إهداء الكتاب
ديباجة الكتاب
مقدمة
النشيد الأول
النشيد الثاني
النشيد الثالث
النشيد الرابع
النشيد الخامس
النشيد السادس
النشيد السابع
النشيد الثامن
النشيد التاسع
النشيد العاشر
النشيد الحادي عشر
النشيد الثاني عشر
النشيد الثالث عشر
النشيد الرابع عشر
النشيد الخامس عشر
النشيد السادس عشر
النشيد السابع عشر
النشيد الثامن عشر
النشيد التاسع عشر
النشيد العشرون
النشيد الحادي والعشرون
النشيد الثاني والعشرون
النشيد الثالث والعشرون
النشيد الرابع والعشرون
إهداء الكتاب
ديباجة الكتاب
مقدمة
النشيد الأول
النشيد الثاني
النشيد الثالث
النشيد الرابع
النشيد الخامس
النشيد السادس
النشيد السابع
النشيد الثامن
النشيد التاسع
النشيد العاشر
النشيد الحادي عشر
النشيد الثاني عشر
النشيد الثالث عشر
النشيد الرابع عشر
النشيد الخامس عشر
النشيد السادس عشر
النشيد السابع عشر
النشيد الثامن عشر
النشيد التاسع عشر
النشيد العشرون
النشيد الحادي والعشرون
النشيد الثاني والعشرون
النشيد الثالث والعشرون
النشيد الرابع والعشرون
الإلياذة
الإلياذة
تأليف
هوميروس
ترجمة
سليمان البستاني
إهداء الكتاب
خطار سلوم نادر البستاني (1830-1886).
إليك يا والدي أهدي كتابي هذا، فأنت أولى به من كل حي وميت، وما هو إلا ذرة من فضلك وجزء من عنايتك ببنيك وتفانيك بنفع ذويك وبني جلدتك، فإن عجزت عن أداء واجب الوفاء بحياتك، فلا أقل من أن أشهد الملأ على عرفاني جميلك وأنت في عالم الأرواح.
ديباجة الكتاب
هذه إلياذة هوميروس أزفها إلى قراء العربية شعرا عربيا، ولقد استنفدت وسعي في نظمها وإلحامها راجيا أن تكون محكمة التعريب خلية من شوائب اللكنة والعجمة.
وقد صدرتها بمقدمة أتيت فيها على سيرة صاحب الإلياذة وأشرت إلى منظوماته ومنزلته عند القدماء ورأي المتأخرين فيه وأقوال العرب في شعره، وبحثت في الإلياذة وموضوعها وطرق تناقلها قبل الكتابة ثم في جمعها وكتابتها وسلامتها من التحريف مع ما فيها من قليل الدخيل والساقط والمكرر والمغلق، وأتيت على تحليلها وتشريحها، وبسط ما فيها من الفائدة للأدب والتاريخ وسائر العلوم والفنون والصنائع، وأوضحت ما كان من الأسباب الداعية في صدر الإسلام إلى إغفال العرب نقلها إلى لغتهم، وتطرقت إلى التعريب، فقصصت حكاية المعرب في وضع هذا الكتاب. وذكرت مناهج العرب في نقل الكتب الأعجمية والطرق التي يجدر بالنقلة التعويل عليها، وساقني ذلك إلى النظر في التعريب الشعري، ثم إلى النظم على الإطلاق وأوزان الشعر وقوافيه ووقع كل منها في معانيه، وجوازات الشعر من مأنوس ومكروه إلى غير ذلك مما يعد من خصائص هذه الصناعة، وانتقلت إلى المقارنة بين الإلياذة والشعر العربي، فوطأت لذلك بالشعر القديم وأصله، وسبب طموسه، ومناشدات سوق عكاظ، وشأن لغة قريش فيها وفضل القرآن في جمع أشتات اللغة وتوحيدها وإحكام بلاغتها في النظم والإنشاء، وقابلت بين لغة قريش المضرية ولغة الإلياذة اليونية، وفصلت أطوار الشعر العربي مميزا بين طبقات الشعراء من عهد الجاهليين حتى يومنا، وأثبت مزايا كل طبقة منها مع تعيين مدتها وأسماء، فحولها وإيراد ما اتسع له المقام من نفيس شعرهم، ثم أشرت إلى مغامز الشعر العربي ومناهج المولدين في أبواب الشعر وفنونه وأساليبه وعلوم الأدب العربية وتاريخها، وانتهيت إلى أسباب الضعف والانحطاط في شعر المحدثين وجنوح النوابغ من أبناء هذا العصر إلى سد الخلل وتعديل الخطة، وأفردت بابا للملاحم أو منظومات الشعر القصصي مما يماثل الإلياذة، فأشرت إلى ضروب الشعر عند الإفرنج، وقابلت بين ملاحم الأعاجم والملاحم العربية من الشعر الجاهلي، وجمهرة أشعار العرب، واستطردت من ذلك إلى إلقاء نظرة على الجاهليتين؛ جاهلية العرب، وجاهلية اليونان ثم إلى ملاحم المولدين، ورجعت بعد هذا إلى الحقيقة والمجاز، وما يلصق بالمعاني الشعرية من التشبيه والكناية والاستعارة والبديهيات، وما ينتابها من النقل والسرقة وتوارد الخاطر، وما قد يطرأ عليها من التغير بفعل الحضارة، وألمعت إلى مسالك الأعاجم في ذلك مبينا مزية العربية على لغاتهم في بعض الأحوال، وذيلت المقدمة بخاتمة في الشعر واللغة عارضت فيها بين العربية واليونانية، وبحثت في اتساع العربية وثروتها القديمة، وكثرة مترادفاتها، وتعدد المعاني فيها للفظ الواحد مع إيضاح فائدة ذلك وضرره، وإيراد أسباب الضعف في تأدية ما استحدث من المعاني العصرية، وأشرت إلى نهج العرب بالتوسع في اللغة والاصطلاح، وختمت بخلاصة موجزة في ما تراءى لي من الداء والدواء والنهضة الحديثة، ومستقبل اللغة والشعر.
وقد علقت على الكتاب شرحا توخيت فيه الفائدة والتفكيه، ورصعته بزهاء ألف بيت مما قاله العرب في مثل معاني الإلياذة أو حوادثها، وضمنته كل ما تجدر معرفته من أخلاق الأمة العربية «في جاهليتها وبداوتها وحضارتها، والمشهور من أساطيرها وعباداتها والمأثور من آدابها وعاداتها ومناهج شعرائها وأدبائها، ومواقف ملوكها وأمرائها وساستها وزعمائها» إلى غير ما هنالك مما أوضحته في باب حكاية المعرب (ص: 72).
وقد مثلت المتن الشعري مطبوعا بالشكل الكامل وأودعت الشرح كثيرا من رسوم الآلهة وغيرهم مما يحسن الاطلاع عليه.
وأضفت فهرسا لتلك الرسوم وآخر للقوافي ومعجما للألفاظ اللغوية، ومعجمين آخرين لجميع مواد الكتاب من أعلام وتاريخ وعلم وصناعة وخلق وعادة وهلم جرا.
تلك هي على الجملة محتويات الكتاب «فإن أحسنت وفيه منتهى جهدي فذلك من حسنات الاجتهاد، وإلا فحسبي أن أفتحه بابا يلجه من وفقه الله إلى سبيل السداد».
مقدمة
هوميروس
هوميروس.
اسمه ولقبه
اختلف المؤرخون في اسم صاحب الإلياذة، ولكنهم متفقون على أن «هوميروس» لقب لقب به لأمر جلل تخلل حياته فعرف به، وأهمل اسمه على نحو ما اتفق لكثيرين من شعرائنا الذين غلبت ألقابهم وكناهم على أسمائهم كطرفة بن العبد، والشماخ، والنابغة والفرزدق والأخطل والمتنبي وأبي العلاء، وللكتاب أقوال مختلفة في ذلك اللقب نظير ما لكتابنا من المذاهب المتضاربة في أصل تلك الألقاب والكنى؛ ولهذا حاموا حول اللفظة اليونانية وجعلوا يستنبطون من معانيها ما شاءوا، فوضعوا لكل معنى يستخرج منها حديثا مما يمكن وقوعه لشاعرنا، فمن قائل أنه لما كانت كلمة هوميروس (ομηροζ)
بمعنى الرهينة غلب عليه هذا اللقب لوقوعه أسيرا في حرب فكان من جملة الرهائن، على أن الذاهبين هذا المذهب ليسوا على بينة من تلك الحرب، فمنهم من يجعلها بين أزمير وساقس، وهو مذهب بروكلوس وعنده أن الشاعر اعتقل في ساقس، ومنهم من يقول بل أخذ إلى كولوفون، وقال آخرون: «بل وقع أسيرا في قبضة الفرس»، ومن قائل: «إن اللفظة منحوتة من كلمتي (ομωζ ςρειν)
ومعناهما «المتكلم في المجلس» أي: الخطيب أو المشير وهو قول سويداس، وكل ما يستخرج من هذا النحت يصح أن يتفق لصاحبنا، ومن قائل أنها مشتقة من لفظة (ομηρειν)
بمعنى التابع أو اللاحق أخذا من قول فلوطرخوس أنه لحق بالليديين من مدينة أزمير، وهناك أقوال أخرى أجدرها بالذكر قول هيرودوتس وإيفوروس: «أن اللفظة مركبة من ثلاث كلمات» (ο μη ορων)
بمعنى الكفيف البصر، وهو تخريج حسن يصح التعويل عليه؛ لأنه لم يثبت في الأثر شيء مما يؤيد الأقوال السابقة ولكنه ثابت أن بصره كف وهو لم يكد يتجاوز سن الشباب، وقد أشار إلى ذلك في أبيات من منظومته «الأوذيسية». وفي معجم ألكسندر «أن لفظة هوميروس مفردة كان يراد بها «الأعمى» في مدينة كومة وبها لقب الشاعر».
وأما اسمه فأشهر ما قيل فيه أنه كان ميونيذس أي: ابن ميون؛ لأن ميون ملك ليديا تزوج أمه كريثيس، والطفل على يدها فدعاه باسمه وهو يعتقد أن أبا ذلك الطفل من الجن، وقيل: «بل كان والد هوميروس داماسوغوراس ووالدته أثرا ومسقط رأسه مصر». وقيل: «بل كان اسم هوميروس ميليسا جينيس» وهي رواية هيرودوتس، وعليها المعول كما سيجيء.
نسبه
لا يعلم شيء ثبت عن نسب هوميروس وحسبه، وإن لدينا مما استبقاه المتقدمون أقوالا متباينة لا يمكن الأخذ بشيء منها، وصفوة ما عول عليه الكتبة منها سيرتان كتبهما هيرودوتس وفلوطرخوس، ثم وجد المتأخرون بعد التمحيص أنهما لا تخلوان من تناقض يؤدي إلى الظن أنهما لفقتا بعد حين كقول هيرودوتس أن هوميروس نبغ في القرن السابع أي: قبل حملة الفرس الكبرى على بلاد اليونان، وقوله في تاريخه: «إن هوميروس تقدمه بأربعمئة سنة مع أنه كان يدون بنفسه سير تلك الغزوة تدوين الشاهد الحي». وليس في ما بين أيدينا من منظوم هوميروس ما يشير إلى أسرته وعترته مع أنه كان أحرص الناس على تدوين الأنساب كما يتضح لمن يتصفح الإلياذة، ولا أخاله إلا آتيا على تلك النسبة في شيء مما فقد من شعره إذ ليس في محفوظ أشعاره ذكر لأبيه، وأما أمه فيزعم بعض الشراح أنها هي المعنية بقوله في النشيد الثاني عشر:
كمرأة عالت الأطفال عادلة
قد أمسكت عود ميزان تعادله
لا تخسر الصوف مثقالا تضن به
وعلى هذا فلا يمكن استخلاص شيء من كتبه عن نسبه، وجميع ما لدينا من رواية السلف عنه لا يتجاوز حد الحدس، ولا سيما أن شهرته النامية ومنزلته السامية حببتا إلى كتبة كل قبيلة من اليونان أن تدعيه فتنازعته مدائنهم وأتي كل منهن ببرهان، وأشهر تلك المدائن ثمان وهي: أزمير، وسلاميس (وتدعى اليوم كولوري) ويوس (نيو) ورودس، وخيوس (ساقس) وكولوفون، وأرغوس وأثينا، ولعله أقام زمنا في كل منهن وأخلف فيها أثرا من شعره فكان داعيا إلى تلك الدعوى، وإن رجلا هذا شأنه لا بدع أن يدعيه كل فريق من قومه بعد أن ادعاه الأجانب، فقد ذكر أفستاثيوس رواية أسندها إلى إسكندر بافيوس زعم فيها أن هوميروس ولد في مصر قال: «كان أبوه يدعي داماساغوراس، وأمه أثرا فلما ولد عنيت بتربيته نبية من ولد أوروس الكاهن، وكان يتحلب الشهد من ثدييها إلى فم الطفل فكان إذا أقبل الليل يتغنى بصوت كصوت تسعة من الطير مختلفة الأجناس، وإذا لاح الفجر يصبح وهو يلاعب تسعا من الورق، وأوعز إلى أبيه أن يبني هيكلا للقيان منشدات السماء فبناه وقص الخبر على ابنه لما بلغ أشده، فكانت تهيجه ذكرى الحمام وترنم به في شعره».
ومهما يكن من الخبط في تلك الأقاويل، فإنا نتبع الفريق الأعظم من الكتبة في التعويل على النسبة التي كتبها هيرودوتس وإليك مجملها:
مولده ونشوؤه
هو ابن كريثيس ابنة ميلانوفوس ولدته أمه على ضفة نهر ميليس في ضاحية أزمير ودعته ميليسا جينيس أي: ابن النهر ميليس، وكان في أزمير إذ ذاك معلم كتاب يدعى فيميوس، فاستأجرها لغزل الصوف الذي كان يتقاضاه أجرة من تلامذته، وكانت كريثيس صناع اليدين ذات رجاحة وسكينة فأعجب بها فيميوس وخطبها لنفسه، وما زال يمنيها بالوعود حتى أجابته إلى طلبه. وكان جل ما استمالها به قوله لها: إنه توسم في الغلام من الفطنة والذكاء ما جعله واثقا أنه سيكون نابغة عصره إذا عهد إليه بتربيته، فإذا رضيت به بعلا لها فهو يتبنى ابنها، ويعكف على تهذيبه وتثقيفه، وبر فيميوس بوعده، فعني به فإذا به قد فاق جميع أقرانه ثم ما انقضت بضعة أعوام إلا وهو يكاد يظهر على أستاذه.
مدرسته
وتوفي فيميوس ولا وارث له إلا هوميروس ثم ما لبث أن توفيت كريثيس، فخلت المدرسة لهوميروس فأقام مقام أستاذه فأعجب به بنو أزمير، وطارت شهرته فقصده الداني والقاصي، وأصبح مجلسه ديوان الأدب وكعبة الحكمة، وكانت أزمير لذلك العهد محطا لرحال التجار تستورد إليها الحبوب من تلك البقاع الخصبة فتمتار منها المدن المجاورة، فأصبح الغريب القادم إليها إذا فرغ من عمله أو سنحت له فرصة يهرع إلى مجلس الأستاذ الفتى؛ ليلتقط درر حكمته، وممن كان يختلف إليه ربان سفينة من ذوي العلم والدهاء اسمه منتس يحمل الحبوب إلى أزمير من لوقاديا، فشغف بحديث ميليسا جينيس وجعل يحسن له الأسفار ويزين له مشاهدة الأمصار وهو في عنفوان الصبا قبل أن يدركه العجز؛ ليزداد حكمة واطلاعا ووعده أن يحمله على سفينته فيتخذه خدنا عزيزا وإلفا كريما، وما زال به حتى حمله على مغادرة المدرسة والتدريس واللحاق به رحالة على متن البحار.
أسفاره
وكان ميليسا جينيس شديد المراقبة كثير البحث لا يقع بصره على شيء إلا تحراه ولا طرق مسمعه خبر إلا استجلاه، فطالت الرحلة وهو في أثنائها يختزن الفوائد ويجمع الأخبار حتى انتهى به التطواف إلى إيبيريا (إسبانيا) وأقلعت منها السفينة إلى أزمير، فعرجت على إيثاكة (ثياكي) في الأرخبيل اليوناني، وهناك رمدت عينا ميليسا جينيس، فاضطر منتس على كره منه أن يستبقيه فيها لدى صديق له حميم من أهل تلك الجزيرة يدعى منطور، فأنزله منطور في داره وكان مضيافا طيب العنصر، رحب الصدر، كريم الخلق ليس في بلاده من يضاهيه شهرة بتلك الخلال، ولم تكن العلة لتمنع الفتى من البحث والتحري فظل وهو على فراش المرض يلتقط شوارد الفوائد، ومن جملتها أخبار أوذيس (أوذيسس) وأسفاره (فكانت له أساسا بنى عليه منظومته الأوذيسية، وجعل فيها اسم منطور مرادفا للحكمة والبر فخلد بها ذكره أبد الدهر).
وبقي ميليسا جينيس نزيل منطور إلى أن عاد الربان منتس إلى إيثاكة فأنزله إلى سفينته واستأنفا الأسفار إلى أن بلغا كولوفون، فاشتد عليه الرمد حتى فقد بصره جملة وظل كفيفا إلى أن مات.
شروعه في قرض الشعر
ولما كف بصره قصد أزمير وأقام فيها زمنا ينظم الشعر، فضاقت ذات يده وبرحت به الحاجة، فعول على الشخوص إلى كومة، وسار يقطع هرمس (وهو نهر كديز أو سرابات) إلى أن بلغ به السير إلى (نيونتيخوس) وهي بلدة من مستعمرات الكوميين. قيل: إنه وقف فيها إلى حانوت تاجر جلد، فأنشد أبياتا شكا فيها بؤس الغريب الشريد المتضور فاقة وجوعا، وكان ذلك أول عهده بالإنشاد على مسمع الناس، فأصابت تلك الأبيات موضع رفق وعطف من فؤاد ذلك التاجر؛ فرحب به وآواه إليه، فجلس في الحانوت وأنشد على مسمع جماعة ممن حضر مقاطيع من شعره في وصف حملة أمفياراوس على ثيبة وبضع ترانيم دينية، فأجله القوم وأكرموا مثواه، فأقام بينهم وصناعته الإنشاد.
قال هيرودوتس: «ولا يزال أهل تلك البلدة حتى يومنا يفتخرون بالإشارة إلى المجلس الذي كان ينتابه فينشد فيه، ولذلك الموضع عندهم حرمة ومنزلة سامية وفيه شجرة صفصاف يزعمون أنها زرعت يوم قدم ميليسا جينيس فأقام بين ظهرانيهم».
تتمة أسفاره
أقام الشاعر بضعة أعوام في نيونتيخوس ثم قل رزقه فيها فبرحها إلى كومة، وقصد الموضع الذي كان يجتمع فيه مجلس الشيوخ، وأنشد ما تيسر فارقص الحضور طربا فطابت نفسه وعظمت أمانيه فسألهم أن يقوموا بنفقته على أن يقول فيهم من الشعر ما يطير شهرة مدينتهم في الآفاق ويخلد لها جميل الذكر. فلم يكن في من حضر إلا من استصوب السؤال وأوعزوا إليه أن يقول قوله هذا في المجلس وهو ملتثم وهم من ورائه يعضدون. فعمل بإشارتهم، ولما اجتمع الشيوخ أدخل إلى قاعة الاجتماع، فانتصب خطيبا وأعاد الكلام الذي ألقاه على عامة الناس وخرج ينتظر الجواب. فخلوا إلى شوراهم وكان معظمهم ممن يرغب في موافقته، فإذا بواحد منهم قد قام فاعترض وقال: «لئن جنحنا إلى القيام بنفقات عميان الشعراء لنلقين على عواتقنا زمرا منهم لا قبل لنا بهم». فأدى بهم ذلك إلى الانقلاب عن عزمهم.
ومن ثم لقب ميليسا جينيس بهوميروس، ومعناها أعمى بلغة الكوميين وتنوسي اسمه، فنقم هوميروس على كومة وأهلها، ونظم قصيدة رثى بها حاله، واستنزل اللعنة على من يتغنى بمدحها ومدحهم من الشعراء، وغادرها إلى فوقيا على مقربة من أزمير وجعل يطرق منتدياتها فينشد فيها الأشعار.
وكان في تلك البلدة معلم كتاب ذميم الخلق يسمى ثستوريذس، فلما رأى ما كان من رواج بضاعة الشعر دعاه إلى منزله يقيم فيه ضيفا كريما على أن يلقنه كل ما نظم وما سينظم من الشعر فما وسع هوميروس إلا القبول فرارا من الفقر، فأكب ثستوريذس على النسخ حتى استتم كل منظومات هوميروس، فأقفل أبواب مدرسته وسار إلى جزيرة ساقس، وأقام فيها ينشد شعر نزيله ويدعيه. فبلغ هوميروس أمره فعزم على تعقبه ولم يبال بما اعترضه من مشاق فوصل الجزيرة بعد معاناة الأهوال، ونزل في بلدة من ثغورها تدعى بوليسوس فاتخذه بعض وجهائها معلما لأولاده، فأقام عنده وعكف على نظم الشعر ثم أذاع منظومات خلابة «كحرب الزرازير» و«حرب الضفادع والفيران» و«الكركوفة» فتناشدها الناس وتناقلها الركبان، وكان ثستوريذس كلما علم بحلول هوميروس في مكان فر منه إلى مكان آخر.
ولما رسخت شهرة هوميروس في ثغور الجزيرة سأل صاحب منزله أن يذهب به إلى عاصمتها، فشخص إليها وفتح مدرسة يعلم فيها النظم وطرائقه فعظم أمره وعلت منزلته، وأكبر الناس قدره فطاب عيشه واتسعت حاله بينهم، فأزوجوه بنتا فولدت له ابنتين، وجادت قريحته فنظم وأبدع، وكان وفيا ذكارا للجميل، فأودع شعره كل خلة محمودة خلد بها ذكر المحسنين إليه ولا سيما منطور الذي عني به أثناء رمده في إيثاكة، قال هيرودوتس: «جعل هوميروس منطور في منظومته الأوذيسية رفيقا لأوذيس، وأبرزه بمظهر من الصدق والوفاء عظيم حتى أن ملك إيثاكة استخلفه على بيته وعياله عند ما شخص في من شخص إلى طروادة».
فلهج الناس في كل قطر بذكر هوميروس حتى ملأت شهرته بلاد يونيا، وبلغت هيلاذة، فأوعز إليه أن يقصد إغريقيا، فطرب لذلك الإيعاز فأقلع إلى ساموس، وقضى فيها فصل الشتاء يتكسب بالإنشاد في منازل الأغنياء.
مرضه ووفاته
ولما انقضى الشتاء عول على السفر إلى أثينا فركب سفينة مع جماعة من أهل ساموس، فبلغوا جزيرة يوس وأرسوا في مضيق على مقربة من الثغر ففاجأ هوميروس الداء، فنزل إلى البر وانطرح على الجرف، ولم تقو السفينة على مواصلة السير لشدة الأنواء، فأقاموا أياما في مكانهم وأهل الجزيرة يتهافتون أفواجا لمحادثة هوميروس، وقد بلغ بهم الإعجاب منتهاه لما كان ينثر عليهم من غرر الأقوال ودرر الأمثال، ولكنه ما لبث أن توفي لاشتداد الداء، فاجتمع رفاقه وأهل الجزيرة ودفنوه قرب الشاطئ.
ولما مرت السنون وذوت نضارة الشعر، وانحطت منزلته اجتمع أهل الجزيرة إلى قبر هوميروس، فنقشوا عليه بيتين من الشعر معناهما: إن من هذا النبات الأخضر غطاء للرأس المقدس رأس الشاعر هوميروس شبيه الآلهة الذي كان يتغنى بمدح الملوك والأبطال.
فذلكة ما تقدم
تلك خلاصة ترجمة هوميروس بنص هيرودوتس، وهي وإن كانت لجلائها وصراحتها وتقدم عهدها أحرى بالثقة مما سواها فإنها لم تخل من مظان اعتراض رماها بها المتقدمون فضلا عن المتأخرين، ولكن جل ما يعترض به مقصور على العرض لا يكاد يتناول الجوهر بشيء، قال هيرودوتس: «إن تسثوريذس عكف على نسخ منظوم هوميروس مع أنه لم يثبت قط أن اليونان كتبوا لعهد هوميروس؛ لأن الحروف الفينيقية لم تشع عندهم إلا بعد حين». على أن هذا القول لا يعبث بأساس الرواية إذ المراد إثبات أن تسثوريذس كان سارقا فسيان إذن أن يكون ناسخا أو مستظهرا، وزعم بعضهم أن تلك السيرة كتبت بعد زمن هيرودوتس وعزيت إليه، فعلى فرض ثبوت هذا الزعم فلا ريب أنها كتبت بيد خبير فنسبتها إلى هيرودوتس لا تنقض حقائقها، وأما إغفال هيرودوتس أمورا مما أثر عن هوميروس كرحلته إلى مصر، وما أشبه فليس مما يفسد الحوادث التي أثبتها إذ قلما تجد مترجما أو مؤرخا يلم بأحوال مترجمه وأعماله بكلياتها وجزئياتها؛ بل ربما حصل التفاوت في نصوص كتبة الوحي والمحدثين، فإن في كل من الأناجيل شيئا مما أغفل في غيره، وما كان ذلك لينقض شيئا من الحقائق المسطرة فيه، ويقال مثل ذلك في السير النبوية والأحاديث.
وحاصل القول أنه كان للقدماء مزاعم كثيرة في هوميروس مما أسند إلى السلف، وتنوقل بالتواتر أو استنبط من فقرات من أناشيده، ولقد أوغل بعضهم في البحث أو الاستنباط حتى وضع سلسلة نسبة رواها سويداس وغيره تتصل من أفلون إلى كريثيس والدة هوميروس، قالوا: «كانت كريثيس ابنة ميون بن فرسيس وفوكميذا ابنة أفلون، وكان فرسيس أخا هسيودس الشاعر وكلاهما من ولد ذيوس بن مينالفس بن أبيفراذس بن أوفيمس بن فيلو تربس بن هرمونيذس بن أرفيوس بن واغروس من القينة قليوبة، وكان واغروس ابنا لفيروس من الحوراء ميثونة، وفيروس ابنا للينوس الشاعر، ولينوس هذا من ولد أفلون، وثووسة ابنة فوسيذ». تلك نسبة لا يثبت منها مع ما هو متواتر من أقوال المتقدمين إلا أن اسم والدة هوميروس كان كريثيس ولا علم لهم بأبيه، ولعل هوميروس نفسه لم يكن يعرف أباه وهو شأن كثيرين من نوابغ الأعصر الخالية، ومن جملتهم فرجيليوس نابغة شعراء اللاتين، أما سائر حلقات السلسلة، فإذا استجلي كنهها اتضح منه أنه يرمى به إلى إعظام قدر الشاعر، وإلصاقه بأعلى نسبة يفتخر به، ووصفه بأجل وصف يزين عظام الرجال، فما في تلك السلسة إلا الشاعر والحكيم والملك والعظيم فضلا عن الآلهة كأفلون صاحب القيثار وفوسيذ رب البحار والمطربات القيان والحور الحسان، وإذا أضفنا إلى ذلك معاني سائر الأسماء كهرمونيذس من رقة النغم وحسن الإيقاع، وفيلوتربس من حب السرور، وإبيفراذس من الذكاء، وفوكميذا من الحكمة علمنا أن واضع تلك السلسلة رمى بها مرمى الأقدمين من التعبير عن الحقيقة بالرمز واللغز وتجسيم الصفات، فكأنه قال: تلك هي أوصاف هوميروس الشاعر الحكيم المطرب العظيم الرحالة الفهامة والمؤرخ العلامة إلى آخر ما هنالك من صفات الإجلال والتبجيل.
وأما سائر الروايات المخالفة لترجمة هيرودوتس فأكثره موضوع لأسباب قد يمكن استجلاء بعضها بالتحري والمقابلة. ولنتخذ مثالا على ذلك زعم بعضهم أنه ولد في مصر. فإذا علمنا أن مصر كانت لذلك العهد مورد العلم ومنهل الحكمة، ومحط ركاب الطلبة من كل فج سحيق، وعرفنا أن رجلا كهوميروس لا بد من أن يحثه الشوق إليها فيقيم فيها زمنا طويلا ويخالط عامتها وسوقتها فيختبر الخلق والعادة، ويتصل بالكهان والأحبار فيدخر ويستفيد، وثبتت لدينا صحة ذلك من كثرة مآخذه عن المصريين مما نبهنا عليه في مواضعه، ورأينا تهافت القدماء على انتحال نسبة هوميروس إليهم، إذا تبينا كل هذا ذهبت عنا غرابة هذا الزعم، ثم إذا تطرقنا إلى النظر في قولهم: «إنه ربي في حجر بيت عظيم الكهنة» على ما تقدم فلا يصعب علينا أن نرى في تلك الرواية تحريفا لنص التوراة في نشأة موسى الكليم، وكم من رواية على هذه الشاكلة وضعت لنبي أو عظيم، فنقلت فنسبت إلى غيره في كل بلاد الله، وتغيرت الأسماء وتحولت المجريات إلى ما يلائم المكان والزمان والأصل واحد.
فلا غرابة بعد هذا في تشعب الأقوال عن شاعر يلهج الناس بذكره منذ نحو ثلاثين قرنا، وأن تتباين المزاعم في اسمه ولقبه ونشأته وأسرته وسيرته في صباه وشيخوخته. فإذا ولد اختلفوا في أبيه، وإذا دب اختلفوا في ربيبه، وإذا شب تنازعته الأمصار، وإذا شرع في السياحة قالوا: «رحل فقيرا على نفقة غيره أو غنيا على نفقه نفسه». وإذا أنشد الشعر ذهب فريق إلى أنه أنشده مترنما محتسبا كامرئ القيس وعبد يغوث في الجاهلية وابن المعتز وأبي فراس في الإسلام، وقال الأكثرون: «بل تغنى به مستجديا مكتسبا كزهير ولبيد والحطيئة ومتنبي المشرق أبي الطيب، ومتنبي المغرب ابن هاني». وهكذا ظلوا يتقولون في مناحي حياته إلى أن تناولوه ميتا، فأماته بعضهم كمدا ميتة نحوينا سيبويه، قالوا: كان شاخصا إلى ثيبة فعرج على يوس، وإذا بفتية يصطادون سمكا فسألهم عن مقدار صيدهم فقالوا: «أفلتنا بعدد ما أمسكنا، واصطدنا بعدد ما لم نصطد» فأغلق عليه فهم المراد، وعظم عليه الأمر فمات قهرا.
والخلاصة أن الترجمة المعزوة إلى هيرودوتس هي لدى التحقيق أصدق ما كتب عن سيرة حياته. وليس في ما كتب أرسطوطاليس وإسطرابون ما يند عنها كثيرا، وأما المدن اليونانية التي أدعته فللكثير منهن نصيب من صحة الدعوى، قال غينيو في مقدمة معجم هوميروس لتيل وهاليز داروس:
1 «أحق البلاد بهوميروس أزمير باعتبار مولده وصباه، وكومة باعتبار شروعه في قرض الشعر، وساقس باعتبار نبوغه في النظم، ويوس بالنظر إلى بقاء وفاته فيها».
تاريخ ظهوره
للمؤرخين أقوال مختلفة في تعيين الزمن الذي ظهر فيه شيخ الشعراء وهي تتراوح بين بدء القرن الثاني عشر والقرن السابع قبل الميلاد، ورواية هيرودوتس القائل أن هوميروس تقدمه بأربعمائة سنة ما زالت أجدرهن جميعا بالثقة؛ لانطباقها على منقول الثقات من قدماء المؤرخين والأثر المتصل إليهم بالتواتر. فعلى هذا يكون نبوغ هوميروس في منتهى القرن العاشر أو بدء التاسع قبل الميلاد أو نحو سنة 900 لأن مولد هيرودوتس كان في أوليات القرن الخامس ق.م. يؤيد ذلك: (1)
أن مؤرخي الرومان مجمعون على أن هوميروس نبغ قبل بناء رومية بقرن ونصف، فإذا أضفنا ذلك إلى 753 وهي السنة التي بنيت فيها رومية كان نبوغ هوميروس نحو سنة 903ق.م. (2)
أن من مرويات شيشرون الروماني أن هوميروس كان معاصرا ليكرغس الشارع اللقدموني، وقد أيد إسطرابون تلك الرواية، وقال: «إن ليكرغس قصد ساقس طمعا بمحادثة هوميروس والأخذ عنه، وعهد ليكرغس بين القرنين التاسع والعاشر، ولا يجرح تلك الرواية قول فلوطرخوس الذاهب إلى أن ليكرغس إنما أخذ شعر هوميروس عن حفيد الشاعر، فقد يمكن أن يكون ذلك في حياة الشاعر أو بعدها بقليل». (3)
يؤخذ من الأنساب المنقولة على قطع المرمر التي وجدت في أوائل القرن السابع عشر في جزيرة فاروس في الأرخبيل الرومي، والمحفوظة في مكتبة أكسفورد أن هوميروس كان حيا سنة 907ق.م. ولا غرو أن تكون تلك النقوش موضع ثقة؛ لأنها كتبت باعتناء حكومة أثينا، ودونت فيها أشهر حوادث اليونان من سنة 1582 إلى 263ق.م.
فإذا ثبت لدينا أن نبوغ هوميروس كان في أخريات القرن العاشر رجح في الظن أن بينه وبين دمار إليون التي سمى الإلياذة باسمها نحوا من أربعمئة سنة، وأنه كان معاصرا لأحاب ملك إسرائيل وسوا ثاني ملوك الدولة الخامسة والعشرين في مصر، وكل من مصر وفلسطين في ذلك الحين كان في معامع الاضطراب والانقلاب، كما كانت بلاد اليونان في أبان سكونها بعد أن ماجت بالجالية المتدفقة إليها تدفق السيل، وهو ولا ريب زمن احتكاك الأفكار وانفجار القرائح بنفيس الأشعار.
منزلته عند القدماء
قال إسطرابون (في الكتاب الأول والفصل الثاني من جغرافيته) «إذا قيل الشاعر عني به هوميروس». وقد لقبه في أول صفحة من الكتاب المذكور بالفيلسوف، ووضعه في مقدمة الجغرافيين، وقال في موضع آخر: «إن رائد هوميروس إنما كان الحقيقة، وأما الخيال فإنما اتخذه حلية وشى بها شعره، فبهر بها النواظر فعلقت بها الخواطر، وهذا هو السر في شغف ناشئة اليونان كافة بمطالعة شعره».
2
وقال في وصف أزمير: «إن من خططها ما يدعى بالهوميرويوم وفيه هيكل ونصب لهوميروس، وللأزميريين إعجاب به لا يفوقه إعجاب ولهذا صكوا نقودا صفرية يتداولونها وعليها اسمه ورسمه.
3
الهوميرويوم أو هيكل هوميروس.
وإن في مؤلفات هيرودوتس، وفلوطرخوس، وبلينيوس، وشيشرون وسائر مؤرخي اليونان والرومان ممن نبغ قبل إسطرابون وبعده ما يؤيد كلام إسطرابون أو يربو عليه، وقد روى سيمونيذس ونيوكريذس أن أهالي ساقس شادوا له معبدا وعبدوه وتداولوا نقوده كما فعل أهل أزمير، وزعموا أن الطائفة المعروفة بالهوميرية إنما كانت من نسله قالوا ذلك تأييدا لدعواهم فيه كما قال غيرهم: «بل هي طائفة من الشعراء تحدت هوميروس في النظم والإنشاد».
نقود هوميروس.
وكان أرسطوطاليس في مقدمة المعجبين بهوميروس، وقد ألصق نسبه بالآلهة فقال: «سطت طائفة من قرصان أزمير أثناء الجلاء اليوني على فتاة من جزيرة يوس، وهي حبلى من أحد الآلهة؛ فسبوها واحتملوها إلى بلدتهم فولدت الشاعر».
وكان الإسكندر المقدوني كلفا بمطالعة منظومات هوميروس، واستكتب منها نسخة نقحها له أستاذه أرسطوطاليس كان يحتملها معه حيثما توجه، ثم اتخذ لها غلافا خوذة مرصعة من أسلاب دارا ملك الفرس فكانت جليسه في حله وأنيسه في ترحاله يتحدى نهج مواقعها، ويترنم ببدائعها ويتمثل بها في كل ما عن له من الأقوال والأفعال، ولطالما كانت تعروه هزة الطرب إذا أنشد بعض أبياتها، ولا سيما بيته القائل بوصف أغاممنون:
مليك بأحوال السياسة عارف
عزوم بصماء المعامع جبار
ومن مأثور أقواله وهو واقف إلى قبر آخيل بطل الإلياذة: «طوباك فقد أوتيت منتهى السعادة بقيام شاعر كهوميروس يخلد ذكرك».
وإنك لا تكاد تتصفح كتابا من كتب الأدب والتاريخ مما كان يوثق به عند قدماء الغرب إلا رأيته مشحونا بالشواهد المنقولة عن شاعرنا مشفوعة بالإطراء والإكبار، وكانوا يقتبسون من أقواله على نحو ما يقتبس اليهود من التوراة والنصارى من الإنجيل والمسلمون من القرآن والحديث، كل ذلك مما مهد سبيل إحلاله عندهم ذلك المحل الرفيع حتى تنازعته البلاد وشغفت به العباد، وعني الملوك والعلماء بجمع شتات قريضه، وعكف الرفيع والوضيع على إدخاره كنزا لا ينفد.
وكان فقهاء اليونان ومشترعوها يتجشمون الأسفار؛ لجمع ما تفرق من تلك الغرر في أطراف البلاد فينظمون عقدها ويلقونها على العامة؛ تهذيبا لأخلاقهم وتثقيفا لعقولهم والملوك يبذلون لهم المال عونا لهم على بلوغ تلك الغاية. قالوا: وأول من فعل ذلك ليكرغس لعهد هوميروس أو بعده بقليل، وحذا صولون حذوه ففعل في أثينا فعل ليكرغس في إسبرطة حتى لقد كان يضطر الشعراء أن ينشدوا قطعا متوالية من هوميروس؛ حفظا لها في ذهن الأمة واستبقاء لانتساقها على السياق الذي نظمها به الشاعر. وإن لفيسيستراتوس ملك أثينا يدا مشكورة في تبويب تلك المنظومات على النمط الذي اتصلت به إلينا، فاتخذ جماعة من كبار العلماء ووسع عليهم في الرزق ليتفرغوا لتلك المهمة، ومن جملة مرويات الأعصر الغابرة أنه تألفت طائفة من أدباء اليونان صرفت همها إلى النظر في الشعر الهوميري، فنقحته ونبذت منه الدخيل وألقته إلى الخلف على ما نراه عليه اليوم، وكانت تلك الطائفة مؤلفة من سبعين عالما مثلما تألف المجمع السبعيني الذي نقل التوراة من العبرية إلى اليونانية لعهد بطليموس فيلادلفيوس. وأما العامة فإنها تلقت تلك الفرائد تلقيها للآي المنزلة، فكانت فكاهتها في مجالسها ومرجعها في مباحثها ومرماها في تثقيف أحداثها وقبلتها في غدوها وآصالها. وما انتشر فن الكتابة حتى انتشرت في النوادي والمنازل فوق انتشارها في أذهان الخلق، فكان الساقط السافل عندهم من خلا رأسه أو منزله من شيء من منظومات هوميروس. وهم يتنافسون بحفظها ويتناشدونها كما تتناشد خاصة الفرس والجم الغفير من عامتهم أقوال الفردوسي صاحب الشهنامة وسعدي صاحب الكلستان لعهدنا هذا أو كما يتناشد أدباؤنا الحكم والأمثال المقتطعة من أقوال نوابغ الشعراء، ومما يروى في هذا الصدد أن الكيبياذس القائد اليوناني لم يتمالك وهو فتى أن انهال على أستاذه بالشتم ثم بلغت به الحدة أن ضربه؛ لأنه لم تكن عنده نسخة من شعر هوميروس وهو ذنب في ذلك العصر عظيم، ومن هذا القبيل أيضا ما يقال عن زويلوس الكاتب إذ تصدى لانتقاد هوميروس في القرن الرابع ق.م. فقامت الأمة وقعدت وقبضت على المنتقد وصلبته ثم رجمته رجما، ومهما يكن من صحة هاتين الروايتين ففيهما من المعنى ما لا يخفى على اللبيب.
ولا يظنن المطالع أن هوميروس إنما نال تلك الحظوة عند قومه وبني ملته. بل كانت هذه منزلته عند الرومان ومن وليهم من أمم الغرب، فاللاتين كانوا يترنمون بأقواله ترنمهم بشعر نابغتهم فرجيليوس، وما فرجيليوس إلا نابغة من مريدي هوميروس شغف بتلاوة شعره، وكان شاعرا بليغا، فنظم الإنياذة على نسق الإلياذة، وأجاد في تحدي أستاذه، وأما أمم أوروبا فإنها أقبلت على ذلك الشعر منذ نشأتها، ولم يتخلل إقبالها فتور إلا عقود أعوام معدودات في بدء النصرانية كما سنبين في باب نقل الإلياذة إلى العربية، وفي ما سوى ذلك كانت منظومات هوميروس ولا تزال عندهم في المنزلة الأولى بين منظومات البشر أجمعين، وكان بعض العامة من الإفرنج في القرون الوسطى يتخذون منها الأحراز والتعاويذ، ويلجئون إلى استخراج المغيبات مما يستنبطون من معاني الأبيات التي تبدو لهم إذا فتحوا كتابه أيا كانت ، وأبلغ من كل ذلك أن لفيفا من الأطباء المشهود بعلمهم كانوا يعالجون بعض المرضى بالشعر الهوميري، فإذا استوصفوا علاجا للحمى الرباعية أمروا بوضع نسخة من النشيد الرابع من الإلياذة تحت رأس العليل.
تلك كانت منزلة هوميروس عند اليونان والرومان ومن وليهم من أمم أوروبا.
رأي المتأخرين فيه
لم يزل الشعر الهوميري في المنزلة الأولى بين منظومات الشعراء، وليس بين كتب الأدب والتاريخ والشعر كتاب تداولته الأيدي وتناقلته الألسن، واستشهد به الأدباء والكتبة والمؤرخون ونقل مرارا متوالية إلى معظم لغات الحضارة نثرا وشعرا كديوان هوميروس حتى لقد جعل تدريسه فرضا في كثير من مدارس القوم تلقنه الفتية أصلا وترجمة، ومما يذكر في هذا الصدد اعتراض بعضهم على إنفاق الساعات الطوال في إلقائه على طلبة جامعة برلين، فلما بلغ ذلك الاعتراض ولهلم الأول قيصر ألمانيا قال: «دعوا الأساتذة يكثروا من تلقين شعر هوميروس فإن الأمة التي يرسخ في ذهنها وصف صبا الأمم على ما يبسطه هوميروس لا يسارع إليها العجز والهرم». ومن أقوال رينان الفيلسوف الفرنسي الحديث: «إذا مر على عهدنا ألف عام انقرضت جميع التآليف التي بين أيدينا، ولم يبق منها إلا كتاب واحد وهو ديوان هوميروس» وإذا كان المتقدمون قد أطلقوا عليه لقب «الشاعر» فقد لقبه المتأخرون «بأمير الشعراء» وما انتقاد بعض الكتاب فقرات متفرقة من شعره إلا مدعاة لزيادة انتشاره واتساع شهرته.
فما سام الشمس العلى حطة
غمام يستر أذيالها
وأما بنو الشرق فهم وإن جهل معظمهم اسم هوميروس فضلا عن وجود منظومات له إلا أن ذوي الاطلاع من متأخريهم قدروه حق قدره كما أن بعض علمائهم في الزمان الغابر أعظموا شأنه وأجلوه، وإن صفوة أدبائنا في هذا العصر شاعرون بالحاجة الماسة إلى نقله إلى العربية، ويذكرني هذا حديثا مع منيف باشا ناظر المعارف العثمانية قال في أثنائه: «لو أن الشاعر العربي القائل: كأني أميروس لدين محمد ... عمل حقيقة للشرق ما عمل هوميروس للغرب لما تعدانا الغرب هذا الشوط البعيد». وقد غاب عنه وعني عرفان ذلك الشاعر، ومما قاله لي السيد جمال الدين الأفغاني في محضر من الأدباء: «إنه ليسرنا جدا أن تفعل اليوم ما كان يجب على العرب أن يفعلوا قبل ألف عام ونيف. ويا حبذا لو أن الأدباء الذين جمعهم المأمون بادروا بادئ بدء إلى نقل الإلياذة، ولو ألجأهم ذلك إلى إهمال نقل الفلسفة اليونانية برمتها». وسأذكر في باب «الإلياذة» سبب إغفال نقلها إلى العربية.
ذلك قول عامة المتقدمين والمتأخرين وخاصتهم في هوميروس وشعره، أما الشعر فلا سبيل إلى إنكاره لأنه موجود يتلى، وأما هوميروس نفسه فقد قامت طائفة من الباحثين في أواخر القرن الثامن عشر بزعامة ولف الألماني، وتألبت على إنكار وجوده بتاتا، وما لبث مذهبهم أن انتشر انتشار الشرار ثم ما لبث أن خبا خبوه على ما سنبسطه في الكلام على الإلياذة.
قول العرب فيه
ليس في ما بين أيدينا من التآليف العربية ما يشير إلى أن ديوان هوميروس نقل إلى لغة العرب، فهو بلا ريب لم يعرب وإن كان معروفا عند خاصة العلماء في بغداد لعهد العباسيين إذ كان يتناشده الأدباء من نقلة الكتب المقربين من الخلفاء بأصله اليوناني ونقله السرياني، والظاهر أن الإلياذة كانت منتشرة بين الخاصة في بلاد الفرس والكلدان في زمن الدولة العباسية؛ لأن ثاوفيلس الرهاوي الذي نظمها بالسريانية كان منجم المهدي ثالث خلفائهم كما أثبتنا في حواشي الإلياذة (ن2). قال ابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» نقلا عن يوسف بن إبراهيم في ترجمة حنين بن إسحاق أثناء تنكر حنين وهو عاكف على درس الطب:
4 «فتبنت خرشي (جارية الرشيد الرومية) ذلك الغلام (وهو إسحاق المعروف بابن الخصي) وأدبته بآداب الروم وقراءة كتبهم، فتعلم اللسان اليوناني علما كانت له فيه رئاسة، فكنا نجتمع في مجالس أهل الأدب كثيرا فوجب لذلك حقه وذمامه، واعتل إسحاق بن الخصي علة فأتيته عائدا، فإني لفي منزله إذ بصرت بإنسان له شعرة قد جللته وقد ستر وجهه عني ببعضها وهو يتردد وينشد شعرا بالرومية لأوميرس رئيس شعراء الروم فشبهت نغمته بنغمة حنين، وكان العهد بحنين قبل ذلك الوقت بأكثر من سنتين، فقلت لإسحاق بن الخصي: هذا حنين فأنكر ذلك إنكارا يشبه الإقرار، فهتفت بحنين فاستجاب لي».
فيؤخذ مما تقدم أن اليونانية كانت معروفة لذلك العهد في بغداد تقرأ وتدرس حتى في بيوت الخلفاء، وأن منظومات هوميروس كانت معروفة فيها بين المشتغلين بلغات الأجانب ومعظمهم إذ ذاك من النصارى.
وأما سائر ما ذكر عن هوميروس في كتب العرب فليس إلا شذرات مقتطعة من كتب اليونان المعربة برعاية العباسيين والمؤلفات التي وضعها كبار المعربين والمؤلفين من الكلدان؛ كابن ماسويه، وابن الخصي، وحنين بن إسحاق، مثال ذلك قول ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء: «وكان الشعراء في ذلك الزمان على ما ذكره حنين بن إسحاق أوميروس إلخ».
5
وقوله في ترجمة أرسطوطاليس: «ومن كتبه كتاب في مسائل من عويص شعر أوميروس في عشرة أجزاء».
6
وقوله في ترجمة جالينوس عند ذكر الكتب التي اعترض حنين بن إسحاق على نسبتها إليه: «ومنها كتاب الطب على رأي أوميرس».
7
ومن هذا القبيل قول البيروني: «أميروس المتقدم عند اليونانيين كامرئ القيس عند العرب».
8
ومثله قول ابن خلدون في مقدمته:
9 «إن الشعر لا يختص باللسان العربي بل هو موجود في كل لغة سواء كانت عربية أو عجمية، وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك، وذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أوميروس الشاعر وأثنى عليه». ومثله قول ابن أبي أصيبعة:
10 «قال أفلاطون وقد كان مارينون (أغاممنون) ملك اليونانيين الذي يذكره أوميروس الشاعر باسمه وجبروته، وما تهيأ لليونانيين في سلطانه رمي بشدائد في زمانه وخوارج في سلطانه». ويدرج في هذا الباب قول الشهرستاني:
11 «أوميروس الشاعر من القدماء الكبار الذي يجريه أفلاطون وأرسطوطاليس في أعلى المراتب، ويستدل بشعره لما كان يجمع فيه من إتقان المعرفة ومتانة الحكمة، وجودة الرأي وجزالة اللفظ». وأما الشواهد التي أوردها الشهرستاني من كلام هوميروس في كتاب «الملل والنحل» والبهاء العاملي في «الكشكول» فلا شك أن فيها اختباطا واقتضابا على نحو ما جرى لكتاب العرب في أكثر ما استشهدوا به من كلام الأعاجم.
وقد أكثر أبو الفرج الملطي المعروف بابن العبري من ذكر هوميروس في تاريخه حتى دون حكايته مع ماجن سأله أن يهجيه طمعا في الشهرة من وراء ذلك الهجو فأبى هوميروس؛ فتهدده بالشكوى إلى رؤساء اليونانيين فضرب له هوميروس مثل الكلب الذي نكل الأسد عن مبارزته، فقال الكلب: «سأمضي إلى السباع فأشعرهم بضعفك» فأجاب الأسد: «لئن تعيرني السباع بالضعف أحب إلي من أن ألوث شاربي بدمك».
12
وخلاصة القول أن هوميروس كان له شأن مذكور عند نقلة الكتب من بطانة الخلفاء، ولكن إلمام أدباء العرب بأقواله كان إلماما ناقصا بقي منحصرا في أفراد معدودين من كبار الكلدان. وأما منظوماته فالثابت أنها لم تعرب.
منظوماته
نقصر الكلام في هذا الباب على الإلماع إلى ما نسب لصاحب الإلياذة من الشعر مما ثبت له ومما لم يثبت، وأما البحث في شعره من حيث هو وأساليبه وطرائق نظمه وتشابيهه واستعاراته وفائدة ذلك للعلم والتاريخ والآداب، فنستبقيه إلى الكلام على الإلياذة بعيد هذا.
إن لهوميروس منظومات كثيرة لا غرو أن يكون المفقود منها شيئا كثيرا، فإن العلماء ما زالوا حتى الآن يعثرون حينا بعد حين على قطع مبعثرة في عاديات القدماء من تلك القطع المختزنة في دفائن الأرض، وإن العهد لقريب بالعثور على مقاطيع مكتوبة على ورق البردي في عاديات مصر مما لم يدرج في ديوانه، على أن درة تلك القلادة إنما هي الإلياذة بلا خلاف. بل هي كانت ولا تزال درة عقد ما نظم الشعراء في كل عصر وبلاد مما تقدم زمن هوميروس وما تأخر عنه.
الأوذيسية
ويتلوها الأوذيسية وهي ملحمة تقصر عن الإلياذة بضعة آلاف من الأبيات يغلب على الظن أن الشاعر نظمها في شيخوخته، وموضوعها رحلة أوذيس أثناء عوده إلى بلاده بعد انتهاء حرب طروادة، والقصة بأجمعها لا تتناول إلا أربعين يوما ولكن فيها من الحقائق وتنوع المباحث ما يكاد يعادل الإلياذة، وهي كشقيقتها في أربعة وعشرين نشيدا، ولكنها باعتبار وقائعها تقسم إلى أربعة أقسام؛ يشتمل القسم الأول منها على ما حصل لأوذيس في منتهى المدة الطويلة التي نزل بها على الإلاهة كاليبسو في جزيرة أوجيجيا، وعشاق امرأته ساعون إذا ذاك في تبديد ثروته وتقويض دعائم ملكه، وابنه تليماخوس وهو فتى يافع مهتم في إحباط مساعيهم حتى إذا أعيته الحيلة شخص بإيعاز آثينا إلاهة الحكمة إلى فيلوس وإسبرطة متطلعا أخبار أبيه. وفي القسم الثاني وصف مغادرة أوذيس لجزيرة أوجيجيا وبلوغه بلاد الفاقيين حيث نزل وقص عليهم خبره، ثم غادرهم إلى إيثاكة مقر حكمه، وفي القسم الثالث تفصيل الخطة التي اختطها هو وابنه تليماخوس في منزل خادمه الأمين الراعي أفميوس للضرب على أيدي أولئك البغاة، وفي القسم الرابع وصف انتقامه منهم واستقراره في ملكه.
معارضة الأوذيسية بالإلياذة
إن بين الأوذيسية والإلياذة شبها كبيرا في النهج والسياق مما يدل على أن الناظم واحد، فكلتاهما قائمة على أساس بسيط مرجعه إلى موضوع واحد، ففي الإلياذة «كيد أخيل» وفي الأوذيسية «رحلة أوذيس» وعلى هذين الأمرين مدار جميع حوادث الروايتين بما تخللهما من القصص والتاريخ، وما وراء الطبيعة ودونها، وكل واحدة من الروايتين منحصرة الوقائع في أيام قليلة في منصرم أعوام طوال، فالإلياذة لا تتناول سوى ستة وخمسين يوما من حصار عشر سنين، والأوذيسية لا تتجاوز في مدتها الأربعين يوما من رحلة أوذيس، وكما أن مطالع الإلياذة يلم استطرادا بتاريخ ذلك الحصار وما تقدمه وما وليه، ويتمثل حالة البلاد بالنظر إلى التاريخ والجغرافية والدين والآداب والأخلاق والعادات، فكذلك يحيط مطالع الأوذيسية علما بما لقي أوذيس في تلك الرحلة منذ نزل بكاليبسو فشغفت به وأمسكته في جزيرتها سبعة أعوام، ويقف على حالة البلاد التي ألقته الأقدار إليها، وينزل إلى أعماق الجحيم، ويصعد إلى أعالي السماوات، ويطوف حول الأرضين تطواف الشاهد البصير، وكلتاهما متماسكة الأجزاء متراصة المعاني لا تقرأ نشيدا منهما إلا أنست به نفس سائر الأناشيد، ومع هذا فقد يعترض على وحدة الناظم بما بين اللحمتين من التباين في قوة التركيب وحدة التصور وجزالة اللفظ، فإن الإلياذة في كل ذلك فوق شقيقتها، وإنما هو اعتراض مردود بثبوت أن الإلياذة متقدمة على الأوذيسية نظمها الشاعر في أبان عمره ومخيلته على نضارتها ومادته بمعظم غزارتها، ولكن في الأوذيسية من إصابة المرمى، وسداد الرأي، ورسوخ الحكم، وسعة العلم ما لا يقصر عما في الإلياذة.
سائر منظومه
وأما سائر المنظومات المعزوة إلى هوميروس فسواء ثبتت له أو لم تثبت فلا تزيده رفعة وشأنا بل خير له أن لا تكون له، والراجح عند أهل التحقيق أنها من غير نظمه، وإن نسب هيرودوتس بعضها «كحرب الضفادع والفيران» و«حرب الزرازير» وجماعة «الكركوفة» وهي قصائد لا تتجاوز المئات من الأبيات، وليس فيها شيء مما يدل على أنها من نتائج تلك القريحة السيالة والذهن المتوقد. ونسبتها إلى الإلياذة والأوذيسية كنسبة بعض قصائد المتنبي المنظومة في صباه والمثبتة في أول ديوانه إلى سائر قصائده الرائعة. وقد ذهب أرسطوطاليس إلى أن هوميروس نبغ في الشعر الهزلي نبوغه في الشعر القصصي، واستدلوا على ذلك بالمنظومة «مرجيتس» وهي قصيدة يصف فيها الناظم رحلة مرجيتس الغني المتغطرس، ولم يبق منها إلا أجزاء متقطعة.
ومما ينسب إليه أيضا ثلاثة وثلاثون مزمورا ترنم فيها بمدح الآلهة، وقص فيها بعض أخبارهم، وترسل بالابتهال إلى أفلون، وعطارد (هرمس) والزهرة، وذيميتير، والمريخ (آريس) وأثينا، وهيرا، وهرقل قلب الأسد، وإسقليبيوس إله الطب، وهيفست إله النار، وفوسيذ وزفس، والشمس والقمر والأرض وهم جرا.
وقد نسبوا إليه أيضا بعض مقاطيع وأهاجي في أبيات قليلة، والأظهر أن تلك المقاطيع والزبور وأشباهها مما ألصق بديوان هوميروس لجهل رواتها أسماء أصحابها.
الإلياذة
تمهيد
الإلياذة أو الإلياس نسبة يونانية إلى إليون عاصمة بلاد الطرواد، وهي الملحمة التي نحن بصددها وضعها هوميروس على أسلوب بسيط وبناها على موضوع واحد هو «غيظ آخيل أو احتدامه» ونهج بها نهجا متناسقا قص في أثنائه حوادث متسلسلة لا تتشعب وقائعها بتعدد الأشخاص مهما كثروا وكثرت. فهي بهذا المعنى سلسلة واحدة من أولها إلى آخرها، وهو مذهب معظم الرواة والقصاصين من القدماء، ولا سيما الشرقيين لميلهم إلى البسيط من القصص بخلاف رواة الأوروبيين في الأعصر الحديثة فإنهم يفرعون الحوادث ويكثرون من تدخل الأشخاص بوقائع متشعبة مما يئول في نظرهم إلى زيادة تفكهة القارئ، ولعل المتأخرين مصيبون برأيهم هذا في الزمن الحاضر وخصوصا؛ لأنهم بعد انتشار فن الطباعة أصبحوا في غنى عن استظهار أقاصيصهم على نحو ما كان القدماء يحفظون رواياتهم حرفا حرفا عن ظهور قلوبهم. ومعلوم أن البسيط المتناسق أسهل حفظا من المركب المتشعب.
ولا بد لنا قبل بسط موضوع الإلياذة من الإلماع إلى حرب طروادة تلك الحرب التي خلد هوميروس ذكرها باقتطاع شذرة منها موضوعا لأناشيده.
كانت مملكة طروادة أثناء تلك الحرب ممتدة من جنوبي آسيا الصغرى إلى الهلسبنطس وهو مضيق الدردنيل، وملكها فريام وقاعدتها إليون، وتدعى أيضا طرويا (أو طروادة) وقد عفت آثارها منذ قرون، ولكنه قد يؤخذ مما توصل إليه بالبحث أنها كانت واقعة في سفح الجبل القائمة عليه الآن قرية بونار باشي.
أما بلاد الإغريق فكانت ممالك صغيرة تتحالف أحيانا وتتشاق أخرى، وبينها وبين بلاد الطرواد صلة تجارة ونسب، وحدث أن منيلاوس ملك إسبرطة غاب عن عاصمته في مهمة، وأن فاريس بن فريام أوفد برسالة إلى إسبرطة، فنزل ضيفا على منيلاوس وهو غائب وما زال بهيلانة امرأة فاريس حتى استهواها فأحبته ووافقته على الفرار معه إلى بلاده. فقامت الإغريق وقعدت لذلك النبأ. ولما أعيتهم الحيلة في استخلاص هيلانة تأهبوا للحرب، واستصرخوا جميع قبائلهم؛ ففزع إليهم القاصي والداني، وعقدوا لأغاممنون أخي منيلاوس وملك ميكينيا، فكانت الرئاسة إليه منذ نشوب الحرب إلى أن خبت جذوتها بدمار إليون، فساروا جيشا كثيفا يعيشون في بلاد الطرواد يخربون المدائن ويقتلون الرجال، ويسبون النساء، وينهبون الأموال إلى أن بلغوا إليون العاصمة فحصروها وأقاموا على حصارها عشر سنين. فساءت حال الفريقين، ونفدت الأرزاق وبادت المقاتلة، وكاد الإغريق ينثنون إلى أهلهم ويقنعون بسلامة من بقي منهم لو لم يوافهم داهيتهم أوذيس بخدعة مكنتهم من فتح إليون.
موضوعها
تناول هوميروس أياما قلائل من السنة العاشرة لحصار إليون وبنى عليها منظومته وشرع فيها بقوله:
ربة الشعر عن آخيل بن فيلا
أنشدينا وأروي احتداما وبيلا
إشارة منه إلى أنه سيدور حول ذلك الاحتدام منذ اتقد إلى أن خمد. وهو موضوع يكاد يحسبه شعراؤنا تفها لبساطته، ويعجبون لقريحة علقت به؛ فأنتجت نحوا من ستة عشر ألف شطر أو شعر مع أن معلقة امرئ القيس ومطلعها ينبئ بمجموع أوسع وموضوع أجمع تقصر بجملتها عن مئة بيت. وإنك مع هذا إذا طالعت الإلياذة كلها لا تكاد ترى فيها حشوا ولغوا بل لا تتمالك أن تستزيد منها في مواضع كثيرة.
ومجمل القصة أنه كان في جملة السبايا فتاة جميلة وقعت في سهم آخيل عنترة الإغريق، فانتزعها منه أغاممنون زعيم الزعماء، واستخلصها لنفسه فعظم الأمر على آخيل وكاد يبطش بأغاممنون لولا أن أثينا إلاهة الحكمة هبطت من السماء وصدته قسرا، فانكفأ عنه واعتزل القتال هو وعشائره، فحمي وطيس الحرب بين الإغريق والطرواد وأخيل في عزلته يتحرق غيظا؛ فاشتدت عزيمة الطرواد لاحتجاب آخيل فنكلوا بالإغريق في مواقع كانت الغلبة في معظمها لهم، فلما ثقلت الوطأة على الإغريق أوفدوا الوفود استرضاء لأخيل فما زاد إلا عتوا وكبرا، فوقعت هيبة هكطور زعيم الطرواد وابن ملكهم فريام في قلوب الإغريق وما زالت تتوالى له الغلبة بعد الغلبة حتى كاد يحرق سفائنهم ويردهم خائبين. وكان لأخيل صديق حميم هو فطرقل فتى جمع بين كرم الخلال وبسالة الأبطال صحب آخيل في معتزله، وهو مع هذا يتلظى أسى لنكبة قومه ويستفز أخيل للأخذ بيدهم، وأخيل كالحجر الأصم لا يرق ولا يلين. ولما اشتدت الأزمة على الإغريق وكاد يقضى عليهم جعل فطرقل ينتحب كالطفل؛ فأذن له آخيل أن يتقلد سلاحه ويحمل على الطرواد بجند المرامدة قوم أخيل. فحمل عليهم حملة مزقت شملهم وردتهم على أعقابهم، وإذا به خر قتيلا أمام هكطور فدارت الدائرة بموته على قومه فولوا مدبرين وهكطور يضرب في أردافهم، ولما علم آخيل بموت فطرقل قتيلا تسعر حزنا على حليف وده، والتهب حقدا على الطرواد وتحول غضبه من عن الإغريق إليهم، ونهض للأخذ بالثأر فصالح أغاممنون وأغار على الطرواد فبطش بهم بطش الأسود بالحملان ؛ فلاذوا بالفرار وتحصنوا في معاقلهم ما خلا هكطور فإنه برز له فقتله آخيل ومثل به، ولكنه ما لبث أن سكن جأشه وخبا غيظه، فانقلب ذلك الغيظ رفقا وعطفا إذ رق لشيبة فريام فألقى إليه بجثة ابنه وسيره آمنا، فانتهت القصة بسكون وسلام.
نظمها وتناقلها
إذن لزم من تماسك أجزاء الإلياذة أن تكون منظومة واحدة، فلا يلزم أن تكون نظمت وأنشدت جزءا واحدا، ولا يؤثر على مجموعها أن تكون أنشدت في قطر واحد أو أقطار مختلفة، فهذا نقلها العربي وما هو بالشيء المذكور إزاء الأصل اليوناني، وقد نظم في أربع من قارات الأرض. ولا فرق أن يكون الشاعر نظمها تطربا بمعانيها أو تطلبا بأغانيها. تلك جميعها مباحث لا فعل لها في جوهر الإلياذة، فليس لنا هنا أن نطيل النظر فيها. وإنما يجب النظر في طريقة اتصالها على سعتها من السلف إلى الخلف.
ذهب برتلمي سنت هيلر
13
إلى أن اليونان كانوا يكتبون لعهد هوميروس، وهو قول لم يؤيده أثر حتى الساعة. ومع هذا فعلى فرض صحة هذا المذهب فإن الكتابة عندهم كانت في زمن طفولية لا تكاد تتسع إلا لتدوين ما عظم من حوادث التاريخ، وإلا لخلفت ولو أثرا ضعيفا كما خلفت في مصر وبابل. فلا ريب إذن أنها إنما حفظت أولا في أذهان الرواة فتناقلوها جيلا عن جيل.
وقد يستغرب تناقل الإلياذة في أول أمرها استظهارا على ما فيها من كثرة الأبيات واتساع المباحث وتنوع الأحاديث. على أنه يتضح لدى التروي أن ذلك الاتساع كان من مسهلات حفظها وعلوقها في ذاكرة المنشدين. وهو ثابت أن الإنشاد مهنة كانت ولا تزال شائعة بين أجيال شتى من الناس. وكان للرواة والمنشدين منزلة يحسدون عليها؛ ولهذا تطال إليها كل ذي علم واسع وذاكرة نيرة. وكثيرا ما كانت باب رزق لكل ضرير كف نظره، فتحول نور بصره إلى بصيرته، فادخرت في محفوظها ما تقصر عن رسمه أقلام الخطاطين.
