الجزء الاول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تقديم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد:
فإن أبا حيان التوحيدي، من المفكرين المسلمين المبدعين، ضرب بسهم في كل علم من علوم عصره، مثقف متمرد على مواضعات عصره، الحالم بالانتقال إلى عالم واعد.
تجمع كتبه إلى عمق الفكرة أناقة العبارة ورشاقة الأسلوب. من أجل ذلك فإن بعض المؤرخين يلقبونه بالجاحظ الثاني، وإن كتابه «الإمتاع والمؤانسة» الذي بين أيدينا من أمتع كتبه وآنسها، ومن أهم آثاره. حيث أبدى برأيه في الكثير من القضايا النقدية والمسائل الخلافية وعالج فيه الكثير من الموضوعات من أخبار أدبية وشعر ونثر ولغة وفلسفة ومنطق وسياسة وحيوان وطعام وشراب ومجون وغناء وتاريخ وتحليل لشخصيات العصر من ساسة وعلماء وفلاسفة وأدباء. مما جعله مرآة لزمانه وجعلنا نعرف ما هي الصراعات الفكرية والثقافية في عصره.
وإننا في المكتبة العصرية، لمّا التزمنا نشر الكتاب الهادف فإنه يسرنا أن نقدم للقراء الكرام هذا الكتاب «الإمتاع والمؤانسة» في طبعته الجديدة اعتمادا على طبعته الأولى التي أصدرها أحمد أمين وأحمد الزين، وقد قدمنا نبذة عن المؤلف وسيرته وإنتاجه وعلاقته بالحكام، وخرّجنا بعض أحاديث الكتاب واخترنا بعضا من هوامش الأستاذ أحمد أمين وأحمد الزين.
وأخيرا نرجو من الله تعالى أن يوفقنا في عملنا وأن يجعله في ميزان حسناتنا إنه قريب مجيب.
1 / 5
ترجمة المؤلف
اسمه:
أبو حيّان عليّ بن محمد بن العبّاس التّوحيدي المعروف بأبي حيّان التّوحيدي، كان بارعا في جميع العلوم من النحو واللغة والشعر والأدب والفقه وعلم الكلام على رأي المعتزلة، معجبا بالجاحظ وسلك في تصانيفه مسلكه. نعته ياقوت الحموي ب «شيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة ومحقق الكلام ومتكلم المحققين وإمام البلغاء ...» .
ورغم مكانة أبي حيان هذه وإسهاماته في العديد من العلوم والفنون، فلم يفرده واحد من مؤلفي كتب التراجم والطبقات بترجمة قبل ياقوت الحموي (٥٧٥- ٦٢٦ هـ) الذي يعد أول من نظر إليه نظرة متأنية اتضحت له معها شخصيته وعلمه وأدبه، وتعجّب من إهمال المؤرخين له مع ما له من المنزلة الرفيعة التي أطلعه عليها تقصّيه لأحواله وقراءاته المنظمة لكتبه، حتى قال الصّفدي: «وقد طوّل ياقوت في ترجمته زائدا إلى الغاية» .
أصله
: «١» من الصعب أن يقطع برأي في الأصل الذي انحدر منه أبو حيان التوحيدي، فإن البعض ليزعم أنه فارسي من أصل شيرازي أو نيسابوري أو واسطي، بينما يزعم آخرون أنه عربيّ نشأ في بغداد، ثم وفد بعد ذلك على شيراز. وعلى الرغم من أن ياقوت الحموي يعترف في ترجمته لأبي حيان جهل أصله ونشأته، خصوصا وأن «أحدا لم يذكره في كتاب، ولا دمجه في خطاب»، إلا أنه يميل إلى الظن بأن أبا حيان كان فارسي الأصل، قدم بغداد وأقام بها مدة، ثم مضى بعد ذلك إلى مدينة الرّي. ويستنتج من تضاعيف أحاديث أبي حيان أنه كان يجهل اللغة الفارسية، إلا أن هذا الجهل لا يكفي لإثبات أصله العربي، إذ من الجائز أن يكون قد انحدر عن أصل فارسي، ثم استوطن بغداد مع قومه النازحين إليها، فأتقن العربية، وتعصّب المعرب، وتكفل بالرّد على الشعوبية. ويميل بعض الباحثين إلى القول بأن التوحيدي كان «من أولئك الموالي الذين اختلطت فيهم الدماء والعناصر، فكونت مزيجا غريبا. على أنه كان يشعر بواشجة قربى مع الغرباء
1 / 6
والأفاقين، حتى كان لا يخالط إلا الغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء، وما هذا إلا لشعوره بأنه واحد منهم، إذ كان يرتد إليهم، مهما زجره عن ذلك زاجر من كبار القوم» «١» .
وأصحاب هذا الرأي يستنتجون أنه من المرجح أن يكون أبو حيان فارسي الأصل، مع احتمال دخول أجناس أخرى في تكوينه العنصريّ.
وأما القائلون بعربيته، فإنهم يؤكدون أنه ليس في مؤلفاته ما يشير إلى فارسيته، فضلا عن أنه لو كان يمت إلى فارس بصلة النسب، لباهى بذلك في عصر كانت الدولة فيه للفرس، وكانت صلته بأمرائهم وحكامهم في القرن الرابع أمله وهدفه. على أنه يلاحظ أن أبا حيان قد زار بلاد الفرس، وكتب رسالة «في العلوم» وجّه فيها الحديث إلى الفارسيّين فقال: «أطال الله بقاءكم ... وجعل حظ الغريب السلامة بينكم، إذا فاتته الغنيمة منكم ...
وبعد فإني لم أرد بلادكم من العراق مباهيا لكم، ولا حضرت مجالسكم طاعنا فيكم، ولا تأخرت عنكم متطاولا عليكم ... الخ» . وواضح من هذه العبارات أن أبا حيان كان يعتبر نفسه غريبا في بلاد الفرس، ولو أنه كان فارسي الأصل، لانتهز هذه الفرصة للتقرب من الفارسيّين أو التودّد إليهم. وعندما وجه الوزير ابن العارض الشيرازي إلى أبي حيان السؤال التالي: «أتفضل العرب على العجم، أم العجم على العرب؟»، فيروي التوحيدي للوزير حديثا مسهبا لابن المقفع- وكان فارسيا أصيلا- يقول فيه إن العرب «أعقل الأمم، لصحة الفطرة، واعتدال البنية، وصواب الفكر، وذكاء الفهم» ! وعلى الرغم من أن الوزير يعلّق على هذه الرواية بقوله: «ما أحسن ما قال ابن المقفع! وما أحسن ما قصصت وما أتيت به!» إلا أننا نرى أبا حيان يستطرد فيقول: «إن لكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلّها وعقدها كمال وتقصير» . والتوحيدي يريد بهذه العبارة أن يطمئن الوزير إلى قلة احتفاله بالفوارق العنصرية والخلافات الجنسية، فلا فرق بين فارسيّ وعربيّ، ولا موضع لتفضيل إنسان على آخر لأصله أو نشأته أو وراثته! والتوحيدي يضيف إلى هذا أن الفضائل المأثورة، التي تنسب في العادة إلى كل أمة من الأمم المشهورة «ليست لكل واحد من أفرادها، بل هي الشائعة بينها، ومن جملتها من هو عار من جميعها، وموسوم بأضدادها ... (بدليل أن) الفرس لا تخلو من جاهل بالسياسة، خال من الأدب، داخل في الرعاع والهمج، كما أن العرب لا تخلو من جبان جاهل طياش بخيل عييّ ...» .
