ولما ظفر سليمان بن حسن الجنابي يوم الهبير بالحجاج وقتلهم فأخذ أموالهم، كان في جملة ما أخذ أحمال فيها من رفيع البز والثقل وظريف الوشي والمصمت ما أعجبه وأبهته. فقال: علي بصاحب هذه الأحمال. قال صاحبها: فأتيته فقال: ما منعك أن يكون ما جئت به أكثر من هذا؟ فقلت: لو علمت أن السوق بهذا النفاق لفعلت، فاستظرفني ودفع إلي مالًا وجميع ما أخذ لي، وأرسل معي من يحفظني حتى وصلت.
وكان أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات الوزير المعروف بابن حنزابة وحنزابة: أمه رومية، ولها من العقل والحزم ما نوه باسمها قد اقتطع في أيام الإخشيد قيمة مائة دينار في أمور تولاها له، فحاسب أبا زكريا النصراني، المعروف بحبوسة، وكان على الخراج، فألزمه عشرة آلاف دينار وطالبه بها، فقال: أعز الله الأمير! وهل قامت علي حجة يلزمني بها الأداء؟ قال: هو ما أقول لك يا لص! فقال: إنما هو لصيص، فضحك وتركه.
الملح تبلغ المطالب وترفع من لا قدم لقومه
وكم أفادت من الرغائب، وبلغت من المطالب، ورفعت من لا قدم لقومه، ولا أمس ليومه.
كما حكى أبو الحسن المدائني قال: كان بالبصرة ثلاثة إخوان يتعاشرون ولا يفترقون؛ اثنان شاعران والآخر منجم لا يحسن شيئًا، ففني ما بأيديهم، فخرج الشاعران إلى بغداد، فمدحا من بها من الأشراف؛ فرجعا وقد اعتقدا أموالًا نفيسة، وبقي صاحبهما في فقره؛ فقالا له: لو ذهبت فتسببت؟ فقال: ما لي صناعة ولا عندي بضاعة. فقالا: على كل حال معك ظرف ولك لطف.
فخرج إلى بغداد واتصل بيقطين بن موسى وقال: ما أتيت إليك بشيء، غير أني أكذب الناس، فضحك وخف على قلبه؛ فكان في جملة حاشيته.
فغضب المهدي على عبد الله بن مالك الخزاعي؛ فأتاه الرجل وهو من المهدي في أشد السخط، وقد ألزمه داره؛ فقال للحاجب: استأذن على الأمير، وقل له: رسول الأمير يقطين بالباب، فدخل وخرج له بالإذن فدخل. وقال: الأمير يقول لك: اليوم كنت عند أمير المؤمنين فدكرته سالف حقوقك وقديم خدمتك؛ فعفا عنك، وأمرك بالركوب غدًا ليخلع عليك ويجدد الرضا عنك بمحضر الناس.
فسر عبد الله بذلك، ودفع إلى الرجل مالًا، وبكر إلى دار المهدي، فاستأذن عليه. فلما دخل قال: ما جاء بك؟ قبحك الله! وقد أمرناك بلزوم دارك؟ قال: أوما رضيت عني يا أمير المؤمنين، وأمرت يقطينًا بإحضاري؟ فقال: إذًا لا رضي الله عني، ولا خطر هذا بقلبي. قال: فرسوله أتاني بذلك. قال: علي بيقطين: فأتي به فقال: أتكذب علي وتحكي علي ما لم أقله؟ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: زعمت أني رضيت عن هذا. فقال يقطين: وأيمان البيعة يا أمير المؤمنين إن كنت سمعت بشيء من هذا أو قلته. قال عبد الله: بل أتاني رسولك فلان. فبعث خلف الرجل بحضرة المهدي، فلما حضر قال: ما هذا الذي فعلت؟ قال: يا سيدي، هذا بعض ذلك المتاع، بدأت في نشره خوفًا عليه من السوس. فقال المهدي: ما يقول؟ فأخبره يقطين بأول أمره معه، فضحك المهدي وجدد الرضا عن عبد الله بن مالك، ووصل الرجل بصلة جزيلة، ووصله عبد الله بأوفر صلة؛ فانصرف إلى صاحبيه واسع النعمة عظيم المال.
حاجة أهل الأدب إلى ظريف المضحكات
وهل يستغني أهل الأدب وأولو الأرب عن معرفة ظريف المضحكات، وشريف المفاكهات، إذا لاطفوا ظريفًا، أو مازحوا شريفًا؟ فقد قال الأصمعي: بالعلم وصلنا وبالملح نلنا.
وروى أبو هفان قال: دخل أبو نواس على يحيى بن خالد فقال له: يا أبا علي؛ أنشدني بعض ما قلت؛ فأنشده:
كم من حديثٍ معجب لي عندكا ... لو قد نبذت به إليك لسرّكا
إني أنا الرجل الحكيم بطبعه ... ويزيد في علمي حكاية من حكى
أتتّبع الظرفاء أكتب عنهم ... كيما أحدث من أحبّ فيضحكا
فقال له يحيى: يا أبا علي؛ إن زندك ليوري بأول قدحة. فقال ارتجالًا في معنى قول يحيى:
أما زند أبي عليّ إنه ... زندٌ إذا استوريت سهل قد حكى
إنّ الإله لعلمه بعباده ... قد صاغ جدّك للسماح ومزحكا
تأبى الصنائع همّتي وقريحتي ... من أهلها وتعاف إلاّ منحكا
وحضر الجماز مع أبي نواس مجلس قينة، فأقبل الجماز يمالحها ويمازحها وأبو نواس ساكت؛ فمالت إليه، فقال الجماز:
1 / 10