ذكر سقراط وأفلاطون وغيرهما أن المنشدين كانوا يتهافتون إلى مجتمعات الناس في أثينا وسائر مدن اليونان فينشدون ما حفظوه من الإلياذة وغيرها، وكان قيام هؤلاء المنشدين بين العامة والخاصة من لوازم كل احتفال وطني وعيد ديني. فتقام لهم في أثينا وساقس وتيوس وأرخمينا، ومدائن أخرى أسواق كسوق عكاظ ومربد البصرة يتناظرون فيها، وتعد لهم الجوائز السنية فيحرزها المبرز منهم، ويحرص عليها حرص الفائز بإكليل الغار بعد الانتصار، ولطالما كان يجنح الواحد منهم إلى التغني ببطل معين أو رواية مخصوصة، فيفني العمر بإلقائها حينا بعد حين على ما هو اليوم شأن القصاصين في مصر، وبر الشام، والأقطار العجمية، ويؤخذ على ذلك دليل من نفس هوميروس إذ أنطق أوذيس في الأوذيسية (ن 9 - 12) بما يربو على ألفين ومئتي بيت نفسا واحدا. على أنه لا يلزم مما تقدم أن راويا واحدا ينشد الإلياذة كلها أو يحفظها لهذا الغرض.
وقد أسهب متفرد
14
وغروت
15
وغيرهما في ذكر الأدلة الساطعة على إمكان بقاء الإلياذة محفوظة في الأذهان قبل شيوع الكتابة مما لا متسع لنا لنقله، وحسبنا إيراد شيء من الأدلة الحديثة منها، وما يتصل بأزماننا مما يرتاح إليه قراؤنا ولا سيما العرب منهم.
العميان وإنشاد الشعر
بحث فوريل
16
في الأغاني اليونانية في الأعصر الأخيرة، فقال في مقدمته: «أنها لا تزال على ما كانت عليه في سالف الزمن، والغريب أنها بقيت مهنة العميان، وهي مهنة تحببهم إلى الناس بل تجعل لهم مقاما ذا نفع بالنظر إلى حالة الأمة وأخلاقها وتصوراتها، وشأنهم التنقل من بلد إلى آخر فيطوفون أطراف بلاد اليونان وجزرها وهمهم استظهار جميع ما وسعه ذهنهم من الأشعار والأناشيد القديمة والحديثة، فكلهم يعرف منها شيئا كثيرا، ويبلغ ما يحفظه بعضهم إلى حد الغرابة والإعجاز. فإذا ذخروا هذه الأغاني، فإنما ادخروا كنزا ثمينا يطوفون به فيلقونه بضاعة ذات قيمة وحيثما حلوا اجتمعت الناس إليهم، فيأخذون في الإنشاد بما وافق المقام ويتعيشون بما ينفحهم به مستمعوهم، وهم في الغالب يؤثرون الإنشاد بين عامة الناس؛ لأن العامة أكثر إقبالا عليهم وأقل تعنتا في انتقاء المواضيع، ولا يزالون كما كانوا لعهد هوميروس يتغنون على نغم القيثارة أو الكنارة ، وهم فئتان: فئة تنشد محفوظها من شعر الشعراء، وهي الفئة الكبرى، وفئة قليلة تنشد من محفوظها ومنظومها وهي أرفع منزلة وأوسع جاها، وهكذا فإن هؤلاء المطربين هم الآن كما كانوا في القدم رواة الأخبار والتواريخ وشعراء الأمة».
حفاظ الشعر عند سائر الأمم وخصوصا العرب
قال غرم:
17 «إن الألمان كانوا يسلكون هذا المسلك وإن الأناشيد الجرمانية كانت تنشد كأناشيد اليونان على نغم القيثار».
ومن قول فوريل أيضا:
18 «إن الروايات والقصص كانت تنشد في فرنسا على هذا النمط في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وكان الراوي إذا أراد الإنشاد دعا الجماعة إلى استماع أغنية تاريخ جميلة (une belle chanson d’histoire)
ثم يتغنى على نغم شبابة عربية ذات ثلاثة أوتار، وإذا أخذ فيه العياء ظل ينغم زمنا بلا إنشاد. تلك كانت الوسيلة المثلى لإلقاء الروايات والأقاصيص».
ونقل إلكسندر شدزكو:
19 «إن حفاظ العجم يتلون لك من شعر شعرائهم ما لا تكاد تصدق أن ذاكرة تعيه لكثرته، فقد يظل المنشد يتغنى بأشعار الشهنامة (وهي إلياذة الفرس) نهارا كاملا» وما أدراك كم بيتا يقال في نهار.
أما العرب فلم يكن في أمة من أمم الأرض شأن للإنشاد أرفع منه عندهم، وهذه أخبار عكاظ والمربد تملأ الأسفار بصرف النظر عن أخبار الشعراء المنبثين في كل أصقاع البلاد العربية لا مهنة لهم إلا إنشاد الشعر. وهذه أخبار الخلفاء، وقد كان ما يجيزون به الشعراء من أبواب النفقة الطائلة مما لا يبقى معه ريب أن إنشاد الشعر كان الضالة المنشودة والمفخرة التي يتسابق إليها الرفيع والوضيع.
وإذا طالعت أخبار الشعراء المترجمين في كتاب الأغاني وغيره رأيت بعضهم كهوميروس أميين لا يقرءون ولا يكتبون؛ بل ربما احتاج أبلغهم إلى قارئ صغير كما فعل طرفة بن العبد والمتلمس أثناء شخوصهما إلى عمرو بن هند ملك الحيرة إذ اضطرا إلى استرضاء غلام حدث ليقرأ لهما كتابا، وكلاهما من فحول الشعراء (شرح الإلياذة ص: 449) وهؤلاء أصحاب المعلقات والمجمهرات والملحمات كان فريق كثير منهم أميا.
وأما مبلغ الذاكرة عندهم فمما لا يفوقه شيء في أخبار اليونان والرومان والإفرنج ، وفي أخبارهم ما لو حذف منه شيء كثير لربا باقيه على مرويات اليونان قديمهم وحديثهم. فإذا علمت أن أبا العلاء المعري سمع محاورة إسرائيليين بالعبرية، وهو في شأن غير شأنهما ثم طلب بعد مدة مديدة للشهادة، فأعاد تلك المحاورة وهو لا يفقه من العبرية حرفا - إذا علمت ذلك فما ظنك تعي ذاكرته من الشعر لو توخى الحفظ - وإذا قيل لك أن الإلياذة مؤلفة من زهاء ستة عشر ألف بيت؛ فيصعب الأخذ بقول القائلين أنه أمكن استظهارها فما بالك لو سمعت ما ذكروا عن غرائب حافظة حماد الراوية إذ امتحنه الوليد بن يزيد، ووكل به من يسمع إنشاده فأنشد تباعا ألفين وتسعمائة قصيدة من شعر الجاهلية. أو لو قيل لك أن الأصمعي كان يحفظ ستة عشر ألف أرجوزة كاملة ما خلا القصائد والمقاطيع وأخبار العرب بدوهم وحضرهم. وهذا قول مهما أنس فيه من المبالغة لا يخلو من صحة بعضها كاف لإثبات ما نتوخاه.
هذا وإني ممن يعتقدون انحطاط قوى الذاكرة وارتقاء قوى المخيلة في أزماننا هذه بناء على الناموس القاضي بترقي القوى البشرية وانحطاطها بكثرة المزاولة وقلتها. ومع هذا فالحافظة مهما ولدت خاملة لا تلبث أن تقوى بالمثابرة على الاستظهار، فمثلها في تدرجها من الضعف إلى القوة مثل يد النجار والحداد وقلم الكاتب. وفي عصرنا هذا من حفاظ التوراة والإنجيل والقرآن مئات وألوف عرفت بعضهم بالذات، ولقد طالما اضطررت في حين من الزمن إلى مراجعة خبر أو آية في التوراة وإلى جانبي المرحوم المعلم داود الحاج، فكنت إذا ذكرت له طرفا مما أريد أشار فورا إلى السفر والفصل، وكثيرا ما كان يعين العدد؛ فأتصفح الكتاب فإذا هو كما قال. وحفظة القرآن منتشرون في كل صقع من بلاد الإسلام، ومنهم الجم الغفير من كفيفي البصر كرواة سائر الأمم. ويقال مثل ذلك في حفظة الإنجيل من المسيحيين، ولا سيما وعاظ الإنجيليين.
أما رواة الشعر فهم في البلاد الشرقية أكثر منهم في أقطار الغرب حيث قضت الكتابة على الاستظهار القديم، وقد شهدت بنفسي مصداق قول شدزكو في منشدي الفرس، فإذا جلست إلى الواحد منهم وهو ينشد شعر الفردوسي أو جلال الدين الرومي أو قصص كلستان سعدي شعرا ونثرا لظننته يتلو كتابا يتصفحه حرفا حرفا.
وإذا جلت في بادية العرب وسمعت منشديهم ينشدون على نغم ربابتهم ألوفا من الأشعار قلت: تلك كنارة هوميروس، وهؤلاء لا أولئك هم المنشدون الذين ذكرهم سقراط وأفلاطون، ومثفرد وغروت وفوريل، وغرم وشدزكو.
ولقد تيسر لي أثناء تجولي بينهم أن التقطت منهم قصائد شتى جمعتها في ديوان سأمثل منتخباته بالطبع، وكثيرا ما كنت أسمع القصيدة من غير راو فإذا هي هي.
وليس بالأمر اليسير بإزاء ما تقدم محفوظ زجالي مصر، وقوالي لبنان، وشعراء أهل الأرياف في إسبانيا والبرتغال، فقد استبقت الذاكرة بضع قصائد بل مطالع من معنى اللبنانيين مما علق بها في الصغر منذ بضعة عقود من السنين فاستنشدتها بعضهم في الصيف الماضي فإذا هي عندهم على حالها لم تزد ولم تنقص.
وقد ذكر كتاب الإفرنج كثيرين ممن عنوا بحفظ كتاب أو منظومة فما لبثوا أن أدركوا بغيتهم كما كولي (Maenuly)
الذي أنشد نصف منظومة ملتن الإنجليزية في الفردوس الغابر. وإذا ساغ لي أن أذكر لنفسي ولرفاقي في الصغر مثلا من ذلك قلت: إننا كنا نتسابق إلى حفظ ملحمة ملتن المذكورة حتى تيسر لي مرة سرد نشيد كامل منها، ونصف الثاني مع قسم غير يسير من منظومة سيدة البحيرة لولتر سكت. وكان أستاذنا العم المرحوم المعلم بطرس البستاني يشوقنا إلى حفظ ألفية ابن مالك، وما زال بي حتى استظهرتها واستنشدني منها مئتي بيت تباعا في حفلة امتحان.
وليس ما أذكره في هذا الباب على سبيل الاستطراد شيئا مذكورا بإزاء محفوظ الرواة الذين لا هم لهم إلا اختزان الشعر والقصص في حوافظهم، فالمنظومات فيها كالمتاع المنضود في حانوت حافل بأصناف المنسوجات ينشرون منها ما شاءوا أيان شاءوا على نية أن يطووه إلى موضعه. وكلما نشروه مرة زاد زهاء ورواء، وإذا تلقاه أحد عنهم فإنما يتلقى رسمه، والأصل باق في ملكهم لا تبلغه يد مشتر أو سارق. فأمثال هؤلاء هم الذين استبقوا للخلف منظومات هوميروس إلى أن كتبت.
جمعها وكتابتها
إذا علمت كيف تهافت الحكماء والعظماء على تلقي الإلياذة وتلقينها للناس يوم لم يكونوا يكتبون، وعرفت كيف أكب الحفاظ على ادخارها تبادر إلى ذهنك أنه لم تكد الكتابة تنتشر في بلاد القوم حتى أقبلوا على جمعها وتدوينها، وإن لنا في الأثر أمثلة أخرى مما تلي وانتشر قبل أن يجمع في كتاب ليحفظ وينقل أو نبذ فأهمل. وليس هذا خاصا بالشعر بل قد تتناقل الحكم والروايات النثرية قرونا طوالا. وهكذا حفظت تواريخ الجرمان والسكنديناف، ومنظوماتهم قرونا قبل أن يدون منها شيء في كتاب.
20
وهو معلوم أيضا أن القرآن على غزارة مادته، وتشابه آياته انتشر ورسخ في حوافظ الصحابة كاتبهم وأميهم بل ربما كان أرسخ في ذهن الأمي.
وليس لدينا شيء مما يمكن معه تعيين الزمن الذي بوشر فيه بكتابة الإلياذة، ولا شك أن فيسيستراتس كان من صفوة المتشتغلين بهذا العمل الخطير كما تقدم حتى لقد عثروا في بعض مخطوطات رومية على أسماء أربعة من الشعراء استعان بهم على ضبط منظومات هوميروس، وهم: أونومكريتس، وزوفيرس، وأرفيوس، وكنكيلوس، ولكن الظاهر أن نسخة فيسيستراتس لم تكن النسخة الأولى، وأنه شرع في كتابة تلك المنظومات منذ أواسط القرن السابع ق.م. أي قبل نحو قرن كامل، ولا ريب أن من ولي صولون إلى زمن فيسيستراتس جمعوا منها نسخا مما ذكره علماء مدرسة الإسكندرية أو أغفلوه؛ بل لعل الكتابة في زمن صولون نفسه كانت تتسع إلى مثل هذه الغاية. وأن جميع معاصري فيسيستراتس أثنوا الثناء الجميل على ما فعل، ولكن الغريب أن علماء الإسكندرية لم يذكروا نسخته في جملة ما حسبوه من النسخ التي كانت بين أيديهم، فإما إنها لم تصل إليهم وهو محال مع شهرتها، وإما إنهم كانوا يعلمون أنها إنما كانت نسخة تقدمتها نسخ كثيرة؛ فأغفلت في جملة ما أغفل وهو الأظهر، وكانت في الإسكندرية إذ ذاك نسخ شتى نقلت عن مجموعات أرغس وخيوس (ساقس) وأكريت، وقبرص، وغيرها من مدائن اليونان مما يدل على سعة الانتشار. فعمد علماء الإسكندرية إلى تلك النسخ ومن جملتها النسخة التي كتبها أرسطوطاليس للإسكندر، وقابلوها بعضا على بعض ثم وضعوا النسخة التي تداولتها الأيدي إلى هذا الزمن. وكانوا رهطا من فحول العلماء، بل كانوا أعلم أبناء زمانهم كزينودوتس الأفسسي، وأرسطوقارنس البيزنطي، وأعلمهم طرا أرسطرخس السامثراقي وهو الذي قسم كلا من الإلياذة والأوذيسية على ما قيل إلى أربعة وعشرين نشيدا
21
على عدد حروف الهجاء عندهم.
القول في سلامتها من التحريف والتصحيف
لم يعن البشر في زمن من الأزمان بنسخ كتاب وتمحيصه وحفظه ونشره عنايتهم بالإلياذة وأختها الأوذيسية، ولا يستثنى من هذا الإطلاق إلا الكتب التي رفعت عليها أسس الأديان كالتوراة، والإنجيل، والقرآن، ومع هذا فلست ممن يقول بسلامة الإلياذة بجميع أجزائها من كل تحريف وتصحيف أو زيادة ونقصان، وأي كتاب أجمع الناس على أنه لم تعبث به قط يد كاتب، ولم تنتبه جائحة زمان، أفليس في بعض نسخ التوراة عبارات مختلفات عنها في نسخ أخرى، وإن منها أسفارا كاملة يعدها فريق قانونية وينكر ذلك فريق آخر، أوليس من يقول بضياع بضعة أناجيل، واختلاط أسفار أخرى من العهد الجديد، ومن ينكر عناية الخليفتين: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب في جمع أجزاء القرآن في صحف مكتوبة، ومبلغ جهدهما وجهد الخليفة عثمان بعدهما في ضبط قراءته، والنظر في كل آية من آيه حتى إذا رأى عمر أن آخر سورة التوبة مفقود ظل يبحث عنها حتى وجدها مع أبي خزيمة الأنصاري، وفعل فعله عثمان إذ فقدت آية من الأحزاب فالتمسها ووجدها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري، وهل سد ذلك أفواه المعترضين من بعض فرق الغلاة والمعتزلة! أو لم يتواتر أيضا أن بعض كتبة الوحي لنبي الإسلام كعبد الله بن أبي سرح في أول إسلامه كانوا يعمدون إلى تبديل كلام بآخر.
ولكن النبي كان حيا؛ فأثبتوا أنه كان يضرب على أيدي أولئك المحرفين، ويرد الكلم إلى مواضعه. أما الإلياذة وقد تناشدها الرواة نحوا من قرنين ولا ضابط لها سوى أذهان المنشدين فلم تكن ثم قوة بشرية قادرة على حفظها من أولها إلى آخرها على ما نطق بها هوميروس مهما بذل في سبيل ذلك من العناية والهمة. بل ربما لو بعث هوميروس نفسه، وأنشدها مرة أخرى لما تمالك عن تغيير حرف وتبديل شعر، على أنه لا ريب أن التحريف والتصحيف قليلان جدا في جميع ما اتصل بنا منها لما رأيت من عناية القوم بها اللهم إلا أن تكون هناك أجزاء مفقودة برمتها مما لا يدخل تحت هذا الحكم، ومع هذا فارتباط أجزائها بلا انقطاع يدل على أنه إن كان ثمة مفقود فهو قليل، وإننا الآن موردون استجلاء لهذا البحث أمثلة مما ذكره الشراح وما لم يذكروه من الدخيل، والساقط، والمكرر، والمغلق.
الدخيل
ذكر هوميروس في النشيد الثامن أنه عند غروب الشمس تحاجز الجيشان، فانكفأ كل منهما إلى معسكره، والطرواديون على بينة من الفوز في غدهم لما أوتوه من أنباء الغيب فأقاموا ليلهم ينتظرون بزوغ الفجر لينقضوا على أعدائهم، ثم وصفهم ووصف نيرانهم وقال:
فبين السفين الراسيات وزنثس
لوامع نيران بذاك المعرس
تؤج لدى إليون في ألف مقبس
يؤججها خمسون في كل مقبس
ودونهم بين العجال جيادهم
وقوف لدى ذاك القضيم المكدس
وهنا في بعض النسخ أربعة أبيات مفادها أنهم ضحوا بالضحايا فلم تقع لدى الآلهة موقع قبول لما استقر في نفوسهم من كراهة إليون عاصمة الطرواد وملكها وملته، فذهب بعض الشراح وذهبنا مذهبهم إلى أن هذه الأبيات دخيلة فأغفلوها وأغفلناها؛ لأن فوز الطرواد في ما يلي يدل على أنها في غير موضعها بل هي مناقضة للمعنى على خط مستقيم؛ لأن زفس كبير الآلهة كان في زمن موالاة للطرواد.
وفي النشيد الثالث عشر يوعز فوليداماس إلى هكطور زعيم الطرواديين أن يجمع إليه زعماء الجيش ويشاورهم في الأمر، فيقول الشاعر:
تلقاه هكطور قولا مصيبا
وقال لفوليدماس مجيبا
وهنا في بعض النسخ بيت يقول: «أن هكطور وثب إلى الأرض من مركبته» وهو لا شك دخيل من غير نظم الشاعر؛ لأن سياق الحديث يدل على أن الطرواد غادروا مركباتهم، وزحفوا مشيا على الأقدام.
هذا وإن في الإلياذة بضعة أبيات لا أرى لها محلا أصلا، ولو خيرت لحذفتها ولكنه لا سبيل إلى ذلك؛ لأنها مثبتة في كل النسخ، مثال ذلك قول إيريس إذ أنفذها زفس برسالة إلى هيرا وأثينا، فبعد أن بلغتهما قوله كجاري العادة قالت لأثينا: (ن 8)
وأنت أيا شر الكلاب وقاحة
أتلقين بالريح الثقيل أبا الورى
فإنها تجاوزت حد مهمتها وفاهت بكلام بذيء لم يفه به زفس، ولم يتفق للشاعر أن أتى بأمثاله فضلا عن أنه كلام لا يجوز أن يوجه إلى أثينا ربة الحكمة، وحيثما ذكرها هوميروس فإنه يذكرها بالتعظيم والتبجيل.
ومثل ذلك قوله بلسان فطرقل في النشيد السادس عشر متهكما على قبر يون، وهو مهو قتيلا من مركبته إلى الأرض:
وهكطور صاح به قائلا:
فيا للباقته كيف يجري
فلو من سفينته واثبا
إلى اليم غاص للجة بحر
لصاد حلزا ولو صدع النو
ء يكفي الجماهير شر الطوى
وفطرقل هذا على بسالته وعزته مثال الحلم، والحصافة، والدعة، فلا يصح أن ينطق بمثل هذا التهكم على قتيل انقضى أمره، ولا سيما أنه قبل أبيات انتهر صاحبه مريون لمخاطبته عدوا بكلام فظ فقال له:
علام أخي ذا الكلام المهين
وأنت بلوتك سامي النهى •••
أتزعم أن حديد الكلام
يصد الطراود يوم الصدام
فماذا بدافعهم عن قتيل
حواليه تصطك لام بلام
ولن يرجعوا عنه حتى يضاف
صريعا لذاك الهمام همام
فللحرب فعل وللسلم قول
وهذا أوان الوغى لا اللغا
الساقط
ويقابل هذه الزيادة نقصان قليل في إيراد بعض الروايات مثال ذلك قصة بليروفون، فإنها مبتورة بترا فسواء التقطها هوميروس من التوراة، فمثل به يوسف الصديق أو تناولها من مصدر آخر فلا يأتي المطالع على آخرها إلا وهو متطلع إلى أسباب انحراف الآلهة عن ذلك الرجل البار، وقد أفضنا بهذا البحث في موضعه:
المكرر
وهناك أبيات مكررة قد يمكن وضعها في ثلاث مراتب: (1)
ما كان واجب التكرار كالبلاغ الذي يلقى إلى الرسول، فيؤديه كما ألقى إليه وهو كثير. (2)
ما كان جائزه وهو: إما مقصود من الشاعر لبلاغته، وإما دخيل بقلم النساخ في أحد موضعيه لكثرة تغني الناس به، وانطباقه على المعنى في الموضعين. مثال ذلك وصف اصطدام الجيشين في النشيد الرابع إذ يقول:
تدفقت الأجناد أي تدفق
إلى الحرب تجري فيلقا إثر فيلق
كثائر أمواج البحار تهيجها
من اللج أنواء بغير ترفق
يدفع بعضا بعضها فوق لجها
إلى حيث فوق الجرف بالعنف تلتقي
فبعض أبيات هذه القصيدة مكرر في مثل هذا الموقف في النشيد الثامن.
ومثل ذلك قوله في وصف هكطور وهو مقبل على الأعداء: (ن 15)
أفلون هاتيك العزائم مانح
وهكطور للإبلاء والحرب جانح
كمهر عتي فاض مطعمه على
مرابطه يبتتها وهو جامح
ويضرب في قلب المفاوز طافحا
إلى حيث وجه الأرض بالسيل طافح
يروض فيه إثر ما اعتاد نفسه
ويطرب أن تبدو لديه الضحاضح
ويشمخ مختالا بشائق حسنه
يطير وأعراف النواصي سوابح
وتجري به من نفسها خطواته
إلى حيث غصت بالحجور المسارح
فهذه الأبيات بعينها واردة بوصف فاريس في النشيد السادس: (3)
ما كان مكروها والأجدر به أن يعد من باب الدخيل كقول هيرا، وهي تستمد رأفة زوجها زفس بالإغريق: (ن 8)
ولكننا نرثي لحال الأغارق
يبيدهم المقدور تحت اليلامق
أطعنا فلا نأتي الكفاح وإنما
نمدهم بالرأي خوف البوائق
فهذا كلام سبقت أثينا فخاطبت به زفس في نفس النشيد فما بقي محل لإعادته.
وأغرب من هذا تكرار خطاب أغاممنون في النشيد التاسع، وهو الذي يقول في مطلعه:
أحباي والأقيال والصيد خلتني
رماني زفس في حبائل آتيا
فهو خطاب ألقاه بنفسه في النشيد الثاني وقصد به هنا غير ما قصد هناك، ولعل ما قاله في هذا الموضع مما فقد أصله فعوض النساخ عنه بأبيات سابقة حسبوها تليق بالمقام.
المغلق
ولقد أغلق علي فهم المراد من مخالفة أثينا لأبيها زفس مخالفة بلغت حد العصيان، وهي ربة الحكمة والسداد تعرف أنها لا قبل لها به، ويشق عليها الخذلان فلا تأتي أمرا يورثها الندم، فكيف قامت بعد هذا تتهدد وتتوعد بكلام ملؤه العتو، ثم ما لبث أن استلأمت، وتدججت بالسلاح لتنخرط في سلك مقاتلة نهاها زفس عن الأخذ بيدهم، فصدعت بالأمر وقالت: «أطعنا فلا نأتي النزال» ثم خالفت قولها، وانتقضت عليه انتقاضا كاد يودي بها، وحبذا لو كانت هذه الرواية في بضعة أبيات إذن ليتيسر لي أن ألتمس للشاعر عذرا، فأجزم بكونها دخيلة ولكنها مندمجة في الرواية اندماجا، ولا سبيل إلى إفرازها منها إلا إذا اختل نظام سياق الحديث فلا بد إذن من أن تكون من نظم الشاعر أدرجها هنا لأمر غمضت علي حكمته. وخصوصا أن الشاعر يتوخى الحقيقة في كل أقواله صريحة كانت أو رمزية، ويرمي في كل معانيه إلى بث حكمة ونشر فضيلة، وليس في هذه الرواية شيء من ذلك. على أنه إذا صح انتقادنا، فليس بعجيب أن يشذ الشاعر هذا الشذوذ في مظنة واحدة من منظومة تملأ هذا المجلد الضخم.
وعلاوة على ما تقدم ربما لا تخلو الإلياذة من ألفاظ بل من أبيات لعبت بها أيدي النساخ، ولكنه ليس في شيء منها ما يشوه وجه تلك الخريدة العذراء فلا يزيدها تقادم العهد إلا بهاء ورواء، فهي كزهرة هوميروس وقومه تتوالى عليها الأعقاب وتنقضي الأحقاب، وهي هي تلك الفتية العذراء ربة الجمال الخلاب.
الرأي الولفي
أو القول في كونها منظومة واحدة أو منظومات شتى
توالت الأحقاب على الإلياذة والناس يتناشدونها ويتناقلونها وهم معجبون ببلاغتها، وانتساقها مكبرون ذكاء تلك القريحة السيالة التي تفجر منها ذلك المنهل العذب، فلما كان القرن الثامن عشر قامت عصابة من العلماء، وأنكرت على هوميروس إنشاء الإلياذة وما يتبعها من سائر شعره، وقالت: «بل هي قصائد متفرقة لشعراء كثيرين رواها الرواة، وعني بجمعها المشغفون بمطالعة الشعر» وكان من نتيجة قولهم هذا أن هوميروس رجل وهمي خلقته مخيلات الشعراء.
ذلك ما يدعى في عرف الإفرنج بالرأي الولفي نسبة إلى ولف العالم الألماني، وإن لم يكن هو السابق إلى بث ذلك المذهب، وإنما نسب إليه لأنه كان أشد دعاته وتيسر له نشره في زمن ثوران أفكار وانتقاض على كل كبير، وقد سبقه إليه أفراد ذوو شأن في عالم الأدب فلم يكن لكلامهم شيء من الوقع.
بدأ الخوارج على هوميروس وإلياذته وسائر منظوماته بنشر دعوتهم في أواخر القرن السادس عشر وفي مقدمتهم كازوبون
22
الفرنسي فأنكر وجود هوميروس، وكون الإلياذة من نظم شاعر واحد، فلم يكد يعبأ بقوله أحد إلى أن مات فدفن مذهبه معه، ثم بعث ذلك المذهب على يد هيدلين قس أوبنياك
23
فكان أشد من سلفه، وكأنه نبه أفكار العلماء إلى بحث جديد فحذا بعضهم حذوه وأشهرهم مواطنه بيرو
24
وود
25
وبنتلي
26
الإنكليزيان وتبعهم فيكو الإيطالي
27
فأربى بكتابته على جميع من تقدمه، ولكن صاحب القدح المعلى في هذا المضمار إنما كان ولف الألماني
28
فشدد الحملة وما كاد ينشر مقدمته على الشعر الهوميري في أخريات القرن الثامن عشر
29
حتى فشا مذهبه في ألمانيا، وانتشر منها إلى أقطار أوروبا، فهدم أركان عظمة هوميروس من أسسها، وعم القول بين جميع المشتغلين بآداب اليونان أن هوميروس إنما هو هي بن بي الإغريق راوية لم تلده أنثى، وإنما ولدته قصائد الشعراء المندرسة أسماؤهم في غوامض الغيب، وإن ما ينسب إليه من المنظوم ليس إلا مجموع قصائد عني بجمعها في زمن فيسيستراتس في القرن السادس قبل المسيح، واشتد أزر ولف والذاهبين مذهبه بروح ذلك العصر المتطلع إلى التشبث بكل رأي جديد، والرامي إلى تقويض كل مذهب تقادم عليه العهد من أصول الدين إلى أصول التاريخ حتى قواعد الإنشاء، فنسج على منواله بعض العلماء كهين الألماني في مقدمته على الإلياذة
30
وشايعه نيبهر الدانمركي
31
وهردر
32
وغدفري هرمن
33
وولهلم ملر وكثيرون غيرهم، ومعظمهم من الألمان مع أن النافخين في ذلك البوق كانوا في بدء الأمر من الفرنسيس، وكأنهم أرادوا أن ينكروا على رجل فرد الاستئثار بتلك السلطة الفكرية؛ فوزعوها على عامة الشعراء كما أنكروا على الملوك والحكام الاستئثار بالسلطة الحاكمة؛ فنهضوا إلى توزيعها على الأمة.
ولم ينقض العقدان الأولان من القرن التاسع عشر حتى خمدت ثورة الأفكار، وانثنى العلماء إلى إعادة البحث، وإمعان النظر ثم ما لبث ذلك المذهب أن تلاشى أو كاد على يد جماعة من فطاحل العلماء، وفي مقدمتهم أتفرد ملر
34
فإنه لم يقصر بحثه على الفلسفة والخيال بل تعهد بنفسه جميع المواقع المذكورة في شعر هوميروس وغيره من كتبة الأقدمين، وكتب تاريخا مطولا لآداب قدماء اليونان توفي سنة 1840 وهو يشتغل فيه، وقد أثبت بما جمع من الأدلة وجود هوميروس، وأن الإلياذة من نظمه. ولم يكن ولكر بأقل من ملر تضلعا في هذا البحث، فإنه كتب الأسفار الطوال بتاريخ اليونان، ووصف آدابهم وأفاض في الشعر الهوميري
35
فتداعت على يده ويد ملر دعائم المذهب الولفي، ولكن الذي قوضها تقويضا إنما كان غريغور نتسش، وله في تاريخ اليونان المجلدات الضخمة والحجج المسندة إلى البينات.
36
وهكذا فإن الألمان الذين شنوا هذه الغارة أثاروا من جماعتهم من تصدى لدفعها بسواعد أشد وأدلة أقوى، ومع هذا فلم يزل بينهم من يقول بالرأي الولفي مع أن معظم علمائهم، ومحققي الإنكليز والفرنسيس، ومشايعي فيكو الإيطالي قد نبذوه منذ طويل، وإن المقام ليضيق عن ذكر أسمائهم جميعا فضلا عن إيراد أدلتهم فنجتزئ بالإشارة إلى بعضهم ممن اشتهر بولوج هذا الباب كالأستاذ بلاكي
37
في كتابه «هوميروس والإلياذة» والأسقف ثرول
38
وغروت
39
في «تاريخ اليونان». وغلادستن
40
في كتابه «هوميروس وعصره». وغينيو في مقدمة المعجم الهوميري
41
ولوبريفوست في حواشي ترجمة الإلياذة
42
وبرتين في «المسألة الهوميرية».
43
وليس لنا في هذا المقام الضيق أن نفصل الأدلة التي أوردوها، ومع هذا فلا بد من إلقاء نظرة مجملة على الإلياذة؛ لاستجلاء ما إذا كان يصح القول بكونها من نظم غير واحد من الشعراء.
علمنا مما تقدم في فذلكة سيرة هوميروس ورأي المتقدمين والمتأخرين فيه أنه لم يبق محل للريب في نظر المحققين أن شاعرا يلقب بهوميروس نبغ في القرون الغابرة، ونظم الإلياذة والأوذيسية، وقد أجمعت النصوص التاريخية والآثار العادية على أنه كان بمنزلة يقصر عن إدراك شأوها سائر الشعراء، فما بقي من ثم سبيل إلى إنكار وجوده.
وإنما بقي علينا أن نعلم ما إذا كانت الإلياذة كلها من نتاج تلك القريحة الوقادة .
وحدتها
لقد علم المطالع اللبيب من سياق كلامنا، ولا سيما من بحثنا في سلامة الإلياذة من التحريف والتصحيف، والزيادة والنقصان أننا إذا أنكرنا على ولف مذهبه لا نتطرف في الإنكار إلى حد الأخذ بمذهب الدكتور شليمن الألماني
44
الذاهب إلى إثبات حقيقة الكلي والجزئي فيها، وإسناد كل ذلك إلى المكتشفات الأثرية، فاعتقادنا إذن مقصور على أن هوميروس هو ناظم الإلياذة، وأنه هو ناسج بردها، وناظم عقدها من أولها إلى آخرها بصرف النظر عن الحقائق التاريخية البحتة، وعما قد يتخللها من ساقط ودخيل.
قال غروت في «تاريخ اليونان»:
45 «إن تعداد القبائل في النشيد الثاني لا يمكن إلا أن يكون جزءا من كل، أي: إنه لا بد أن تكون فيه إشارة إلى حوادث مقبلة، وإلا فإذا أخذ منفصلا فلا لذة فيه للسامع، والأذن لا شك تمل توالي تلك الأسماء والأعلام ما لم تكن النفس مرتاحة إلى أنه يرمى بها إلى الإشارة إلى وقائع تعقبها على الأثر، وإن في آثار القوم ما يثبت أن ذلك الجدول الجغرافي كان حتى في أيام صولون شائعا شيوعا عاما حتى قيل: إن صولون نفسه عمد إلى تحشية شطر فيه؛ ليتسنى له ربح الخطر الذي عقد رهانه بينه وبين الميغاريين، كما أن الميغاريين أضافوا إليه شطرا يقوي حجتهم، ومن ثم يتضح أن اليونان كانوا قد ألفوا قبل فيسيستراثوس بزمن طويل سماع الإلياذة منظومة واحدة متناسقة الأجزاء متتابعة المباني».
وهو قول لا شك سديد في بابه، ولكنه لا يدفع حجة القائلين: «إنه إذا صح أن تكون الإلياذة على سلامتها في ذلك الزمن قد لا يصح أن تكون اتصلت إلينا على تلك السلامة». فدفعا لهذا الاعتراض حسبنا أن نوجه نظر المطالع إلى ما أسلفنا عن عناية الأقدمين بحفظها نقية من الشوائب، ولا سيما في باب «جمعها وكتابتها».
وإننا موردون في ما يلي تحليلا موجزا لتلك المنظومة بل تشريحا لذلك الجسم المتماسكة فقراته، المترابطة عضلاته يتضح منه أنه لا بد من أن تكون منظومة واحدة لشاعر واحد، وهو بحث لم يتصل بنا نظيره في ما طالعناه من كتب القوم.
تحليلها وتشريحها
الأشخاص
خذ الإلياذة وتصفح أية صفحة شئت منها، واقرأ حتى يقع بصرك على بطل من أبطالها سواء كان من مغاوير الكماة أو من عرض الجند، ثم انتقل إلى معجم الأعلام وانظر في الصفحات التي ورد فيها ذكر ذلك الرجل، واقرأ ما وصف به فيهن جميعا، فتتبين أنه هو هو حتى تكاد تنطق باسمه قبل أن تبلغه مهما تباينت المواقع، وتباعدت الأناشيد.
فهذا آخيل يبدو لك لأول وهلة قرما عنيدا، وشهما حقودا، ووليا ودودا، وصارما عتيا ترتسم حسناته وسيئاته في مخيلتك من تلاوة أول جزء من أول نشيد، وتعلم أنه الفتى الغضوب بنيت الإلياذة على وصف غضبه، فلا تقرأ نشيدا منها سواء ظهر فيها ذلك البطل أو لم يظهر إلا وتشعر أنه لا يزال محتدما بسعير الحقد والغيظ إلى أن يتيسر للشاعر تهيئة الأسباب المؤدية إلى إخماد تلك الجذوة في آخر الكتاب، فإذا به كما تستلزم دواعي السيادة والكرامة ساكن الجأش على رفعة نفسه، وقد جمع في صدره من كرم الخلال ما يكاد يضيق عنه أرحب الصدور، وليس في الكتاب كله عبارة واحدة يشذ بها الناظم عن هذا المرمى، وهيهات أن يتفق هذا التناسب لغير ناظم واحد.
ثم انظر إلى هكطور فهو حيثما رأيته حامي الذمار، دفاع العار، عزوما حزوما مقداما عن غير طيش، ورعا عن صدق عقيدة ذا ذكاء ونيرة يتمسك من دينه بما لصق بمعبوداته، وينبذ ما دون ذلك من خرافات القوم. يعلم أنه عماد قومه فيسير سير الزعيم الهمام، ويحسن الذود والكر والإبلاء، ولا يفتأ على المثال الذي صوره به الشاعر حتى يذهب شهيد الدفاع، ويموت ميتة يحسد عليها.
وإذا انتقلت من هذين الزعيمين إلى سائر أبطال الإلياذة، وتأملت كل رجالها ونسائها رأيت أن الشاعر رسم لكل رسما لا ينحرف فيه بشيء عن الوضع الذي وضعه له سيان ذلك في أول الكتاب وآخره.
فأغاممنون الأمير الخطير والقائد الكبير.
وآنياس البطل الورع والحليف الباسل.
وإياس رب بأس فعال غير قوال .
وذيوميذ الفتى المقحام يهون له نزق الشباب ركوب الأهوال.
ونسطور الشيخ الحكيم حنكته صروف الأيام.
وأوذيس الداهية الدهماء والبلية الصماء.
وفطرقل الفتى الكريم والخل الحميم.
وفريام الملك الصبور والهرم الوقور.
وفاريس العاشق المتأنق.
وأنذروماخ الزوجة الأمينة.
وإيقاب الأم الحنون.
وهيلانة الفتاة الغالب هواها على قواها الشاعرة بسوء المصير.
وإذا نظرت بعد ذلك إلى غير من تقدم ممن كثر ذكره أو قل تهيأت لك النتيجة نفسها.
فاغينور في النشيد الرابع هو نفسه ذلك المحراب في النشيد الحادي والعشرين.
وأنطيلوخ في النشيد الرابع هو نفسه ذلك الشاب العزوم المتسرع في النشيد الثالث والعشرين.
وقل مثل ذلك في ماخاوون وطبه، وهيلينوس وعرافته، وفينكس وصداقته، ومريون وأمانته، وهلم جرا. وقد تأتي على تلاوة اسم ذكر بطريق العرض، فلا ترى له شأنا خاصا، ثم إذا أعيد ذكره بعد مئات أو آلاف من الأبيات رأيته على صفته لم يتغير بشيء عما ذكر به للمرة الأولى، وقد لا يرد ذكره سوى مرتين أو ثلاث. مثال ذلك أذميت وأفرميذون، وأفروطسيلاس، وأفغياس، وأقطور، وأقلونيس، وأكماس، والقميذ وأمفيماخس، وثرسيلوخ، وثواس، وأمثالهم كثيرون.
الأعلام الجغرافية
ثم إذا تناولت البلدان والجبال والوهاد والبحار والأنهار رأيت أنه اتبع تلك الخطة فما ناقض نفسه بكلمة مما وصف به بلدة أو علما جغرافيا، ودونك بعض الأمثلة:
فارسية لاصق ذكرها بنهر سليس، وزعيم جندها أسيس بن هرطاقس في النشيد الثاني، وفي الألف الأولى من أبيات الإلياذة وهي هي ونهرها وزعيمها بعد أربعة آلاف بيت في النشيد الثاني عشر.
وبفراسا هي البلدة الكثيرة الأنعام، وهي موصوفة بذلك في النشيد الحادي عشر في منتصف الكتاب، ويتكرر ذكرها بنفس الوصف في النشيد الثالث والعشرين أي: بعد نحو من خمسة آلاف بيت عربي أو ثمانية آلاف شعر يوناني.
وتينيذس البلدة المقدسة الموالية لآفلون، وهي كذلك في غير موضع.
وإن المجال ليضيق عن أمثلة ما تقدم، فإنها تفوق الحصر، وقد توخينا في الأمثلة الثلاثة السالفة الذكر بلادا قليلة الشهرة، فإذا كانت وحدة المرمى فيها هذه فما بالك بالمدن الشهيرة كإليون.
وقل مثل ذلك في البحار والأنهار كالأوقيانس، وزنثس، والإسكندر، وكل ما في الإلياذة من يبس وماء.
وإذا أردت إجمالا سهلا لهذا التفصيل، فخذ القسم الجغرافي في النشيد الثاني، واقتطع منه أية مملكة شئت من ممالكهم وأسماء زعمائها، ثم تصفح المعجم، فإذا رأيت تلك الأسماء قد تكرر ذكر شيء منها فإنما يتكرر بما لا يشذ عما مر أمامك هذا إذا لم ينطبق عليه كل الانطباق، ولو فصلت بين الموقعين الأناشيد الطوال.
ارتباط أجزائها
ثم إذا تأملت تماسك أجزاء الإلياذة وارتباطها بعضها ببعض رأيت أن ناظم النشيد الأول إنما هو ناظم النشيد الأخير، فكأنما هي مرقاة يصعد بك صاحبها درجة بعد أخرى حتى تستقر في آخرها وأنت متبين كل ما وراءك، فإذا بدأت بخصام آخيل وأغاممنون تطلعت إلى ما وراء ذلك الخصام، فيبسطه لك الشاعر بسطا يزيد إيضاحا كلما خطوت خطوة. فهناك جدال وخشية قتال، وحنق واعتزال، ووساطة رجال، وينتهي الأمر بما ترتاح إليه نفسك شأن القصاص الذي يروي لك خبرا واحدا بنفس واحد.
وإذ أمعنت في تواد آخيل وفطرقل بدا لك من خلال الفصول الكبار صديقان حميمان يتوادان؛ فيترافقان، فيغضب أحدهما لغضب الآخر فيتواليان في السراء والضراء، وإذا مات أحدهما فلا تنقضي أحزان الآخر حتى انقضاء حياته، وكل ذلك بحديث طويل تتخلله أحاديث أطول تكاد تشط بقائل واحد عن تلك الخطة المرسومة، فما الظن لو تعدد القائلون.
وقس على ذلك جميع حوادث الإلياذة.
وإذا رجعت بعد هذا إلى أعظم مظنة لاعتراض المعترضين وهي إلصاق النشيدين الأخيرين بالإلياذة رأيت أنهم إنما أتوا بأوهن الحجج كما أثبتنا مسهبين في مقدمة النشيد الثالث والعشرين فلا نسوق البحث هنا إلا في ما لم يسبق لنا ذكره في ذلك الموضع.
خذ الألعاب في ذلك النشيد وانظر إلى أرباب كل ضرب من ضروبها تر أنها لم تلصق بالإلياذة إلا لكونها جزءا طبيعيا منها، وإن المتبارزين فيها لم يكن يصح سواهم لوقوف كل منهم موقفه.
ففرسان السباق أفميل وهو الذي قيل في خيله في النشيد الثاني:
أجود الخيل عندهم تلك أحجا
ر لدى ابن ابن فيرس أفميل
قد تساوت قدا وسنا ولونا
وجرت كالطيور فوق الطلول
وذيوميذوله مطهما آنياس، وقال عنهما الشاعر في النشيد الخامس:
وامض واقتد مطهمي آنياس
خير ما في الدنيا من الأفراس
وألحق نسبتهما هناك بجياد زفس أبي الآلهة. ثم لما أبرز الشاعر ذيوميذ في حلبة السباق أعاد تلك الذكرى.
ومنيلاوس وهو زوج هيلانة وأخو أغاممنون والمتسبب بحرب طروادة.
وأنطيلوخس بن نسطور الفتى الباسل صديق أخيل.
ومربون الحوذي الماهر. وهم جميعا أجدر الفرسان بخوض ذلك الميدان.
وإن ما قيل في السباق يمكن إطلاقه على النضال والطعان والحضر والصراع وغيرها.
فلسفتها وآدابها
وإذا أمعنت النظر في فلسفة الشاعر وخلائقه وآدابه رأيت أنه رمى فيها كلها إلى أمور خاصة برجل واحد، فهو وإن جارى أبناء زمانه في كثير من عاداتهم ومعتقداتهم فقد خالفهم في أمور أخرى لسلامة في ضميره ونظر بعيد في ترقيتهم، وهو حيثما جاراهم فلا ينحرف في مجاراته، وحيثما خالفهم فقد راعى ما انطبع عليه من آداب النفس التي جعلته أرقى أهل زمانه، فعصره عصر فسق وفجور وقد شجبهما حتى في نفس الآلهة وزمنه زمن بطش بالأسرى وقد طعن بقتلتهم وحسبك في هذا الباب أن تتصفح المواضع التي أفاض بها بمدح المرأة، وأتى على إطراء صفات الأمهات والزوجات والبنات والأخوات حتى السبيات في قرن كانت المرأة فيه من جملة المتاع وسلعة تشرى وتباع.
وهناك أدلة كثيرة أفاض بها الشراح بالنظر إلى التاريخ واللغة مما يضيق دونها المقام.
سبب الريب
ولا بد لنا في ختام هذا الفصل من كلمة بشأن منشأ الارتياب في آراء كثيرين من الكتبة والمؤرخين.
إن مظان الريب كثيرة في الكتب القديمة التي بين أيدينا، ووجوه الاعتراض دامغة في بعضها حتى يتعذر في بعض الأحايين إرجاعها إلى أصل معلوم أو مؤلف معين، وعندنا من أمثال ذلك كتاب ألف ليلة وليلة، وقصة عنترة العبسي وأشباههما؛ ولهذا تطرفت زمرة من المشتغلين في التاريخ والآداب إلى إنكار كل قديم، وبث الريب حتى في وجود مسميات وأشخاص تكرر ذكرها في التاريخ، وثبت وجودها ثبوت الشمس في رائعة النهار، فهل نعجب بعد هذا إذا تصدت فئة منها إلى إنكار هوميروس وقد انطوت عليه آلاف الأعوام وهذا فوريل
46
الباحث في آثار القدماء ينكر على الفردوسي هوميروس الفرس نظم الشهنامة، والفردوسي ابن الأمس بالنسبة إلى هوميروس وشهنامته قبلة الفرس في غدوهم وآصالهم، وإذا سألت أصغر صغير فيهم فصل لك تفصيلا كيف نظمت، ولمن نظمت، وما كان من أمر ناظمها بحياته وبعد مماته.
الإلياذة ومعارف عصرها
إذا قال الشعراء: «ما أحرى هوميروس أن يكون أمير الشعراء» قال العلماء: «وما أحرانا أن نتخذ ديوانه خزانة نضد فيها معارف عصره من علم وأدب وصناعة وتاريخ، فقد صرف الأدباء نظرهم عن جميع من تقدم من شعراء أمته، ولقبوه أبا الشعر، واتخذ العلماء والمؤرخون أقواله حجة يرجعون إليها في استقصاء علوم القدماء».
وليس في الإمكان بسط الكلام على جميع ما أفاضوا به في هذا الباب، وإنما نلم به إلماما موجزا مع إيراد أمثلة يسيرة نظنها وافية بالمرام. ونترك البحث في الشعر وأدبه إلى ما يلي من الفصول.
الإلياذة والتاريخ
لا شك أن هوميروس استقى من موارد طمس الزمان ذكرها، فنقل ولا نعلم عمن نقل، ودون حوادث كثيرة مما أثبتها الأثر وما لم يثبتها، ولكن ثبوت البعض يرجح في الظن ثبوت الكثير مما بقي، وقد أشرنا في الشرح إلى نبذ من الحوادث التاريخية التي لم يذكرها المؤرخون، فهو بهذا الاعتبار أول المؤرخين في قومه، وإن هيرودوتس الملقب بأبي التاريخ يستمد من معارفه، ويستشهد بقوله كلما أغلق عليه أمر واضطر إلى إثبات حجة. وإذا رجعت إلى مؤلفات جميع المؤرخين من اليونان والرومان والإفرنج رأيتها مرصعة ترصيعا بالشواهد الهوميرية مما يثبت لك علو مكانته في التاريخ.
الإلياذة والجغرافية
إذا قيل: إن هوميروس هو أول مؤرخ، قيل أيضا: إن قدمه في الجغرافيا أرسخ ومنزلته أرفع، فهو واضع هذا العلم وعلمه الأسنى إذ تعهد بنفسه معظم المواقع التي ذكرها ووصفها وصفا لم يسبقه إليه المتقدمون، ويكاد المتأخرون يقصرون عن الإتيان بمثله ، وحسبك الرجوع إلى القسم الجغرافي لتعلم أنه لم يكن لجغرافي أن يلم إلمامه بهذا الفن حتى اليوم، وإن إسطرابون أبا الجغرافيا بعده يعترف له بالفضل والسبق
47
وجميع مباحثه مؤيدة بشواهد من الشعر الهوميري حتى لقد يمكن اعتبار جغرافيته شرحا لمتن ثلاثة أرباعه في الإلياذة وأكثر باقيه في الأوذيسية. وقد حداني حب الاستطلاع يوما إلى عد الشواهد التي أخذها إسطرابون من منظومتي هوميروس، فإذا بها مئتان وتسعة وأربعون بيتا من الإلياذة، ومئة واثنا عشر بيتا من الأوذيسية ما خلا الأبيات المكررة في عدة مواضع، وما أدراك ما يمكن أن يكتب من الشرح على هذا المتن الطويل.
الإلياذة وسائر العلوم
أفردت في معجم الإلياذة بابا لكل من العلوم التي طرق هوميروس أبوابها وألحقته بهذا الكتاب، وعينت فيه الصفحات التي ورد فيها ذكر العلم المراد إرشادا للمطالع.
وسترى منه أن الإلياذة أشبه بدائرة معارف جمعت بين سطورها جميع علوم العصر.
الطب
فإذا أخذت الطب مثلا رأيت هوميروس ألم بجميع علومه من جراحة، وتشريح وفسيولوجيا، وبحث في النبات والعقاقير والصيدلة والعلاج، ووصف الأمراض والأوبئة.
الفلك
وإذا طلبت الفلك وعلم الهيئة ذكر لك كل ما بلغه منهما علم زمانه، فوصف السماء والأبراج وتطرق إلى التنجيم، فبحث في تأثير طوالع النجوم، وذكر الظواهر الجوية وفعلها في الأحياء.
الحرب
وإذا تطلعت إلى الحرب والفنون والعسكرية أفاض لك بتفصيلها إفاضة تدهش لها، ففصل لك مواقف الجيوش وحركاتها بهجومها ودفاعها، وزحفها وتعبئتها، وأبان لك أسباب الظفر ووجوه الاندحار، ووصف أركان الحرب والتمرين العسكري، والحرس والكمين والمبارزات، وبحث في الأسرى، والأسلاب، والبدل العسكري، والتتريس والجواسيس، وديوان القضاء في المعسكر، والعيون، والأرصاد والطلائع، وبين أحوال الحصار وإقامة الحصون وحفر الخنادق، ولم يغفل عن ذكر الخيم والمضارب، وأرزاق الجند وأطماعه. ولم يغادر شاردة إلا قيدها حتى الراية والنيران، والرقص الحربي والألعاب العسكرية.
ثم فصل لك أنواع القتال وأصناف الأسلحة والدروع، فوصف الشكة والخوذ، والمغافر، والتروس والرماح والسيوف حتى الفؤوس والمخاذف والحجارة.
السياسة والحكومة
وإذا تطرقت إلى السياسة بحث لك في الحكومة والملوك ، وسلطتهم وما يعرض لهم وعليهم، وموقفهم تجاه الرعية وبالعكس، وحذر من الفوضى. وذكر خدع السياسيين وحيلهم. وأشار إلى الشرائع والمجالس والخراج والإقطاعات، وأحاط بأحوال الوفود والسفراء والتحالف، والتعاهد، والخطابة في الرعية.
الدين
وإذا رغبت في الوقوف على دين القوم أسهب لك بذكر معبوداتهم، ونسبتهم إلى العباد ونسبة الخلق إليهم، ووصفهم فردا فردا بين ذكر وأنثى وأوضح صفة كل منهم بنفسه، وبالنسبة إلى زملائه، وهيأ لك مزاياهم كبارا وصغارا، وقسمهم إلى طبقات ودرجات مع بيان منزلة كل طبقة على حدة، وأتى على ذكر العبادات والصلوات والضحايا والأدعية. ووصف الروح ومصيرها، وبحث في عالم الأرواح، وسائر ما يتطلع إليه الراغب في الوقوف على أحوال العبادة في ذلك الزمان.
الفنون وسائر الأعمال
وقل مثل ذلك في الفنون الجميلة من نقش وغناء، وموسيقى وتصوير، وكل منقول ومعقول من معارف الإنسان وأعماله كالحراثة والزراعة، والتجارة والمعاملات حتى العرافة، والعيافة، والكهانة، وتفسير الأحلام.
الإلياذة والصنائع
وكأن هوميروس عني عناية خاصة بصناعات زمانه، فأسهب بوصف الكثير منها إسهابا تخال إذا قرأته أنه كان ينتمي إلى كل فريق من الصناع.
فبينا تراه وشار سفن إذا به صانع مركبات، وبينا هو نجار حاذق إذا به بناء ماهر ومهندس، ثم تخاله صيقلا، وحدادا، وحفارا، ونقاشا، وخراطا، وصباغا وصائغا، وليس هو بأعمال النساء أقل إلماما منها بأشغال الرجال، وحسبك من هذا تطريزه وغزله، ونسجه وحياكته.
سبب حياتها وخلودها
لم يكن هوميروس أول من نظم الملاحم أو منظومات الشعر القصصي، ولا مبتدعا لطرق إنشادها، وأساليب ترصيعها بشواهد العلم والتاريخ، فتلك سليقة ألفتها أمته، وأكثر الأمم في غوامض أيام البداوة والجاهلية، وقد حسبوا لمن تقدم من شعراء اليونان سبعين منظومة كملحمتيه منهما إلياذتان الكبرى والصغرى، وأوذيسية واحدة، وقد بادت جميع تلك المنظومات، ولم يقو على مكافحة الزمان سوى تينك المنظومتين، فقد بقيتا كلؤلؤتين براقتين في قلادة الأدب، وكسفتا بأشعتهما سائر ما بقي من نظائرهما، وخلدتا لليونان مجدا لا يمحوه تقادم العصور، وكرور الدهور.
ولم يشع شيوعهما بين البشر شيء من المنظوم والمنثور إلا كتب الدين، ولا تزالان كما كانتا منذ ثلاثة آلاف عام في المقام الأول بين نتاج القرائح.
وليس ما تقدم من إبداعهما خلاصة العلم والسياسة وتوابعهما من أسباب ذلك البقاء في شيء فإن طلاب العلم، ولا سيما في العصور الغابرة فئة ضعيفة تطلب العلم من أبواب أخرى تتلقنها من كتب وضعت لها، والعلم كل يوم في شأن يتقلب ويتغير، وينحط ويرتقي، فما صلح منه في الأمس لا يصلح في الغد، وما كان منه في اليوم صوابا ساطعا أصبح بعده خطأ فادحا، فلا بد من أن تكون ثمة أسباب ثابتة مغرسها في النفس، ومنبتها في القلب لا تتغير بتغير زمان، ولا تتأثر بترق وحضارة.
فإن هوميروس إنما نقر على أوتار الأفئدة فأثارها، ونفخ في بوق الأرواح فأطارها، ومزج الحقيقة بالخيال مزجا يخيل لك أنهما تآلفا فتحالفا، وسبر أعماق النفس في سذاجتها، وتحرى الفطرة في بساطتها، وهاج العواطف والشعائر، وتكلم بجلاء لا تشوبه مسحة التكلف، فأسهب موضع الإسهاب، وأوجز موضع الإيجاز، ومثل تمثيلا ناطقا، وفصل تفصيلا صادقا عن عقيدة وإخلاص.
وإذا أضفنا إلى ذلك بلاغة الشعر، وتناسق النظم، ودقة السبك، ورقة المعنى، والسهولة والانسجام ذهبت عنك غرابة ذلك الخلود.
قال غيزو:
48 «وإن ما يرى في شعر هوميروس من مزج الخير والشر، والضعف بالقوة، واتحاد الأفكار والمشاعر بمظاهر مختلفة، وتنويع الأفكار والأقوال، وبسط أحوال الطبيعة والأقدار على أنماط متباينة كل ذلك يبث الأميال الشعرية بما لا يماثله مثيل؛ لأن فيه أس كل أساس، وحقيقة الإنسان والعالم» وعندي أن من أقوى عوامل البقاء في الإلياذة والأوذيسية مع استجماع ما تقدم من الأسباب أن بذورهما وقعت من كف صالحة على أرض صالحة إذ نظمتا بلغة سهلة في عصرها، فلم يكن يغلق فهم شيء من معانيهما على أقل الناس علما، فشغف بهما القوم وتناولوهما وتناقلوهما، وحرصوا على ادخارهما؛ لأنهما مستودع الجمال، والمرء حريص على استبقاء كل جميل.
انتشارها ونقلها من اليونانية إلى سائر اللغات
اللاتينية
كان انتشار الإلياذة بين اليونان كانتشار نور الشمس عند بزوغها، فما كان يبرق منها بارق من فم الشاعر حتى يتهافت عليه كل رفيع ووضيع، ثم ما لبث أن تطرق هذا التهافت إلى الرومان، فنقلوها إلى لغتهم وترنموا بإنشادها، وشد شعراؤهم على التقاط دررها، وتحدي معانيها حتى أقاموا على تلك المعاني دعائم منظوماتهم الكبرى وفي مقدمتهم فرجيليوس كبير شعراء اللاتين.
الهندية والفارسية
وقد روى إليانوس المؤرخ
49
أن الهنود نقلوها إلى لغتهم، وأن ملوك الفرس كانوا يتغنون بها بالفارسية. ولعل الفردوسي استمد منها كثيرا من معاني الشهنامة، واتخذ الإلياذة مثالا لمنظومته الغراء.
السريانية
ولم تكن سائر الأمم أقل شغفا بها، فعلق بها السريان كغيرهم، ونقلها ثاوفيلس الرهاوي إلى لغته شعرا.
لغات الإفرنج
ولا تسل عما كان من علوق الإفرنج بها، فقد نقلت مرارا شعرا ونثرا إلى كل لغة من لغاتهم حتى صارت أشهر كتاب عندهم جميعا، وطبعت كل ترجمة منها مرارا عديدة.
وأشهرها ترجمة جيزارتي
50
ومنتي
51
إلى الإيطالية. ومنبيل
52
إلى الفرنسوية. وفوس
53
إلى الألمانية وپوپ وجايمن وكوپر
54
إلى الإنجليزية. وأصدق هؤلاء النقلة منتي، وهو وپوپ أبلغهم شعرا.
إغفال العرب نقلها إلى لغتهم
كان العرب من أحرص الملل على علوم الأدب، وأحفظهم للشعر، وأشغفهم بالنظم، ومع هذا فلقد يأخذك العجب لبقاء الإلياذة محجوبة عنهم وهي منتشرة هذا الانتشار بين قبائل الأرض، ومنظومة بلغة سامية كلغتهم يتناشدها الأدباء المقيمون بين ظهرانيهم في مقر الخلافة العباسية.
وإن لذلك أسبابا إذا تبيناها زال العجب لإغفالها في ما سلف مع وضوح الحاجة الماسة إلى تعريبها في هذا العصر، وإن مرجع تلك الأسباب إلى ثلاثة: الدين، وإغلاق فهم اليونانية على العرب، وعجز النقلة عن نظم الشعر العربي.
الإلياذة والنصرانية
اشرنا فيما مر إلى إقبال أمم أوروبا على الشعر الهوميري، وقلنا: «لم يتخلل إقبالهن فتور إلا عقود أعوام معدودات في بدء النصرانية». فإذا خذل المسيحيون هوميروس وهو معروف عندهم، ونبذوا شعره وهو متلو في مجالسهم، فما أحرى المسلمين في أوائل الإسلام أن يطرحوه ولا أثر له في أذهانهم، ويعرضوا عن أقواله وهم لا يعرفون منها شيئا.
كان هوميروس في ذروة مجده في الممالك الرومانية عند انتشار الدين المسيحي، فكان لا بد من تقويض أركان الوثنية، وهي ممثلة أصدق تمثيل في الشعر الهوميري، فبات إغفال ذلك الشعر ضربة لازب لحداثة عهد المسيحيين بدينهم ولزوم أخذهم به موردا صافيا لا تشوبه أساطير السلف من عبدة الأوثان، ولكن بعض الدعاة غالوا في اتخاذ الطرق المؤدية إلى تلك الغاية؛ فاتهموا هوميروس بابتداع البدع وتحريف آي التوراة؛ ليصوغ منها ما وافق مذاهب قومه من القصص المستنبطة منها كعصيان الطيطان وطردهم من الجنة، وتلبس فرسيس بصورة موسى أول أمره، ومماثلة بليروفون ليوسف الصديق، وأمثال ذلك مما أشرنا إليه في الشرح، ولهذا كانوا ينادون بتحريمها خشية من أن تفسد عقيدة الناشئة المتنصرة، وكان من لوازم قولهم أن هوميروس لم يكن الناقل لخرافات الأولين بل الواضع لها المنادي بها.
تلك كانت الحال بين عامة المسيحيين، وأما علماؤهم كالقديس إيرونيمس
55
فما زالوا مكبين على تلاوة أشعار هوميروس معجبين ببلاغتها وسمو معانيها.
وما رسخت قدم النصرانية في البلاد حتى أفرجوا عن هوميروس وإلياذته وسائر منظوماته، فانطلقت تلك الخرائد من عقالها، وبرزت بحلل قشيبة فعادت إلى اختلاب الألباب في مجالس الآداب.
الإلياذة والإسلام
وإن ما قيل عن النصرانية في نشؤها يصدق على الإسلام في قرونه الأولى، إذ لا ريب أن أئمة الأمة لو فرضنا وقوفهم ذلك الحين على محتويات الإلياذة لما ارتاحوا إلى بثها بين العامة؛ لئلا تكون من مفسدات الإيمان.
وزد على ذلك أن العرب لم يكادوا يخرجون من مهامه البداوة حتى ملكوا الأمصار، وانتشروا في سائر الأقطار، وأسسوا الممالك الكبار، وما استقر الملك للأمويين في الشام حتى بدت لهم الحاجة إلى استخراج كتب العلم، وما توطدت دعائم الدولة العباسية في العراق حتى نظم الخلفاء مجالس النقلة؛ لتعريب علوم المتقدمين من الفرس والهنود واليونان، فلاح لهم أنهم أحوج إلى العلوم منها إلى الشعر والأدب، وكانت حاجتهم الكبرى إلى علم الطب، ثم إلى علم الكلام للمناضلة عن الدين؛ فعمدوا إلى تعريب طب أبقراط وجالينوس، وفلسفة أرسطوطاليس ونظائرهما، وأغفلوا الإلياذة وجميع ما يجري مجراها من كتب الشعر والأدب.
ثم إنه ليس في لغات الأرض لغة يربو شعرها على الشعر العربي، ويزيد شعراؤها عددا على شعراء العرب وهم جميعا مخلصو الاعتقاد في شعرهم، ورعين في تعبده، فلا يخالون في الإمكان وجود شعر أعجمي يجاري قصائدهم بلاغة وانسجاما، ودقة وإحكاما.
فهذا أيضا كان من دواعي تقاعدهم عن الإقبال على شعر الأعاجم اكتفاء بما لديهم من درر ذلك البحر الزاخر.
على أنني أعتقد أنه لو طال زمن عظمة الدولة العباسية أو لو تأخر زمن تبوء المأمون أريكة الخلافة جيلين لكانت بعض مقاطيع الإلياذة تتلى الآن في أندية الأدب، ولا يطعن بهذا القول قيام دولة الأندلس بعد حين، واشتغالها في الأدب، فإن الأمويين الأندلسيين تفننوا بآداب العرب، ورقوا درجات في مرقاة الشعر، ولكنهم لم يضاهوا العباسيين في بغداد بشيء من إقبالهم على التقاط فلسفة الأعاجم وتعريب كتبهم.
وبعد هاتين الدولتين لم تقم للعرب دولة حريصة نظيرهما على اختزان العلوم من مخابئها، وادخار الآداب من مناشئها، فإن كلا من دولة الفاطميين بمصر، ودول المغرب كانت، منصرفة إلى مشاغل أخرى فضلا عن قلة النقلة في أزمانها من المتضلعين في لغات الأعاجم فوق لغتهم.
نقلة العرب
وهناك أيضا حاجزان طبيعيان وقفا عقبة صماء في وجه تعريب الإلياذة شعرا في القرون الأولى، ولعلهما لا يقلان شأنا عن حواجز الدين أو يزيدان وهما:
أولا:
أن معربي الخلفاء كابن الخصي، وابن حنين، وآل بختيشوع لم يكونوا عربا، وإن تفقهوا بالعربية على أساتذتها، فلم يكن يسهل عليهم نظم الشعر العربي، وهم إنما كانوا بنظر العرب علماء أكثر منهم أدباء، وإن كانوا حريصين على آداب لغاتهم حتى حلوا جيد السريانية بقلادة الإلياذة منظومة شعرا كانوا يترنمون به في مجالسهم، ولا يشذ عن هذه القاعدة إلا قليلون معظمهم من الفرس الذين تفرغوا لآداب العرب، فبرزوا فيها كابن المقفع، وهؤلاء أيضا لم يكونوا في عداد الشعراء.
وثانيا:
أن شعراء العرب أنفسهم لم يكونوا يحسنون فهم اليونانية، فلم يكن فيهم من يصلح لتلك المهمة.