مولده:
تبعا لما ذكره عن نفسه، فإن مولده يجب أن يكون بين سنتي ٣١٠/٩٢٢ م و٣٢٠/٩٣٢ م في شيراز أو نيسابور أو واسط، وانتقل في تاريخ مجهول لنا إلى بغداد.
1 / 7
أما نسبته «التّوحيدي» فيقول ابن خلكان: «لم أر أحدا ممن وضع كتب الأنساب تعرّض إلى هذه النسبة لا السّمعاني ولا غيره، لكن يقال إن أباه كان يبيع التوحيد ببغداد وهو نوع من التمر» . ونقل السيوطي عن شيخه ابن حجر قوله: يحتمل أن تكون إلى التوحيد الذي هو الدين فإن المعتزلة يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد.
ويذهب الذّهبي إلى أنه هو الذي نسب نفسه إلى التوحيد، مثلما سمى ابن تومرت أتباعه بالموحدين، وكما يسمي صوفية الفلاسفة نفوسهم بأهل الوحدة وبالاتحادية.
كان أبوه فيما يقال تاجرا متنقلا يبيع نوعا من التمر المعروف باسم «التوحيد» . ولا يوجد في كتب أبي حيان أية إشارة إلى أسرته، ولا أية قرينة يستدل منها على لقبه. وهذا ما حدا بعض الباحثين إلى القول بأن الرجل كان يعلم أنه نشأ من أسرة دقيقة الحال، عديمة النسب والحسب، فلم يكن يجد داعيا للحديث عن نشأته، أو الإشارة إلى أسرته.
ويمضي أحد الباحثين إلى حدّ أبعد من ذلك فيقول: «لا تسألني متى ولد، ولا أين ولد، فذلك رجل نشأ في بيئة خاملة لم تكن تطمع في مجد، حتى تقيد تاريخ ميلاده» .
بيد أن بعضا من الباحثين استنتجوا تاريخ مولده من إشارتين: الأولى منهما وردت في «المقابسات»، وفيها يعترف التوحيدي بأنه قد جاوز العقد الخامس من عمره، وينصّ في الوقت نفسه على أنه ألّف هذا الكتاب سنة ٣٦٠ هجرية، والثانية منهما وردت في الرسالة التي كتبها إلى القاضي أبي سهل بن محمد سنة ٤٠٠ هـ، وفيها يقول إنه قد بلغ «عشر التسعين» . وعلى ذلك يكون أبو حيان قد ولد- كما قال معظم مؤرخي سيرته- في العشرة الثانية بعد الثلاثمائة، أي حوالي سنة ٣١٠ أو ٣١١ هجرية (على وجه التقريب) .
عاش التوحيدي طفولة معذبة «منعه الحياء من الخوض فيها، فاكتفى بالصمت الذي هو أبلغ من كل كلام» . وكان هذا الحرمان سببا في التجائه إلى الدرس والتحصيل، عله يجد فيه تعويضا عن بعض ما فاته من نعم الحياة. ويخيل أن أبا حيان كان يتحدث عن نفسه حينما راح يقول: [وهكذا] اشتد في طلب العلم تشميره، واتصل في اقتباس الحكمة رواحه وبكوره، وكانت الكلمة الحسناء أشرف عنده من الجارية العذراء، والمعنى المقوم أحب إليه من المال المكوم ...» . ويتأيد هذا الظن إذا عرفنا أن اهتمام أبي حيان بالعلم والدراسة قد صرفه عن التفكير في الزواج وإنجاب النسل، فلم يعرف عنه أنه تزوج أو رزق أولادا بدليل قوله هو نفسه: إنه ظل طول عمره لا يجد حوله «ولدا نجيبا، وصديقا حبيبا، وصاحبا قريبا، وتابعا أديبا، ورئيسا منيبا» . ويظهر أن ميله إلى التنقل، وولعه بالأسفار، قد حالا بينه وبين الاستقرار، فلم يكن في وسعه أن يفكر في تكوين أسرة، أو أن يقنع من العيش بتربية بعض الأبناء! صرف التوحيدي القسم الأكبر من حياته في بغداد، وكان يتنقل بين بغداد، والريّ،
1 / 8
ونيسابور، وشيراز، وغيرها ... وأغلب الظن أن معظم هذه الأسفار كان إما طلبا للعلم، أو بحثا عن الرزق، مما حدا البعض إلى القول بأن أبا حيان كان دائما «قلق الركاب، لا يكاد يستقر في مكان إلا ويزعجه أمر إلى ارتياد سواه» .
شيوخه:
الأساتذة الذين درس عليهم كل واحد منهم إما أن يكون متخصصا بفرع من فروع المعرفة أو بفروع عدة. فقد درس في حياته الفلسفة والمنطق على أكبر عالمين فيهما في القرن الرابع، وهما يحيى بن عدي المتوفى سنة ٣٦٤ هـ، وأبو سليمان المنطقي المتوفى سنة ٣٩١ هـ. ويحيى بن عدي فيلسوف نصراني قيل إنه انتهت إليه رياسة أهل المنطق في زمانه، وقد ترجم كتب أرسطو إلى العربية ولخص مؤلفات أستاذه الفارابي وشرح فلسفته.
ولعل أثره في التوحيدي يظهر بصورة خاصة في كتاب (المقابسات)، وكان أبو سليمان المنطقي من أعظم علماء المنطق، وقد اعتزل الرؤساء لعورة إصابته بالبرص، فلزم منزله، ووفد عليه العلماء والطلاب حتى غدا منزله مقيلا لأهل العلوم القديمة، وكان يجمع إلى العلم بالمنطق إلماما بالأدب والشعر. وعلاقته بالتوحيدي كانت وثيقة كما تدل على ذلك عبارة الوزير ابن سعدان للتوحيدي «... فقد بلغني أنك جاره ومعاشره ولصيقه ومجاوره، وقافي خطوه وأثره، وحافظ غاية خبره»، بل إن قفطي تصور أن التوحيدي كان يغشى منازل الرؤساء لينقل أخبارها إلى النطقي.
ودرس التوحيدي الفقه الشافعي والتفسير على القاضي أبي حامد المروذي المتوفى سنة ٣٦٢ هـ، وقد نقل عنه الكثير وروى عنه، حتى إن ابن أبي الحديد يقول:
«إن التوحيدي كان يسند إلى المروروذي ويقول: وإنما أولع بذكر ما يقوله هذا الرجل، لأنه أنبل من شاهدته في عمري، وكان بحرا يتدفق حفظا للسير، وقياما بالأخبار، واستنباطا للمعاني، وثباتا على الجدل، وصبرا على الخصام» . وفي مادة فقه الشافعي، درس التوحيدي على أبي بكر محمد بن علي القفال بن إسماعيل الشاشي المتوفى سنة ٣٦٥ هـ، الذي قيل فيه إنه كان فقيها محدثا أصوليا لغويا شاعرا.
ودرس أيضا على القاضي أبي الفرج النهرواني المتوفى سنة ٣٩٠ هـ، وكان فقيها أديبا شاعرا وصفه ابن خلكان بأن له «أنسة بسائر العلوم»، وكان أهل زمانه يقولون عنه: «إذا حضر القاضي أبو الفرج، فقد حضرت العلوم كلها» . ووصفه صاحب (الفهرست) بأنه كان «في نهاية الذكاء وحسن الحفظ وسرعة الخاطر في الجوابات» .
