنواعا من الخيول للجر تختلف عن خيول الركوب. وكانت الصفة الأساسية التي نجح المختصون في تثبيتها في السلالة المهجنة، طاقة عضلية كبيرة وحجم كبير للحصان، وذلك على عكس الرشاقة والجمال اللذين كانا يميزان حصان الركوب من أجل السرعة، وبذلك أمكن تطوير طاقة جر حيوانية كبيرة، وفي منتصف القرن التاسع عشر جاءت الخطوة الأخيرة في تطوير عربات النقل، وهي بناء العربة بطريقة تسمح لها بحمل أوزان تراوحت بين ستة وتسعة أطنان.
وعلى هذا بلغ النقل بالعربات ذروته في النصف الثاني من القرن الماضي بعد أن اكتملت له خبرة ألفين إلى ثلاثة آلاف عام: العجلة - العربة ذات العجلتين - طريقة ربط الحيوان إلى العربة - ابتكار اليايات لامتصاص الصدمات - العربة ذات العجلات الأربع - تهجين خيول قوية للجر - بناء العربة بطريقة تسمح باتساع مسطحها فأصبحت أداة نقل سلعي ممتازة.
ولكن ما إن اكتملت كل تلك المعارف التكنولوجية حتى اقتطفت ثمارها الثورة الصناعية في النقل بابتكار القطار البخاري ثم ابتكار غرفة الاحتراق الداخلي ومن ثم السيارة، وهي في هذا تشابه تماما المصير الذي آلت إليه السفن الشراعية. فبعد أن اكتملت معارف الإنسان في فن الملاحة البحرية واستخدام الرياح والتيارات البحرية، وازدياد حمولة السفن، جاءت الثورة الكبرى باستخدام طاقة البخار بدلا من الرياح في دفع السفن.
وعلى وجه العموم فإن تطور النقل بالعربات يوضح لنا أن الإنسان استخدمها استخداما جيدا، لدرجة أن المبادئ التي سار عليها هي نفسها التي اتبعها النقل البري الحديث فيما بعد؛ فقد عمم الإنسان استخدام العربة في خطوط منتظمة بين مدن معينة ابتداء من أواخر القرن السادس عشر؛ ففي منطقة لندن والريف الإنجليزي ظهرت خطوط «العربات الطائرة» منذ 1635، وفي 1669 أدت التحسينات المستمرة إلى زيادة سرعة تلك العربات الطائرة إلى 80 كيلومترا في اليوم الواحد! لكن هذه السرعة لم تكن شائعة إلا على الطرق الجيدة، وفي خلال فصل الصيف فقط؛ لأن أمطار الشتاء كانت تعرقل الحركة كثيرا.
وفي أواخر القرن السابع عشر كانت لهذه العربات خطوط منتظمة تنطلق من مركزها من لندن إلى شتى الاتجاهات المختلفة: إلى أكستر ونيوكاسل وشستر وأدنبرة ... إلخ. وفي منتصف القرن الثامن عشر كانت المسافة بين لندن وأدنبرة تقطع في عشرة أيام، لكن التحسينات الناجمة عن انتشار الطرق المكدامية الإنجليزية جعل في الإمكان قطع المسافة ذاتها في أربعة أيام ابتداء من عام 1776، ومع استمرار تحسن الطرق أصبح بإمكان هذه العربات السريعة (إكسبريس) أن تبلغ سرعة راكب الجواد، وفي 1836 أصبحت المسافة بين لندن وأدنبرة تقطع في 46 ساعة فقط.
وعلى النحو ذاته كان الاهتمام موجها إلى عربات نقل السلع ذات الغطاء المصنوع من القماش السميك، وابتداء من منتصف القرن الثامن عشر أصبح لهذه العربات خطوط منتظمة؛ فعلى سبيل المثال كانت هناك خطوط تصل مدينة برمنجهام ب 168 مدينة أخرى في عام 1760، وقبل بدء عصر السكك الحديدية بقليل زاد عدد العربات والرحلات بين لندن وبرمنجهام إلى 122 رحلة في الأسبوع، وبين برمنجهام ومانشستر إلى 119 رحلة أسبوعيا، وبين برمنجهام وليفربول إلى 68 رحلة أسبوعيا. ولكن النقل المائي الداخلي، والشاطئ البحري كانا أرخص من النقل السلعي على تلك العربات. وكذلك كان الحال بالنسبة لنقل الأشخاص؛ مما أدى إلى عدم اكتراث وسائل النقل المائي كثيرا بالمنافسة الضئيلة التي ظهرت من جانب النقل بالعربات. لكن هذه النظرة سرعان ما تغيرت وشعرت وسائل النقل المائي بالمنافسة الحقيقية بظهور النقل الحديدي وانتشاره كوسيلة سريعة للنقل على اليابس. وجاءت الضربة الثانية التي تلقاها النقل المائي الداخلي حينما ظهرت السيارة إلى الوجود.
وقد جاء اختراع السيارة نتيجة لمجهودات عدد كبير من المخترعين، لكن أهم مشكلتين في السيارة كانتا: (1) اختراع جهاز معقول الحجم لتحريك السيارة. (2) ابتكار عجلات ملائمة للسيارة، وإلى جوتليب داملر
G. Daimler (الذي يظهر اسمه مع بنز
Benz
في شركة سيارات مرسيدس الألمانية) يرجع الفضل في اختراع غرفة الاحتراق الداخلي في عام 1885، وبذلك أصبح هناك محرك ذو حجم معقول لتحريك السيارة. وفي 1888 ابتكر جون دنلوب
J. Dunlop
الإطارات الهوائية لتسهيل حركة السير على الطريق، وقد ترتب على التطورات العديدة التي مرت بها السيارة بعد ذلك في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، أن أصبحت السيارة بمعناها الواسع؛ أي السيارات الخاصة وأنواع الشاحنات المختلفة، وسيلة نقل أساسية من بين مجموعة وسائل النقل البري الأخرى.
وكذلك أصبحت وسيلة النقل المسيطرة في المدن وفي المسافات المتوسطة. كما أنها وسيلة النقل الرئيسية في عدد من المناطق، وخاصة في المناطق التي يصعب فيها مد الخطوط الحديدية، إما لأسباب طبيعية (وعورة التضاريس وحدة زوايا المنحدرات) وإما لأسباب اقتصادية (حركة نقل قليلة إلى متوسطة لا يصبح معها إنشاء الخطوط الحديدية عملا رابحا). وكذلك أصبحت السيارة نمط النقل السائد في كثير من المناطق النامية لسهولة تشغيلها اقتصاديا بالمقارنة بتكاليف إنشاء الخطوط الحديدية. وأخيرا أصبحت السيارة نمط نقل الأشخاص في كثير من الدول المتقدمة التي تمتلك شبكة طرق برية سريعة.
ويرجع تفوق السيارة في النقل البري، بمواصفاته سابقة الذكر، إلى عدد من الصفات التي تميزها بالقياس إلى الوسائل الأخرى. وأهم هذه الصفات ما يلي: (1)
أن المحرك ذو حجم صغير نسبيا، ويستهلك وقودا محدودا. (2)
أن الإطارات الهوائية للسيارة تجعلها قابلة للاستخدام في مناطق الطرق غير المعبدة تعبيدا جيدا؛ إذ إن كل احتياج السيارة درب صلب نسبيا غير حجري وعر، ولا رملي، والعوائق الأساسية هي: الوحول والرمال والجليد. ولكن السيارة يمكن أن تتفادى الوحول والرمال إذا كانت مجهزة بإطارات عريضة. وكذلك لا تساعد الطرق المغطاة بالثلوج على السير، ولكن ذلك يمكن تفاديه بإضافات محدودة غير مكلفة (سلاسل حديدية أو إطارات خاصة). (3)
حجم السيارة (خاصة أو شاحنة) يمكن استخدامها بمرونة تامة في شوارع المدن؛ وبالتالي فإن السيارة هي الوسيلة الفعلية للنقل من «الباب للباب». أما النقل الحديدي «من الباب للباب» فإنه في الحقيقة استعارة من النقل البري، ولا يتم بدون استخدام السيارة من المصنع أو السوق إلى محطات السكك الحديدية. (4)
النقل البري في مجموعه أوفر من النقل الحديدي إذا توفرت شروط خاصة، فحيث تكون حركة السلع والناس غير كثيفة. وفي الوقت نفسه متعددة الاتجاهات، ومتوسطة المسافات، فإن النقل البري يكون أكثر اقتصادا في نفقات التشغيل، ويصبح هو وسيلة النقل المسيطرة. ويحدث ذلك غالبا في الدول النامية، والدول صغيرة المساحة، وفي المناطق الجبلية. وتنطبق هذه الشروط كثيرا على لبنان، فليست هناك حركة نقل سلعي ذات أحجام كبيرة كتلك التي تحتاجها الصناعة في البلاد المتقدمة. ويقتصر النقل السلعي فيها على تجارة التجزئة، والمساحة الصغيرة للبنان، مع وجود النطاق الجبلي فيها، وتركز العمالة في عالم الخدمات في بيروت، كلها عوامل ساعدت على أن يصبح النقل البري بالسيارات هو النمط الأساسي للنقل في الدولة؛ ولهذا فإن شبكة الطرق البرية فيها كثيفة بالمقارنة بمساحتها، وعدد السيارات كبير بالنسبة لعدد السكان. ويزيد من أهمية الطرق البرية في لبنان أنها في مجموعها دولة ترانزيت لتجارة بعض دول الشرق الأوسط. (أ) حقائق رقمية حول أهمية السيارة
قصارى القول أن السيارة أصبحت عنصرا هاما من عناصر النقل البري الحديث، ويدل على ذلك بعض الحقائق الرقمية التالية: (1) مبيعات سيارات الركوب في الولايات المتحدة: سنوات متعددة:
جدول
السنة
عدد السيارات المباعة
السنة
عدد السيارات المباعة
1900
4000
1950
6666000
1910
181000
1960
6675000
1920
1906000
1972
8828000 (2) إنتاج السيارات في الدول الهامة 1967:
جدول
الدولة
عدد السيارات بالآلاف
الدولة
عدد السيارات بالآلاف
الولايات المتحدة
8976
إيطاليا
1543
اليابان
3173
الاتحاد السوفييتي
949
ألمانيا
2481
كندا
947
فرنسا
2010
أستراليا
366
بريطانيا
1947
إسبانيا
363
ومما يزيد هذه الحقائق تأكيدا ما يلي:
أولا:
بلغت جملة مبيعات السيارات والإطارات وغيرها من متعلقات السيارات في الولايات المتحدة عام 1969 نحو 66773 مليون دولار. وهذه القيمة تساوي نحو 20٪ من قيمة جملة مبيعات التجزئة في ذلك العام في الولايات المتحدة، كما تساوي نحو 58٪ من قيمة جملة مبيعات السلع الدائمة أيضا في السنة ذاتها.