وإن قيل: إن عجز النقلة عن الإجادة في نظم الشعر العربي لم يكن مانعا من تعريب الإلياذة نثرا كما عربت شهنامة الفردوسي. قلنا: «إن الارتباط بين الفرس والعرب كان أكثر منه بين العرب واليونان، وشتان بين ناظم الإلياذة وناظم الشهنامة، فذلك من عبدة الأصنام، وهذا من أدباء الإسلام، ومع ذلك فلم يقم بين العرب من تجرد لتعريب الشهنامة إلا بقيام ملك يحسن فهم العربية والفارسية طرب بتلاوة الأصل، فأراد أن يطرب أمته بتلاوة التعريب؛ فوسع بالرزق على رجل توسم فيه الكفاءة، وهيهات أن يتيسر ذلك في غير تلك الحال.
56
ثم إنه لا يخفى أن الشعر إذا ترجم نثرا ذهب رونقه، وبهت رواؤه». والظاهر أن هذا الحكم انطبق على تعريب الشهنامة، فأهملها الناس وإلا فما ذهبت ضياعا، وبقيت أثرا بعد عين نقرأ عنها في كتب التاريخ، وليس في الأدباء من روى لنا منها حديثا مذكورا.
وخلاصة القول أنه مهما يكن من الحوائل التي كانت تصد الأدباء عن نقل الإلياذة، وتحول دون إبرازها للعامة فما بقي لتلك الحوائل أثر في زمننا بل صار من لوازم العصر إلباسها حلة عربية تجاري لغتنا لغات أبناء الحضارة، وخصوصا أن ما فيها من أساطير دين الوثنية قد باد أثره، فصار من المحتوم أن يبقى خبره عبرة للمعتبر.
التعريب
حكاية المعرب في تعريب الإلياذة
سألني الجم الغفير من أصدقائي الأدباء كيف عربت الإلياذة؟ وما حداني إلى تعريبها؟ فكتبت الفصل الآتي، ولعله لا يخلو من فائدة لمن قضي عليه أن يسير في مثل هذه العقبة.
كلفت منذ الصغر بمطالعة الشعر القصصي، ولا سيما ما تعلق منه بالخياليات وعبادات الأقدمين، ولما كانت لغتنا تكاد تكون خلوا من ذلك الشعر، وفروض الدروس تستنزف الوقت، ولا تبقي معها بقية لقراءة ما شذ من مثل ذلك عن معيناتها؛ فتحول دون استقاء المياه من مواردها كنت ألتقط ما سقط عرضا من أفواه الأساتذة أو ورد شاهدا في كتب التدريس، فاجتمعت لدي نبذ ضمنتها بعض قصائد لفقتها، ولم أتم العقد الثاني من أعوام الحياة، ولا يطالبنني المطالع اللبيب بأمثلة من تلك القصائد ، فحسبي هزء نفسي بي دون هزئه إذ لا أتمالك من الضحك كلما خطر على البال شيء مما علق في الذاكرة، فهنالك يم مختبط اختلطت فيه آلهة الكلدان بآلهة اليونان والرومان، وأنزلت معبودات مصر موضع معبودات الهند والصين، واشتبه الذكور بالإناث، والتبست الأعلام الإفرنجية بالأسماء اليونانية على نحو ما دون الكتبة في كثير من أخبارهم عن أمم القرون الخالية، وهذا ولا بدع شأن كل كاتب تطاول إلى فن دخله من غير أبوابه.
فلما حكمت نفسي، وأصبحت متصرفا مطلقا في استعمال أوقات العطلة أدركت أنني لم أعرف شيئا مع سابق الظن بسعة الاطلاع، فانتهيت إلى حيث كان يجب أن أبتدئ، فعمدت إلى تلك المنظومات، ولم أكن بعد قرأت شيئا منها قراءة صحيحة ما خلا «الفردوس الغابر» لملتن، وقرأت جميع ما وصلت إليه كل كتاب بلغته إذا كنت من قرائها، وإلا فبترجمته إلى لغة أعرفها.
وكنت كلما قرأت منظومة من المنظومات القديمة والحديثة زاد إعجابي بالإلياذة؛ لأنها وإن كانت أقدمهن عهدا، فهي لا تزال أحدثهن رونقا، وأبهرهن رواء وأكثرهن جلاء، وأوسعهن مجالا، وأبلغهن جميعا. نسج صفوة الشعراء على منوالها فلم يبلغوا شأوها، واستقوا من بحرها فملئوا بحارهم، ولم ينقصوها شيئا.
فقلت: ما أحرى لغتنا العربية أن تحرر مثالا من هذه الدرة اليتيمة، فهي أولى بها ممن تناولها من ملل الحضارة، فليس في شعر الإفرنج ولغاتهم ما يوفر لها أسباب البروز بحلة أجمل مما تهيئه معدات لغتنا، فالشعر اليوناني بلغة قريبة إلى الفطرة كلغتنا، والبحث في جاهلية قوم كجاهليتنا، وليس في شعراء ملة من الملل من انطبقت معانيهم على معاني الإلياذة بالحكمة والوصف الشعري كالمتقدمين من شعرائنا.
فناجتني النفس بتعريبها مع علمي بخطورة الموقف، ووعورة المسلك وطول الشقة، وقلت: تلك ملهاة تقضي بها أوقات الفراغ، فإذا فتح الله وفسح في الأجل زففتها إلى القراء، وإلا فلا أقل من أن أروض نفسي بها وهي خير ما تروض به النفوس، وعزمت منذ نظمت أول بيت منها على أن لا أغادرها حتى آتي على آخرها.
تعريب الأصل
فخططت لنفسي خطة، وقلت: لأنظمن منها أمثلة من حيث اتفق لي وأعرضها على الأدباء، فأتنسم ما يكون من وقعها في النفوس، وأتبين مواطن الخلل، فخير لي أن أتبينها قبل التوغل في العمل، فتوكلت على الله وعمدت إلى ترجمة فرنسية منها كانت بين يدي، وألقيتها إلى جانب ترجمة إنكليزية، وأخرى إيطالية، وفتحت الكتاب الفرنسي من ثلثه الأول، فإذا بأخيل وأغاممنون يتخاصمان، وأخيل ينهال على أغاممنون بالسباب والشتيمة، فنظمت الأبيات التي مطلعها:
يا مليكا بنشوة الراح مثقل ...
فعربتها على الطريقة المألوفة في النظم، وكانت أول ما نظمت من الإلياذة. وذلك في أخريات سنة 1887 بمصر القاهرة. ثم فتحت الكتاب من ثلثه الثاني، فإذا بي في معترك عنيف في أول النشيد الخامس عشر فنظمت القصيدة التي مطلعها:
تجاوزت الطرواد حد الخنادق
يصلمهم فيها حسام الأغارق
فكانت قصيدة طويلة توثقت بها من اتساع اللغة للمعاني والقوافي، ونهجت فيها نهجا جديدا مما كنت أعددته في ذهني وستراه مفصلا في باب «النظم في التعريب».
ثم فتحت الكتاب من ثلثه الأخير، فإذا بي في الصفحة الثالثة من النشيد الثالث والعشرين، فرجعت إلى أوله، ونظمت منه نحو مئة بيت رجزا مصرعا ومقفى على أسلوب استحسنته وحسبته وافيا بمرامي لتعريب كل النشيد على سياقه.
فحملت جميع ما تجمع لدي من القصائد الثلاث بمسوداتها، وجعلت أعرضها على من زارني وزرته من الأدباء والشعراء ممن ألف الشعر العصري، ومن نشأ على انتهاج الشعر القديم، فاستحسنوا وجاملوا، فزدت بمجاملتهم نشاطا، وأنست من بعضهم ريبة وخشية علي من الملل والقنوط؛ لوفرة ما يتبع هذا العمل الشاق من العناء الفادح، وكثرة ما يستلزم من النفقات لو مثل بالطبع، وليس قراء العربية وطلاب أمثال هذا الكتاب ممن ينشط على المجازفة بمثل تلك النفقات، وشق النفس، وضياع الأوقات: على أن ذلك كان أقل ما تجزع له نفسي إذ أقدمت وليس بي جشع للربح من وراء هذا العمل بل أنا راض بالخسارة لو حصلت ليس ذلك ترفعا عن الكسب، ولكن لغرام في النفس تستسهل الصعب في سبيله.
فقلت : لقد حان إذن أوان الشروع، فرجعت إلى أول نشيد وأخذت في النقل تباعا حتى أكملته، ونظمت نصف النشيد الثاني، وكنت أثناء النظم أقابل الترجمات بعضا ببعض، فأرى فرقا يصعب علي معه تبين الرجحان لنسخة دون أخرى، فأوقفت النظم، وقلت: لا بد إذن من الرجوع إلى الأصل اليوناني إذ لا يصلح النقل من غير أصله.
وكانت معرفتي باليونانية قاصرة إذ ذاك لا تكاد تتجاوز القراءة البسيطة، وبعض أصول ومفردات لا تشفي غليلا، فأخذت أبحث عن أستاذ يروي غلتي، فأرشدت إلى عالم من الآباء اليسوعيين، وأبلغت أنه متضلع باليونانية تضلعه بالفرنسية، وكنت أعلم أن الآباء اليسوعيين لا يسعهم التفرغ لإلقاء دروس خاصة خارج مدارسهم، فكان لا بد إذن من رضاء الأستاذ وأذن الرئيس، فوفقني الله إلى الحصول على الأمرين، فشكرت لهما هذه المنة، وجعل أستاذي يلقنني أصول اللغة، ويفسر لي فصولا من الإلياذة، وأنا مكب على الدرس متفرغ للاستفادة، وبعد أن قضيت معه أشهرا، وعلمت منه أنه يسعني أن أستتم الدرس وحدي، وأن أتناول تعريب الإلياذة من أصلها مع الاستعانة بكتب اللغة وتفاسيرها، فارقته شاكرا ولبثت مدة أجهد النفس بالمطالعة ثم استأنفت التعريب.
وكان بنفسي شيء مما عربته من النشيد الأول والثاني، فرجعت إلى إمعان النظر فيه ومقابلته على أصله، فرأيت خللا ألجأني إلى التنقيح والتصحيح، فكنت لا أحجم عن تغيير البيت والبيتين، وربما أعدت نظم مقاطيع برمتها، ولم يقع لي شيء من هذه الإعادة في سائر الأناشيد إلا أن يكون في استبدال فقرة أو شطر بغيرهما أو تغيير قافية بأخرى مما يقع لكل ناظم، وفي ما سوى ذلك كنت أجهد النفس بإحكام البيت على قدر الاستطاعة قبل كتابته.
ولم أكد أستقر في مصر حتى حدا بي حادي الأسفار التي ألفتها منذ الصبا فبرحت القاهرة سنة 1888 وفي النفس شغف بها وحنين إليها، فانتهى بي التطواف إلى العراق بعد أن طرقت الهند، وأطراف العجم، فأقمت فيها زهاء سنتين اضطررت إلى طي الإلياذة في معظمهما، ولم يتسن لي العود إليها إلا بضعة أسابيع، على أنني لم أجتمع بأديب منها إلا عرضت عليه شيئا من منظومها وأدباء العراق مولعون بسماع الشعر.
ثم شخصت إلى الآستانة، واتخذتها مقاما طيبا لبثت فيه سبع سنوات كنت كثير التنقل في أثنائها بين الشرق والغرب، فيوم بسوريا، وسنة بأوروبا وأمريكا، والمرجع إلى الآستانة. وكانت الإلياذة رفيقي حيثما توجهت أختلس الأوقات خلسة فلا تفرغ اليد من عمل إلا عدت إليها، ولطالما مرت الأسابيع والأشهر، وهي طي الحجاب ثم هببت بها من رقدتها وعاودت العمل، وكثيرا ما حصل ذلك في رؤوس الجبال، وعلى متون البواخر وقطارات سكك الحديد، فهي بهذا المعنى وليدة أربع أقطار العالم.
وكنت حيث حللت أتوخى الاستفادة من أهل ذلك المحل، ولا سيما في الآستانة حيث هيأ لي حسن التوفيق أن اتصلت ببعض أدباء اليونان عشاق هوميروس وإلياذته كاستافريذس ترجمان السفارة الإنجليزية، وكاروليذس أحد أساتذة كلية خلكي اليونانية بالآستانة، وبعضهم من قراء العربية، فكنت أشاورهم في بعض ما التبس وأغلق، وهم لا يضنون وأقرأ لهم أجزاء من المنظوم العربي فتعروهم هزة الطرب مستبشرين بتعريب أعظم منظومة لأعظم شعرائهم.
وهكذا ظللت بين وقوف ومسير إلى أول صيف سنة 1895 فخرجت بعائلتي إلى مصيف فنار باغجه في ضواحي الآستانة، وظللت فيها أربعة أشهر فرغت في نهايتها من عناء التعريب.
كتابة الشرح
على أنني منذ شروعي في النظم كنت أطمح إلى ما وراء ذلك إذ لو عرضت الإلياذة على قراء العربية عارية من الشروح لما خالوها إلا هيكلا شعريا لا تربو فائدته على شيء مما بين أيديهم من الدواوين وما أكثرها في لغتنا.
فرأيت أن أعلق عليها شرحا أنتهج فيه أسلوبا جديدا لم ينتهجه أحد من الشراح بغية أن يأنس القارئ العربي بالرجوع في نظره إلى أخلاق أمته في جاهليتها، وبعض حضارتها والمشهور من أساطيرها وعباداتها، والمأثور من آدابها وعاداتها ومناهج شعرائها وأدبائها، ومواقف ملوكها وأمرائها وساستها وزعمائها، والإعجاب باتساع لغته في الوضع لكل معنى من المعاني الفطرية مع عجزها في الحال عن تأدية بعض الأوضاع العصرية، وجميع ما يتناول وصف حالة العرب ولغتهم وحالتهم الاجتماعية. كل ذلك بالمقارنة والمقابلة مع ما كان من نظيره في الأمم الغابرة، ولا سيما في أمم اليونان، ويرتاح المطالع الإفرنجي من قراء لغتنا إلى الولوج في باب لا أظن أحدا ولجه من قبل، فيبحث وينقب، ويسترشد فيرشد على ما جرى عليه في سائر الشؤون، ونحن عن معظم ذلك غافلون.
ولهذا لم يكن لي بد من مطالعة الأسفار الطوال والمجلدات الضخمة من كتب العرب والأعاجم في الأدب والشعر والتاريخ، وإذا ألقيت نظرك على باب الشواهد في العجم في ذيل الكتاب ورأيت أنني اضطررت إلى الاستشهاد بمئتي شاعر عربي بين جاهلي، ومخضرم، ومولد فضلا عما نقلته من شعر الأعاجم عذرتني على ما أضعت من الوقت في شرح الكتاب إذ ربما قرأت ديوان الشاعر كله طمعا ببيت واحد: ولو جمعت الزمن الذي صرفته في النظم لما زاد عن نصف مثله مما صرفته في تدوين الشرح.
وفي أوليات سنة 1896 دعاني داع حثيث إلى القاهرة، والنفس تشتاقها فانتهزتها فرصة، وانتقلت بعائلتي إليها ولكن أمورا هامة حالت دون تمثيل الكتاب بالطبع أخصها اشتغالي بعمل شاق آخر هو «دائرة المعارف». ولكنني كنت اختلس أويقات يسيرة أرتب الشرح في أثنائها حتى انتهيت منه عام 1902 فباشرت الطبع.
ولست بمعتذر لأبناء وطني عن انقضاء كل هذا الزمن قبل إنجاز العمل الأخير، فقد ألفنا التأني والمطل، وإن الواحد منا ليشرع في طبع مئتي صفحة فتمر الأعوام ولا يتمها. على أن ابن الغرب تعتريه الدهشة لمثل هذا التراخي، وهو في بلاده لا يكاد يسمع بتأليف كتاب حتى يراه مطبوعا تتداوله الأيدي، فلمثل هذا اللائم أقول: «إن الحالة عندنا على خلاف ما تعهد، فليس في بلادنا شركات تأخذ على نفسها طبع الكتب على نفقتها فتعد المال والرجال، بل لا بد عندنا وإن توفرت النفقات أن يتولى المؤلف في مثل هذه الأحوال طبع كتابه بنفسه، وإن استعان بصديق أو غيره على مراجعة مسودة فلا يغنيه ذلك عن أن يكون هو المصحح المنقح، وإذا زدت على هذا أن دواعي صحة الجسم تلجئني كل سنة إلى إيقاف العمل بضعة أشهر إذ أضطر أن أبرح مصر إلى لبنان أو غيرها من بلاد الله اتضح أني أسرعت في طبع الإلياذة مع إبطائي في إعدادها».
المعجم والمقدمة
وفي منصرم ربيع السنة الماضية (1903) كان الفراغ من طبع الإلياذة وشرحها، فحملت الكتاب معي إلى لبنان حيث قضيت الصيف، وانتهزت فرصة الفراغ والراحة لكتابة المعجم، وحالما وصلت القاهرة في آخر الصيف أخذت في إنشاء هذا الفصل وسائر فصول المقدمة: وهكذا فقد كان الفراغ من هذا الكتاب حيث كان الشروع فيه أي في قاهرة مصر، وأراني كما أسلفت لك لم أدخر وسعا في تحبير تعريبه وتنميقه، ولم آل جهدا في تطبيق شرحه وتنسيقه، فإن أحسنت وفيه منتهى جهدي فذلك من حسنات الاجتهاد، وإلا فحسبي أن أفتحه بابا يلجه من وفقه الله إلى سبيل السداد.
أصول التعريب
لقد جرى الكثيرون من نقلة لغات الإفرنج إلى العربية على أصول ابتدعوها لأنفسهم، فشطوا بأكثرها عن منهج الصواب، فأجروا قلمهم بل هو جرى بهم مطلق العنان يحبر ما يريد دون ما أراد الواضع، فمن متصرف بالمعنى يزيد وينقص على هواه فيفسد النقل ويضيع الأصل، ومن متسرع يضن بدقائق من وقته للتثبت من مراد المؤلف فيلتبس عليه فهم العبارة؛ فينقلها على ما تصورت له لأول وهلة، فتنعكس عليه المعاني على كره منه، ومن ماسخ يلبس الترجمة ثوبا يرتضيه لنفسه فيتقلب بالمعاني على ما يطابق بغيته، ويوافق خطته حتى لا يبقى للأصل أثرا، ومن عاجز يجهد النفس ما استطاع وهو وإن أجهدها ما شاء غير كفوء لخوض هذا العباب.
ثم يقوم هؤلاء الكتاب ويسمون ما كتبوا تعريبا، وأولى بهم أن يسموه تضمينا أو اختصارا أو معارضة أو مسخا.
ولكنهم جميعا أولى بالعذر والعفو من فئة أخرى يأتي الواحد منها على الكتاب فينقله كله أو بعضه، ثم يعرضه على الناس تأليفا من نتاج قريحته، وهؤلاء هم السرقة الدجالون.
على أن لدينا والحمد لله رهطا من ذوي الذمة والعلم يتوخون الصدق، ويتحرون الضبط والأحكام ، ويجيدون الرسم فيأتي مثالا صادقا، فإذا نقلوا قالوا نقلنا وإذا تصرفوا قالوا لغرض تصرفنا، وإن ضمنوا قالوا لأمر ضمنا، وإن عارضوا قالوا لسبب عارضنا، فهؤلاء إذا صحت كفاءتهم هم الذين يجب أن يصدق خبرهم، ويقتفى أثرهم.
معربو العرب
وإذا رجعنا إلى النقلة الأوائل رأينا أن زمرة كبيرة منهم كانوا من هذا الفريق الأخير، وهم على تفاوت إجادتهم في تأدية المراد ممن قصد الفائدة الحقة وتوخى الصدق والدقة.
وقد سلكوا في التعريب مسلكين نقلهما البهاء العاملي في الكشكول عن الصلاح الصفدي قال: «وللترجمة في النقل طريقان: أحدهما طريق يوحنا بن البطريق، وابن الناعمة الحمصي وغيرهما، وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية وما تدل عليه من المعنى، فيأتي الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه، وهذه الطريقة رديئة لوجهين: أحدهما: أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع كلمات اليونانية؛ ولهذا وقع في خلال التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها، الثاني: أن خواص التركيب والنسب الإسنادية لا تطابق نظيرها من لغة أخرى دائما، وأيضا يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات. الطريق الثاني في التعريب طريق حنين بن إسحاق والجوهري وغيرهما، وهو أن يأتي الجملة فيحصل معناها في ذهنه ويعبر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها، وهذا الطريق أجود ولهذا لم تحتج كتب حنين بن إسحاق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية؛ لأنه لم يكن قيما بها بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي، فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى إصلاح.
وإن هذين الطريقين اللذين أشار إليهما الصلاح الصفدي منذ زهاء ستة قرون هما المذهبان المعول عليهما في النقل حتى يومنا، وليس وراءهما مذهب ثالث في التعريب الصحيح؛ أما الطريقة الأولى فهي كما قال رديئة: «إذا أريد بها استجماع محصل المعاني» وهي أيضا أنها تذهب بطلاوة التركيب فلا تبقي لها أثرا، ولا تصلح للكتب التي تتداولها الأيدي من الخاصة والعامة، ولا ترتاح إليها نفس مطالع، وقلما تجد قارئا يقوى على استتمام صفحة منها، ولكنها مع هذا مفيدة لطالب اللفظ دون المعنى؛ ولهذا جرى عليها بعض كتاب الإفرنج في بعض التآليف المراد بها تعليم اللغات، وانتهجوها في نقل كثير من كتب الأدب والشعر كمنظومات هوميروس وفرجيليوس إذا أريد بها إفادة طلاب اليونانية واللاتينية دون طلاب الإلياذة والإنياذة، ويشترط لصحة فائدتها أمران: أولهما: أن يكتب الأصل بلغته ومردفا في اللغة المنقول إليها، والثاني: أن يكون بإزائها ترجمة أخرى على الطريقة الثانية التي هي طريقة حنين؛ لاستجلاء المعنى، وإلا اختلطت المعاني على المطالع وغاب عنه فهم قوة العبارة؛ لأن الجمل على الطريقة الأولى تأتي مختلة التركيب مقلوبة الوضع، فما يجب تقديمه في لغة يجب تأخيره في أخرى، وما يجب إثباته في الأصل يجب تقديره في النقل وهلم جرا، فلا طلاوة ولا إحكام، ولا إعراب، ولا انسجام.
أما الطريقة الثانية فهي التي عول عليها الجمهور لحصول الفائدة فيها من الوجه المطلوب، وهو نقل المعاني ورسمها رسما صحيحا ينطبق على لغة النقل ومشرب قرائها، فإذا قرأ المطالع فيها كتابا معربا، فإنما هو يقرأه عربيا، ولا يقرأه أعجميا كما يحصل في الطريقة الأولى؛ ولهذا يصح أن يقال: «إن طريقتنا إنما هي طريقة حنين بن إسحاق والجوهري».
مسلك المعرب في تعريب الإلياذة
علمت مما تقدم أن المعرب تحرى الصدق في النقل مع مراعاة قوام اللغة، وعسى أن يكون ممن كتب لهم التوفيق، وأقول زيادة للإيضاح أني وطنت النفس على أن لا أزيد شيئا على المعنى، ولا أنقص منه، ولا أقدم، ولا أؤخر إلا في ما اقتضاه تركيب اللغة، فكنت أعمد إلى الجملة سواء تناولت بيتا أو بيتين أو أكثر أو أقل، أسبكها بقالب عربي أجلو رواءه على قدر الاستطاعة، ولا أنتقل إلى ما بعدها حتى يخيل لي أني أحكمتها.
ولما كان الشعر العربي يختلف طولا وقصرا باختلاف أوزانه كان لا بد من حصول التفاوت في النسبة بين عدد أبيات الأصل، وعددها في النقل، وليس في اليونانية شطر وبيت كالعربية، فكل شطر منها بيت تام كالرجز في عرف بعض العروضيين، إذ يعتبرون كل شطر منه بيتا كاملا، ثم إنه كثيرا ما يحصل الترابط فيها بين بيتين وأكثر بما لا يجوز إتيان نظيره في العربية؛ ولهذا لم يكن في دائرة الإمكان أن ينقل البيت اليوناني بيتا أو شطرا عربيا، إذ كلما كثرت أجزاء بحر الشعر العربي زاد اتساعه لاستيعاب المعاني، فالطويل والبسيط مثلا يستوعب البيت منهما ما لا يتسع له السريع والمنسرح، وهذان تامين يستوعبان ما لا يتسع له المجزوء من سائر الأبحر، فبهذه النسبة يمكن اعتبار كل بيت من الطويل والبسيط بمثابة زهاء بيتين من الأصل اليوناني، ويقرب منهما الكامل التام، وكل بيتين من الخفيف والسريع، والمنسرح والرجز والمتقارب، والمتدارك والوافر، والرمل واحذ الكامل مقابل ثلاثة أبيات من اليونانية، فجاءت الأبيات العربية بين العشرة والأحد عشر ألف بيت نقلا عن أصل عدده بين الستة عشر والسبعة عشر ألف بيت.
وكنت أثناء مطالعتي ترجمات الإفرنج أنكر أمورا كرهت أن ينكرها غيري علي فاجتنبتها، مثال ذلك: تصرف البعض منهم تصرفا غريبا، فيبدلون معنى بآخر ولفظة بغيرها، ولهم في ذلك أعذار تافهة أشرنا إليها في مواضعها، وأغرب من هذا ما يقدمون عليه من الحذف والإضافة، فقد رأيت في بعض المواضع أبياتا كثيرة قضوا عليها بالحذف، وأبياتا كثيرة حسنت لهم أنفسهم إضافتها حتى إن أحدهم حاك من أربعة أبيات أربعة وثلاثين بيتا ضمنها معاني لم تخطر على بال هوميروس.
المحافظة على الأصل
فكان معظم همي أن لا أحجف مثل هذا الإحجاف، فلم أتصرف بشيء من المعاني، وحافظت على الألفاظ ما أمكن فإن حذفت لفظة فهي إما من مكررات الأصل التي يحسن تكرارها في لغتها، ولا يحسن في لغتنا، وإما من الألفاظ التي يمكن استخراجها من المعنى، وقد يمكن أن تكون من الألقاب والكنى التي يستغنى عن إيرادها كل حين، وإن زدت لفظة فهي؛ إما مما يقتضيه سياق التعبير العربي، وإما قافية لا تزيد المعنى ولا تنقصه ، وإن قدمت أو أخرت فكل ذلك في فسحة قصيرة يقتضيها السبك العربي، وكان هذا أعظم قيد قيدت به نفسي.
اجتناب الوحشي والحوشي
ثم إني اجتنبت ما أمكن حوشي الكلام ووحشيه؛ طمعا بأن لا تحقره الخاصة، ولا يغلق فهمه على العامة، وإذا اضطررت إلى إثبات كلمة لغوية فتلك؛ إما لفظة وضعية لا يمكن استبدالها بغيرها، وإما قافية لا يمكن العدول عنها، وإما تعبير ليس ما يفضله في الكلام المأنوس.
الألفاظ التي لا مرادف لها في العربية
وليت هذا منتهى الإشكال في تعريب الإلياذة، فقد اعترضت لي ألفاظ وتراكيب وصفية بعضها غير مألوف في العربية، وبعضها لا يقابله مرادف أصلا، فاضطررت إلى انتقاء ألفاظ يمكن إطلاقها على المعنى المراد ونبهت عليها، وإلى نهج أسلوب في التركيب الوصفي لا يختل معه نظام العربية، ودونك أمثلة يسيرة من ذلك:
لآلهة اليونان طعام وشراب يعبر عنهما بلفظتين لا مرادف لهما في العربية، فعبرت عن الشراب بالكوثر والسلسبيل كما أوضحت في الشرح: وعبرت عن الطعام بالعنبر؛ لأن هذا لفظها باليونانية (Αμβροσια)
وهو عندهم طعام وطيب بآن واحد كما أوضحت.
وعند القوم آلهة وشبه آلهة كثيرون لا شبيه لهم عند العرب، فلم توضع لهم أسماء خاصة بهم، فحيثما أتيت على لفظة من مثل هذا رجعت إلى معنى اللفظة اليونانية، وعربتها بما رادف ذلك المعنى أو قاربه، فدعوت ربات الغناء ومنشدات الآلهة «القيان» والقينة في العربية الجارية المغنية، ودعوت ربات اللطف البهجات والخرائد، فاللفظة الأولى أخذا عن مفاد المعنى، واللفظة الثانية تشبيها بالكلمة اليونانية التي تماثلها في اللفظ (Χαριτες)
كما أوضحت في الشرح.
وأما الموصوفات العلوية الموضوعة لمعنى معين، فقد سميتها بأسمائها التي تنطبق عليها في العربية، فسميت آلهة الفتنة «فتنة» ورب الهول «هولا» وإله الشقاق «شقاقا» والساعات «ساعات» والصلوات «صلوات» وهلم جرا.
التراكيب الوصفية
وفي الإلياذة تراكيب وصفية ملازمة لكثير من أعلامها، وقد يكثر تكرارها فيها إلى حيث يكره ذلك في العربية كوصف آخيل بخفة القدم، ووصف هكطور بهز الخوذة، والقول في نسطور أنه راعي الشعب، وفي زفس أنه أبو الآلهة والبشر، ففي مثل هذه الأحوال خففت التكرار وانتقيت ألفاظا حسبتها خفيفة على المسمع العربي فقلت: طيار الخطى، وهياج التريكة وما أشبه.
تعريب الأعلام
ثم إنه لم يكن بالأمر السهل تعريب الأعلام بما لا يمجه الذوق العربي وخصوصا أني أعلم أن قارئ أمثال الإلياذة لا بد أن يستثقل في أول الأمر توالي أعلام أعجمية لم يألف سمعه شيئا منها، ولكنه إذا نفر من تلاوتها أولا لا يلبث أن يألفها بعد تلاوة قصيدة أو بعض قصيدة.
وقد كانت لي هذه الأعلام في النشيد الأول عثرة في سبيل إحكام النظم، فكان لا بد من وضع أصول اعتمد عليها في سائر الأناشيد وليس في كتب العرب ما يماثل هذه الأصول، وإن في كتاب سيبويه بابا للتعريب، ولكنه اقتصر في معظمه على تتبع بعض الألفاظ مما استعمله العرب من أعلام الأعاجم وغيرها، والنظر في ما ألحق منها بالبناء العربي كبهرج، وجورب، ودينار، وديباج، ويعقوب، وإسحاق، وما لم يلحق به ككركم وخرم، وخراسان.
وجميع ما كتب الخفاجي في شفاء الغليل، وأبو حيان في ارتشاف الضرب من لسان العرب، والثعالبي في فقه اللغة، والسيوطي في المزهر، وغيرهم ممن طرق هذا الباب لا يكاد يتعدى الألفاظ الفارسية وقليلا من غيرها، ومحصله أيضا أنه لم يضع العرب قواعد مطردة يمكن الرجوع إليها في مثل هذه الحال، وإذا أردنا القياس على ما جاء في الكتب العربية من الأعلام اليونانية زادت المعضلة إشكالا، فإن أيدي النساخ قد لعبت بها كل ملعب هذا فضلا عن أنهم لم يجروا بها على نمط معلوم في زمن من الأزمنة إلا في أحوال محصورة وأسماء مشهورة، وزد على هذا أن أكثر أعلام الإلياذة غير مذكور في كتب العرب، ولا ريب عندي أن المعربين والمؤرخين توخوا ما أمكن حسن التطبيق في تعريب الأعلام، ولكن عدم جريهم على خطة واحدة وسنن معلوم ذهب بذلك الجهد ضياعا، فقالوا مثلا: «أرسطاطاليس، وأرسطوطاليس، وأرسطاليس، وأرسطوليس» وبتروه أيضا، فقالوا: «أرسط». وقالوا: «أسقليبيوس، وإسكولابيوس، وإسكليب، وأسقولاب» وأمثال ذلك كثيرة في النثر فما بالك لو نظمت شعرا.
تلاعب النساخ
وأما تحريف النساخ وتصحيفهم فمما لا يدركه حصر، فكثيرا ما تقرأ فيلقوس، وفيلثوس، وفيلنوس، وقيلبوس، وقنلتوس، ويكون المراد فيلبس أبا الإسكندر، وتقرأ بودنطه، وتيرنطه، وبيريظه، وبورنطا والمراد البيزنطية، وخذ أي كتاب شئت من كتب التاريخ من البيروني، والمسعودي إلى ابن الأثير وابن خلدون حتى المقريزي، وانظر فيه إلى الأعلام اليونانية، فيشكل عليك إرجاعها إلى أصلها.
وكثيرا ما نرى الاسم الواحد مكررا في صفحات وهو في كل صفحة بهجاء مختلف عما قبله وما بعده، فإذا فتحت القرماني طبع بغداد صفحة 236 وقرأت أنطياقوس، ثم رأيت أبطيحش بالباء والحاء فما أدراك أن المراد بهما أنطيوخوس إذا لم تكن هناك قرينة ترشدك.
ومن بلاء النسخ أيضا تحويل الفكر من علم مشهور إلى علم مشهور؛ فتضيع فائدة الرواية بجملتها كقولهم في يوليوس قيصر بولس أو بولوس، وأين بولس من يوليوس؟
ولا يصح إرجاع اللوم في خطأ النساخ إلى المؤلفين والمؤرخين إلا حيث اجتزءوا بالنقل من نسخ مصحفة، وإلا فلا ريب أن القاضي الفاضل مثلا لم يفسد شيئا من الأسماء الإفرنجية في ما كتب عن الصليبيين، فلم يقل الاستبارية والاستنارية، كما نقل ابن الأثير وابن خلدون بل قال: «الاسبتالية» على لفظها الإفرنجي (hospitaliers) .
عود إلى تعريب الأعلام
بقي علي أن أذكر الأصول التي جريت عليها في تعريب الأعلام:
جرت للإفرنج عادة في نقل كثير من الأعلام اليونانية عن الأصل اللاتيني دون اليوناني، ولا سيما في أسماء المعبودات، فإذا أرادوا أثينا آلهة الحكمة، قالوا: «مينرفا» بلفظها اللاتيني، وإذا أرادوا فوسيذ أو فوسيذون إله البحار قالوا: «نبتون» والسبب في ذلك أن معبودات الرومان كانت تماثل معبودات اليونان من أوجه شتى، ولها عند كل من الفريقين أسماء توافق روح لغته ومعانيها، وإذ كان الإفرنج أقرب عهدا بالرومان، وقد تناولوا أسماء معبوداتهم عن اللاتينية على ما دونها فرجيليوس وغيره من الشعراء والكتاب أطلقوا تلك الأسماء على الأعلام اليونانية أيضا لمماثلتها لها في المفاد، على أن كثيرين من محققيهم قد أخذوا يرجعون إلى الأصل ويذكرون كل علم باسم لغته.
وهكذا فعلت في تعريب المعبودات، فسميت كل معبود باسمه اليوناني، وإن كان لبعضها ذكر في كتب العرب، فقلت: زفس ولم أقل زاويش كما قال أبو نواس: «ولا المشتري» وإن ورد بهذا اللفظ في كتب العرب، وقلت: «هرمس» ولم أقل: «عطارد» وقلت: «آرس» ولم أقل: «المريخ» كما قال: العرب أو بهرام كما قال العرب والفرس، وذلك؛ لأن مشتري العرب، وعطاردهم، ومريخهم، وبهرامهم هم غير أمثالهم عند اليونان، وليس لهم في كتبنا وصف معين ينطبق على المفاد اليوناني، ولم أتوسع في شيء من هذا الباب إلا باسم عفروذيت، فقد أطلق عليها اسم الزهرة لقب الشبه بين الزهرتين في أساطير القومين.
وفي سائر الأعلام حفظت الأصل اليوناني مع مراعاة صحة اللفظ العربي على قدر الإمكان.
وتابعت العرب في الأسماء الشائعة، فأبقيتها على حالها، فلم أقل: «ألكسندر» أو «ألكسندروس» على ما يقتضيه اللفظ اليوناني؛ بل قلت الإسكندر لإجماع العرب على كتابته بهذا الهجاء.
وجاريت الإفرنج وكثيرين من كتاب العرب بزيادة حرف الهاء في أوائل الأسماء المبتدئة بحرف علة ثقيل، فقلت: «هوميروس، وهليس، وهيرا، وهيبا» كما قالوا: «هيرودس، وهيرودوتس، وهرقل، وهيلانة» مع أنه لو روعي رسم الحروف اليونانية وعلم أنه لا هاء فيها لوجب أن يقال: «إيرودس، وإيرودوتس، وإرقل وإيلانة». على أن العرب لم يراعوا ذلك في كل الأحوال؛ ولهذا قالوا: «أوميروس وأسيودس» بدل هوميروس وهسيودس.
ومثل ذلك يقال في زيادة العين في أوائل نحو عشرة أسماء، فإن ذلك يقربها إلى اللهجة العربية، فأخف علينا أن نقول: عسقلاف من أن نقول: أسقلاف وعفروذيت بدل أفروذيت.
وجاريت الإفرنج وبعض العرب أيضا في بتر بعض الأسماء، ولا سيما الطويل منها فقلت: طرطار بدل طرطاروس، وطفطام بدل طفطاميوس، ومريون بدل مريونس، وإسكمندر بدل إسكمندريوس، وفوسيذ بدل فوسيذون كما قال العرب: «هرقل» بدل «هرقليس»، و«تيوفيل» بدل «ثيوفيلوس» وخصوصا أن ملازمة هذه السين للأعلام اليونانية كملازمة الحركة والتنوين للمعرفة والنكرة، ففي الحركة العربية غنى عنها.
الحروف التي لا مقابل لها في اليونانية
وليس في اليونانية طاء ولا قاف، ومع هذا فهما كثيران جدا في الأعلام اليونانية واللاتينية المعربة، فقالوا: «أنطيغونس، وأنطيوخس، وقبرس، وقسطنطين، وقيصر» بدلا من أنتيغونس، وأنتيوخس، وكيرس، وكنستنتين، وكيسار، وأخالهم أحسنوا بالنظر إلى انطباق تعريبهم على اللهجة العربية، فجازيت من سلك هذا المسلك وقلت بالطاء: طروادة وطرتا، وطيطان وأمثالها، وبالقاف قرونس، وقبريون، وقليارس، وربما اجتمع الحرفان كما في طفقير.
ويقال مثل ذلك في الصاد، فهي ليست من حروف اليونانية، ومع هذا فقد قلت: صوقوس كما قالوا: صولون وصوفيا.
واليونانية خلو من حرف الدال، فكل دال فيها ذال، فراعيت في هذا الباب جودة اللفظ، وحافظت على إبقاء معربات المتقدمين على حالها فقلت: «الإسكندر، والإسكمندر، وداماس، ودردانيا بالدال، وذريون، وذيتر، وذيفوب بالذال».
الحروف التي لا مقابل لها في العربية
وفي اليونانية حروف ليست في الهجاء العربي كالڤاء
B
فهي مقام الباء في الحروف السامية، وموقعها موقع هذه أي ثانية في الحروف، فكما عبر اليونان بها عن بائنا لخلو لغتهم منها يجب أن نعبر عنها بالباء لخلو لغتنا من حرفهم، ويشمل هذا التعريف جميع الألفاظ التي يدخل هذا الحرف بهجائها، وهي كثيرة كباتيا، وبريسا، وبورس وبرياس.
وفيها حرف آخر لا مقابل له في العربية، وهو الباء الفارسية
II
فقد اخترت لها الفاء لقرب مخرجها إليها فقلت: «فريام، وفطرقل، وفوذالير» كما قالوا: فرسيس، وأفلون، وفيداس، ومن معربي القدماء من اختار لهذا الحرف الباء العربية، فقالوا: بطرس بخلاف كثيرين من معربي السريان الذين يقولون: فطرس، فعولت على هذا الوجه إلا حيث وقع تكرار الحرف أو ثقل اللفظ بالفاء، فأرجعته إلى الباء وقلت: «فينبس وبفلغونة، وأولمب» ولم أقل: «فينفس، وأولمف، وففلغونة»
ولا فرق في اليونانية بين الجيم والغين، فيعبر عنهما فيها بحرف واحد
مخرجه بين الغين العربية والجيمين، أي: الجيم المصرية والجيم السورية، فقد اخترت أن أعبر عنها بالغين، فقلت: «غلاطيا، وغرطينة» إلا في أحوال قليلة رأيت فيها الجيم أوقع في الأذن سواء كان مصريا أو سوريا كجيربنيا ومجبيس.
تنافر السين والثاء
والثاء والسين كثيرتان في الألفاظ اليونانية، وقد تجتمعان معا فيشكل على العربي لفظهما إذا كان أولهما ساكنا، ففي مثل هذا قلبت الثاء تاء فكتبت أغستين بدل أغسثين، وأثقل من ذلك اللفظ إذا وقعت الثاء بين سينين نحو منسثس فكتبتها منستس، وأما إذا كان الساكن الثاني، فإني أبقيته على حاله لسهولة لفظه إذ لا يصعب مثلا أن يقال ثسطور.
الپاء والڤاء
ومع أني تحاشيت الپاء الفارسية، والڤاء اليونانية في النظم فلم أتحاشهما في الشرح، فالعربية واليونانية لغتان قديمتان، وللنقلة فيهما أوضاع رأيت أن لا أتعداها في الشعر إلا فيما لم يطرقوا بابه رغبة في استبقاء الصبغة الفطرية على حالها، وأما الشرح فهو بلسان عصري، وقد اضطررت فيه إلى إيراد أعلام قديمة وحديثة وقع فيهما هذان الحرفان، فأبقيتهما على حالهما؛ دفعا للبس كما يفعلون مثلا في اليونانية الحديثة إذا أوردوا علما إفرنجيا أحد حروفه الباء، وهي ليست موجودة في لغتهم فيعبرون عنه بحرفين
MII
وليس من ذلك شيء في اليونانية القديمة.
طريقة ابن خلدون
وقد تعرض للقارئ أثناء مطالعته كتب الأعاجم حروف كثيرة لا نظير لها في العربية، فكان قدماء الكتاب من العرب يكتبونها بما يقارب لفظها من حروفهم، وهو نقص غير خاص بالعربية، ولكنه يتطرق إلى كل لغة من سائر اللغات، ومنشؤه من التباين في النطق بالحروف بين لغة وأخرى، فمهما كانت الصور التي يرسم بها الإفرنجي أكثر حروف الحلق، وبعض الحروف العربية كالحاء والعين والقاف والضاد، فليس بالأمر السهل عليه أن يتلفظ بها على وضعها العربي، ومع هذا فقد اتخذ لها بعض الكتاب الحديثين صورا فارقة تميزها بالرسم؛ دفعا للإشكال كأن يضعوا نقطة فوق حرف
k
ليشيروا أنها في الأصل قاف، وليست كافا، ونقطة فوق حرف
h
أو تحته ليشيروا أنها حاء وليست هاء، و
d
منقوطة يعبر بها عن الضاد، وإذا أريد بها الطاء ألحقوا بها حرف
h . والعين ساكنة يعبر عنها بضمة، ومتحركة بحرف حركتها مع الضمة المذكورة وهلم جرا.
وليس كتاب العصر بأول من انتبه إلى هذا البحث، فقد قال ابن خلدون في مقدمته: «ليست الأمم كلها متساوية في النطق بتلك الحروف، فقد يكون لأمة من الحروف ما ليس لأمة أخرى، والحروف التي نطقت بها العرب هي ثمانية وعشرون حرفا كما عرفت، ونجد للعبرانيين حروفا ليست في لغتنا، وفي لغتنا أيضا حروف ليست في لغتهم وكذلك الإفرنج والترك والبربر وغير هؤلاء من العجم، ثم إن أهل الكتاب من العرب اصطلحوا في الدلالة على حروفهم المسموعة بأوضاع حروف مكتوبة متميزة بأشخاصها كوضع ألف، وباء، وجيم، وراء، وطاء إلى آخر الثمانية والعشرين، وإذا عرض لهم الحرف الذي ليس من حروف لغتهم بقي مهملا عن الدلالة الكتابية مغفلا عن البيان، وربما يرسمه بعض الكتاب بشكل الحرف الذي يليه من لغتنا قبله أو بعده، وليس ذلك بكاف في الدلالة بل هو تغيير للحرف من أصله، ولما كان كتابنا مشتملا على أخبار البربر وبعض العجم، وكانت تعرض لنا في أسمائهم أو بعض كلماتهم حروف ليست من لغة كتابتنا ولا اصطلاح أوضاعنا اضطررنا إلى بيانه، ولم نكتف برسم الحرف الذي يليه كما قلناه؛ لأنه عندنا غير واف بالدلالة عليه، فاصطلحت في كتابي هذا على أن أضع ذلك الحرف العجمي بما يدل على الحرفين اللذين يكتنفانه؛ ليتوسط القارئ بالنطق بين مخرجي ذينك الحرفين فتحصل تأديته، وإنما اقتبست ذلك من رسم أهل المصحف حروف الإشمام كالصراط في قراءة خلف، فإن النطق بصاده فيها معجم متوسط بين الصاد والزاي، فوضعوا الصاد ورسموا في داخلها شكل الزاي، ودل ذلك عندهم على التوسط بين الحرفين، فكذلك رسمت أنا كل حرف يتوسط بين حرفين من حروفنا كالكاف المتوسطة عند البربر بين الكاف الصريحة عندنا والجيم أو القاف مثل اسم بلكين، فأضعها كافا، وأنقطها بنقطة الجيم واحدة من أسفل أو بنقطة القاف واحدة من فوق أو ثنتين
57
فيدل ذلك على أنه متوسط بين الكاف والجيم أو القاف، وهذا الحرف أكثر ما يجيء في لغة البربر، وما جاء من غيره، فعلى هذا القياس أضع الحرف المتوسط بين حرفين من لغتنا بالحرفين معا؛ ليعلم القارئ أنه متوسط فينطق به كذلك، فنكون قد دللنا عليه ولو وضعناه برسم الحرف الواحد عن جانبيه لكنا قد صرفناه من مخرجه إلى مخرج الحرف الذي من لغتنا، وغيرنا لغة القوم، فاعلم ذلك والله الموفق للصواب بمنه وفضله».
ذلك ما أشار به ابن خلدون منذ خمسة قرون، وهو مقتبس من كتابة أهل المصحف، فلم يعبأ الكتاب بكلامه أو هم لم يشعروا بحاجة ماسة إليه إذ كادت تنطوي صحف التعريب في الأعصر المتأخرة. على أن أبناء العصر أخذوا يشعرون بتلك الحاجة، فجعل بعضهم يميز بين رسم الحروف الأعجمية البحتة.
وليس عسيرا علينا أن نستمد من الفرس كثيرا من الحروف التي ليست في أوضاع العربية، فتسد مسد ما نقص عندنا من حروف الإفرنج؛ لأن الفارسية على ما لا يخفى أقرب بوضعها ومنشئها إلى لغات الغرب منها إلى اللغات السامية، فلما عدل الفرس بعد الإسلام عن حروفهم الفهلوية إلى الحروف العربية رأوا أن حروفها لا تؤدي جميع منطوق اللفظ بلسانهم، فزادوا من عندهم حروفا لما نقص عن مدلول لفظهم في لغة العرب، فرسموا الپاء والجيم، وفرقوا بين الجيم والزيم، وبين الكاف والگاف وزاد الترك الكاف الخرساء.
ولا يفوتن المطالع اللبيب أننا إذا أشرنا باستعمال هذه الحروف، فإنما نشير بها في الأعلام الأعجمية المعربة ليس إلا، وهي على كل حال لا تصلح في الشعر إذ يجب أن يبقى على صبغته العربية؛ ولهذا استعملتها في الشرح دون المتن.
على أن النقص ليس كله في الحروف الصحيحة، ولكنه يتمشى أيضا إلى الحركات أو حروف العلة الإفرنجية، فالحركات العربية ثلاث فقط يقابلها ثلاثة حروف علة، وليس منها شيء ينطبق على لفظ
è
و
o
و
u
و
eu
و
é
وأمثالها مما هو شائع في لغات الغرب.
ولبعض كتاب الترك طريقة حسنة في الدلالة على حركات ألفاظهم التي لا يمكن التعبير عنها بالحركات العربية، ذلك أنهم يتخذون من الفتحة فتحتين ثقيلة وخفيفة، وكذلك من الكسرة كسرتين، ومن الضمة أربع ضمات اثنتين ثقيلتين، واثنتين خفيفتين يسمون واحدة من كل من الثقيلتين والخفيفتين مبسوطة والأخرى مقبوضة، وباختلاف رسم هذه الحركات قائمة أو منحية أو مقلوبة فوق الحرف أو تحته تجتمع لديهم ثماني حركات يستتمون بها التعبير عن جميع ما يقتضيه منطوق لسانهم.
وليست العربية في حاجة إلى شيء من ذلك للدلالة على منطوق ألفاظها فحركاتها كافية وافية، ولكن الحاجة فيها إلى ما يمثل بعض منطوق اللغات الأعجمية كما تقدم.
ولقد وضع الشيخ إبراهيم اليازجي منذ بضع سنوات أربع حركات تمثل بعض الحروف الفرنسية وهي ترسم فوق الحروف فتدل على لفظ
Ui
و
ć
و
o
و
u
و
eu . وقد جرى فيها على الجمع بين حركتين أو ثلاث مراعيا بذلك مخارج الحركات كما راعى ابن خلدون مخارج الحروف.
وإن في استعمال هذه الحركات مع الحروف الفارسية مسهلا كبيرا للدلالة على أصل كثير من الحروف الأعجمية، وقد لا يصعب مع التوسع بها قليلا، والاصطلاح على أوضاع لسائر حروف الأعاجم التي لا نظير لها في العربية والفارسية أن يتوصل كتاب العرب إلى الدلالة على منطوق جميع الحروف في سائر اللغات، وإن كان النطق ببعضها يظل مستحيلا على من لم يألف قراءة اللغة المعربة أعلامها، والتلفظ بحروفها الأصلية، وعلى كل حال لا يجوز الإكثار من هذه الاصطلاحات، ولا يسوغ استعمالها إلا في أحوال خاصة.
النبر
وقد راعيت النبر، أي: موقع المد في اللفظة (accent)
ما أمكن فقلت مثلا: آرس ولم أقل أريس إلا حيث اضطرتني ضرورة الشعر، ورجائي أن يكون ذلك قليلا.
التصرف بالحروف والحركات
ولم أتصرف في الحروف والحركات إلا فيما ندر، ووجهتي في ذلك تقريب اللفظة لمسمع القارئ العربي دون أن أعبث بمادة الأصل كما قلت مثلا: صفية تعريبا لاسم أنثى أصلها صفيو أو سفيو.
وأما حروف العلة التي نعبر عنها بحركات فقد تحاشيت تغييرها عن مواضعها كما وقع في كثير من كلام العرب في الشعر، ولا سيما المولدين منهم كقول ابن هانئ:
ونحت بنو العباس منك عزيمة
قد كان يعرفها المليك الهرقل
وكان حقه أن يقول هرقل، فغلبته القافية، وأمثال هذا كثيرة في شعر المتنبي وأبي تمام وغيرهما.
الألفاظ المعربة من اليونانية
وقد نبهت على الكلمات اليونانية الأصل كالأسطول والمينا، والليمان، والنوتي، وما يشتبه في كونه يونانيا كالعفريت والعنبر وما يشابه اليونانية كالخريدة.
هذا جل ما توخيته؛ إحكاما لتعريب الإلياذة وحاشا أن أزعم الفلاح بكل ما توخيت أو أدعي الصلاح بكل ما تحريت، ولكنه لا يريبني أن أدعي إخلاص النية، وصدق الاجتهاد، فقد أتيت ما أتيت وأنا واثق من نفسي أنها لم تدخر جهدا في هذا السبيل.
النظم في التعريب
لا بد للشارع في تعريب منظومة كالإلياذة أو نظم ملحمة على مثالها من أن يقف طويلا، ويتردد برهة قبل أن يعين أوزان منظومته وقوافيها، وليس لنا في أوضاع السلف أصول نرجع إليها في مثل هذه الحال، وهيهات أن يتسنى وضع مثل هذه الأصول فيتقيد كل بحر من بحور الشعر بباب من أبوابه أو تتعين كل قافية من القوافي لمعنى من المعاني، فقد نظم العرب كل معنى على كل بحر وكل قافية وأجادوا، والقريحة الجيدة نقادة خبيرة إذا طرقت بابا انفتح لها ملء رغبتها، فتقع على البحر والقافية وهي لا تعلم من أين تأتى لها أن تقع عليهما، وإنما هو الشعور الشعري يدفعها إلى حيث يجب أن تندفع.
فالشاعر المجيد إذا تصور أمرا، فإنما يتصور له ذلك الأمر على كماله فتهيئ له السليقة جمال الشكل كما هيأت له جمال المعنى، فيجتمع له أحكام التناسب بين اللفظ والمعنى، والوزن والقافية، فكل بيت بنى عليه قصيدته، فهو الأساس الذي يصح أن يستند إليه ويبني عليه.
ولا يخرج عن هذه القاعدة إلا الشعر المنظوم لأغراض معلومة، ودعت الحاجة إلى تقييده بقيود لا مناص له منها كالأراجيز المنظومة في العلوم، وبعض الموشحات والأغاني المربوطة بأنغام معينة، فالشاعر مقيد فيها بنمط لا يتيسر له العدول عنه إلى غيره.
وفي ما سوى ذلك فالشاعر مطلق اليدين يتصرف بالشعر كيف شاء، وله أن يرتضي ما تيسر له من الأوزان والقوافي، وهي في الغالب تبرز له من نفسها بشكلها الأنيق وقوامها الرشيق.
على أن قريحة الشاعر، وإن كان مجيدا ليست كيد النساج تنطلق في العمل أيان حركها العامل، فقد يضطرب الجنان، وينحبس اللسان، والذهن وقاد، وقد يكون القلم سيالا، فيجف فيه المداد، فالإمساك عن النظم في مثل هذا الاعتقال خير من إجهاد النفس فلا يلبث العقال أن ينحل من نفسه، وإذا طال الخمول، فليشحذ الشاعر قريحته بتلاوة جيد الشعر، فهو كالجلاء للسيف الصدئ.
ولكنه قد يحصل خلاف ما تقدم، فتتراكم المعاني وصورها، وتتدفق التخيلات تدفقا يكاد يذهب بها شتاتا، فيتهيأ للشاعر رسم مطلعه ببيتين أو أكثر على أبحر مختلفة، فيحار في الاختيار، ويميل إلى الاسترشاد.
أوزان الشعر وأبوابه
ولهذا رأيت أن أذكر في ما يلي ما تيسر لي استخراجه من شعر العرب بالنظر إلى ترابط بحور الشعر بمواضيعه وأبوابه، فقد راعيت هذا الترابط في بعض الأناشيد؛ فأدت تلك المراعاة إلى فائدة يحسن التعويل عليها في بعض الأحوال.
ولا شك أن العروضيين نظروا إلى أبحر الشعر من هذه الوجهة، ولكنهم لم يزيدوا على تسميتها بأسماء تنطبق توسعا على مسميات مواضيع القصائد المنظومة عليها فقالوا: هذا طويل، وذاك بسيط، وذلك خفيف أو سريع وهلم جرا، ووقفوا عند هذا الحد.
ولكنه يستفاد من هذه التسمية أن لكل بحر ساحلا يقف عنده، ويرشد اسمه إليه فإذا قلنا: هذا بحر طويل علمنا أنه لا يسوغ أن ننظم عليه الأهازيج والموشحات والأغاني، وإذا قلنا: هذا بحر مقتضب أو مجتث علمنا أنهما لا يصلحان للمنظومات على إطلاقها، ولا يصح فيهما تدوين الروايات والتواريخ.
ولو أردنا أن نضع أصولا وافية لهذا البحث لوجب أن نرجع إلى منظوم نوابغ الشعراء، ونقابل بين أبوابه وبحوره؛ فتظهر لنا أغلبية كل وجه من كل بحر، وهو بحث طويل لا يتسع له هذا المجال.
فحسبنا إذا فتحا لهذا الباب أن ننبه إليه، ونذكر موجزين خلاصة ما اتضح لنا بالتطبيق والمقابلة.
فالطويل
بحر خضم يستوعب ما لا يستوعب غيره من المعاني، ويتسع للفخر والحماسة والتشابيه، والاستعارات وسرد الحوادث، وتدوين الأخبار، ووصف الأحوال، ولهذا ربا في شعر المتقدمين على ما سواه من البحور؛ لأن قصائدهم كانت أقرب إلى الشعر القصصي من كلام المولدين، خذ مثالا لذلك معلقات امرئ القيس ، وزهير، وطرفة، ولامية الشنفري، وقصيدة عبد يغوث الحارثي التي مطلعها:
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا
فما لكما في اللوم نفع ولا ليا
والبسيط
يقرب من الطويل، ولكنه لا يتسع مثله لاستيعاب المعاني، ولا يلين لينه للتصرف بالتراكيب والألفاظ مع تساوي أجزاء البحرين، وهو من وجه آخر يفوقه رقة وجزالة؛ ولهذا قل في شعر أبناء الجاهلية، وكثر في شعر المولدين، مثال الشعر الجاهلي قول تأبط شرا:
يا عيد ما لك من شوق وإيراق
ومن خيال على الأبواب طراق
وقول عبدة بن الطبيب:
هل حبل خولة بعد الهجر موصول
أم أنت عنها بعيد الدار مشغول
ومثال شعر المولدين قول ابن زريق:
لا تعذليه فإن العذل يوجعه
قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
وقول أبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
والكامل
أتم الأبحر السباعية وقد أحسنوا بتسميه كاملا؛ لأنه يصلح لكل نوع من أنواع الشعر، ولهذا كان كثيرا في كلام المتقدمين والمتأخرين، وهو أجود في الخبر منه في الإنشاء، وأقرب إلى الشدة منه إلى الرقة ومنه معلقتا عنترة ولبيد، وقصيدة الحادرة قطبة بن جرول:
بكرت سمية بكرة فتمتع
وغدت غدو مفارق لم يربع
وإذا دخله الحذذ وجاد نظمه بات مطربا مرقصا، وكانت به نبرة تهيج العاطفة كقولهم:
يا دمية نصبت لمعتكف
بل ظبية أوفت على شرف
بل درة زهراء ما سكنت
بحرا ولا اكتنفت ورا صدف
وهو كذلك إذا اجتمع فيه الحذذ والإضمار كقول المخبل السعدي:
ذكر الرباب وذكرها سقم
فصبا وليس لمن صبا حلم
وقول الحارث اليشكري:
لمن الديار عفون بالحبس
آياتها كمهارق الفرس
والوافر
ألين البحور يشتد إذا شددته، ويرق إذا رققته، وأكثر ما يجود به النظم في الفخر كمعلقة عمرو بن كلثوم، وفيه تجود المراثي، ومنها كثير في شعر المتقدمين والمتأخرين كقول الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخرا
واذكره لكل طلوع شمس
وقول المهلهل:
أهاج قذاء عيني الإذكار
هدوا فالدموع لها انحدار
وحسبك من شعر المولدين مرثية أبي الحسن الأنباري:
علو في الحياة وفي الممات
لعمرك تلك إحدى المعجزات
ومرثية المتنبي:
نعد المشرفية والعوالي
وتقتلنا المنون بلا قتال
والخفيف
أخف البحور على الطبع وأطلاها للسمع، يشبه الوافر لينا ولكنه أكثر سهولة، وأقرب انسجاما، وإذا جاد نظمه رأيته سهلا ممتنعا لقرب الكلام المنظوم فيه من القول المنثور، وليس في جميع بحور الشعر بحر نظيره يصح للتصرف بجميع المعاني، ومنه معلقة الحارث بن حلزة اليشكري.
والرمل
بحر الرقة فيجود نظمه في الأحزان والأفراح والزهريات؛ ولهذا لعب به الأندلسيون كل ملعب وأخرجوا منه ضروب الموشحات، وهو غير كثير في الشعر الجاهلي، وأكثره في مثل ما تقدم ومع هذا فلعنترة فيه شيء من الحماسة، وللحارث اليشكري قصيدة وصفية إخبارية أبدع فيها ومطلعها:
عجب خولة إذ تنكرني
أم رأت خولة شيخا قد كبر
والسريع
بحر يتدفق سلاسة وعذوبة يحسن فيه الوصف وتمثيل العواطف، ومع هذا فهو قليل جدا في الشعر الجاهلي، ومنه قول الخنساء:
وصاحب قلت له صالح
إنك للخيل بمستمطر
والمتقارب
بحر فيه رنة ونغمة مطربة على شدة مأنوسة، وهو أصلح للعنف منه للرفق، ومنه قصيدة بشامة بن عمرو:
هجرت أمامة هجرا طويلا
وحملك النأي عبأ ثقيلا
وقصيدة ربيعة بن مقروم:
من آل هند عرفت الرسوما
بجمران قفرا أبت أن تريما
والفرس يصرعونه كالرجز، وعليه نظمت شهنامة الفردوسي.
والمحدث أو متدارك الأخفش
بحر أصابوا بتسميته الخبب تشبيها له بخبب الخيل، فهو لا يصلح إلا لنكتة أو نغمة أو ما أشبه وصف زحف جيش أو وقع مطر أو سلاح، وهو قليل في الشعر القديم والحديث.
والرجز
ويسمونه حمار الشعر بحر كان أولى بهم أن يسموه عالم الشعر؛ لأنه لسهولة نظمه وقع عليه اختيار جميع العلماء الذين نظموا المتون العلمية كالنحو والفقه والمنطق والطب، فهو أسهل البحور في النظم ولكنه يقصر عنها جميعا في إيقاظ الشعائر، وإثارة العواطف، فيجود في وصف الوقائع البسيطة، وإيراد الأمثال والحكم.
تلك هي الأبحر العشرة التي نظمت عليها الإلياذة، فقد ترى النشيد كله بحرا واحدا، وقصيدة واحدة، وقد تتعدد فيه الأبحر والقصائد على مقتضى ما تراءى لي من سياق الكلام.
وأما الأبحر الستة الباقية وهي
المضارع والمقتضب، والمجتث، والهزج، والمديد، والمنسرح
فالأربعة الأولى منها لا تصلح لقصرها لمثل الإلياذة، ولا يجود نظمها في ما خلا الأناشيد والتواشيح الخفيفة، والمديد قل من ينظم عليه وهو ثقيل على السمع، والمنسرح لم يتفق لي نظمه في الإلياذة لغير سبب مقصود.
القوافي
القوافي والأوزان اليونانية والإفرنجية
إذا سمع العربي لفظة «شعر» علم فورا أن المراد به بالنظر إلى اللفظ الكلام المقفى الموزون، ورسخت في ذهنه القافية رسوخ الوزن، وليس الأمر على هذا الإطلاق في سائر اللغات إذ ليس في اليونانية ولغات الإفرنج أبحر وتفاعيل، فإنما هذه من خصائص لغة العرب، ومن حذا حذوهم من أبناء الشرق كالسريان، والفرس، والترك، وأما بنو الغرب، فلهم أقيسة وأوزان خاصة بهم، فالقياس عبارة عن عد الأجزاء أو المقاطع التي يتألف منها الشطر أو البيت، والغالب فيها أن تكون اثني عشر مقطعا، وهو ما يسمونه بالإسكندري نسبة إلى إسكندر دوبرناي، وهو أشبه شيء برجز العرب، وهذا القياس البسيط يقوم عند الإفرنج مقام جميع أبحر الشعر وتفاعليه عند العرب، وأما الإلياذة وما جرى مجراها من الشعر اليوناني ففيه الوزن تزيد أجزاؤه وتنقص بحسب التفاعيل، فهناك أسباب خفيفة وثقيلة تتألف منها أوتاد مجموعة ومفروقة تقوم مقام التفاعيل العربية، والأساس في كل ذلك طول المقطع أو قصره، وكون حرف العلة القائم مقام الحركة في العربية ممدودا أو غير ممدود، وبعبارة أخرى يراعى في المقام الأول موضع النبرة من اللفظة.
وأما القافية فليست من لوازم الشعر في كل اللغات، فالفرنسوية لا يصلح شعرها بدون قافية والإنجليزية فيها الشعر المقفى وغير المقفى، ومثلها الإيطالية والألمانية، فبهذا الاعتبار نقلت الإلياذة إلى لغات الإفرنج بالشعر المقفى كترجمة بوب، والشعر غير المقفى كترجمة منتي، وأما الأصل اليوناني فهو موزون غير مقفى وقافية كل بيت قائمة بنفسها لا تراعي فيها المماثلة لأية قافية كانت من القصيدة أو النشيد.
القوافي في لغة العرب
والعربية لا يصلح شعرها بدون قافية؛ لأنها لغة قياسية رنانة يجب أن يراعى فيها القياس والرنة، وفيها من القوافي المتناسبة ما يتعذر وجود نظيره في سائر اللغات، فلا يسوغ لها أن تبرز عطلا مع توفر ذلك الحلي الشائق، فإذا اقتصر الإفرنج على صوغ شعره كالرجز العربي لكل شطرين قافيتان متناسبتان ينتقل منهما إلى غيرهم، واضطر إلى تكرارهما بعد حين أو لو اختار أن يعري شعره من القوافي بتاتا، فعذره في ذلك أن لغته هكذا خلقت، بل لو أجهد نفسه في مواضع كثيرة لتعذر عليه تعزيز قافيتين بثالثة، والشاعر العربي بخلاف ذلك، فإن كثيرا من ضروب القوافي تنهال عليه انهيال الغيث، وإذا انحبست فلا تنحبس إلا لقصر باع أو لقرع باب ضيق أو لتجاوزه الحد في إطالة القصيدة المنظومة على قافية واحدة.
تناسب القوافي والمعاني
وقوافي الشعر كبحوره يجود بعضها في موضع، ويفضله غيره في موضع آخر وحسبك دليلا أن جميع قراء الشعر يطربون لبعض القوافي دون البعض الآخر، وإذا نظم شاعر واحد قصيدتين على بحر واحد بمعنى واحد، ونفس واحد، فلا ريب أن القافية الغناء تميل بالسامع إلى إيثارها على أختها، ولا ريب أن اختيار قافية القصيدة أبعد مثالا من اختيار بحرها، وذلك بنسبة ما يربو عدد القوافي على عدد البحور والمرجع في ذلك إلى سلامة الذوق وغزارة المادة، فالقريحة الجيدة في غنى عن أصول توضع لها بهذا المعنى لو فرضنا من الممكن وضع مثل هذه الأصول، فهي من نفسها تقع على القافية والبحر بلا جهد ولا تردد. ومع هذا فلا بأس من إيراد بعض ملاحظات تتراءى للناظم أثناء النظم، وللقارئ أثناء المطالعة.