ودرس التوحيدي على عليّ بن عيسى الزماني المتوفى سنة ٣٨٤ هـ، وكان إماما في اللغة والأدب وذا معرفة بعلم الكلام كما تدل على ذلك عبارة ابن خلكان: «جمع علم الكلام والعربية» . وعده ياقوت في طبقة أبي علي الفارسي والسيرافي. وقال فيه ابن خلكان: «لم ير قط مثله علما بالنحو وغزارة في الكلام، وبصرا بالمقالات
1 / 9
وإيضاحا للمشكل، مع تأله وتنزه ودين ويقين، وفصاحة وفقاهة وعفافة ونظافة» . وقد كان للرماني باع طويل كذلك في التفسير على طريقة المعتزلة، إذ وضع تفسيرا للقرآن، بلغ من قيمته أن قال الصاحب بن عباد ردا على من اقترح عليه أن يصنف تفسيرا: «وهل ترك علي بن عيسى الرماني شيئا؟» .
وقرأ التوحيدي على أبي محمد جعفر الخلدي المتصوف الزاهد، وأبي الحسين ابن سمعون المتوفى سنة ٣٨٧ هـ الذي وصف بأنه وحيد عصره في الكلام على الخواطر وحسن الوعظ وحلاوة الإشارة ولطف العبارة، وهو الذي وصفه ابن الجوزي ب «الناطق بالحكمة»، بالإضافة إلى العامري الفيلسوف، والنوشجاني، وأبي الخير اليهودي، وجماعة من مشايخ النصارى الذين كانوا متحرين بالفلسفة ومحبين لأهلها، وأبي الوفاء المهندس المتوفى سنة ٣٧٦ هـ.
مهنته وثقافته ومؤلفاته:
لجأ أبو حيان منذ مطلع شبابه إلى مهنة الوراقة، حيث كان ينصرف إلى نسخ الكتب لقاء أجر زهيد، وظل صيته مغمورا لا يبارح دكاكين الوراقين، فلم يحفل به أحد، ولم ينتشر أمره بين مثقفي وأدباء عصره، إذ كان يصل الليل بالنهار في مهنته دون أن يعلم أحد شيئا عن ظروف حياته العائلية والاجتماعية والإنسانية، حتى صمم أخيرا سنة ٣٥٠ هـ وهو على أبواب الأربعين، على وجه التقريب، على الخروج من عالمه والنظر إلى ما حوله في عصر زهت فيه معظم العلوم والمعارف.
والحقيقة تقال انه كان لمهنة الوراقة أثر بارز وأساسي على ثقافة أبي حيان، فقد أفسحت له في المجال أمام قراءة شتى أنواع الكتب وأشكالها فقويت حافظته وتوقد ذهنه واستعت مداركه وتنوعت ثقافته، مما جعله يشعر بنهم كبير إلى العلم فطفق يغزو مجالس العلماء والأدباء والمفكرين ويحضر حلقات التدريس عندهم.
إن نظرة سريعة على أساتذة أبي حيان ترينا أسباب نبوغه، وتنوع معلوماته، وهو إلى جانب ذلك كان شغوفا بكل علم متتبعا كل ثقافة، حتى غدا موسوعيا واسع الأفق خصب الخيال فيلسوفا مع الفلاسفة، متكلما مع المتكلمين، لغويا مع اللغويين ومتصوفا مع المتصوفين، ثم إنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، محقق الكلام ومتكلم المحققين وإمام البلغاء، فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة، كثير التحصيل للعلوم واسع الدراية والرواية. لذلك كان من الطبيعي أن تكثر مؤلفاته وتتنوع موضوعاتها،
علاقته مع الحكام: «١»
ننتقل من «عهد الطلب» إلى «عهد التنقل»، قام أبو حيان بمحاولات عديدة
1 / 10
بقصد الخروج من ضائقته المالية، ونيل الحظوة لدى الوزراء والكبراء. فاتصل أبو حيان التوحيدي بالوزير أبي محمد الحسن بن محمد المهلبي- وزير معز الدولة- الذي كان محبا لأهل العلم والأدب، عطوفا على الكتاب والأدباء، والظاهر أن التوحيدي قد جاهر أمام الوزير ببعض الآراء الحرة التي لم يرض عنها المهلبي، خصوصا وأن الشائع عنه أنه كان بعيدا كل البعد عن روح التسامح مع أصحاب العقائد والبدع، فنفاه من بغداد. وهذا ما رواه ابن فارس في «الفريدة والخريدة» حين قال إن الوزير المهلبي وقف على جميع دخلته، وسوء عقيدته، وما يبطنه من الإلحاد، وما يرومه في الإسلام من الفساد، وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح، وما يضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح، فطلبه (أي الوزير المهلبي)، وسمع بذلك أبو حيان «فاستتر منه، ومات في الاستتار، وأراح الله منه، ولم يؤثر عنه إلا مثلبة أو مخزية» والسبب في اتهام أبي حيان بسوء العقيدة والزندقة والانحلال إنما هو ذلك الكتاب الذي قيل إنه ألفه باسم «الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي»، وهو الكتاب الوحيد الذي يظهر أنه أعرب فيه عن بعض الآراء الصوفية التي تتنافى- في الظاهر- مع قواعد الإسلام.
وقد عدّ ابن الجوزي زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الرّاوندي وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعري. واعتبر أبا حيّان أشرهم على الإسلام لأنهما صرّحا بزندقتهما وهو مجمع ولم يصرّح، كذلك فقد رماه الذّهبي بسوء الاعتقاد ووصفه بالضال الملحد، كما وصفه ابن فارس بالكذب وقلّة الدين والورع وبالقدح في الشريعة والقول بالتعطيل، وقال ابن حجر: كان صاحب زندقة وانحلال.
أما محب الدين ابن النجّار، مؤرخ العراق، فقد دافع عنه وقال: «إنه «كان صحيح الاعتقاد»، وذهب إلى ذلك أيضا تاج الدين السّبكي قائلا:
«ولم يثبت عندي إلى الآن من حال أبي حيان ما يوجب الوقيعة فيه، ووقعت على كثير من كلامه فلم أجد منه إلا ما يدل على أنه كان قوي النفس مزدريا بأهل عصره» .
وقد اعتبر عبد الرحمن بدوي أبا حيان أديبا وجوديا في القرن الرابع الهجري، ويضيف أن المستقصي لمراميه البعيدة لا يعدم أن يجد سندا لاتهامه بأنه كان في القليل رقيق الدين أو أنه كان يلونه بلون خاص به لا ينظر إليه أصحاب السنة نظرة الرضا، ويعتقد أن تكفير ابن الجوزي له إنما هو من نوع تكفيره الصوفية عامة. ومع ذلك، فلا نملك الوثائق الكافية للحكم في هذه المسألة حكما صحيحا، لأن الرسالة التي يمكن أن تكون الفيصل في هذا الأمر وهي: (كتاب الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي) لم تصل إلينا، وعنوانها يدعو بالفعل إلى الكثير من التساؤل.
وأيّا ما كان الأمر،- إلى أن يأتي دليل مضاد- فإن التوحيدي كان على الأقل
1 / 11
يؤمن بسلطة عليا فوق الكون، كما كان يؤمن بهذا أيضا أستاذه أبو سليمان المنطقي السجستاني.