ثانيا:
أنه من بين أكبر 15 شركة عالمية مرتبة حسب قيمة مبيعاتها عام 1968 كانت هناك أربع شركات سيارات على النحو التالي:
جدول
جنرال موتورز
كانت قيمة مبيعاتها
22755
مليون دولار
شركة فورد
كانت قيمة مبيعاتها
14075
مليون دولار
شركة كرايزلر
كانت قيمة مبيعاتها
7445
مليون دولار
شركة فولكس فاجن
كانت قيمة مبيعاتها
2925
مليون دولار
وكان ترتيب هذه الشركات من بين الشركات الخمس عشرة هو: جنرال موتورز الأولى، فورد الثالثة، وكرايزلر السادسة، وفولكس فاجن ال 15. وقد بلغ مجموع مبيعات هذه الشركات الأربع 40٪ من مجموع مبيعات الشركات ال 15 الكبرى، وبذلك تفوقت شركة جنرال موتورز على شركات البترول العالمية والشركات الصناعية الضخمة، فمثلا كانت ستاندرد أويل (نيوجرسي) الثانية (14091 مليون دولار) وشل الرابعة (9216 مليون دولار) وجنرال إلكتريك الخامسة (8381 مليون دولار).
ومجموعة الأرقام السابقة ليست في حاجة إلى مزيد من الشرح، وكل ما يهمنا منها هو أنها تؤكد بصورة لا تقبل الشك نمو أهمية السيارة في نقل الأشخاص والسلع في عالمنا المعاصر، بدليل ارتفاع إنتاج السيارات، وضخامة الشركات المنتجة للسيارات من بين الشركات العالمية الكبرى.
وفي مجال إنتاج السيارات نجد أن النسبة بين إنتاج سيارات الركوب الخاصة وسيارات الشحن غير متكافئة، وتدل على ذلك الأرقام التالية:
جدول 6-4: إنتاج السيارات بنوعيها في الولايات المتحدة. *
السنة
المجموع الكلي بالآلاف
سيارات الركوب بالآلاف
سيارات الشحن بالآلاف
1946
3078
2147
931
1964
9223
7741
1483
1968
10658
8805
1853 *
مجموع الأرقام عن السيارات نقلا عن:
Information Please Almanac, 1970 - World Almanac 1974 .
يوضح الجدول السابق إنتاج نوعي السيارات في الولايات المتحدة بوصفها أكبر منتج للسيارات في العالم، ويتضح منه ما يلي: (1)
في الفترة بين 1946 و1968 كانت نسبة الزيادة العامة في إنتاج السيارات بنوعيها 350٪، ونسبة الزيادة في سيارات الركوب 410٪، وفي سيارات الشحن 200٪. (2)
في الفترة ذاتها كانت سيارات الشحن المنتجة تساوي نحو 30٪ من مجموع السيارات المنتجة عام 1946. وقد هبطت هذه النسبة إلى نحو 18٪ فقط عام 1968.
ودلالة هذه النسب أن الاهتمام بزيادة الإنتاج في سيارات الركوب تعكس الاستخدام المتزايد لها في نقل الأشخاص، بينما يجد النقل بالشاحنات منافسة كبيرة من جانب وسائل النقل الحديدية والنهرية، ولكن علينا أن نتذكر أن النقل بالشاحنات ليس عملية اقتصادية بالنسبة للمسافات الطويلة، ويجب أن نضيف إلى ذلك أن ثمن سيارات الركوب أرخص بكثير من ثمن الشاحنات، وأن عمر سيارات الركوب أقل بكثير من عمر الشاحنات؛ ومن ثم فإن إنتاج سيارات الركوب يحب أن ينمو بدرجة أكبر بكثير من إنتاج الشاحنات، ونضيف إلى ذلك عاملا آخر يؤدي إلى زيادة إنتاج سيارات الركوب ؛ ذلك هو أن سيارة الركوب ترتبط ارتباطا مباشرا باستهلاك الفرد، بينما الشاحنات والقطارات ليس لها هذا الارتباط الشخصي.
ويؤدي ذلك إلى تدخل عوامل نفسية كثيرة في اختيار سيارات الركوب؛ مما ترتب عليه إنتاج أنواع وأشكال وطرازات مختلفة من تلك السيارات، وبتدخل عامل «الذوق» أكثر من عامل «المتانة» دخلت شركات الإنتاج العالمية منافسة شديدة من أجل ابتكار «الموديلات» وإدخال التحسينات المرغوبة من قبل الجمهور، وأصبحت سيارة الركوب بذلك أشبه بسلعة استهلاكية سنوية وليست سلعة دائمة، مثلها في ذلك مثل الملابس، لكن هذا النمط الاستهلاكي لسيارات الركوب يظهر بنسبة كبيرة في الدول المتقدمة أو الدول ذات الثراء الفاحش (مثل بعض دول البترول العربية والأمريكية)، ولا يكاد يظهر إلا بصورة محدودة جدا في غالبية الدول النامية. (3-4) الطرق الحديثة
قلنا إن السيارة بنوعيها وسيلة نقل ناجحة في مناطق ومسافات معينة، ولكن لكي تصبح السيارة وسيلة نقل ذات كفاءة عالية كان لا بد من تمهيد الطرق الحديثة التي تمكن السيارة من الأداء الأمثل؛ ولهذا ظهرت طرق الأسفلت وانتشرت بسرعة مع انتشار نمط النقل بالسيارات؛ وعلى هذا فإن الطريق الحديث هو استجابة طبيعية لمتطلبات السيارة؛ فقد وسعت الطرق كثيرا، واستقامت الحنيات قدر الإمكان، وامتلأ جانب الطريق بالإشارات لإرشاد السائقين وإعطائهم معلومات أساسية عن حالة الطريق الذي ينطلقون عليه بسرعاتهم العالية. وكذلك تضاف إشارات خاصة حينما تكون هناك عمليات معينة في الطريق، كالحفر أو الإصلاح أو التوسيع.
ومع زيادة أعداد السيارات وتطور سرعتها، لم تعد الطرق القديمة كافية لأغراض النقل البري، حتى بعد توسيع أجزاء منها، وتقليل حنياتها. ويرتبط ذلك بوجود عوائق عمرانية ثابتة لا يمكن التخلص منها إلا بإعطاء تعويضات باهظة؛ ولهذا لجأت الدول المتقدمة إلى إنشاء شبكة جديدة من الطرق الواسعة ذات الاتجاه الواحد، تشق الأرض في خطوط مستقيمة لتقصير المسافات، وتخرج منها وصلات فرعية في اتجاه المدن الرئيسية التي يتجنبها الطريق. والكثير من هذه الطرق يفرض عليها رسوم مرور لفترة طويلة، كنوع مماثل لجباية الطريق القديم، ولكن لأغراض استثمارية من أجل صيانة الطريق وتوفير الخدمات الضرورية عليه، مثل إسعاف الأشخاص والسيارات في حالات الحوادث، ويطلق على هذه الطرق اصطلاحات مختلفة في الدول المختلفة؛ ففي ألمانيا تسمى أوتوبان
Autobahn ، وفي إيطاليا أوتوستراد
Autostrade ، وفي فرنسا أوتوروت
Autoroute ، وفي بريطانيا موتورواي
Motorway ، وفي الولايات المتحدة أسماء عدة أهمها ترنبايك
Turnpike ، وفي مصر يسمى الطريق السريع.
والهدف الأساسي من هذه الطرق السريعة هو خدمة النقل بين المدن الكبيرة. ولم تعد تخدم الريف برغم أنها تخترقه، وذلك لتجنب وسائل النقل الريفية البطيئة، وبذلك فإن الدول المتقدمة أصبحت تمتلك شبكتين من الطرق الإسفلتية: الشبكة الكثيفة القديمة التي تتعرج داخل الريف وتخدم احتياجات السكان الريفيين، وتربط بين المدن الريفية والمدن الصناعية، والشبكة الحديثة المتكونة من عدد محدود من طرق الاختراق السريعة في صورة محاور رئيسية تتفرع عنها وصلات إلى المدن الرئيسية وشبكة الطرق القديمة.
خريطة 6-12: الطرق البرية في شمال شرق الولايات المتحدة. كثافة الحركة على الطرق البرية السريعة التي تزيد فيها أعداد السيارات عن عشرة آلاف سيارة عابرة يوميا.
والطريق السريع هو عالم قائم بذاته، خاضع خضوعا تاما لعنصر السرعة، وله خدماته الخاصة به: مطاعم وحانات ومحطات وقود وصيانة خارج المدن، وقرب تقاطعات الطرق السريعة (التي لا تلتقي إلا بواسطة جسور وأنفاق) أقيمت «الموتيلات» (اختصار موتور-هوتيل = فنادق العابرين بالسيارات) لاستيعاب حركة المسافرين. وكذلك أقيمت مثل هذه الموتيلات عند مشارف المدن التي لم تعد قادرة على استيعاب الحركة الكثيفة التي يأتي بها الطريق السريع. وهكذا يميل الطريق السريع إلى حرمان المدن من بعض وظائفها في قطاع الخدمات، خاصة مع اشتداد كثافة المرور وازدحام الطرق والفنادق في المدن، وبذلك يتشابه الطريق السريع مع الطريق الحديدي في هذا المجال؛ فقد أدى مرور الخط الحديدي بعيدا بعض الشيء عن المدن، إلى ظهور مركز خدمات حول محطة القطار، وفي أحيان كثيرة نمت مدن صغيرة أو كبيرة حول المحطة، وبذلك ظهرت المدن المزدوجة، والتي يعبر عنها في مصر باسم المدينة للدلالة على المدينة القديمة، والاسم ذاته مضافا إليه مصطلح «المحطة» للدلالة على المدينة الجديدة.
