ثنى طرفك عن الرّقّة لهم، ولا زهّدك في اصطناع حاليهم وعاطلهم، ولا رغب بك عن قبول حقّهم لبعض باطلهم، ولا ثقّل عليك إدناء قريبهم وبعيدهم، وإنالة مستحقّهم وغير مستحقّهم أكثر مما في نفوسهم وأقصى ما تقدر عليه من مواساتهم، من بشر تبديه، وجاه تبذله، ووعد تقدّمه، وضمان تؤكّده، وهشاشة تمزجها ببشاشة، وتبسّم تخلطه بفكاهة فإنّ هذه كلّها زكاة المروءة، ورباط النّعمة، وشهادة بالمحتد الزّكيّ والعرق الطّيّب والمنشأ المحمود، والعادة المرضيّة، وهي مؤذنة بأنّ المنحة راهنة «١»، والموهبة قاطنة، والشكر مكسوب، والأجر مذخور، ورضوان الله واقع، وأسأل الله بعد هذا كلّه ألّا يسهم»
وجهي عندك، ولا يزلّ قدمي في خدمتك، ولا يزيغني «٣» إلى ما يقطع مادّة إحسانك وعائدة رأيك ونافع نيّتك وجميل معتقدك، بمنّه ولطفه.
فهمت جميع ما قلته لي بالأمس فهما بليغا، ووعيته وعيا تاما، وبان لي الرّشد في جملته وتفصيله، والصلاح في طرفيه ووسطه، والغنيمة في ظاهره وباطنه، والشفقة من أوّله إلى آخره. وأنا أعيده ههنا بالقلم، وأرسمه بالخطّ وأقيّده باللفظ، حتّى يكون اعترافي به أرسى وأثبت، وشهادتي على نفسي أقوى وأوكد، ونكولي عنه أبعد وأصعب، وحكمك به لي وعليّ أمضى وأنفذ.
قلت لي- أدام الله تعالى توفيقك في كلّ قول وفعل، وفي كلّ رأي ونظر-:
إنّك تعلم يا أبا حيّان أنّك انكفأت من الرّيّ إلى بغداد في آخر سنة سبعين بعد فوت مأمولك من ذي الكفايتين «٤» - نضّر الله وجهه- عاتبا على ابن عبّاد «٥» مغيظا منه، مقروح الكبد، لما نالك به من الحرمان المرّ، والصدّ القبيح، واللقاء الكريه، والجفاء الفاحش، والقدع «٦» المؤلم والمعاملة السيّئة، والتغافل عن الثواب على الخدمة، وحبس الأجرة على النّسخ والوراقة، والتجهّم المتوالي عند كلّ لحظة ولفظة.
وذكرت في الجملة شقاء اتّصل بك في سفرك ذلك، وعناء نال منك في عرض «٧» أحوالك، ولعمري إنّ السّفر فعول لهذا كلّه ولأكثر منه، فأرعيتك بصري، وأعرتك سمعي، وساهمتك في جميع ما وقرته في أذني بالجزع والتوجّع والاستفظاع
1 / 34