ذلك وكيف سبقه إلى هذا الفعل علماء كبار، وتراجعه فيه عن بعض ما اعتقده من أمور جعلت المتأخرين يتهمونه بالإلحاد والزّندقة، حيث يقول: «أسأل الله رب الأولين أن يجعل اعترافي بما أعرفه موصولا بنزوعي عما اقترفته. إنه قريب مجيب» فيما يلي نصّ هذا الكتاب المهم:
قال يقوت الحموي في كتابه: معجم الأدباء (٢٩٤- ٢٩٩) .
وكان أبو حيّان قد أحرق كتبه في آخر عمره لقلّة جدواها، وضنّا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته.
وكتب إليه القاضي أبو سهل عليّ بن محمّد يعذله على صنيعه، ويعرّفه قبح ما اعتمد من الفعل وشنيعه. فكتب إليه أبو حيّان يعتذر من ذلك: حرسك الله أيّها الشّيخ من سوء ظنّي بمودّتك وطول جفائك، وأعاذني من مكافأتك على ذلك، وأجارنا جميعا ممّا يسوّد وجه عهد إن رعيناه كنّا مستأنسين به، وإن أهملناه كنّا مستوحشين من أجله، وأدام الله نعمته عندك، وجعلني على الحالات كلّها فداك.
وافاني كتابك غير محتسب ولا متوقّع على ظمإ برّح بي إليه، وشكرت الله تعالى على النّعمة به عليّ، وسألته المزيد من أمثاله، الّذي وصفت فيه بعد ذكر الشّوق إليّ، والصّبابة نحوي، ما نال قلبك والتهب في صدرك من الخبر الّذي نمى إليك فيما كان منّي من إحراق كتبي النّفيسة بالنّار وغسلها بالماء، فعجبت من انزواء وجه العذر عنك في ذلك، كأنّك لم تقرأ قوله جلّ وعزّ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
وكأنّك لم تأبه لقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ
، وكأنّك لم تعلم أنّه لا ثبات لشيء من الدّنيا وإن كان شريف الجوهر كريم العنصر، ما دام مقلّبا بيد اللّيل والنّهار، معروضا على أحداث الدّهر وتعاود الأيّام. ثمّ إنّي أقول: إن كان- أيّدك الله- قد نقب خفّك ما سمعت، فقد أدمى أظلي «١» ما فعلت، فليهن عليك ذلك، فما انبريت له، ولا اجترأت عليه حتّى استخرت الله ﷿ فيه أيّاما وليالي، وحتّى أوحى إليّ في المنام بما بعث راقد العزم، وأجدّ فاتر النّيّة، وأحيا ميّت الرّأي، وحثّ على تنفيذ ما وقع في الرّوع وتريّع في الخاطر، وأنا أجود عليك الان بالحجّة في ذلك إن طالبت، أو بالعذر إن استوضحت، لتثق بي فيما كان منّي، وتعرف صنع الله تعالى في ثنيه لي: إنّ العلم- حاطك الله- يراد للعمل، كما أنّ العمل يراد للنّجاة، فإذا كان العمل قاصرا عن العلم، كان العلم كلّا على العالم، وأنا أعوذ بالله من علم عاد كلّا وأورث ذلّا، وصار في رقبة صاحبه غلّا- وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار- ثمّ اعلم علّمك الله الخير أنّ هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرّه وعلانيته، فأمّا ما كان
1 / 18