وفي لبنان نجد الظاهرة نفسها واضحة في بحمدون وبحمدون المحطة. وقد نمت بحمدون المحطة كثيرا، بفضل الطريق البري الرئيسي بين بيروت ودمشق، للدرجة التي نسي معها الناس كلمة محطة، وأصبحت هي بحمدون بدون إضافات، بينما أضيفت كلمة «الضيعة» إلى بحمدون الأصلية، وبرغم أن العمران فيما بينهما قد اتصل نتيجة لكونهما من مراكز الاصطياف الرئيسية، إلا أن تحول الأهمية النسبية عن بحمدون الأصلية إلى بحمدون المحطة ليست ظاهرة فريدة، بل إنها في الواقع هي الحكم العام؛ فوجود مركز مواصلات رئيسي يؤدي إلى سرعة نمو النواة التي تتكون حوله، بينما تركد المدينة الأصلية في ظل المواصلات الفرعية.
ولكن نمو المدن على جوانب الطرق السريعة الحديثة غير مرغوب، بل هو ممنوع قانونا، وإلا انتفت الوظيفة الأساسية للطريق: التنقل والنقل السريع.
هذا ولم ينتشر نمط الطريق السريع في كل الدول المتقدمة بنفس الكثافة، وتعد فرنسا من الدول الأقل حظا في ذلك. ولعل هذا مرتبط بوجود شبكة طرق أسفلتية كثيفة من قبل، بالإضافة إلى شبكة نقل حديدية كثيفة، وبرغم ذلك فإن في فرنسا الآن اتجاها إلى بناء مجموعة من الطرق السريعة المحورية، جنبا إلى جنب مع التعديلات التي تقوم بها في شبكة الطرق الراهنة لتتلاءم مع السرعة.
خريطة 6-13: الطرق البرية السريعة (الأوتوبان) في ألمانيا.
خريطة 6-14: كثافة شبكة الطرق البرية الأسفلتية في أمريكا الشمالية. لاحظ الفرق بين الكثافة العالية في القسم الشرقي من الولايات المتحدة وكندا، والكثافة المنخفضة للطرق في غرب القارة.
وعلى عكس ذلك فضلت بعض الدول أن تبني شبكة طرق سريعة منفصلة عن الشبكة القديمة، وربما كانت ألمانيا - خلال الحكم النازي - هي أولى الدول الأوروبية التي اهتمت بإنشاء شبكة «الأوتوبان» لتربط أجزاء ألمانيا ببرلين بمحاور برية للاتصال السريع، ولعل ذلك كان مرتبطا بدوافع استراتيجية، إلى جانب الدوافع الاقتصادية.
وعلى وجه العموم يمكننا أن نقول إنه كانت هناك ثلاث حالات دفعت الدول إلى بناء الطرق السريعة: (1)
دول لم تكن شبكتها من الطرق البرية جيدة أو كافية، وحينما أنشئت فيها شبكة الخطوط الحديدية قل الاهتمام بالطرق البرية فأصبحت مهملة؛ وذلك لأن مزايا السكك الحديدية في النقل كانت أكبر بكثير من النقل البري خلال أواخر القرن الماضي. وحينما دخلت هذه الدول عصر السيارة كانت الظروف مهيأة لإنشاء شبكة نقل برية حديثة؛ ومن ثم كان الاهتمام موجها إلى الطرق السريعة. (2)
الدول النامية الجديدة كدول أمريكا الجنوبية، نشأت فيها الخطوط الحديدية مبكرة عن الطريق البري، وحينما دخلت هذه الدول مضمار النقل البري الكثيف كان من الأوفق أن تنشئ شبكة النقل البري على الأسس الحديثة، ومن بينها الطرق السريعة. (3)
دول اشتدت فيها الحاجة إلى النقل البري السريع نتيجة تكاثف حركة النقل في شتى أشكالها. وهذه هي الدول الصناعية الرئيسية، كالولايات المتحدة وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا وإيطاليا ... إلخ.
وبما أن الطريق السريع عمل قومي في أساسه، فإننا لا نجد طرقا سريعة عابرة للقارات، على نحو ما رأينا في السكك الحديدية، ولكن هذا لا يمنع من وجود وصلات تربط بين الطرق السريعة القومية عبر الحدود السياسية، كما هو حادث في أوروبا الغربية والوسطى. ولعل الطرق البرية الأمريكية (سريعة وغير سريعة) هي الطرق البرية التي يمكن أن نعدها عابرة للقارات. ومن الأمثلة على ذلك خط كندا بين الساحل الشرقي والغربي، وطريق ألكان
Alcan
الذي يمتد عبر كندا من أدمنتون في ولاية ألبرتا إلى ألسكا. وقد أنشئ هذا الطريق لأسباب عسكرية خلال الحرب العالمية الثانية وفترة ما بعد الحرب.
ونلاحظ من خريطة الشبكات البرية في العالم أن هذه الشبكات تتوزع بغير عدالة في أجزاء العالم المختلفة؛ ففي الولايات المتحدة وأوروبا الغربية أكبر تركيز لأطوال الطرق البرية وأعداد السيارات الخاصة، وخدمات النقل بالباصات، بينما تظهر الطرق في بقية العالم محدودة بمحاور وحيدة. وهناك اتجاه إلى تكثيف النقل البري في عدد من الدول الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي والصين ودول أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى دول أمريكا اللاتينية، وخاصة البرازيل وبوليفيا وبيرو. (4) الأنابيب كوسيلة نقل
مما لا شك فيه أن النقل بواسطة الأنابيب يعد ثورة في مجالات النقل الخاصة بمصادر الطاقة السائلة والغازية. وفكرة نقل السوائل بالأنابيب فكرة قديمة، استخدمت لنقل الماء من مكان إلى آخر (في الحقول أو المساكن)، ولكن نقل البترول والغاز الطبيعي، وأشياء أخرى، بواسطة الأنابيب أمر حديث. وقد مضت الآن بضع عشرات من السنين على نقل البترول أنبوبيا. ولعل الدافع الرئيسي لابتكار هذه الوسيلة في الولايات المتحدة، كان البعد المكاني بين مناطق إنتاج البترول في الولايات الجنوبية، ومناطق استهلاكه الرئيسية في الولايات الشمالية الشرقية.
وتمتلك الولايات المتحدة أكبر شبكة نقل أنبوبي في العالم، من أهمها خط الأنابيب المعروف باسم البوصة الكبرى
The Big Inch
الذي يربط بين حقول البترول في تكساس والخليج، وبين مراكز الصناعة الرئيسية في شمال شرقي الولايات المتحدة. وتبلغ أطوال الشبكة الأنبوبية الأمريكية قرابة نصف مليون كيلومتر، وفي الشرق الأوسط مجموعة من خطوط الأنابيب بين بترول العراق والسعودية وموانئ التصدير في سوريا ولبنان. وأطول خطوط الأنابيب في الشرق الأوسط هو «التابلاين» بين حقول البترول السعودية وميناء التصدير في الزهراني (جنوب صيدا في لبنان)، ويبلغ طوله 1600 كيلومتر، وقطره 762 مليمتر. وفي الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية يوجد أطول خط أنابيب في العالم، هو المسمى «خط الصداقة» الذي يمتد 4800 كيلومتر بين حقول البترول في الأورال وبين دول الكوميكون في شرق أوروبا. وقد انتهى السوفييت من بناء هذا الخط الطويل عام 1963، ويمكن أن يوصل بخطوط الأنابيب في النمسا وألمانيا، وبذلك يتكون أطول خط أنبوبي عابر للقارات.
وقد أصبح الغاز الطبيعي يلقى مزيدا من الأهمية كمصدر هام من مصادر الطاقة. وقد كانت الولايات المتحدة الدولة الرائدة أيضا في استخدام الغاز ونقله بالأنابيب. وقد أصبحت شبكة الأنابيب الخاصة بنقل الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة أطول من شبكتها الحديدية (أكثر من 350 ألف كيلومتر).
وقد أخذت أوروبا تنشئ خطوطا أنبوبية لنقل الغاز بعد تعدد اكتشاف مصادره في أوروبا (هولندا - إيطاليا - فرنسا). وفي الاتحاد السوفييتي شبكة كبيرة لنقل الغاز الطبيعي بواسطة الأنابيب. كما أنها مدت خطا أنبوبيا إلى حقول إيران البترولية لاستغلال هذا المصدر الكبير من الطاقة، وبذلك فإن إيران هي الدولة الوحيدة من دول الشرق الأوسط التي توجد فيها أنابيب لنقل الغاز.
وقد أثبت نقل البترول والغاز بواسطة الأنابيب أنه أكثر وسائل النقل توفيرا في التكلفة، باستثناء النقل المائي، والمشكلة الأساسية في النقل الأنبوبي أنه شديد التكلفة عند إنشائه. كما أنه ليس وسيلة نقل مرنة، بل ثابتة مثل السكك الحديدية والطريق البري. وإذا كانت الخطوط الحديدية والطرق البرية تلتقي وتتشابك وتصبح ذات اتجاهات نقل متعددة، فإن النقل الأنبوبي ليس كذلك؛ إذ إنه لا يمكن جعله وسيلة نقل متعددة الاتجاهات إلا بتكلفة عالية، وأخيرا فإن خط الأنابيب يجب أن يشغل إلى حده الأعلى لكي يصبح استثمارا مربحا.