ونتيجة لسوء اعتقاده، في زعم خصومه، نفاه من بغداد الوزير المهلبي، كما طلبه الصاحب كافي الكفاة ليقتله بعد أن اطلع على ما قيل إنه كان يخفيه من القدح في الدين، فالتجأ إلى أعدائه وظل مستترا إلى أن مات في الاستتار.
غادر أبو حيان بغداد- راضيا أم كارها- بقصد الرحيل إلى الريّ للاتصال بأبي الفضل بن العميد. وكان لابن العميد- في ذلك الوقت- قدر مهيب، فقد كان الشعراء يقصدون بابه لكرمه وسخائه، كما كان الناقدون يثنون عليه لفصاحته وبلاغته. ومن بين الذين مدحوا ابن العميد من الشعراء- كما هو معروف- أبو الطيّب المتنبّي، كما أثنى عليه من بين الفلاسفة مسكويه الذي عهد إليه ابن العميد بمنصب «خازن كتبه» .
وكان أبو حيان ينتظر من ابن العميد، أن ينقذه من براثن الفقر، وأن يسبغ عليه الكثير من العطايا، ولكن الظاهر أنه لم يظفر منه بما كان يطمع فيه.
ومهما يكن من شيء، فقد غادر أبو حيان بغداد حوالي سنة ٣٦٧ هجرية قاصدا مدينة الري مرة أخرى للاتصال بالوزير الصاحب بن عباد. وقد كانت خيبة أمله في ابن العميد الوالد وابن العميد الابن (أي في أبي الفضل وأبي الفتح) سببأ في إقباله على باب الصاحب، آملا أن يجد عنده ما لم يظفر به عند ابن العميد. وكان التوحيدي قد سمع عن كرم الصاحب، فقصده «بأمل فسيح، وصدر رحيب»، ولكنه لم يستطع أن ينال حظوته، لرفضه أن يكون كاتب الإنشاء. وقد روى التوحيدي قصة وقوفه بباب الصاحب فقال إنه لما وصل مدينة الري، قال له الصاحب: «الزم دارنا، وانسخ لنا هذا الكتاب، فقلت: أنا سامع مطيع، ثم قلت لبعض الناس في الدار مسترسلا: إنما توجهت من العراق إلى هذا الباب، وزاحمت منتجعي هذا الربيع، لأتخلص من حرفة الشؤم، فإن الوراقة لم تكن ببغداد كاسدة، فنمى إليه هذا أو بعضه أو على غير وجهه، فزاده تنكرا. وكان الرجل خفيف الدماغ لا يعرف الحلم إلا بالاسم» «١» ..
وواضح من هذه القصة أن أبا حيان لم يكن ينتظر من الصاحب بن عباد أن يعهد إليه بعمل من أعمال الوراقة التي كان قد سئمها وتمنى التخلص منها! ويعترف التوحيدي نفسه بأن الصاحب طلب إليه يوما أن يقرأ عليه الرسالة التي كان قد توسل بها إلى أبي الفتح بن العميد- وكان الوزيران خصمين لدودين- فقرأها التوحيدي عليه، مما أهاج حفيظة الصاحب ضده، خصوصا وأن التوحيدي قد وصف فيها ابن العميد بأنه «سيد الناس»، وأنه «الشمس المضيئة بالكرم، والقمر المنير بالجمال، والنجم الثاقب
1 / 12
بالعلم، والكوكب الوقاد بالجود، والبحر الفياض بالمواهب ... الخ» «١» .
ولا شك أن التوحيدي لم يكن موفقا كل التوفيق حينما تلا تلك الرسالة على مسامع الصاحب بن عبّاد، حتى وإن كان هو الذي أمره بذلك وألحّ عليه فيه، مما جعل المقربين إلى الصاحب يقولون لأبي حيان: «جنيت على نفسك، حين ذكرت عدوّه عنده بخير، وبينت عنه وجعلته سيد الناس ... !» .
ويروي أبو حيان في موضع آخر أن الصاحب بعث يوما بخادمه إلى أبي حيان، طالبا منه نسخ ثلاثين مجلدة من رسائله، بدعوى أنها مطلوبة في الحال لمدينة خراسان، فما كان من التوحيدي سوى أن أجابه- بعد ارتياع-: «هذا طويل، ولكن لو أذن لي، لخرّجت منه فقرا كالغرر. لو رقى بها مجنون لأفاق، ولو نفث على ذي عاهة لبرأ، لا تمل، ولا تستغث، ولا تعاب، ولا تسترث ...» . والظاهر أن هذا الكلام قد رفع إلى الصاحب على وجه مكروه، دون أن يعلم أبو حيان من أمره شيئا، فقال ابن عباس: «طعن في رسائلي وعابها، ورغب عن نسخها، وأزرى بها، والله لينكرنّ مني ما عرف، وليعرفن حظه إذا انصرف» ! ويبدو أن الصاحب قد وجد في مسلك أبي حيان تطاولا منه على رئيسه ووليّ نعمته، فإن التوحيدي قد ادّعى لنفسه القدرة على تمييز الغث من السمين في رسائل الصاحب نفسه، وكأنه كان أعلم منه بالرديء والجيد من الكلام! ومع ذلك فإنّ أبا حيان يدهش لما قاله الصاحب: لأنه حين عاب رسائل ابن عباد، فإنه لم يطعن في القرآن، ولم يرم الكعبة بخرق الحيض، ولم يسلح في زمزم! ...
«... وما ذنبي يا قوم إذا لم أستطع أن أنسخ ثلاثين مجلدة؟ ومن هذا الذي يستحسن هذا التكليف حتى أعذره في لومي على الامتناع؟ أي إنسان ينسخ هذا القدر، وهو يرجو بعده أن يمتعه الله ببصره أو ينفعه بيده؟ ثم ما ذنبي إذا قال لي: من أين لك هذا الكلام المفوّف المشوّف الذي تكتب إليّ به في الوقت بعد الوقت؟
فقلت: وكيف لا يكون كما يوصف، وأنا أقطف من ثمار رسائله، وأستقي من قليب علمه، وأشيم بارقة أدبه، وأرد ساحل بحره، وأستوكف قطر مزنه! فيقول: كذبت وفجرت لا أمّ لك! ومن أين في كلامي الكدية (أي التوسل) والشحذ والضرع والاسترحام!؟ كلامي في السماء، وكلامك في السّماد ... !» «٢» .
وقد حاول التوحيدي أن يبرّر موقفه من الصاحب فقال: «ولكني ابتليت به، وكذلك هو ابتلي بي، ورماني عن قوسه معرقا، فأفرغت ما كان عندي على رأسه
1 / 13
مغيظا، وحرمني فازدريته، وحقرني فأخزيته، وخصّني بالخيبة التي نالت مني، فخصصته بالغيبة التي أحرقته، والبادي أظلم، والمنتصف أعذر ...» .
