ولقي برد الخيار الكاتب أبا العباس المبرد على الجسر في يوم بارد. فقال: أنت المبرد، وأنا برد الخيار، واليوم بارد؛ اعبر بنا لئلا يصيب الناس الفالج.
وقال عون بن محمد: لقيت باذروجة المغني وسكباج الراقص بسر من رأى، فصحت: يا غلام، المائدة؛ فقد وافت الألوان، فضحكوا؛ وأقسم علينا باذروجة؛ فكنا يومنا عنده في أطيب عيش.
من طرف ابن جدار وشعره
وكان ابن جدار كاتب العباس بن أحمد بن طولون بارد المشاهدة، فعاد أبا حفص بن أبي أيوب ابن أخت الوزير، فوافاه وقد أصابته قشعريرة. فقال: ما تجد؟ جعلت فداك! قال: أجدك.
وكان أبو حفص أديبًا شاعرًا بليغًا ولهًا، وقد رأى وردًا قريبًا من أقحوان فقال:
أرى أقحواناتٍ يطفن بناصعٍ ... من الورد مخضرّ النبات نضيد
يميّله ريح الصّبا فكأنه ... ثغور دنت شوقًا للثم خدود
وكان ابن جدار ينقل أخبار أبي حفص إلى العباس بن أحمد بن طولون، فصار إليه يومًا فقال: أعزك الله؛ إنما مجلس المدام حرمة أنس، ومسرح لبانة، ومذاد هم، ومرتع لهو، ومهد سرور؛ وإنما توسطته عند من لا يتهم غيبه، وقد بلغني ما تنهيه إلى أميرنا أبي الفضل من أخبار مجالسي. وأنشد:
ولقد قلت للأخلاّء يومًا ... قول ساعٍ بالنصح لو سمعوه
إنّما مجلس المدام بساطٌ ... للمودّات بينهم وضعوه
فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا ... من نعيمٍ ولذةٍ رفعوه
فاعتذر إليه وحلف أنه ما فعل، وقام عن مجلسه. وأنشد:
كم من أخٍ أوجست منه خيفة ... فأنست بعد وداده بفراقه
لم أحمد الأيّام منه خليقةً ... فتركته مستمتعًا بخلاقه
وكان ابن جدار قبل تعلقه بالعباس يتكسب بالشعر ويقنع باليسير، فصار إلى دار إسحاق بن دينار بن عبد الله وامتدحه، فلم يهب له شيئًا؛ فقال فيه:
عجب الناس أن مدحت ابن دينا ... ر فلم يجزني على مدحيه
قلت لا تعجبوا فما قدم اللّؤ ... م عجيبًا منه ولا منه أخيه
إنّ ديناره أبوه، ومن جا ... د من الناس لامرىءٍ بأبيه؟
وهو القائل في القلم:
وعاشقٍ تحت رواق الدجى ... أغرى به الحيرة فقدان
أهيف ممشوق بتحريكه ... يحلّ عقد السرّ إعلان
يحوك وشيًا لم يحك مثله ... بلاغةٌ تحكى وبرهان
وربّما أحيا وأهدى الرّدى ... ففيه ماذيٌّ وخطبان
وفيه للناظر أٌعجوبة ... يكسو عراة وهو عريان
تجري به خمسٌ مطايا له ... مختلفات القدّ أقران
له لسانٌ مرهفٌ حدّه ... من ريقة الكرسف ريّان
في دقّة المعنى إذا أغرقت ... للقول في التدقيق أذهان
إذا احتسى كأسًا كلون الدّجا ... حرّك منه الرأس نشوان
كأنّما ينثر من لفظه ... درٌّ وياقوتٌ ومرجان
ترى بسيط الفكر في نظمه ... شخصًا له حدٌّ وجثمان
كأنّما يسحب في إثره ... ذيلًا من الحكمة سحبان
لولا ما قام منار الهدى ... ولا سما بالملك ديوان
بين ابن مكرم وأبي العيناء
قدم محمد بن مكرم من الجبل؛ فقال له أبو العيناء: ما لك لم تهد إلينا شيئًا؟ فقال: والله ما قدمت إلا في خف، قال: كذبت، ولو قدمت في خف خفت روحك. وأكثر عليه أبو العيناء من المهاترة، فقال: إن زدت علي قمت، قال: أراك تتهددنا بالعافية.
وكانا يشربان يومًا عند صديق لهما، فقال ابن مكرم لصاحب الدار: أقوم إلى الخلاء؛ فقال أبو العيناء: إذًا لا يعود إلينا منك شيء.
وولد لأبي العيناء مولود فأتاه ابن مكرم مهنئًا، فوضع بين يدي أبي العيناء حجرًا وانصرف. فجسه أبو العيناء فوجده حجرًا. فقال: من وضع هذا؟ فقالوا: تركه ابن مكرم لما قدم، قال: لعنه الله؛ إنما عرض بقول النبي ﷺ: الولد للفراش وللعاهر الحجر.
1 / 29