وليس البترول والغاز والماء هي فقط المواد التي تنقل أنبوبيا، وإن كانت هي أكثر المواد استخداما لهذه الوسيلة للدرجة التي تجعلها تتبادر إلى الذهن كلما ذكرت خطوط الأنابيب. ففي الوقت الحاضر تستخدم الأنابيب لنقل مواد أخرى: ففي الولايات المتحدة خط أنابيب طوله 168 كيلومترا لنقل الفحم المهروس ممزوجا بالماء بين بتسبرج وكليفلاند. وفي الوقت الحاضر تنفذ بريطانيا مشروعا رائدا تجريبيا: أنبوب من الصلب قطره 127 مليمترا يمتد من حقول الفحم في والتون إلى محطة الطاقة في ويكفيلد (إقليم يور كشاير) طول الأنبوب 1700 متر، والمفروض أن ينقل 40 طنا من كسر الفحم الممزوج بالماء في الساعة الواحدة. وكذلك تنقل المواد الكيماوية بالأنابيب إلى مصنع سفرن سايد الجديد التابع لشركة الصناعات الكيماوية الإمبراطورية. وآخر مبتكرات النقل الأنبوبي هو نقل الألبان من المراعي العليا في جبال الألب الفرنسية والسويسرية والنمساوية إلى مصانع الألبان ومنتجاتها في الأودية السفلى. (5) النقل المعلق
بالرغم من أن معظمنا يعرف قيمة النقل المعلق بالنسبة لنقل الأشخاص في المناطق الجبلية (التليفريك)، إلا أننا لا نعرف مدى الخدمة التي يؤديها هذا النوع من النقل. والمبدأ الأساسي في النقل المعلق هو أن النقل يظل معلقا من حبل يمتد فوقه، ولا يمس الأرض أثناء نقله. وأهم مميزات النقل المعلق هو أنه يعبر أراضي وعرة أو غابية، وأودية مختلفة العمق، وأنهارا مختلفة الاتساع، وخوانق ومنحدرات شديدة الميل، وغير ذلك من العوائق والعقبات الطبيعية التي تقف حائلا دون النقل الاقتصادي، وبذلك يوفر النقل المعلق تكاليف باهظة إذا ما حاول الإنسان القيام بشتى الإنشاءات الهندسية التي تعبر العوائق الموجودة في الطريق.
والنقل المعلق ليس وسيلة نقل حديثة تماما، بل يعود إلى حوالي 75 عاما. وكانت الشركات الإنجليزية رائدة في هذا المجال، وفيما قبل عام 1914 صمم المهندسون الإنجليز ونفذوا عدة مشروعات للنقل المعلق في مناطق مختلفة من العالم، وفي أجواء تراوحت بين الأجواء القطبية والمدارية. ومن أقدم هذه المشروعات خط النقل المعلق الذي أنشئ عام 1913 في جبال الأنديز في جمهورية كولمبيا، ويمتد هذا الخط 47 ميلا، ويقوم بنقل السلع المختلفة إلى ارتفاع يصل إلى نحو 5600 متر، ويعبر خلال مساره خوانق يصل غورها إلى أكثر من ألف متر.
وقد تحسنت تكنولوجية النقل المعلق كثيرا بعد الحرب العالمية الأولى، وخاصة في مجال نقل سلع ثقيلة، وفيما بين 1920 و1939 صدرت بريطانيا كثيرا من مشروعاتها في مناطق مختلفة؛ مثال ذلك مناجم البوكسايت في جمايكا؛ حيث ينقل الخط المعلق 160 طنا من الخامة في الساعة الواحدة، وفي مناجم الجوما
Algoma
في كندا أقام الإنجليز خطا للنقل المعلق طاقته 500 طن في الساعة. وكذلك في معامل أسمنت دالن
Dalen
في النرويج طاقته 220 طنا في الساعة، وفي مناجم البوكسايت في غانا بطاقة تشغيل 300 طن في الساعة.
وحتى عام 1939 كان النقل المعلق متواضعا في مجالي الوزن والمسافة التي يقطعها، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية دخلت تحسينات كثيرة على هذه الوسيلة من وسائل النقل، فبلغت المسافة حوالي 80 كيلومترا، والحمولة 500 طن في الساعة، كما دخلت عناصر الأوتوماتيكية في التشغيل لزيادة الأمان وتقليل الاعتماد على العنصر البشري. والاتجاه في الوقت الحاضر هو إلى مزيد من المسافات التي يقطعها النقل المعلق، ومزيد من طاقة الحمل، وزيادة الأوتوماتية في الشحن والتفريغ، وتكلفة أقل. وقد دخلت خامات جديدة في صناعة النقل المعلق لتوفير مزيد من القوة والأمان والراحة والاقتصاد في تكلفة الصلب المستخدم. ومن أهم الخامات الجديدة عجلات من النايلون لتصبح أنعم من العجلات الحديدية أثناء جريانها على الأسلاك، وسبائك جديدة صناعية بدلا من سبائك الصلب.
الفصل السابع
موجز عن النقل الجوي
(1) التطور التاريخي للطيران
كان الطيران حلما يراود الإنسانية طوال العصور، لكنه لم يستطع تحقيقه إلا من خلال تكنولوجية القرن العشرين. وكانت تخيلات الإنسان عن الطيران تتركز في إمكان تقليد الطيور، بمعنى أنه يصبح في إمكان كل شخص الطيران منفردا، لكن تكنولوجية عصرنا حققت له أكثر من ذلك؛ فإذا بجسم كبير يتسع لعدد كبير من الناس يطير بهم دفعة واحدة، ويتعدى بهم مسافات تصل إلى مئات الأضعاف أكثر مما تستطيعه الطيور، ويرتفع بهم عشرات المرات إلى أعلى مما تستطيعه النسور. لكن الإنسان لا يزال يحلم بتحقيق طيران فردي، في صورة أجنحة أو نفاثات تصعد به كما تصعد الطيور، ويتنقل كما تفعل الطيور. ولعل ذلك ليس بعيدا عن التحقيق.
ينطوي عالم الطيران اليوم على ثلاثة أنواع، أكثرها شيوعا الطائرة بشكلها الانسيابي المعروف. وهناك إلى جانب ذلك الطائرة العمودية الهليكوبتر
Helicopter ، وأخيرا مركبات الوسادة الهوائية الهوفركرافت
Hovercraft .
لقد استغرق الإنسان حوالي 500 سنة لتطوير الملاحة البحرية من سفن الشراع التي أتم بها كشف العالم المجهول إلى السفن الحديثة المزودة بطاقات دفع ميكانيكية مختلفة. لكنه استغرق حوالي 25 عاما فقط للسيطرة على النقل الجوي وتطوير فن الملاحة الجوية. فأول تجارب الطيران بأجهزة أثقل من الجو
1
كانت بين 1890 و1897؛ فقد صنع كلمنت أدر
C. Ader
جهازا للطيران أسماه
Avion
وقام بتجاربه قرب باريس، التي انتهت بطيران ناجح لمسافة 250 مترا بالقرب من مستوى الأرض، تحطمت بعده الطائرة، لكن ذلك كان بداية عصر من التقدم السريع في محاولة الطيران في عدد من الدول الأوروبية، وفي الولايات المتحدة.
وفي عام 1903 نجح الأخوان ويلبور وأورفيل رايت
W. & O.Wright
في الطيران الحقيقي، وفي الفترة بين 1900 و1914 لمعت أسماء كثيرة في عالم الطيران نذكر منها بلريو
Blériot ، فارمان
Farman ، فوازن
Voisin
وسانتوس ديمون
Santos Dumont .
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914-1918) بدأت مرحلة جديدة في الطيران المدني والتجاري، وسجلت عدة أرقام قياسية للطيران أدت إلى مزيد من التطورات الفنية في بناء الطائرات، وفي عام 1919 قام الكابتن جون الكوك والملازم براون
Alcock & Brown
بأول رحلة جوية عبر الأطلنطي بدأت من نيوفوندلاند وانتهت في أيرلندا بعد 16 ساعة طيران قطعا فيها 1900 ميل. وفي السنة ذاتها افتتح أول خط طيران منتظم بين باريس ولندن.
وهكذا تم عبور الأطلنطي بعد 16 عاما من اختراع الطائرة، وكان المانش قد عبر من قبل في 1909؛ أي بعد ستة أعوام من اختراع الطائرة. وفي 1924 تمت أول رحلة جوية حول العالم بقيادة الميجور الأمريكي مارتن، استخدمت فيها أربع طائرات دوجلاس. وقد نجحت طائرتان في العودة إلى سياتل (نقطة الانطلاق) بعد نحو 15 يوما و27 ألف ميل طيران.
2
وفي خلال الثلاثينيات دخلت تعديلات كثيرة على سرعة الطائرة وبنائها، لكن الحرب العالمية الثانية أدت إلى تحسينات سريعة جدا في ألمانيا وأمريكا وبريطانيا وبعد ذلك في الاتحاد السوفييتي. وما زالت التحسينات والتعديلات مستمرة على الطائرة المدنية من أجل حمولة أكبر (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي)، وسرعة فوق سرعة الصوت (مشروع بريطانيا وفرنسا المشترك لإنتاج طائرة الكونكورد، ومشروع الاتحاد السوفييتي لإنتاج واحدة من نوع
T u
الأسرع من الصوت)، لكنها لم تدخل بعد عالم التشغيل التجاري. (2) مواصفات التحسين في الطائرة
لقد بذل مهندسو الطيران ومصممو الطائرات جهودا كبيرة في السنوات العشرين الماضية من أجل الوصول بالطائرة إلى ما وصلت إليه اليوم من مواصفات جعلت قدرتها على المنافسة في مجالات النقل كبيرة. وإمكانية زيادة هذه القدرة في المنافسة قائمة باستمرار إدخال التحسينات والتعديلات. وفيما يلي بعض المواصفات التي مكنت الطائرة من تبوء مكانة لا بأس بها في مجال النقل: (1)
أجنحة الطائرة : كانت الأجنحة عبارة عن سطح مستو مثبت بزاوية معينة إلى جسم الطائرة؛ وبالتالي فقد كانت له زاوية خاصة بالنسبة لخط الطيران. وكان ارتفاع الطائرة ينجم عن ضغط الهواء من أسفل الجناح، ولكن الدراسة والتجربة أثبتتا أن الجناح الذي يحدب سطحه الأعلى يسمح بارتفاع أكبر للطائرة مع تقليل في الوقود؛ فالهواء ينقسم أمام الجناح المحدب إلى تيارين العلوي والسفلي، ويمر التيار العلوي بسرعة من فوق الجناح دون أن يكون له ضغط كبير، ثم ينحدر إلى أسفل وراء الجناح معطيا قوة دفع للتيار الأسفل الذي يضغط على الجناح من أسفل فيساعد على ارتفاع الطائرة. وقد اتضح من الدراسة أن ثلثي قوة ارتفاع الطائرة ذات الجناح المحدب يأتيان من انخفاض ضغط الهواء على أعلى الجناح . (2)
قوة الدفع : استخدمت غرفة الاحتراق الداخلي في محرك الطائرة منذ نشأتها. وقد سمي هذا المحرك باسم محرك «البستون» (مثله مثل محركات السيارات). وكانت الطاقة الناجمة عن المحرك تحول إلى إدارة مراوح الطائرة، وفي عام 1939، قبل بدء الهجوم النازي على بولندا وبداية الحرب العالمية الثانية، كان الألمان قد توصلوا إلى تغيير قوة الدفع في بعض أنواع طائراتهم الحربية، من محرك البستون إلى محرك نفاث. والمحرك النفاث يستخدم الغاز الساخن الناجم عن احتراق الوقود الثقيل (كيروسين غالبا)، إما في إدارة مراوح الطائرة
Jet ، وإما في الخروج من فتحة خلفية؛ مما يؤدي إلى طاقة دفع كبيرة للطائرة
turbo jet ، وهذا هو النوع الذي نسميه في الوقت الحاضر الطائرة النفاثة. وقد استخدم الألمان المحرك النفاث في إدارة مراوح الطائرات؛ مما أعطاها قوة مناورة وارتفاعات أعلى من طائرات البستون، وسجل للسلاح الجوي الألماني انتصاراته المعروفة.
