وأتى محمد بن مكرم شاعر فقال: إني قد هجوتك بشعر؟ فقال: قل، فوالله لئن أحسنت لأخلعن عليك خلعةً، فأنشده:
يا فتى مكرم تنحّ عن الفخ ... ر فما مكرمٌ وما دينار
لا تفاخر إذا فخرت بهذي ... ن فذا كودن وذاك حمار
فقال: أحسنت، ولكني أكسوك من ثيابنا، يا غلام، ارم عليه جلًا وبرذعةً.
عود إلى الطرف المتفرقة
دخل بعض أبناء الملوك على المبرد وعنده سلة حلوى قد أعدها لبعض إخوانه، فوجد ابنه الفرصة في اشتغال أبيه فأقبل يأكل منها. فنظر إليه المبرد فأنشده:
الناس في غفلاتهم ... ورحى المنيّة تطحن
ودخل أبو الحارث حمير على بعض الملوك فرأى بين يديه سلة حلوى. فقال: ما في هذا أيها الأمير؟ قال: باذنجان. وكان أبو الحارث يكره الباذنجان كراهية شديدة.
وأصلح محمد بن يحيى بن خالد دعوةً، وأمر الطباخ أن يجعل الباذنجان في جميع الطعام، وحضر أبو الحارث فكلما قدم لون وهم بالأكل منعه ما يراه إلى أن ضاق فأقبل يأكل بدقة المائدة فعطش فقال: اسقوني ماءً لا باذنجان فيه.
ودخل على محمد بن يحيى وبين يديه مزورات وكان محميًا، فأكل معه وخرج من عنده، فلقيه بعض إخوانه، فغطى رأسه منهم واستخفى فقالوا: ما لك يا أبا الحارث؟ قال: أكلت عند محمد بن يحيى بقولًا كثيرة. قالوا: فما تخاف؟ قال: أخاف أن يمر المساح فيمسحني خضراء فلا يقبلوا مني مظلمةً.
وهذا كما حكي عن الحسين بن عبد السلام المصري المعروف بالجمل: أنه مر ببعض إخوانه بعقبة النجارين، وهو يعدو بأكثر مما يقدر عليه، فقال له: قف علي، فخاف أن تكون نزلت به نزلة، فأتاه إلى الدار فخرج مستخفيًا. فقال: ما لك يا أبا عبد الله؟ قال: أما علمت أن السخرة وقعت في الجمال؟ فما يؤمنني أن يقال هذا الجمل، فأؤخذ فلا أتخلص إلا بشفاعة. وكان الجمل حلوًا ظريفًا.
ابن المدبر يجيز بالصلاة
وكان أبو الحسن أحمد بن المدبر إذا مدحه شاعر فلم يحسن وكل به من يمضي معه إلى الجامع فلا يفارقه حتى يصلي مائة ركعةً؛ فتحاماه الشعراء، فأتاه الجمل فأنشده:
أردنا في أبي حسن مديحًا ... كما بالمدح تنتجع الولاة
فقلنا أكرم الثفلين طرًّا ... ومن كفّاه دجلة والفرات
فقالوا يقبل المدحات لكن ... جوائزه إلى الناس الصّلاة
فقلت لهم: وما تغني صلاتي ... عيالي! إنّما الشأن الزكاة
فأمّا إذ أبى إلاّ صلاتي ... وعاقتني الهموم الشاغلات
فيأمر لي بكسر الصاد منها ... لعليّ أن تنشّطني الصّلات
فيصلح لي على هذي حياتي ... ويصلح لي على هذي الممات
فأمر له بمائة دينار.
وقيل له: من أين اهتديت إلى هذا؟ قال: من قول أبي تمام:
هنّ الحمام فإن كسرت عيافةً ... من حائهنّ فإنّهن حمام
برمكي بخيل
وكان محمد بن يحيى البرمكي يبخل، ولم يكن بخيلًا إلا بالإضافة إلى أخويه الفضل وجعفر؛ وكان أبو الحارث حمير يكثر وصفه بذلك، فقيل له يومًا: كيف مائدة محمد؟ فقال: أما خوانه فعدسة، وأما صحافه فمنقورة من خشب الخشخاش، وبين الرغيف والرغيف فترة. قيل: فمن يحضرها؟ قال: أكرم الخلق وألأمهم يريد الملائكة ﵈ والذباب. وقد ذكر غير هذا والحكايات تختلف.
وقيل له: كيف كنت عنده؟ قال: عليه الطلاق إن لم يكن أقام ثلاثة أيام وبطنه يظن أن رأسه قطع؛ لأنه لم يدخل إليه آثار طعام ولا شراب.
من مستجاد ما قيل في البخل
ومن مستجاد ما قيل في البخل مما جمع إلى الخلاعة براعة قول أبي نواس في إسماعيل بن نيبخت:
على خبز إسماعيل واقية البخل ... فقد حلّ في دار الأمان من الأكل
وما خبزه إلا كآوى يرى ابنها ... ولسنا نراها في الحزون ولا السّهل
وما خبزه إلاّ كالعنقاء مغرب ... تصوّر في بسط الملوك وفي المثل
يحدّث عنها الناس من غير رؤيةٍ ... سوى صورة ما إن تمر ولا تجلي
وما خبزه إلا كليب بن وائل ... لبالي يحمي عزّه منبت البقل
وإذ هو لا يستبّ خصمان عنده ... ولا الصوت مرفوع بجدٍّ ولا هزل
1 / 30