الشعر كالنغم الموسيقي والقافية رسته أو قراره، فحيثما جاد النغم وتناسق إلى منتهاه حسن وقعه في الأذن وانشرح له الصدر، وطربت له النفس، فكل نغم أطرب أرباب الصناعة وذوي الأذن السماعة، فهو الحسن، وهكذا الشعر فلا يحسن وقعه في نفوس قرائه وسامعيه ما لم يكن جيدا، وقد يستهان بالمعنى البليغ لضعف قافية أو وقوعها في غير موضعها.
القوافي الضيقة والثقيلة
وأول ما يجدر بالشاعر اجتناب القوافي الصعبة الضيقة، فإنه يضطر معها إلى استعمال الكلام المنبوذ والوحشي المهمل، ويضيق في وجهه باب التصرف بالمعاني على ما يتصورها، فيعضل عليه النظم وعلى قارئه الفهم، ولنضرب لذلك مثلا نابغة من نوابغ الشعراء أبا الطيب المتنبي. فخذ قصيدته التي مطلعها:
أمساور أم قرن شمس هذا
أم ليث غاب يقدم الأستاذا
وقابلها بمعظم شعره فيبدو لك من استغلاق العبارة والتكلف ما يحملك على الظن أنها ليست من نظمه لو لم تكن مثبتة في ديوانه، وإن أردت برهانا أقرب فانظر في محبوكات صفي الدين الحلي، وكلها منظومة في باب واحد، واقرأ الثائية، والخائية والظائية، وإن كنت صبورا جلدا فأتمم قراءتها من أولها إلى آخرها، وقل لي بعد ذلك رأيك فيها.
ففي مثل هذا المأذق الضيق يضطر الشاعر إلى اتخاذ جميع البيت تتمة للقافية مع أن الغرض من القافية أن تكون تتمة للبيت مندمجة في معناه، فإذا كره في القافية وهي كلمة واحدة أن تكون حشوا للبيت، فكم يكره أن يكون جميع البيت حشوا للقافية ما لم يكن مبنيا عليها لغرض مقصود.
رنة القافية
وكما أن العرب نظموا جميع المعاني على جميع البحور، فقد كان هذا شأنهم في القوافي، فلم يقيدوا قافية بباب من الأبواب، وخير للقوافي أن تبقى مطلقة يتخير منها الشاعر ما شاء فتأتيه أرسالا، فإن سلم ذوقه جاءته منقادة طوعا فحلت محلها، وإلا فلا يسلم الذوق كرها.
ولكنه يجوز للباحث أن يلقي نظره على منظومات الشعراء، ويمحصها بالنقد والمقابلة، فإذا فعلنا ذلك بدا لنا مثلا: أن القاف تجود في الشدة والحرب، والدال في الفخر والحماسة، والميم واللام في الوصف والخبر، والباء والراء في الغزل والنسيب، وإنما هو قول إجمالي إذا صح من باب التغليب فلا يصح من باب الإطلاق؛ لأن مناحي التحول من نغمة إلى أخرى في قافية الحرف الواحد أكثر من أن تحصى، فنغمة الراء مضمومة تختلف عنها مكسورة ومفتوحة، وهي وما قبلها متحرك غيرها وما قبلها ساكن أو ممدود بحرف علة ، ورنتها في بحر تختلف عنها في بحر آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية له.
وغاية ما يقال في هذا الباب أن المعاني الشعرية كاللآلئ المنثورة لا مرشد إلى إحسان نظمها في سمطها خير من سليقة الناظم، فإن جادت الصناعة بهرت البصر وإلا جاءت ركاما بعضها فوق بعض، وذهب خلل بنائها بنضارة روائها.
جوازات الشعر
ليس المقام مقام بحث في بيان اللغة وعروضها، ومع هذا فلا بد لي من إيراد نبذة يسيرة في ما رأيت اجتنابه وإتيانه من الجوازات الشعرية؛ استتماما لبيان النهج الذي نهجته في التعريب.
لو أراد الشاعر أن يحتج لكل خطأ يرتكبه في النظم بشاردة من شوارد شعر العرب لما عدم سبيلا إلى التخلص من معظم ما يتورط فيه عجزا وجهلا، على أن الطويل الباع القويم اليراع تأبي نفسه أن يتورك على شذوذ فارط وقدح ساقط، ولو كان صاحبهما من شيوخ الشعراء كامرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى. فأي شاعر مجيد يرتضي جزم المضارع بغير جازم بناء على ورود ذلك في معلقة زهير بقوله:
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
ومن يقبل على إيراد المتنافرات في شعره اقتداء ببيت فذ لامرئ القيس إذ قال:
غدائرها مستشزرات إلى العلى
تضل العقاص في مثنى ومرسل
بل من يقدم اليوم على قبض مفاعيلن الأولى من أحد شطري الطويل كما جاء في الشطر الثاني من بيت امرئ القيس بآخر لفظة «عقاص»، ومثله قول طرفة:
أمون كألواح الأران نصأتها
على لاحب كأنه ظهر برجد
وقول الشنفري وقد قبضها في الشطر الأول:
غدا طاويا يعارض الريح هافيا
يخوت بأذناب الشعاب ويعسل
ولا تخلو قصيدة من شعر الجاهليين من مثله، جاز لهم ذلك لنغمة كانت لهم في تلاوة الشعر يضيع معها الفرق في الطويل بين مفاعيلن ومفاعلن، وليست للمولدين تلك النغمة إلا في شيء من إنشاد أهل العراق، ويضارعهم بها الفرس في إنشاد الشعر العربي والفارسي إذ يمرون على ياء مفاعيلن مرا خفيفا، فلا يشعر بحذفها إذا حذفت وقد يسكنون اللام ولا حرج.
وقد ضبط العروضيون جوازات الشعر، ولكن لكل ناظم ضعفا من وجه، فتكثر استباحته في ضروب لا يستبيحها غيره، ويمتنع الواحد عما لا ينكره الآخر؛ ولهذا رأيت أن أذكر ما أنكرت، وما لم أنكر من تلك الجوازات:
استبحت صرف ما لا ينصرف حيث اقتضاه الوزن بلا تكلف إلى منعه.
قصرت الممدود قليلا، ولم أستبح مد المقصور مطلقا.
لم أصل المقطوع إلا بهمزة أن بعد لو، ولم أقطع الموصول إلا في أول الشطر وهذا قليل جدا.
لم أشدد المخفف، ولم أخفف المشدد إلا إذا كان حرف قافية.
لم أسكن المتحرك إلا في ضمير الغائب والغائبة بعد الواو كما في «وهو» و«هي» ولم أحرك الساكن إلا حيث وجب تحريكه في الدرج لالتقاء الساكنين أو في القافية لإطلاقها، أو ما جاز تحريكه على الإطلاق كالميم اللاحقة بالضمير نحو «هم» و«كم».
لم أجتنب تحريك العلم المنادى إذا اقتضاه الوزن.
لم أستجز إخلاس حرف في ما سوى «أنا» وحروف العلة الساقطة طبعا بدرج الكلام قبل الساكن كالواو والياء في «أولو الحكمة» و«ذوي العلم».
لم أشبع إلا ما جاز إشباعه كهاء الضمير الغائب الساكن ما قبلها نحو منه أو وجب كالهاء المذكورة المتحرك ما قبلها نحو «به».
سكنت في موضع أو موضعين السين الواقعة في آخر العلم الأعجمي نحو أوذيس؛ مجاراة لمن يحسب أن هذا الحرف مع ملازمته لأكثر تلك الأعلام يصح اعتباره حركة بنفسه.
وأما ما فرط في كلام العرب من غريب المسوغات كمنع صرف المتصرف، وتذكير المؤنث، وتأنيث المذكر، وفك المدغم فيجب أن يعتبر شاذا، ولا يجوز أن يقتدى بشيء منه.
عيوب القافية وسنادها
لا حاجة بي إلى تقبيح عيوب القافية
كالإكفاء والإجازة، والإقواء والإصراف
فإن صغار الطلبة لا يجمعون في قوافي القصيدة الواحدة بين «فالح وشامخ» أو «كمين وعميد» أو «رجل وحمل» أو «رأس ونفسا» وإنما أقول كلمة في السناد:
فمنه ما يجب نبذه مطلقا
كسناد التأسيس
في الجمع بين المؤسس وغير المؤسس، كأن تكون قافية «بتصبر» وأخرى «يتظاهر». ومنه المكروه، وإن ورد قليلا في شعر البلغاء
كسناد الإشباع
أي: الجمع في القوافي بين نحو «مكارم» و«تفاقم» باختلاف حركة الدخيل.
ويقرب من هذا
سناد الردف
وهو أن يكون بيت مردفا بحرف علة، وآخر غير مردف كالجمع بين «قوم» و«حلم» وهو أكثر ورودا في الشعر الصحيح.
ومنه الجائز الشائع وهو
سناد الحذو، وسناد التوجيه
أي: اختلاف حركة ما قبل الروي بين الفتحة والضمة والكسرة نحو «قدم» و«قدم» و«قدم».
وهذا النوع الأخير كثير في كلام النوابغ من المتقدمين والمتأخرين، ومع هذا فقد اجتنبت في تعريب الإلياذة جميع أنواع السناد جائزها ومكروهها.
تكرار القافية
وأما تكرار القافية فليس من مذهبي وإن أجازه العروضيون، فلم أستبحه في النظم، ولم أكرر قافية واحدة في كل الإلياذة بلفظها ومعناها طالت القصيدة أو قصرت، ولا يستثنى من ذلك إلا حيث تكررت الأبيات في الأصل، ووجب إعادة العبارة بنصها أو حيث كان النظم رجزا أو متقاربا مصرعا، فهنالك كل بيت قائم بنفسه تتقطع القافية بانتهائه، فإذا اتفق تكرارها بعد أبيات، فكأنما هي واقعة في قصيدة أخرى.
التجنيس
لم أتوخ التجنيس في شيء من النقل بل ربما نبذته إذا ظهر منه ثقل أو تكلف، فإنه أسمج شيء في الشعر إذا تسقطه الشاعر تسقطا.
قال لي صديق من علية الأدباء، وقد جرى أمامه ذكر البيت القائل:
بالدنا لا تطمعن في مصرفي
عنهما فضلا بما في مصرفي
هذا بيت لشاعر نفاخر به الشعراء، فوالله لو خيرت بين أن أشنق أو ينسب لي هذا البيت لاخترت الشنق، ينبئك هذا بمبلغ الانقباض الذي تحدثه في النفس أمثال هذا التكلف، ومع هذا فقد أثبت ما جاء عفوا في الكلام بلا تلمس مثال ذلك:
بهما النور عن الأرض ارتفع
وغمام التبر بالنور سطع
وحباب القطر في أكنافه
كحبوب الدر للأرض وقع
ذلك هو النهج الذي آليت على نفسي أن أنهجه في كل الكتاب، وإني أبرأ إلى الله من العصمة، فإذا فرضت مني فارطة على خلاف ما ذكرت، فإنما تلك هفوة زل بها القلم، وجل ربك ولي العصمة والسداد.
ضروب النظم في التعريب
بقي علي تتمة لهذا الباب أن أذكر ضروب النظم التي جريت عليها في تعريب الكتاب:
رب من ترجو به دفع الأذى
عنك يأتيك الأذى من قبله
فقد يأتي الضرر من حيث يرجى النفع، فإن اتساع القوافي في اللغة العربية من جملة أسباب التضييق على الشعراء إذ مهما طال الشاعر باعا، فلا يأتي على عدد معلوم من الأبيات حتى يكاد يستنزف القوافي السائغة؛ ولهذا كان من المستحيل نظم الألوف المؤلفة على قافية واحدة، وهذا من جملة أسباب ضعف الشعر القصصي في العربية، وإذا فرضنا وجود قافية تتسع لمثل هذا المجال، فالأذن تمل توالي النغمة الواحدة لأطيب الألحان، فهذه تائية ابن الفارض الكبرى وقل من يقرؤها مع أن حفاظ شعره يعدون بالألوف كما أبنا في موضع آخر، وإذا لجأنا إلى الرجز في مثل هذا السياق الطويل فلدينا من سائر البحور ما يفوقه جزالة في بعض المواقف، وقوة في مواقف أخرى.
زارني صديق من نوابغ شعراء العصر، وقال: «بودي نظم الحادثة التاريخية الفلانية، وهي تستغرق نحو خمسمائة بيت في سياق واحد، وإنه ليعز علي أن ألتزم قافية لمثل هذا العدد، ولا أحب أن أنظمها رجزا، والمقام لا يؤذن بتقطيعها قصائد» قلت: وما قولك لو جعلتها نشيدا مسبعا أو مثمنا لا تستعيد القافية فيها إلا مرة كل بضعة أبيات، فتتخللها قوافي أخرى تطيب لها نفس القارئ، فلا يملها ويتسع لك المجال فتتخلص من العسف والتكلف، فاستحسن وأظنه فعل.
ولهذا نوعت النظم على طرق شتى متبعا الخطة التي تقدم بسطها، ومراعيا لكل ضرب من ضروب النظم مقاما حسبته ينطبق عليه، فربما قطعت النشيد قصائد مختلفة، وربما نظمته قصيدة واحدة، ووسعت لنفسي في استنباط ضروب غير مطروقة، ولكنني لم أخرج بشيء منها عن أصول الشعر واللغة.
فاستعملت النظم الشائع من قصائد وتخاميس وأراجيز، وسلكت مسالك أخرى دعوتها بأسماء رأيتها تنطبق عليها وهي:
المثنى
وفيه تبنى القصيدة على قافية يرجع إليها في كل بيتين مرة، وعروض البيت الثاني فيه مطلقة من القافية على نحو ما اصطلح عليه المتأخرون في الرباعي أو الدوبيت الأعرج ومثاله:
لو تربصت والعجاج استطارا
ونجيع الدماء سال وفارا
وتبصرت بابن تيذيس لم
تدر أي الجيشين منه أغارا
مستشيطا ينقض فوق الأعادي
ينهب السهل بين عاد وغاد
كخليج يضيق بالسيل مجرا
ه فيستأصل الجسور الكبارا
وهكذا إلى آخر القصيدة.
والمربع
ومثاله:
كسا الفجر وجه الأرض ثوبا مزعفرا
وزفس أبو الأهوال في أرفع الذرى
على قمة الأولمب تصغي مهابة
لمنطقه الأرباب ألف محضرا
فقال: «ليعلم كل رب وربة
بما اليوم في صدري فؤادي أضمرا
فلا ينبذن الأمر عاص بل أذعنوا
لأنفذ ما أبرمت أمرا مقدرا •••
لنصرة أي القوم من يجر منكم
يأوين منكوبا يخضبه الدم
وإلا فمن شم الألمب براحتي
إلى الظلمات الدهم يلقى ويرجم
إلى حيث أبواب الحديد قد استوت
على عتب الفولاذ والقعر مظلم
إلى هوة بين الجحيم وبينها
مجال كأقصى الجو عن أسفل الثرى
المثمن أو المربع المسمط
ومثاله:
قضيض الجيش مذ ذعرا
هزيما كالظبا نفرا
إلى إليون حيث هناك خلف حصاره انحصرا
يجفف في ظلال قلاعه عرقا به سجت
كتائبه ويروي غلة فيها قد استعرا
وراءهم الإخاءة والجواشن في عواتقهم
جروا لكن هكطورا تربص يرقب القدرا
لدى أبواب إسكيا قضاء الشوم ثبطه
وبابن أياك آفلون أحدق يصدق الخبرا: ••• «علام وأنت من بشر
جريت تجد في إثري
أتجهل أنني رب فثرت بلاهب الشرر
تركت هناك طروادا تفر إلى معاقلها
وجئت هنا فلا لا لن تفوز تعست بالظفر
فلست بمائت أبدا» فقال آخيل متقدا «أزجاج السهام وشر آل الخلد والكبر
أرى أنأيتني عن سورهم مكرا وإلا كم
فتى عض الحضيض قبيل ما بحصاره استترا
والموشح المسبع
ومثاله:
ما اشتمل الفجر بثوب الجساد
من يمه يبرز فوق البلاد
يرمقه معبودها والعباد
حتى انبرت دون الخلايا ثتيس
في تحف الرب هفست تميس
فأبصرت آخيل فوق الثرى
معانقا فطرقل واري الفؤاد •••
يشهق بالعبرة هامي الجفون
وحوله أصحابه يندبون
وسطهم حلت بتلك الشجون
ويده اجترت وقالت: ألا
مهما طما الخطب وطم البلا
دع ثم فطرقل على الترب إذ
في قدر الأرباب بالغيب باد
والموشح المثمن
ومثاله:
سار هكطور حثيثا وأتى
باب إسكية والزان طليل •••
فتلقته نساء وبنات
منه علما تتقصى سائلات
عن بنيهن وإخوان ثقات
وبعول وأخلا فأمر
أن يبادرن على ذاك الاثر
ويصلين لأرباب البشر
علها تدفع عنهن الأذى
ولزاهي قصر فريام مضى
هو صرح شيد بالنحت الجميل
فوق أبواب رواق مستطيل •••
ضمنه صف بديع المنظر
غرف قد بنيت بالمرمر
كلها خمسون ملس الحجر
لبني فريام شيدت مضجعا
وثوت أزواجهم فيها معا
ويحاذيهن صف رفعا
فيه بالإيناس والرغد ثوى
مع كل ابنة الصهر الحليل
وفيه المنظومة مبنية على قافيتين، وهما هنا الألف المقصورة، واللام كما ترى وله لازمة في أوله يبنى عليها، وتؤسس قافيته في ختام الدور الأول ببيتين، وأما في سائر الأدوار فببيت واحد.
والموضح المردف
ومثاله:
كان نسطور لدى كأس الشراب
مصغيا يسمع عجا واصطخاب
فلما خاوون قال: «أفكر فما
علة ينجم عن قرع الحراب
حول تلك الفلك فتيان الوحي
نقعهم يعلو مه لا تبرحا
واشرب الخمرة صرفا ريثما
هيكميذا لك تحمي المسبحا
وتنقي الجرح من هذا الخضاب •••
وأنا ماض أرى ماذا جرى
بالسرى وأقتال ترسا أكبرا
كان ثرسيميذ قد غادره
مؤثرا ترس أبيه نسطرا
وعلى رمح طويل قبضا
بستان قاطع صفرا أضا
وإلى الباب عدا مستشرفا
فله لاح القضا أبي قضا
ببني الإغريق قد جل المصاب
والمستطرد
وهو ما تبنى القصيدة فيه على قافيتين فأكثر، يرجع إلى كل واحدة منها كلما استطرد إلى الموضوع الذي قيلت في أوله، مثال ذلك محاورة آخيل وفينكس فخطاب آخيل بقصيدة سينية من المثنى:
قال آخيل: «يا أذيس المؤانس
لي فاسمع فإنني لا ألابس
لي مقال فلن أحولن عنه
فعه واطرحن عنك الوساوس
من يقل غير ما تيقن فكرا
كان عندي من الجحيم أشرا
فالذي قد أسررت هاكم جهارا
لجميع الإغريق لست بناكس
وجواب فينكس بقصيدة رائية من المثنى أيضا:
فاستتم الحديث والقوم طرا
بوجوم خالوا التصلب مرا
ثم فينكس والدموع هوام
لاشتداد الوبال قال مصرا
إن تكن عن تحدم واحتداد
راغبا عن لقاء جيش الأعادي
وطلبت المآب يا ابني المفدى
كيف ألقى على بعادك صبرا
وهكذا فكلما تكلم أحدهما رجع إلى قافيته، وقد يقع هذا الاستطراد في غير الخطاب، والجواب كأن يكون بين الخبر والإنشاء أو غير ذلك مما يقتضيه المقام.
مصرع المتقارب
وعلاوة على ذلك استحسنت تصريع المتقارب كما فصلت في الفقرة الأولى من النشيد السادس بعد المطلع الآتي:
خلت ساحة الحرب من كل رب
فعج العجاج بطعن وضرب
فمن سيمويس إلى زنثس
قراع السيوف ومد القسي
مصرع الرجز ومقفاه
وجمعت في النشيد الثالث والعشرين بين مصرع الرجز ومقفاه التصريع للإنشاء والتقفية للخطاب، واتبعت هذا النسق في كل النشيد المذكور.
الإلياذة والشعر العربي
الشعر القديم
لقد يعجز الباحث في تاريخ الشعر العربي أن يرجع ببحثه إلى ما وراء قرن قبل الهجرة، وإن معظم ما عزاه بعض الكتاب إلى من تقدم ذلك العهد ليس إلا من باب التخرص، فلا يصح وضعه موضع ثقة بل يجب نبذه والحكم بأنه إنما وضع لتتمة حديث أو تنميق رواية، وكأن فطرة العرب الشعرية تدفعهم إلى ترصيع كل رواية من رواياتهم بأبيات ينقلونها من حيث تيسر لهم النقل، وإن أعياهم ذلك عمدوا إلى وضع شيء مما تجود به قرائحهم؛ ولذلك كانت جميع تآليفهم مشحونة بالشواهد الشعرية مما يجوز الحكم بصحة نقله وما لا يجوز، فإذا ساغ لنا الآن أن نقول بصحة مآخذ الشعر الجاهلي الحديث من المهلهل بن ربيعة إلى زهير بن أبي سلمى، فإنه قيل في زمن كان فيه الشعر في إبانه، وسوق عكاظ في ريعانها، والحفاظ والرواة منبثون كأسلاك البرق يدونون وينقلون، ويحرصون على ادخار مسموعهم ومحفوظهم، والقراءة مألوفة والكتابة معروفة، والشعر بمنزلة يحسد عليها فيختزن اختزان الدر المنضود، ومع هذا فإن بعضه لا يخلو من النقد والشبهات، ولكن من لنا بدليل واحد يثبت صحة إسناد الشعر المروي عن شعراء القبائل البائدة، وكهانها من طسم وجديس، وعاد وثمود، ومن ذا الذي يثق اليوم مثلا أن مهدا الكاهنة هي القائلة يوم أنذرت قوم عاد بالهلاك:
إني أرى وسط السحاب نارا
تنثر من ضرامها الشرارا
يسوقها قوم على خيول
تهتف بالأصوات والصهيل
وهي عذاب يآل عاد فاعلموا
فوحدوا الله لكي ما تسلموا
ثم استجيروا بالنبي هود
نبي رب واحد معبود
فقد أتاكم عن قريب داهيه
فليس نبقي منكم من باقيه
وأقل ما يقال في هذه الأبيات أنها بلغة ما قط نطق بمثلها قوم عاد بل هي دون لغة بني الجاهلية المشهور شعرهم بيننا.
وليست أمثال هذه الرواية بالشيء المذكور إزاء الشعر العربي المنسوب إلى قدماء الأعاجم، ثم إلى آدم أبي البشر، وأمنا حواء ثم إلى الملائكة وإبليس وأشباه هذا مما هو غير خليق بالذكر، ولا يجدر بالكاتب أن يتكلف عناء الإشارة بإطراحه، على أنه يجب التنبيه أن جهابذة كتاب العرب عموما قد أنكروا على العامة القول بصحة إسناد هذه الروايات. ومن كلام ابن عباس: «من قال أن آدم قال الشعر فقد كذب على الله ورسوله».
أصله
لكن الكتاب كسائر الناس يندفعون بسائقة الطبيعة إلى التطلع إلى أصل كل مجهول، فلما بحث كتاب العرب في الشعر بحثوا في أصله، وجعل كل منهم يستخرج حجة مما يحسنه له اجتهاده، فقال قائل منهم: «أول من هذبه عدي بن ربيعة، واستنبط من لقبه دليلا فقال: إنه لقب بالمهلهل؛ لأنه أول من هلهل الشعر وقصد القصائد، وقال الغزل». وذهب بعضهم إلى أن أول شعراء العرب هو ربيعة، وقيل بل هو مضر، وصعد آخرون إلى ما وراء ذلك الزمن بأحقاب، فقالوا بل هو عاد أبو القبيلة المشهور، وقيل بل ثمود، وقيل بل حمير، وأمثال هذه الأقوال مما لا يتجاوز الأساطير الموضوعة ويأباه العقل، ويعجز النقل عن إثبات شيء منه.
على أنه إذا ثبت لدينا فساد هذه الروايات فلا يثبت مطلقا أن العرب لم يقولوا الشعر قبل القرن الخامس للميلاد، فإن طبيعتهم وطبيعة بواديهم وحواضرهم كانتا لعهد الهجرة، وقبلها بقرن على ما كانتا عليه قبل عشرات من القرون، فقد يصح الفرض أن النهضة الشعرية كانت تتفاوت ارتقاء وارتخاء بين زمن وزمن، ولكنه لا يصح القول أن جذوتها لم تلتهب إلا لهذا العهد القريب، فارتقاء بلاغة الشعر متقدم على ارتقاء بلاغة النثر لملازمة الأفكار الشعرية للفطرة البشرية، وإذا كان الشعر مدونا قبل الإلياذة بعصور في لغات الهنود والمصريين، وبلادهم معتقلة بقيود الحضارة فما بالك بالعرب، وهم في بداوتهم وجاهليتهم يطوفون في عالم الخيال فلا قيد ولا عقال يطرقون البوادي والقفار، فينقرون فيها على ما شاءوا من الأوتار، ويسامرون النجوم فلا يستر الجو عنهم شيئا من بهائها، وهم جميعا بين هائم وهاجع، وهاجم ومدافع، ومنافر ومفاخر، وكل تلك الأحوال تهيج السليقة الشعرية حتى في الأفئدة الخاملة، وهم هم اليوم في باديتهم أولئك الرعاة الغزاة منذ ألفي عام والشعر على تغير لغته وزوال إعرابه ما زال أنيسهم وسميرهم في الحل والترحال، وسيظل كذلك إلى ما شاء الله.
طموسه
لا ريب بعد ما تقدم أن الشعر العربي القديم درس أثره، وطمس خبره، وأن ما ينقل منه لأيامنا حديث الوضع من مخترعات الكتاب، ولعله يأتي زمن يتوصل فيه الباحثون في عاديات الأيام الخوالي إلى اكتشاف شيء مما قد يكون علق منه لغرض، ولكن افتراض حصول ذلك قليل الجدوى بالنظر إلى لغة الشعر العربي من عهد شعراء الجاهلية المعروفين حتى يومنا؛ لأنه إذا وجد شيء من الشعر الراقي إلى ما فوق القرن الرابع للميلاد، فإنما يكون بلغة غير لغة امرئ القيس، وإذا كانت لغة أصحاب المعلقات ونظائرها يشكل فهمها على معظم قراء العربية مع جميع القيود التي قيدت بها اللغة من عهدهم، فما يكون مبلغ فهمنا من لغة تلك العصور، ولا ضابط لها ولا قيد.
عكاظ
وهو معلوم أيضا أن منطوق لغة العرب كان يختلف ويتباعد بتباعد القبائل؛ ولهذا كثرت المترادفات في اللغة العربية إلى ما لا نظير له في لغة أخرى، ولو طال الأمد على تلك الفوضى، ولم تقم سوق عكاظ لباتت لغة العرب لغات لا يتفاهم أصحابها، وانفصلت كل منها عن الأخرى انفصال العربية عن شقيقتيها العبرية والسريانية، فلما عظم شأن السوق العكاظية، وأخذ الشعراء يؤمونها من أطراف البلاد يتناشدون فيها، ويتنافسون كان معظم همهم انتقاء الألفاظ الفصيحة المشهورة عند أكثر القبائل طمعا بكثرة المستحسنين لشعرهم، فاشتركت الألفاظ وعمت التعابير المألوفة بين الجميع، فاتقت اللغة شر التفرق، وأمنت ألفاظها من التبعثر بين شتيت القبائل.
وقد كان ذلك شأن العرب في اختيار الفصيح من الكلام في نظائر عكاظ كذي المجاز في الجاهلية، ومربد البصرة في الإسلام.
القرآن ولغة قريش
إذا ثبت أن لعكاظ ونظائرها فضلا في تمحيص ألفاظ اللغة، فالفضل العظيم في استحيائها واستبقائها إنما هو للقرآن، فهو الذي أحكم تراكيبها، وأبدع في تنسيق أساليبها، وصعد بالبلاغة إلى أوج مراقيها، بل هو الذي جمع جامعتها، وهذب عبارتها، ولما ارتفع منار الدين الإسلامي كانت اللغة العربية تنتشر بانتشاره على وتيرة واحدة في مشارق الأرض ومغاربها، ولا عبرة بما كان يعتور لغة العامة من الركة واللكنة بمخالطة الأعاجم، ويعد عهد الجم الغفير من الجالية العربية بالانقطاع عن أصولها، فإن القرآن كان ولا يزال رائد الكتاب يرجعون إليه في مواضع الإشكال، ويتمثلون بعبارته، ويتفقهون ببلاغته، فكان من معجزة حفظ اللغة العربية الفصحى على أسلوب واحد منذ ثلاثة عشر قرنا مع تفرق حفظتها وتشتت المتكلمين بها.
وفضل القرآن على الشعر العربي يكاد يضاهي فضله على لسان العرب؛ لأن بلاغة التعبير تهيج الفطرة الشعرية سواء كانت العبارة نثرا أو شعرا؛ ولهذا كثر لفظ القائلين في أوائل الإسلام أن القرآن كلام شعري، فجاءت الآية بتكذيبهم
وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين
فلذلك أجمع أئمة العرب على أن الشعر لا يعد شعرا ما لم يكن مقصودا بالوزن، فإن جاءت العبارة موزونة على غير قصد فليست من الشعر في شيء، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن والحديث، فمن الآيات القرآنية
فمن كان منكم مريضا أو على سفر ، و
وأخرجت الأرض أثقالها ، و
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ، ومن الحديث: «هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت ».
وإن للإفرنج اسلوبا نثريا في الكتابة يتعمدون في تنميق العبارة بما لا يجوز إتيان مثله في النثر البسيط، ويتوخون فيه إثارة العواطف والخوض في عالم الخيال، ومذهبهم فيه بخلاف مذهب العرب إذ يعدونه من فنون الشعر، وإن تجرد من القالب الشعري، ولم يقصد به الوزن والتقفية.
وإذا كان اللسان العربي خلوا بعرف العرب من هذا النوع من الشعر، فإن في القرآن من البلاغة ما لم يجتمع له نظير في نثر ولا في شعر، فلا غرو إذن أن يكون هو الناهض بهذا اللسان، تلك النهضة التي وطدت أركان فصاحته، وهذبت مقول الشعراء حتى أربت بلاغة التركيب وجزالة اللفظ في شعر المخضرمين والمولدين ممن أكثروا من تلاوته وسماعه على مثله في شعر من تقدمهم من فحول الشعر الجاهلي - قال ابن خلدون: «وكلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة من كلام الجاهلية؛ لأنهم سمعوا القرآن، وحفظوه، وهو في أعلى طبقة من البلاغة وحفظوا الحديث أيضا؛ ولذلك نجد شعر حسان، والحطيئة، وجرير، والفرزدق، وذي الرمة والأحوص، وبشار أبلغ من شعر امرئ القيس، والنابغة، وعنترة، وابن كلثوم، وزهير ونحوهم».
وخلاصة القول أن لغة الأعراب في البادية، ومنطوق سائر العرب في حواضرهم ما زالا يتراوحان بين الصعود والهبوط، والتقارب والتباعد حتى هذبهما شعراء عكاظ، وأتى القرآن فكان فيه القول الفصل والمنهج القويم، والحجة الكبرى والأساس الوطيد.
وإذ كانت عكاظ بين نخلة والطائف في الحجاز، ولقريش الحجاز منزلة لا تعادلها منزلة بين العرب، ولهم سدانة الكعبة كان الشعراء الوافدون من اليمن، وبادية الشام، وهضاب نجد، وبرق تهامة، وسائر أطراف البلاد العربية يتشبهون جهدهم بلغة قريش المضرية، وكان إذ ذاك اللغة المعول عليها بين أكثر قبائل الحجاز، ونجد فقويت وما لبثت أن فازت بالغلبة في منظوم الشعراء، ثم جاء القرآن فأحكمها ذلك الإحكام الذي يدهش له الأعجمي فضلا عن العربي، وهجر ما سواها من لغات سائر القبائل في النثر والشعر إلا بقية من الأصول النحوية والاصطلاحات التركيبية.
وكانت لغة قريش تزداد رسوخا في أذهان الشعراء وشيوعا بين العرب كلما دانت قبيلة منهم بالدين الإسلامي بعد سماع آي القرآن، ولا سيما بعد أن قام الشعراء القرشيون فأخذوا بأطراف البلاغة، فكان لهم القدح المعلى في الشعر كما كان لهم من قبل في رفعة القدر.
وهو غير خاف أنه كان لقريش بصر في الشعر في الجاهلية، ومع هذا فلم تكن لهم فيه مقامات عالية ولم يرتفع شعراؤهم بطبقتهم إلى طبقة نوابغ الشعراء من سائر القبائل؛ لأن العرب كانت تقر لهم بالتقدم في كل شيء إلا الشعر، ولما استنهضتهم بلاغة القرآن، وأقبلوا على النظم وأجادوا فيه أيما إجادة، ونبغ منهم الفحول كعمرو بن أبي ربيعة كبيرهم والحارث بن خالد المخزومي، والعرجي، وأبو دهبل، وعبيد الله بن قيس الرقيات أقرت لهم العرب بالشعر أيضا.
وأما سائر قراء العربية والمتكلمين بها بعد حين من ملل الأعاجم ممن دان بالدين الإسلامي أو انتشرت بينهم قبائل العرب، فما عرفوا إلا لغة القرآن والحديث، وما تبعهما من كتب الفقه وعلم الكلام مما استمد جميعا منهما، ومعظم ذلك من لغة قريش، وإذا رجعنا إلى علم النحو الذي يقوم عليه عماد التركيب والتعبير في اللغة رأينا أنه إنما نشأ بفضل القرآن؛ لأنه وضع قبل كل شيء لضبط القراءات القرآنية، ثم لما كتبت أسفار اللغة وسائر العلوم العربية وغير العربية كان القرآن والحديث مرجعا للاستدلال على صحة التعبير، وإحكام التركيب، وضبط المفردات، فكانت لغة قريش في كل ذلك هي اللغة السائدة؛ فحفظها الشعراء وأصبحت في شعر المخضرمين والمولدين أنقى منها في شعر أبناء الجاهلية إذ قل الخليط فيها من سائر لغات العرب، وهكذا صارت لغة جميع كتاب العربية من عرب وأعاجم، ولا عبرة بما طرأ عليها من الخلل والانحطاط وزوال الإعراب بين عامة المتكلمين بها، فإن الفساد يتطرق بمرور الزمان إلى كل لسان، وحسب العربية مزية على سائر اللغات الحية أنه ليس بينهن لغة غيرها حفظت أصول شعرها وكتابتها منذ أربعة عشر قرنا، وبقيت واحدة في جميع أطراف الأرض بين العرب وغير العرب، والمسلمين وغير المسلمين.
مقابلة بين لغة قريش المضرية ولغة الإلياذة اليونية وكيف عاشت الأولى وتلاشت الثانية
قد يفهم من عنوان هذا الفصل أننا لا نقصد فيه المقابلة بين لساني العرب واليونان بالنظر إلى ما بينهما من الصلة أو الشبه والاختلاف في المنشأ والوضع والاشتقاق والتركيب، فتلك أمور ليس هذا موضع البحث فيها، ولكنه لا بد لنا من النظر إلى سبب تلاشي لغة الإلياذة لزمن يسير من استحكامها، وبقاء لغة قريش حية طوال هذا الدهر.
إن سنة النمو والتحول وتفرع الأصل الواحد إلى أصول شتى تشمل اللغات كسائر المخلوقات، فقد قلنا: إن لسان العرب في الجاهلية تفرق إلى فروع كاد كل منها يقوم لغة بنفسه، ويمتنع التفاهم بين أصحابه، فجاء القرآن وأزال الخلاف، وأوثق عرى الارتباط، فسادت اللغة القرشية، وهكذا كانت لغة قدماء اليونان فروعا كثيرة مرجعها إلى فرعين كبيرين الدوري واليوني يتكلمهما سكان قلب بلاد اليونان ومستعمراتهم في صقلية وبعض بلاد إيطاليا وغيرها، فهما بمثابة لغة نجد عند العرب مع ما يتبعها من أطراف الحجاز. ويلحق بهما فرع ثالث هو الأيولي، وكان لغة فريق من سكان آسيا الصغرى وتساليا وتوابعهما، فمنشآت فنداروس وثيوكريتس كانت باللغة الدورية، ومنظومات هوميروس وهسيودس كانت باللغة اليونية، وإن بين اللغتين على تقاربهما فرقا يضاهي نظيره بين لغات جنوبي الحجاز ونجد واليمن، وكلما كانت تمتد فتوحات اليونان ويكثر الاختلاط كان يطرأ على تينك اللغتين تغير يبعدهما عن وضعهما، وكان كل من الشعراء والكتاب ينطق بلغة زمانه ومكانه حتى باتت لغة كل من بني الفرع الواحد تتميز عن الأخرى بالتعبير والتركيب، فاللغة اليونية مثلا هي التي نطق بها هوميروس في أخريات القرن التاسع للميلاد، وهي التي كتب بها ثوكيذيذس وهيرودوتس في القرن الخامس وديموسنتينس في القرن الرابع، ومع هذا فالفرق بين لغتهم ولغته غير يسير بل قد تجد فرقا بين لغة أبناء كل قرن وآخر، حتى لقد ذهب كرتيوس في تاريخ اليونان إلى أنه في زمن الإسكندر لم يكن يحصل التفاهم بين المكدونيين واليونان، وقال فلوطرخوس : «إن فيلبس وابنه الإسكندر جنحا إلى إيثار لغة جيرتهما على لغة قومهما فعدلا إليها في بلاطهما وبطانتهما».
وعلى الجملة فقد ظل هذا التغير يتعاظم حتى باتت اللغة اليونانية الحديثة لغة قائمة بنفسها، ولها أصول بعضها أقرب إلى اللغات الحديثة منها إلى لغة الإلياذة؛ ولهذا ترى نوابغ كتاب اليونان العصريين مع شدة ما بهم من الغيرة على إحياء اللغة اليونانية القديمة والتشبه بها في بعض ما ينشئون لم يغنهم كل ذلك عن نقل إلياذة هوميروس وأشباهها بالترجمة إلى اللغة اليونانية الحديثة، فكأنهما لغتان منفصلتان.
وأما العربية فليس هذا شأنها، فإن أصول اللغة ما زالت على ما نطق به شعراء الجاهلية، وغاية ما يشكل فهمه على قرائها مفردات لم تألفها العامة، ومترادفات متشابهات وتعابير غير مأنوسة في عصرنا.
ولكن التباعد بين لغات العامة محصور في الكلام العامي، فالحجازي واليمني والنجدي، والعراقي، والمصري، والسوري، والمغربي، وإن اختلفت مصطلحاتهم في كل قطر من أقطارهم فهم جميعا يكتبون بلغة واحدة على أصول لا تختلف شيئا بين إقليم وإقليم، وجميع هذه الأصول مبنية على أصول لغة القرآن.
وإن اختلاف منطوق العامة غير خاص بالعربية، بل هو يتناول جميع اللغات الحية حتى إذا نظرت إلى أرقاهن كالفرنسية والإنجليزية رأيت فرقا بينا في كلام العامة بين منطوق أبناء قطر وقطر، وإن اتحدت أصول اللغة الفصيحة بين جميع الناطقين بها من أبناء تلك اللغة وغير أبنائها، وإذا رجعنا بالتخصيص إلى اليونانية الحديثة رأيناها على توحد لغتها الكتابية متشعبة فروعا بمنطوق عامة أبنائها، فلغة أثينا غير لغة إكريت، وكلتاهما تختلفان عن لغات ساقس، وقبرس، وجزر الأرخبيل، وآسيا الصغرى.
وخلاصة ما تقدم أن اللغة العربية أطول اللغات الحية عمرا، وأقدمهن عهدا والفضل في كل ذلك للقرآن، فالإلياذة وبلاغتها وسائر منظومات هوميروس وهسيودس على علو منزلتهما لم تقم للغة اليونية دعامة ثابتة حتى في بلادها، ولم تقو على مقاومة التيار الطبيعي، ولكن القرآن وطد أركان لغة قريش في بلادهم وأذاعها في جميع البلاد العربية، وسائر البلاد التي طال فيها عهد الاحتلال الإسلامي أو كثرت مخالطة العرب الضاربين في أقطار الأرض للجهاد والتجارة.
أطوار الشعر العربي
أو طبقات الشعراء بالنظر إلى أزمانهم ومزية كل طبقة منهم
هذا بحث لو تعمدنا الإفاضة فيه لاضطررنا إلى التثبت من أحوال كل عصر من عصور العرب، والنظر في شئون الشعراء وطرائفهم وفنونهم، ومناحي نظمهم، والرجوع إلى مراميهم في شعرهم، وطرق معائشهم، وبيان أنواع اقتباسهم من الأعاجم واقتباس الأعاجم منهم بالنقل والملابسة إلى غير ذلك مما يؤدي إلى تدوين سفر طويل، ومع هذا فلا بد من أن نلم بالموضوع إلماما إجماليا؛ لئلا يفوتنا استجماع أطراف الحديث الذي توخيناه، وعسى أن يكون لنا في مستقبل الزمن متسع لإعادة النظر فيه أو ينهض إليه باحث من أدبائنا، فيلجه من جميع أبوابه ويوفيه حقه بما لا يتيسر في هذا المقام.
من الكتاب من يقسم الشعراء بالنظر إلى أزمانهم إلى ثلاث طوائف أو طبقات أولها شعراء الجاهلية ثم المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ثم المولدون وهم سائر الشعراء، ومنهم من يزيد طبقة رابعة وهي طائفة المحدثين، فيحصر المولدين في فئة قليلة من أبناء أوائل الإسلام كالفرزدق وجرير والأخطل، ويجعل جميع من أتى بعدهم في عداد المحدثين.
وإننا ناحون في بحثنا نحو أصحاب التقسيم الأخير بالتسمية دون الترتيب، ومستدركون ما يجب استدراكه؛ لاختلاط الطبقات الثلاث الأولى بعضها ببعض وواضعون حدا فاصلا بين كل طائفة وأخرى، وباحثون في تماسك هذه الحلقات، وأسباب ترقي الشعر العربي حينا من الدهر، ثم انحطاطه في كلام المحدثين حتى أيام النهضة الأخيرة غير مغفلين في كل ذلك أوجه المقابلة مع منظوم صاحب الإلياذة.
النهضة الجاهلية
ليس بالأمر السهل تعيين الزمن الذي بدأت فيه نهضة الجاهليين لاندثار منظوم الشعراء مما تقدم على الشطر الأخير من القرن الخامس للميلاد أو ما تقدم على الهجرة بقرن ونصف قرن، على أنه لا ريب أن النهضة الجاهلية المتصلة بالإسلام بدأت قبل الهجرة بقرنين أو أكثر؛ لأننا إذا قرأنا شعر المهلهل والشنفرى، والمثقب العبدي والبراق بن روحان، وغيرهم ممن تقدم على الهجرة زهاء قرن وربع أو ما ينيف رأينا فيه من البلاغة وحسن الانسجام ما لا يجوز الحكم معه أنهم كانوا في طليعة شعراء العرب بل لا بد من أن يكونوا نسجوا على منوال نوابغ سبقوهم، ولكن لنا من وجه آخر مساغا للحكم أن تلك النهضة لم تستحكم إلا في القرن الأول قبل الهجرة، ولم تبلغ أوج علاجها إلا في بضعة عقود من السنين الملاصقة للإسلام، ودليلنا على ذلك أن شعر معظم المتأخرين في الجاهلية كلبيد بن ربيعة، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة العبسي، والأعشى، والنابغة الذبياني أرقى من شعر معظم المتقدمين عليهم في الزمن كالبراق وأبي دؤاد، والحارث بن عباد وأمثالهم، ولا يضعف هذا الحكم نبوغ بعض المتوسطين بين الفريقين كامرئ القيس، وطرفة بن العبد، والحارث بن حلزة اليشكري، وعمرو بن كلثوم، وغيرهم ممن لاصق الأولين، ونبغ في منتصف القرن السادس للميلاد فكانوا نبراس تلك النهضة، وقادة زمامها إذ يتيسر لنا بهذا الاعتبار أن نعين زمن استحكام النزعة الشعرية في نحو ذلك العهد أي: سنة 532 للميلاد أو قبل الهجرة بتسعين عاما، وهو زمن نبوغ امرئ القيس أول أبناء الفريق المتوسط بين متقدمي الجاهليين ومتأخريهم.
ومما يؤيد هذا القول أن كتاب العرب قسموا الشعراء إلى طبقات باعتبار جودة الشعر، كما قسموهم إلى طبقات بالنظر إلى التاريخ، فجعلوا أصحاب الطبقة الأولى من متأخري الجاهليين ومتوسطيهم كأصحاب المعلقات جميعا، والنابغة، والأعشى الأسدي، وعدي بن زيد، وعبيد بن الأبرص، وأمية بن أبي الصلت، وعدوا سائر من تقدمهم في الطبقة الثانية إلا المهلهل، فإنهم اختلفوا بين أن يكون من الثانية أو الأولى.
الحد الفاصل بين شعراء الجاهلية والمخضرمين
إذا حسبنا لاستحكام النزعة الشعرية الجاهلية تسعين عاما، وجعلنا طليعتها امرأ القيس، فإننا نحسب لطور الشعر الجاهلي بأسره مئة وخمسين عاما أولها سنة 472 للميلاد وآخرها سنة الهجرة النبوية، وزعيم جنده عدي بن ربيعة الملقب بالمهلهل، وهو معلوم أن بعض شعراء الجاهلية أدركوا صدر الإسلام، وماتوا في زمن النبي كزهير، وهو الذي قيل فيه أن النبي نظر إليه يوما وعمره مئة سنة، فقال: «اللهم أعذني من شيطانه» قيل فما قال بعد ذلك شيئا من الشعر، ومنهم من مات في زمن الخلفاء الراشدين كعمرو بن معدي كرب، ومنهم من عمر حتى انقضت دولة الراشدين، وقامت دولة بني أمية؛ كلبيد المتوفي في خلافة معاوية، وعمره على ما قيل مائة وخمس وأربعون سنة، فأمثال هؤلاء يحصل الإشكال في تعيين طبقتهم، فتلتبس بين طائفتي الجاهليين والمخضرمين.
وقد قيل في تفسير المخضرم هو من ذهب نصف عمره في الجاهلية ونصفه في الإسلام، أو هو من أدرك الجاهلية والإسلام على الإطلاق تشبيها بالناقة المخضرمة التي قطع طرف أذنها كأن ما ذهب من عمره في الجاهلية ساقط لا يعتد به، وقل من ينطبق عليه القول الأول من فحول شعراء الجاهلية كلبيد العامري الذي عمر طويلا في الجاهلية والإسلام، وأما الذين أدركوا الجاهلية والإسلام فكثيرون؛ كزهير، والخنساء، والحطيئة ممن نبغ في الجاهلية، وأبى ذؤيب العجلي، وكعب بن زهير، وحسان بن ثابت ممن نبغ في الإسلام؛ ولهذا نظر البعض في تعيين الطبقة إلى القرب والبعد من الإسلام، فكان زهير عندهم جاهليا، ولبيد مخضرما، وربما وضعوا لبيد في طبقتين، فقالوا: «هو جاهلي ومخضرم» وعندنا أنه إذا صح أحد هذين القولين بالنظر إلى الشاعر وصفته، فلا يصح شيء منهما بالنظر إلى الشعر وصبغته، وإلا لوجب أن نجعل معظم المخضرمين في طبقة الجاهليين أيضا، فتختلط الطبقتان مع أن لكل منهما مزية خاصة بها على ما سنبينه في ما يلي.
فلذلك وجب اعتبار الصبغة الشعرية في أقوال أمثال هؤلاء، فمن قال الشعر قليلا في الإسلام أو لم يقله عد جاهليا كزهير، ومن ربا قوله في الإسلام بعد أن أسلم وحفظ القرآن ككعب ابنه فهو مخضرم، ويقال مثل ذلك في حسان بن ثابت شاعر النبي فهو زعيم المخضرمين، وإن قضى نصف عمره في الجاهلية، وقال فيها الشعر الحسن.
على إنني لا أعلم بأي مساغ يعد لبيد والخنساء من المخضرمين، فأما لبيد فإن جميع شعره ولا سيما معلقته من لباب الشعر الجاهلي، ولم يرووا له في الإسلام إلا بيته القائل:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
حتى لبست من الإسلام سربالا
وقيل: إن الخليفة عمر استنشده أيام خلافته من شعره، فانطلق وكتب سورة البقرة في صحيفة ثم أتى بها، وقال: «أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر» فسر عمر بجوابه، وأجزل عليه العطاء.
وأما الخنساء فجميع شعرها قبل الإسلام وبعده فخر ورثاء، ونفسه واحد وصبغته واحدة، وكله جاهلي ولا وجه لعدها بين المخضرمين إلا أن نحسب من الشعر حماسياتها النثرية المسجعة كقولها لأبنائها يوم وقعة القادسية: «يا بني إنك أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، اصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت نارا على أرواقها، فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها، تظفروا بالمغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة».
فإن في هذا الكلام مسحة من بلاغة المخضرمين، ولكننا قد قدمنا أن العرب لا تعد هذا الكلام من الشعر في شيء؛ لأنه غير مصوغ في القالب الشعري، وإن كانت معانيه شعرية، فالخنساء ولبيد وأمثالهما في عرفنا يجب أن يعدوا من شعراء الجاهلية بالنظر إلى شعرهم، وإن صح أن يحسبوا من المخضرمين بالنظر إلى امتداد حياتهم.
وهو ثابت أيضا أنه في أوائل الإسلام حصلت فترة في الشعر، فاسكتت الشعراء ثم هبوا إليه هبة جديدة، وألبسوه ثوبا قشيبا، قال ابن خلدون: «إن الشعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم وأخبارهم، وكان رؤساء العرب ينافسون فيه، وكانوا يقفون في سوق عكاظ لإنشاده، وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشبان وأهل البصر، حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فسكتوا عن الخوض فيه زمانا ثم استقر ذلك، وأونس الرشد في الملة، ولم ينزل الوحي في تحريمه وسمعه النبي، وأثاب عليه فرجعوا إلى دينهم منه».
فهذه الفترة التي ذكرها ابن خلدون وغيره من مؤرخي العرب هي الحد الفاصل بين الطور الأول والطور الثاني من أطوار الشعر العربي، فجميع ما تقدمها شعر جاهلي، ويلحق به قليل مما تأخر عنها من قول شعراء الجاهلية الذين أدركوا الإسلام وأسلموا، وبقي شعرهم على صبغته الجاهلية الصرفة كعبدة بن الطبيب كلما سنثبت في الفصل التالي بإيراد مثال من شعره في الإسلام.
الطبقة الأولى
أو شعراء الجاهلية
خاض العرب في الجاهلية عباب بحر الشعر، وولجوا كل باب من أبوابه فوصفوا وترسلوا، وتغنوا وتغزلوا، ومدحوا وهجوا، ورثوا ودونوا الأخبار، وضربوا الأمثال ووضعوا الحكم، وتنافروا وتفاخروا وشاعرهم مندفع في كل ذلك بسائقة الطبيعة يفكر في محسوس بين يديه، ومنظور أمام عينيه، وعاطفة بين جنبيه، وشعيرة تختلج في صدره، وصورة مرسومة في مخيلته منعكسة عن طرق معيشته وفطرته. لا يتطلع إلى ما وراءها ولا يتكلف الزخرف والتنميق.
وكانوا يسددون قولهم نحو كبد الحقيقة فلا يخطئونها، ويقولون الشعر عن شعور حي، ولا يتخطون إلى ما وراء مشهودهم ومعقولهم فجاء شعرهم مثالا صادقا لبداوتهم وحضارتهم، حتى لو اندثرت جميع أخبارهم وآثارهم، وما بقي إلا شيء من شعرهم لتيسر للباحث أن يستخرج منه وصفا كاملا لجميع أحوالهم كما استخرج الباحثون كثيرا من غوامض جاهلية اليونان من شعر هوميروس.
ويسري هذا الحكم على جميع شعراء الجاهلية من عبدة الأوثان واليهود والنصارى، ومن أدرك الإسلام وأسلم أو لم يسلم، وهم في ذلك سواء في اليمن ونجد، والحجاز، والعراق وبوادي الشام، وسائر أطراف بلاد العرب، فالشاعر منهم إما بدوي عريق في البداوة، وإما حضري لاصق بأبناء البادية، وكلاهما متخلق بأخلاق الجاهلية ينزع إلى رسم الحقيقة رسما ناطقا، فإذا روى حادثة بسطها بسطا جليا، وألم بها إلماما واضحا يغنيك عن التخرص والتنقيب نظير ما فعل هوميروس في إيراد كل حوادثه، وإليك مثالا قول المهلهل بعد وقعة السلان إذ حضرها مع أخيه كليب، وفر ابن عنق الحية من وجهها:
لو كان ناه لابن حية زاجرا
لنهاه ذا عن وقعة السلان
يوم لنا كانت رئاسة اهله
دون القبائل من بني عدنان
غصبت معد غثها وسمينها
فيه ممالاة على غسان
فأزالهم عنا كليب بطعنة
في عمر بابل من بني قحطان
ولقد مضى عنها ابن حية مدبرا
تحت العجاجة ولحتوف دوان
لما رآنا بالكلاب كأننا
أسد ملاوثة على خفان
ترك التي سحبت عليه ذيولها
تحت العجاج بذلة وهوان
ونجا بمهجته وأسلم قومه
متسربلين وواعف المران
يمشون في حلق الحديد كأنهم
جرب الجمال طلين بالقطران
نعم الفوارس لا فوارس مذحج
يوم الهياج ولا بنو همدان
هزموا العداة بكل أسمر مارن
ومهند مثل الغدير يماني
وإذا وصف شيئا فإنه يستجليه على علته، ويستتم تبيان حالته على طبيعته كقول عبدة بن الطبيب يصف ناقته ويشبهها بالثور الوحشي المتذعر أمام الكلاب:
ترى الحصى مشفترا عن مناسمها
كما تجلجل بالوغل الغرابيل
58
كأنها يوم ورد القوم خامسة
مسافر أشعب الروقين مكحول
59
مجتاب نصع جديد فوق نقبته
وللقوائم من خال سراويل
60
مسفع الوجه في أرساغه خدم
وفوق ذاك إلى الكعبين تحجيل
61
باكره قانص يسعى بأكلبه
كأنه من صلاء الشمس مملول
62
يأوي إلى سلفع شعثاء عارية
في حجرها تولب كالقرد مهزول
63
يشلي ضوراي أشباها مجوعة
فليس منها إذا أمكن تهليل
64
يتبعن أشعث كالسرحان منصلتا
له عليهن قيد الرمح تمهيل
65
فضمهن قليلا ثم هاج بها
سفع بآذانها شين وتنكيل
66
فاستثبت الروع في إنسان صادقة
لم تجر من رمد فيها الملاميل
67
فانصاع وانصعن يهفو كلها سدك
كأنهن من الضمر المزاجيل
68
فانقض ينفض مدريين قد عتقا
مخاوض غمرات الموت مخذول
69
شروى شبيهين مكروبا كعوبهما
في الجنبتين وفي الأطراف تأسيل
70
كلاهما يبتغي نهك القتال به
إن السلاح غداة الروع محمول
71
يخالس الطعن إيشاغا على دهش
بسلهب سنخه في الشأن ممطول
72
حتى إذا مض طعنا في جواشنها
وروقه من دم الأجواف معلول
73
ولى وصرعن في حيث التبسن به
مضرجات بأجراح ومقتول
كأنه بعد ما جد النجاء به
سيف جلا حده الأصناع مسلول
مستقبل الريح يهفو وهو مبترك
لسانه عن شمال الشدق معدول
74
يخفي التراب بأظلاف ثمانية
في أربع مسهن الأرض تحليل
75
له جنابان من نقع يثوره
ففرجه من حصى المعزاء مكلول
76
وهذا الشعر وإن كان مقولا في أوائل الإسلام، فقائله جاهلي وليس في شعر أبناء الجاهلية ما يفوقه تمثيلا لنزعتهم الشعرية، ومثله قول بشر بن عوانة في الأسد:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت
وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
77
إذا لرأيت ليثا زار ليثا
هزبرا أغلبا لاقى هزبرا
78
تبهنس ثم أحجم عنه مهري
محاذرة، فقلت: عقرت مهرا
79
أنل قدمي ظهر الأرض إني
رأيت الأرض أثبت منك ظهرا
وقلت له وقد أبدى نصالا
محددة ووجها مكفهرا
يكفكف غيلة إحدى يديه
ويبسط للوثوب علي أخرى
يدل بمخلب وبحد ناب
وباللحظات تحسبهن جمرا
وفي يمناي ماضي الحد أبقى
بمضربه قراع الموت أثرا
ألم يبلغك ما فعلت ظباه
بكاظمة غداة لقيت عمرا
وقلبي مثل قلبك ليس يخشى
مصاولة فكيف يخاف ذعرا؟!
وأنت تروم الأشبال قوتا
وأطلب لابنة الأعمام مهرا
ففيم تسوم مثلي أن يولي
ويجعل في يديك النفس قسرا؟
نصحتك فالتمس يا ليث غيري
طعاما؛ إن لحمي كان مرا
فلما ظن أن الغش نصحي
وخالفني كأني قلت هجرا
مشى ومشيت من أسدين راما
مراما كان إذ طلباه وعرا
هززت له الحسام فخلت أني
سللت به لدى الظلماء فجرا
وجدت له بجائشة أرته
بأن كذبته ما منته غدرا
80
وأطلقت المهند من يميني
فقد له من الأضلاع عشرا
فخر مجدلا بدم كأني
هدمت به بناء مشمخرا
وقلت له يعز علي أني
قتلت مناسبي جلدا وفخرا
ولكن رمت شيئا لم يرمه
سواك، فلم أطق ياليث صبرا
تحاول أن تعلمني فرارا!
لعمر أبيك قد حاولت نكرا
فلا تجزع فقد لاقيت حرا
يحاذر أن يعاب فمت حرا
فإن تك قد قتلت فليس عارا
فقد لاقيت ذا طرفين حرا
وهذا هو بالنفس نسق هوميروس في استتمام مزايا موصوفاته، وإن هذه الإفاضة في التمثيل ضعفت كثيرا في شعر المخضرمين ومن وليهم.
وقد كان ذلك أسلوب الجاهليين في جميع ما مثلوه بشعرهم مما يتناول أحوال الحرب والسلم، والعادة والخلق، والمعيشة في الإقامة والتسيار.
وإذ كان محسوسهم خشنا ومطالعاتهم غير ممتدة كثيرا إلى ما وراء الحروب، وأخبار القبائل كان معظم شعرهم في ما وافق ذلك المحسوس وتلك المطالعات، فأفاضوا في وصف البوادي والقفار، وأكثروا من وصف معيشتهم وأحوالها ومدح الكرم والوفاء وقرى الضيف، وأسهبوا في ذكر ما لديهم وحواليهم من سلاح وخيل وإبل، وما أشبه من معدات زمانهم ومكانهم.
ومع هذا فإن لغتهم وإن كانت فيها شيء كثير من خشونة معيشتهم، فقد كانت متسعة للغرام، والحكم الرائعة، والحماسة ووصف الشعائر والأخلاق، فتلك جميعها أمور منطبعة في فطرة الجاهلي انطباعيا في نفوس أعرق الخلق في الحضارة، بل ربما كانت أصفى وأنقى في أذهان أبناء البادية، فأي شعر في الفخر والحماسة أسمى من قول السموأل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
وما قل من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلى وكهول
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
لنا جبل يحتله من نجيره
منيع يرد الطرف وهو كليل
رسا أصله تحت الثرى وسما به
إلى النجم فرع لا ينال طويل
هو الأبلق الفرد الذي شاع ذكره
يعز علي من رامه ويطول
وإنا لقوم ما نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا
وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد حتف أنفه
ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا
وليست على غير الظبات تسيل
صفونا فلم نكدر وأخلص سرنا
إناث أطابت حملنا وفحول
علونا إلى خير الظهور وحطنا
لوقت إلى خير البطون نزول
فنحن كماء المزن ما في نصابنا
كهام ولا فينا يعد بخيل
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
ولا ينكرون القول حين نقول
إذا سيد منا خلا قام سيد
قئول لما قال الكرام فعول
وما أخمدت نار لنا دون طارق
ولا ذمنا في النازلين نزيل
وأيامنا مشهورة في عدونا
لها غرر معلومة وحجول
وأسيافنا في كل شرق ومغرب
بها من قراع الدارعين فلول
معودة أن لا تسل نصالها
فتغمد حتى يستباح قتيل
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
فليس سواء عالم وجهول
فإن بني الريان قطب لقومهم
تدور رحاهم حولهم وتجول
وأي قول في الحكمة أحسن من قول زهير:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومن لا يصانع في أمور كثيرة
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن يوف لا يذمم ومن يهد قبله
إلى مطمئن البر لا يتجمجم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
وإن يرق أسباب السماء بسلم
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذما عليه ويندم
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه
يطيع العوالي ركبت كل لهذم
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن يغترب يحسب عدوا صديقه
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
ومن لم يزل يسترحل الناس نفسه
ولا يعفها يوما من الذل يندم
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وكائن ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
سألنا فأعطيتم وعدنا وعدتم
ومن أكثر التسآل يوما سيحرم
وإليك مثالا في الغزل من يتيمة سويد بن أبي كاهل اليشكري:
بسطت رابعة الحبل لنا
فوصلنا الحبل منها ما اتسع
81
حرة تجلو شتيتا واضحا
كشعاع الشمس في الغيم سطع
82
صقلته بقضيب ناضر
من أراك طيب حتى نصع
83
أبيض اللون لذيذا طعمه
طيب الريق إذا الريق خدع
84
تمنح المرآة وجها واضحا
مثل قرن الشمس في الصحو ارتفع
صافي اللون وطرفا ساجيا
أكحل العينين ما فيه قمع
85
وقرونا سابغا أطرافها
غللتها ريح مسك ذي فنع
86
هيج الشوق خيال زائر
من حبيب خفر فيه قدع
87
آنس كان إذا ما اعتادني
حال دون النوم مني فامتنع
وكذاك الحب ما أشجعه
يركب الهول ويعصي من وزع
فأبيت الليل ما أرقبه
وبعيني إذا نجم طلع
88
وإذا ما قلت ليل قد مضى
عطف الأول منه فرجع
يسحب الليل نجوما ظلعا
فتواليها بطيئات التبع
ويزجيها على إبطائها
مغرب اللون إذا اللون انقشع
89
فدعاني حب سلمى بعد ما
ذهب الجدة مني والريع
90
خبلتني ثم لما تشفني
ففؤادي كل أوب ما اجتمع
ودعتني برقاها إنها
تنزل الأعصم من رأس اليفع
تسمع الحداث قولا حسنا
لو أرادوا غيره لم يستمع
كم قطعنا دون سلمى مهمها
نازح الغور إذا الآل لمع
في حرور ينضج اللحم بها
يأخذ السائر فيها كالصقع
91
وهم وإن لم يبلغوا في الغزل رقة المتأخرين، فلهم بوصفه سذاجة لقول كثيرا من المعنى في الكلام القليل، ولا سيما أثناء مزجه بذكر الحروب كقولهم في ما ينسب إلى عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
تلك كانت على الجملة منازعهم في شعرهم، وذلك هو نتاج قرائح الجاهلية، وأنت ترى أن أصحاب تلك القرائح لم يكونوا أبناء جاهلية جهلاء من الجهل بل ما أحراهم أن يكون أطلق عليهم ذلك لشيوع عبادة الأوثان بينهم، ولعل هذا هو المراد بما جاء في سورة المائدة:
أفحكم الجاهلية يبغون
إذ قالوا في تفسيرها الملة الجاهلية.
وقد أوردنا من قولهم فضلا عما تقدم أمثلة شتى من مرادفات أقوال هوميروس في شرح الإلياذة.
ومدة هذا الطور الشعري زهاء مئة وخمسين عاما، ومن صفوة فحوله امرؤ القيس وطرفة بن العبد، والحارثة بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، وعنترة العبسي، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد بن ربيعة وهؤلاء هم أصحاب المعلقات، والنابغة الذبياني، والمهلهل والأعشى الأسدي وعدي بن زيد ، وعبيد بن الأبرص، وبشر بن أبي خازم وأمية بن أبي الصلت والسموأل والشنفري ودريد بن الصمة.
ومزيته البساطة والبداهة، واقتفاء الفطرة، وتمثيل الحقيقة في رسم الطبيعة، فهو في جميع ذلك أعلى طبيعة من شعر المتأخرين من العرب، ولا يفوقه شيء من شعر المتقدمين من سائر الأمم حتى اليونان والرومان.
الطبقة الثانية
أو شعراء المخضرمين وشعراء الدولة الأموية
علمت أن النهضة الشعرية كانت في ريعانها عند ظهور الإسلام، فجاء القرآن وأسكت الشعراء، وما أسكتهم إلا ليزيد نهضتهم استحكاما ويملأ حوافظهم ببلاغته الخلابة، فاندفعوا اندفاع السيل المنهمر، وأذهانهم ملأى بما ادخرت من الشعر الجاهلي، وما ضمت إليه من البلاغة القرآنية، فاجتمعت لهم بداهة الفكر، وسمو التصور ودقة التعبير.
وقد ألحقت شعراء الدولة الأموية بالمخضرمين
أولا:
لأن النفحة القرآنية أثارت نفوسهم إثارتها للمخضرمين؛ لقرب عهدهم بها، فنفس حسان ونفس الفرزدق واحد، وجرير يماثل كعب بن زهير، ومثله الأخطل وإن كان نصرانيا، بل ربما علت طبقة شعراء الدولة الأموية عمن تقدمهم من المخضرمين في البلاغة لشبوبهم عليها وتأصلها في نفوسهم.