ومن المعروف أن مراوح الطائرة يجب أن تدور بسرعة كبيرة كلما أصبح الجو قليل الكثافة. وبعبارة أخرى كان على الطائرة أن تزيد حركة المراوح بسرعة أكبر كلما ارتفعت في الجو، وهو أمر يستدعي وجود محرك قوي. ومهما كانت قوة المحركات البستون أو النفاثة، فإن هناك سقفا لا تستطيع معه طائرات المراوح أن تتعداه في ارتفاعاتها. أما الطائرات النفاثة ففي قدرتها الارتفاع إلى سقف أعلى من طائرة المراوح؛ وذلك لأن قوة دفع الغاز من المحرك النفاث لا تتأثر كثيرا بقلة كثافة الهواء مثل المراوح، ولكنها مع ذلك لا تستطيع أن تتعدى ارتفاعات معينة؛ لأن المحرك النفاث يحتاج إلى كمية معينة من الأوكسجين لكي يحدث الاحتراق، ومعروف أن الأوكسجين يقل في الارتفاعات العالية كثيرا، ومع ذلك فإن الطائرة النفاثة تستطيع أن تطير إلى ارتفاع 70 ألف قدم كحد أعلى، ولكن متوسط ارتفاع الطائرات التجارية وطائرات الركاب النفاثة هو بين 30 و40 ألف قدم فقط، بينما ينخفض ذلك المتوسط إلى ما بين 15 و30 ألف قدم في طائرات المراوح. (3)
الوقود : تستهلك النفاثات وقودا أكبر من طائرات البستون في الطيران على ارتفاعات منخفضة، أو بسرعات متوسطة، لكن استهلاكها من الوقود يقل عن طائرات البستون متى تعدت السرعة 450 ميلا في الساعة ومتى ارتفعت عن 25 ألف قدم، والعكس تماما بالنسبة لطائرات البستون التي تحتاج إلى تشغيل أقوى لمراوحها إذا ارتفعت كثيرا وزادت سرعتها. ويجب أن نلاحظ أن الوقود الثقيل الذي تستخدمه النفاثات أرخص بكثير من البنزين ذي الأوكتين العالي الذي تستخدمه طائرة البستون؛ وعلى هذا فإن تشغيل النفاثات في مجموعه أكثر اقتصادا من طائرات البستون. (4)
الاهتزاز والصوت : نتيجة لانخفاض سقف الطيران لطائرات البستون فإنها تتعرض كثيرا لتغير ضغط الهواء في طبقات الجو السفلى؛ مما يؤدي إلى كثرة اهتزاز الطائرة وكثرة وقوعها في «المطبات» الجوية. ومن الطبيعي أن يرتفع صوت المراوح والمحرك كثيرا كلما زادت سرعة الطائرة وارتفعت عاليا في الجو، وقد تغلبت الطائرة النفاثة على هذه المساوئ بارتفاعها العالي بعيدا عن تأثيرات الضغوط الهوائية، وبانتظام صوت المحرك النفاث، الذي لم يعد في حاجة إلى زيادة القوة في الارتفاعات العالية والسرعات العالية. وقد أسهم في ذلك أيضا تحسن بناء جسم الطائرة بحيث أصبحت أقدر على عزل الصوت. (5)
المطارات والمدارج : تحتاج الطائرات المائية والبرية إلى مدارج خاصة للهبوط والإقلاع، ويبلغ طول المدرج المائي 15000 قدم (حوالي خمسة كيلومترات) بينما يبلغ طول المدرج الأرضي 12000 قدم (حوالي أربعة كيلومترات)، وأهم احتياجات المطارات أن تكون في مناطق خالية من تكرر ظاهرة الضباب والدخان قدر الإمكان، وكذلك أن تكون محمية من الرياح السريعة التي تعرقل إقلاع أو هبوط الطائرات، وإلى جانب ذلك يجب أن تكون المدارج الأرضية مبنية حسب مواصفات خاصة لتحمل الثقل الكبير للطائرات أثناء هبوطها وإقلاعها، وأن تكون مصممة بحيث يسهل انصراف مياه الأمطار من فوقها.
ومن الصفات الأساسية في المطارات الدولية أن تكون مجهزة بنظام إضاءة ليلي على المدارج وفي ساحة المطار لكي تعمل المطارات ليلا ونهارا، والمطار الناجح هو الذي يوفر للركاب والبضائع أكثر اقتصاد ممكن في الوقت الذي يقتضيه المسافر في الخروج أو الدخول بين أبنية المطار والطائرة. (6)
الجو وتأثيره : للجو تأثيرات مختلفة على الطيران، من أهمها الضباب الذي يؤدي إلى توقف الإقلاع والهبوط في الحالات القصوى، وقد تغلب على ذلك الراديو الملاحي والتليفزيوني الذي يعطي معلومات عن ارتفاع الطائرة ويساعد على الهبوط الأوتوماتي. ويشكل الثلج المتجمع على جسم الطائرة خطرا أمكن تلافيه بأجهزة خاصة لتسخين الأجنحة وغيرها من الأماكن الحساسة المؤثرة في طيران الطائرة، بالقدر الذي يمنع تراكم الثلوج.
وقد كان تكييف هواء كابينة الطائرة من ناحيتي الحرارة والضغط من المشكلات التي حلتها التجهيزات الحديثة، ويضاف إلى ذلك تزويد الطائرة بكمية أوكسجين إضافية في حالة تعطل أجهزة التكييف. وقد سبق أن ذكرنا أنه أمكن التغلب على تقلبات الجو والرياح التي تعاكس مسار الطائرة والمطبات الهوائية بإمكانية الطيران على ارتفاعات عالية؛ إذ إن التقلبات الجوية العنيفة لا تتعدى عشرة آلاف قدم فوق سطح البحر إلا في أحوال قليلة. (7)
الأمان : كل وسائل النقل لا توجد فيها وسائل أمان كاملة باستثناء الطائرات التي تدرس فيها كل احتمالات الحوادث؛ ومن ثم تزود الطائرة بكافة وسائل الأمان المتعارف عليها، وتقع كل الشركات التي لا تزود طائراتها بما هو متفق عليه من أجهزة الأمان تحت طائلة العقوبة. وأهم أشكال الأمان التي تراعى هي: (أ)
مادة بناء الطائرة وإجراء اختبارات وفحوص ذات مواصفات دولية عليها قبل تقرير صلاحيتها للطيران. (ب)
يجب أن تتم الصيانة في الطائرات حسب جدول زمني متفق عليه بالنسبة لكل طراز من الطائرات، ويضاف إلى ذلك تغيير مستمر في القطع التي تصاب بالإجهاد. (ج)
لا يسمح بقيادة الطائرة إلا لملاحين مدربين ومجازين فنيا وصحيا، ولا يسمح للطيارين بالطيران رحلات طويلة، كما يجب أن يكون هناك طياران على الأقل في كل طائرة: القائد ومساعد له، لتجنب أية عوارض مرضية على طاقم القيادة قد تؤدي إلى الكوارث. (د)
أن تكون الطائرة مجهزة بالراديو لتلقي بيانات عن حالة الجو طوال رحلتها، ولكي تظل على اتصال بالمطارات المنوط بها متابعة الرحالات الجوية؛ للتعرف على مكان الطائرة خلال طيرانها ولتأمين عملية إنقاذ سريعة في حالة الطوارئ. (ه)
أن تكون الطائرة مزودة بجهاز هبوط أوتوماتي. (و)
يجب أن تتوفر أحزمة الوقاية وأجهزة الأوكسجين وأطواق (صديرية ) النجاة في كل مقاعد الطائرة. (ز)
دراسة دقيقة لكل حوادث الطيران، وضرورة تعميم نتائجها على شركات الطيران لإمكان تفادي ما يمكن تفاديه من مسببات تلك الحوادث. (ح)
منع نقل سلع معينة مثل المتفجرات أو المواد الكيميائية في طائرات الركاب أو البضائع التجارية.
هذا ويجب أن ندرك أن تزويد الطائرات بمثل هذه الاحتياطات لا يمنع من حدوث بعض الكوارث، لكن لنا أن نتصور قدر الحوادث إذا لم تتخذ مثل هذه الإجراءات. (8)
الراحة : يتضمن موضوع راحة الركاب عدة موضوعات رئيسية منها إزالة خوف الناس من الطيران، وإزالة الأسباب المؤدية إلى الاهتزازات وضيق التنفس والضوضاء. وقد نجحت الطائرات الحديثة في هذا السبيل نجاحا منقطع النظير. وقد كان الخوف هو أكثر العقبات التي تجعل الناس يخشون السفر بالطائرات ويهابونه، وذلك لتصورهم أن الطائرة، وهي في الجو، أكثر عرضة للحوادث من وسائل النقل السطحية على الأرض أو على الماء، لكن احتياطات الأمان المشددة قد جعلت الطائرات أقل خطورة من وسيلة الانتقال بالسيارات الشائعة (انظر الجدول
6-3 ).