ومهما يكن من شيء فقد انتهت العلاقة بين الرجلين بالقطيعة، إذ فارق التوحيدي فناء الصاحب بن عباد سنة ٣٧٠ هـ، بعد صلة دامت حوالي ثلاث سنوات، رجع على أثرها إلى مدينة السلام صفر اليدين! والتوحيدي يقرر أن الصاحب لم يعطه طوال هذه المدة درهما واحدا، أو ما قيمته درهم واحد، على الرغم من كل ما نسخه له! وهو يقول أيضا إنه إذا كان قد هجا الصاحب فما ذلك إلا لما جرّعه إياه من مرارة الخيبة بعد الأمل، وما حمله عليه من الإخفاق بعد الطمع، «مع الخدمة الطويلة، والوعد المتصل، والظن الحسن، حتى كأني خصصت بخساسته وحدي، أو وجب أن أعامل بها دون غيري» . وأما ياقوت الرومي فإنه يقول إن أبا حيان كان قد قصد ابن عباد بالري، فلما لم يرزق منه، رجع عنه ذامّا له، وكان أبو حيان مجبولا على الغرام بثلب الكرام، فاجتهد في الغض من ابن عباد، ولكن فضائل ابن عباد كانت تأبى إلا أن تسوقه إلى المدح وإيضاح مكارمه، فانقلب ذمّه له مدحا «١» ! وهناك رواية أخرى يرويها الخوانساري مؤدّاها أن التوحيدي كان سيّئ العقيدة، قليل الورع، فلما وقف ابن عباس على حقيقة أمره، طلبه ليقتله، فهرب والتجأ إلى أعدائه، ونفق عليهم بزخرفته وكذبه. ويميل البعض إلى استبعاد هذه الرواية الأخيرة لعدم وجود قرائن تشهد بفساد عقيدة أبي حيان، اللهم إلا أن يكون اتهامه بالزندقة مجرد وسيلة اتخذ منها الصاحب ذريعة للثأر من خصمه (أبي حيان) والتشهير به وتجريح سمعته! ولكن إذا كان أبو حيان لم يوفق في صلاته بأبي الفضل ابن العميد وابنه أبي الفتح بن العميد، وإذا كان الحظ لم يحالفه أيضا في علاقته بالصاحب بن عباد، فإن الظاهر أنه كان أكثر توفيقا مع الوزير ابن العارض أبي عبد الله الحسن بن سعدان (المتوفى سنة ٣٧٥ هـ) وزير صمصام الدولة البويهي. وقد كانت حلقة الاتصال بين أبي حيان وابن سعدان شخصية عالمة فاضلة التقى بها التوحيدي في فارس، فسرعان ما توثقت بينهما أواصر المودة، وتلك هي شخصية أبي الوفاء المهندس البوزجاني الذي أهدى إليه أبو حيان من بعد كتابه «الإمتاع والمؤانسة» تقديرا له واعترافا بفضله.
وقد توطدت العلاقة بين أبي حيان والوزير وابن سعدان، فنسخ له كتاب الحيوان للجاحظ، وألّف له رسالة في «الصداقة والصديق» وسامره بكل تلك الأقاصيص والأحاديث التي رواها في «الإمتاع والمؤانسة» الكتاب الذي بين أيدينا. وقد كان لابن سعدان ناحية علمية أدبية صورها أبو حيان في كتبه «فهو واسع الاطلاع، له مشاركة جيدة في كثير من فروع العلم من أدب وفلسفة وطبيعة وإلهيات وأخلاق، يدل على
1 / 14
ذلك حواره الّذي يحكيه أبو حيان.. فهو يسأل أسئلة عميقة، وينقد الإجابة عنها نقدا قيما» . ولم يكن لدى التوحيدي من اللباقة والكياسة ما يستطيع معه مجالسة الوزراء ومسامرة الكبراء، بدليل ما وصفه به صديقه أبو الوفاء حين قال إنه: «غر لا هيئة له في لقاء الكبراء، ومحاورة الوزراء»، ومع ذلك فقد وصله أبو الوفاء بابن سعدان، وهيأ له الفرصة للاختلاء بالوزير، والإلقاء إليه بما شاء واختار! وكان أول ما طلبه أبو حيان من الوزير أن يأذن له بتوجيه الخطاب إليه بالكاف والتاء، ليتكلم من غير تكلّف أو كناية أو حرج أو تعريض! ولم يلبث أبو حيان أن اطمأن إلى مجالس الوزير، فكان يتكلم في حضرته بصراحة، ولم يكن يتحرّج في رواية أقذع النوادر والملح، بل كان يبدي رأيه في حاشية الوزير نفسه دون خوف أو خشية! ويبدو أن أبا حيان قد وجد لدى ابن سعدان صدرا رحبا، وأذنا صاغية، ويدا ممدودة، فإننا نراه يكتب إلى الوزير قائلا: «قد شاهدت ناسا في السفر والحضر، صغارا وكبارا وأوساطا، فما شاهدت من يدين بالمجد، ويتحلى بالجود ويرتدي بالعفو، ويتأزر بالحلم ويعطي بالجزاف، ويفرح بالأضياف، ويصل الإسعاف بالإسعاف، والاتحاف بالاتحاف، غيرك. والله إنك لتهب الدرهم والدينار وكأنك غضبان عليهما، وتطعم الصادر والوارد كأن الله قد استخلفك على رزقهما، ثم تتجاوز الذهب والفضة إلى الثياب العزيزة، والخلع النفيسة والخيل العتاق، والمراكب الثقال، والغلمان والجواري، حتى الكتب والدفاتر وما يضن به كل جواد، وما هذا من سجايا البشر، إلا أن يكون فاعل هذا نبيا صادقا، ووليا لله مجتبى.»
وعلى الرغم من أن أبا حيان لم يكن يتردد في مفاتحة الوزير ابن سعدان برأيه في بعض جلسائه، فلم يسلم من تعريضه أناس كابن شاهويه وبهرام بن سعيد وأبي عيسى عليّ بن زرعة النصراني وابن عبيد الكاتب وغيرهم من ندماء ابن سعدان، إلا أن الصلة لم تنقطع تماما بينهما، حتى في الفترة التي اشتدت فيها أعباء الوزارة على ابن سعدان. وإن كان يشكو أحيانا إلى صديقه أبي الوفاء المهندس تغافل الوزير عنه، ويلح في تذكير أبي الوفاء بوعود الوزير، ولكن ليس ما يبرّر القول بانقطاع الصلة بين أبي حيان وابن سعدان، بدليل أن أبا حيان ظل يذكره بالخير حتى بعد وفاته. ولكن يشاء سوء الطالع أن يلاحق التوحيدي إلى النهاية، فقد بقي ابن سعدان في الوزارة مدة قصيرة، إذ ظهر له عام ٣٧٥ (هجرية) خصم لدود هو أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الذي ظل يكيد له وينصب الشباك للإيقاع به، حتى قبض عليه هو وأصحابه وأودعوا السجن. واستوزر صمصام الدولة أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف، فوشى بابن سعدان لديه وأدخل في روعه أن ابن سعدان يؤلّب الثوار عليه، فأمر صمصام الدولة بقتله، والتنكيل بأعوانه، وكان ذلك في نهاية عام ٣٧٥ هـ.
ويبدو أن أبا حيان قد خشي أن يلاحقه أعوان الوزير الجديد، لأنه كان من
1 / 15
رجالات الوزير المقتول، فآثر الاختفاء عن أعين رجال ابن يوسف، وهرب إلى شيراز حيث راح يتردّد على المتصوفة ويعيش معهم. وأخباره خلال تلك الفترة التي ظلّ فيها متخفيا قليلة، ولكن الظاهر أنه كان يعيش في فقر مدقع، بدليل قوله: «لقد غدا شبابي هرما من الفقر، والقبر عندي خير من الفقر» أو قوله: «لقد قال أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعا بالوحدة، معتادا للصمت، ملازما، للحيرة، محتملا للأذى، يائسا من جميع من ترى، متوقعا لما لا بدّ من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص» .