وثانيا:
لأن الشعراء كانوا أعز نفسا وأرفع شأنا في الدولة الأموية منهم في الدولة العباسية وما وليها، وسببه أن الدولة الأموية قامت على كره من الفريق الأعظم من المسلمين، فكانت في حاجة إلى استمالة الشعراء، فدلوا وعزوا ولم يهينوا كما هانوا بعد ذلك الزمن إذ باتوا يطلبون الزلفى تقربا من الخلفاء وبطانتهم طمعا بمال وجرا لمغنم، وشتان ما كرامة المتزلف والمترفع، فحسان مدح النبي ولكنه مدحه شغفا بمناقبه، وتصح المشاكلة بينه وبين الفرزدق في مدح زين العابدين علي بن الحسين، ولكنها لا تصح بينهما وبين مداح معظم المولدين والمحدثين.
وثالثا:
لأن شعراء العرب حتى أواخر الدولة الأموية لم يألفوا ترف الحضارة المتسرب إليهم من الرومان والفرس بالمخالطة، فبقيت مسحة الفطرة الجاهلية ظاهرة في شعرهم، فهم والمخضرمون طبقة واحدة لا يتخللها فاصل.
ثم إنه بالنظر إلى معنى لفظة المخضرم في عرف كتاب العرب لا ينكر إطلاقها على شعراء الدولة الأموية؛ لأنهم قد يعنون بها كل متوسط بين عصرين كما أطلقوها على مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية يريدون بهم الذين أدركوا الثانية من شعراء الأولى، فلا بأس علينا بهذا الاعتبار أن نطلقها توسعا على شعراء الدولة الأموية لتوسط كثيرين منهم بين الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية، والتصاق الباقين بهم.
فيبقى علينا النظر في المتأخرين من شعراء بني أمية الذين أدركوا دولة بني العباس، فأمثال هؤلاء يقال فيهم ما تقدم في متأخري الجاهليين الذين أدركوا الإسلام، فمن ربا شعره في دولة الأمويين، وبقيت فيه صبغة المخضرمين كان مخضرما، ومن ربا شعره في دولة العباسيين، فكان قوله أميل إلى الرقة منه إلى البلاغة كان مولدا، ولا يخرج عن هذا التعريف إلا نوابغ قليلون كبشار بن برد الذين عاصر الدولتين، ولبس الحلتين، وفصل من الشعر ما شاء لما شاء فكان من أبلغ المخضرمين بقوله:
أبي طلل بالجزع أن يتكلما
وماذا عليه لو أجاب متيما
وبالجزع آثار بقين وباللوى
ملاعب لا يعرفن إلا توهما
ومن أرق المولدين شعرا بقوله:
لمست بكفي كفه أبتغي الندى
ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى
أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي
ومثل بشار في المخضرمين مثل النابغة الجعدي في الجاهليين، فللنابغة شعر جاهلي عريق في البداوة، وهو القائل أيضا:
الحمد لله لا شريك له
من لم يقلها فنفسه ظلما
المولج الليل في النهار وفي اللي
ل نهارا يفرج الظلما
الحافظ الرافع السماء على الأر
ض ولم يبن تحتها دعما
الخالق البارئ المصور في الأر
حام ماء حتى يصير دما
وليس في شعر المخضرمين شيء ينطبق على المعاني القرآنية ويمثل بلاغتها كهذه الأبيات.
وقد كان شعر المخضرمين آية في علو الطبقة ومتانة السبك يربو بهما على ما تقدم عنه، وما تأخر من سائر الشعراء، ولكن مبلغهم من الرقي في الحضارة أضعف فيهم نزعة المتقدمين الفطرية، فقصروا فيها عن المتقدمين، ولم يمكنهم من التأنق في المعيشة بما استتب للعرب بعدهم من مزينات العمران، فلم يدركوا شأو المولدين بالرقة والتصرف بالمعاني، وفي ما سوى ذلك كان شعرهم غاية الغايات .
ولا فرق في ذلك بين شعراء النبي والخلفاء الراشدين كحسان بن ثابت وكعب بن زهير، وشعراء الدولة الأموية كذي الرمة وعبيد الراعي بل ربما كان شعر الدولة الأموية أعرق في البلاغة كما تقدم، وفي ما يلي من أمثلة شعرهم ما يؤيد هذا القول.
قال حسان يمحد النبي ويفتخر:
الله أكرمنا بنصر نبيه
وبنا أقام دعائم الإسلام
وبنا أعز نبيه وكتابه
وأعزنا بالضرب والإقدام
في كل معترك تطير سيوفنا
فيه الجماجم عن فراخ الهام
ينتابنا جبريل في أبياتنا
بفرائض الإسلام والأحكام
يتلو علينا النور فيها محكما
قسما لعمرك ليس كالأقسام
فنكون أول مستحل حلاله
ومحرم لله كل حرام
نحن الخيار من البرية كلها
ونظامها وزمام كل زمام
الخائضو غمرات كل منية
والضامنون حوادث الأيام
سائل أبا كرب وسائل تبعا
عنا وأهل العتر والأزلام
إنا لنمنع من أردنا منعه
ونجود بالمعروف للمعتام
وترد عادية الخميس سيوفنا
ونقيم رأس الأصيد القمقام
فلئن فخرت بهم لمثل قديمهم
فخر اللبيب به على الأقوام
ودونك مثالا من مشوبة كعب بن زهير التي مطلعها: بانت سعاد ... وقد وجهها إلى النبي يعتذر إليه، فأمنه بعد أن كان أهدر دمه.
تسعى الوشاة بجنبيها وقولهم
إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
وقال كل خليل كنت آمله
لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا سبيلي لا أبالكم
فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ال
قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنب وإن كثرت في الأقاويل
لقد أقوم مقاما لو يقوم به
أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل ترعد إلا أن يكون له
من النبي بإذن الله تنويل
فقد جمع في هذه الأبيات القليلة بين الاعتذار والحكمة، والمدح والفخر بأبدع أسلوب، وأبلغ عبارة.
ومن قول الأخطل في الهجو:
وكنت إذا لقيت عبيد تيم
وتيما قلت أيهم العبيد
لئيم العالمين يسود تيما
وسيدهم وإن كرهوا مسود
وقد زعم الأخطل أنه أهجى العرب بهذين البيتين.
ومن أمثلتهم في النسيب قول ذي الرمة:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى
ولا زال منهلا بجرعائك القطر
لها بشر مثل الحرير ومنطق
رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
وعينان قال الله كونا فكانتا
فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
ومن أبلغ من الإمام علي بن أبي طالب إذ قال مبتهلا لله تعالى:
لك الحمد يا ذا المجد والجود والعلا
تباركت تعطي من تشاء وتمنع
إلهي وخلاقي وحرزي وموئلي
إليك لدى الإعسار واليسر أفزع
إلهي لئن خيبتني أو طردتني
فمن ذا الذي أرجو ومن أتشفع
إلهي لئن جلت وجمت خطيتي
فعفوك عن ذنبي أجل وأوسع
إلهي لئن أعطيت نفسي سؤلها
فها أنا في روض الندامة أرتع
إلهي ترى حالي وفقري وفاقتي
وأنت مناجاتي الخفية تسمع
إلهي فلا لقطع رجائي ولا تزغ
فؤادي فلي في باب جودك مطمع
إلهي أجرني من عذابك إنني
أسير ذليل خائف لك أخضع
إلهي فآنسني بتلقين حجتي
إذا كان لي في القبر مثوى ومضجع
إلهي لئن عذبتني ألف حجة
فحبل رجائي منك لا يتقطع
إلهي إذا لم ترعني كنت ضائعا
وإن كنت ترعاني فلست أضيع
إلهي إذا لم تعف عن غير محسن
فمن لمسيء بالهوى يتمتع
إلهي لئن قصرت في طلب التقى
فلست سوى أبواب فضلك أقرع
إلهي اقلني عثرتي وامسح حوبتي
فإني مقر خائف أتضرع
إلهي لئن خيبتني أو طردتني
فما حيلتي يا رب أم كيف أصنع
إلهي حليف الحب بالليل ساهر
يناجي ويبكي والمغفل هجع
وكلهم يرجو نوالك راجيا
لرحمتك العظمى وفي الخلد يطمع
إلهي يمنيني رجائي سلامة
وقبح خطياتي علي يشنع
وإن من أصدق الأمثلة على علو طبقة هذه الطائفة من الشعراء قصيدة الفرزدق في مدح زين العابدين علي بن الحسين التي قيل: إن أهل البيت لم يمدحوا بمثلها؛ ولهذا أوردناها بطولها وهي:
92
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمي إلى ذروة العز التي قصرت
عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضي حياء ويغضى من مهابته
فلا يكلم إلا حين يبتسم
من جده دان فضل الأنبياء له
وفضل أمته دانت له الأمم
ينشق نور الهدى عن نور غرته
كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم
مشتقة من رسول الله نبعته
طابت عناصره والخيم والشيم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله
بجده أنبياء الله قد ختموا
الله فضله قدما وشرفه
جرى بذاك له في لوحه القلم
وليس قولك من هذا بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما
يستوكفان ولا يعروهما العدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره
يزينه اثنان حسن الخلق والكرم
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا
حلو الشمائل تحلو عنده نعم
ما قال لا قط إلا في تشهده
لولا التشهد كانت لاءه نعم
لا يخلف الوعد ميمون نقيبته
رحب الفناء أريب حين يعترم
عم البرية بالإحسان فانفصلت
عنه القتارة والإملاق والعدم
من معشر حبهم دين وبغضهم
كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم
أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم
ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت
والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
لا ينقص العسر بسطا من أكفهم
سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
يستدفع السوء والبلوى بحبهم
ويستزاد به الإحسان والنعم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم
في كل بدء ومختوم به الكلم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم
خيم كريم وأيد بالندى عصم
أي الخلائق ليست في رقابهم
لأولية هذا أو له نعم
من يعرف الله يعرف أولية ذا
فالدين من بيت هذا ناله الأمم
فهذا جل ما يمكن إيراده في مثل هذا الموضع من شعر أبناء هذه الطبقة ومزيته، كما ترى بلاغة في المعنى، ومتانة في التعبير، وإحكام في التركيب مع ميل إلى الرقة، وتلك أيضا من مزايا الإلياذة، فإن بلاغة الأصل لا تفوقها بلاغة في الكلام اليوناني، فإن ظهر تقصير في التعريب فتبعته على المعرب دون المنشئ، وإن فيها من متانة التعبير ما لا يفوقه شيء في شعر جميع الأمم، ولا سيما في مشاكلة الألفاظ للمعاني، وحكاية الأصوات مما أشرنا إليه في مواضعه.
ومدة هذا الطور الشعري مئة وخمسة وثلاثون عاما تبتدئ من الهجرة، وتنتهي بقيام الدولة العباسية.
وعروة وصله من الطور الأول أو طبقة الجاهليين النابغة الجعدي وأمثاله، ومع الطور الثاني أو طبقة المولدين بشار بن برد.
وفحوله في صدر الإسلام حسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن نويرة، والعباس بن مرداس، والنمر بن تولب، وأبو ذؤيب العجلي، وفي عصر الدولة الأموية القطامي، والأخطل النصرانيان، وجرير الخطفي والفرزدق وعبيد الراعي، وذو الرمة، والكميت بن زيد، وأرطأة بن سمية، والأعشى بن ربيعة والأعشى التغلبي.
الطبقة الثالثة
المولدون أو شعراء عصر العباسيين
قامت الدولة العباسية سنة 132 للهجرة (750م) والسلطنة الإسلامية موطدة الدعائم مشيدة الأركان، وغزاة العرب ضاربون في المشارق والمغارب يقوضون ما تداعى من مباني الفرس والرومان، فينبذون الأنقاض البالية، ويشيدون على أساس الحزم دولة قيض الله لها أن تكون دولة العزة والسلطان في ذلك الزمان، فامتلأت خزائن الخلفاء بكسب المجاهدين وجباية الأموال، وتسرب ما فاض منها إلى بيوت المقربين وصنائعهم من أمير وفقير، وعميد وشريد، فذاقوا حلو حضارة الدولتين الهاويتين، وتبدلوا مرقعة عمر ذلك الدثار الرث الذي ضم بين ردينه عماد الإسلام والمسلمين ببزة الخز والديباج، وعلالته من لبن وتمر، وأيسر الإدام بشهي طعام لماظته الفالوذج والسكباج، وذلك الرحل على بعير قارح يمتطيه الخادم والمخدوم، وهما سواء في شرع الإسلام بالسروج الموشاة على الجياد المطهمة تحف بها مواكب الحشم والغلمان، فعلت القصور ووشيت الخدور، وزها الرياش، وانبسط المعاش، والشعراء من أفراد تلك الأمة يرقون رقيها في معارج العمران.
زعموا أن شاعرا بدويا من رعاة الماشية ممن دب وشب بين الكباش والنعاج قدم حاضرة عامرة، فأكرمه صاحبها فمدحه بهذين البيتين:
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا
من كثير العطا قليل الذنوب
أنت كالكلب في الحفاظ على الو
د وكالتيس في قراع الحروب
فهم بعض أعوان الأمير بقتله، فقال الأمير: «خل عنه فذلك ما وصل إليه علمه ومشهوده، ولقد توسمت فيه الذكاء فليقم بيننا زمنا، وقد لا نعدم منه شاعرا مجيدا». فما أقام بعض سنين في سعة عيش، وبسطة حال حتى قال الشعر الرقيق الآخذ بمجامع القلوب، وهو في زعم بعضهم صاحب الأبيات التالية:
يا من حوى ورد الرياض بخده
وحكى قضيب الخيزران بقده
دع عنك ذا السيف الذي جردته
عيناك أمضى من مضارب حده
كل السيوف قواطع إن جردت
وحسام لحظك قاطع في غمده
إن رمت تقتلني فأنت مخير
من ذا يعارض سيدا في عبده
ومهما يكن قدر الصحة من هذه القصة المروية على أساليب مختلفة، فإن فيها إشارة بينة إلى تأثير الأحوال بأفكار الرجال، وفعل الحضارة بقرائح الشعراء.
وهذا كان شأن الشعراء في زمن الدولة العباسية، فإنهم رتعوا في أرجاء ذلك الملك الفسيح متربعين بعد شظف العيش على الطنافس الوثيرة في المنازل الأنيقة أمام الحدائق الغناء، وخلفاؤهم يصعدون بالأمة في سلم المدنية يحرصون على استثمار ذلك الفتح المبين؛ فيدخرون ما تلقوه عمن تقدمهم، ولا يألون جهدا في إحكامه وإلقائه حتى بهروا الغرب بما تجمع لديهم من ذخائر السلف النفيسة، وإن التحف الغراء التي كان هارون الرشيد ينفح بها شارلمان من غرر تلك الكنوز، ومن جملتها ساعته التي تلقاها سلطان المغرب آية من الآيات لا تبقي مجالا للريب في مبلغ الثروة العباسية، واستحكام النهضة وسريانها من العراق إلى مصر والشام والأندلس، وسائر البلاد التي طرقها المسلمون.
فلا بدع، وكل ذلك مشهود الشعراء أن تتثقف أذهانهم وتتروض نفوسهم، وتتسع مداركهم، ويرق تصورهم ويمرحوا في روض من الشعر أريض يجولون فيه جولة لم تتوفر أسبابها لسلفائهم.
ولهذا لم يكن لشاعر جاهلي أو مخضرم أن يبدع إبداع الرقاشي بقوله:
نبهت ندماني الموفي بذمته
من بعد أتعاب طاسات وأقداح
فقال خذ واسقني واشرب وغن لنا
يا دار مثواي بالقاعين فالساحي
فما حسا ثانيا أو بعض ثالثة
حتى استدار ورد الراح بالراح
أو يرق رقة أبي نواس بقوله:
ومستطيل على الصهباء باكرها
في فتية باصطباح الراح حذاق
فكل شيء رآه ظنه قدحا
وكل شخص رآه قال ذا الساقي
فلا ريب أن هذين القولين أوقع في النفس من قول عنترة:
ولقد شربت مع الندامى بعد ما
ركد الهواجر بالمشوف المعلم
بزجاجة صفراء ذات أسرة
قرنت بأزهر بالشمال مفدم
فإذا أبدع عنترة بهذا الوصف في زمانه بين قوم يهيمون في الفلوات على ظهور الإبل بين مضارب البادية، فإنه لا يطرب جلساء أبي نواس والرقاشي في محافل الأنس، ومغاني التأنق والعيش الرغيد.
وقد بلغ المولدون الدرجة القصوى من التصرف بالمعاني، وجزالة اللفظ ودقة السبك، فصعدوا بالشعر درجة لم يبلغها المتقدمون، وهيهات أن يدركها المتأخرون، وكان هذا ديدن الفريق الأعظم منهم في جميع الأبواب التي طرقوها، فأي غزل أرق من قول أبي نواس:
حامل الهوى تعب
يستخفه الطرب
إن يكن يحق له
ليس ما به لعب
تضحكين لاهية
والمحب ينتحب
كلما انقضى سبب
منك جاءني سبب
تعجبين من سقمي
صحتي هي العجب
وقول البحتري:
كيف أغدو من الصبابة خلوا
بعد ما راحت الديار خلاء
قف بها وقفة ترد عليها
أدمعا ردها الهوى انضاء
إن للبين منة لا تؤدى
ويدا في تماضر بيضاء
حجبوها حتى بدت لفراق
كان داء لعاشق ودواء
أضحك البين يوم ذاك وأبكى
كل ذي صبوة وسر وساء
فجعلنا الوداع فيه سلاما
وجعلنا الفراق فيه لقاء
ووشت بي إلى الوشاة دموع ال
عين حتى حسبتها أعداء
وأي تشبيه أبدع من قول ابن المعتز في القلم:
قلم ما أراه أم فلك يج
ري بما شاء قاسم ويسير
راكع ساجد يقبل قرطا
سا كما قبل البساط شكور
وقوله:
من لي بقلب صيغ من صخرة
في جسد من لؤلوء رطب
جرحت خديه بلحظي فما
برحت حتى اقتص من قلبي
ومثله قول ابن الرومي في قوس الغمام:
وساق صبيح للصبوح دعوته
فقام وفي أجفانه سنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم
فمن بين منقض علينا ومنفض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا
على الجو دكا والحواشي على الأرض
يطرزها قوس السحاب بأخضر
على أحمر في أصفر إثر مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل
مصبغة والبعض أقصر من بعض
وأي كلام في المدح أطلى من قول ابن هانئ:
قد طيب الافطار طيب ثنائه
من أجل ذا تجد الثغور عذابا
لم تدنني أرض إليك وإنما
جئت السماء ففتحت أبوابا
ورأيت حولي وفد كل قبيلة
حتى توهمت العراق الزابا
ومن ترى أعلى كعبا بالحكمة والزهد من أبي العلاء، وهو القائل:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قي
س بصوت البشير في كل ناد
أبكت تلكم الحمامة أم غن
ت على فرع غصنها المياد
صاح هذي قبورنا تملأ الرح
ب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم أل
أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العه
د هوان الآباء والأجداد
سر إن استطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين
في طويل الأزمان والآباد
فاسأل الفرقدين عمن أحسا
من قبيل وآنسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهار
وأنارا لمدلج في سواد
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
إن حزنا في ساعة الموت إضعا
ف سرور في ساعة الميلاد
خلق الناس للبقاء فضلت
أمة يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعما
ل إلى دار شقوة أو رشاد
ضجعة الموت رقدة يستريح ال
جسم فيها والعيش مثل السهاد
ومن أبدع إبداع أبي الطيب بالتصرف بالمعاني، وجمع شتاتها، ويكفيك قوله:
غاب الأمير فغاب الخير عن بلد
كادت لفقد اسمه تبكي منابره
قد اشتكت وحشة الأحياء أربعه
وخبرت عن أسى الموتى مقابره
حتى إذا عقدت فيه القباب له
أهل لله باديه وحاضره
وجددت فرحا لا الغم يطرده
ولا الصبابة في قلب تجاوره
إذا خلت منك حمص لا خلت أبدا
فلا ساقها من الوسمي باكره
دخلتها وشعاع الشمس متقد
ونور وجهك بين الخلق باهره
في فيلق من حديد لو قذفت به
صرف الزمان لما دارت دوائره
تمضي المواكب والأبصار شاخصة
منها إلى الملك الميمون طائره
قد حرن في بشر في تاجه قمر
في درعه أسد تدمى أظافره
حلو خلائقه شوس حقائقه
تحصى الحصى قبل أن تحصى مآثره
تضيق عن جيشه الدنيا ولو رحبت
كصدره لم تبن فيها عساكره
إذا تغلغل فكر المرء في طرف
من مجده غرقت فيه خواطره
تحمي السيوف على أعدائه معه
كأنهن بنوه أو عشائره
إذا انتضاها لحرب لم تدع جسدا
إلا وباطن للعين ظاهره
فقد تيقن أن الحق في يده
وقد وثقن بأن الله ناصره
تركن هام بني عوف وثعلبة
على رؤوس بلا ناس مغافره
فخاض بالسيف بحر الموت خلفهم
وكان منه إلى الكعبين زاخره
حتى انتهى الفرس الجاري وما وقعت
في الأرض من جيف القتلى حوافره
وأي حنين أوقع في النفس وأعظم إيثارا للعاطفة، وأصدق رسما لرقة شعر المولدين من فراقية أبي الحسن علي بن زريق البغدادي، وإن لنا من سمو معاني القصيدة التالية وجزالة ألفاظها عذرا على إيرادها كلها مثالا على شعر النوابغ من أبناء هذه الطبقة:
93
لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
جاوزت في نصحه حدا أضر به
من حيث قدرت إن النصح ينفعه
فاستعملي الرفق في تأديبه بدلا
من عنفه فهو مضنى القلب موجعه
قد كان مضطلعا بالخطب يحمله
فضلعت بخطوب البين أضلعه
يكفيه من لوعة التشتيت أن له
من النوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه
عزم إلى سفر بالرغم يزمعه
تأبى المطالب إلا أن تكلفه
للرزق سعيا ولكن ليس يجمعه
كأنما هو في حل ومرتحل
موكل بفضاء الله يذرعه
إذا الزمان أراه في الرحيل غنى
ولو إلى السند أضحى وهو يقطعه
وما مجاهدة الإنسان واصلة
رزقا ولا دعة الإنسان تقطعه
قد قسم الله بين الناس رزقهم
لا يخلق الله من خلق يضيعه
لكنهم كلفوا حرصا فلست ترى
مسترزقا وسوى الغايات يقنعه
والحرص في الرزق والأرزاق قد قسمت
بغي ألا إن بغي المرء يصرعه
والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه
عفوا ويمنعه من حيث يطعمه
أستودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وإني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه
وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق
مني بفرقته لكن أرقعه
إني أوسع عذري في جنايته
بالبين عنه وقلبي لا يوسعه
أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته
وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا
شكر عليه فعنه الله ينزعه
إعتضت من وجه خلي بعد فرقته
كأسا أجرع منها ما أجرعه
كم قائل لي ذقت البين قلت له
ألذنب والله ذنبي لست أدفعه
هلا أقمت فكان الرشد أجمعه
لو أنني حين بان الرشد أتبعه
لو أنني لم تقع عيني على بلد
في سفرتي هذه إلا وأقطعه
يا من أقطع أيامي وأنفدها
حزنا عليه وليلي لست أهجعه
لا يطمئن بجنبي مضجع وكذا
لا يطمئن به مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب أن الدهر يفجعني
به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى الدهر فيما بيننا بيد
غبراء تمنعني حقي وتمنعه
وكنت من ريب دهر جازعا فرقا
فلم أوق الذي قد كنت أجزعه
بالله يا منزل القصر الذي درست
آثاره وعفت مذ بنت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا
أم الليالي التي أمضته ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله
وجاد غيث على مغناك يمرعه
من عنده لي عهد لا يضيع كما
عندي له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره وإذا
جرى على قلبه ذكري يصدعه
لأصبرن لدهر لا يمتعني
به ولا بي في حال يمتعه
علما بأن اصطباري معقب فرجا
فأضيق الأمر إن فكرت أوسعه
عل الليالي التي أضنت بفرقتنا
جسمين تجمعني يوما وتجمعه
وإن تغل أحدا منا منيته
لا بد في غده الثاني سيتبعه
وإن يدم أبدا هذا الفراق لنا
فما الذي بقضاء الله نصنعه
وإن المقام ليضيق عن الاستزادة من هذه النفائس، فإن ما أوردناه منها ليس إلا ذرة من درة.
نظرة في شعر المولدين
لم يكن لفريق من الناس أن يدعي الكمال حتى الشعراء، والمولدون مع بلوغهم من البلاغة، وإحكام الصنعة أقصى الدرجات فإنهم يؤاخذون، ولا سيما المتأخرين منهم على مغامز ترجع إلى خلال أربع:
الخلة الأولى:
اقتضاب الوصف الشعري فلا تبرز الحقيقة جلية على فطرتها في كثير من شعرهم، ويستثنى من ذلك الحكم والأمثال، وكذلك الأبحاث العلمية التي ليست من لباب الشعر، ويندر أن شاعرا يعمد إلى وصف فيستتمه ويرسمه رسما جليا كاملا كما رأيت في أسد بشر، وثور عبدة، فترى الأفكار متزاحمة والمعاني متلازة في منظوماتهم، فتختل اللحمة بينها، وتأتي متراكمة، فيفوت السامع شيء كثير مما تصوروه وقصروا في تصويره، فهم بهذا الاعتبار قد عدلوا عن منزع الفطرة، وأبعدوا عن البداهة الجاهلية، وتحولت معهم المقاصد الشعرية إذ بات مرماهم فيها جر المغانم، ودفع المغارم.
وإن كلامنا في كل ذلك إجمالي لا يؤخذ منه خلو شعر المولدين جميعا من بدائع الوصف التام، وإجادة التصوير فقد تجد في شعر المولدين ما يضاهي منحى الجاهليين، وإن رمت مثالا لذلك فاقرأ قصيدة المتنبي التي مطلعها:
في الخد إن عزم الخليط رحيلا
مطر تزيد به الخدود نحولا
الخلة الثانية:
تبذ لهم في المديح حتى جعلوا الشعر صناعة للتكسب، ومهنة للاسترزاق فكاد يمتهن الشعر، وتنحط طبقة الشعراء في عيون عظماء الأمة، ولو تتبعت أقوال فحولهم؛ كالبحتري، وأبي تمام، والمتنبي ما رأيته يتعدى المدح للمحسن إليهم، والهجاء للممسك عنهم، بل ربما هجوا ممدوحهم، ومدحوا مهجوهم؛ طمعا وتشفيا كما كان شأن المتنبي مع كافور.
ولا يستثنى منهم سوى أفراد خرجوا ترفعا من موقف الذلة والمسكنة، إما لسعة في حالهم، ورفعة في درجتهم الموروثة كابن المعتز، وأبي فراس، فذلك من أبناء الخلفاء، وهذا من نسل الأمراء، وإما لحكمة فطروا عليها، وأنفة في طباعهم وزهد في نفوسهم كالمعري، وما أقل أمثاله بين المتقدمين والمتأخرين؛ ولهذا كان المعري يرجح كثيرا في ميزان الرجال على المتنبي وأمثاله مع أن الرجحان بين للمتنبي في ميزان الشعراء.
الخلة الثالثة:
ابتذال الغزل ووصف الغرام حيث لا محرك إليه إلا التوطئة للمديح، فجاء أكثر ما نظم من هذا القبيل غير مثير للعاطفة، ولا مؤثر في النفس، وإن كثر فيه الحنين والأنين بخلاف ما يقصد به شخص معين كما رأيت في قصيدة ابن زريق.
وهو ثابت أن التوطئة بالغزل ليست من بدع المولدين بل هي خطة درج عليها الشعراء من أيام الجاهلية، على أن الجاهليين لم يبتذلوها ولم يتعمدوها إلا في أحوال مخصوصة كان يزدان بها شعرهم، ولم يصف شاعرهم في أكثر المواقف إلا غراما برح به كما ترى في غزليات امرئ القيس وعنترة، وإذا تعدى تلك الخطة فلم يتعداها إلا قليلا، بخلاف المولدين إذ كانوا يتكلفون الغزل تكلفا كأنه من لوازم الاستهلال.
والظاهر أن كثيرين من ذوي الرؤية والنقد كانوا ينكرون تلك الطريقة حتى في إبان الزمن العباسي.
قال الإبشيهي: «مدح أبو العتاهية عمرو بن العلاء
94
فأعطاه سبعين ألفا، وخلع عليه خلعا سنية حتى أنه لم يستطع أن يقوم، فغار الشعراء منه فجمعهم وقال: يا لله العجب ما أشد حسد بعضكم لبعض إن أحدكم يأتينا ليمدحنا، فيتغزل في قصيدته بخمسين بيتا فما يبلغنا حتى يذهب رونق شعره» قد تشبب أبو العتاهية بأبيات يسيرة ثم قال:
إني أمنت من الزمان وصرفه
لما علقت من الأمير حبالا
لو يستطيع الناس من إجلاله
جعلوا له حر الوجوه نعالا
إن المطايا تشتكيك لأنها
قطعت إليك سباسبا ورمالا
فإذا وردن بنا وردن خفائفا
وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا
وإذا أردت دليلا محسوسا على صحة هذا النقد فخذ قصيدتين من مختار شاعر واحد وطأ الشاعر بالغزل في إحداهما، وولج الموضوع توا في الأخرى فتبدو لك فورا مزية مطلع الثانية على الأولى.
فمن مختار ابن هانئ قصيدته في مدح المعز ومطلعها:
فمن في مأتم على العشاق
ولبسن الحداد في الأحداق
وبكين الدماء بالعنم الرط
ب المقنى وبالخدود الرقاق
وقصيدته في المعز أيضا ومطلعها:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصار
ومن مختار المتنبي قوله في سيف الدولة مستهلا:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي
وللحب ما لم يبق مني وما بقي
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه
ولكن من يبصر جفونك يعشق
وقوله في مطلع آخر قصيدة قالها وهي في سيف الدولة أيضا:
فدى لك من يقصر عن هداكا
فلا ملك إذن إلا فداكا
وإن قلنا فدى لك من يساوي
دعونا بالبقاء إن قلاكا
أفلا تراك تؤثر مطلع رائية ابن هانئ وكافية المتنبي على قافيتيهما.
ولا يجب أن يستفاد مما تقدم أننا ننكر التوطئة على الإطلاق، فإنها إذا جادت ووقعت في موضعها ووافقت موضعها، فإنها تشق شغاف القلب وتذكي شرارة النيرة، فتهيم بها البصائر كما يقع لسامع قصيدة أبي تمام التي مطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والريب
فقد أراد مدح المعتصم العباسي على إثر فوزه ذلك الفوز المبين، وتنكيله بجيوش الروم وفتحه عمورية، فوطأ لمدحه توطئة استهلها بما تقدم، وما أجملها توطئة لمثل ذاك المديح.
ومما يحمد عليه المولدون بهذا المعنى توطئتهم للرثاء بالزهد وأشباهه.
الخلة الرابعة:
تجاوزهم في المجون وبذاءة التعبير إلى ما لا يستبيحه أدب المجالس، ويغض من قدر الشعر ومنزلة الشعراء، وهذا أيضا ليس من بدع المولدين بل سبقهم إليه شعراء الجاهلية والمخضرمون حتى أودعه امرؤ القيس معلقته، وفي أهاجي جرير والأخطل والفرزدق ما لا يعد مفخرة لأمثال أولئك الفطاحل، ولكن الجاهليين كانوا يأتونه عفوا على البداهة، فاستمسك به المخضرمون وأوغلوا فيه إيغالا أدى بالمولدين إلى التفنن به تفننهم في سائر ضروب الشعر، وفحشوا فيه فحشا فاضحا، ومن ذا الذي يقرأ أهاجي أبي تمام لمقران، والمتنبي لابن كيغلغ، ومجونيات الصفي الحلي، ولا ينكر أن تشان بدائع منظوماتهم بتلك السفاسف الهجينة، وأغرب من هذا أن كثيرا من تلك البذاءات ممتزح بدرر من المعاني تضيق عنها أرحب القرائح، فإذا قرأت قصيدة المتنبي التي يستهلها بقوله:
لهوى النفوس سيرة لا تعلم
عرضا نظرت وخلت أني أسلم
فإنك ترى فيها من غرر المعاني، وأبكار الأفكار ما جرى أكثره مجرى الأمثال، وتنوقل جيلا بعد جيل في أندية الأدب وحسبك منها قوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
والناس قد نبذوا الحفاظ فمطلق
ينسى الذي يولي وعاف يندم
لا يخدعنك من عدو دمعه
وارحم شبابك من عدو ترحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن جهله وخطاب من لا يفهم
ومع هذا فإنك لا تتمالك من الإنكار على الشاعر خلط هذه النفائس بتلك الخسائس.
وأقبح من كل ذلك تشببهم بما لم يشرعه الله، ولم يسق إليه الطبع، ولم يفش قبلهم في شعر الجاهليين وإنما هو بدعة اقتبسوها بملابسة المدنية الجديدة، فما أوغل إمامهم أبو نواس في ذلك النهج البذيء حتى هبوا إلى تحديه.
والظاهر أن ذلك التراخي كان مندمجا بروح العصر فانتهجه الشعراء، وسلك مسلكهم صفوة الأدباء كالبديع الهمذاني والحريري، وسموه أحماضا كأنه فكاهة مستملحة يتطلبها كل أديب أريب؛ ولهذا قال الحريري في مقدمة كتابه: «وما قصدت بالأحماض فيه إلا تنشيط قارئيه».
ذلك ما يعاب عليه المولدون ما خلا رهطا منهم سما أدبا، وتهذب عقلا ونفسا.
أما إلياذة هوميروس فهي على ما وصلت إلينا نقية من تلك المغامز لا يؤاخذ صاحبها على شيء من هذا الخلال الأربع، أما الخلة الأولى فلأن الشاعر جاهلي وحيثما تصفحت شعره رأيته أبدع في الوصف ورسم الحقائق، وأما الثانية والثالثة، فلأنهما مخالفان لطبعه، وذلك باد في كل منظومه ، وأما الرابعة فقد تحاشاها الشاعر لسمو في أدبه مع ما كان فاشيا في عصره من الاستسلام للشهوات كما أثبتنا في ترجمته؛ ولهذا جاءت إلياذته نقية لا يتخللها شيء مما تحظر قراءته حتى على الغادة العذراء.
مناهج المولدين في أبواب الشعر وفنونه وأساليبه
لم يقتصر المولدون من الشعر على نظمه بل نظروا فيه ومحصوه، وانتقدوه، وعارضوه بعضا ببعض، وبحثوا فيه بحثا علميا، ووضعوا أصوله وبوبوا فصوله، وجمعوا مختاره، وعينوا فنونه ووازنوا بين الشعراء، وكتبوا في كل ذلك الأسفار الطويل بين نثر وشعر مما لا يتسع له بحثنا.
وقد جعلوا الشعر بالنظر إلى معناه أبوابا حصرها أبو تمام في عشرة، وأبلغها ابن أبي الإصبع العدواني إلى ثمانية عشر، وهي: الغزل، والوصف، والفخر، والمدح، والهجاء، والعتاب، والاعتذار، والأدب، والزهد، والخمريات، والرثاء، والبشارة، والتهاني، والوعيد، والتحذير، والملح والسؤال، والجواب، وزادوا عليها الزهريات، والحكم، والمجون، والحماسة، وهي أشرفها عندهم وأجادوا في كل ذلك.
وتفننوا في الشعر تفننا لم يعرفه الأوائل إلا قليلا، فأفاضوا في
التشطير، والتخميس، والمعمى، والأحجية، واللغز، والدوبيت الفارسي
الذي خالفوا فيه أوزان الشعر العربية.
وأكثر من كلف منهم بذلك متأخروهم كالحريري، وابن الفارض، وصفي الدين الحلي، وأن تخميس الصفي لحماسية السموأل من أجود ما قيل بهذا ومطلعها:
قبيح بمن ضاقت عن الرزق أرضه
وطول الفلا رحب عليه وعرضه
ولم يبل سربال الدجى منه ركضه
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
وفي ديوان ابن الفارض كثير من الدوبيت واللغز كقوله:
يا ليلة وصل صبحها لم يلح
من أولها شربته في قدحي
لما قصرت طالت وطابت بلقا
بدر محني في حبه من منحي
وقوله ملغزا في بقله:
ما اسم قوت لأهله
مثل طيب تحبه
قلبه إن جعلته
أولا فهو قلبه
وللحريري ألغاز وأحاجي، ومعميات، وأحسنها بل أحسن ما قيل بهذا المعنى يائيته الطويلة التي مطلعها:
عندي أعاجيب أرويها بلا كذب
عن العيان فكنوني أبا العجب
وأما
التاريخ الشعري
فلا نعلم له شيوعا عند المولدين، وإنما هو من فنون المحدثين أو المتأخرين، ولكنه بلا ريب مأخوذ عن أصل قديم جدا؛ لأن الحساب بالحروف أقدم من جميع الشعر العربي المعروف، وقد استعمله اليونان والعبريون والرومان قبل العرب، ولكنهم لم يلصقوه بالشعر، على أن جميع هذه الفنون ليست إلا من فكاهات الشعر، ولا يجب أن تعد من بدائع النظم.
أما
الموشح الأندلسي
فهو من محاسن الاستنباط الشعري، قيل اخترعه مقدم بن معافر شاعر الأمير عبد الله بن محمد المرواني في أواخر القرن الثالث للهجرة، وقيل في أصله أقوال أخرى لا محل لذكرها، كانوا ينظمونه على أساليب شتى أشهرها جعل اللازمة بيتين، وكل دور بعدها خمسة أبيات كقول الخطيب الأندلسي:
جادك الغيث إذا الغيث هما
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس
دور
إذ يقول الدهر أسباب المنى
تنقل الخطو على ما ترسم
زمر بين فرادى وثنا
مثلما يدعو الوفود الموسم
والحيا قد جلل الروض سنا
فسنا الأزهار فيه تبسم
وروى النعمان عن ماء السما
كيف يروي مالك عن أنس
فكساه الحسن ثوبا معلما
يزدهي منه بأبهى ملبس
كانوا ينهجون هذا النهج في طوال الموشحات، ولهم في ما سوى ذلك طرق كثيرة تغنوا عليها، وخالفوا فيها أوزان الشعر المشهورة، وتراهم ينقرون في بعضها على أوتار الأفئدة كما ترى في قول ابن أبي بكر الأبيض في مطلع موشح:
ما لذ لي شرب راح
على رياض الأقاح
لولا هضيم الوشاح
إذا آسى في الصباح
أو في الأصيل
أضحى يقول
ما للشمول
لطمت خدي
وللشمال
هبت فمال
غصن اعتدال
ضمه بردي
مما أباد القلوبا
يمشي لنا مستريبا
يا لحظه رد ثوبا
ويا لماه الشنيبا
برد غليل
حب عليل
لا يستميل
فيه عن عهدي
ولا يزال
في كل حال
يرجو الوصال
وهو في الصد
وقول عبادة القزاز:
بدر تم. شمس ضحا
غصن نقا. مسك شم
ما أتم. ما أوضحا
ما أورقا. ما أنم
لا جرم. من لمحا
قد عشقا. قد حرم
ومما يذكر للمولدين استطرادا ضروب كثيرة من
الشعر العامي
كالمواليا وفي أصله أقوال أشهرها: أن هارون الرشيد أمر بعد نكبة البرامكة أن لا يرثيهم أحد بشعر، فرثت أحدى جواريهم جعفرا بشعر غير معرب حتى لا يعد شعرا، وجعلت تقول بعد كل شطر يا مواليا قالت:
يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس
أين الذين حموها بالقنا والترس
قالت نراهم رمم تحت الأراضي الدرس
سكوت بعد الفصاحة ألسنتهم خرس
هذا الذي يقوله المؤرخون في أصل الشعر العامي، والذي نراه أنه أقدم من ذلك العهد بل نخاله معاصرا للشعر الجاهلي، وللبغداديين أيضا من هذا النوع القوما، قيل كانوا ينشدونه عند السحور في رمضان سمي بذلك من قول المغنين «قوما نسحر قوما» وجعلوه على وزن هذه الكلمات الثلاث، وتفرع عنه فروع دعوها الزهري والخمري وغيرهما، ولهم غير ذلك من الشعر العامي مما لا محل لذكره.
وللأندلسيين كثير من هذا النوع مما تفرع عن الموشح، ومما تغنت به العامة
كالزجل وفروعه عروض البلد، والمزدوج والكاري والملعبة والغزل
ولا تزال بقايا كل ذلك في جميع البلاد التي غلبت فيها العربية، وأخصها الزجل المصري والزهيري البغدادي والمعنى السوري، ولا يدخل في عدادها القصيد البدوي؛ لأنه من بقايا الشعر الجاهلي الفصيح.
وأحرز المولدون أيضا قصب السبق في
الحكم والمواعظ، وجمع شوارد الأمثال
وأول رافع منهم لذلك اللواء أبو العتاهية فإنه نظم فيها أرجوزة طويلة قيل إنه ضمنها أربعة آلاف مثل، وهي من بدائع نظمه ومنها قوله:
حسبك مما نبتغيه القوت
ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر في ما جاوز الكفافا
من اتقى الله رجا وخافا
هي المقادير فلمني أو فذر
إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر
لكل ما يؤذي وإن قل ألم
ما أطول الليل على من لم ينم
من جعل النمام عينا هلكا
مبلغك الشر كباغيه لكا
إن الفراغ والشباب والجده
مفسدة للمرء أي مفسده
ما زالت الدنيا لنا دار أذى
ممزوجة الصفو بألوان القذى
الخير والشر بها أزواج
لذا نتاج ولذا نتاج
من لك بالمحض وليس محض
يخبث بعض ويطيب بعض
لكل إنسان طبيعتان
خير وشر وهما ضدان
وجرى كثيرون من شعراء المولدين مجرى أبي العتاهية في جمع الحكم والأمثال في القصائد الغراء، فمنهم من نظمها مجردة عما سواها من المقاصد كأبي الفتح البستي في النونية المعروفة التي مطلعها:
زيادة المرء في دنياه نقصان
وربحه غير محض الخير خسران
وكل وجدان حظ لا ثبات له
فإن معناه في التحقيق خسران
ومثلها لامية ابن الوردي:
اعتزل ذكر الأغاني والغزل
وقل الفصل وجانب من هزل
ودع الذكر لأيام الصبا
فلأيام الصبا نجم أفل
ومنهم من أودعها قصائد قيلت لمقاصد معلومة كما فعل ابن دريد في منظومته المعروفة بالمقصورة الدريدية، وقد أراد بها مدح الشاة ابن ميكال وولديه ومطلعها:
يا طبية أشبه شيء بالمها
ترعى الخزامى بين أشجار النقا
إما تري رأس حاكي لونه
طرة صبح تحت أذيال الدجى ...
فكل ما لاقيته مغتفر
في جنب ما اسأره شحط النوى
ومن هذا القبيل قصيدة الطغرائي المعروفة بلامية العجم، إذ قالها لغرض في نفسه، ومزج فيها الحكم بالفخر كما ينبئك مطلعها:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل
وحلية الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع
والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
وأبناء هذا الفريق الأخير من الشعراء يتجاوزون حد الحصر، ويندر أن ترى شاعرا لم يودع شعره شيئا من الحكم والأمثال بل كان كثيرون منهم يوطئون بها للمدح والهجاء، والوصف والرثاء، فتقوم لديهم مقام التوطئة بالغزل.
ويقال في الجملة: إن المولدين مع تبذلهم في المدح طرقوا جميع أبواب الشعر مما تقدم ذكره، ولكنهم قلما اقتصر الشاعر منهم في القصيدة الواحدة على باب واحد بل كانوا يمزجون مزجا يمل أحيانا، ولكنه يطرب أحيانا كثيرة ولا سيما في القصائد الطويلة التي لا بد من تفكيه سامعها بما يثنيه هنيهة عن مرمى الشاعر، وربما جمع شاعرهم بين الغزل والحكم والأمثال، والزهريات والفخر، والمدح في قصيدة واحدة وأطربك في كل ما قال لبلاغته، وطلاوة شعره وحسن تصرفه، وحسبك مثالا من ذلك قصيدة ابن الرومي المسماة حديقة الشعر، وهي التي مدح بها إسماعيل بن بلبك في ما ينيف على مئتي بيت ، فبينا تخاله مستهلا بزهرية، فيقول:
أجنت لك الوجد أغصان وكثبان
فيهن نوعان تفاح ورمان
وفوق ذلك أعناب مهدلة
سود لهن من الظلماء ألوان
وتحت هاتيك عناب تلوح به
أطرافهن قلوب القوم قنوان
إذا بك تراه متغزلا، فيقول:
غصون بان عليها الدهر فاكهة
وما الفواكه مما يحمل البان
ونرجس بات ساري الطل يضربه
وأقحوان منير النور ريان
ألفن من كل شيء طيب حسن
فهن فاكهة شتى وريحان
فإذا أسكرك بنشوة تلك الصهباء وقف خطيبا واعظا، فقال:
ثمار صدق إذا عاينت ظاهرها
لكنها حين تبلو الطعم خطبان
بل حلوة مرة طورا يقال لها
شهد وطورا يقول الناس ذيفان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
تلك الغصون اللواتي في أكمتها
نعم وبؤس وأفراح وأحزان
يبلو بها الله قوما كي يبين له
ذو الطاعة البر ممن فيه عصيان
وما ابتلاهم لإعنات ولا عبث
ولا لجهل بما يطويه أبطان
لكن ليثبت في الأعناق حجته
ويحسن العفو والرحمن رحمن
ثم إذا تخلص إلى المدح أودعه المعاني الشائقة، والحكم الرائعة، وإذا انتقل منه إلى العتاب وطلب النوال ألبس ذلك جلبابا بهيا، واختتم بما لا يصلح سواه أن يكون تاجا لتلك الغادة الهيفاء فقال:
وإن أبيت فحسبي منك عارفة
إن امتداحك عند الله قربان
والحر يسغب دهرا وهو ذو سعة
والعف يطوي زمانا وهو سغبان
وللبلاء انفراج بعد أزمته
ورعبة الدهر أعجاف وأسمان
وللإله سجال من فواضله
كل امرئ ناهل منه وعلان
أن لا يعني على دهري أخو ثقة
من العباد فإن الله معوان
أو يبطل الحق عند الناس كلهم
فليس للحق عند الله بطلان
خذها أبا الصقر بكرا ذات أوشية
كالروض ناصي عرارا فيه حوذان
وأسلم لراجيك مسعودا وإن تربت
ممن يعاديك آناف وأذقان
وهكذا فإنه يظل يرتقي بك درجة بعد أخرى، وهو يهيجك طربا حيثما وقف بك ويحوم حول مطلبه حتى يلجئك إلى استتمام سماعه فلا تشعر إلا وقد أتيت على قصيدته برمتها، وأنت مشغوف بطلاوتها فقلت: «هلا زادني منها رحمه الله».
وهذا المنزع بعينه هوميروس في إلياذته، ولو لم تكن حديقة ابن الرومي خلية من أخبار الشعر القصصي لقلت هي شطر من تلك الملحمة التي خلب بها هوميروس عقول رواته وقرائه، وكأني بابن الرومي وفيه لمحة من كنيته التي كان يعير بها في زمانه إلى جرثومة في أصله أو عرفانه كانت تحمله على تحدي هوميروس في كثير من أساليبه ومعانيه وتشبيهاته.
وللمولدين أقوال ساحرة في التشابيه والكنايات والاستعارات، وكانوا كلما أبعدوا عن الحقيقة فقصروا فيها عن الجاهليين أوغلوا في الخيال، ففاقوا المتقدمين بسعة التصور وضروب المجاز.
علوم الأدب عند المولدين
ليس من شأننا هنا التعرض لجميع ما تنطوي عليه علوم الأدب في عرف بعض العلماء من نحو وتصريف، ولغة واشتقاق وأمثالها بل نقصر الكلام على ما كان منها خاصا بالشعر كالعروض أو ملازما له كالبديع والبيان.
فالمولدون هم الذين فتحوا باب البحث في صناعة الشعر، وقيدوا شوارده، وفصلوا قواعده، وشاركهم في ذلك النحاة والأدباء وعلماء اللغة، فضبطوا الأوزان ووزنوا المعاني، وصيروا قرض الشعر علما بعد أن كان ملكة لا ضابط لها إلا القياس السماعي.
وقد كان ذلك القياس يكفل استبقاء تلك الملكة أيام كان العرب في معتصمهم يتخالطون في البوادي والحواضر، وتجمعهم سوق عكاظ كل عام، فتقوم ما اعوج من منطقهم، ولا يخالطهم الأعاجم مخالطة تعبث بلسانهم على أن إيغالهم في أطراف المعمور، وانتشار لغتهم انتشارا لم يكن انتشار اليونانية واللاتينية بإزائه شيئا مذكورا، وامتزاجهم بسائر الملل كل هذا أحدث انقلابا ألجأهم إلى تقييد أصول الشعر على إثر تقييد أصول اللغة.
العروض
فكان أول ما استلفت نظرهم ضبط الأوزان، فوضع الخليل بن أحمد علم العروض نحو سنة 150 للهجرة أي: في أوائل العصر العباسي عصر المولدين.
ويقول بعض المتقدمين من كتاب العرب: «إن العروض علم خاص بالعربية، وأن الخليل استنبطه، ولم يسبقه إليه أحد في لغة أخرى مع أن أرسطوطاليس ضبط قواعده للغة اليونان، وله فيه تأليف يعول عليه» ولأكثر اللغات قواعد ضابطة لأصول الشعر وعروضه، ويؤخذ من قول ابن خلكان في ترجمة الخليل أنه ألم باليونانية، وفك معمى أرسل إليه فيها ، ولكنه لا يثبت من كل ذلك أن الخليل وقف على كتاب أرسطوطاليس في العروض واعتمد عليه، وخصوصا أن العروض العربي مختلف في جميع أوضاعه عن عروض اليونان، ومن جرى مجراهم، وعلى كل فإن للخليل فضلا على الشعر العربي يضاهي أبي الأسود الدؤلي على نحو اللغة بل يربو عليه؛ لأنه لم يكن للخليل مرشد إلى استنباطه، ولا شريك فيه، ولا يكبر على الخليل أن يكون مستنبطا بلا دليل سابق يسترشد به؛ لأن الاستنباط كان في طبعه، وله مما خلا العروض استخراجات كثيرة تدل على سعة عقل لم يقدرها ابن المقفع قدرها إذ قال: «علم الخليل أكبر من عقله».
والغريب أنه كاد يبلغ بهذا العلم حد الكمال منذ فكر فيه وضعه إذ قيد جميع البحور التي انتهجها العرب، ولم يزد عليها من بعده إلا بحر واحد هو المحدث أو الخبب، ويقال له: المتدارك أيضا؛ لأن الأخفش تداركه على الخليل، ولا عبرة بما استعمل المولدون من الأوزان الفارسية كمنقول الفاريابي والدوبيت، وما عدلوا به عن الأوزان المألوفة في الموشحات والأغاني، وما زادوا فيه من تقييد العلة والزحاف، فذلك عرض ينفسح للتسوع فيه مجال رحب؛ ولهذا يصح أن يقال: إن علم العروض خلق كاملا؛ لأن الخليل أحكم تمثيل جميع القوالب الشعرية وتطبيقها على جميع منظوم العرب في الجاهلية.
البديع
رأيت أن المولدين تفننوا في الصناعة الشعرية، ونهجوا مناهج لم يسبقهم إليها الجاهليون والمخضرمون، وتلاعبوا بالألفاظ والمعاني، فمست الحاجة بعد صوغ تلك القوالب إلى توشيتها والنظر في إحكام زخرفها، فوضعوا علم البديع بفرعيه اللفظي والمعنوي، فكان اللفظي ألصق بالشعر منه بالنثر، والمعنوي يتناول جميع فنون الإنشاء من شعر ونثر على حد سواء.
وأول من كتب في البديع فيما نقل إلينا شاعر كلف بأنواع التشابيه والاستعارات، فكان قوله فيهما حجة الكتاب والشعراء ألا وهو ابن المعتز العباسي، ولم يكن بين المولدين من هو أولى منه بوضع هذا الفن، فكتب في صنعة الشعر، ووضع رسالة في البديع كانت أساس هذا العلم، وذلك في أوائل الشطر الأخير من القرن الثالث للهجرة أي: بعد أن وضع الخليل علم العروض بأكثر من قرن.
ولا بدع أن يكون واضع هذا العلم شاعرا، وإن كان العلم بنفسه غير خاص بالشعر كالعروض، فالعلماء والشعراء يتعاونون على إحياء الأدب، فالشاعر صناجة جيش العلماء، والعالم نبراس جند الشعراء.
وهكذا فإننا نعد من مآثر المولدين وضع علمين عربيين استنبطاهما استنباطا بالنظر إلى العربية، وهما: العروض، والبديع اللفظي.
البيان
أما البيان بما يشمل من علم المعاني والبديع المعنوي فليس من وضع العرب بحصر المعنى، وإن كانوا طبقوه على التراكيب العربية، فقد استمدوا أصوله من اليونان والسريان والفرس كما استمدوا المنطق من كتاب أرسطوطاليس وغيره من علماء المتقدمين، وكان للفرس في البيان اليد الطولى، ولجعفر البرمكي كلام فيه ما زال ينقل عنه، على أن للمولدين فيه النظر العالي والفضل الواسع بما أحسنوا في تبويبه، وأحكموا في ترتيبه حتى ألبسوه حلة عربية، ومع هذا فلم يبلغ حتى يومنا درجة الكمال التي بلغها العروض والبديع اللفظي.
فهذه علوم ثلاثة وضعها المولدون إحكاما للصناعة الشعرية وأساليب الإنشاء، وليس من شأننا أن نتطال إلى ذكر سائر العلوم التي لها علاقة بالشعر قريبة أو بعيدة، فهي كثيرة ولا سيما في هذا العصر حيث لا غنى للشاعر عن الإلمام، ولو قليلا بكثير من العلوم.
أطوار شعر المولدين ومزاياه
كانت مخالطة المسلمين للأعاجم في عصر العباسيين على خلاف ما كانت عليه لعهد الدولة الأموية، فإن الأمويين كانوا لأغراض ليس من شأننا البحث فيها يترفعون في أغلب الأمور عن الأجانب، فظلوا على قربهم منهم بعيدين عنهم بالمجالسة والمحادثة والامتزاج، فخفي عنهم كثير مما كانت معرفته غير ضارة، وأما العباسيون فاختلطوا بالأعاجم اختلاطا مكنهم من استطلاع خفاياهم وقربوا إليهم كل ذي جاه وسياسة، وعلم وأدب، وأجزلوا العطاء لكل عضو مفيد في ذلك الملك الواسع سواء كان عربيا مسلما أو يهوديا عبرانيا أو نصرانيا سريانيا أو فارسيا أو يونانيا، فأحاطوا بكل معارف زمانهم وألف أبناء دولتهم أنواع معيشة البشر، فاتسعت على أثر ذلك معارف الشعراء وتفننوا في صناعتهم على وجوه لا عهد للمتقدمين بها.
وهذا كان شأنهم في جميع البلاد التي ملكوها، والشعراء على مذهب ملوكهم يقتبسون من كل واد وناد، فعمت النهضة الشعرية وكانوا جميعا فيها سواء.
ولكن زمن تلك النهضة طال كثيرا واتسع نطاقها اتساعا عظيما، فظهر فرق في منظوم الشعراء بالنسبة إلى الزمان والمكان، وهو ما نريد إجمال الإشارة إليه.
على أنه لا يجب أن يؤخذ من قولنا أن المولدين يقسمون بالنظر إلى الأزمنة والأمكنة إلى طبقات تنفرد كل منها بمزية خاصة بها إذ قد ترى شاعرين بينهما قرون، ونهجهما واحد، وأساليبهما متفقة، ومعانيهما متقاربة، وقد نشأ كل منهما في بلاد، فإنما نحن ناظرون إذن إلى النزعة الغالبة في كل عصر وقطر.
فإذا أمعنت في شعر المولدين بالنظر إلى الزمان رأيت شعار المتقدمين منهم الرقة والرواء، وظل هذا شأنهم حتى أواخر القرن الثالث للهجرة أي: نحو 170 عاما، والباعث الأعظم لذلك ولوجهم في ترف العيش، ونضارة الحضارة، وهم وإن ظل كثيرون منهم في عيش خشن إلا أن من لم يتمتع منهم فقد نظر وخبر، وقد يفضل وصف الرقيب وصف الحبيب، وأول من مهد ذلك السبيل مخضرمو الدولتين؛ كبشار بن برد، ومروان بن أبي حفصة، وتابعهم خلفاؤهم كأبي العتاهية وأبي نواس والبحتري، وما زالوا على ذلك حتى قام ابن المعتز، وابن الروي، وبهما ختم ذلك العصر الزهي عصر الرونق والبهاء، فإذا قرأت شعر جميع من تقدم ذكره رأيته يسيل عذوبة وسلاسة، وقد تميز برقته وانسجامه.
وتبعتهم الطبقة الثانية من المولدين، وكانت أدمغة الشعراء قد امتلأت حكمة وفلسفة مما نضج من ثمار العلم، فأوغلوا في المعاني الدقيقة وتطلبوا الأفكار السامية وصاغوا للتشبيه قوالب شائقة من الكناية والاستعارة، فوسعوا أبواب المجاز وأخذوا بناصية الخيال فقربوه من الحقيقة، وشعارهم في كل ذلك سمو التصور، وكان هذا ديدنهم من المتنبي وأبي فراس الحمداني وابن هاني، وأبي العلاء المعري، وأبي إسحاق الصابي، وأبي إسحاق البستي، والشريف الرضي حتى الخفاجي، وابن زيدون الأندلسي في مدة زهاء 170 عاما كمدة الطبقة الأولى.
ثم أتت الطبقة الثالثة في أواخر القرن الخامس للهجرة، والشعر بحكم البناء موطد الأركان والعلوم البيانية مفصلة القواعد، فعمدوا إلى تنميق الشعر والتفنن بزخرفة وتوشيته بأنواع البديع، والمجيدون منهم يحكمون رصف المعنى الدقيق باللفظ الرشيق، ولكن بعضهم أفسدوا بهجة المعاني بتوخي التجنيس، ومع هذا فقد كان منهم نوابغ لا يكادون ينحطون منزلة عمن تقدمهم كالطغرائي (وهو متوسط بين هذي الطبقة والطبقة الثانية) وابن خفاجة الأندلسي وابن قلاقس الإسكندري، وابن النبيه المصري، وابن الفارض، والبهاء زهير المصري، والشاب الظريف، وصفي الدين الحلي خاتمتهم، وطالت مدة هذه الطبقة من المولدين نحو 260 عاما أي: إلى حوالي سنة 730ه، فكان عصر المولدين جميعا ستمئة عام.
وأما بالنظر إلى المكان فأبناء البلاد العربية ظلوا جانحين إلى البساطة الجاهلية؛ لانطباع تلك الأخلاق في نفوسهم، وبرز المصريون في الرقة والعذوبة لدماثة في خلقهم، ورقة في طبعهم، وغلبت البلاغة والمتانة في العراقيين لشدة في فطرتهم وملابستهم لأهل البادية، ومال الأندلسيون وسائر أهل المغرب إلى التفنن بأساليب الشعر، ووصف الغياض والرياض لنضارة أرضهم، ووقف السوريون بين المصريين والعراقيين، فجمعوا بين رقة الأولين وبلاغة الآخرين، ولكنهم لم يبلغوا مبلغ فريق منهم في إحكام صنعته.
طبقة المحدثين أو المتأخرين
ليس في عصر المتأخرين ما يستوقف النظر، فهو عصر الانحطاط والتقليد فإن الدول العربية كانت قد دالت، وتغلب الأعاجم على ممالك الإسلام، ولولا القرآن لبادت لغة قريش المضرية كما تقدم وبانت في عداد اللغات الميتة، وقامت في إثرها لغات لا يتفاهم أصحابها، والعباسيون وهم أصحاب ذلك اللواء الخافق بين المشرقين كانوا قد هبطوا من سماء مجدهم لقرون خلت، ولكن أسس العلم أرسخ من أسس الدول، فالدول تدول وملكها يزول، وتبقى معالم حضارتها وعرفانها، ولولا ذلك لانطفأت جذوة النهضة العباسية في أواخر القرن الثالث للهجرة حين لم يبق للعباسيين من حقيقة السلطان إلا طيف خيال، ولكان شاعرهم ابن المعتز آخر من أسلم تلك الراية البيضاء بيد الجلاد الذي تولى قتله، ولكن قاهر الدول ومبيدها يذل دون إبادة معارفها ؛ ولهذا تعاقبت الأحقاب وشرارة النهضة العباسية لاهبة تتضرم في أفئدة الشعراء تضرمها في عقول العلماء، ولم تخمد إلا بعد أن بلغت الحد المقضي لكل مفطور ومنظور.
ومع هذا فإن تلك الجذوة ما زالت ترسل قبسا تذكو به قريحة شاعر حينا بعد حين حتى لا تخلو الأرض في زمن من شعراء العرب، وحسبك النظر إلى ابن نباتة المصري في القرن الثامن، وابن حجر العسقلاني في القرن التاسع، وعبد الباقي المعروف عند الترك بملك شعراء الروم في القرن العاشر، وابن معتوق الشهاب الموسوي في القرن الحادي عشر، وعبد الغني النابلسي في القرن الثاني عشر.
ويقال مع ذلك إجمالا أن الانحطاط في الشعر العربي أخذ يظهر قبل انقضاء عصر المولدين، وبات التقليد شعار المتأخرين، وحبذا لو كان تقليدا صحيحا بل هو شوه وجه الشعر، ولا سيما في القرنين الأخيرين إذ بات شاعرنا، ولا إلمام له بأحوال عصره فضلا عن أحوال المتقدمين يتحدى امرأ القيس، فيضرب في البوادي والقفار، وهو في بيت موصد الأبواب، ويسوق الظعن وهو على متن قطار البخار، ويترنم ببهجة الرقمتين وينيلهما من كرمه صفات جنة عدن، ولا يدري أنهما مطمئنان من الأرض في بادية قفرة تقتله أشعة الشمس إذا وقف إليهما ساعة واحدة، وهو لو فطن يتنقل في موطنه في روض أريض، وجنات تجري من تحتها الأنهار، حتى لو أردت أن تستدل من شعرهم على شيء من حالة مجتمعهم لأعياك ذلك، وغاية ما يرتسم في ذهنك صور مشوهة لا يعلم لها رأس من ذيل.
ولما كانت الكنانة فارغة من سهام المعاني عمدوا إلى قذف الألفاظ مزوقة بحلية يتسترون من ورائها وما هم بمتسترين، حتى كأن قدماء العروضيين كانوا ينظرون إليهم عندما وضعوا للشعر ذلك التعريف الناقص، فقالوا: «هو الكلام المقفى الموزون» ولم يزيدوا.
الشعر العصري
لم يبق للشعر بعد تلك الرقدة الطويلة إلا أن يهب هبة جديدة بطور جديد، وروح حية، وفي الأمة والحمد لله بقية متأهبة لولوج ذلك الباب الرحب، وهي شاغرة منذ نصف قرن بوجوب مجاراة الزمان، وعالمة أن التصدي لمصادمة تيار الترقي غرور عاقبته الزيغ والخذلان ؛ ولهذا شرع النوابغ من أبناء هذا العصر في تعديل الخطة، فكانت لهم اليد البيضاء، وأسفر جهدهم عن إبراز الشعر الرقيق بالثواب الأنيق، وما هو إلا قبس فاض من غرة هلال سيتكامل بفضلهم بدرا إن شاء الله.
الملاحم أو منظومات الشعر القصصي
بحث العرب في أبواب الشعر وضروبه وفنونه، ودعوها جميعا بأسماء تنطبق عليها، ولكنه لم يتصل بنا أنهم وضعوا اسما لمنظومات الشعر القصصي من نظائر الإلياذة إلا أن يكون ذلك ما استحدثه أهل المغرب، وسماه بعضهم بالملاحم، وهو عندهم كالملاعب بالشعر العامي ما تضمن من المنظوم أحوال أمة أو قوم وفصلت فيه وقائع الحروب والتاريخ، ولعلهم أخذوا ذلك من التحام القتال، والملحمة في اللغة: الوقعة العظيمة، وربما قصد بها الإحكام من لحم الأمر بمعنى: أحكمه؛ لأن من ألقاب صاحب الشريعة الإسلامية «نبي الملحمة» وقالوا في تفسيرها: «نبي القتال أو نبي الصلاح، وتأليف الناس كأنه يؤلف أمر الأمة.
ويقول العرب أيضا: ألحم فلان الشعر، وحاكه بمعنى: نظمه تشبيها لبيت الشعر ببيت الشعر، وبالثوب المحوك كأنهم يريدون الإشارة إلى تأليف أجزائه بإحكام اللحمة بينها، ومنه الملحمات لمختارات سبع من قصائدهم سيأتي ذكرها.
ومهما يكن من النسبة المعنوية بين لفظ الملحمات والشعر القصصي، فالنسبة بينه وبين الملاحم أظهر؛ ولهذا سمينا إلياذة هوميروس وأشباهها بالملاحم تفاديا من استحداث لفظة لم يسبق لها استعمال بين الكتاب.