وقد أدى قدرة الطائرة على الطيران العالي إلى تقليل نسبة اهتزاز الطائرة كثيرا، وإبعادها عن التقلبات الجوية العنيفة، وهذا في حد ذاته قد أقنع المسافرين بمدى أمان الطائرة؛ ذلك لأن الاهتزازات كانت تؤخذ دليلا أو مؤشرا على إمكان سقوط الطائرة. وكذلك فإن استخدام عوازل الصوت والمحرك النفاث قد أدى إلى تقليل الضوضاء التي كانت تتصف بها طائرات المراوح، وتضايق آذان الركاب كثيرا. والنتيجة نفسها نلحظها في تكييف حرارة الكابينة والضغط الجوي وإمدادها بالأوكسجين اللازم.
وإلى جانب وسائل الأمان التي سبق ذكرها، فإن السفر بالطائرات يتميز بوسائل الراحة العادية أكثر من غيره من وسائل النقل، وأول مسببات ذلك عدم وجود الأتربة التي تضايق ركاب القطارات والسيارات، بل وركاب البحر في بعض الأحيان. ويضاف إلى ذلك كرسي الطائرة المريح، الذي يمكن استخدامه لإغفاءة مريحة، والأكل الطيب والمرطبات والخدمة الجذابة من قبل المضيفات اللاتي يخترن اختيارا خاصا. وقد أضافت الطائرة العملاقة (الجامبو) شاشة للعرض السينمائي وصالونا في طابق علوي يشعر المسافر بالتحرك والسفر في وسيلة نقل واسعة ثابتة بدلا من حجم الطائرة العادي، ولكن أكبر وسائل الراحة التي يوفرها الطيران هو الانتقال السريع، وهو أحد متطلبات العصر الحديث التي لا يستطيع أن يقدمها سوى الطيران. (9)
الرخص : تتفوق الطائرة على وسائل النقل الأخرى بأنها وسيلة انتقال رخيصة في المسافات الطويلة والتنقل المباشر، ومما يؤدي إلى ذلك - من بين أشياء أخرى - أن الطيران المدني يستفيد كثيرا من الأبحاث التي يجريها الطيران العسكري. وقد قلل ذلك تكلفة الأبحاث عند شركات بناء الطائرات المدنية؛ وبالتالي قلل من جملة تكلفتها. (3) بعض مساوئ النقل الجوي
وفي مقابل هذه المميزات نجد بعض المساوئ الخاصة بالطائرة يمكن أن نوجزها فيما يلي: (1)
هناك استخدام كبير للطاقة لتحريك الطائرة ورفعها إلى طبقات الجو، سواء كانت فارغة أو محملة. (2)
وزن الطائرة كبير جدا بالقياس إلى حمولتها الصافية، وهذا يؤدي إلى ارتفاع أجور نقل السلع والركاب؛ فالمتوسط العام لحمولة الطائرات يقدر بنحو 50 طنا، بينما وزن الطائرة يتراوح بين مائة ومائتي طن حسب نوعها وحجمها. (3)
تؤدي احتياجات الأمان التي سبقت الإشارة إليها، إلى إضافات كثيرة في تكلفة إنتاج وتشغيل الطائرات، ويضاف إلى ذلك الصيانة المستمرة للطائرات؛ ولهذا تحتاج شركات الطيران إلى تشغيل طائراتها تشغيلا كفئا لكي تستطيع أن تواجه هذه النفقات التي لا يوجد لها نظير في وسائل النقل الأخرى. (4)
برغم التجهيزات الحديثة في الطائرات والمطارات إلا أن الجو لا يزال عنصرا شديد الفعالية في تأخير إقلاع أو هبوط الطائرات، وفي أحيان كثيرة يؤدي الجو العاصف إلى إقفال الحركة في مطار أو عدة مطارات وتحويل خطوط الطيران إلى مناطق أخرى؛ مما يضاعف خسارة شركات النقل (تحمل مصاريف إقامة المسافرين وإعادة نقلهم إلى وجهتهم الأصلية بعد انتهاء العاصفة). (5)
على الرغم من السرعات العالية التي حققتها الطائرات الحديثة، إلا أن وقتا كبيرا يضيع على المسافرين خلال انتقالهم من المدينة إلى المطار. وقد دلت المتوسطات الإحصائية في الدول المتقدمة على أن الإنسان يضيع وقتا من خروجه من بيته إلى ركوبه الطائرة بما يوازي وقت طيران 500-600 كيلومتر. وتختلف نسبة الوقت الضائع بين المدينة والمطار حسب طول الرحلة الجوية؛ فقد قدرت الإحصاءات أن 15٪ من الوقت يفقد في التنقل الأرضي في مدينتي لندن ونيويورك، وذلك من مجموع الوقت الذي تستغرقه الرحلة (لندن - المطار - الرحلة الجوية - مطار نيويورك الدولي - مدينة نيويورك)، ويفقد 42٪ من الوقت خلال رحلة جوية قصيرة من لندن إلى أمستردام. وقد زادت نسبة الوقت المفقود في العالم نتيجة التفتيش الدقيق في المطارات، خوفا من حوادث اختطاف الطائرات، وفي الدول النامية يزيد الوقت المفقود عن 50٪ من مجمل وقت الرحلة المتوسطة؛ وذلك راجع إلى قلة المطارات أو كثافة الحركة على مطار واحد مع قلة خبرة أو كفاءة الجهاز الإداري وجهاز خدمة المسافرين في تلك المطارات.
وفي الحقيقة فإنه لا يوجد نظام نقل «من الباب إلى الباب» في عالم الطيران حتى برغم استخدام الهليكوبتر في التنقل من المطار إلى وسط المدينة، وبذلك فإن بطء التنقل الأرضي بين المدينة والمطار يفقد النقل الجوي كثيرا من ميزاته، وخاصة في المسافات القصيرة؛ مما يؤدي إلى تفوق السيارة والقطار عليها. (4) الشبكة الرئيسية في النقل الجوي العالمي
نظرا لأن مناطق الصناعة والدول المتقدمة تحتل أماكنها في نصف الكرة الشمالي، وبالذات على شاطئ الأطلنطي الشمالي، فإننا نجد أن أكثف حركة للطيران هي تلك التي تمتد بين أوروبا وأمريكا الشمالية. والواقع أن ثلاثة أرباع الخطوط والحركة الجوية العالمية تتركز فيما بين أوروبا وأمريكا الشمالية، وفي داخل أوروبا وداخل أمريكا الشمالية، وهذا هو نفسه نطاق التعامل الكثيف في النقل البحري، ووسائل النقل الأرضية (قارن الخريطتين 4-1 و7-1 للملاحة البحرية والجوية العالمية).
ويتأكد لنا التشابه بين نمط وامتداد المحاور الأساسية للنقل البحري والجوي من تتبع خطوط الحركة في كل من الوسيلتين؛ مثال ذلك الخط الجوي الرئيسي من أوروبا عبر الشرق الأوسط إلى الهند والشرق الأقصى، الذي يكاد يتبع نفس الامتداد لخط الملاحة البحرية في هذا الاتجاه، وتتكرر الصورة نفسها من تتبع خطوط الطيران والملاحة البحرية بين أوروبا أو أمريكا الشمالية وبين أمريكا الجنوبية أو أفريقيا الجنوبية، وهذا التشابه في اتجاهات هاتين الوسيلتين من وسائل النقل يرجع إلى أسباب واحدة: الربط بين القارتين الشماليتين من ناحية وبين عالم المحيط الهندي والشرق الأقصى والأطلنطي الجنوبي من الناحية الثانية، بوصفهما منطقتين متميزتين في أشكال الإنتاج ويتكاملان اقتصاديا بربطهما معا عبر جسور النقل المختلفة.
ولهذا السبب أيضا لا نجد تغيرا كبيرا في شكل الشبكة الجوية منذ فترة ما بين الحربين العالميتين إلى وقتنا الراهن؛ فالظروف الاقتصادية التي تأسست عليها اتجاهات الخطوط الجوية في الثلاثينيات لا زالت قائمة دون تغير كيفي يذكر، بل إن تكاثف الحركة على ذات الاتجاهات في الستينيات قد أكد مرة أخرى مدى قوة التكاملية الاقتصادية بين الأقاليم المذكورة.
وإذا كان الشكل العام للخطوط الجوية العالمية لم ينتبه تغير كبير، فإن العكس قد حدث في الخطوط الداخلية للدول المختلفة، وذلك بظهور أماكن استثمار جديدة ومراكز تسويق جديدة، بالإضافة إلى ظهور أهمية الطائرة كأوفر وسيلة نقل من حيث الزمن، ونمو روح التنقل السريع بين الناس ورجال الأعمال. وتتضح ظاهرة تكاثف النقل الجوي الداخلي بصورة جلية في الدول ذات المساحات الكبيرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وكندا والاتحاد السوفييتي والبرازيل وأستراليا، ويمكن أن ينطبق هذا أيضا على دول السوق الأوروبية المشتركة إذا اعتبرناها وحدة أرضية واحدة.
خريطة 7-1
وتعطينا دراسة الخريطة 40 الهيكل الأساسي للنقل الجوي الدولي، ويتضح من هذه الدراسة أن هناك تجمعين أساسيين لخطوط الطيران، هما: «أ» مجموعة الخطوط التي تدور حول العالم مع درجات العرض. «ب» ومجموعة الخطوط التي تتخذ مسارات شمالية جنوبية.
وتسمى مجموعة الخطوط الدائرية في أحيان «الحلقة الجوية». وهي في حقيقتها تتكون من حلقتين: الأولى هي الحلقة الشمالية أو الدائرة الكبرى وتمر من أوروبا إلى أمريكا الشمالية ثم عبرها إلى المحيط الباسيفيكي، ومن ثم إلى اليابان، ويكمل هذه الحلقة الخطوط الجوية السوفييتية من الشرق السوفييتي الأقصى إلى موسكو ومن ثم أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية. أما الحلقة الثانية فهي في الواقع عبارة عن قوس كبير يمتد من أوروبا الغربية عبر الشرق الأوسط والهند إلى الشرق الأقصى. وكان هذا القوس يسمى في أحيان الحلقة الذهبية. وكما هو ملاحظ يتجنب هذا القوس أراضي الاتحاد السوفييتي ويربط عالم المحيط الهندي وشرق آسيا وأستراليا بأوروبا مباشرة، وفي اليابان يلتحق هذا القوس بخطوط الطيران العابرة للباسيفيك إلى أمريكا الشمالية، ومن ثم تكتمل الحلقة بعد ذلك عبر الأطلنطي إلى أوروبا.
