فلا غرابة بعد هذا في تشعب الأقوال عن شاعر يلهج الناس بذكره منذ نحو ثلاثين قرنا، وأن تتباين المزاعم في اسمه ولقبه ونشأته وأسرته وسيرته في صباه وشيخوخته. فإذا ولد اختلفوا في أبيه، وإذا دب اختلفوا في ربيبه، وإذا شب تنازعته الأمصار، وإذا شرع في السياحة قالوا: «رحل فقيرا على نفقة غيره أو غنيا على نفقه نفسه». وإذا أنشد الشعر ذهب فريق إلى أنه أنشده مترنما محتسبا كامرئ القيس وعبد يغوث في الجاهلية وابن المعتز وأبي فراس في الإسلام، وقال الأكثرون: «بل تغنى به مستجديا مكتسبا كزهير ولبيد والحطيئة ومتنبي المشرق أبي الطيب، ومتنبي المغرب ابن هاني». وهكذا ظلوا يتقولون في مناحي حياته إلى أن تناولوه ميتا، فأماته بعضهم كمدا ميتة نحوينا سيبويه، قالوا: كان شاخصا إلى ثيبة فعرج على يوس، وإذا بفتية يصطادون سمكا فسألهم عن مقدار صيدهم فقالوا: «أفلتنا بعدد ما أمسكنا، واصطدنا بعدد ما لم نصطد» فأغلق عليه فهم المراد، وعظم عليه الأمر فمات قهرا.
والخلاصة أن الترجمة المعزوة إلى هيرودوتس هي لدى التحقيق أصدق ما كتب عن سيرة حياته. وليس في ما كتب أرسطوطاليس وإسطرابون ما يند عنها كثيرا، وأما المدن اليونانية التي أدعته فللكثير منهن نصيب من صحة الدعوى، قال غينيو في مقدمة معجم هوميروس لتيل وهاليز داروس:
1 «أحق البلاد بهوميروس أزمير باعتبار مولده وصباه، وكومة باعتبار شروعه في قرض الشعر، وساقس باعتبار نبوغه في النظم، ويوس بالنظر إلى بقاء وفاته فيها».
تاريخ ظهوره
للمؤرخين أقوال مختلفة في تعيين الزمن الذي ظهر فيه شيخ الشعراء وهي تتراوح بين بدء القرن الثاني عشر والقرن السابع قبل الميلاد، ورواية هيرودوتس القائل أن هوميروس تقدمه بأربعمائة سنة ما زالت أجدرهن جميعا بالثقة؛ لانطباقها على منقول الثقات من قدماء المؤرخين والأثر المتصل إليهم بالتواتر. فعلى هذا يكون نبوغ هوميروس في منتهى القرن العاشر أو بدء التاسع قبل الميلاد أو نحو سنة 900 لأن مولد هيرودوتس كان في أوليات القرن الخامس ق.م. يؤيد ذلك: (1)
أن مؤرخي الرومان مجمعون على أن هوميروس نبغ قبل بناء رومية بقرن ونصف، فإذا أضفنا ذلك إلى 753 وهي السنة التي بنيت فيها رومية كان نبوغ هوميروس نحو سنة 903ق.م. (2)
أن من مرويات شيشرون الروماني أن هوميروس كان معاصرا ليكرغس الشارع اللقدموني، وقد أيد إسطرابون تلك الرواية، وقال: «إن ليكرغس قصد ساقس طمعا بمحادثة هوميروس والأخذ عنه، وعهد ليكرغس بين القرنين التاسع والعاشر، ولا يجرح تلك الرواية قول فلوطرخوس الذاهب إلى أن ليكرغس إنما أخذ شعر هوميروس عن حفيد الشاعر، فقد يمكن أن يكون ذلك في حياة الشاعر أو بعدها بقليل». (3)
يؤخذ من الأنساب المنقولة على قطع المرمر التي وجدت في أوائل القرن السابع عشر في جزيرة فاروس في الأرخبيل الرومي، والمحفوظة في مكتبة أكسفورد أن هوميروس كان حيا سنة 907ق.م. ولا غرو أن تكون تلك النقوش موضع ثقة؛ لأنها كتبت باعتناء حكومة أثينا، ودونت فيها أشهر حوادث اليونان من سنة 1582 إلى 263ق.م.
فإذا ثبت لدينا أن نبوغ هوميروس كان في أخريات القرن العاشر رجح في الظن أن بينه وبين دمار إليون التي سمى الإلياذة باسمها نحوا من أربعمئة سنة، وأنه كان معاصرا لأحاب ملك إسرائيل وسوا ثاني ملوك الدولة الخامسة والعشرين في مصر، وكل من مصر وفلسطين في ذلك الحين كان في معامع الاضطراب والانقلاب، كما كانت بلاد اليونان في أبان سكونها بعد أن ماجت بالجالية المتدفقة إليها تدفق السيل، وهو ولا ريب زمن احتكاك الأفكار وانفجار القرائح بنفيس الأشعار.
منزلته عند القدماء
অজানা পৃষ্ঠা