ضروب الشعر عند الإفرنج
قلنا: أن العرب قسموا الشعر من حيث المعنى إلى أبواب كالغزل والمدح، والهجاء والرثاء إلى آخر ما هنالك من أبواب الشعر، وهو معلوم أن في شعر جميع الأمم شيئا من هذه المعاني. ولكن الإفرنج ينهجون في تقسيم أبواب الشعر نهجا آخر يجارون فيه العرب بالبحث في أكثر هذه الأبواب وغيرها مما لم يذكره العرب، ويخالفونهم بالرجوع إلى حصرها جميعا في بابين: الشعر القصصي، وهو الذي عبرنا عن منظوماته بالملاحم والشعر الموسيقي، وهو ما نعبر عن منظوماته بالقصائد أو الأغاني، ويسمون الأول «إپبك» والثاني «ليريك». وكلا الفظين يوناني الأصل، فالأول من إيوس (επος)
بمعنى الغناء أو (επο)
أپو بمعنى الكلام، والثاني من ليرا (λυρα)
بمعنى القيثارة أو الكنارة أو آلة طرب أخرى تشبه العود المعروف عندنا، ومعناهما يحصر المعنى واحد كما ترى إذ يرجع بهما في الأصل إلى المقصود من الشعر في أقدم أزمانه، وهو التغني بألحانه والتطرب بمعانيه والتلهي بإنشاده، ولكنهم فصلوا في الاصطلاح بين البابين، وجعلوا لكل منهما مزايا خاصة به، وضمنوهما سائر أنواع الشعر، ذلك أنه لا بد في الشعر من أن يرمى به إلى أحد أمرين؛ إما بسط أحوال العالم بمظاهره البارزة، وإما التعبير عن شعائر النفس الخافية عن الأبصار، وإبراز التصورات الكامنة في الصدور، ومعظم ما يقال من الشعر لا يخرج عن إحدى هاتين الحالتين، فالشاعر القصصي بهذا الاعتبار يعبر عن شعائر غيره، والشاعر الموسيقي إنما يعبر عن شعائر نفسه.
فإذا نظرنا على هذا القياس إلى الأصل الشعري في بعض أسفار التوراة واتخذناها مثالا جاز لنا أن نلحق سفر أيوب بالشعر القصصي، ونعتبره ملحمة من صفوة الملاحم، ونلحق الزبور ونشيد الأنشاد بالشعر الموسيقي، وهما من أبدع الأغاني والقصائد التي نطق بها البشر.
وقد ألحقوا بهذين البابين بابا ثالثا دعوه «دراما» من لفظة ذراما اليونانية (δραμχ)
بمعنى العمل أو الصنعة، وهو ما نستحسن التعبير عنه بالتمثيلي؛ لأنهم يقصدون به غالبا منظوم الروايات التمثيلية، وهو متوسط بين القسمين السابقين، ولكل من هذه الأقسام الثلاثة فروع لا محل لإيرادها.
إلا أنه لا يترتب على ما تقدم أن منظومات الشعراء يجب أن ينتمي كل منها إلى قسم من هذه الأقسام، ويلصق به غير متجاوز إلى ما سواه، بل قد يكثر التداخل بينها، ولا سيما في منظوم البلغاء، فإلياذة هوميروس ملحمة من الشعر القصصي بالنظر إلى ما تضمنته من سرد الوقائع والأخبار، وما تجاوزت به إلى ما وراء الطبيعة من شئون الآلهة وملابستهم للبشر في أعمالهم، وإيضاح حقائق الفضائل والرذائل بطريق الإخبار، ولكن فيها قطعا من أبدع ما قيل في الشعر الموسيقي، وحسبك منها رثاء آخيل لفطرقل، وتفجعه عليه في مواضع مختلفة منها، وأن وداع هكطور لزوجته في النشيد السادس ما زال على قدمه المثال الذي ينسج على منواله أرباب الشعر التمثيلي، وليس بين المتقدمين ولا المتأخرين من أدرك شأوه، وأجاد إجادته فيه مع كل ما أحسن راسين الفرنسي في روايته «انذروماخ».
ويقارب هوميروس في الضرب على جميع الأوتار شكسبير الإنكليزي، فالمشهور عنه أنه من أنصار الشعر التمثيلي، ومع هذا فإذا أخذت مثلا رواية «هملت» رأيت فيها من معاني القصائد والملاحم ما يوقفك دهشة وإعجابا، وقل مثل ذلك في رواية «السيد» لكرني الفرنسي «وأنذروماخ» السالفة الذكر، وفوست لغوته الألماني، وأشباه ذلك من منظوم نوابغ الإيطاليين وغيرهم.
وهو معلوم أيضا أن الشائع عن العرب بين الإفرنج أنهم لم يضربوا إلا على وتر الشعر الموسيقي، ولم يتخطوا في النظم إلى ما وراء القصائد والأغاني، ولكنه قول مبالغ فيه بل زعم موهوم فيه كما سنبين في باب «ملاحم العرب».
ملاحم الأعاجم
قد يتبادر إلى الذهن أن رسم الظواهر أقرب إلى الفطرة وأيسر تناولا من رسم الخوافي الكامنة في النفس؛ ولهذا كان الشعر القصصي في أكثر الملل متقدما على الشعر الموسيقي وفنونه، والصواب أن الأغاني والقصائد أقدم من الملاحم والملاحم أقدم من التمثيليات لأن أقدم ما نطق به الإنسان من الشعر إنما كان أغنية يتطرب بها، أو أنشودة تقذفها النفس إشعارا بعاطفة من نحو حب ودعاء وغيظ ورجاء، أو ملهاة ينشدها الكبير ليتلهى بها الصغير، فهذه القطع الصغيرة تقدمت بلا ريب على المنظومات الطويلة من أشباه الإلياذة إذ لا تتوفر معدات نظم الملاحم إلا في الشعوب الراقية بعد أن تألف نظم المقاطيع القصيرة مئات من الأعوام، ولكن قد يمكن أن يكون ارتقاء الشعر القصصي متقدما على ارتقاء الشعر الموسيقي، وأن تقدم الموسيقى بالوضع كما أن ارتقاء بلاغة الشعر متقدمة على بلاغة النثر، وإن كان النثر متقدما بالوضع. أما التمثيليات فهي من نتاج الملاحم فجاءت متأخرة عنها بالطبع؛ لأنه كان أيسر على الشاعر في غابر الأزمان أن ينطق بلسان جميع ممثليه كما هي الحال في الملاحم من أن يجعل كلا منهم ينطق بلسان نفسه في محل معد لذلك كما هو الواقع في التمثيليات.
والشعراء في جميع الملل يجارون المؤرخين في تدوين الوقائع، وهم وإن قصروا عن المؤرخين في تعيين المواقيت وتفصيل الحوادث إلا أنهم يسبقونهم في تعريف الشعائر والأخلاق، ووصف أحوال المجتمع البشري وتبيان علاقة الخالق بالمخلوق؛ لهذا لم يكن في الأمم قديمها وحديثها أمة أدركت شأوا مذكورا في الحضارة إلا وقام نوابغ الشعر القصصي يبسطون أحوالها، ويجيدون الرسم بنافذ الكلام بما يفوق إجادته بقلم الرسام.
فلقدماء المصريين شعر كثير يستدل عليه من عادياتهم، وإن كان الزمان قد أباد ملاحمهم الطويلة، فإن في ما وجد من القطع المتبعثرة بين الآثار ما يدل على أنها كانت ذات شأن خطير، وحسبك منها شعر نبتاهور.
وللهنود ملاحم بقي بعضها ولا تزال «المهابهارتا» آية في بابها وقد ترجمت منها قطع كبيرة إلى لغات الإفرنج.
وللعبرانيين ملاحم لا يزال بعضها في التوراة، ولقدماء الجرمانيين والسكنديناڨيين ملاحم كانوا يحلونها محلا رفيعا.
واليونان كانوا منذ القدم مشغفين بالشعر القصصي، ولهم فيه منظومات كثيرة قبل ملحمتي هوميروس أشرنا إليها في موضعها.
والرومان ساروا على إثر اليونان، فأبدعوا في هذا الفن وقد أشرنا مرارا إلى إنياذة فرجيليوس.
وقام الإفرنج على أثار تينك الدولتين، وتغنوا قرونا بمنظومات رولان في فرنسا، وهيلدبراند ونيبولنغن في ألمانيا إلى أن قام نوابغ المتأخرين كدنتي الإيطالي، وملتن الإنكليزي ومن حذا حذوهما.
ثم إذا انثنينا إلى ملل الإسلام من غير العرب رأينا أنها ليست بالأقل حظا من هذا الفن، وهذه شهنامة الفردوسي في أخبار ملوك العجم مما يعجب به ويحسد عليه، وقد ذكرناها في غير موضع من هذا الكتاب.
وإن للفرس اليد الطولى في هذا الفن، ولهم فيه غير ملحمة الفردوسي منظومات كثيرة كشهنامة القاسمي الكونابادي التي نظم فيها وقائع الشاه إسماعيل وأهداها إلى الشاه طهماسب، وجعلها نظيرة لتيمورنامة الهاتفي، ومثلها شاهية مجد الدين البابري النسائي في وقعة الخوارزمي.
وللترك أيضا يد في الشعر القصصي كمنظومة شهودي في أربعة آلاف بيت، وإن أغرب ما روي في هذا الباب ما نقل عن شهنامة الشاعر التركي الملقب بالفردوسي الطويل، قالوا: إنه نظمها في مليون وستمئة ألف بيت، وكتبها في ثلاثمئة وثلاثين مجلدا فلما عرضت على السلطان بايزيد العثماني أمر بانتخاب ثمانين مجلدا، وإحراق الباقي فتألم المؤلف، وترك بلاد الروم وذهب إلى خراسان، فمات فيها كمدا.
95
ملاحم العرب
إذا قلنا: إن العرب نظموا الملاحم، فلسنا بزاعمين أن في لغتهم شيئا يماثل إلياذة هوميروس، وشهنامة الفردوسي، وفردوس ملتن بالشعر الحي، ولكن إذا صحت الأدلة المؤدية إلى أن أيوب كان عربيا، ولا أخالها بعيدة الاحتمال كان ذلك السفر البديع المحفوظ في التوراة ملحمة عربية الأصل متقدمة بوضعها على ملاحم اليونان والرومان.
96
ولكن الأخذ بهذا القول ليس مما يضم درة يتيمة إلى خزائن الأدب العربية، فيزيد في مفاخر العرب أو يفيد لغتهم فائدة تذكر لهم وتؤثر عنهم، فالأصل العربي في عالم الغيب وهو على فرض المحال لو وجد لما كان فيه من عربية مضر شيء يعول عليه، ولما وجد بين العرب من يفك منه عبارة واحدة؛ لاختلاف أوضاع اللغة ومبانيها في ذلك العهد البعيد، فهي بهذا الاعتبار آرامية أو عربية أخرى أقرب إلى عبرية التوراة منها إلى عربية قريش.
ومن يعلم بالنظر إلى أيوب نفسه إلى أي فريق من القبائل كان ينتمي، وما كانت حالة العرب والعربية في أيامه، ومن كتب أو استكتب ذلك السفر من قومه أو غير قومه، والحاصل أن إلماعنا إلى ذلك السفر إنما هو قبيل التذكرة والحرص على الإشارة إلى أمر خطير.
ثم إذا رجعنا إلى الشعر القديم المنسوب إلى قدماء العرب في اليمن ونجد والحجاز، فلا نلبث أن نتحقق أنه من النظم الموضوع حديثا لغرض كما أوضحنا، وزد على هذا أنه لا يربو على عدد معلوم من المقاطيع، وليست جميعها على شيء من الشأن في الشعر قصصيا كان أو موسيقيا، وأيضا فلا فائدة من الإلماع إلى ما سبق من النظم في اللغة اليمنية الحميرية التي هذبت وكتبت قبل لغة قريش بقرون، فالبحث إذن يجب أن يكون في الشعر الباقي باللغة العربية المضرية.
نظرة في الجاهليتين جاهلية العرب وجاهلية اليونان
إن أقدم ما اتصل بنا من الشعر الجاهلي الجلي مقول معظمه في مثل المواقف التي قال فيها هوميروس إلياذته، فهنالك شياطين وجنيات تلقن الشعراء فصيح الكلام تلقين القيان لهوميروس، وفي مثل ذلك يقول الأعشى:
دعوت خليلي مسحلا ودعوا له
جهنام جدعا للهجين المذمم
وجهنام تابعة عمرو بن قطن، ولكل من فحول شعراء الجاهلية جنية أو شيطان يلقنه الشعر، وهنالك ملوك كبار على قبائل صغار تتكاثف وتتحالف؛ دفعا لعار وأخذا لثأر، فتثور حرب البسوس بين بكر وتغلب، وتتلاحم عبس وفزارة على إثر سباق داحس والغبراء، ويكادون يفنون بعضهم بعضا كما كاد يفنى الطرواد واليونان وحلفاؤهم، وهنالك أيام تتصاول وتتجاول فيها قبائل منهم، فيشتهر أمرها ويذيع ذكرها كيوم الكلاب، ويوم الجفار، ويوم النسار ويتغنى الشعراء بحديثها تغني هوميروس بيوم القناطرة ويوم الأيتول والكوريت، وما أشبه ذلك مما يفوق الحصر.
وإذا نظرت إلى الأشخاص دهشت لما يبدو لك من الشبه في الأحوال والأقوال، فمن بطل كعنترة ترتجف لصوته القبائل ارتجافها لصوت آخيل يغاظ مثله، فيعتزل القتال فينكل العدو بقومه حتى يهب من عزلته، فيفعل فعل آخيل في عودته، ومن خطيب كنسطور يقف واعظا موقف قس بن ساعدة، فيرشد ويرغب ويرهب، ومن أخوة وأخوات، وأزواج وزوجات، وبنين وبنات، وآباء وأمهات يقولون ويفعلون في جاهلية العرب نظير قولهم وفعلهم في جاهلية اليونان مما ستراه بالمقابلة في تعاليق الشرح، ولو اتسع لنا المقام لما عدمنا سبيلا إلى إبراز نظير لكل من رجال الإلياذة ونسائها.
وإذا حولت نظرك إلى اللباس والرياش وطرق المعاش رأيت مع سبق اليونان في حلبة الحضارة مشاكلة باهرة في حالة المعيشة الفطرية، والسذاجة الخلقية، والحرية الجاهلية: سراة كأكسيل يتسابقون إلى قرى الأضياف كحاتم الطائي، ويبنون بيوتهم على مضرب السبل في قارعة الطريق، وأمراء كآخيل وفطرقل يأمرون وينهون، ولديهم الحشم والجوار، ومع هذا فهم بيدهم يتولون توزيع الزاد على الأضياف، وينحرون الذبيحة بمداهم على نحو ما نحر الأمير الكندي ناقته للعذارى، وأبناء ملوك كولد فريام لا تعيبهم مع غناهم رعاية المواشي، وتربية الأنعام كما قال خالد بن الوليد لماهان الأرمني: «وأما ما ذكرت من فقرنا ورعينا الإبل والشاة، فما منا من لم يرع، وأكثرنا رعاة ومن رعى منا كان له الفضل على من لم يرع».
97
وسبايا تشرى وتباع، وأسرى تقتل وتفتدى وتسرح بإحسان إلى غير ذلك مما لا نهاية له وسترى منه جانبا غير يسير مفصلا بالمقابلة في مواضعه.
ملاحم الجاهليين
ليس في وقائع عرب الجاهلية وأيامهم ما يضاهي خطورة وقائع الحرب الطروادية، ولكن تلك الوقائع لا تخلو بنفسها من شأن نسبي مذكور، فلا بد إذن من اتخاذ إحداها مثالا للمقابلة، وإن أول ما يستلفت الأنظار حرب البسوس.
تلك حرب تناقل العرب أخبارها، وتناشدوا شعرها على مر القرون حتى أيامنا هذه، وصاغوها بقوالب شتى لا يصلح قالب منها لصوغ الملاحم التامة كالإلياذة، ومع هذا فإن جميع ما قيل فيها من الكلام المنظوم أقرب نسبة إلى الشعر القصصي منه إلى الموسيقي، فكل قصيدة منها قطعة من ملحمة، ولكن تلك القطع غير ملتئمة؛ لفقدان اللحمة بينها فهي كالحجارة المنحوتة قد أحكمت صنعتها، وبقيت ملقاة في أرضها غير مرصوصة بالبناء، ثم إذا نظرت إلى أشهر الرجال والنساء فيها رأيتهم جميعهم شعراء، فكليب يقول الشعر، ومثله زوجته جليلة وأخوه مهلهل، وكذلك مرة شاعر، وابنه جساس شاعر، وكل ذي شأن في القصة من غريب وقريب شاعر كالحارث بن عباد، وجحدر بن ضبيعة، فمجموع شعرهم أشبه من هذه الوجه بالشعر التمثيلي؛ لأن لكل حادثة شاعرا ينطق بها بخلاف نهج شعر الملاحم كالإلياذة إذ ترى هوميروس فيها ينطق بلسان الجميع.
وقد يخال الباحث في هذا التقارب، ثم ذلك التباعد بين منظوم الجاهليتين أنه ربما كانت قصة حرب البسوس ملحمة في أصلها، ففقدت منها أجزاء أدت إلى تفرق ما بقي، ولكنه يتضح لدى الإمعان أن ذلك لم يكن، وإن العرب في الجاهلية لم ينظموا الملاحم الطويلة المحكمة العرى مع توقد القرائح، وتوفر معدات الفصاحة في اللغة ؛ لأن ذلك النسق في النظم لم يكن في طبعهم فلم يتخطوا إلى ما وراء الطبيعة، وكانوا مع عبادة الأصنام يميلون إلى التوحيد، وكان التسليم للأحكام العلوية من سننهم قبل الإسلام، فلم يوغلوا في التخيلات الشعرية إلى النظر في أحوال الآلهة وما يترتب على ذلك من تفرع البحث الواحد إلى أبحاث متعددة على ما هو شأن الأمم الآرية، وكل ما يرى من الشبه بين أحوالهم وأحوال قدماء اليونان إنما هو من المظاهر التي ألفت بينها طرق المعيشة الجاهلية، وإذا نظرت إلى حالة اليونان بما كانت عليه مع تلك الخشونة من الانتظام والدربة رأيت أنهم كانوا أيام حرب طروادة أقرب شبها بالعرب في أيام الخلفاء الراشدين، ثم كانوا في أيام هوميروس أي في زمن نظم الإلياذة قد بلغوا من الحضارة مبلغا لم يكن للعرب في جاهليتهم منه إلا النزر اليسير، فلم يسع أبناء الجاهلية أن يتجاوزوا بنظمهم أحوال فطرتهم وطرق معاشهم، فكانوا ينتقلون بالشعر من باب إلى آخر انتقالهم من حي إلى حي يجيدون في كل ما يقولون، ولكنهم لا يطيلون المقام، فلا يشيدون المنازل الفسيحة المشيدة الأركان.
وليس من اللازم أن يكون شعر جميع الأمم على نسق واحد بل ربما كان هذا التباين من الأسباب المؤدية إلى إبراز أنواع الجمال كافة على اختلاف صوره وأشكاله، فالشاعر القصصي من اليونان وخلفائهم كان إذا قص حادثة رواها كلها شعرا، وأما الشاعر العربي فينشد الشعر حيث يحسن وقعه، وأكثر ما يكون ذلك في الوصف والخطاب والجواب، ويقول الباقي نثرا، وفي هذه الطريقة نوع من التفكيه المأنوس، وهي طريقة شعراء البادية حتى يومنا، جلست مرة إلى حلقة شاعر منهم ينشد على نغم ربابته، فشرع في مقدمة نثرية قصيرة حتى بلغ إلى وصف حسناء، فجعل يتغنى بالشعر على نغم آلة الطرب، فلما استتم قصيدته رجع إلى الكلام النثري بضع دقائق حتى بلغ وصف وقعة بين قبيلتين، فرجع إلى الإنشاد وهكذا ظل يتراوح قوله بين نثر وشعر نحو ثلاث ساعات، وذلك أيضا شأن القصاصين في كثير من الحواضر العربية.
فلا سبيل إذن للزعم بوجود ملاحم لعرب الجاهلية على نحو ما يراد منها بعرف الإفرنج، ولكن للجاهليين نوعا آخر من الشعر القصصي مما يعز وجوده في سائر اللغات، وذلك في الملاحم القصيرة المقولة في حوادث مخصوصة، فجميع شعراء الجاهلية وبعض المخضرمين قد سلكوا هذا المسلك وأجادوا فيه، ولو تصفحت كتاب الأغاني، ومفضليات الضبي، وأمثالهما من كتب الأدب والشعر رأيتها ملأى بهذه المنظومات الغراء، وحسبنا بيانا لذلك أن نلقي في سبيلنا نظرة على جمهرة أشعار العرب.
جمهرة أشعار العرب
هو كتاب ألفه أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي المتوفى سنة 170 للهجرة، وشرح فيه المنظومات التي اختارها العرب من نفائس شعر الجاهليين والمخضرمين، وجعلوها سبع رتب في كل منها سبع منظومات، وقد أوردها المؤلف ببعض خلاف في الترتيب عن المتواتر المشهور، فجعل النابغة والأعشى بين أصحاب المعلقات، وحذف معلقة الحارث اليشكري فكانت المعلقات ثماني والمجمهرات ستا، وهي في ما يلي مرتبة على ما هو شائع بين كتاب الأدب والتاريخ.
المعلقات ودعيت كذلك أخذا من قولهم أنها كانت معلقة بأركان البيت، وأصحابها: امرؤ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والحارث بن حلزة، ولبيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وطرفة بن العبد، وعنترة العبسي.
والمجمهرات ولعلها دعيت كذلك تشبيها لها بالناقة المجمهرة، وهي في اللغة المتداخلة الخلق كأنها جمهور الرمل أي: إنها عالية الطبقة محكمة السبك، وأصحابها: النابغة الذبياني، وعبيد بن الأبرص، وعدي بن زيد، وبشر بن أبي خازم، وأمية بن أبي الصلت، وخداش بن زهير، والنمر بن تولب.
والمنتقيات أي: المختارات، وأصحابها: المسيب بن علس، والمرقش، والمتلمس، وعروة بن الورد، ومهلهل بن ربيعة، ودريد بن الصمة، والمتنخل بن عويمر الهذلي.
والمذهبات أي: المكتوبة بماء الذهب، وأصحابها: حسان بن ثابت الأنصاري، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن عجلان، وقيس بن الخطيم الأوسي، وأحيحة بن الجلاح، وأبو قيس بن الأسلت، وعمرو بن امرئ القيس.
والمراثي: وأصحابها: أبو ذؤيب الهذلي، ومحمد بن كعب الغنوي، وأعشى باهلة، وعلقمة بن عبدة الحميري، وأبو زبيد الطائي، ومتمم بن نويرة، ومالك بن ريب النهشلي التميمي.
والمشوبات، وهي التي شابها الكفر والإسلام، وأصحابها: النابغة الجعدي، وكعب بن زهير، والقطامي، والحطيئة والشماخ بن ضرار، وعمرو بن أحمر، وتميم بن أبي مقبل.
والملحمات، ولعلهم أرادوا بهذه التسمية الإشارة إلى إحكام نظمها، وإلحام شعرها كما تقدم، وأصحابها: الفرزدق، وجرير الخطفي، والأخطل التغلبي، وعبيد الراعي، وذو الرمة، والكميت، والطرماح بن حكيم الطائي.
فهذه تسع وأربعون منظومة لتسعة وأربعين شاعرا إذا تصفحتها تبينت لك في كثير منها مزايا هذه الملاحم القصيرة المختصة بلغة العرب، ولا سيما ما قيل منها في الجاهلية كالمعلقات، فإنك ترى فيهن من سرد الحوادث وتفصيل الوقائع، وتمثيل المشاهد وبداهة الفكر ما يعد في أعلى طبقات الشعر القصصي، وفيهن أيضا من بديع التصور والسذاجة، وحسن التصرف البديهي، وإجادة الرصف، وإبداع الوصف، وإحكام التشبيه ما يسمو بهن إلى أرفع درجات الشعر الموسيقي، فهن بهذا المعنى قد جمعن بين محاسن الطريقتين في الشعر العربي كما جمعت إلياذة هوميروس بين أطراف المحاسن في الشعر اليوناني.
فالمعلقات إذن رأس الملاحم العربية، وأقربهن إلى منظومات الشعر القصصي على ما يراد به في العرف معلقة الحارث بن حلزة؛ لإفاضته في وقائع بكر وتغلب، وتغنيه بفوز قومه ونكال عدوه، ومفاخر عشيرته على ما يماثل تغني هوميروس في الإلياذة، وتليها بهذا المعنى معلقة عمرو بن كلثوم ثم معلقة زهير.
ويلحق بالمعلقات باعتبار أنها ملاحم عربية مجمهرة بشر بن أبي خازم، وأمية بن أبي الصلت، ومنتقيات مهلهل بن ربيعة، ودريد بن الصمة، والمتنخل بن عويمر، ومذهبة قيس بن الخطيم، ومشوبة النابغة الجعدي، وملحمات الفرزدق، والكميت والطرماح.
وأنت ترى أن معظم أصحاب الملاحم من الجاهليين، وإن أحسنها المعلقات وجميع أصحابها من أبناء الجاهلية، وقد عرا الشعر القصصي بعدهم ضعف ألمعنا إليه فلا حاجة إلى التكرار.
ملاحم المولدين
إذا قصر المولدون عن الجاهليين بالبداهة الفكرية، فقد رأيت أنهم فاقوهم بسمو التصور والرقة، وصعدوا فوقهم درجات في سلم البلاغة بفضل القرآن، ولو لم تتغير مناحي شعرهم لما تقدم بسطه من الأسباب لأبدعوا في جميع الأساليب الشعرية، ولكنهم لم يستتموا الاقتباس، وإلا فلو استرشدوا ببعض السور القرآنية كسورة يوسف، وسورة مريم وسورة الأنبياء مما يعد نبراسا نيرا للملاحم لفاقوا الجاهليين بالشعر القصصي كما فاقوهم بالشعر الموسيقي.
ومع هذا فإن للمولدين نوعا من الملاحم خاصا بهم، وهو المقامات المسجعة بما يتخللها من الشعر كمقامات الهمذاني والحريري، ولكن التجرد فيها للإغراب في اللفظ يحول الفكر فيها عن التصرف بالمعنى على أن للفظ أحيانا رنات مطربة بنفسها، وهذا النوع من الإنشاء من خصائص اللغة العربية، وإن كثرة القوافي في اللغة تسوق إلى التسجيع حتى لقد يكون ذلك حيث لا مسوغ له كالأبحاث العلمية، والتفاسير القرآنية حتى كتب التاريخ التي لا يستحسن فيها الإكثار من الشعر والسجع.
ويلحق بالمقامات القصص التي يمتزج بها الشعر والنثر كقصة عنترة العبسي، وكثير من القصص التي تتداولها العامة في جميع البلاد العربية.
وإن من أحسن ملاحم المولدين ملحمة نثرية جمع فيها صاحبها شتيت المعاني، وأوغل في التصور حتى سبق دنتي الشاعر الإيطالي، وملتن الإنكليزي إلى بعض تخيلاتهما ألا وهي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ولكن استغلاق عبارتها وفقدان الطلاوة الشعرية منها ينحطان بها عن درجة أمثالها من ملاحم الأعاجم، وأما المنظومات الإخبارية، والأراجيز التاريخية التي يقصد بها تدوين الأخبار، فهي كثيرة في كل عصر من عصور العرب في الشعر الفصيح والعامي، وقد باد معظم ما قيل منها في الجاهلية، وهي أشبه شيء بالأراجيز العلمية، وكتب التواريخ المسجعة كتاريخ العتبي، وليست في الغالب إلا سلسلة حوادث مصوغة في القالب الشعري البسيط لا تتناول إلا القليل من بديع التصور الذي يهيج النفس، ولا مجال فيها للخيال، ومن هذا القبيل أرجوزة ابن عبد ربه
98
في إخبار الملك الناصر عبد الرحمن الأندلسي التي مطلعها:
سبحان من لم تحوه أقطار
ولم تكن تدركه الأبصار
ومن عنت لوجهه الوجوه
فما له ند ولا شبيه
فهذه وأمثالها مما لا يعد من نفائس الشعر القصصي ولا الموسيقي.
وقد شاعت هذه الطريقة في بلاد المغرب، ونظموا فيها الموشحات المعروفة بالملاعب بالشعر العامي وأبدعوا في بعضها إبداعا يكاد يلصقها بالشعر الفصيح كملعبة الكفيف المكناسي في السلطان أبي الحسن المريني.
99
هذا جل ما يمكن إيراده بالإيجاز عن ملاحم العرب، وهي كما ترى جامعة بين أعلى طبقات الشعر وأدناها.
الحقيقة والمجاز
التشبيه والكناية والاستعارة
نظر هوميروس إلى الحقائق نظرة الباحث الخبير، فتجلت له من وراء حجاب الخيال، وأمعن في أحوال الطبيعة حسيها ومعنويها، فبرزت له بأبهى مظاهرها، فاستوحى قيانه، فأوحين إليه وحي الآلهة للأنبياء.
عمد إلى الرسم غير متكلف ولا متأنق والصدق مرماه، والبداهة دليله فسلك سبيلا عدلا غير ذي عوج، فما تعثر ولا أضلته المجاهل.
رأى أن الحقيقة في غنى عن التستر والتبرج، فذلك يخفي جمالها، وهذا يشوب كمالها، فأبرزها على فطرتها فإذا بها فتانة للقلوب، خلابة للبصائر.
علم أن معارضة الأشباه والنظائر من مزيلات الأوهام المقربات إلى الإفهام فأكثر من التشبيه والمقابلة حتى ألم بكل أحوال البشر، وسائر المخلوقات، وإن أحسن شيء في تشبيهاته حلولها جميعا محلها، فإذا تجلت له الصورة رسمها بصراحة واتساق غير مداج، ولا محاذر فأطنب وأوجز، وصعد وهبط على ما يقتضيه الموقف.
فإذا وصف فارسين متساويين شدة وبأسا شبههما بليثين كما قال في هكطور وفطرقل، وهما يقتتلان حول جثة بطل طروادي: ... وهكطور عن خيله نزلا
وفي طلب الجثة اقتتلا ...
كليثين بينهما ظبية
بها فتكا فوق طود علا ...
وإذا وصفهما وقد ذل أحدهما للآخر شبه أحدهما بالليث، والآخر بالظبي كقوله في متيلاوس وفاريس:
كاليث يضوره السغب
والظبي لديه يضطرب
فعليه منقضا يثب
ولو القناصون اقتربوا
بضراء تقبل للصد
وإذا بدت له الشدة قبل النزال، وحب البروز من الاعتزال رأى أن الجواد العتي المنقطع على مربطه أقرب إلى تلك الصفة من الليث، فحله من عقاله وأجراه جري جواد امرئ القيس.
وإذا نزل به إلى ساحة القتال، فانهزمت من وجهه الأبطال عدل عن التشبيه بالحيوان الفرد إلى ما هو أوقع في النفس، فمثله بالسيل الجارف.
وأبرز لك بالتشبيه الصادق جميع صفات البشر، وما يقابلها من صفات الحيوان بجميع حالاته، فنظر إلى الكبير منها والصغير، والقوي والضعيف، والوحشي والداجن، فوصف الأسود، والذئاب ، والخرانيص، والمها، والظبي، والأيلة وغير ذلك مما يستذله الإنسان، والخيل، والحمير، والبغال، والكلاب، والبقر، والمعز، والغنم، وغير هذا مما دخل في حظائر الناس.
وتناول الطيور من النسور والعقبان إلى البط والأوز، والرهو والغرانيق، والزرازير والحمام، وانعطف إلى الزحافات والدبايات، والديدان، وانتهى إلى الهوام والحشرات، فوصف الأفاعي وشبه بالصراصر والزنابير، والنحل والذباب، و
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها .
ولقد عابه بعض المتسرعين على التشبيه بصغار الحيوان، ولكنك إذا نظرت إلى كل ما قال فيها علمت أنه إنما ذكر الشيء الحقير؛ ليستخرج منه الأمر الخطير وتلك عبرة يجب أن ينظر إليها بعين الإعظام والإكبار، فأي تشبيه لعصبة تذود عن حوضها، وتتفانى في الدفاع عن العرض والمال أوقع من قوله قول الشنفرى مشبها بالنحل والزنابير:
مثل الزنابير ذبت عن خشرمها
والنحل لا يتخلى عن خليته
وأي تمثيل لجيش كثيف يمور، وجند من حول زعمائها تدور أصح من قوله قول عنترة مشبها بالذباب:
خلوا بضفته في عدة غمضت
يصلون نار انتقام داخل الكبد
مثل الذباب إذا حان الربيع وقد
حامت بعنة راعي العنز والنقد
تهافتت تبتغي الألبان هاجمة
على القصاع بلا حصر ولا عدد
وكل سيد قوم قام منفردا
بهم كراع بما يستاق منفرد
ثم إنه نظر إلى الطبيعة، فتناول بتشبيهاته منها كل ما يلوح للناظر، ويروق الخاطر، فوصف النار من القبس والشرار إلى الحريق الذي يلتهم الغاب، ويدمر المدن الكبار، ووصف الأهواء والأنواء من النسيم العليل إلى الزوبعة، والعاصفة، والإعصار الوبيل، وجميع المهاب من صبا ودبور، وجنوب وشمال، والسحب والأمطار من البخار المتصاعد حتى الغيم المتلبد، ومن القطر إلى الغيث المدرار، والسيل الهدار، وأحاط بالبروق والرعود، وظواهر الجو من قوس قزح حتى الشهب الثواقب، وضرب في الفيافي وصعد الجبال، فمثل بالتشبيه جميع ما فيها من شجر، وغاب، وصخر، وتراب، ووصف الورقة الجافة، والشجرة الشماء، وارتقى إلى عالم الأفلاك، واتخذ ما شاء لموصوفاته من شمسها وقمرها، وثوابتها، وسياراتها ، ثم خاض عباب البحر فأخذ بناصية حيتانه، ونينانه، وسائر سكانه من حيوان وجان، وتلقى عجاجه، واستقبل أمواجه، ومثله صافيا وساكنا ومشتدا، ومربدا ومزيدا مرعدا، وجال الأقطار وعبر الأنهار، فولج جوف الأرض فمثل ما فيها، وما تحتها، وما فوقها وما يكنفها من ماء وهواء.
وإذ فرغ من ذلك مد بصره إلى أحوال البشر، فأخذ يقابلها بعضا ببعض فما ألهاه الملك الوقور، والزعيم الجسور عن الجندي الفقير والطريد الكسير، وما أغفل عاملا ولا صانعا، ولا تاجرا، ولا زارعا، وتطرق إلى الشئون البيتية فما غادر أبا، ولا أما، ولا زوجا، ولا زوجة، ولا أخا، ولا أختا، ولا ابنا، ولا ابنة، وألم بكل قريب ونسيب، وبحث في أطوار الحياة، فمثل حالة الشيخ، والكهل، والشاب والطفل، وهو في كل ذلك مستنفر إلى الخير منفر من الشر يشتد موضع الشدة، ويرق موضع الرقة، فيقف بك تارة ترقب العواصف والأنواء، وقد اكفهر الجو واضطرب اليم، ومادت الجبال، وزلزلت الأرض زلزالها، ثم ينثني بك طورا، وقد هاج العاطفة، واستنزل الحنان بالتمثيل النافذ، والتشبيه السهل الممتنع، فترى وصفه في معظم ذلك غريب الصنعة قريب التناول، فأي وصف للائذ أصدق من لياذ الطفلة بأمها إذ يقول:
شهقت كطفل جرت تسرع
ومن دونها أمها تهرع
فتعلق في ذيل أثوابها
ومقلتها صببا تهمع
وترسل طرفا بليلا إليها
عساه بذلتها يشفع
وتجذبها وهي ضارعة
لتحملها فتكف البكا
وأي تمثيل أصدق وأرق من قوله مشبها موت فتى غض الإهاب في مقتبل الشباب، وقد مال رأسه على صدره وهو يحتضر:
فرأس الفتى لما بمجنته مني
بمغفره المسرود أثقل ينحني
كزهرة خشخاش بيانع روضة
يثقلها طل الربيع فتنثني
ومن مزايا شعره أنه كان يطلق عنان التصور في التشبيه، فلا يوقف القول إلا حيث وقف الخيال، فقد يتناول تشبيهه أبياتا، وتندرج طيه تشبيهات أخرى، وقد يشبه في شطر أو بعض شطر، وهذا أيضا من مزايا الشعر الجاهلي التي أسلفنا أنها ضعفت في المولدين، وإن أجادوا الرسم كابن المعتز ما خلا أفرادا قليلين تناولوا المعاني، فألموا بجميع أطرافها كابن الرومي.
وكان مبغضا للإغراب باللفظ والمعنى لا يقول إلا ما ترضاه الخاصة وتفهمه العامة، ينتحي مجاراة الفطرة وإنطاق الطبيعة يسعى إلى الحقيقة، ولا يتوخى المجاز، فلا يتطلبه في شعره، ولا يتجنبه إذا عبر عن فكره؛ ولهذا كان كالجاهليين من العرب كثير التشبيه قليل الكنايات والاستعارات لا يأتي المجاز إلا مرسلا، فجاء جميع ما ورد منه في شعره آية في بابه على قلته كقوله: وأغمض عينيه ستر المنون، وقوله: أو تفغر الحرب المهدمة الفما. وأمثال ذلك من الاستعارات البسيطة السهلة.
البديهيات
أما بديهياته فحدث عنها ولا حرج، فلقد تراه يخوض بحر المعاني، فينثر ما التقط منها من أبكار الأفكار، ثم يلفت يمينا وشمالا فيدرك بعين بصيرته ما طرق فكر سامعيه، فمد بصره إلى مخيلة ذوي الألباب منهم، ويستخرج ما ارتسم في أذهانهم بسياق الحديث فيعبر عنه ببداهة ترتاح إليها النفس ويطمئن الخاطر، فإذا أتى مثلا على وصف وقعة التحم فيها القتال، وتلاحمت الرجال وتعالى الصياح، وتألق السلاح علم أنه يخيل للسامع شيء من البديهيات المطروقة فقال له:
والأرض تحت الرجل والعجل
مادت لثقلة هاته الملل
أو قال:
وكأن السهول طارت شرارا
بمسير الإغريق فوق السهول
أو قال:
وفوق الصدور الطامحات تألقت
صوارمهم والسمر أي تألق
وأمثال ذلك من المعاني التي لا يحتاج فيها إلى شحذ ذهن وإعمال فكرة، وهي مع هذا ليست مما يستهان فللمعنى البديهي إذا حل محله خف على الطبع، وقد يؤثر بحسن وقعه على كثرته تأثير المعاني المبتكرة على قلتها.
النقل والسرقة وتوارد الخاطر
يسوقنا واجب الاستطراد في هذا البحث إلى مؤاخذة بعض الباحثين في الشعر العربي إذ يضعون البديهيات موضع المبتكرات، فينكرون على كل شاعر متأخر أن ينتحل معنى سبق إليه، فيخلطون بين السرقة وتوارد الخاطر، فلهذا لا نرى رأي صاحب «الإبانة عن سرقات المتنبي» بقوله: إن ابن الرومي، وأبا الهندي، ومحمد بن هاشم العاري، والمتنبي تناقلوا بعض عن بعض معنى طول الليل، فقال ابن الرومي:
فكأن ليلتنا علي لطولها
ثبتت تمخض عن صباح الموقف
وقال أبو الهندي:
يا ليل هل لك من صباح
أم هل لنجمك من براح
وقال العاري:
سهرت ليلي فنوم العين متبول
كأن ليلي بيوم الحشر موصول
وقال المتنبي:
من بعد ما كان ليلي لا صباح له
كأن أول يوم الحشر آخره
فهذا من المعاني البديهية التي تتوارد فيها خواطر الشعراء وغير الشعراء، وإنما الفرق في التصرف فيها أفلا ترى أن كلا من الأربعة تصرف تصرفا مخالفا للآخر.
ومثله قول صاحب «الموازنة بين أبي تمام والبحتري» أن أبا تمام كان ناقلا لما قال:
كأن بني نبهان يوم وفاته
نجوم سماء خر من بينها البدر
أخذه من قول جرير في رثاء الوليد بن عبد الملك:
أمسى بنوه وقد جلت مصيبتهم
مثل النجوم هوى من بينها القمر
أو من قول مريم بنت طارق وهي ترثي أخاها:
كنا كأنجم ليل بينها قمر
يجلو الدجى فهوى من بينها القمر
وما أحرى هذا المعنى أن يكون شائعا في أمة صفا جو أرضها، وسامرت القمر والنجوم طول ليلها، فليس هذا كله من باب النقل، وإنما النقل في مثل ما استشهد به صاحب الإبانة من قول المتنبي:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي
المجد للسيف ليس المجد للقلم
أكتب بنا أبدا بعد الكتاب به
فإنما نحن للأسياف كالخدم
فهو مأخوذ من قول ابن الرومي:
كذا قضى الله للأقلام مذ خلقت
أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
ومثله لما استشهد به صاحب الموازنة من قول أبي تمام:
مضوا وكأن المكرمات لديهم
لكثرة ما أوصوا بهن شرائع
فإنه منقول عن أبي نواس إذ قال:
سن للناس الندى فندوا
فكأن البخل لم يكن
وأما شعراء اللاتين والإفرنج فلم يحاذروا مثل هذه المحاذرة في نقل أمثال هذه المعاني، ولا سيما بالنظر إلى الإلياذة، فإنهم أغاروا عليها غارة شعواء فطوقوا بمعانيها أجياد منظوماتهم من الملاحم إلى التمثيليات إلى القصائد، فنقلوا ونسخوا ومسخوا، وسلخوا واقتبسوا وعارضوا، وضمنوا وتصرفوا وهم في الغالب لا يضمرون السرقة بل يفاخرون أن يعلم أنهم تحدوا هوميروس حتى لو نظرت إلى تلك المنظومات لرأيت المعاني الهوميرية مزدحمة فيها بتصرف أو بغير تصرف ، ولا سيما مما أبعد فيه هوميروس ببصره، فاستنبطه بالتصور من المماثلات البديعة أو استخرجه بالتشبيه من مكنونات الطبيعة كقوله في مثل معنى امرئ القيس بوصف جواده:
وهب الطراود والتصقوا
وفي الصدر هكطور مندفق
كجلمود صخر قد انتزعا
من الشم سيل به اندفعا
له الغاب مرتجة ترتجف
إلى القعر حيث بعنف يقف
فنقله فرجيليوس إلى «إنياذته» اللاتينية فقال (ن12).
As veluti montis saxum de vertice praeceps
Quum ruit avulsum vento, seu turbidus imber
vetustas,
Fertur in abruptum mango mons improbus actu,
Exsultatque solo; silvas, armenta, tirosque
Involvens secum: ...
وأخذه عنه تاسو الإيطالي فقال «في أورشليمه»: (ن18)
Qual gran sasso tal hor, che o la vecchiezza
Solve da un monte, o svelle ira de’venti
Ruionosa dirupa, e porta, e spezza
Le selve, e con le case anco gli armenti
Tal giù trahea de la fubline altezza
L’horribil trave e merli, e arme, e gente,
Diè la torre a quel moto une, o duo crolli;
Tremar le mura, e rimbombaro i colli.
ومثله قوله بلسان زفس بعد مشاجرة بينه وبين أخيه فوسيذون أسفرت عن ارعواء فوسيذون واستكانته:
ففوسيذ في بطن العباب قد التجا
ومن نار غيظي في حزازته نجا
وإلا لأهمت فاتكات أكفنا
بنا عرقا يهمي به كل عارق
وكان اصطدام بالعوالم يحدق
ويزعج أرباب الجحيم ويقلق
فيا نعم مسعاه له ولعزتي
فإنا كفينا فلق تلك الفلائق
فأخذه ملتن الإنكليزي لوصف ارتداد جبريل عن إبليس، فقال في «فردوسه»: ... Not only Paradise
In this commotion, but the starry cope
Of heav’n, perhaps, and all the elements
At least had gone to wrack, disturb’d and torn
With violence of this conflict, had not soon
Th’ Almighty, to prevent such horrid fray, etc
وكثيرا ما نقلوا عنه التصورات الغريبة، والمعاني الطويلة المتشعبة بأصولها وفروعها، وتصرفوا فيها كما نقل فولتير الفرنسي نجوى زفس للطرواد إذ قال:
كتيبة تلك ضمت جلهم عددا
جندا تمد إلى كيد العداة يدا
كادت تجوز حفير القوم عابرة
إذا بطير لها تحت السماء بدا
فاستوقفت جزعا في الجرف حائرة
تطيرا وهو عن يسرى السرى وردا
نسر مخالبه في الجو قد نشبت
بأفعوان خضيب تحت قبضته •••
فالأفعوان وفيه لم يزل رمق
ما بين أظفاره في الجو يصطفق
حتى عليه التوى بالعنف يلسعه
في بارز الصدر حيث التفت العنق
فصاح عن ألم مر وأفلته
وراح تحت مهب الريح ينطلق
والأفعوان هوى للأرض مختضبا
حيا وطروادة ارتاعت لرؤيته
فقال فولتير منصرفا ومتفننا في مقدمة منظومته «كاتيلينا»:
Tel on voit cet oiseau qui porte le tonnerre,
Blessé par un serpent élancé de la terre;
Il s’envole, il entraîne au séjour azure
L’ennemi tortueux don’t il est entouré.
Le sary tombe des airs. Il déchire, il dérore
Le repile acharné qui le combat encore;
Il le perce; il le tient sous ses ongles vainqueurs;
Le monster, en expirant, se débat, se replie;
Il exhale en poison les restes de sa vie;
Le rejette en fureur, et plane au haut des cieux
وإن أمثال هذه المنقولات عن المعاني الهوميرية مما يملأ الأسفار، ولم يعب عليها هؤلاء الشعراء إلا من تعمد السرقة، وشف نهجه عن ادعاء الابتكار على نحو ما نرى الكثيرين من المتطفلين على الشعر في هذا العصر.
فعل الحضارة في استهجان المستحسن واستحسان المستهجن في التشبيه والمجاز
إن مما بهت له بعض المتأخرين من نقلة الإلياذة، وأشكل عليهم في لغاتهم تشبيه الإنسان في بعض أحواله بأنواع من الحيوان ينظرون إليها بعين المهانة، ويضعها هوميروس موضع العزة والكرامة، وهذا ولا ريب من نتائج طول العهد بالحضارة، ولا أعلم أهي حسنة لهذه الحضارة تمدح عليها أم سيئة تؤاخذ عليها، وإنما اعلم أن في أصناف كثيرة من الحيوان مزايا يعز على الإنسان أن يتصف بأحسن منها، ولا أذكر حيوانا تقادم العهد على وضعه موضع الحس والهوان كالكلب، فقد عرض هوميروس بذكره مرارا للسباب والتحقير، وهكذا فعل أكثر الكتاب من المتقدمين، وفي شعر العرب، وكلام مؤرخيهم وأدبائهم من هذا المعنى ما لا يدركه حصر، فلا يكادون يشيرون إلى شخص يريدون إزدراءه أو شتمه إلا قالوا «هذا العلج الكلب» و«هذا الكلب البذيء» وما أشبه، فكأنهم تناسوا جميع ما في هذا الحيوان الأمين من كرم الخلال، وأغاروا على شيء من الدناءة فيه، وإن كان لم يستأثر بها دون سائر الحيوان ناطقا كان أو غير ناطق، ومع ذلك فقد وفى هوميروس كل صفة حقها، فهو إذا وصف الكلب بالبذاءة فما أغفل سائر ما فيه من الخصال، فأطرأ أمانته ومهارته في تقفي القنيصة، وبسالته في تأثر الضواري، وفعل فعله شعراء الجاهلية مما عرضناه بشعر هوميروس في موضعه.
وأما ما بقي من الحيوانات فقد اقتطع منها هوميروس صفات حميدة وصف بها كبار قومه وكرامهم، وهو ما أردناه بقولنا: «إنه أشكل على بعض كتاب الإفرنج، وثقل عليهم نقله إلى لغاتهم». فإذا شبه رجلا صبورا بالحمار رأيتهم يتثاقلون بنقل الكلمة بل ربما أكلوا الحمار برمته كما فعل پوپ في النشيد الحادي عشر، وعذرهم في ذلك أنه يشوه وجه ترجمتهم، وإذا شبه هوميروس عظيم القوم بالثور عظم عليهم الأمر وحسبوها ورطة يجب التملص منها، وربما بدلوا حيوانا بحيوان، فجعلوا الخنازير دببة، والكلاب ذئابا، وهم يزعمون أنهم لطفوا المعنى ولا أخالهم فعلوا.
ولست بمنكر أن الانقلاب الذي طرأ على مفاد التعبير عندهم قد أصابنا منه شيء كثير، فليس منا من يستحسن تشبيه كريم قوي الجنان رابط الجأش بالحمار، ولا تشبيه باسل مغوار بالخنزير على أن اليقين أن أبناء الجاهلية من كل قوم لم يكن هذا شأنهم أيام كانت الفطرة تأخذ بالظاهر ولا تتكلف التأويل، وتتشبث بالحقيقة مهما ثقلت.
وحسبنا أن نرجع إلى أيام جاهليتنا، وما وليها من مقتبل الإسلام ونتصفح معاجم لغتنا فنرى أن هوميروس لم يأت شيئا فريا، قال في أساس البلاغة: «الثور الفحل من البقر والسيد، وبه كني عمرو بن معدي كرب». ومما يذكر هنا استطرادا أن الثور لا يزال لقبا مكرما في السودان، ويقال مثل ذلك في الجدع بمصر، وهي من الجذع، وفي محيط المحيط الجذع من البهائم قبل الثني والشاب الحدث، ومنه قول دريد:
يا ليتني فيها جذع
أخب فيها وأضع
وفي كتب اللغة الكبش الحمل وسيد القوم وقائدهم، والمنظور إليه فيهم ومنه قول لبيد:
بكتائب رجع تعود كبشها
نطح الكباش كأنهن نجوم
وقول أسد بن ناعصة:
ولرب كبش كتيبة غادرته
يكبو لجبهته صريعا أطحلا
متنجعا قد دق في حيزومه
صدر القناة على الفرار مجدلا
والقرم الفحل ثم استعمل للسيد العظيم على التشبيه له بالفحل، وقد اجتمعا في قول المتنبي بمدح سيف الدولة:
ولكنا نداعب منك قرما
تراجعت القروم له حقاقا
أي: نمازح منك سيدا صارت الرجال بالنسبة إليه كالنياق بالنسبة إلى فحول الجمال.
والرت الخنزير الذكر، وأجرى مجازا على الباسل المقدام، فيقال: هو رت من الرتوت، وهو من رتوت الناس أي: من عليتهم وسادتهم «أساس».
والقب الجمل والرئيس والملك، والفنيق الفحل المكرم من الإبل لا يؤذى، ولا يركب، والسيد المسن من المعز والرئيس، والأصيد الملك والبعير الذي فيه داء الصيد، وهلم جرا.
ويقال مثل ذلك في بعض ما برز من أعضاء الحيوان كالناب والخرطوم، والأنف والقرن، فهي وإن كانت مما قد يستهان به الآن لم يوضع أكثرها في الكلام عن الناس إلا للرفعة والسيادة، فإذا راجعت كتب اللغة قرأت: الخراطيم أسياد القوم، أنياب القوم ساداتهم، ومنه قول الشاعر:
كنت لهم في الحدثان نابا
ألقى العدى وضيغما وثابا
ولم أكن هردبة وجابا (أساس)
القرن السيد تشبيها بقرن الثور لبروزه، أنف القوم سيدهم، ومنه قول الحطيئة في بني أنف الناقة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا
ولا عبرة بما قيل إن العرب كانت تعير بني أنف الناقة بذاك اللقب.
وليس النعت بهذه الأوصاف مما خص به بنو الجاهلية بشعرهم، بل اتصل منه شيء بشعراء التابعين والمولدين حتى أنه ليندر أن ترى شيئا من هذه الألفاظ في كلام المؤرخين كقول العتبي في السلطان محمود بن سبكتكين، وأقبل كالفحل الفنيق، ولا تكاد تجد مؤرخا لا يقول قول ابن خلدون: «وكان فحل ذلك الشول، وكبش تلك الكتائب إلخ» وأمثال هذه الألفاظ لا تثقل على مسمع العربي حتى يومنا، بل لا يزال بعضها مما يحلى به جيد الكلام.
وإننا بهذا الاعتبار نقسم هذه الألفاظ إلى أربعة أقسام: ما أهملت حقيقته وجازه كالرت والقب، فلا نرى من يستعملها لإنسان ولا لحيوان.
وما بقيت حقيقته ومجازه كالفحل والكبش فهما وإن كانا موضوعين للحيوان، فقد يوصف بهما الإنسان وصف تكريم، فنقول: «هو فحل من فحول الشعراء، وكبش من كباش الهيجاء».
وما أهملت حقيقته وبقي مجازه كالجدع عند العامة في مصر، فهي إنما تستعمل للإطراء، وإن كانت لا تزال على معناها الوضعي في أماكن أخرى.
وما أهمل مجازه، وبقيت حقيقته كالثور والحمار وهو أكثرها، فما منا من يرضى أن يلقب حمارا، ولو قيل له ذلك كان لقب مروان بن محمد الخليفة الأموي الحازم، لقب به على ما أجمع المؤرخون؛ لصبره ورباطة جأشه وشجاعته، قال القرماني: «ويقال في المثل فلان أصبر من حمار في الحروب، وهو أيضا اللقب الذي لقب به يعقوب ابنه يساكر في التوراة، وليس من يسره أن يكنى بالثور، وإن كانت تلك كنية عمرو بن معدي كرب سيد العرب، وما من أحد يرتاح أن يقال له أنف الناقة، وإن وضع الحطيئة ذلك اللقب موضع رفعة وإجلال، وقد تأبى أن يعرف أحدنا بالجمل، وإن عرف به ابن عم النبي حمزة بن عبد المطلب، على إننا من وجه آخر لا نرى غضا من قدر من يلقب بالسرحان، وإن كان ذلك لقب الذئب أو يكنى بأبي خالد، وإن كانت تلك كنية الكلب».
مزية العربية على لغات الإفرنج في هذا الباب
لما كنت قد آليت على نفسي أن لا أحرف الكلام عن مواضعه، وأن لا أعبث بوصف أو تشبيه، فأميل به عن أصله الوضعي تفاديا من ثقل على الآذان عمدت إلى نهج بقي بالمرامين: استبقاء الأصل على وضعه، ونبذ الألفاظ التي باتت بعرف الحضارة من باب الحوشي الساقط في المدح، فلا يمدح بها كبير ولا صغير، وفي لغتنا والحمد لله متسع فسيح لمثل هذا المجال بخلاف لغات الإفرنج التي لا محاد لكتابها عن استعمال اللفظة بعينها، وإلا اضطروا إلى تبديلها أو إغفالها أصلا.
فإذا عرض لي مثلا تشبيه رجل باسل بالخنزير الذكر ينفسح لي باب في كتب اللغة لانتقاء كلمة أخرى، فأقول الرت أو الخرنوص فلا أغير شيئا من المعنى، وأكفي مئونة أنفة القارئ، وإذا اضطررت إلى استعمال لفظة الحمار بمقام المدح، وهو تشبيه شبه به إياس البطل الباسل عمدت إلى كلمة أخرى فقلت «الجأب» وهو الحمار عينه.
وإذا آنست رنة خشنة على الأذن بذكر الكلاب بهذا اللفظ قلت: «النواهس» و«الغضف» و«الضراء» وما أشبه.
وإذا خشيت هجنة بأن يقال: قطيع البقر قلت: «الصوار» وهو هو.
ولزيادة الإيضاح أضرب لك مثلا واحدا مما سترى أشباهه بمطالعة الإلياذة:
أطرأ الشاعر بسالة هكطور في واقعة فشبهه وهو يتعقب الأعداء بالكلب الذي يتأثر الأسد المذعور أو الخنزير البري، فقال:
وهكطور صدر الجيش يجري ويلغب
ويكسأ في الأرداف من يتعقب
كأغضف هول قد تأثر ضيغما
تذعر أو خرنوص بر يكبكب
فأراني لو قلت: ككلب كبير قد تأثر ضيغما أو خنزيرا الخ لما زدت على المعنى ولا أنقصت، ولكن شتان ما وقع هذا التعبير، وما ذاك على المسامع.
الخاتمة
في الشعر واللغة
الشعراء
قال بعضهم:
للسادة الشعراء فضل ثابت
ولهم مقام شامخ ومكان
وهم سلاطين الكلام ألا ترى
كل امرئ منهم له ديوان
نظر صاحب هذين البيتين إلى الشعر العربي من حيث إنه دليل البلغاء وحجة اللغويين، وشاهد الخطأ والصواب، ولكنه لو أراد الزيادة لقال: إن سلطان الشعراء يمتد إلى ما فوق ذلك، وإن الشعر ريحانة النفوس ومبدد البئوس، وقد كان في غابر العهد سجل الحكمة، ومنهل النغمة، ومحط الفخار، ومطمح الأبصار، وأن شاعرا واحدا كان يرفع قبيلة ويخفضها، ويعزها ويذلها فينفذ كلامه في الإحساس، ولا نفوذ أحكام الآمر المستبد بالناس، وأن سلطة الشعراء في الجاهلية كانت تباري سلطة الرؤساء، والقبائل تستثمر سلائق الفتيان أيان توسمت فيها الذكاء استثمار بني الحضارة كل غرس زهي، وفرع زكي، فإذا نبغ فتاهم، وقال قولا نافذا تباشر به الكهول والشبان والشيوخ والولدان، وخرجت النساء بالمزاهر وغنين ورقصن، وقلن أزف الفرج فقد صينت الأعراض، وحفظت الأنساب، وارتضت الأحساب وحمي الذمار وتخلدت الآثار، وطارت البشائر فأقبلت الوفود من سائر العشائر كأنهم في يوم نصر عظيم.
ولطالما قال شاعرهم أبياتا، فتناقلتها الركبان وأومضت وميض البرق فبهرت الأنظار، وقضت الأوطار. قالوا: إن الأعشى الأكبر كان يأتي سوق عكاظ في كل عام فيتجاذبه الناس في الطريق للضيافة طمعا بمدحه إياهم في سوق عكاظ، فمر يوما ببني كلاب، وكان فيهم رجل يقال له المحلق فقير الحال، ضيق المعاش، وله ثماني بنات لا يخطبهن أحد لمكان أبيهن من الفقر، وخمول الذكر، فقالت له امرأته ما يمنعك عن التعرض لهذا الشاعر وإكرامه، فما رأيت أحدا أكرمه إلا وأكسبه خيرا، فقال: ويحك ما عندي إلا ناقتي، فقالت يخلفها الله عليك، فتلقاه قبل أن يسبق إليه أحد من الناس، وكان الأعشى كفيفا يقوده ابنه، فأخذ المحلق بخطام الناقة، فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على الخطام فقال: فتى شريف كريم، ثم أتى به منزله وأكرمه، ونحر الناقة وجعلت البنات يدرن حوله، ويبالغن في خدمته، فقال: ما هذه الجواري حولي، فقال المحلق: بنات أخيك، وهن ثمان نصيبهن قليل، فقال الأعشى: هل لك حاجة، فقال: تشيد بذكري فلعلي أشهر فتخطب بناتي ، فنهض الأعشى من عنده ولم يقل شيئا، فلما وافى سوق عكاظ أنشد قصيدته التي أنشأها في مدحه، وهي التي يقول فيها:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
إلى ضوء نار بالبقاع يحرق
تشب لمقرورين يصطليانها
وبات على النار الندى والمحلق
فاشتهرت القصيدة، ولم تمض على المحلق سنة حتى زوج بناته، ويسرت حاله وإن في كتب العرب من أخبار شعراء الجاهلية ما لا تعد هذه الرواية بجانبه أمرا خطيرا.
وكان المولدون مع تبذل الجم الغفير منهم، وانحطاط منزلتهم عن شعراء الجاهلية ينالون بشعرهم أبعد المطالب. روى ابن خلكان أنه قدم بين يدي المأمون نصر بن منيع، وكان قد أمر بضرب عنقه، فقال نصر يا أمير المؤمنين: اسمع مني كلمات أقولها، فقال: قل فأنشأ يقول:
زعموا بأن الصقر صادف مرة
عصفور بر ساقه التقدير
فتكلم العصفور تحت جناحه
والصقر منقض عليه يطير
إني لمثلك ما أتمم لقمة
ولئن شويت فإنني لحقير
فتهاون الطير المدل بصيده
كرما وأفلت ذلك العصفور
فعفا المأمون عنه.
وأما الأموال التي كان يستدرها الشعراء بشعرهم فمما يفوق التصور، وهم وإن كانوا يجازون بها أحيانا محاذرة من هجوهم، وإلجاما لألسنتهم، فكثيرا ما كانوا ينالونها بما أطربوا، وأرقصوا، وخلبوا العقول. ذكروا أن ابن باجة التجيبي آخر فلاسفة الإسلام بالأندلس أنشد أبا بكر الصحراوي صاحب سرقسطة موشحا في مدحه، فأطربه حتى كاد يفقده الرشد فما بلغ قوله:
عقد الله آية النصر
لأمير العلا أبي بكر
حتى شق الممدوح ثوبه من شدة الطرب، وحلف لا يمشي ابن باجة إلا على الذهب، فخاف الشاعر عاقبة الأمر، فجعل في نعله ذهبا ومشى عليه.
تلك كانت منزلة الشعراء عند العرب في سالف الزمن، وتلك هي أيضا منزلتهم في سائر الملل، فإن في أخبار شعراء الفرس ما يضاهي أخبار شعراء العرب، وقد علمت أن اليونان ما زالوا يصعدون بهوميروس حتى أخرجوه من مصاف البشر، وأحلوه بين الآلهة، وبنوا له المعابد. وكانوا يتعاكظون ويتنافرون، ويتنافسون، ويتحمسون على نحو ما كان يفعل العرب في سوق عكاظ، وشعراؤهم في كل ذلك كخيل الرهان «فالسابق السابق منها الجواد». ذكروا أن فنذاروس الشاعر الموسيقي الذي نبغ بعد هوميروس بأربعة قرون كان إذا جلس للإنشاد في الحفلات الأولمبية وغيرها تحمس له الشعب، وشقت نعرتهم كبد السماء، وكللوه بأكاليل الظفر، فلما مات أخذوا الكرسي الذي كان يجلس عليه في موقف الإنشاد ووضعوه بين أنصاب الآلهة وشاد له أهل ثيبس هيكلا، وأقاموا له فيه نصبا، وهو بعد حي، ولما اكتسح الإسكندر بلدة ثيبس، ودمر بيوتها أمر أن لا يمس بيت فنذاروس بسوء.
وكم من شاعر أثار خواطر أمة بأسره،ا فاستنفر وأجيب واستصرخ فتألبت له جيوش الكلام، فغلبت كتائب الحسام، وفي الأثر أن صاحب الشريعة الإسلامية كان ينصب لحسان بن ثابت منبرا في المسجد يقوم عليه ينافح عنه، فكان ذلك على قريش أشد من وقع النبل، وإن حسانا قال له: «لأسلك منهم (أي: من قريش) سل الشعرة من العجين، ولأفرينهم فري الأديم» فصب على قريش من هجائه شآبيب شر، فقال له: «شفيت يا حسان وأشفيت» ثم قال: «حسان حاجز بيننا وبين المنافقين».
وليس العهد ببعيد بما كان من نفوذ سهام الشعر البليغ في بلاد المغرب من عهد بيرن إلى هذه الأيام.
ولسنا بآملين في هذا العصر أن يثب شعراؤنا إلى تلك المنصة الشامخة، وإنما نطمع أن يظلوا سائرين بنهضتهم سيرا حثيثا، ويجاروا تيار الترقي فلا يطمو عليهم، ولهم في ذلك الفوز والفلاح، وللأمة الخير والصلاح.
اتساع العربية للشعر
قال أبو بكر الخوارزمي: «من روى حوليات زهير، واعتذارات النابغة، وحماسيات عنترة، وأهاجي الحطيئة، وهاشميات الكميت، ونقائض جرير، وخمريات أبي نواس، وتشبيهات ابن المعتز، وزهريات أبي العتاهية، ومراثي أبي تمام، ومدائح البحتري، وروضيات الصنوبري، ولطائف كشاجم، ولم يخرج إلى الشعر فلا أشب الله قرنه» وهو كما ترى قول متحمس مولع بالشعر، وقد أنالته الفطرة منه حظا وافرا، وإلا فالخروج إلى الشعر متعذر على من لم يكن ذلك في طبعه، على أن هذا القول صادق على من كان الشعر في سجيته، فإن مطالعة نفيس الشعر تشحذ الذهن، وتهذب اللفظ وتجلو المعنى، فتستقيم بذلك وجهة الشاعرة المطبوع.
واللغة العربية شعرية بطبعها ؛ لتفرع مفرداتها، وتنوع اشتقاقاتها القياسية على أسلوب لا يرى له مثيل في اللغات الآرية، والقوافي مزدحمة فيها ازدحاما يسهل النظم، وهي بخلاف ما يزعم بعض الأعاجم جزلة التركيب محكمة الانسجام، وفيها من طرق الحذف والتقدير، والتقديم والتأخير ما ينفسح معه المجال للشاعر لصوغ عبارته على قوالب شتى، وتلك مزية تمدح عليها اللغة في الشعر، وإن عيبت في النثر حيث يقصد الجري على نمط واحد جلي، وهي على الجملة متسعة للشعر أكثر منها للنثر، فشعرها منذ القديم أرفع طبقة من معظم نثرها، وجيده أسهل مثالا من جيد النثر حتى لقد تجد النثر شعرا في كثير من الأحوال.
ولا شك أن الزمان قد طوى كثيرا من ألفاظها الوضعية، ولكن ما بقي منها فوق حاجة الشعراء لتأدية المعاني الفطرية والأفكار البديهية، والأوصاف الخلقية والحقائق الحكمية، وسائر ما توحى تدوينه قدماء الشعراء كهوميروس، وفنذاروس، وفرجيليوس وهوراس، فهي بهذا المعنى لا تقصر بشيء عن لغة الإلياذة اليونانية المشهورة بجزالة تركيبها، ورقتها وانسجامها، وإحكام وضع المفردات فيها.
مقابلتها باليونانية
ولا ترجح اليونانية على العربية إلا باتساعها لمشاكلة الألفاظ للمعاني، وتوفر أسباب النحت فيها لصوغ الألفاظ المركبة، وفي ما سوى ذلك لا أخال لها رجحانا بل ترجح العربية في اتساع المفردات، وتشعب طرق التركيب، والخروج بقياس الاشتقاقات إلى ما لا نهاية له من المعاني.