أما مجموعة الخطوط التي تتخذ مساراتها من الشمال إلى الجنوب فتنقسم إلى ثلاث مجموعات، هي «أ» الخطوط التي تربط أمريكا الشمالية بأمريكا الوسطى والجنوبية. «ب» الخطوط التي تربط أوروبا بأمريكا الجنوبية والوسطى. «ج» الخطوط التي تربط أوروبا بأفريقيا. ويمكننا أن نضيف إلى هذه المجموعات خطا رابعا هو خط الطيران القطبي بين اسكندنافيا والسكا عبر القطب الشمالي؛ ومن ثم يتفرع إلى اتجاهين: من ألسكا إلى الساحل الأمريكي الغربي، ومن ألسكا إلى اليابان، وهو طريق أقصر كثيرا من طريق الدائرة الكبرى فيما يختص بالنقل الجوي بين أوروبا وعالم الباسيفيك الشمالي.
ونتيجة للتحسن في عالم الطيران ازداد إقبال الناس والسلع عليه؛ ففي عام 1954 كان نشاط الطيران العالمي في مجال نقل الأشخاص يساوي 25 بليون شخص/ميل، ارتفع إلى 58 بليون شخص/ميل عام 1961. وقد ازداد أداء الطيران بشدة عن هذا الرقم، ومما يدل على ذلك أن في الولايات المتحدة وحدها بلغ الأداء 131 بليون شخص/ميل في عام 1970، وارتفع إلى 164 بليون شخص/ميل عام 1972، ولكي نقرب هذا الأداء إلى الأذهان فإن عدد الذين استخدموا الطائرات في عام 1970 في أمريكا بلغ 170 مليون شخص، وارتفع عددهم 195 مليونا عام 1972، وأن عدد الرحلات الجوية (إقلاع وهبوط) عام 1971 بلغ عام 1971 نحو 642 ألف رحلة من المطار أوهارا في شيكاجو، و588 ألف رحلة من مطار لونج بيتش في كاليفورنيا، و380 ألف رحلة من مطار كنيدي في نيويورك (أحد أربعة مطارات في تلك المدينة).
والملاحظ أن كثافة حركة النقل الجوي في بعض النقاط قد أدت إلى نشأة عدة مطارات في المدينة الواحدة كل منها متخصص في نوع من حركة الطيران، فمثلا في نيويورك نجد أربعة مطارات متخصصة: مطار كنيدي الدولي المتخصص في الطيران خارج الولايات المتحدة، وفيه تتركز أكثر من 50٪ من حركة النقل الدولي الأمريكية، ومطار لاجوارديا المتخصص في النقل الداخلي القصير، ومطار نيوآرك المتخصص في النقل الداخلي الطويل، ومطار بيتربورو للطائرات الخاصة، هذا بالإضافة إلى خدمة خمس محطات للهليكوبتر.
وفي العالم عدد كبير من الشركات الجوية، الكثير منها يمثل شركات قومية تحظى بمساعدات مالية حكومية لتغطية خسائرها. وقد كان عدد الشركات الخاصة كبيرا في النصف الأول من هذا القرن، لكنها كانت تمثل شركات صغيرة في رأسمالها وتجهيزاتها. ونتيجة للمنافسة اندمجت كثير من تلك الشركات الصغرى في هيئات أو شركات طيران كبيرة، تماما كما حدث في عهد الاستثمار الخاص لشركات النقل الحديدي والبري. ويوجد في الولايات المتحدة أكبر عدد من الشركات الجوية الخاصة، بعضها هيئات ضخمة للنقل، وكثير منها ما زال شركات صغيرة تعمل على خطوط طيران قصيرة، أو تؤجر طائراتها حسب الطلب، وهي تماثل إلى حد بعيد نظام السفن المتسكعة.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية كونت الشركات الكبرى اتحادا دوليا لتنظيم حركة الطيران العالمي، استجابة منها لنمو الخطوط الجوية وتكاثف حركة النقل. ويساعد هذا الاتحاد على إمكان انتقال المسافر من شركة إلى أخرى بناء على نظام محاسبي بين هذه الشركات. وفي عام 1919 عقد أول مؤتمر للنقل الجوي في باريس حضرته 33 دولة، وذلك لتقرير لوائح مشتركة لاستخدام الجو في النقل، لكن لم تحضره الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والصين والبرازيل. وفي عام 1944 عقد مؤتمر شيكاجو لإصدار شكل من أشكال القانون الدولي للملاحة الجوية ولكن الاتفاق لم يكن كاملا؛ ذلك أنه بخلاف المياه الإقليمية التي تمتد إلى حدود معينة - طالت أم قصرت - فإن سيادة الدولة على أجوائها تمتد إلى ما لا نهاية، ولذلك فإن عبور أجواء الدولة - حتى على ارتفاعات عالية - يحتاج إلى إذن مسبق. وقد انتهى مؤتمر شيكاجو إلى خمس حريات أساسية لكن الاتفاق عليها كلها لم يتم في صورة جماعية.
فهناك حق الطيران في أجواء الدولة دون الهبوط (إلا في الحالات الاضطرارية) وحق الهبوط دون نقل بضائع أو ركاب. وقد وافق عليهما مندوبو 64 دولة. وهناك حق إنزال الركاب والبضائع والبريد، وحق نقل الركاب وشحن البضائع والبريد. وهما امتيازان يخولان فقط للشركة الجوية التابعة للدولة التي يتم فيها التفريغ والشحن. وقد أقرتهما 44 دولة، والحرية الخامسة هي تلك التي تخول لشركة طيران أخرى - بالاتفاق المسبق - حق نقل الركاب والبضائع بنفس حقوق شركة الطيران الوطنية. وهذه الحرية الأخيرة لم تحتج إلى موافقة المندوبين؛ لأنها خاضعة للاتفاقات الدولية الثنائية فقط. وعلى هذا النحو تتداخل السياسات القومية؛ مما يؤدي في أحيان كثيرة إلى عرقلة النقل الجوي، ولكن ذلك يبدو ضرورة قومية ضد القوى التي تمتلكها شركات الطيران الكبيرة التي تؤهلها لاحتكار النقل الجوي العالمي. (5) وسائل النقل الهوائية الأخرى
إلى جانب الطائرة فإن هناك الهليكوبتر التي يعود الفضل في اختراعها عام 1939 إلى إيجور إيفان سيكورسكي
I. I. Sikorsky
الروسي المولد الأمريكي الجنسية، والميزة الرئيسية للهليكوبتر أنها ترتفع وتهبط عموديا، وبذلك لا تحتاج إلى مهابط كبيرة كالطائرات، لكن السرعة محدودة؛ لأن المراوح تستخدم في وظيفتي الارتفاع والدفع، ومدى الطيران للهليكوبتر محدود أيضا. وفضلا عن مزاياها الحربية، فإن للهليكوبتر مستقبلا كبيرا في عالم النقل المباشر المحدود المدى، بالنسبة للأشخاص والسلع، وهي تستخدم في عمليات الكشف فوق الأراضي الوعرة والغابات الكثيفة والإنقاذ وإسعاف المناطق التي تحاصرها الفيضانات أو الانهيارات الجليدية أو الحرائق الواسعة في الغابات والمدن. وتستخدم أنواع من الهليكوبتر في رفع مواد البناء الثقيلة إلى المباني المرتفعة والجسور. وأكثر استخدام مدني لها في الوقت الحاضر نقل الركاب والبريد من المطارات إلى وسط المدن في الدول المتقدمة، وخاصة أمريكا، أو في الدول التي تقع فيها المطارات بعيدة عن المدينة.
والهوفركرافت هي نوع حديث من النقل الذي يستخدم الطبقة المنخفضة من الهواء. وهي عبارة عن مركبة تسير على وسادة هوائية بواسطة توربين موجه إلى أسفل لرفع المركبة حوالي 160سم فوق سطح الأرض أو الماء، ومجهزة بمراوح لحركة الدفع. وتسير هذه المركبات عادة على الأرض شبه المستوية بدون حاجة إلى طريق ممهد، وتسير فوق المياه بحيث تبتعد عن الأمواج، وينتفي بذلك احتكاك جسم المركبة بالماء فيعطيها سرعة أكبر من القوارب السريعة. واتجاه البحوث في مجال الهوفركرافت هو إلى زيادة سرعتها على الطيران وزيادة قدرتها على الارتفاع عن سطح الأرض أو الماء. ولا شك أن الهوفركرافت - إذا ما أدخلت عليها التحسينات اللازمة - سوف تحتل مكانا بارزا في النقل على المسافات القصيرة دون الاحتياج إلى إنشاءات الطرق والجسور التي تكلف كثيرا في الوقت الحاضر.
ملحق مصور
لتطور النقل البحري والحديدي (1) التطور التاريخي لفن بناء السفن الشراعية
الصور نقلا عن:
Goldsmith-Carter, G., “Sailing Ships”, Hamlyn, London 1972 .
الصورة
1 :
قارب بدائي مصري مصنوع من البردي كان يستخدم لنقل الحبوب على طول النيل منذ أكثر من 3000 سنة ق.م. لاحظ الشراع المصنوع من البردي والمحمل على صاريين من الخشب الخفيف، مع ظهور الدفة في صورة مجداف كبير.
الصورة
2 :
واحدة من سفن الأسطول البحري المصري الذي أمر ببنائه الملك سنفرو (2900ق.م) للتجارة في البحرين الأحمر والمتوسط. لاحظ أن السفينة كانت توجه بستة مجاديف، والشراع المصنوع من القماش.
الصورة
3 :
نموذج لسفينة فينيقية. كانت السفن الفينيقية ذات حمولة كبيرة تصل إلى 300 طن. وكانت تشبه إلى حد بعيد السفن المصرية والكريتية. وقد بنى الفينيقيون سفنا حربية سريعة لحماية السفن التجارية من القراصنة. وبرغم مهارة البحارة الفينيقيين وبلوغهم الشواطئ البريطانية في بعض رحلاتهم، إلا أنهم التزموا بالملاحة قرب الشواطئ ولم يغامروا في البحار الواسعة مثل النورسمن.
الصورة
4 :
سفينة رومانية لنقل الحبوب في البحر المتوسط، القرن الثاني الميلادي.