وزاد من حقد التوحيدي على الناس وتشاؤمه من الحياة، ما لاحظه من انصراف الناس عنه، وقسوة الحياة عليه، فلم يلبث أن أحرق ما لديه من مصنفات، ضنا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته، وأبو حيان يتعلل أيضا بمرضه وشيخوخته خصوصا بعد كل ما قاساه من شظف المعيشة وآلام الحياة، فيقول: «لقد كلّ البصر، وانعقد اللسان، وجمد الخاطر، وذهب البيان، وملك الوسواس، وغلب الياس، من جميع الناس ... ولو علمت في أي حال غلب عليّ ما فعلته، وعند أي مرض، وعلى أية عسرة وفاقة، لعرفت من عذري أضعاف ما أبديته، واحتججت لي بأكثر ما نشرته وطويته» . وواضح من هذه الكلمات أن أبا حيان يشير إلى حالته النفسية السيئة، فإنه يرى فيها من العذر ما يكفي لتبرير فعلته، فالرجل يشعر بأن هذه الكتب لم تعد تعبّر عن حالته النفسية الراهنة ثم هو يدرك أنها تعبّر عن إخفاقه في الظفر بما كان يأمل من مجد أدبيّ، وهو لهذا وذاك لا يرى داعيا للتمسك بها أو الحرص عليها «١» . هذا إلى أن الشعور بقرب الرحيل قد ولّد في نفس التوحيدي ثورة كبرى على أعزّ ما كان يملك، فلم يتردد في التمرد حتى على كتبه العزيزة التي طالما شاركته حلو الحياة ومرّها! «وهل جامع الكتب إلا كجامع الفضة والذهب؟ وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما؟ وهل المغرم بحبها إلا كمكاثرهما؟ هيهات! الرحيل والله قريب، والثواء قليل، والمضجع مقض، والمقام ممض، والطريق مخوف، والمعين ضعيف، والاغترار غالب، والله من وراء هذا كله طالب ...» «٢» .
ولا يعرف ماذا كان من أمر التوحيدي بعد إحراقه لكتبه عام ٤٠٠ هـ. وليس بين أيدينا من المراجع ما يقطع بنوع الحياة أو أسلوب المعيشة الذي عاشه أبو حيان في سنواته الأخيرة. ولئن كان بعض الباحثين قد ظن أنه توفي في مطلع القرن الخامس الهجري، إلا أن الظاهر أن الأجل قد امتد به إلى العام الرابع عشر من القرن الخامس،
1 / 16
بدليل أن أبا إسحاق إبراهيم بن يوسف الشيرازي قد روى أنه استمع إلى التوحيدي في شيراز سنة ٤١٠ هـ ثم عاد إلى بغداد سنة ٤١٤ هـ بعد وفاة أبي حيان. ولابدّ من أن يكون أبو حيان قد أمضى هذه الفترة الطويلة من الشيخوخة في التعبد والتنسك والاستغفار، بصحبة بعض إخوانه ومريديه من الصوفيين، إلى أن قضى بشيراز ودفن فيها على ما جاء في كتاب «وفيات الأعيان» . وبذلك يكون التوحيدي قد عمّر طويلا، إذ مات عن مائة وأربعة أعوام! وقد روى فارس بن بكران الشيرازي- وكان من أصحاب التوحيدي- الساعات الأخيرة من حياة صاحبه فقال: «لما احتضر أبو حيان كان بين يديه جماعة فقالوا: اذكر الله، فإن هذا مقام خوف، وكل يسعى لهذه الساعة، وجعلوا يذكرونه ويعظونه، فرفع رأسه إليهم وقال: كأني أقدم على جندي أو شرطي، إنّما أقدم على رب غفور، وقضى!» .
إنتاجه:
ليس غريبا على إنسان اتخذ من القلم حرفته، أن يجيء إنتاجه الفكري خصبا وافرا، خصوصا وأنه قد عاش أكثر من قرن بأكمله! ولكن الظاهر أن حادثة إحراق التوحيدي لكتبه في أواخر أيام حياته قد حالت دون وصول الكثير من مصنفاته إلينا، فضلا عن أن بعض هذه الكتب لم يكن من المرغوب فيه، فلم يكن من المستحسن اقتناؤها أو الاحتفاط بها! ومن المعروف عن أبي حيان أنه كان غزير الإنتاج، حريصا على النقل والرواية، محبا للبحث والجدل. ولئن كان موضوع هذه الكتب لم يقف عند الفلسفة والأدب، بل قد امتد أيضا إلى الكلام والفقه والشريعة والتصوف والنحو واللغة، إلا أن أبا حيان قد التزم في معظمها أسلوبا واحدا، ألا وهو أسلوب المحاورة والمسامرة، فجاءت كتبه «سهلة المأخذ، بعيدة عن التكلف والتعسف، بريئة من اللبس والغموض» .
ونتيجة للإهمال الذي عاش فيه أبو حيّان طوال العشرين عاما الأخيرة من حياته مستترا متخفيا، أحرق كتبه لقلة جدواها وضنا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته.
يقول السيوطي قائلا: لعل النّسخ الموجودة الآن من تصانيفه كتبت عنه في حياته وخرجت عنه قبل حرقها، وربما كان لاشتغاله بالنّسخ وتأليفه كتبه وتقديمها إلى بعض رؤساء عصره أملا في مجازاته عليها سببا في بقاء العديد منها ونجاته من الحرق.
وعندما أقدم أبو حيان على ذلك نحو عام ٤٠٠ هـ ١٠٠٩ م كتب إليه القاضي أبو سهل علي بن محمد يعذله على صنيعه ويعرّفه قبح ما اعتمد من الفعل وشنيعه.
فكتب إليه أبو حيّان معتذرا عن ذلك بكتاب مؤرخ في شهر رمضان سنة أربعمائة. ونظرا لأهمية هذا الكتاب الذي يوضح فيه أبو حيّان الأسباب الّتي دعته إلى
1 / 17
ذلك وكيف سبقه إلى هذا الفعل علماء كبار، وتراجعه فيه عن بعض ما اعتقده من أمور جعلت المتأخرين يتهمونه بالإلحاد والزّندقة، حيث يقول: «أسأل الله رب الأولين أن يجعل اعترافي بما أعرفه موصولا بنزوعي عما اقترفته. إنه قريب مجيب» فيما يلي نصّ هذا الكتاب المهم:
قال يقوت الحموي في كتابه: معجم الأدباء (٢٩٤- ٢٩٩) .
وكان أبو حيّان قد أحرق كتبه في آخر عمره لقلّة جدواها، وضنّا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته.
وكتب إليه القاضي أبو سهل عليّ بن محمّد يعذله على صنيعه، ويعرّفه قبح ما اعتمد من الفعل وشنيعه. فكتب إليه أبو حيّان يعتذر من ذلك: حرسك الله أيّها الشّيخ من سوء ظنّي بمودّتك وطول جفائك، وأعاذني من مكافأتك على ذلك، وأجارنا جميعا ممّا يسوّد وجه عهد إن رعيناه كنّا مستأنسين به، وإن أهملناه كنّا مستوحشين من أجله، وأدام الله نعمته عندك، وجعلني على الحالات كلّها فداك.
