أبو نواس جذره شعره ... وجذرنا حسن الحكايات
فجذرنا أكثر من جذره ... مدًّا على أهل المروءات
فقال أبو نواس:
صدقت لا ننكر هذا كما ... أمّك رأس في المناحات
فأقبلت القينة على أبي نواس وغنت، فقال لها الجماز: ما سمعت والله أحسن من هذا، فقال أبو نواس: ولا نواح أمك إلا أن يكون عليك فإنه والله أحسن. وكان يصطحبان وهما حدثان، وأمه أذين النائحة وله يقول أبو نواس:
اسقني يابن أذين ... من سلاف الزّرجون
وقال أبو ذؤيب في الملح:
وسرب يطلّى بالعبير كأنه ... دماء ظباءٍ بالنّحور ذبيح
بذلت لهنّ القول إنك واجدٌ ... لما شئته حلو الكلام مليح
فأمكنّه ممّا يقول وبعضهم ... شقيّ لدى خيراتهن نطيح
يريد أن الملاحة نفعته عندهنّ حتى أمكنّه مما يريد: وقال أعرابي:
ألا زعمت عفراء بالشام أنني ... غلام جوارٍ لا غلام حروب
وإني لأهدى بالأوانس كالدّمى ... وإني بأطراف القنا للعوب
وإني على ما كان من عنجهيّتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب
كأن الأدب غريبة عند العرب؛ فافتخر بما عنده منه، وأنه يرجو به القربى ويأمل به الزلفى.
من فقدت مؤانسته ثقل ظلمه
ورب مجلس فض فيه ختام النشاط، ونشر بساط الانبساط، وفيه بغيض لا يفيض، بقدح في مزح، قد ثقل ظله، وركد نسيمه، وجمد هواه، وغارت نجومه؛ فاستثقله من حضر، وعاد صفوهم إلى كدر، وأنكرت مجالسته؛ إذ فقدت مؤانسته، ولو كانت له دراية، أو معه رواية، أو عنده حكاية، ما كان كما قال الشاعر:
مشتمل بالبغض لا تنثني ... إليه بغضًا لحظة الرّامق
يظلّ في مجلسنا جالسًا ... أثقل من واشٍ على عاشق
ولا كما قال الحمدوني لبعض الثقلاء:
سألتك بالله إلاّ صدقت ... وعلمي بأنّك لا تصدق
أتبغض نفسك من بغضها ... وإلاّ فأنت إذًا أحمق
وقال أبو علي العتابي: حدثني الحمدوني قال: بعث إلي أحمد بن حرب المهلبي في غداة السماء فيها مغيمة، فأتيته والمائدة مغطاة موضوعة، وقد وافت عجاب المغنية قبلي، فأكلنا جميعًا وجلسنا على شرابنا، فما راعنا إلا داق يقرع الباب. فأتاه الغلام فقال: بالباب فلان. فقال لي: إنه فتى ظريف من آل المهلب؛ فقلت: ما نريد غير ما نحن فيه، فأذن له، فجاء يخطر وقدامي قدح فيه شراب فكسره، وإذا رجل آدم أدلم ضخم، فتكلم فإذا به أعيا الناس، وتخطى وجلس بيني وبين عجاب، فدعوت بدواة وقرطاس وكتبت:
كدّر الله عيش من كدّر العي ... ش وقد كان سائغًا مستطابا
جاءنا والسماء تؤذن بالغي ... ث وقد طابق السماع الشرابا
كسر الكأس وهي كالكوكب الدرّ ... ي ضمّت من المدام لعابا
قلت لما رميت منه بما أك ... ره والدّهر ما أفاد أصابا
عجّل الله غارةً لابن حرب ... تدع الدار بعد شهرٍ خرابا
ودفعت لرقعة إلى أحمد، فقرأها وقال: ويحك! هلا نفست؟ فقلت: بعد حول؟ قال: قلت: إنما أردت أن أقول بعد يوم، ولكن خلفت أن تلحقني مضرته. وفطن الثقيل فنهض. فقال لي: آذيته، فقلت: بل هو آذاني.
وهذا لعمري وإن أساء في قدومه وإقدامه، فقد أحسن في نهوضه وقيامه، وقد قال الشاعر:
ولما تخوفت ولا لوم أن ... تدبر من ودّك بالمقبل
أقللت من إتيانكم إنّه ... من خاف أن يثقل لم يثقل
وكان يجالس أبا عبيدة معمر بن المثنى رجل ثقيل اسمه زنباع، فكان كالشجا المعترض في حلقه يتناكده ويسيء خلقه؛ فلا يتكلم أبو عبيدة بكلمة إلا عارضه بكثرة جهله، وقلة عقله. فقال رجل لأبي عبيدة: مم اشتقت الزنبعة في كلام العرب؟ فقال: من التثاقل والتباغض، ومنه سمي جليسنا هذا زنباعًا.
وامتحن أبو عبد الرحمن العتبي بمثل ذلك من رجل، فلما طال عليه أنشده:
أما والذي نادى من الطور عبده ... وأنزل فرقانًا وأوحى إلى النّحل
لقد ولدت حوّاء منك بليّةً ... عليّ أقاسيها وثقلًا من الثقل
1 / 11