الصورة
5 :
سفينة عربية ذات شراعين من النوع الذي يسمى «البغلة » الذي كان يستخدم للتجارة في أعالي البحار. تتشابه هذه السفينة مع السفن الأوروبية في العصور الوسطى (الكارافيل) في التصميم العام، لكنها تحتفظ بالشكل القديم في جزئها الأسفل. وقد كان لدى العرب أنواع مختلفة من السفن منها «السمبوك» المشابهة للبغلة والمستخدمة إلى اليوم في البحر الأحمر، ومنها «الزاروق» و«البدن» وهما سفينتان مؤهلتان للحركة السريعة والملاحة في المياه الضحلة، ويستخدمان بكثرة في خليج عدن وخليج عمان والخليج العربي. وقد أدت سرعة هذه السفن إلى استخدامها في نقل السلع والأشخاص المهربين.
الصورة
6 : «كاتو ماران» قارب صيد هندي من ساحل كروماندل (شرق الهند) مكون من سبعة ألواح خشبية سميكة، وخمس قطع خشبية مقوسة في المقدمة.
الصورة
7 : «شووان » سفينة هوانجهو النهرية في شمال الصين، تصل حمولتها إلى عشرين طنا.
الصورة
8 :
سفينة تجارية من سواحل الصين الشرقية (جانك).
الصورة
9 : «كانو» مزدوج من جزر هاواي، أصله من جزر الباسفيك الجنوبية.
الصورة
10 :
قارب ذو عوامة واحدة، قبيلة الساكالافا في مدغشقر.
الصورة
11 :
نموذج لسفن الفايكنج (النور سمن) الطويلة الحربية. وقد بلغت أكبر أنواع هذه السفن 90 مترا طولا، وبها 120 مجدافا وتحمل ألف مقاتل، وكان الفايكنج يقومون برحلات تجارية طويلة في كل مياه أوروبا الشمالية والغربية والبحر المتوسط. وفي القرن 15 أو 16 الميلادي كفوا عن بناء هذه السفن الطويلة وأخذوا يبنون سفنا مشابهة لسفن البحر المتوسط.
الصورة
12 :
كاراك
Carrack
نموذج لسفن التجارة الأوروبية خلال العصور الوسطى، وخاصة سفن البندقية وجنوا، وهذا هو النوع الذي استخدمه كولمبس لكشف أمريكا، وهي سفينة مجهزة بشراعين أو أربعة، وتتراوح حمولتها بين 200 و600 طن.
الصورة
13 :
أكبر سفن القرن 16 هنري الكبير
Henry Grâce à Dieu
بناها هنري الثامن ملك بريطانيا (1514) لمواجهة تهديد الأسطول الإسباني. مجهزة بأربعة أشرعة وحمولتها نحو ألف طن، وتحمل 21 مدفعا ثقيلا، 130 مدفعا متوسط المدى.
الصورة
14 : «أسكس» أكبر سفينة حملت أشرعة (63 شراعا) على سطح البحار. وكانت أول سفينة تستخدم التمويه؛ فطلي جانباها بلونين مختلفين لتضليل القراصنة. وكانت واحدة من الأسطول الضخم الذي كانت تمتلكه شركة الهند البريطانية (54 سفينة مجموع حمولتها 45 ألف طن). وقد أعارت الشركة 14 سفينة وثلاثة آلاف بحار إلى الأميرالية البريطانية عام 1795؛ مما يدل على قوة الشركة في ذلك الوقت. وكان قباطنة هذه السفن يربحون نحو عشرة آلاف جنيه في كل رحلة لعدد من الامتيازات منها تخويلهم حق نقل 50 طنا من البضائع لحسابهم أثناء رحلتهم من أوروبا إلى الشرق، وعشرون طنا من التوابل والسكر والأفيون في عودتهم إلى أوروبا.
الصورة
15 :
أضخم سفينة شراعية مصنوعة من الصلب، السفينة «بروسيا»، بنيت 1902، حمولتها 8 آلاف طن، طولها 132 مترا وعرضها 17 مترا، مجهزة بخمس صوار من الصلب، وهي بذلك السفينة الوحيدة ذات الصواري الخمس. وكانت مزودة بمحركين بخاريين لإنزال الأشرعة ورفعها، والمرسى، وتحريك الأوناش وضخ المياه. وقد كانت تابعة لشركة
البحرية الألمانية وتخدم على خط هامبورج شيلي، حيث كانت تنقل النترات لاحتياجات الصناعات الكيميائية الألمانية.
الصورة
16 :
إعلان عن موعد وصول سفينة شحن «متسكعة» نشر في الجرائد قبل وصول السفينة بنحو شهرين لكي يعد الشاحنون شحناتهم. لاحظ أن السفينة تابعة (أو ترفع علم) إمارة ليختنشتاين، وهي إمارة صغيرة بين النمسا وسويسرا ليس لها شواطئ بحرية.
شكل 1
شكل 2
شكل 3
شكل 4
شكل 5
شكل 6
شكل 7
شكل 8
شكل 9
شكل 10
شكل 11
شكل 12
شكل 13
شكل 14
شكل 15
شكل 16 (2) تطور النقل الحديدي وتكنولوجية الشحن الحديثة
الصور نقلا عن:
Day, J. R, “Trains”, Hamlyn, London 1969 .
الصورة
17 :
قطار ينقل الفحم على خط ستوكتون-دار لنجتون عام 1804، وهو من ابتكار رتشارد تريفثيك، قبل قاطرة ستيفنسون ب 21 عاما.
الصورة
18 : «مينشنر» قاطرة بخارية ألمانية صنعت عام 1841، وهي واحدة من الشكل العام للقاطرات البخارية الأولى (بعد تطويرها).
الصورة
19 :
نتيجة لنظام «الصندقة» (نقل البضائع في صناديق كبيرة) أصبحت بعض موانئ الركاب تتعامل في شحن هذه الصناديق. لاحظ النقل الآلي للصناديق.
الصورة
20 :
طريقة نقل المقطورات البرية بشحناتها على ظهر عربات السكك الحديدية، وهو نظام النقل الأمريكي المعروف باسم
.
الصورة
21 :
كيف يتم حمل المقطورة إلى عربة القطار بواسطة ونش ضخم متحرك.
الصورة
22 :
الطريقة الفرنسية في نقل المقطورات فوق عربات السكك الحديدية بدون استخدام ونش: يستخدم الجرار في دفع المقطورة فوق العربة. لاحظ نظام الكانجرو، حيث تهبط عجلات المقطورة في جيب خاص ليقلل من ارتفاعها.
الصورة
23 :
طريقة نقل الفحم آليا ، على الجانب الأيمن عربة قطار تفرغ حمولتها إلى أسفل بواسطة باب سفلي في العربة، يتجمع الفحم في وعاء كبير يهبط منه إلى مجرى آلي (مجرى معدني) متحرك إلى أعلى حيث يصب في مجموعة من المقطورات البرية التي تربط إلى جرار. لاحظ أن العملية لا تستخدم سوى شخص واحد يراقب ويدير العمل الآلي من الكابينة في أعلى يسار الصورة.
الصورة
24 :
نقل الأسمنت من عربة سكة حديد خاصة إلى شاحنة برية خاصة، وذلك بواسطة ضغط الهواء، دون تدخل العامل الإنساني.
الصورة
25 : «من الباب إلى الباب» معكوسا: جرار يحمل عربة سكة حديد مليئة بالمواد الكيميائية فوق مقطورة برية من محطة السكة الحديد إلى المصنع.
الصورة
26 :
المونوريل
Monorail
نوع
Alweg
المستخدم في اليابان. المونوريل يعني أن القطار يستخدم قضيبا واحدا، ولكن لا يوجد مونوريل بهذا المعنى حتى الآن. فنظام «الويج» الياباني قائم على أساس عجلات ذات إطارات من المطاط تجري على سطح القضيب الخراساني الأفقي الذي يستقر حوله القطار في صورة زعنفة طويلة. ويساعد على توازن القطار فوق هذا القضيب الأسمنتي الأفقي أن هناك أربع مجموعات من العجلات الكاوتشوك الأفقي، فيما بين مجموعة العجلات الأفقية يمتد السلك الكهربائي الذي أفقية الوضع مثبتة داخل القطار وتجري على جانبي القضيب الخراساني يغذي القطار بالطاقة، مثبت إلى جانبي القضيب أيضا. ويوجد من هذا النوع من المونوريل عدة خطوط قصيرة في أمريكا واليابان، أطولها هو الخط الذي يوجد في طوكيو ويربط بينها وبين المطار (13 كيلومترا). وحتى الآن لم ينجح المونوريل في منافسة السيارات؛ ولهذا فهو غير قادر على تحقيق أرباح في اليابان.
الصورة
27 :
النوع الفرنسي من المونوريل المسمى
Safege ، وهو أيضا يسير بعجلات من المطاط تسندها عجلات أفقية، لكنه يختلف عن نوع الويج بأنه معلق إلى القضيب الخراساني وليس راكبا فوقه. وهو مثال جيد للمونوريل ويسير بسرعة مائة كيلومتر في الساعة، لكن العربة تحمل 125 راكبا فقط. الصورتان توضحان النوع الفرنسي الذي أقيم في شاتونيف على اللوار، ويجتذب إليه الزوار كثيرا.
الصورة
29 :
أفكار للمستقبل: القطار الهوائي
Aerotrain
الفرنسي يسير بمحرك صاروخي ويرتفع عن الأرض بوسادة هوائية، ويحتفظ بتوازنه واتجاهه بواسطة قضيب أسمنتي أفقي. والعربة مجهزة بعجلات من الكاوتشوك تستخدم حينما تنخفض السرعة أو حينما تخرج عن الخط الأسمنتي. وصلت سرعته القصوى 375 كيلومترا في الساعة في رحلته التجريبية قرب باريس، تساند الحكومة هذا المشروع، لكنه يحتاج إلى أبحاث كثيرة، خاصة وأن العربة التي جربت كانت سعتها ستة مقاعد فقط.
شكل 17
شكل 18
شكل 19
شكل 20
شكل 21
شكل 22
شكل 23
شكل 24
شكل 25
شكل 26
شكل 27
شكل 28
شكل 29
অজানা পৃষ্ঠা