أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى (الروم: 8).
وقد ننقل تكاليف القرآن جميعا، وننقل عظاته جميعا إذا أردنا الشواهد على هذا التوافق الموصول بين تمييز الإنسان بالتكليف في القرآن، وبين خطابه للعقل والفكر، وتذكيره بالرشد والبصر وسائر ملكات التمييز في مصطلحات الأوائل والأواخر، ولكنها شواهد حاضرة في ذهن كل قارئ لهذا الكتاب، وكل قادر على المقابلة بينه وبين غيره من كتب الأديان، ولو لم يعبر منها غير صفحات معدودات.
ومن تمام التوافق بين أركان التبليغ في هذا الكتاب أن الأمر فيه يجري على هذه السنة فيما أتى به فريدا غير مسبوق عن رسالة النبوة.
إنها الرسالة التي لم تعرف قط في التاريخ البشري قبل تمييز الإنسان بخاصة التكليف، وإعداده لخطاب العقل وبينات الإقناع.
كانت الأمم - قبل البعثة المحمدية - تفهم أن النبوة استطلاع للغيب، وكشف للأسرار والمخبآت، يستعان بها على رد الضائع، وإعادة المسروق أو الدلالة عليه، ويستخبرونها عن طوالع الخير والشر، ومقادير السعود والنحوس. وكان من تلك الأمم من يحسب أن النبوة وساطة بين المعبود وعباده للتشفع إليه بالهدايا والقرابين، وكانوا يطلبون وساطة الأنبياء دفعا للنوازل التي يستحقونها وتنزل بهم؛ لأنها قضاء مبرم يتوقعه الصالحون العارفون، ويسألون المعبود في دفعه قبل نزوله.
فجاءت نبوءة الإسلام بجديد باق لم تسبق له سابقة في الدعوات الدينية، بل لا حاجة بعده إلى جديد ولا استطاعة للتجديد؛ لأنه يخاطب في الإنسان صفته الباقية، وخاصته الملازمة، وهي خاصة النفس الناطقة بين عامة الأحياء، أو خاصة الضمير المسئول الذي يحمل تبعته، ولا تغنيه عنها شفاعة ولا كفارة من سواه.
فهي نبوة فهم وهداية، وليست نبوة استطلاع وتنجيم، وهي نبوة هداية بالتأمل والنظر والتفكير، وليست نبوة خوارق وأهوال تروع البصر والبصيرة، وتروع الضمائر بالتخويف والإرهاب حيث يعييها قبول الإقناع.
إنها نبوة مبشرة منذرة لا تملك لهم نفعا ولا ضرا، ولا تعمل لهم عملا غير ما يعملونه لأنفسهم بمشيئتهم إذا اهتدوا بهداية العقل المتدبر، والضمير السليم:
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون (الأعراف: 188).
نعم، ولا إغراء ولا مساومة على جزاء بين الأخذ والعطاء:
অজানা পৃষ্ঠা