وافاني كتابك غير محتسب ولا متوقّع على ظمإ برّح بي إليه، وشكرت الله تعالى على النّعمة به عليّ، وسألته المزيد من أمثاله، الّذي وصفت فيه بعد ذكر الشّوق إليّ، والصّبابة نحوي، ما نال قلبك والتهب في صدرك من الخبر الّذي نمى إليك فيما كان منّي من إحراق كتبي النّفيسة بالنّار وغسلها بالماء، فعجبت من انزواء وجه العذر عنك في ذلك، كأنّك لم تقرأ قوله جلّ وعزّ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
وكأنّك لم تأبه لقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ
، وكأنّك لم تعلم أنّه لا ثبات لشيء من الدّنيا وإن كان شريف الجوهر كريم العنصر، ما دام مقلّبا بيد اللّيل والنّهار، معروضا على أحداث الدّهر وتعاود الأيّام. ثمّ إنّي أقول: إن كان- أيّدك الله- قد نقب خفّك ما سمعت، فقد أدمى أظلي «١» ما فعلت، فليهن عليك ذلك، فما انبريت له، ولا اجترأت عليه حتّى استخرت الله ﷿ فيه أيّاما وليالي، وحتّى أوحى إليّ في المنام بما بعث راقد العزم، وأجدّ فاتر النّيّة، وأحيا ميّت الرّأي، وحثّ على تنفيذ ما وقع في الرّوع وتريّع في الخاطر، وأنا أجود عليك الان بالحجّة في ذلك إن طالبت، أو بالعذر إن استوضحت، لتثق بي فيما كان منّي، وتعرف صنع الله تعالى في ثنيه لي: إنّ العلم- حاطك الله- يراد للعمل، كما أنّ العمل يراد للنّجاة، فإذا كان العمل قاصرا عن العلم، كان العلم كلّا على العالم، وأنا أعوذ بالله من علم عاد كلّا وأورث ذلّا، وصار في رقبة صاحبه غلّا- وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار- ثمّ اعلم علّمك الله الخير أنّ هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرّه وعلانيته، فأمّا ما كان
1 / 18
سرّا فلم أجد له من يتحلّى بحقيقته راغبا، وأمّا ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالبا، على أنّي جمعت أكثرها للنّاس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرّياسة بينهم ولمدّ الجاه عندهم فحرمت ذلك كلّه،- ولا شكّ في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي، وربطه بأمري- وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجّة عليّ لا لي، وممّا شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه، أنّي فقدت ولدا نجيبا، وصديقا حبيبا، وصاحبا قريبا، وتابعا أديبا، ورئيسا منيبا، فشقّ عليّ أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنّسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفّحوها، ويتراءون نقضي وعيبي من أجلها فإن قلت: ولم تسمهم بسوء الظن، وتقرع جماعتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ؟ ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم، وأحوال الزمان بادية لعينك، بارزة بين مسائك وصباحك، وليس ما قلته بخاف عليك مع معرفتك وفطنتك، وشدة تتبعك وتفرغك، وما كان يجب أن ترتاب في صواب ما فعلته وأتيته بما قدّمته ووصفته، وبما أمسكت عنه وطويته، إما هربا من التطويل، وإما خوفا من القال والقيل. وبعد، فقد أصبحت هامة اليوم أو غد فإني في عشر التسعين، وهل لي بعد الكبرة والعجز أمل في حياة لذيذة، أو رجاء لحال جديدة؟ ألست من زمرة من قال القائل فيهم:
[الطويل]
نروح ونغدو كل يوم وليلة ... وعما قليل لا نروح ولا نغدو
وكما قال الآخر:
[الطويل]
تفوّقت درّات الصبا في ظلاله ... إلى أن أتاني بالفطام مشيب
وهذا البيت للورد الجعدي وتمامه يضيق عنه هذا المكان، والله يا سيّدي لو لم أتعظ إلا بمن فقدته من الإخوان والأخدان في هذا الصقع من الغرباء والأدباء والأحباء لكفى، فكيف بمن كانت العين تقرّ بهم، والنفس تستنير بقربهم، فقدتهم بالعراق والحجاز والجبل والري، وما والى هذه المواضع، وتواتر إلي نعيهم، واشتدت الواعية بهم، فهل أنا إلا من عنصرهم؟ وهل لي محيد عن مصيرهم؟ أسأل الله تعالى رب الأولين أن يجعل اعترافي بما أعرفه موصولا بنزوعي عما أقترفه، إنه قريب مجيب.
وبعد، فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم، ويؤخذ بهديهم،
1 / 19
ويعشى إلى نارهم، منهم: أبو عمرو بن العلاء، وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف، دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر.
وهذا داود الطائي، وكان من خيار عباد الله زهدا وفقها وعبادة، ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول.
وهذا يوسف بن أسباط: حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحه فيه وسد بابه، فلما عوتب على ذلك قال: دلّنا العلم في الأول ثم كاد يضلنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه، وكرهناه من أجل ما أردناه.
وهذا أبو سليمان الداراني جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك.
وهذا سفيان الثوري: مزق ألف جزء وطيرها في الريح وقال: ليت يدي قطعت من هاهنا بل من هاهنا ولم أكتب حرفا.
وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد: قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار.
وماذا أقول وسامعي يصدّق أن زمانا أحوج مثلي إلى ما بلغك، لزمان تدمع له العين حزنا وأسى، ويتقطع عليه القلب غيظا وجوى وضنى وشجّى، وما يصنع بما كان وحدث وبان، إن احتجت إلى العلم في خاصة نفسي فقليل، والله تعالى شاف كاف، وإن احتجت إليه للناس ففي الصدر منه ما يملأ القرطاس بعد القرطاس، إلى أن تفي الأنفاس بعد الأنفاس، «ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون» . فلم تعنّى عيني- أيدك الله- بعد هذا بالحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة والتصحيح وبالسواد والبياض، وهل أدرك السلف الصالح في الدين الدرجات العلى إلا بالعمل الصالح، وإخلاص المعتقد والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا وخدع بالزبرج، وهوى بصاحبه إلى الهبوط؟ وهل وصل الحكماء القدماء إلى السعادة العظمى إلا بالاقتصاد في السعي، وإلا بالرضا بالميسور، وإلا ببذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم؟ فأين يذهب بنا وعلى أي باب نحط رحالنا؟؟ وهل جامع الكتب إلا كجامع الفضة والذهب؟ وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما؟ وهل المغرم بحبها إلا كمكاثرهما؟ هيهات، الرحيل والله قريب، والثواء قليل، والمضجع مقض، والمقام ممض، والطريق مخوف والمعين ضعيف، والاغترار غالب، والله من وراء هذا كله طالب، نسأل الله تعالى رحمة يظلنا جناحها، ويسهل علينا في هذه العاجلة غدوها ورواحها، فالويل كل الويل لمن بعد عن رحمته بعد أن حصل تحت قدره. فهذا هذا.