ثروتها وألفاظها الوضعية
ولقد بدا لي أثناء التعريب من ثروة العربية في الألفاظ الوضعية القديمة ما أغناني عن الانحراف بالمعنى على نحو ما اضطر إليه بعض نقلة الإفرنج على ما تقدم في الفصل السابق، ورأيت من المماثلة بين اللغتين في دقة الوضع ما يدهش له الناظم والناثر، وينبئك ذلك أن العرب لم يغفلوا وضع شيء من الألفاظ الدالة على جميع مطالعاتهم ومحسوساتهم حتى أصبحت مفردات اللغة في زمنهم رابية على حاجة التعبير، ولا سيما في الحسيات، وما هذا النقص البادي الآن في إحكام التعبير، وخصوصا في المعنويات إلا نتيجة إهمال الخلف اقتفاء آثار السلف.
وهو معلوم أن الإلياذة نظمت في زمن كانت أحوال المعاش فيه قريبة لأحواله بين قدماء العرب؛ ولهذا كان على المعرب أن يقابل معانيها بما رادفها من لغة العرب بلا انحراف ولا تأويل، واللغة متسعة لذلك، فإذا وصف الناظم السلاح، وهو سلاح العرب ففي اللغة لفظة بل ألفاظ للدلالة على كل ما قال من الشكة أي: السلاح الكامل إلى الحجر فلا يعدم الناقل وسيلة للتعبير عن كل ما ذكر من السيوف، والمدى ومناصلها وأغمادها، والرماح والزجاج، وكعوبها وأسنتها وصعادها، والدلاص والأبدان والدروع وحلقها، وزردها وقترها، والخوذ، والترائك والمغافر وبيضها وقوانسها وعذباتها، والتروس والجواشن وحرابيها وحمائلها وهدابها، والقسي وما لازمها من النبل المقذذ، والسهم المريش والوتر والفوق والفرض والسرية والنيزك، وسائر ما أهمل أو كاد يهمل من معدات الهجوم والدفاع كالفأس والمخذفة والفطيس، وإذا أتى على ذكر الخيل فما من لغة أوسع من العربية بأوصافها، وتمثيل عدوها وجريها وتطبيقها، وتقريبها وحضرها وارتفاعها، وإذا ذكر الحروب وعليها مدار الإلياذة، فلم تتفنن أمة فوق العرب بوصف القتال والنزال، والمجاولة والمصاولة، والمشق والرشق والحذف والقذف، والمماصعة والنفح بالمناصل والضرب بالمغاول، والوخز بالعوامل، وقس على ذلك جميع ما تناول وصف الأحوال المعاشية والروابط القومية، والأحكام العرفية، والمناظر الطبيعية من وهاد وهضاب ومطر وسحاب، وبحر وبر، وزرع وضرع، وماء وهواء، وأرض وسماء بل قد تجد خزانة العربية أجمع، وثروتها أوسع بما حوت من الألفاظ المفردة التي لا يعبر عنها في لغات الأعاجم إلا بعبارات، وإني مورد لك الآن أمثلة ما عبر عنه في اليونانية بكلمتين فأكثر، ويتيسر رده في النقل العربي إلى كلمة واحدة في الأفعال والأوصاف والموصوفات، ذلك كالسلهب للجواد الطويل، والأجيد للجواد الطويل العنق، والأجرد للفرس القصير الشعر، والقب للخيل الضامرة، والقياديد للخيل الطويلة، والتبيع والتبيعة لولد البقرة لحول واحد، والحولي لابن سنة من ذوات الحوافر وغيرها، والسديس للذي أتم خمس سنين، والجبهاء للعريضة الجبهة. والأكبس لمن أقبلت جبهته، وأدبرت هامته من الناس، والطحور للقوس البعيدة المرمى، والزجاج والمطارد للرماح القصيرة، والثلة لجماعة الغنم والمعز، والرعيل للقطعة من الخيل، والصوار لقطيع البقر، والدسيع لمفرز العنق من الكاهل، والوتيرة لما بين المنخرين، والبأديل للحم بين الأبط والثندوة أو لحم الثدي، وصرح بمعنى رمى ولم يصب، وأمثال ذلك مما سترى منه في الإلياذة شيئا كثيرا.
الحقيقة والمجاز في بعض ألفاظ اللغتين
ومن جميل المشاكلة بين اليونانية والعربية في الأصل والتعريب على نمط واحد جري بعض الألفاظ مجرى واحدا باللغتين في الحقيقة والمجاز، فمن ذلك ما تشترك فيه معها لغات كثيرة كإطلاق لفظة الشيوخ (γεροντες)
بطريق المجاز على الزعماء وكبار القوم، ومنه ما لا يكاد يتعداهما إلى غيرهما كاستعمال لفظة (خيتي) (Χαιτη)
للشعر وورق الشجر، ويقابلها الفرع بالعربية.
الفرق بينهما في نسج العبارات
وبين اليونانية والعربية فرق كبير في نسج العبارات وتركيب الجمل من حيث التقديم والتأخير، وصيغ الاشتقاق والجموع والحروف، والنحت وتركيب الأسماء، ولكن نهج كل لغة حسن في بابه، وأسباب الفصاحة متيسرة لأبناء كل لغة إذا أحكموا الرصف على نهجهم.
المترادفات وتعدد معاني اللفظ الواحد
ولكن للعربية مزيتين في مفرداتها تقصر اليونانية وسائر اللغات عن مجاراتها فيهما، وهما كثرة المترادفات في الألفاظ الدالة على المعنى الواحد، وتعدد المعاني للفظة الواحدة، فقد ذكروا عشرات ومئات من الألفاظ الموضوعة لمسميات معينة من الحيوان كالأسد والحية، والبعير والناقة والفرس والثور، والكلب والهر والمأكولات كالتمر واللبن والعسل، والمشروبات كالماء والخمر، والسلاح كالسيف والرمح، والصفات كالطويل والقصير، والكبير والصغير، والشجاع والجبان، والكريم والبخيل، وغير ذلك من مألوفهم كالنور والظلام، والشمس والقمر، والسحاب والمطر، والتراب والحجر، ولهم مثل ذلك في الأفعال، فقد عد أحدهم أكثر من ألف فعل يمكن إطلاقها على معنى واحد، ويقابل ذلك تعدد معاني اللفظ الواحد، فإذا تصفحت معاجم اللغة، وقرأت باب الخال والحال، والعين، والعجوز وأمثالها تولاك العجب لكثرة معاني كل كلمة منها.
ولقد يعلم اللبيب أن كل تلك المترادفات لم توضع في اللغة على نية الوضع بل وقع ذلك اتفاقا: إما لمنقول عن الأعاجم، وإما لاختلاف المدلولات في لغات القبائل المتباعدة، وأما للمح صفة مقصودة يتغير بها المعنى تغيرا طفيفا لا يشعر به لوحدة المسمى، فالخمرة مثلا إنما سميت كذلك لاختمار موادها، فإذا قيل الراح لمح إلى الروح والارتياح أو الرحيق نظر إلى صفائها وطيب رائحتها، أو السلسبيل قصدت سهولة مساغها وهلم جرا، ولكن هذه المميزات فقدت في الاستعمال، وأصبحت المترادفات متشابهة يقوم كل منها مقام الآخر مع أنه لا يوجد في الأصل ترادف تام في مفردات اللغة إلا في ما صدر عن لغتين لقبيلتين مختلفتين؛ كالليث والورد للأسد أو نقل من لغة الأعاجم إلى العربية مع بقاء اللفظ العربي فيها كالمينا من اليونانية للفرضة البحرية.
وإن للناظم فائدة من هذا الاتساع إذ يتيسر له أن يلتقط من هذه المترادفات ما وافق بحره وقافيته، فقد اتفق لي أثناء التعريب أن استعملت كثيرا من أسماء الأسد كالليث والغضنفر، والضرغام والقسورة، والهزبر والورد والضيغم، ولكن هذه الفائدة لا تذكر في جنب ما يلقيه هذا التراكم من العثرات في سبيل المنشئ الناثر والطالب الراغب في الإحاطة بأوابد اللغة وشواردها حتى لقد يرتبك بها الشاعر في بعض الأحوال، ومن ذا الذي تحثه الدعوى إلى زعم الإلمام بجميع هذه المترادفات بل أي حافظة تعي خمسمئة اسم للأسد، ومئتين للحية، ومئتين وخمسين للناقة، وما عسى أن تكون الجدوى من وجود أربعمئة اسم للداهية، ونعم القول قول الثعالبي: «إن تكاثر أسماء الدواهي من الدواهي». فأمثال هذه المترادفات عبء ثقيل على كاهل اللغة، فإنما يحسن حفظها في مطولات المعاجم للرجوع إليها في استجلاء غوامض الكلام والشعر القديم ضنا بذلك الذخر الثمين أن يتشتت وتذروه عوامل الغموض والنسيان، ولكنه لا يجدر بالطلاب والكتاب أن يتشبثوا بوحشيها ومهملها؛ لئلا تستغلق عبارتهم، وتجهد قريحتهم على غير جدوى، فيتعبون ويتعبون، وتثقل روحهم على روح المطالع.
الألفاظ المهملة
وقد جرت للعرب منذ القديم عادة حميدة في مجاراة الزمان وسنن الطبيعة، وإهمال ما تقادم العهد على نبذه، فكانوا يتحاشون في شعرهم ونثرهم إيراد الألفاظ المهملة في عصرهم، وفي روايات الأصمعي كثير من كلام الأعراب المتوغلين في البداوة مما لم يكن يفهمه أهل زمانه؛ لإهمال النطق به والعدول عنه إلى مرادف أسهل وأطلى ، وأيضا فإنهم لم يكثرون من استعمال الألفاظ الدالة على معاني مختلفة إلا في ما شاع من معانيها مطرحين ما غمض منها أو احتاج إلى تأويل؛ ولهذا كان شعر المولدين أقرب مما سواه إلى فهمنا، لقرب عهده منا وخلوه من كثير من غوامض الكلام، ويتلوه شعر المخضرمين ثم شعر الجاهليين، فحسبنا أن نتبع خطتهم فنبلغ بالنظر إلى عصرنا ما بلغوا بالنسبة إلى عصرهم، فيسقط ما قضى عليه الزمن بالسقوط ويبقى ما صلح للبقاء.
عجز العربية عن تأدية المعاني الحديثة
يؤخذ مما مر أن العربية قد خصت بثروة في مفرداتها واتساع في طرق تعبيرها تفاخر بهما سائر اللغات القديمة والحديثة، ولكن تلك الثروة وذلك الاتساع قد يمسيان بالإهمال وسوء الاستعمال ضيقا وفقرا، فإذا شكونا الزيادة فما أحرانا أن نشكو النقصان، فقد مرت القرون وتعاقبت الأجيال واللغات الحديثة جارية مع العلم والحضارة جري الشقيق الشفيق، والعربية كانت حتى هذا الزمن القريب ثابتة في موقف واحد كأن باب الاجتهاد قد أوصد في وجهها، وليس في سنن الخلق ما يوجب ذلك الإيصاد بالنظر إلى اللغة، بل إذا تتبعنا خطة السلف من عهد الجاهليين إلى انقضاء العصر العباسي رأينا أبناء هذه اللغة عاملين على تمحيصها وتهذيبها، وإبداعها كل ما بدر وصدر من نتاج العلم أو اقتضته ملابسة سائر الملل، فكانت في مقدمة اللغات اتساعا لكل مادة ومعنى، ولم تكن تضيق عبارة ناظم ولا ناثر عن تأدية كل مقاد عصري، فما بالها وهي لا تزال ذلك البحر الزاخر تضيق الآن عن كثير من التعبيرات العلمية والصناعية والسياسية، ولا مسميات فيها لكثير من أسماء الاختراعات، والآلات الحديثة والأدوات البيتية، أفكان يرضى قدماء العرب بهذا النقص، وقد وضعوا الأسماء العديدة لخشبات الصناع والقدور والقصاع، والدلاء وحبالها والناقة وعقالها والملوك، والزعماء والعوارف والوفود والفيوج، والأحلاف والأحزاب والأنصار والطلائع والسرايا والعهود والمواثيق، وسائر ما دعتهم إليه حاجة أو عرف.
ولا ينحصر هذا النقص في ما تقدم بل يمتد إلى كثير من المعاني العصرية والتعبيرات الخيالية، والتصورات التي استحدثها الزمان، فالعربية في حاجة إلى نظر في كل ذلك، وهو أمر طبيعي لا مناص منه إذ لو نشر هوميروس، وامرؤ القيس، وأرادا تمثيل جميع هذه الأحوال بلغتيهما لاضطربت عبارتهما، وأشكل عليهما التعبير، ولو ركب النابغة سفينة البحار لما أجاد بوصفها إجادته بوصف سفينة البر، أي: ناقته الضاربة في فيافي البيداء.
نقل الألفاظ الأعجمية واستحداث الألفاظ العربية
وكان شغف العرب بلغتهم يدفعهم إلى الحرص عليها، ومباراة الأعاجم بها فما بدت لهم ثغرة إلا وسدوها ولا حلية إلا وزينوها بها حتى أنه لم يكن يثقل على طباعهم أن ينقلوا إليها مئات من الألفاظ الأعجمية، ثم ردوها إليهم ألوفا مؤلفة، بل لم يستنكفوا من التصرف ببعضها، وصوغ الأفعال منها وتصريفها، وإن كانت غير مصرفة في الأصل، فقالوا «فلسفة» و«تفلسف» و«زنديق» و«تزندق» و«طراز» و«طرز» و«دهقان» و«دهقن وتدهقن».
ولكن هذا الأخذ عن الأعاجم لم يكن إلا نزرا يسيرا بجانب ما استخرجوه من مفردات لغتهم، وطبقوه على المعاني المستحدثة، ولا سيما في العلوم التي لم يكن لها أثر في الجاهلية، والاصطلاحات التي اقتضاها انتظام أحكامهم وتوغلهم في الحضارة، فإنهم لما شرعوا في وضع العلوم العربية؛ كالصرف والنحو، والمعاني والبيان، والبديع والعروض، والدينية كعلم الكلام والتفسير والفقه والحديث، والعلوم الطبيعية والرياضية، وسائر ما نقلوه من كتب الأعاجم كالفلسفة والمنطق، والطب والفلك، والحساب والهندسة والجبر، والكيمياء شرعوا في كل ذلك، وليس في لغتهم إلا شبه شيء مما يشير إلى مدلولاته، فما كان أيسر عليهم من أن يستخرجوا من لغتهم أوضاعا استكملوا بها جميع مدلولاتهم العلوم العربية والدينية، ومعظم مدلولات العلوم الطبيعية، واتسعت لغتهم لكل ذلك حتى عول الأعاجم على كثير من موضوعاتهم، ونقلوها إلى لغاتهم «الجبر، والسمت، والقلي، والنظير، والكحول، والسموم».
نهج العرب وتوسعهم في اللغة
ولما اتسعت أحكام سياستهم، وتغيرت طرق معاشهم، وازدادت تصوراتهم بما رأوا، وسمعوا، وقرءوا، وكتبوا وضعوا أسماء وأفعالا لكل ما استحدث لديهم من طعام وشراب، ولباس، ومتاع ، ونظام حكومة، وطريق سياسة، وتوسعوا في المعاني الشعرية والأساليب الإنشائية، فكانت اللغة تجاريهم في النمو والسعة.
اصطلاحاتهم
وإن أردت التثبت من توسعهم في ذلك الاستحداث، فدونك كتب اللغة فلا تكاد تجد صفحة منها خالية من الاصطلاحات الموضوعة بعد الإسلام، وإليك أمثلة منها:
الدور الحركة، وعود الشيء إلى ما كان عليه ... والدور عند الحكماء والمتكلمين والصوفية هو توقف كل من الشيئين على الآخر ... وقياس الدور عند المنطقيين هو أن تؤخذ نتيجة القياس وتضم إلى عكس إحدى مقدمتيه ... والدور في الحميات عند الأطباء عبارة عن مجموع النوبة أو زمانها ... والدور عند الموسيقيين القطعة المستقلة من الشغل ... وعلم الأدوار علم الموسيقي ... والدور عند الشعراء القطعة من الموشح ونحوه...
الدرجة المرقاة ... ودرجات الأمزجة عند الأطباء مراتبها في الشدة والضعف ... والدرجة عند أهل الجفر وأرباب علم التكسير تطلق على حرف من حروف سطر التكسير ... وعند أهل الهيئة تطلق على جزء من 360 جزءا من منطقة الفلك ... ودرجة الكوكب عندهم هي مكانه من فلك البروج، ومنها درجة طلوع الكوكب، ودرجة غروب الكوكب، ودرجة ممر الكوكب ...
الحال ... عند الحكماء كيفية مختصة بنفس أو بذي نفس ... وتطلق عند الأطباء على ثلاثة: أمور الصحة، والمرض، والحال المتوسطة ... وعند الأصوليين على الاستصحاب ... وعند السالكين على ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط وقبض ... وعند النحاة على لفظ يدل على الحال أي الزمان ... وعند أهل المعاني على الأمر الداعي إلى التكلم على وجه مخصوص ...
وإن من تصفح كتاب «التعريفات» أو الكشاف للتهانوي يرى أن تعريف قسم من هذه الاصطلاحات قد اضطر العلماء إلى تأليف المجلدات الضخمة.
سبب وقوف اللغة
والحاجة أم الاختراع، فلما كان أبناء هذه اللغة مشتغلين بها كانوا يتقدمون فتتقدم، ويرتقون فترتقي، فلما وقفوا وقفت، وانحصرت سجلاتها في خزائن أفراد من العلماء معدودين، وما كان وقوفها لعجز فيها أو نفاد في معدن جوهرها الوضاح، ولكنها عوامل قاهرة أصابت أهلها، فأقعدتهم معظم هذا الزمان، وما هبت نسمات النهضة الأخيرة في مصر وسوريا حتى أسرع أبناء القطرين إلى استخراج تلك الكنوز الدفينة، ولو تتابعت التآليف العلمية التي فتح لها محمد علي وخلفاؤه أرحب الأبواب، وتواصل تدريس العلوم العالية بها، أو لو لم تصب سوريا بما أصيبت به مصر من ضرورة التقاعد عن وضع المؤلفات العلمية؛ لانتقال الدروس في تلك العلوم إلى اللغات الأجنبية لما أعوزنا الآن تعبير في علم من العلوم أو فن من الفنون، ولما رأيت ناشئة هذا العصر إذا احتاجت إلى تعبير علمي عمدت إلى لسان أعجمي.
النهضة الأخيرة ومستقبل اللغة والشعر
ولكن تيار الأفكار إذا اندلع بأمة قض السدود، وتجاوز الحواجز، فإن أبناء العربية شاعرون أن حياتهم بحياة لغتهم، وقد علموا الآن أنه لا معين لهم غير أنفسهم على بلوغ أمنيتهم منها، فإذا أخلصوا النية فلا حائل يصدهم عن النهوض بها، ولا ننكر أنهم أعادوا الكرة فوثبوا بها وثبة جديدة في هذه الآونة المتأخرة، وهذه سجلاتهم وجرائدهم قد صعدت في مرقاة الكمال درجات لا عهد لهم بها قبل أعوام، وأصبح الكثير من اصطلاحاتها الحديثة «كالمجلة والجريدة والصحافة والمنطاد» مقبولا عند الخاصة والعامة كأوضاع القدماء، وإن في مؤلفات الكتاب والأدباء ما يعد لهم فخرا في هذا الموقف الحرج، وأعظم من كل ذلك انتشار الميل إلى المدارس الوطنية، فلغة البلاد لا تحيا إلا بمدارس البلاد.
والشعر من توابع اللغة ولوازمها، فإذا ارتفع شأن اللغة فبشر الشعراء، على أن مطلب الشعراء يختلف عن مطلب العلماء والمؤلفين، فحاجة الشاعر أيسر وموادها أوفر، وذخيرته في دماغه، فإذا جلاها العلم كانت له، ولبني لغته موردا صافيا ومنهلا عذبا، وفي الأمة والحمد لله فطاحل خرجوا عن جادة التقليد البحت، فمالوا ميل الزمان وأخذوا يسعون إلى استجلاء المعنويات سعي رصفائهم إلى استجلاء الحسيات، وما هي إلا جولة وأختها مدة من الزمن حتى تستعيد صناعتهم مقامها الشامخ، ومجدها الباذخ.
هوامش
النشيد الأول
خصام آخيل وأغاممنون
مجمله
لما اكتسح الإغريق «اليونان» بلاد الطرواديين عاثوا في مدائنهم، وسبوا نساءهم، وحصروا إليون عاصمة بلادهم عشر سنوات على ما مر بك في المقدمة، وكان في جملة السبابا فتاتان فتانتان تدعى إحداهما خريسييس «أوخريسا» والأخرى بريسييس «أوبريسا» أجمع زعماء الجيش على تمليك الأولى منهما لأغاممنون ملك ملوكهم، والثانية لآخيل ملك المرميذونة وبطل الإغريق على الإطلاق، فحمل خريس كاهن أفلون ما غلا وعز من المتاع والمال إلى معسكر الإغريق فكاكا لابنته خريسا، وبذلك افتتح هوميروس أناشيده.
فجنح الزعماء إلى إجابة ملتمس الكاهن الشيخ، ولكن أغاممنون أغلظ له المقال ورده خائبا، فانثنى من حيث أتى يستغيث الآلهة أفلون، فأغاثه وضربهم بوباء «فغدت جندهم تخر فلولا» فثقل عليهم الرزء ولم يفقهوا له سببا، فهاجت الحمية صدر آخيل، ودعاهم إلى مجلس شوراهم للمفاوضة في استطلاع كنه الأمر، فلما اجتمعوا أنبأهم العراف كلخاس أن أفلون ناقم منهم لخيبة كاهنه، وأنه لا سبيل إلى استرضائه ما لم يستلينوا قلب الشيخ برد فتاته إليه، فعظم الأمر بادئ بدء على أغاممنون، ثم ما لبث أن لان وأذعن لحكم كلخاس على أن تساق إليه سبية أخرى بدلا منها، فعارضه آخيل واشتد الخصام بينهما حتى كاد آخيل يفتك بأغاممنون لولا أن أثينا «إلاهة الحكمة» هبطت من السماء وصدته قسرا، ثم توسط بينهما نسطور الحكيم إخمادا للفتنة فما زادا إلا احتداما، وارفض الجمع على غير وفاق واعتزل آخيل القتال.
وأما أغاممنون فلم يزدد إلا اغترارا واعتزازا بما له من السيطرة على سائر الأنصار، فأمر بإرسال خريسا إلى أبيها، وبعث فقبض على بريسا سبية آخيل، وأحلها في خيمه في جملة ما ملك، فشق الأمر على آخيل، وتظلم إلى أمه ثيتيس (إحدى بنات الماء) فأسمعت صوت تفجعه من لجة البحر، فشقت العباب إليه، واستقصته الخبر ورقيت إلى زفس أبي الآلهة تلتمس الأخذ بيد آخيل، والانتقام له من الإغريق، فوعد زفس بخذلهم وإعلاء شأن الطرواد إلى أن يطيب آخيل نفسا، ففطنت هيرا زوجة زفس لما جرى من الحديث بينه وبين ثيتيس، وفي نفسها حزازة على الطرواد فهمت بالاعتراض عليه، فأوسعها وعيدا وزجرا وبادر هيفست، وسوى الخلاف وأدار السلاف، فظل الأرباب في طرب ونعيم إلى أن خيم الظلام، فتوسد كل مضجعه ونام.
تستغرق وقائع هذا النشيد اثنين وعشرين يوما، تسعة أيام مدة الوباء ويوما مدة اجتماع الزعماء ونزاع الملكين، واثني عشر يوما مدة إقامة زفس بين الأثيوبة، ومجرى الحوادث أولا في معسكر الإغريق، ثم في بلدة خريسا، وأخيرا في الألمب.
النشيد الأول
ربة الشعر عن آخيل بن فيلا
أنشدينا واروي احتداما وبيلا
1
ذاك كيد عم الأخاء بلاه
فكرام النفوس ألفت أفولا
2
لأذيس أنفذن منحدرات
وفرى الطير والكلاب القيولا
3
ثم ما شاء زفس من يوم شبت
فتنة بالشقاق تنذر أولى
4
بين أتريذ سيد القوم ثارت
بصلاها والمجتبى آخيلا
5
أي رب قضى؟ فما غير في
بوس وزفس ونكلا تنكيلا
6
فابن لاطونة بأتريذ رام ال
سوء مذ سامه جفاء ثقيلا
7
فدهى جيشه بشر وباء
فغدت جنده تخر فلولا
مذ أهان المليك كاهنه الهم
خريسا لما أتى الأسطولا
8
يفتدي بنته بغر الهدايا
وجميع الإغريق يدعو ذليلا
سيما العاهلين من ولد أترا
ولقد قل صولجانا أثيلا
9
عسجديا أعلام ذي النبل فيبو
س عليه بدت تجر ذيولا
10
قال: «فرعي أترا وقوم أخايا
من حذيتم طرا حذاء جميلا
منحتكم آل الألمب اعتزازا
قهر فريام ثم عودا جليلا
11
فبفيبوس فرع زفس المعلى
من سهام الردى يهيل همولا
12
إقبلوا فديتي وردوا فتاتي»
فجميع الإغريق ضجوا قبولا
13
آثروا حفظ حرمة الشيخ فيهم
وارتضاء الفكاك منه بديلا
غير أن المقال ساء أغامم
نون أترا فرده مخذولا
قال: «يا شيخ فاحذر القرب من فل
كي سواء رجعت أم أنت باقي
ليس في الصولجان هذا ولا في
ذي عصابات ربه لك واقي
14
لن تنال الفتاة بل سوف تبقى
ببلادي أرغوس مثل البواقي
تدرك العجز وهي تنسج قطنا
ضمن صرحي بغربة وانسحاق
وتلي مضجعي فقم واخش غيظي
إن ترم آمنا لحاق الرفاق
ذعر الشيخ فانثنى واجما في
جرف بحر يعج في الآفاق
15
ثم في عزلة دعا ودعاه
لابن لاطونة أفلون راقي: «رب يا ذا قوس اللجين استجبني
حق مولى تنيذس إحقاقي
16
يا ولي السمنث يا عون كلا
وخريس يا رب خذ بنطاقي
17
إن أكن قد زينت هيكلك الوها
ج أو ما ضحيت بالإحراق
ولسوق السخال والثور زكي
ت فسالت بشحمها المهراق
فبأبناء دانو نبلك الص
م لتفتك بدمع هذي المآقي»
18
فرغ الشيخ فاستجاب أفلو
ن بأعلى الأولمب وانقض حالا
حاملا وهو مزمهر على كت
فيه قوسا وجعبة ونبالا
19
حانقا كلما خطا ارتجت النب
ل عليه كالليل بالهول مالا
ورمى الفلك من بعيد بسهم
من لجين فزلزلت زلزالا
ضرب الغضف والبغال فألقى
شر سهم فجندل الأبطالا
20
فتولت نيران موتاهم إث
ر وباء بالفتك تسعا توالى
21
شهدت ثم ربة الأذرع البي
ضاء هيرا دم الأراغس سالا
22
فعليهم حنت فألهمت القر
م أخيلا أن ادرأن الوبالا
فدعاهم للربع عاشر يوم
واستوى قائما عجولا فقالا:
23 «أرانا أيا أتريذ والخطب قد عرا
نخوض على الأعقاب ذا اليوم أبحرا
24
نتيه ولات الحين والرزء فادح
وهذا الوبا والحرب قد أفنيا السرى
فسل قائفا أو كاهنا أو مفسرا
رؤى الخلق إذ زفس رؤى الخلق سيرا
على ما أفلون من الجيش ناقم
يقل أفبالقربان والنذر قصرا
عساه يزيل السخط إن ننتقي له
من العنز والحملان ذبحا مكفرا»
فلما انتهى آخيل هب ابن ثسطر
أجل ذوي العرفان كلخاس وانبرى
25
ففيبوس أولاه النهى وبهديه
لساحل إليون بأسطولهم سرى
خبير يعلم الغيب ماض وحاضر
ومستقبل فانساب فيهم محذرا: «أتأمروني آخيل أن أكشف الذي
يغيظ إلاها ينفذ النبل أسطرا
سأفعل إن تقسم بأن تدفع الأذى
بكفك والإفصاح عني مجهرا
سيغضب قولي سيدا ذا خطورة
لديه الأخائيون تعنو كما ترى
26
وليس لمرء يغضب الملك حيلة
وإن كظم السلطان غيظا وأضمرا
27
فلا بد أن يقتص وهو سجية
فهل لك إنقاذي إذا الأمر أظهرا؟»
فقال أخيل: «فا أمنن وهات ما
لديك من الإنذار بالغيب مخبرا
بحق أفلون مقرب زفسنا
ورب بما أولاك جئت معبرا
فما اختلجت نفسي بصدري ومقلتي
بعيني من الإغريق لا تخش منكرا
ونفس أغاممنون قيل قيولنا
إذا كنت تعني لن تمس وتعثرا»
28
فلما اطمأن الشيخ قال: «فما على
ذبائح أو نذر هوى السخط مسعرا
ولكن أتريذا على الكاهن اعتدى
وأمسك عنه بنته وتجبرا
فإن لم تؤب فالويل فيكم فخيم
وليس يداني الجبر منكم مكسرا
لترجع لأهليها بلا فدية ولا
بديل وتؤتون الذبيح المسطرا
فيعطى خريسا ثم نستدفع الأذى
ونستعطف الرب الغضوب لما جرى»
فقام أغاممنون ذو الطول مغضبا
يميزه الغيظ العنيف تسعرا
وقال وعيناه تطاير منهما
شرار لكلخاس الولي معزرا: «أيا منبئ السوء الذي لم يفه لنا
بخير ولكن ظل بالشر منذرا
29
بقول وفعل لم تقم قط حكمة
وها أنت للأسرار جئت مفسرا
تقول إله النبل قد شد صائلا
لأني لم أرض الفداء المقررا
ولم تدر أني جانح لبقائها
وقد فضلت زوجي كليتمنسترا
30
فليست بحسن القد والخد دونها
ولا بسمو العقل والفعل مخبرا
ومهما يكن من ذا فأخلي سبيلها
إذا كان خيرا للجنود لتظفرا
أود زوال السخط عنهم وإنما
أروم جزاء أرتضيه فأصبرا
31
فيبدو لي الإغريق أني لم أكن
بلا سلب كي لا أهان وأصغرا
32
وكلكم فينا شهود بأنني
حرمت نصيبي والقضاء تقدرا»
فقال المجتبى آخيل: «مهلا
أيا أتريذ يا سامي المقام
33
أأطمع كل مخلوق أترجو
مكافأة الأراغسة العظام
فليس لهم وتعلم بيت مال
يضم كنوز أموال ركام
فما نلنا من المدن اللواتي
دككنا شاع بين ذوي السهام
وكيف يليق سهم الجند نجبو
وقد نالوا على هام وهام
فعد وأرجعن فتاة قوم
أثاروا غيظ رشاق السهام
وموعدنا إذا إليون دكت
بنعمة زفسنا مولى الأنام
بأضعاف مثلثة وأوفى
نجيزك فاعتبر حرج المقام
فصاح يجيب: «يا آخيل يا من
حكى الأرباب دع هذي المسالك
34
فلست بخادعي أبدا وإني
تراني غير منقاد لقالك
أرد سبيتي وذهاب سهمي
وسهمك فائز خطرا ببالك؟
35
نعم أرضى إذا ضمنت سرانا
لذلك لي جزاء مثل ذلك
36
وإلا خلتني أعتاض قسرا
بمال أياس أوذس أو بمالك
هناك أحله خيمي بنفسي
ومن وافيت فليحنق هنالك
سنبحث، واقذفوا فورا هنا في
غراب في عباب البحر حالك
37
نراه بالأرادم والضحايا
وذي الحسناء فوق اللج سالك
38
يسير أياس إيذمن أذيس
به أو أنت أعجبهم بحالك
39
عسانا بالتزلف والضحايا
لرب النبل ندرئ المهالك»
فقال أخيل يشزره غضوبا: «أيا طمعا تدثر بالشنار
وهل في القوم بد فتى خداعا
تغر هنا فيبدر في بدار
علمت بأنني لم آت بغضا
بأقوام الطراودة الكبار
فقط علي لم يبغوا بسوء
وما سلبوا خيولي أو ثياري
وما نهبوا بأم البهم فثيا
وذات الخصب زرعي في دياري
40
ففيما بيننا لجج عماق
وغابات على الشم القفار
وإليونا أممناها التماسا
لما يرضيك نأخذها بثار
وندفع عن منيلا شر بؤس
وعند وقد جزيت بالاحتقار
ورمت سبية ما نلت إلا
ببطشي إثر إعلاء الغبار
حبانيها الأخاء وأنت منهم
أيا كلبا يصول بطرف عار
فإن نمرح بطرواد زمانا
وعثنا بالمدائن بالبوار
وأمسينا نقسم ما سلبنا
فلي نزر وتحظى بالخيار
فحظك قد تراخى عنه حظي
وباعي حملت ثقل الطواري
وأرضي قسمتي وأسير فيها
لفلكي مفعما شرر الأوار
سأقلع راجعا ولدي خير
أعاود موطني وأحل داري
وأشهد لست تلقى بعد خذلي
كنوز المال في جرف البحار»
41
فقال: «إذن وقد رمت انهزاما
فقر فلست ملتمسا بقاكا
فلي بسواك عزوة خير رهط
أجلوني وزفس لي سواكا
وفيما بين كل قيول زفس
أنا لم أقل قط فتى قلاكا
فلم تألف سوى شغب وقال
وإن تبسل فرب قد حباكا
42
بفلكك عد لأهلك في سراكا
وسد بين المرامد مشتهاكا
43
لئن تغضب وإن تذهب سواء
فليس بمزعجي هذا وذاكا
44
وزد قهرا بأني مذ خريسا
بغى عني فبوس لها انفكاكا
أسيرها بصحبي في سفيني
وفي نفسي أسير إلى حماكا
فتاتك منك أعتاض اقتدارا
فتعلم ما مداي وما مداكا
45
ويخشى من سواك هنا بوجهي
مفاخرتي فلا يهوى هواكا»
فأحزن آخيل وقد ضاق صدره
ونازعه في صدره عاملا فكر
أعن جنبه يستل ماضي عضبه
ويأخذ في تشتيتهم عائل الصبر
ويصرع أتريذا على الفور أم يرى
سبيلا لكظم الغيظ في أهون الأمر
رأى وإذا من جنة الخلد أهبطت
أثينا وجرته بأشعاره الشقر
46
رسولة هيرا تلك من لكليهما
تبر ولا تختار برا على بر
ولم يرها من زمرة الجمع غيره
بدت خلفه والعين حمراء كالجمر
تحقق مرتاعا ثبوت هبوطها
فبادر يشكو شدة الأمر والوزر: «أيا ابنة رب الترس زفس أجئتني
هنا لتري كيد ابن أترا وتستقري
فأنبئ والإنباء ظني صادق
سيلقى بما قد غره حتف مغتر»
أجابته زرقاء اللواحظ: «إنما
أتيت لأسري الغيظ عنك عسى يسري
بإيعاز هيرا مرتضاة كليكما
بعثت فخل الشر وادفع لظى الشر
47
وفي كفك الفتاكة أغمد حسامها
وقابل أغاممنون ما شئت بالزجر
وأصدقك الوعد اليقين فخذ به
فسوف تنال الجبر من بعد ذا الكسر
ثلاثة أضعاف الذي سيناله
ستحرز يوما فانتصح واستمع أمري»
فقال: «أراني يا إلاهة مجبرا
على الطوع مهما كان في النفس من قهر
فذلك خير من يطع سادة العلى
يثب وله من بعد أجر على أجر»
وأغمد تعلو كفه فوق قبضة
لجينية نصل الحسام الذي يفري
فسارت أثينا للألمب لقومها
بدارة رب الترس في قمة القصر
وغيظ أخيل ظل غير مسكن
ومال على أتريذ بالشتم والنهر:
48 «يا مليكا بنشوة الراح مثقل
يا لحاظ الكلاب يا قلب إيل
49
لم تكن قط كفء خوض المنايا
بين قوم الإغريق إن يعل قسطل
لم تقد قط صيدهم بكمين
كل هذا يريك موتا معجل
50
هو خير علمت أن تسترد ال
سهم ممن يصد قولك إن ضل
أنت ذا الشعب قد فرست بظلم
حيث بين الأنذال كنت المفضل
كنت لولا هذا أأتريذ في ذا ال
حين تلقي هونا أخيرا وتخذل
لك مني نبوءة ويمين
أثقلت في ذا الصولجان المبجل
51
محجن لن يزهو له ورق مذ
راح عن جذعه على الشم يفصل
كيف يزهو وقاطع الحد عرا
ه وهيهات بعد ذلك يخضل
إي وذا الصولجان وهو ولي
لجموع الإغريق في العقد والحل
بين أيديهم يناط وهم حف
اظ شرع لزفس فيهم تنزل
قسمي وهو ألوة لك كبرى
سوف يبكي أخيل جيش منكل
حين هكطور فيه يبطش بطشا
وتروم الذياد عنه فتفشل
فبك النفس تصطلي وهي حنقى
منك إذ كدت خير شهم وأبسل»
وإذ انتهى ألقى أخيل إلى الثرى
بالمحجن المزدان في قتر الذهب
52
واحتل مجلسه وأتريذ على
كرسيه متسعر بلظى الغضب
فانساب بينهما الموفق نسطر
والشهد من شفتيه بالنطق انسكب
53
وهو الخطيب أخو الفصاحة والنهى
في فيلس فأراد إخماد الشغب
قد كان يحكم ثالث الأجيال في
ها بعد أن جيلين عاصر واصطحب
54
متجللا برزانة ورصانة
في مجمع الإغريق منتصبا خطب: «رباه أي رزية صماء قد
هجمت على أرض الأخائيينا
لا شك فريام وكل بنيه وال
طروادة الباقون يبتهجونا
إذ يعلمون لما اختصامكما أيا
من فقتما بأسا علا ويقينا
فاستعصما بنصائحي فكلاكما
دوني حئولا جمة وسنينا
ولقد صحبت بما مضى صيدا أش
د وقد رعوا لي حرمة وشئونا
لم ألق قط ولن أرى في ذا الورى
بين الرجال كفير ثو أو كينا
أو إكسذ أوثيس بن أغيس من
قد كان مثل الخالدين رزينا
أوذريس راعي الورى والمجتبى
فوليفم قوم خلوا صلدينا
كانوا أشد العالمين وقاتلوا
قوما شدادا في النزال شبينا
55
وعلى قناطرة الجبال سطوا ولم
يذروا لهم أثرا يرى مأمونا
56
وصحبتهم واستقدموني جملة
من موطني فيلوس ملتمسينا
فنجدتهم جهدي وألقيت الزما
ن بمثلهم في الروع كان ضنينا
وبكل شوراهم إذا رأبي بدا
تخذوه بالإجماع متفقينا
لكما بهم مثل أطيعاني إذا
وخذاه رأيا صائبا ورصينا
فاحذر أيا أتريذ غصب فتاته
مهما علوت أماجدا وقرونا
هي لابن فيلا قد حباه بها بنو
إغريقيا حقا له مضمونا
وتجاوزن آخيل عن ملك حوى
شأنا علا شأن الملوك ركينا
ولئن تفق بأسا وأمك ربة
كانت فزفس زاده تمكينا
وهو الأشد قوى وأكثر عدة
وانبذ أيا أتريذ عنك ضغونا
وأخيل صاف وراعني فلقد غدا
في ذا الوغى حصن الأخائيينا»
57
فقال أغاممنون: «يا شيخ حكمة
نطقت ولكن ذا المقاتل يستعلي
يروم امتلاك الأمر والنهي إنما
بعلمي من لا يتقيه ولا يدلي
وإن تكن الأرباب أولته شدة
فهل هم أباحوا أن يهين أولي الفضل»
أجاب أخيل للحديث مقاطعا: «بأمرك مر غيري فلم يمتثل مثلي
فإن رحت منقادا لقول تقوله
إذا فادعني ندلا وأوضع من ندل
ولكن لي قولا صريحا فخذ به:
لأجل فتاتي لست منتضيا نصلي
ولن أتصدى للدفاع لأيكم
لسلبكم بالعنف ما نلت بالعدل
ومن دونها احذر أن تمد يدا لما
حوت سفني وافعل إذا تقت للفعل
ير الجيش ما تبدي ورمحي عاجلا
يسيل دما كالسود فابل إذا تبلي»
كذا انفصلا بعد اختصام وحدة
وفض اجتماع الحشد من بعد ذا الفصل
فآخيل في فطرقل والصحب قافلا
إلى فلكه والخيم في منتهى السهل
58
وأتريذ ألقى للعباب سفينة
بعشرين ملاحا تنقى بلا مهل
وفيها خريسا والضحايا لفيبس
وربانها أوذيس ذو الفضل والعقل
ومذ مخرت أتريذ نادى بجنده
وضوءا وتطهيرا فقاموا إلى الغسل
ولبوه والأقذار في البحر أفرغوا
وقادوا الضحايا خيرة الثور والسخل
59
وأذكوا لها في الجرف نارا تصاعدت
دخانا إلى الزرقا روائحها تعلي
بذا اشتغلوا طرا وأتريذ لم يزل
بهاجسه في كيد آخيل ذا شغل
دعا أورباتا ثم تلثيبيوس من
له لم يزالا أصدق الصحب والرسل
وقال: «اذهبا اقتادا بريسا بزندها
إلى هنا من خيم آخيل ذي النبل
60
وإن هو يأبى جئته بعصابة
بنفسي فيزداد انخذالا على خذل»
سارا يسوقهما الأمر العنيف على
البحر المخوف على رغم على ألم
بين المرامدة الغضى أخيل بدا
لدى سفينته السوداء والخيم
رآهما فتلظى واحترامهما
والخوف صداهما عن واجب الكلم
61
فاستوقفا وجلا والقلب أنباه
فقال مبتدرا بالبشر والسلم: «يأمر سلي زفس والناس أدنوا عجلا
ما الذنب ذنبكما إن تقصدا علمي
أتريذ يبغي بريسا فاأتين بها
فطرقل يا مجتبى زفس فهيت قم
ليأخذاها وعند الخالدين وعن
د الناس والمعتدي فليشهدا قسمي
لئن تولت سرى الإغريق نازلة
واستدفعوا العار واضطروا إلى هممي
62 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
لا شك أودى به الغيظ المشوم فلم
يذكر ولم يترو الأمر بالحكم
حتى إذا قاتلوا في ظل فلكهم
ظل الأخاءة في أمن وفي سلم»
فقام فطرقل يمضي أمره وأتى
بها بقلب بنار البث مضطرم
تسلماها وسارا وهي مكرهة
لفلك ملك المكينيين ذي العظم
63
فغادر الربع آخيل وسار إلى
الجرف الخلي يفيض الدمع كالديم
64
وصاح يبسط ذرعا وهو يحدق في
بحر طغى مستمدا رحمة الرحم:
65 «أماه ثيتيس مذ أولدتني وقضى
زفس بقصر حياتي فليصن شيمي
66
علي ضن بنذر المجد حيث أغا
ممنون في طوله يسطو على قسمي»
هبت وقد سمعت من لجها صعدا
مثل الدخان من الأمواج كالنسم
من قرب نيرا أبيها الشيخ طائرة
علت فألفته يهمي دمع محتدم
فعانقته وصاحت: «يا بني علا
م ذا البكاء فبح بالضيم لا تجم»
قال والنفس صعدت زفرات: «ليس تجدي لما علمت الإعاده
67
قدس إتيون ثيبة مذ دهمنا
وارتفدنا منه أجل ارتفاده
68
وزع الكسب ها هنا وخريسا
نال أتريذ غادة أي غاده
فاتانا خريس كاهن فيبو
س مثير السهام يلقي المقاده
يفتدي بنته بغر الهدايا
وبيمناه صولجان السياده
صولجان من عسجد وعصابا
ت أفلون فوقه مياده
فاتانا مستنجدا مستجيرا
راجيا من جميعنا إنجاده «سيما العاهلين من نسل أترا»
فجميع الإغريق حقوا مراده
69
آثروا حفظ حرمة الشيخ فيهم
وقبول النفائس الوقاده
فابن أترا استشاط يطرده من
بيننا موريا عليه احتداده
ذعر الشيخ وانثنى بدعاء
وفبوس استجابه واستجاده
فرمانا سهما فبددنا وال
أسهم الدهم أنفذت بداده
طفقت جندنا تخر ركاما
بعضها فوق بعضها منقاده
فقه الأمر كاهن ذو سداد
واحتدام الإلاه أدى مفاده
فطلبت استرضاءه فانبرى أت
ريذ حالا يبدي علي اشتداده
وأعد الوعيد ثم قضاه
وأراد الإغريق منع الزياده
فأعدوا سفينة سيروها
بخريسا إلى أبيها معاده
ثم ساروا وأوفدوا بنذور
شائقات للرب خير وفاده
وبذا الحين قام من خيمي الرس
ل بسهم أوتيت حق الجلاده
لابن أترا يستصحبون بريسا
أنجدي ابنا عليك ألقى اعتماده
أنصفيه إذا استطعت وسيري
للعلى في ألمب رب العباده
واستغيثي إن كنت حقا بقول
أو بفعل خلبت يوما فؤاده
باعتزاز سما بقصر أبي كم
مرة قد رويت خير إفاده:
عند ما فوسذ وهيرا وآثي
نا استطالوا على ولي الإباده
70
وتجاروا لغل زفس الذي ير
كم غيم العلى ويدجي اسوداده
لم يكن بين عصبة الخلد إلا
ك يقيه من ورطة مرتاده
فابتدرت الأغلال بالحل والج
بار حالا دعوت يبدي جهاده
71 «مئة أذرعا له وهو يدعى
بريارا في عرف أهل السعاده
ولدى الناس إيجيون يسمى»
من فسيح الأولمب رام افتقاده
من أبيه أشد بأسا وعند اب
ن قرون أقام يوري زناده
72
فاقشعر الأرباب منه هلوعا
وارعووا عن مكيدة نقاده
73
أقصدي زفس ذكريه بهذا
قبلي ركبتيه وارجي مداده
ليبيد الإغريق بالجرف قر
ب الفلك قهرا وينجد الطرواده
ليروا طيش ملكهم وهو يدري
أنه قد أصاد شر إصاده
74
وابن أترا يرى بمجد علاه
حط مجد المحراب أيان قاده»
قالت وأهمت دموع الحزن: «والهفا
وهل ولدتك كي تشقى وتشقيني
ما ضر لو كنت عند الفلك مغتبطا
لم تلق ضرا وتذرف دمع مشجون
فقد ولدتك أشقى الخلق واأسفي
في طالع السوء للأحزان والهون
تكاد تبلغ آجالا معجلة
ولم تزل بين مرغوم ومحزون
نعم إلى قمه بالثلج ضافية
فوق الألمب سأمضي ساعة الحين
أشكو إلى زفس قذاف الصواعق ما
تشكو عسى يرعوي رفقا ويدنيني
وأنت ظل عن الإغريق معتزلا
بقرب فلكك لا تلوي على لين
بالأمس للأوقيانس سار زفس مع ال
أرباب في دعوة جلى التزايين
يقضي برحلته اثني عشر يوم صفا
بالأثيبيين في رهط العرانين
75
فركبتيه متى يأتي أقبل في
قصر النحاس عسى يصغي ويكفيني»
وغادرته بقلب لاهب حنقا
لغصب غادته الميساء مفتون
هذا وأوذس ماض في ضحيته
إلى خريسا وذاك الثغر مذ وصلا
76
طوى الشراع إلى قعر السفينة وال
حبال حل وحالا أنزل الدقلا
77
وقام يجذف للمرفا ويطرح مر
ساة ويوثق شد الجمل معتقلا
78
فأخرج الذبح والحسناء تتبعه
إلى مقام فبوس فانثنى وتلا:
79 «أيا خريس أغاممنون أرسلني
لرد بنتك واستدراك ما حصلا
لفيبس بضحايانا نقربها
جئنا عساه يزيل السخط والعللا»
آوى إليه ابنة رقت عواطفه
لها وباشرت الإغريقة العملا
صفوا على المذبح الزدان ذبحهم
ذروا الشعير وكل كفه غسلا
80
وللسماء خريس مد في لهف
يد الضراعة يدعو الرب مبتهلا: «يا رب كلا وذا قوس اللجين ويا
مولى بقوته تينيذسا وصلا
81
ويا ولي خريس قد أجبت دعا
دعوته وبلوت القوم شر بلا
أجب سؤالي وعن أبناء دانوس
أزل وباء على أعناقهم ثقلا»
82
كذا دعا وأفلون استجاب وهم
دعوا وذروا شعيرا طاهرا فضلا
والذابح الذبح أعلى رأسه وكذا
من بعد تجريده أفخاذه عزلا
83
بالشحم غشى حواشيها وأتبعها
الأحشاء دامية من فوقها وشلا
فأضرم الشيخ خشبانا مقطعة
والخمر صب عليها والصلا اشتعلا
وحوله بسفافيد مخمسة
أطرافها فتية الإغريق والنبلا
حتى إذا ذابت الأفخاذ واجتعلوا
باقي الحشا اقتسموا اللحم الذي فضلا
84
ثم اشتووه وهبوا للطعام ولم
يكن بهم قط شاك لم ينل جعلا
لما اكتفوا بكئوس الراح طافحة
داروا وفتيتهم قد رتلت جذلا
ظلوا نهارهم يبغون بالنغم ال
شادي تقبل رب منهم انتفلا
85
وعظموه بأنشاد له نظمت
فطاب نفسا بطيب اللحن واجتذلا
86
حتى إذا أبرزت وردي أنملها
بنت الصباح وذات الفجر منجلا
87
عادوا لقومهم والريح مسعفة
لهم بفيض إله ذبحهم قبلا
هبوا إلى نشر مبيض الشراع على
أكناف سارية ثم انثنوا عجلا
راحوا ومركبهم شق العباب على
تلاطم الموج يدوي حوله قللا
كادوا يطيرون حتى قومهم بلغوا
فللرصيف استجروا المركب العجلا
القوة بين عضادات مثبتة
وبين فلك وخيم فرقوا جملا
88
وظل أخيل حانقا عند فلكه
بعيدا عن الشورى افتخار البواسل
يؤجج في أحشائه نار عزلة
ووجد لضجات الوغى والجحافل
89
وفي فجر ثاني عشر يوما مقامه
أتى زفس في رهط الخلود الأفاضل
90
ولم تك ثيتيس لتنسى وعودها
فشقت عبابا حال بين المراحل
تجاوزت الجو الفسيح إلى السما
إلى حيث زفس بالجبال العواطل
على القمة العليا بهن قد استوى
بعيدا عن الباقين جم المخايل
91
تدنت إليه وانبرت مستجيرة
ومست بيمنى ذقن مولى العواهل
ومالت بيسراها تقبل ركبة
وتلتمس الحسنى بكل الوسائل: «أبا الخلق زفسا إن صدقتك خدمة
بقولي وفعلي بين رهط الأماثل
92
أجر ولدي أدنى الرجال إلى الردى
فقد حطه أتريذ حطة خاذل
وأعدمه سهما فلا تطرحه يا
حكيما تجلت فيه غر الشمائل
أفز جيش طروادا ليعظم قدره
وينزله الإغريق أسمى المنازل»
فأبطأ ركام الغيوم ولم يجب
على الركب انقضت وصاحت «الأصل
وماذا الذي تخشى فخل تعللا
وقل أو أشر بالوعد أو رفض نائلي
فأعلم بين الخالدين مذلتي»
فقال مبينا زفرة المتثاقل:
93
لذلك عبر ضيق إن نمي هنا
لهيرا انبرت لي بالجفا والقلاقل
فتوغر صدري إذ بكل نميمة
بمجتمع الأرباب تثقل كاهلي
وتزعم أني للطراود ناصر
فهبي ولا تنظرك هبة عاجل
سأنظر فيما تبتغين وهاكها
إشارة وعد بالإجابة قائل
ففيها بدار الخلد عهد مصدق
وثيق وطيد لن يمس بطائل»
وحرك جفنه فمادت شعوره
وزلزل عرش الخلد أقوى الزلازل
94
بعد هذا الحديث سار الإلاهان
فثيتيس للعباب العسوف
من أعالي الأولمب غاصت وزفس
عاد للصرح في المقام المنيف
نهضت أرباب العلى لأبيها
حرمة واختشاء هول مخيف
حل في عرشه وهيرة بالمر
صاد كانت ما بين تلك الصفوف
95
أبصرته يلقي ابنة الشيخ نيرا
ذات رجل اللجين بالمعروف
فعليه مالت سريعا بعزم
وتلقته بالكلام العنيف: «من ترى أيها الإلاه المداجي
قمت تدني إليك طي السجوف
96
قد كرهت استيداع سرك عندي
إن أغب رمت سر غير أليف»
قال رب الأرباب والناس طرا: «لا ترجي استطلاع كل صروفي
لا تطيقين لا وإن كنت زوجي
غير عرفان حقك المألوف
ذاك لا خالد ولا بشر قب
لك يروي له أقل الحروف
وحذار السؤال عما أرى أن
أتبقى بعلمي الموقوف»
97
رمقته بطرف عين مهاة
ثم قالت: «وما الذي ترويه
98
أنا لا أطلب التفحص عما
تبتغي أجر أنت ما تشتهيه
إنما خشيتي من ابنة شيخ ال
بحر أن تعتلي بمكر وتيه
وافت الفجر والتقتك بلثم ال
ركبتين ابتغاء أمر بديهي
ويقينا أشرت بالوعد أن يح
ظى أخيل بكل ما يبتغيه
وبمرأى الإغريق في فلكهم تر
دي ألوف الأبطال كي ترتضيه»
99
قال: «غاليت في مراقبتي وي
ك وأكثرت ثقلة التمويه
100
لن تنالي بذاك إلا نفوري
بل تذوقين طعم خذل كريه
ولئن كنت قد صدقت بما قل
ت لأستحسنن ما أجريه
فالزمي الصمت في مكانك إيا
ك خلافا وهاك أمري فعيه
ليس ينجيك من ثقيل ذراعي
في ألمبي جميع من حل فيه»
جلست أصمتت وخارت فؤادا
وبنو الخلد بلبلوا بلبالا
101
فتصدى الحداد ذو الشأن
هيفست لتسكين أمه ثم قال:
102 «فدح الأمر إن تكونا لأجل الن
اس بالأرض تنشبان القتالا
وإذا ما أوسعتمانا جفاء
كيف نبغي الصفا وننعم بالا
لك نصحي مهما تعي حكمة أن
تتقيه وأن تليني المقالا
خشية أن يشتد زجرا فتمسي
كأس أفراحنا بذاك وبالا
هكذا شاء قاصف الرعد وهو ال
أعظم الفائق الجميع كمالا
103
وهو كفوء لهد كل قوانا
بعروش قد أعظمتنا جلالا
سكني غيظه بعذب الأحادي
ث فيرضى عنا ويحسن حالا»
ثم زجى لها وقد قام كأسا
طفحت قال: «هاك خمرا زلالا
104
همدي الروع كلما اشتد إني
مشفق أن يسومك استذلالا
لست كفأ مهما علقت بقلبي
لدفاع أراه أمرا محالا
ساقني العزم مرة لانتصار
لك فاجترني برجلي حالا
ورمى بي من السماء فدحرج
ت نهاري حتى سنا الشمس زالا
فوق لمنوس خائر العزم أهبطت
لدى السنت فالنقطت معالا:
105
ببهي اليدين من بعد أن هش
ت وبشت تناولتها فمالا
وأدار السلاف دورا على البا
قين يسقي يمينهم فشمالا
مقبلا يستقي من الدن صرفا
وهو يجري ويحسن الإقبالا
فعلا الضحك بينهم إذ رأوه
هارعا فيهم بقصر تعالى
106
لبثوا يؤلمون يومهم بي
ن طعام يؤتى وحظ توالى
وفيوس بضرب قيثاره وال
حور ينشدن بهجة وجمالا
وإذ الشمس بالخباء توارت
كل رب مضى يروم اعتزالا
نهضوا للمنام ضمن صروح
شاد هيفست بالسنا تتلالا
107
وكذا زفس رام مضجعه حي
ث لذيذ الهجوع يلقي الظلالا
وإلى جانبيه من فوق عرش
عسجدي هيرا تشوق اعتدالا
هوامش
النشيد الثاني
سياسة أغاممنون وإحصاء سفن الإغريق وبلادهم وقبائلهم ورؤسائها
مجمله
ظل زفس فاكرا ليلته في التنكيل باليونان؛ إعلاء لشأن آخيل «فعن له إرسال طيف مموه» يحث أغاممنون على أن يشد بخيله ورجاله على الطرواد بغية أن يناله وجيشه الفشل فيرجعون إلى استعطاف آخيل، فاغتر أغاممنون وطمع في فتح إليون وآخيل بمعزل عن القتال، على أنه لم يكن على يقين من انقياد الجند إلى إشارته إذ كان مشفقا من فتور هممهم على إثر الوباء والسؤم من طول مدة الحصار، وتثبط آخيل بقومه، فلما كان الصباح عمد إلى حيلة يختبر بها عزيمتهم، فجمع القواد وكشف لهم عما داخله من الريبة، ثم قال لهم: إن في عزمه أن ينادي بالرحيل والانقلاب إلى الأوطان؛ ليرى ما يكون من أمر الجند؛ فإذا أنس منهم رغبة في معاودة الديار وترك الحصار بادر القواد إلى صدهم والهجوم بهم، فلما وافقوه على رأيه بلسان نسطور عقد المجلس العام، وخطب في الجند مناديا بالقفول، وما انتهى حتى جرى كل فريق إلى سفنه يتأهب للإقلاع بها، فاعترضهم أوذيس عملا بأمر أثينا، واجتر صولجان السيادة من يد أغاممنون وطاف فيهم يستنهض الهمم ويقوي العزائم بالوعد والوعيد، ولم ينثن حتى عاد بهم إلى مجلس شوراهم، فتصدى له ثرسيت السفيه بنفثات خبثه ولؤمه، فزجره أوذيس، وضربه ضربة أوهنت قواه، وغادره عبرة للمعتبر، والجمع يضج مستوصبا العقاب، ولما انتظم عقد المجلس نهض أوذيس، فخطب وأطنب بذكر الأيمان ومواعيد الآلهة لهم بالظفر، ثم تلاه نسطور فشدد، وأرشد وأشار بحشد الجيش كتائب يزحف بكل قبيلة منها أميرها، ولما ثبتت قدمهم وذكت هممهم أصدر أغاممنون أمره بالتأهب للقتال، فضحوا بضحاياهم وتناولوا طعامهم، وقاموا إلى السلاح، وهنا أخذ الشاعر في سرد أسماء الملوك والأمراء وتعداد سفائنهم، وذكر بلادهم وقبائلهم، أما زفس فلم يكن غافلا عما يعملون، فبعث بإيريس إلى فريام ملك طروداة توقفه على ما كان من عزم الإغريق، فعبأ هكطور جند الطرواد وأنصارهم على هضبة محاذية لإليون، وتربص فيهم إلى أن تلتحم الحرب، ثم ختم هوميروس نشيده بسرد قبائل الطرواد وحلفائهم.
لا يستغرق هذا النشيد إلا قسما من اليوم الثالث والعشرين، ومجرى وقائعه في معسكر الإغريق على جرف البحر ثم في معسكر الطرواد.
