ويقول ابن مسكويه - من علماء القرن الرابع والخامس للهجرة - في كتابه «تهذيب الأخلاق» بعنوان الأجسام الطبيعية: «إن الأجسام الطبيعية كلها تشترك في الحد الذي يعمها، ثم تتفاضل بقبول الآثار الشريفة والصور التي تحدث فيها، فإن الجماد منها إذا قبل صورة مقبولة عند الناس؛ صار بها أفضل من الطينة الأولى التي لا تقبل تلك الصورة، فإذا بلغ إلى أن يقبل صورة النبات صار بزيادة هذه الصورة أفضل من الجماد.
وتلك الزيادة هي الاغتذاء والنمو، والامتداد في الأقطار، واجتذاب ما يوافقه من الأرض والماء، وترك ما لا يوافقه، ونفض الفضلات التي تتولد فيه من جسمه بالصموغ، وهذه الأشياء التي ينفصل بها النبات من الجماد، وهي حال زائدة على الجسمية التي حددناها وكانت حاصلة في الجماد، وهذه الحالة الزائدة في النبات التي شرف بها على الجماد تتفاضل.
وذلك أن بعضه يفارق الجماد مفارقة يسيرة كالمرجان وأشباهه، ثم يتدرج فيها فيحصل له من هذه الزيادة شيء بعد شيء، فبعضه ينبت من غير زرع ولا بذر، ولا يحفظ نوعه بالثمر والبذر، ويكفيه في حدوثه امتزاج العناصر وهبوب الرياح وطلوع الشمس؛ فذلك هو في أفق الجمادات وقريب الحال منها، ثم تزداد هذه الفضيلة في النبات فيفضل بعضه على بعض بنظام وترتيب، حتى تظهر فيه قوة الإثمار وحفظ النوع بالبذر الذي يخلف به مثله، فتصير هذه الحالة زائدة فيه ومميزة له عن حال ما قبله.
ثم تقوى هذه الفضيلة فيه حتى يصير فضل الثالث على الثاني كفضل الثاني على الأول، ولا يزال يشرف ويفضل بعضه على بعض حتى يبلغ إلى أفقه، ويصير في أفق الحيوان، وهي كرام الشجر كالزيتون والرمان والكرم وأصناف الفواكه، إلا أنها بعد مختلطة القوى؛ أعني أن قوى ذكورها وإناثها غير متميزة، فهي تحمل وتلد المثل ولم تبلغ غاية أفقها الذي يتصل بأفق الحيوان، ثم تزداد وتمعن في هذا الأفق إلى أن تصير في أفق الحيوان؛ فلا تحتمل زيادة.
وذلك أنها إن قبلت زيادة يسيرة صارت حيوانا وخرجت عن أفق النبات، فحينئذ تتميز قواها، ويحصل فيها ذكورة وأنوثة، وتقبل من فصائل الحيوان أمورا تتميز بها عن سائر النبات والشجر؛ كالنخل الذي طالع أفق الحيوان بالخواص العشر المذكورة في مواضعها، ولم يبق بينه وبين الحيوان إلا مرتبة واحدة، وهي الاطلاع من الأرض والسعي إلى الغذاء. وقد روي في الخبر ما هو كالإشارة أو كالرمز إلى هذا المعنى، وهو قوله
صلى الله عليه وسلم : «أكرموا عماتكم النخل؛ فإنها خلقت من بقية طينة آدم.»
ويستطرد ابن مسكويه إلى ذكر الحيوان بما يشبه قول المحدثين عن أسلحة الحيوان في تنازع البقاء، فيقول: إن الحيوان «إن كان ضعيفا لم يعط سلاحا البتة، بل أعطي آلة الهرب كشدة العدو والقدرة على الحيل التي تنجيه من مخاوفه، وأنت ترى ذلك عيانا من الحيوان الذي أعطي القرون التي تجري له مجرى الرماح، والذي أعطي الأنياب والمخالب التي تجري له مجرى السكاكين والخناجر، والذي أعطي آلة الرمي التي تجري له مجرى النبل والنشاب، والذي أعطي الحوافز التي تجري له مجرى الدبوس والطبرزين. فأما ما لم يعط سلاحا لضعفه عن استعماله، ولقلة شجاعته ونقصان قوته الغضبية، ولأنه لو أعطيه لصار كلا عليه، فقد أعطي آلة الهرب والحيل بجودة العدو والخفة والختل والمراوغة؛ كالأرانب وأشباهها. فأما الإنسان فقد عوض من هذه الآلات كلها بأن هدي إلى استعمالها كلها.»
ثم يتدرج إلى أقرب الحيوان إلى الإنسان، وهو «الذي يحاكي الإنسان من تلقاء نفسه، ويتشبه به من غير تعليم كالقردة وما أشبهها، ويبلغ من ذكائها أن تستكفي في التأدب بأن ترى الإنسان يعمل عملا فتعمل مثله، من غير أن تحوج الإنسان إلى تعب بها ورياضة لها. وهذه غاية أفق الحيوان التي إن تجاوزها وقبل زيادة يسيرة خرج بها عن أفقه، وصار في أفق الإنسان الذي يقبل العقل والتمييز والنطق والآلات التي يستعملها، والصور التي تلائمها.
ولا يقف التدرج عند أفق الإنسان، بل يتفاضل الناس بين أمم لا تتميز عن القرود إلا بمرتبة يسيرة، وأمم تتزايد فيهم قوة التمييز والفهم إلى أن يصيروا إلى وسط الأقاليم، فيحدث فيهم الذكاء وسرعة الفهم والقبول للفضائل، وإلى هذا الموضع ينتهي فعل الطبيعة التي وكلها الله عز وجل بالمحسوسات، ثم يستعد بهذا القبول لاكتساب الفضائل واقتنائها بالإرادة والسعي والاجتهاد الذي ذكرناه فيما تقدم، حتى يصل إلى آخر أفقه؛ فإذا صار إلى أفقه اتصل بأول أفق الملائكة، وهذا أعلى مرتبة الإنسان.
وعندها تتأحد الموجودات ويتصل أولها بآخرها، وهو الذي يسمى دائرة الوجود؛ لأن الدائرة هي التي قيل في حدها: إنها خط واحد يبتدئ بالحركة من نقطة وينتهي إليها بعينها. ودائرة الوجود هي المتحدة التي جعلت الكثرة وحدة، وهي التي تدل دلالة صادقة برهانية على موجدها وحكمته وقدرته ووجوده، تبارك اسمه، وتعالى جده، وتقدس ذكره».
অজানা পৃষ্ঠা