1 / 20
ثم إني- أيدك الله- ما أردت أن أجيبك عن كتابك لطول جفائك، وشدة التوائك عمن لم يزل على رأيك مجتهدا في محبتك على قربك ونأيك، مع ما أجده من انكسار النشاط وانطواء الانبساط لتعاود العلل علي وتخاذل الأعضاء مني، فقد كلّ البصر وانعقد اللسان وجمد الخاطر وذهب البيان، وملك الوسواس وغلب اليأس من جميع الناس، ولكني حرست منك ما أضعته مني، ووفيت لك بما لم تف به لي، ويعزّ علي أن يكون لي الفضل عليك، أو أحرز المزية دونك، وما حداني على مكاتبك إلا ما أتمثله من تشوقك إلي وتحرقك علي، وأن الحديث الذي بلغك قد بدد فكرك، وأعظم تعجبك، وحشد عليك جزعك، والأول يقول:
وقد يجزع المرء الجليد ويبتلي ... عزيمة رأي المرء نائبة الدهر
تعاوده الأيام فيما ينوبه ... فيقوى على أمر ويضعف عن أمر
على أني لو علمت في أي حال غلب علي ما فعلته، وعند أي مرض وعلى أية عسرة وفاقة لعرفت من عذري أضعاف ما أبديته، واحتججت لي بأكثر مما نشرته وطويته، وإذا أنعمت النظر تيقنت أن لله جلّ وعزّ في خلقه أحكاما لا يعازّ عليها ولا يغالب فيها، لأنه لا يبلغ كنهها ولا ينال غيبها، ولا يعرف قابها ولا يقرع بابها، وهو تعالى أملك لنواصينا، وأطلع على أدانينا وأقاصينا، له الخلق والأمر، وبيده الكسر والجبر، وعلينا الصمت والصبر إلى أن يوارينا اللحد والقبر، والسلام. إن سرّك- جعلني الله فداك- أن تواصلني بخبرك، وتعرفني مقر خطابي هذا من نفسك فافعل فإني لا أدع جوابك إلى أن يقضي الله تعالى تلاقيا يسر النفس، ويذكر حديثنا بالأمس، أو بفراق نصير به إلى الرمس، ونفقد معه رؤية هذه الشمس، والسلام عليك خاصّا بحقّ الصفاء الذي بيني وبينك، وعلى جميع إخوانك عاما بحق الوفاء الذي يجب عليّ وعليك، والسلام.
وكتب هذا الكتاب في شهر رمضان سنة أربعمائة «١» . [اهـ]
مؤلفاته:
ورغم حرقه لكتبه فقد ترك أبو حيان للمكتبة العربية من مؤلفاته الكثيرة والمتنوعة ما يضعه في مصاف الطبقة الأولى من المثقفين، فهذا ياقوت الحموي يذكر له في معجمه عدة كتب أهمها:
١- كتاب رسالة الصديق.
٢- كتاب الرد على ابن جني في شعر المتنبي.
٣- كتاب الإمتاع والمؤانسة [وهو الذي بين أيدينا] .
1 / 21
٤- كتاب الإشارات الإلهية.
٥- كتاب الزلفة، أو الزلفى.
٦- المقابسة، (المقابسات) .
٧- كتاب تقريظ الجاحظ.
٨- كتاب ذم الوزيرين.
٩- كتاب الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي.
١٠- كتاب الرسالة في صلات الفقهاء في المناظرة.
١١- كتاب الرسالة البغدادية.
١٢- كتاب الرسالة في أخبار الصوفية.
١٣- كتاب الرسالة في الحنين إلى الأوطان.
١٤- كتاب البصائر وهو عشرة مجلدات.
١٥- كتاب المحاضرات والمناظرات.
وهنالك كتب أخرى سوى هذه التي ذكرها ياقوت هي:
كتاب الحوامل والشوامل، ورسائل عدة مثل حكاية أبي القاسم البغدادي، ورسالة الحياة، ورسالة السقيفة، ورسالة في علم الكتابة، ورسالة في العلوم، ومناظرة بين أبي بشر متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي.
وأما كتبه المطبوعة والمنشورة فهي:
١- رسالة الصديق والصداقة.
٢- الإمتاع والمؤانسة.
٣- الإشارات الإلهية.
٤- ثلاث رسائل (العلوم، السقيفة، علم الكتابة) .
٥- البصائر والذخائر.
٦- حكاية أبي القاسم البغدادي.
٧- مما نشره أحمد فارس الشدياق، صاحب «الجوائب» بالأستانة: رسالتان للعلامة الشهير أبي حيان التوحيدي، رسالة الصداقة والصديق، ورسالة العلوم سنة ١٨٨٤.
٨- المقابسات.
٩- مناظرة بين أبي بشر متى بن يونس القبائي وأبي سعيد السيرافي في المنطق اليوناني والنحو العربي.
1 / 22
١٠- الحوامل والشوامل.
١١- ذم الوزيرين.
١٢- رسالة القاضي أبي سهل.
١٣- رسالة الحياة.
١٤- رسالة السقيفة.
١٥- رسالة في علم الكتابة.
أما كتبه المفقودة فيرجّح أنها:
١- رسالة في: الرد على ابن جني في شعر المتنبي.
٢- رسالة في: الحنين إلى الأوطان.
٣- رسالة في: صلات الفقهاء في المناظرة.
٤- رسالة في: الصوفية.
٥- رسالة في: أخبار الصوفية.
٦- رسالة في: البغدادية.
1 / 23
نبذة عن كتاب الإمتاع والمؤانسة
كتاب «الإمتاع والمؤانسة» الذي اضطلع بتحقيقه الأستاذان أحمد أمين وأحمد الزين (والذي نقدمه للقارئ الكريم، اعتمادا على طبعتهما) ظهر على ثلاثة أجزاء صدرت في السنوات ١٩٣٩، و١٩٤٢، و١٩٤٤ على التوالي. وربما كان هذا المؤلّف الضخم من أقوم كتب التوحيدي، وأنفعها، وأمتعها، خصوصا وأن الأستاذين المحققين قد عنيا بتصحيح الكتاب ومراجعته، فجاء التصحيف والتحريف فيه على أضيق نطاق. وقد كتب المرحوم أحمد أمين مقدمة قيّمة، روى فيها قصة تأليف التوحيدي لهذا الكتاب نذكرها هنا لأهميتها فقال: ولتأليف أبي حيان لهذا الكتاب قصة ممتعة، ذلك أن أبا الوفاء المهندس كان صديقا لأبي حيان وللوزير أبي عبد الله العارض، فقرب أبو الوفاء أبا حيان من الوزير، ووصله به، ومدحه عنده، حتى جعل الوزير أبا حيان من سمّاره، فسامره سبعا وثلاثين ليلة كان يحادثه فيها، ويطرح الوزير عليه أسئلة في مسائل مختلفة فيجيب عنها أبو حيان.
ثم طلب أبو الوفاء من أبي حيان أن يقص عليه كل ما دار بينه وبين الوزير من حديث، وذكّره بنعمته عليه في وصله بالوزير، مع أنه «أي أبا حيان» ليس أهلا لمصاحبة الوزراء لقبح هيئته وسوء عادته وقلة مرانته وحقارة لبسته، وهدده إن هو لم يفعل أن يغض عنه، ويستوحش منه، ويوقع به عقوبته، وينزل الأذى به.
فأجاب أبو حيان طلب أبي الوفاء، ونزل على حكمه، وفضّل أن يدون ذلك في كتاب يشتمل على كل ما دار بينه وبين الوزير من دقيق وجليل وحلو ومر، فوافق أبو الوفاء على ذلك، ونصحه أن يتوخى الحق في تضاعيفه وأثنائه، والصدق في إيراده، وأن يطنب فيما يستوجب الإطناب، ويصرح في موضع التصريح.
«فكان من ذلك كتاب الإمتاع والمؤانسة» .
من هو الوزير أبو عبد الله العارض الذي سامره أبو حيان؟
لقد بحثت عنه في مظانه فلم أوفق إلى العثور عليه، وقبل ذلك عني المرحوم أحمد زكي باشا بالبحث والسؤال عنه من بعض علماء الشرق والغرب فكان حظه حظي.
1 / 24