النشيد الثاني
دجا الليل والأرباب والناس نوم
ولكن زفسا نابذ سنة الكرى
1
بإعزاز آخيل وإهلاك جملة
لدى سفن الإغريق ظل مفكرا
فعن له إرسال رؤيا خبيثة
لأتريذ تغريه بأمر تصورا
فنادى أنيروسا وقال: «ألا فطر
أيا أيها الطيف المداجي مبشرا
2
إلى سفن الإغريق لج خيمة بها
أقام أغاممنون أنبئ بما ترى
3
أعد كلما ألقيه: فليمض مقدما
على الحرب وليعدد لذاك المعسكرا
تآلفت الأرباب طرا وفوزه
على بلد الطروادة اليوم قدرا
وهيرا استلانتهم فأجمع رأيهم
على رزء إليون وبالا مكررا»
فطار ولم يلبث أن اجتاز فلكهم
لخيم أغاممنون بالغيب مخبرا
فألفاه فيمن حوله نوما دنا
لدى رأسه واحتاز هيئة نسطرا
وقال وقد حاكاه إذ كان عالما
لديه ابن نيلا خير شيخ موقرا:
4 «لم يا ابن أترا القرم تهجع ما
ذا شأن مولى يملك الأمرا
من قد تولى أمر أمته
أنى ينام الليلة الحرى
فاحفظ كلامي زفس بي لك من
قاصي أعاليه لقد أسرى
مالت إلى الإغريق رأفته
فأراد أن تستدفع الضرا
في كل من والاك تزحف إذ
قد حان فتح البلدة الكبرى
5
أربابنا طرا قد اتفقوا
ولقول هيرا أذعنوا طرا
وعلى بني الطرواد زفس قضى
بالويل فاخبر أمره خبرا
وحذار أن تنقاد للوسن ال
حالي فتنسى بعده قسرا»
كذا أغراه بالوعد احتيالا
وغادره يرى ما لن ينالا
فلاح له وما أغواه يعلو
بذاك اليوم إليون احتلالا
ولم يعلم نوايا الرب لما
عليه قدر الحرب السجالا
أعد لجملة القومين بؤسا
وأرزاء إذا اشتبكوا اقتتالا
أفاق وصوت رب الطيف يدوي
حواليه فهب وقام حالا
6
تدثر في شعار ذي بهاء
وأردف حلة تزهو جمالا
7
وأوثق خفه الزاهي وألقى
على كتفيه سيفا قد تلالا
وأمسك صولجانا خالديا
لأهليه ونحو الفلك مالا
8
وأمت ربة الفجر المعالي
لزفس والميامين امتثالا
9
تبشرهم بطر الصبح لما
أغاممنون بين القوم جالا
ونادى في الدعاة بأن يصيحوا
بأعلى الصوت للشورى ارتحالا
فلبوه وأقبلت السرايا ال
شكاة إليه تنتضل انتضالا
10
وقد عقد الشيوخ قبيل هذا
بجانب فلك نسطور احتفالا
11
بهم أتريذ نادى مستشيرا
لما زعموا من الأمر احتمالا:
12 «سمعا أصيحابي رأيت دجى
طيف الكرى والليل قد صرا
في شكل نسطور وهيئته
متمثلا لي قال مذ خرا: «لم يا ابن أترا القرم تهجع ما
ذا شأن مولى يملك الأمرا «من قد تولى أمر أمته
أنى ينام الليلة الحرى «فاحفظ كلامي زفس بي لك من
قاصي أعاليه لقد أسرى «مالت إلى الإغريق رأفته
فأراد أن تستدفع الضرا «في كل من والاك تزحف إذ
قد حان فتح البلدة الكبرى «أربابنا طرا قد اتفقوا
ولقول هيرا أذعنوا طرا «وعلى بني الطرواد زفس قضى
بالويل فاخبر أمره خبرا»
من ثم عني غاب محتجبا
لكنني أهببت مضطرا
أو كيف نغري الجند في عجل
حتى يكروا للقا كرا
فأنا سأبلوهم وأدفعهم
بالقول فوق سفينهم فرا
وعليكم أنتم بجهدكم
تستنهضون العزم والصبرا»
فكذا انتهى واحتل مجلسه
وبهم رقى نسطور منتصبا
هو ملك فيلوس التي ركمت
برق الرمال ببشره خطبا: «لو غير أتريذ رؤاه روى
يا معشر الحكام والنجبا
لرغبت عن تصديقه علنا
وزعمت أن بزعمه كذبا
لكن مولى القوم كلهم
بالنفس رؤيا النفس قد رقبا
هيوا نرى أنى يتاح لنا
أن ندفع الإغريق كي تثبا»
ومضى من النادي كذاك مضى
بعصاه كل من ملوكهم
13
دانوا لمرشدهم وأقبلت ال
أجناد للشورى بحشدهم
14
كالنحل من كهف خشارمها
هرعت بجمع فاج مزدحم
15
تحكي عناقيدا علقن على
نور الربيع بزاهر الأكم
هم هكذا اندفعوا إليه زرا
فات فمن فلك ومن خيم
وأمام جرف البحر قد طفقوا
متعاقبين لمجمع الأمم
ورسول زفس شهرة انتدبت
فسعت تجوب بعزمها بهم
16
فتهافتوا والربع مضطرب
والأرض تشكو ثقلة القدم
وعلا الضجيج وتسعة بعلا
أصواتهم نهضوا لكفهم
واسترعووا الأسماع للنبلا
ء محكمي زفس قيولهم
17
حتى إذا بالجهد قد جلسوا
والصمت يسمع وقعة الكلم
وافى أغاممنون منتصبا
بالصولجان الفائق العظم
18 «هو صنع هيفست وفيه حبا
زفس العظيم بغابر القدم
فأباحه زفس القاتل أر
غوص الرسول الأصيد الحكم
19
وفلبس أولى هرمس هبة
فحبا به أترا أخا الهمم
20
فبموته أبقاه خير جدا
لثيستس المشهور بالنعم
21
فإلى أغاممنون جاء به
يقضي به أحكام محتكم
في آل أرغوليذة وكذا
بجزائر وفرت بقربهم»
فعليه بين القوم متكئا
خطب المليك بكل جمعهم:
22 «إليكم مقالي يا بني دانو فقد
رماني زفس في حبائل آتيا
23
وقد كان والاني بإيماء رأسه
بأنا بإليون ندك المراميا
24
ولا ننثني للأهل إلا بسبيها
فمان وما أغواه فيما رمانيا
25
فقدت صناديد الرجال وقد قضى
علي إلى أرغوس أرجع خاسيا
26
نعم ذاك أمر شاءه الآمر الذي
يقوض أركان البلاد العواليا
ولا شك يسري ذكر خذلتنا إلى
بنينا ومن يحيا السنين الأواتيا
إذا علموا أنا بوفرة جيشنا
وشدته جئنا نؤم الأعاديا
ولم نجن إلا خيبة وعديدهم
قليل وأغفلنا الصعاب التواليا
27
فلو عد إغريق وطروادة على
تصاف وكل قومه أم جاريا
وقسمت الإغريق بالعشرات وال
كئوس بنو إليون أجرت ضوافيا
لداروا جميعا بالمدام ولم ينل
كثير من العشرات منهم ساقيا
28
كذا دوننا كانوا عدادا وإنما
بنجادهم يلقون عونا مباريا
29
فمن كل فج كل أيهم فاتك
أتاهم وبالعزم الشديد التقانيا
فصدوا جنودي راغمين تجلدي
وما لبثوا طروادة لن أفاجيا
فتسعة أعوام مضت لحصارنا
سفائننا كادت تسام تداعيا
30
ولم أدرك الأمر الذي جئت أبتغي
وأزواجنا لازلن عنا نوائيا
بأصرحنا بين البنين وأهلنا
يرمن ولا يبلغن منا التدانيا
فهيئوا أطيعوني الهزيمة مغنم
بعودتنا إني أرى زفس قاضيا
31
وأصدقكم وعدا يقينا فلن نرى
لإليون فتحا فيه نلقى الأمانيا»
بلبل النطق قلب من لم يكونوا
بينهم في شورى الملوك حضورا
عج بالجميع منتداهم كما في ال
بحر تبدي الأمواج عجا كبيرا
إذ بإيقارة صبا وجنوب
بهما غيم زفس عنفا أثيرا
32
أو كما ترفع الدبور بأرض
سنبل الزرع مائدا موتورا
33
هكذا بلبلوا وراحوا شتاتا
بين ماض للفلك يجري مغيرا
بقوى صوته يصيح وتعلو
ه غيوم الغبار منه نشورا
وكذا بين راغب هم يدني
ها إلى البحر ساعيا مغرورا
وصديد الذين للعود تاقوا
خرق الجو بهجة وحبورا
يعجلون التنظيف في ترع ال
فلك وجر الأركان عنها عبورا
34
ثم أولا هيرا لعادوا وإن خط
قضاء بفوزهم مسطورا
قالت لآثينا: «أيا ذات القوى
أسفا أيا ابنة زفس رب الجنة
35
أيغادر الإغريق منهزمين فو
ق البحر للأوطان شر هزيمة
يدعون فرياما يفاخر معجبا
بذويه في هيلانة المسبية
36
من بعد أن هلكت أراجلهم لدى
إليون هدرا والمنازل شطت
عجلا إليهم أمسكي كلا بلي
ن القول لا يمضي لهم بسفينة»
فبحينها اندفعت من الأولمب لل
سفن السراع فبلغت في لحظة
وجدت عبوسا أوذسا من قد حكى
زفسا بنور حجاه لم يستلفت
37
لم يعتمد مسود مركبه ومن
ه النفس غاصت في عباب الكأبة
وقفت ونادته: «أيا ابن ليرتس
أكذا تؤمون الديار بذلة
تدعون فرياما يفاخر معجبا
بذويه في هيلانة الأرغية
38
من بعد أن هلكت أراجلكم لدى
إليون هدرا والمنازل شطت
عجلا إلى الأجناد أمسكهم بلي
ن القول لا يمضى لهم بكتيبة»
في الحال أدرك صوتها طرح العبا
ء لأوربات الفيج عالي الهمة
39
وإلى أغاممنون أسرع جاريا
واجتر منه صولجان السطوة
40
ثم انبرى بين السفائن والجا
بين الملوك وبين أهل الإمرة
ويبادر الأقيال إن مروا به
مستوقفا ومحرضا بالرقة: «أو كيف صاح يليق كالأنذال تر
تعدون خوفا فارتدع لنصيحتي
أرجع جنودك إن أتريذا له
أرب ليبلونا بكل طريقة
ولقد جهلت مرامه ولسوف تل
قاه يعاقبنا بشر عقوبة
فترو واحذر غيظه إذ لم نكن
طرا لديه بين أهل الندوة
من كان مولى زفس ليس يذله
بل صانه بكرامة ومودة»
41
وإذا رأى أحد الرعاع مصوتا
بالصولجان عليه مال بضربة
42
وله يقول: «اجلس ولا تبد الحراك
أيا جبانا قد خلا من نخوة
أفكنت من أهل الوغى والرأي فس
تمثل بمن يعلو وعندك فاثبت
أو جملة الإغريق أقيال فلا
أشقى مآلا من تسلط جملة
43
لا يستقيم الأمر إلا إن يكن
فرد يخول صولجان الصولة»
44
فلنرضخن إذا لمن زفس ارتضى
للملك والأحكام بين الأمة
فكذا بفصل القول خاطبهم وعا
د الجيش للشورى بأعلى ضجة
تركوا السفائن والخيام مهرولي
ن بكل جمعهم ولم يتشتت
كالموج في جرف البحار يعج وال
لمج الدوي به بقاصف عجة
ثم استكانوا في مجالسهم سوى
ثرسيت لم يذعن لذاك ويسكت
سفه له قذف الشتائم ديدن
وخصومة الحكام أقبح خطة
وقح تجاوز كل حد وهو إن
يستضحك القوم استطال ببهجة
لم يرع قط مقامه وغدا بهم
خلقا خلقا شر أهل الحملة
45
قد كان أكبس وهو أحول أعرج
وشعوره كادت تعد بشعرة
46
كتفاه قوستا لضيق صدره
وبصدره لم يحو غير ضغينة
يختص أوذس وابن فيلا حقده
أبدا بكل تحامل وشتيمة
47
والآن مال على أغاممنون بال
قذف الشديد معنفا بتعنت
فنفوسهم منه اشمأزت وهو لم
يعبأ وخاطبه بأهجن لهجة: «قل يا أغاممنون ما تشكو إذا
ولقد جمعت لديك أجزل ثروة
وبدائع الغادات من سبي بها
نحبوك إن نفتك بأية بلدة
أطمعت في ذهب يأتيك من
إليون ملتمس قبول الفدية
إن ما أتيتك أو أتى غيري له
بابن يكبل بالقيود الجمة
48
أم هل تروم أسيرة أخرى لها
تبدي غرامك إن خلوت بعزلة
49
لا لا فليس يليق كل الجيش لل
بلوى يساق بميل رأس الأسرة
وأعاركن أيا نساء ولا أقو
ل أراجلا فلنقفلن بخزية
50
وليبق ذا الملك الغرور وذخره
فيرى بذلك ما لنا من عزوة
فقد اعتدى توا على من فاقه
بأسا وآخيل تقاعد بالتي
لو كان ذا قلب لكنت لقيت في
أثر اعتدائك منه آخر حطة»
فعلى أغاممنون راعي الشعب ثر
سيت أثار كذا أوار نميمة
فله انبرى أوذيس يلهب صدره
غيظا وخاطبه بقول مبكت: «صه يا رعاعة من تكون لتبتغي
لدد الملوك بنطق أخبث صيت
51
فلأنت أوضع قادم في جند أت
ريذ لدى إليون فاخسأ واصمت
أفكنت كفأ للخطاب منددا
بالصيد تنتدب الملا للعودة
52
أو من ترى منا بقسمته درى
أو ما يكون مآل تلك الرجعة
وعلى أغاممنون فاك فغرت إذ
أبناء دانوس حبته بتحفة
53
نبأي فخذ مصدقا فلئن أر ال
تهذار منك كما رأيت بمقلتي
لا ظل رأسي فوق كتفي عالقا
لا كنت والد تيلماخ يتيمتي
إن لم أجردك العباءة والدثا
ر إلى بقايا كل آخر سترة
فتساق فوق الفلك مختضبا من ال
شورى تردد أنة في أنة»
من ثم بادره وأوهن ظهره
بالصولجان بضربة دموية
برزت بمنكبه دماء بثورها
فأكب يبكي واستكن برعدة
بسذاجة البلداء ينظر حوله
ويكفكف الدمع السخي بتشمت
54
وجماعة الإغريق لم يتمالكوا
عن فرط قهقهة لتلك الخيبة
يتداولون بقولهم: «لله كم
قد حاز أوذس من جليل مزية
بالحزم في الآراء والتدبير في ال
هيجاء أيان انبرى لمهمة
لكنه لم يأت أجمل حكمة
من ردعه سفها يصول بفتنة
لا شك أخمد نفسه بنكالها
عن أي تثريب الملوك بكلمة»
وأقام هدام المدائن أوذس
بعصا السيادة واقفا بعزيمة
55
وتليه آثينا بهيئة صارخ
يدعو جموعهم بكل سكينة
56
حتى جميع صفوفهم علما تحي
ط برأيه فأتى بأفصح خطبة:
57 «تحملك الإغريق كل ملامة
أأتريذ إما اليوم خابت وعودها
لديك لقد آلوا قبيل ارتحالهم
لإليون لا يثنون عزما يبيدها
وها هم كولد جزع وأرامل
تناهى حنينا للبلاد هجودها
لتلك إذن بلوى تفاقم ضرها
وما اليأس إلا أسها ومعيدها
ولا شك يغتمون إن يمض شهرهم
بفلكهم والنوء ظل يميدها
فكيف وقد باتت حئول اغترابهم
سنين طوالا تم تسعا عديدها
وأزواجهم عنهم نأين فلا أرى
ملاما إذا البأساء شطت حدودها
ولكن كل العار في عودة السرى
بخيبتهم مهلا فسوف نعودها
58
لنبلو صحبي صدق كلخاس منبئا
بما قد علمتم آية وأعيدها:
شهدتم وما متم وفي الأمس خلت ذا
قديما سرايانا استتمت جنودها
وهيأت الأسطول في بحر أفلس
لأمة فريام يعد وعيدها
59
إلى ساجة عظمى لديها تفجرت
من الماء عين فاض سيلا برودها
رفعنا على طهر المذابح جملة
مئات الضحايا واستطار وقودها
إذا أفعوان هائل قد بدا لنا
بمعجزة من أمر زفس ورودها
من المذبح الدامي استطال مخضبا
إلى الساجة الشماء وثبا يريدها
وفي رأسها عصفورة وفراخها
ثمانية ما كاد ينقف عودها
إليها سريعا هم مزدردا على
تغاريدها والأم شقت كبودها
ترددت أنات الأسى وترف في
جوانبه حتى اشرأب يصيدها
ولما فراها تسعة صار صخرة
بحكمة مبديها استتب جمودها
فزدنا عجابا والتشاؤم رابنا
ولكن لكلخاس تجلت عقودها
فقال: «تولتكم من الأمر دهشة
ولكن خفايا السر وافت وفودها «يرينا بهذا زفس معجزة بها
لنا نصرة في الغيب خط خلودها «كما أفعوان الضير أمسك تسعة
من الطير مغتالا وأنتم شهودها «كذاك لدى إليون تسعة أخؤل
نخيب فيأتي عاشر ونسودها»
وقد كادت الأنباء تكمل فالبثوا
يسيرا وإليون تحط سعودها»
فهلهلت الإغريق والفلك رددت
هلاهل سر للسماء صعودها
فبادر نسطور الوقور مخاطبا: «هذرتم كولد طال جهلا قعودها
60
كأنكم لم تشهدوا قط مصرعا
وأقسامنا هل تضمحل عهودها؟
فأين الضحايا والقرابين أحرقت
بأيمان صدق موثقات بنودها
وأين مدام قد أرقنا وأيمن
بها قد تواثقنا أباد وجودها؟
لقد طال منآنا وكل قتالنا
ببطل أقاويل بعيد مفيدها
تقلد أيا أتريذ بالحزم مثلما
عهدتك وليعل الحروب وصيدها
ودع حانقا أو حانقين تعمدا
مغادرة الهيجاء أنت عميدها
فلن يرجعا ما لم نخب أو تتح لنا
مواعيد رب الترس صدقا يشيدها
وعندي يقين أننا عندما على
سفائننا للفتك جئنا نقودها
لنا سلفا بالرأس أومأ معلنا
بشائر نصر قاصفات رعودها
61
فلا تفكروا بالعود ما لم تقوموا
لهيلانة ثأرا لبؤس يكيدها
فيظفر كل منكم بسبية
وتدمر إليون وتحرز غيدها
ومن تاق للأوطان فليأت فلكه
فيعلم أن النفس حان خمودها
62
فخذ بشعار الحزم أتريذ مثبتا
نصائح أحكام لديك أجيدها:
لتنتظم الأجناد بين قبائل
يولى عليها بالمعامع صيدها
63
فتعلم من منهم أشد تثبتا
ومن قل عزما إذ يدنى بعيدها
وتعلم ما إليون منع حصنها
أوهن بجند أم قضاء يذودها
هنالك أتريذ قال خطيبا: «لقد فقت يا شيخ كل خطيب
64
فلو لي بنصرة زفس وفالا
س ثم فيوس الإلاه الغضوب
65
بما بك من حكمة عشرة
لذلك إليون تحت ضروبي
66
ولكنما رافع الجوب يشقي
فؤادي بكل شقاق مريب
67
فبيني شب وبين أخيل
خلاف وإني أصل الشبوب
ولو أننا في صراط سوي
لأرغمت طروادة عن قريب
فقوموا إلى الزاد صحبي ومن ثم
للكر نمضي ونشر اللهيب
أعدوا تروسا وحدوا قنيا
وزيدوا غذاء خيول الكروب
وبالعجل افتقدوا المركبات
فذا اليوم يوم إله الحروب
فهبوا ولا تفكروا بسواها
فلا فترة بعد ذاك الهبوب
إلى أن تحول جيوش الدياجي
فيرفض بالقسر كل صخوب
ورشح الصدور يسيل على
مجن علا فوق درع خضيب
وتخدر أيديكم في قناها
وللخيل في ذاك مر النصيب
فتسبح من عيها عرقا
بجركم في عجال الخطوب
ومن يتناء فذاك حذار
طعام الكلاب وطير السغوب
68
فلما انتهى ضج الجميع تحمسا
دويا كعج البحر بالجرف يقصف
كنوطس إذ من كل صوب وهبة
لأعلى حزيز الصخر بالموج يقذف
69
وساروا شتاتا هارعين لخيمهم
بها أضرموا نارا ولم يتوقفوا
طعامهم نالوا وزكوا تقادما
لأربابهم كل لمن كان يألف
70
وقد سألوهم كف رزء وبينهم
إلى زفس أتريذ غدا يتزلف
فضحى بثور مربع بعد أن دعا
لأدبته صيد السرى فتألفوا
71
وأولهم نسطور ثم إذومن
وآياس آياس قليلا تخلفوا
تلا ذيميذ ثم أوذيس من غدا
بحكمة مولى الخالدين يعرف
وجاء منيلا القرم من غير دعوة
لما بأخيه من عنا النفس يعرف
72
لدى الثور قاموا ثم ذروا شعيرهم
وفيهم أغاممنون يدعو يهتف:
73 «يا من تفرد في مجد وفي عظم
ياراكم الغيم يا من في الرقيع علا
لا تحجب الشمس والظلماء تعقبها
حتى بفريام نصرا نبلغ الأملا
أدك شائق قصر شاده وأرى ال
لهيب يلتهم الأبواب محتملا
ودرع ذي البطش هكطور أمزقها
بصدره ونذيق القوم شر بلا
وحوله فتية تنقض ساقطة
فتكدم التراب من أصحابه النبلا»
لكنما ابن قرون لم يصل أملا
آوى الضحية لكن أثقل العملا
74
بل زاد محنتهم ويلا وما عرفوا
دعوا وذروا الشعير الرافع القبلا
والذابح الذبح أعلى رأسه وكذا
من بعد تجريده أفخاذه عزلا
بالشحم غشى حواشيها وأتبعها ال
أحشاء دامية من فوقها وشلا
وأضرموا النار خشبانا مقطعة
سعيرها بسفافيد الحشا اشتعلا
حتى إذا ذابت الأفخاذ واجتعلوا
باقي الحشا اقتسموا اللحم الذي فضلا
75
ثم اشتووه وهبوا للطعام ولم
يكن بهم قط شاك لم ينل جعلا
لما اكتفوا قام نسطور الوقور على ال
أقدام منتصبا بالقول مرتجلا: «أتريذ مولى الموالي فلنهب إلى
فعل يخولنا الرب الذي فعلا
لتهتفن دعاة الحرب جامعة
لدى السفائن أبطال الوغى عجلا
ولنجرين جميعا نحو فيلقهم
نهيج فتنة رب الحرب والجذلا»
في الحال لبى أغاممنون منتدبا
كل الدعاة لحشد الجند والعمد
بأجهر الصوت نادوهم وما لبثوا
أن أقبلوا مستتمي العد والعدد
والصيد من حول أتريذ مكتبة
صفوفها وأثينا فوق كل يد
مثيرة خطوات الجند نافخة
بين النفوس اقتحام الهول والشدد
76
ترنو بمائي عينيها مشددة
قلوبهم وبدت بالمجوب الخلد
77
أهدابه مئة كل لقا مئة
من العجول ولا تنحل للأبد
78
دارت عليه مدلاة وقد سبكت
من عسجد خالص بالنور متقد
حتى سعوا وأوار الحرب لاح لهم
أشهى من العود للأزواج والولد
تمضي فيالقهم في أدرع سطعت
فوق الرقيع لأعلى قبة الجلد
كالنار ملهبة غابا على جبل
والنور منبعث منها على أمد
وغادروا الخيم والفلك السراع وفي
ذاك الفضا انتشروا في حلة الزرد
كما تكاثف طير البر من بجع
ومن أوز ورهو بالغ الجيد
79
تعج في مرج أسيوس بكيسطر
من كل فج عصابات على الجدد
80
تساجلت بعرار خارق فدوت
تلك الرياض له في حشد محتشد
81
وللحوافر وقع والنعال لها
خفق يفتت جسم الجلمد الأجد
82
حتى بساحل إسكا مندر وقفوا
عداد أوراق روض بالربيع ندي
حلوا بضفته في عدة غمضت
يصلون نار انتقام داخل الكبد
83
مثل الذباب إذا حان الربيع وقد
حامت بعنة راعي العنز والنقد
84
تهافتت تبتغي الألبان هاجمة
على القصاع بلا حصر ولا عدد
وكل سيد قوم قام منفردا
بهم كراع بما يستاق منفرد
في الحال يجمع شتاهم إذا امتزجت
بين الألوف بأرض البر إن يرد
وبينهم بشعار الفخر متشحا
أتريذ قام بمجد باذخ العمد
وقد حكى زفس عينيه وهامته
فوسيذ صدرا وآريسا قوى جسد
في ذلك اليوم قصاف الرعود قضى
أن لا يضاهيه بين الجند من أحد
فكان كالفحل ما بين الصوار متى
يقم شموخا على قطعانه يسد
85
القسم الجغرافي
وهو يتضمن أيضا أسماء الملوك والرؤساء
يا قيان الأولمب لي قلن من كا
ن بذاك الوغى رءوسا وجندا؟
86
فلأنتن بالخفا عالمات
للإلاهات كل علم أعدا
إنما نحن شهرة الأمر نروي
عن خفايا الأصول نقصر حدا
ضقت ذرعا لو لي فؤاد نحاس
وبصوتي مهما تعمدت جهدا
لا ولو لي تصيح عشرة لسن
لم أطق للجموع ذكرا وسردا
بيد أن القيان من نسل رب ال
جوب يؤتينني إذا شئن رفدا
لست أحصي إذن سوى عدد الفل
ك وكل القواد بالحرب عدا
87
والبيتيون بأمر ليطس
إفروثوينور وفينيلاوس
88
وأركسيلاس وإكلورينس
وبعضهم من أهل وعر أولس
إغراي إسكولس سخينس هيريا
ومن هضاب زدن في إتيونيا
وثسبيا وسهل ميكاليسا
هرمة إيرثرية إيليسا
وبعضهم من قوم إيليونا
أو كاليا هيلا وفيتيونا
وميديونا زاهر المقام
كذاك ثسبا مجمع الحمام
وكوفس كورونيا أتريسس
وهاليرتا روضة المستأنس
وهيفثيبس المباني الشتى
ومن فلاطيا وإغليسنتا
وقدس أنخستا التي فيها زكت
غاب أفلون التي تباركت
وأرنيا ذات الكروم المخصبة
وميديا ونيسة المقربه
ومنتهى البلدان أنثيدونا
وقد أتوا في سفن خمسينا
كل بها عشرون شهما ومئه
من فتية مقدمة ملبئه
89
وأسفليذون وأرخومين
من مينس قيلهما يلمين
كذا أخوه عسقلاف جهزا
فلكا ثلاثين عليها برزا
لآرس فرعان بالخفاء
وأستيوخا الغادة العذراء
بقصر أكتر بن آزيا هما
قد ولدا بعد القران لهما
من بعد أن ساق اشتداد الحب
لخدرها القاصي إله الحرب
90
وقوم فوقيا بأربعينا
سفينة يسرى البيوتيينا
جميعها سوداء فيها يرؤس
أفستروفوس وإسخيذيس
كلاهما ابنا ذي العلى إيفيتس
فرع نبولس قد أتوا من دولس
ووعر فيثس ومن فانوفة
وقدس إكريسا وقيباريسة
وأنموريا وهيمبولس
ومن قفيس الساحل المقدس
وفئة من نهر ليلايا أتت
وغادرت ضفافه بما أزدهت
وقوم لقريا بأربعينا
سفينة جاءوا مسلحينا
بأمر آياس بن ويلا الفائق
بطعنه كل سرى الأغارق
وهو أخو الخفة في الشجعان
لأمته درع من الكتان
91
لكنه لدى أياس القرم
إبن تلامون صغير الجسم
وجنده من قينس أوفنطة
قليارس بيسا ومن إسكرفة
كذاك من ترفا ومن إثرونس
على ضفاف نهر بوغريس
وأوجيا ذات الرياض المؤنسه
مما وراء أوبيا المقدسه
وجند أوبيا بأربعينا
سفينة سوداء هم آتونا
وهم جميعا عصبة الأبانته
ذوي القوى المجربات الثابته
موطنهم هستية الكروم
والبلد المعمور في ديوم
كذاك إيرترية وخلكس
وفرضة بحرية قرنثس
ومن كرستة ومن ستيرا
دانوا إلى أمر أليفينورا
وهو ابن خلكودون عالي الجنب
أميرهم من نسل رب الحرب
وهم ذوو الغدائر المسترسله
تلوه بالبأس وفرط العجله
92
يبغون شق الصدر بالدروع
بأسل عالية الفروع
وجهزت سفائن خمسونا
مصبوغة سوداء من آثينا
ألموطن البهي لابن الأرض
مريد آثينا وصافي العرض
93
ربيبها المأثور إيرخثاوس
في الهيكل المعمور بالنفائس
حيث بحول الحول فتيانهم
حبا بها يذبح قربانهم
يرؤسها أمهر هاد يهدي
يوم النزال عجلات الجند
وينظم القوم ذوي التروس
وهو منستس بن فيتيوس
لم يحكه من دون نسطور أحد
بل فاقه نسطور سنا وانفرد
وجهزت مراكب إثنا عشر
فيها أياس بن تلامون أمر
وقد أتت في قوم سالامينا
ووليت فلك الأثينيينا
وجند أرغس ماسس إيونا
وأترزينا ثم هرميونا
كذا ترنثا البلدة المسوره
وآفدورة الكروم النضره
كذاك إيجينا وآسينا التي
على خليج قدما شيدت
جميعهم من فتية اليونان
قيولهم ذيومذ الطعان
وإستنيل بن قفانوس الجري
كذاك أريال بن ميكست السري
من نسبة يعزى لطاليونا
وشدة يحكي المخلدينا
سفنهم سود ثمانون وقد
ولوا ذيومذ الأمير المعتمد
ووافدو ميكينيا البهيه
وأرنيا قورنثس الغنيه
وقوم هيفيريسيا فلينا
وروض آريثيريا إجيونا
والجند من إكلونيا النفيسه
كذاك من ديار غونويسه
وقطر هيليقا وما قد جاوره
كذاك إغيالا البلاد العامره
وأرض سكيونا التي فيها حكم
أذرست أولا على تلك الأمم
جميعهم جاءوا على فلك ميه
بهمة على الجميع مربيه
وهم أجل القوم بأسا وعدد
بهم أغاممنون بالأمر انفرد
94
قد ماس بالشكة بافتخار
لما حوى من عظم اقتدار
بسفن ستين جند ميسه
أرض الحمام وكذا فاريسه
ووعر لقدمونيا العميقه
كذا سرى إسبرطة الأنيقه
بريسيا كذا هلوس البحر
وأوجيا ذات ابتسام الثغر
أوتيليا أمكليا ولاءس
دانت إلى أخيه مينيلاوس
في عزلة يهيئون العده
ونفسه بينهم مشتده
يستنهض الهمات والحميه
للذب عن هيلانة المسبيه
95
جيرينيا بطلها المشهور
والفارس السامي النهى نسطور
سفنه كبيرة تسعينا
كانت بها جاء مع الباقينا
بقوم فيلوس وإيفيجينيا
قيفارس فتيليا آرينيا
وأرض مجرى ألفس ثريونا
وآفيا العظمى هلس دريونا
حيث لنسل زفس القيان
ثاميرس قد لاح باطمئنان
يعود من منزل أفريتيس من
أوخاليا وغيظهن مكتمن
لأنه ادعى بإحسان النغم
أكثر منهن ومن كل الأمم
ضربنه بكيدهن بالعمى
ثم استلبن من حجاه النغما
أنسينه نفائس الأشعار
ومهنة الضرب على القيثار
96
وقوم أرقادية الآتونا
من لحف طود أجد كيلينا
97
بقرب قبر أفتيس من فازوا
حيث بدا يوم الوغى البراز
وأهل أرخومينس ذات النعم
كذا أنسفا حيث هبات النسم
وريفيا ستراتيا وفينيا
كذاك إستمفالس منتينيا
وتيجيا فراسيا يقودهم
أغافنور أنكوس عميدهم
وهم صناديد محنكونا
جاءوا على سفائن سبعينا
أرسلها أتريذ عونا لهم
إذ جهلوا صناعة الفلك هم
98
ومن بأرض وليت هرمينيا
أليسيا والوعر في أولينيا
بفراسيا ثم الأليذا الواسعه
كذاك مرسينوس تلك الشاسعه
كلهم من إيفيا قد ركبا
وقد أعدوا أربعين مركبا
لكل عشرة أمير يرؤس
إبن عمارنقا الفتى ذيورس
كذا ابن أقطياط ثلفيوس
وأمفماخ الفارس العبوس
إبن أريت المنتمي لأكتر
كذا فلكسين الحقيق المخبر
إبن أغستين بن أفغياسا
ذي الطول والكل تسامى باسا
وميجس الذي أتى مهزوما
قدما إلى ديار ذو لخيوما
غيظا على أبيه فيلاوس من
كان حبيب زفس في ماضي الزمن
بأربعين مركبا سوداء
بقوم من يلي أليذا جاء
من جزر قدسية الديار
قاصية في شاسع البحار
بإيخناذة غدت مشهوره
ودلخيوم البلدة المعموره
ومن يحاكي زفس بالرأي الأغر
أذيس في مراكب إثني عشر
من صفحتيها صبغت بالأحمر
أتى بها بما له من عسكر
من قوم إيتاكا وكيفالينيا
ذات السرى البهم وإكروكيليا
99
ومن أغيليفا ومن زاكنثس
وعبرها ونيرتس وسامس
وأربعون مركبا سودا أتت
بقوم إيتولية ممن حوت
من أولنس ووعر كاليدونا
والثغر خلكيس وإفلورونا
كذاك من مقاتلي فيلينا
زعيمهم ثواس أنذرمونا
إذ وينس وولده الأمجاد
وميليغر كلهم قد بادوا
100
وجند إقريطش ذات المئة
مدينة بإيذمين أتت
101
ملكيهم والطاعن الشديد
كذاك مريون الفتى العنيد
جاءوا من المدائن الكبار
غرطينة المتينة الحصار
إغنوسة ميليتس ولكتس
ليكستس ريتية وفستس
وقومهم من سائر البلاد
على ثمانين أتوا عداد
وتسع سفن بجنود رودس
من لندس إيليسس كاميرس
من كل ليث للوغى مندفق
قد قسموا إلى ثلاث فرق
وابن هرقل قيلها الكبير
أطلوفليم الطاعن المشهور
وأستيوخا أمه من إيفرس
سبى أبوه في ضفاف سليس
لما غزا مدائنا عظيمه
فيها بنو زفس العلى مقيمه
فظل في صرح أبيه ممتعا
حتى إذا بعزمه ترعرعا
خال أبيه لكمنيوس قتل
وكان ذاك الشيخ قارب الأجل
ففر من أبنائه وحفده
بالبحر في أتباعه وعدده
حتى إذا عانى مشقات الأسى
دفعه البحر لأرض رودسا
جعلها ثلاثة أقساما
بكل قسم فئة أقاما
وزفس رب الخلق قسام القسم
أولاهم الود وأجزل النعم
وفي ثلاث ببني سيما أتى
إبن شروفس وأغلايا الفتى
نيريس أجمل أهل الحملة
إلا ابن فيلا القرم عالي الهمة
لكنه طبعا ضعيف الباس
ولم يكن إلا بنزر الناس
102
وفي ثلاثين ملا فيلبس
وأنطفوس ولدي ثسالس
من كان من رهط الهرقليينا
من جزر كالدنية آتونا
ونيسرس إكرانثس كاسوس
كذاك أرض أورفيلس كوس
تتلوهم أرغوسة الفلاسجه
بسفن خمسين سارت هائجه
قد عرفوا باسم الهلانيينا
أو مر مدون أو أخائيينا
103
مع أهل آلوفا وإطراخينا
وإفثيا ثم الألوسيينا
كذا هلاس موطن الحسان
زعيمهم آخيل عالي الشان
قد غادر الحرب بما قد آلى
فاعتزلوا الكفاح والنزالا
وظل عند الفلك مشتد الأرق
على بريسا مضمرا كل الحنق
وكان من لرنيسة سباها
بشر حرب عممت بلاها
ودك ثيبة وفرعي إيبنس
جندل مينيسا وإيفسترفس
الباسلين من بني سيلفيس
فظل نائيا بذاك المجلس
لكنه بعيد هذي المده
ينهض للحرب بكل شده
بني فلاقا وفراسا الخضرا
قدس ذميتيرا الرياض الغرا
104
وجند إفتيلون ذات الزهر
وأنترون فوق جرف البحر
وأهل إيتونا الوفيرة النعم
بأربعين مركبا سودا نظم
إفروطسيلاس الفتى المحراب
لكنه قد ضمه التراب
وهو ابن إيفكلوس صاحب الغنم
إبن فلاخس بن آريس النقم
قد كان أول الصناديد الأولى
على العدى انقضوا فألفى الأجلا
وفي فلاقا بيته لم يكمل
وعرسه تبكيه ملء المقل
105
وجنده بفرط حزنهم لقد
ولوا فذرقسا أخاه المعتمد
لكنه أقل حسنا وكبر
وإن يكن ممن ببأسه اشتهر
وأهل بيبيا وإغلاميرا
وهوربيبياس ثم فيرا
سفنهم أتين إحدى عشره
أفميل أذميت ولي الإمره
وهو ابن ألكستا مجيدة النسا
أجملهن ببنات فليسا
106
بسبع فلك أهل أوليزونا
ثوما كيا ميليبيا مثيونا
زعيمها فيلكتتيس النابل
كل بخمسين أتت تناضل
جميعهم فاقوا بضرب النبل
لكن مولاهم شتيت الشمل
يلقى بلمنوس عنا النكال
ملقى بجرح حية عضال
وسوف يذكرونه طرا على
سفنهم وهو يقاسي العللا
شق عليهم أمره كثيرا
لكنهم راموا لهم أميرا
لذاك ولوا أمرهم ميدونا
إبن سفاح ويلس ورينا
وجند إترمكاو إيتوم الأصم
أوخاليا حيث أريت قد حكم
بإمرة ابني أسقليب الآسي
مخاون وفولذير الباس
أشهر من أتقن علم الطب
على ثلاثين جروا للحرب
وجيش أرمينا كذا أستيريا
وأرض مجرى السيل في هيفيريا
وشامخ الطيطان مبيض القمم
بأربعين مركبا سودا عزم
وأورفيل بينهم زعيم
إبن أبيمون الفتى العظيم
وجند أرغيسا وأولوسونا
أرثا وغرتونا وإيليونا
فوليفت زعيمها ذو البأس
ابن فريثوس سليل زفس
وهو ابن هيفوذاميا الحسناء
قد وضعته وأبوه نائي
يقتص من مردة القناطره
ويلتقيهم بالنبال الماطره
107
طردهم من أرض فيليونا
إلى شوامخ الأثيكيينا
لم ينفرد فوليفت بالأمر بل
لينتس ابن آرس معه استقل
إبن كرولن سليل كينا
بسفن سوداء أربعينا
وغونيس بجند كيفوس على
مراكب اثنين وعشرين تلا
بفتية الإينان والفريبه
مما يلي دودونة القريبه
ومن ربى جدول طيطارسيس
ذاك الذي ينصب في فينيس
بموجه الفضي لا يمتزج
إذ ذاك من لج الستكس يخرج «من الستكس مثقل الأيمان»
لذا طفا كالزيت للعيان
108
ثم فروثو بن تنثر يدونا
بمن أتى من غاب فيليونا
وجرف فيناوس من أهالي
مغنيسيا بأربعين تالي
فهذه أماثل البلاد
وجملة الملوك والقواد •••
قينة الآن أنشديني وقولي
من سما في تلك السرى والخيول
109
أجود الخيل عندهم تلك أحجا
ر لدى ابن ابن فيرس أفميل
قد تساوت فدا وسنا ولونا
وجرت كالطيور فوق الطلول
في ربى فيريا أفلون ربا
ها لنشر الهول الرهيب الوبيل
وأشد الأبطال بأسا أياس ب
ن تلامون بعد بأس أخيل
فابن فيلا قد فاقه بكثير
ومن الخيل حاز كل أصيل
ظل ما بين فلكه فاكرا في
كيد أتريذ لارتواء العليل
وذووه الكرات يرمون والمز
راق والنبل فوق جرف طويل
بعجال قد سترت في خيام
وخيول في الحندقوق الجزيل
ورءوس الأجناد تاهوا شتاتا
غير ملفين للوغى من سبيل
كف مولاهم وزحف سواه
أثقلاهم بكل حزن ثقيل
110
وكأن السهول طارت شرارا
بمسير الإغريق فوق السهول
111
رجت الأرض تحت وقع خطاهم
رج آريم يوم هول مهول
عندما زفس بالصواعق يرمي
غاضبا قبر تيفس المقتول
112
قوم طروادة شيوخ وفتيا
ن بشوراهم ببحث جليل
113
تحت أبواب قصر فريام قاموا
وإذا بغتة بأدهى رسول
من لدى زفس بالبلاغ أتتهم
نفس إيريس كالنسيم العجول
وابن فريام فولت حارسا كا
ن على قبر أيستيس النبيل
رامه الشعب راصدا ثم يرعى
قوم أرغوس خارج الأسطول
114
ليوافي مخبرا إن رأى أم
را خطيرا بعدوه المكفول
شابهته صوتا وشكلا وقالت
لأبيه بأصدق التمثيل: «أيها الشيخ والحروب شداد
كمصاف تلهو بقال وقيل
كم ولجت الهيجاء لكنما أع
داؤنا اليوم ما لهم من مثيل
هجموا كالرمال أو ورق الأش
جار هكطور هاك فاسمع مقولي
فسرايا الأحلاف عندكم مخ
تلفات بألسن وعقول
فليكتب ذويه كل نزيل (ولك الأمر فوق كل نزيل)»
فعلى الفور فض هكطور جمعا
ولذا الصوت لم يكن بجهول
هرع الجند للسلاح جميعا
وجميع الأبواب تحت القفول
فتحوها ساعين بين عجال
ورجال بين القنا والنصول
زعقات من دونهن صديد
بعجيج وهيعة وصهيل
وتراموا بذلك السهل حتى
قنة شرفت بمجد أثيل
قد دعاها الأرباب قبر مرين
والملا باتيا لجهل الأصول
ثم هكطور قام ينظمهم بي
ن أصيل بقومه ودخيل
وعلى رأسه تؤج سناء
خوذة وهو صاحب التبجيل
آل طروادة لديه أقاموا
لضرام الوغى بصبر معول
وهم أوفر القبائل عدا
واقتدارا أشد كل قبيل
أحلاف الطرواديين
وآنياس الدردنيين أمر
وهو ابن أنخيس أخو الذكر الأغر
وأمه الزهرة المجيده
والت أباه فوق طور إيده
وليه ابنا أنطنور بالعمل
أرخيلخ ثم أكاماس البطل
ومن بزيليا بلحف إيده
في منتهى طروادة الشديده
من أغنيا أرض بها أيسيفس
يجري أتوا يأمرهم فنذرس
ألنابل المرد ابن ليقاوونا
وقوسه من فضل آفلونا
وساكنو أذرستيا وفيتيا
وآفسا وشامخات تيريا
بولدي ميرفس من فرقوتس
أمفيس ثم الفتى أذرستس
وجاء أمفيس للطعان
مستلئما درعا من الكتان
أبوهما عن ملتقى الإغريق
نهاهما بعلمه الحقيق
لكن مقادير الردى سقنهما
لذاك أصممن له أذنيهما
وقوم فرقوتس وآبيدوسا
وأرض إفرقطيم سستوسا
وقدس آرسبا التي سليس
يجري بها أميرهم آسيس
وهو ابن هرطاقس فورا لبى
على جياد الخيل من آرسبا
ومن لريسا زمر الفلاسجه
طعنة الرماح جاءت عارجه
بأمر فرعي آرس ابني ليثس
طفطام هيفوت كذا فيلاوس
115
وأكماس والفتى فيروس
قد قدما من حيث هلسبنطس
116
يحيط في قوم الثراقيينا
وأوفموس بن إتريزينا
مريد زفس وابن كيس تالي
بقوم كيكونية الأبطال
ثم فرخمس بالفيونيينا
حدب القسي قوم آميدونا
حيث يرى أكسيس العريض
في سفح هاتيك الربى يفيض
وفيلمين الشهم ذو البأس الأشد
بالبفلغونة الأنيتيين جد
ذوي البغال الشمس ملء البر
وجيش سيساموس معهم يجري
وجند أغيالة والبهيه
ضفاف فرثينيس الزهيه
كذاك إكرامنا وإيريثنس
وإيفستروف الفتى مع أديس
بقوم هاليزونة القصية
من أرض آليبا مقر الفضة
وجاء بالميسة إخروميس
كذلك العراف أونوموس
وليس في عرافة الانباء له
نفع يرى إذ سوف يلقى أجله
ياكيذ يلقاه ووسط النهر
دماؤه بين الدماء تجري
117
وبالفريجة انبرى فرقيس
كذلك الكاهن أسكينوس
من أرض أسكينية محمولا
كلاهما للحرب صبرا عيلا
بولدي تاليمن أنطيفس
ومستل من قوم هور غيغس
أتت جماهير الميونيينا
في سفح إتمولوس ناشئينا
وقاريا ذات لسان البربر
جاءت أهاليها وفودا تنبري
من طود إفثيروس جم الغاب
وشامخ الميكال للسحاب
وضفتي ميندر ميليتس
بأمر أمفيماخس ونستس
من نسل نميون وذاك الأول
بحلل النضار جاء يرفل
تبرجا في ساحة الهيجاء
لحمقه كالغادة العذراء
لكن ذا العسجد لا يقيه
من بطش آخيل إذا يأتيه
يصرعه مجندلا بالنهر
مستلبا منه جزيل التبر
وغايه النجدة ليقيونا
قد فزعوا بأمر سرفيدونا
كذاك معصوم الحجى إغلوكس
من برق تروى بماء زنثس
118
هوامش
النشيد الثالث
براز منيلاوس وفاريس
مجمله
تقدم الجيشان وكاد يلتحم القتال بينهما، فإذا بفاريس برز من بين الطرواديين وطلب مبارزة أشد الإغريق بطشا، فبادر إليه منيلاوس يتحدم غيظا، فأخذت فاريس الرعدة لمرآه، وقفل راجعا فتلقاه أخوه هكطور بالتقريع والتأنيب، فاشتدت عزيمة فاريس وطلب إلى أخيه أن ينادي بإعادة البراز على شريطة أن يتفق الفريقان على أن لا يبرز إلى ساحة القتال إلا فاريس ونده منيلاوس، فمن ظفر منهما أحرز الغلبة لنفسه ولقومه واستأثر بهيلانة ، فتنتهي الحرب وتحقن الدماء ففعل هكطور ووافقه الإغريق، وكانت الربة إيريس ترقب حركات الجيش فأسرعت إلى هيلانة بزي حبيبة لها، وأطلعتها على دخيلة الأمر، فبادرت هيلانة إلى باب أسكية حيث لقيت الشيوخ، فدهشوا لجمالها واستطلعها الملك فريام طلع زعماء العدو، ثم أتته الرسل تستقدمه من قبل الجيشين، فذهب مستصحبا أنطينور فتعاهدوا وتواثقوا على أن لا يستأنف القتال بعد غلبة أي الخصمين، وانثنى فريام الشيخ راجعا خشية من رؤية مشهد قد تدور الدائرة فيه على ابنه، فالتقى حينئذ الخصمان وكاد فاريس يخر قتيلا لو لم تبادر الزهرة فتنقذه وتحمله سالما إلى صرحه حيث ألقته ونادت هيلانة تمتع كلا منهما بمرأى الآخر، فسخطت هيلانة عليه بادئ بدء، ولكنها لم تلبث أن هاجتها الزهرة بهزة الغرام، فأنستها وأنسته ما لقي من ذلة الإنكسار، أما منيلاوس فظل يتقصى أثر فاريس، ولما لم يظفر به نادى أغاممنون بثبوت الظفر لأخيه وطلب إنفاذ العهدة.
كل وقائع هذا النشيد جرت كالنشيد السابق في اليوم الثالث والعشرين ومجراها في ساحة القتال ثم داخل طروادة.
النشيد الثالث
نظم القواد سرى الجند
بحما الجيشين على الحد
زحف الطروادة عن بعد
بصديد عال مشتد
1
ودوي يقصف كالرعد
2
كالرهو إذا اشتد المطر
والقر مواطنه يذر
3
في الجو تعج له زمر
فوق الأقيانس تنتشر
للبغمة محكمة الحشد
4
فيعم الفتك بحملتها
أما الإغريق بجملتها
فعشت بثقيل سكينتها
آلت والنفس بحذتها
تتعاضد وارية الزند
والسهل طووه على الأثر
والقسطل من عج الزمر
قد أضحى حجاب البصر
عن أكثر من مرمى حجر
ككثيف ضباب مربد
كضباب نوطس قد نشرا
في قنة طواد فاستترا
ولرؤيته الراعي ذعرا
لكن اللص به نظرا
خيرا من ليل مسود
5
جد الجيشان وقد هرعا
حتى هما أن يجتمعا
فإذا فاريس قد طلعا
وجميل محياه سطعا
وعدا يستهدف للطرد
6
يختال بحسن جباذ
بالقوس وسيف جذاذ
وبفروة فهد بذاذ
بيديه قناتا فولاذ
7
يتقدم مستبق الوفد
ويسير بعجب المختال
يدعو لبراز قتال
8
عمد الإغريق الأبطال
فرآه منيلا في الحال
فبدا يتهلل بالرغد
كالليث يضوره السغب
والظبي لديه يضطرب
فعليه منقضا يثب
ولو القناصون اقتربوا
بضراء تقبل للصد
9
بالعدة من أعلى العجله
بالشدة بادر بالعجله
لا يبغي إلا أن يصله
يقتص لجرم قد فعله
ومضى يتوقد بالحقد
10
نظر الإسكندر وامتقعا
فنجا لمعسكره هلعا
كالغر له فورا طلعا
صل في الغاب قد اندفعا
فيعود بقلب منهد
11
فأتاه هكطور يجري
ويقول بطرف محمر: «فاريس يا وجه الشر
يا زير نساء مغتر
بجمال يلهو بالوجد
يا ليتك عمرك لم تولد
أو مت وبضعك لم يعقد
12
ولعندي خير أن يلحد
خوار العزم ولا ينكد
بشماتة أعداه اللد
فلفيف أخاي الشعر ترى
بك هزءا قهقه إذ نظرا
13
ظنوك لحسنك ليث شرى
فإذا بك خوار فطرا
بشعائر رعديد وغد
أجمعت الصحب من الوطن
وطويت البحر على السفن
وولجت بلادا لم تطن
وسبيت فتاة لم تشن
لأماثل أبطال أسد
لتذل أباك وأوطانك
والشعب وتكشف أهوانك
وتسر بجبن قد شانك
قوما عرفوك وبهتانك
وبلوك على غير العهد
أخشيت منيلا القهارا
وعرفت وأكثرت العارا
لمن المسبية والثارا
من يطلب منك وقد ثارا
جنان عزام صلد
أفلا أثبت له باسك
في الحرب فأخمد أنفاسك
ورأيت العود ونبراسك
وشعورا قد زانت راسك
وهبات الزهرة لا تجدي
14
لو لم يكن الطرواد أولي
جبن لكسوك بلا مهل
ثوبا من صخر مبتذل
لوبالك والخطب الجلل
15
ودواهي الأرزاء الأد»
16
فأجاب أخوه ذو المدد: «بالحق نطقت ولم تزد
لك قلب كالصخر الأجد
وبصدرك نفسك لم تمد
جهدا تزداد على جهد
كالأفؤس تفذ في الخشب
بذراعي قطاع الحطب
وشار الفلك المقتضب
لقواه تضيف قوى القضب
17
بمجامع مصقول الحد
لكن ما اللوم إذا الزهره
حبت الإحسان لمن ذخره
فالرب إذا أسدى غرره
لا خيرة في أمر أمره
فلنا الإذعان لما يسدي
وإذا ما رمت ترى شاني
قل فليتخل الجيشان
فأجول بهذا الميدان
ومنيلا دون الأقران
والجيش حراكا لا يبدي
فالفاتك يحرز هيلانه
وكنوزا تبرز برهانه
والكل يثقل أيمانه
بوفاق لا خلل شانه
والنصل يرد إلى الغمد
يبقى الطروادة في الحب
ببلادهم ذات الخصب
يمضي الإغريق بلا حرب
لغواني آخاي الشنب
وصوافن أرغوس الجرد»
18
فاض هكطور قلبه بجبور
وتدنى لساحة الميدان
وبمزراقه أمال ذويه
وقفوا بالوقار والإذعان
وعليه الإغريق أمطرت النب
ل ووبل الحجار مثل الدخان
صاح يستوقف الجموع أغامم
نون: «مهلا يا عصبة اليونان
فكأني بدا لهكطور أمر
يرتأيه لنا على الإعلان»
19
سكن الجأش قال هكطور: «سمعا
لمقالي يا أيها الجيشان
20
هاكم ما فاريس يلقي عليكم
وهو تدرون أس هذا الهوان
كلكم للحضيض ألقوا سلاحا
وإلى الحرب يبرز القرنان
هو والباسل العزوم منيلا
عن جميع الجنود يقتتلان
كل من فاز منهما يحرز ال
مال وهيلانة بغير طعان
ويآلي الجيشان بالأمن والوف
ق لطول الزمان يتحدان»
صمتوا جملة فقال منيلا
بصراخ عال وثبت جنان: «فلي الآن سمعكم ليس منكم
من يعاني بلوعة ما أعاني
بين فاريس ذا الخصام وبيني
قد دهاكم بفاجعات الزمان
هو باد وللوغى أنا صاد
إنما رمت كف حرب عوان
من يسقه القضاء للحتف منا
فليذقه وأنتم بأمان
21
ولطروادة بكبشين يؤتى
واحد أبيض وأسود ثاني
قربة تستباح للشمس والأر
ض ومنا كبش لرب المثاني
22
ويوافي المليك فريام بالنف
س لعقد الوفاق في ذا المكان
فبنوه لا يتقون زماما
والتراخي طبيعة الفتيان
ربما ينقضون ميثاق زفس
إنما الشيخ لا يخيب الأماني
فيراعي الماضي ومستقبل الأم
ر ليلقى السلامة الطرفان»
23
سر هذا الحديث كل فريق
رغبة في ادراء ذا الحدثان
فتدانوا بالمركبات وصفوا
عدد الحرب بالحضيض دواني
ولفريام أرسل الندب هكطو
ر بفيجين ثم يستقدمان
24
ويقودان ذبحهم وأغامم
نون يبغي تتمة القربان
فلتلثيبيوس أوعز فاجتا
ز إلى فلكهم بغير تواني
ولهيلانة تراءت إريس
تبتغيها من قاصيات الجنان
25
وتزينت بزي أجمل بنت
لحميها بحسنها الفتان «لا وذيقا وزوج هيليقوون
فرع أنطينور الرفيع الشأن»
وجدتها بالصرح تنسج ثوبا
بحواشي البرفير والأرجوان
ويرأس الخياط ترسم فيه
واقعات أبلت بها الفئتان
26 «قوم إغريقيا أولوا لا درع الحص
د وطرواد أصلب الفرسان»
27
فتفانوا بها عليها ورب ال
حزب أورى زنادها للتفاني
قالت: «الآن يأسنا الحور قومي
فترين العجاب مرأى العيان
عيلت الأمتان للحرب صبرا
كادتا بالقتال تشتبكان
وهما الآن لا نكال ولا حر
ب يأمن بالصمت جالستان
بقناة بالأرض أركزتاها
وبجن عليه تتكئان
بيد أن الإسكندر الآن حتما
وميلا إلى اللقا يبرزان
من يفز أنت زوجه ومناه
وعليك الرهان كل الرهان»
ثم أذكت بها حنينا ووجدا
لمنيلا والأهل والأوطان
باضطراب تبرقعت بنقاب
ناصع تصطلي لظى الأشجان
من خباها في الصرح سارت وأهمت
عبرات الشجى ودمع الحنان
وليتها أثرا ابنة الندب فتثا
وكليمينيا العيون الحسان
جئن أبواب إسكيا حيث وافى
رهط أدهى الشيوخ والسلطان
28
مع فريام فنثس وثميت
مع قليطوس لمفس هيكتان
وإليهم أوكالغون وأنطي
نور كنزا الحجى وذخرا البيان
فكرور الأيام أولتهم عج
زا ولكن حزما وعذب لسان
في أعالي مشارف البرج قاموا
يرتأون الآراء بالتبيان
مثلما في الغاب الصراصر تبدي
بخفاها صرا رقيق المغاني
أبصروها فقال بعض لبعض: «يا لطيب الثنا ولطف المعاني
ليس بدعا إن كان هذا سناها
وعليها تلاحمت أمتان
برزت ربة بوجه صبيح
غير أن البلاء بالويل داني
29
فلتعد للسفين من ثم نكفى
وبنينا دواهي الخذلان»
فدعاها فريام قال: «بقربي
إجلسي الآن يا ابنتي بائتماني
30
وانظري في السراة أول بعل
لك قدما وسائر الإخوان
لم تكوني بالحق جانية بل
قدر الأرباب العظام الجاني
ذاك فوق الإغريق قد هال سخطا
وبوبل الوبال قد أبلاني
أخبريني من ذا الذي يتراءى
لي أخا عزة وذا عنفوان
بينهم من أراه أضخم جسما
منه لكن أنى لذا الحسن ثاني
لاح من فرط هيبة ووقار
لي قيلا موطد الأركان»
أجابت وزادت بالحياء تجلة «وفي وجهها لاحت من البؤس أكدار»: «لديك حمي المحبوب رعبا وحرمة
لتوجلني ناري ويخجلني العار
ألا ما طلبت الموت لما بإثرتي
نأي الأهل والإخوان والبنت والجار
31
تركتم واعتضت بابنك عنهم
ودمعي ما طالت حياتي مدرار
32
ومهما تشأ فاسأل ألب مطيعة
فهذا أغاممنون أصيد قهار
مليك بأحوال السياسة عارف
عزوم بصماء المعامع جبار
33
لقد كنت بالإعزاز عرس شقيقه
ولكن ماضي الحكم كالحلم طيار»
فأحدق فيه الشيخ يعظم قدره
وقال : ألا كم قد أطاعتك أنفار
فطوباك أنعم إن حظك وافر
لأسمى أعالي المجد ساقتك أقدار
شخصت إلى ذات الكروم فريجبيا
وقدما بها أطرا ومغدون مغوار
34
يقودان أحصاب الفيالق نزلا
بجدة سنغاريس والجيش جرار
35
صحبتهم لما الأمازونة اعتدت
عليهم ببأس لم يروعه إكتار
36
ولكنهم لم يبلغوا قط عدة
جيوشا من الإغريق في إثرنا ثاروا»
ومشيرا لأوذس قال: «من ذا
دون أتريذ لاح بالجثمان
وهو أوفى ظهرا وأوسع صدرا
ويخوض الصفوف كالدهقان
37
عنه ألقى سلاحه وبهم جا
ل مطاع الإيعاز والسلطان
مثل كبش بهي صوف أثيث
يتسامى في أبيض القطعان
أجابت: «لهذا أوذس بدهائه
وإيتاكة الصيداء تلك له دار
38
خبير على كل الأمور مقلب
له سطعت من محكم الرأي أنوار
39 «نعم» قال أنطينور «حقا صدقتنا
لأوذس لم يبرح ببالي تذكار
أتى ومنيلا قومنا قبل مرسلا
يرى ما لنا فيما سبيناك أعذار
وفي منزلي بالرحب والأنس أنزلا
لحزمهما عندي مدى الدهر آثار
لكم قد أفاضا بيننا في فصاحة
إذا دار للأبحاث والنطق أدوار
منيلا إذا ما قام أوسع منكبا
وأوذس إن يجلس وقار وإبرار
وإن خطبا يجري منيلا مبينا
أدلته جريا وما ثم إضمار
يجول على لب الحديث مجانبا
شذوذا ومصداق الشواهد يختار
ويجتنب الإكثار إما كراهة
وإما لرعي السن يلجيه إجبار
40
ولكن أوذس وهو أرشد فيهما
إذا قام هبت من معاطفه النار
فمحجنه لا يلتوي أي لية
وتطرق منه بالتوقد أبصار
تخال فتى بالخطب غير محنك
وشط به عن منهج العقل تيار
ولكن إذا فاضت منافث نطقه
وصوت جهير بالنفائس زخار
41
تناثر من فيه النهى بردا همى «وسيف حجاه بالبلاغة بتار»
42
يقصر عنه كل ندب فلا ترى
إذن عجبا فالنطق للقد ستار»
43
قال فريام مومئا لأياس: «وأخو الحسن ذا القوي الجنان
بقوى منكبيه والهامة الش
ماء قد فاق سائر الأقران»
فقالت: «أياس حصنهم وتجاهه
إذومين في أجناد إكريت أمار
تراه كرب قام في زعمائها
تحيط به من نخبة الصيد أنصار
وكم حل فينا قبل ضيفا مكرما
وبعلي منيلا مكرم الضيف ميار
وها هم جميعا سل أنبئك عنهم
لديك بدا منهم عميدون كبار
ولكن شقيقي الودودين لا أرى
هما كستر الرواض إن شق مضمار
44
وفولكس صراع كل مصارع
أمن لقدمونا لم يسيرا بمن ساروا
أم احتجبا في الفلك خوف تعرض
لعار له في مس عرضي أوزار؟»
45
وما علمت والأرض في وطن خلا
تضمهما والعمر كالطيف مرار
في الساعة عاد الفيجان
حملا لثبوت الأيمان
حملين لذاك القربان
مع نحي مدام ملآن
مصنوع من خير الجلد
فتقدم إذيوس الساعي
بالكوب الصافي اللماع
وكئوس نضار سطاع
فدنا للشيخ الملتاع
ودعاه لإبرام العقد «يا فرع لووميذون إلى
دار الهيجاء فقم عجلا
للعهد دعتك سرى النبلا
لتضحي فاريس حملا
ومنيلا من دون الجند
فالفاتك يحرز هيلانه
وكنوزا تبرز برهانه
والكل يثقل أيمانه
بوفاق لا خلل شانه
والنصل يرد إلى الغمد
يبقى الطروادة في الحب
ببلادهم ذات الخصب
يمضي الإغريق بلا حرب
لغواني آخاي الشنب
وصوافن أرغوس الجرد»
تفطر قلب فريام ولكن
أشار بشد مركبة المسير
علاها والأزمة في يديه
وجد مسارعا مع أنطنور
فجازا باب إسكية وجدا
بذاك السهل في جهد المغير
ولما بلغا لمعسكريهم
بها نزلا على الروض النضير
وراحا بين صفيهم وكل
يروم هناك إجلال الأمير
وأتريذ وأوذس في وقار
وقد نهضا لدى الملك الوقور
46
فأحضرت الفيوج الذبح عهدا
على الميثاق في تلك الثغور
وصبوا فوق أيدي الصيد ماء
وقد عمدوا إلى مزج الخمور
نضى أتريذ مشمله المدلى
بعروة غمد قرضاب كبير
47
وجز الصوف عن رأس الضحايا
فوزع بين أقيال حضور
ومد يديه للعلياء يدعو
على لهف دعاء المستجير: «ألا أأبا علا في شم إيذا
ولي المجد والشرف الخطير
ويا شمسا عليمة كل فعل
ويا ذي الأرض يا كل النهور
ويا من كل حناث لديهم
يضرم بالممات لظى السعير
علينا فاشهدن وذاك عهد
عقدناه ولم يك عهد زور
إذا فاريس فاز على منيلا
وأرداه بمنصله الشهير
له هيلانة تبقى وما في
خزائنها من المال الكثير
ونحن وفلكنا هذي سراعا
نعود بها على لجج البحور
وإن فاريس جندله منيلا
إلينا يرجعان بلا فتور
ونعطي جزية تبقى فخارا
بذكراها لنا أبد الدهور
وإن نكلوا فلن أجتاز حتى
أفوز بمنتهى أربي العسير»
ووارى النصل في عنق الضحايا
فراحت تقشعر بلا شعور
وتخبط خافقات في دماها
وقاموا بالقداح إلى العصير
أراقوها مطفحة وكل
من القومين يهتف بالزفير:
48 «أيا زفس العظيم وكل رب
أبيدوا كل حناث غرور
يراق دماغه وبنيه طرا
إراقتنا لذا الراح الغزير
ويملك عرسه بعل غريب»
ولكن زفس لم يك بالنصير
وصاح يقول فريام: «فها قد
عزمت على التحجب ضمن سوري
49
لئن أشهد براز حليف روحي
تفطر بي خشى قلبي الكسير
فزفس وكل آلهة البرايا
هم أدرى بولاج القبور»
ومن ثم امتطى والذبح ألقى
بمركبه وعاد إلى القصور
50
وأنطينور يصحبه وسارا
إلى إليون بالجد الوفير
وهكطور ابنه وأذيس قاما
وقاسا فسحة البون القصير
ووسط تريكة قدحين رجا
ليعلم من له حق البدور
51
فمد يد الضراعة كل فرد
من الأجناد بالصوت الجهير: «ألا يا زفس يا مولى الموالي
ولي المجد والشرف الخطير
أبانا من علا في شم إيذا
أبد أيا بلانا بالثبور
من الخصمين أيا ثار منه
بنا شرر النوائب والشرور
وأحكم بيننا ربط التصافي
وزج به إلى شر المصير»
52
فدعوا وهكطور بهم مستقسما
رج السهام محولا نظراته
53
فبدا لديهم سهم فارس أولا
ليكون أول طاعن بقناته
جلسوا وعدتهم بجانب جيشهم
والخيل موقفة على جنباته
فأعد شكته ابن فريام وفي
رجليه أوثق خفه بصلاته
بعرى اللجين أناطه واعتاض در
ع أخيه ليقاوون عن نتراته
54
وتقلد السيف الصقيل مرصعا
بقتيره الفضي في صفحاته
55
وأضاف جنته ومغفره الذي
سبحت نواصيه على حلقاته
56
وأجال في يمناه أعظم عاسل
بقوى المعاصم دار في راحاته
57
وافى منيلا بالسلاح مكفرا
واستلأما كل لدى لحماته
58
فتقدما ولحاظ كل مبارز
شفت بواري الغيظ عن غصاته
وقفوا لدى ما خططوا وكلاهما
بقناته يضوي قلوب قلاته
59
فرمى ابن فريام المثقف فالتوى
بمجن أتريذ على نبواته
في الحال بادره منيلا مرسلا
رشقاته مشفوعة بصلاته: «يا زفس خذ بيدي لأنقم من فتى
عرضي يدنسه بتشويهاته
واسحقه سحقا في يدي يك عبرة
لنزيل سوء عق فضل قراته
60
ورمى بعاسله فأنفذ خارقا
ظهر المجن وبطن فضفاضاته
61
حتى تخلل نافذا بدثاره
فلوى المناكب فائزا بنجاته
فاستل أتريذ صقيل حسامه
فوق التريكة موقنا بمماته
فتكسر الصمصام وسط يمينه
وأطار فوق جبينه شذراته
62
حنقا أشار إلى السماء مخاطبا
زفسا يؤنبه على عثراته:
63 «من كل آل الخلد مثلك لم يكن
يا زفس معتسف بمقدوراته
فدكدت أفتك ظافرا بأخي الخنا
فإذا بعضبي طار في كسراته
وإذا برمحي قد طعنت به ولم
أدركه في رمحي وفي طعناته»
وانقض يجذبه بخوذته وفي
عنف تقهقر مسرعا خطواته
واجتره والسير يمسك ذقنه
فاستمسكت أنفاسه بلهاته
قد كاد يبطش فيه لو لم تبتدر
قبريس تقطع بالخفا قداته
64
فخلت لديه خوذة مقطوعة
فرمى بها فتدحرجت لسراته
فخلا بها أصحابه وهو انثنى
بشحيذ نيزكه إلى وثباته
لكن عفروذيت وهي قديرة
من فورها وصلت حبال حياته
65
حجبته في ركم الضباب محلة
إياه بالأطياب في حجراته
66
ومضت إلى هيلانة فإذا بها
بالبرج جالسة على شرفاته
فدنت إليها والبنات شواخص
في زي خادمة على علاته
حاكت عجوزا قربت من قومها
حاكت بنسج الصوف محبوكاته
67
وبثوبها العطري جرتها وقد
صاحت بها: «فاريس في خلواته
يدعوك وهو ترينه في غرفة
ضمتكما ببديع حسن صفاته
حتى تخالي أنه ما كان في
حرب بها يلقى أشد عداته
لكنه في مرقص متأهب
للرقص أو قد عاد من ساحاته»
68
عرفت هيلانة جازعة
ربة الحب بحر الحرب
دقة الجيد ولحظ لاهب
ومشوق الصدر لم تحتجب
فلها قالت: «وما أغراك أن
تخدعيني بعد حسبي نوبي
69
أبا فريجية بعد فتى
تطرحيني عنده بالوصب
أم ربى إميونة فيها بدا
لك محبوب رفيع الحسب
أخداعا يا ظلوما جئتني
ومنيلا نال فخر الغلب
70
يبتغي ردي لأوطاني فما
آه أشقاني وأدهى نصبي
71
أنا لا أبغي فريسا أبدا
أنت أشربت هواه فاذهبي
غادري الأولمب والقوم العلى
واتبعيه واحرسيه واصحبي
واحملي منه الأسى يرضك عر
سا له أو أمة لم تطب
لك لا لست إذن تابعة
غيد إليون إذن يشمتن بي
لن أحلن فراشا حله
وأنال الخزي طول الحقب
حسبي العار وما حملته
من لظى النار وحر اللهب»
حنقت قبريس مما قابلت
قالت: «اخشي أن تهيجي غضبي
واحذري مني الجفا راغبة
عن وداد لقلى منقلب
ليس هد الوفق أمرا عسرا
ولك البلوى وضيق المذهب»
72
وجلت هيلانة واضطربت
وتردت ببهي النقب
إثرها صامتة سارت وقد
حجبتها بكثيف السحب
جاءتا فاريس في منزله
والجواري بانتظار الطلب
سرن عنها وأسيرت نحوه
وهو في الغرفة ماضي اللغب
أجلستها ربة العشق على
مجلس دان له مقترب
حولت عن وجهه أنظارها
ثم قالت باللسان الذرب:
73 «أين ما تزعم من بطش به
فقت إقدام منيلا الأشهب
وادعيت السبق في طعن وفي
شدة البأس وضرب القضب
آه لو جندلت في سيف فتى
كأن بعلا لي وكل الأرب
آه لو ترجع... لا فاحرص وإن
تتعرض للقاه تخب
74
خشيتي يوقعك الطيش به
فتوافي طعنة المعتطب»
قال: «يكفي منية النفس فقد
هضت نفسي بعنيف العتب
فأثينا شددت ساعده
وستؤتى النصر يوما عضبي
لي بآل الخلد أقوى عزوة
إنما الآن أوان الطرب
لم أكن قط كما الآن أنا
بفؤاد خافق مضطرب
75
لا ولا يوم رمانا الحب من
لقدمونا فوق بحر لجب
وخلونا في ربى إكرانيا
عن عذول مزعج مرتقب
لم تشقني قط هبات الهوى
لهبا أشغف من ذا اللهب»
هاج نار الوجد فيها راقيا
لسرير لهما منتصب
تبعته والكرى شاقهما
بأمان فوق فرش قشب
76
ظل أتريذ كوحش كاسر
يتحرى بشديد العجب
77
لم يكن بين بني الطرواد وال
جيش من شاهد إثر العقب
لو رأوه أنباؤا إذ مقتو
ه كمقت الموت كل الرتب
78
فأغاممنون نادى صارخا
بهم يدعو لسمع الخطب: «آل طرواد ومن والاهم
دردنيين وما منكم غبي
لمنيلا النصر أبصرتم فهي
لانة ردوا بذخر الذهب
واحبونا جزية تنمي لمن
بعدنا الفوز ونجح الطلب»
ضجت الإغريق مستحسنة
بحماها ضجة المطلب
هوامش
النشيد الرابع
نقض العهدة والوقعة الأولى
مجمله
جلس الآلهة للنظر في أمر الحرب، فاستحسن زفس إلقاء الصلح، فعارضته هيرا تأبى إلا التنكيل بالطرواديين وتدمير عاصمتهم، فوافقها زفس على شرط أن يهدم فيها بعد ما شاء من المدائن المستظلة بظلها، وأنفذ أثينا إلى جيش الطرواد تستفزهم إلى العبث بالعهدة، فتزيت بزي أحد أبناء إنطنيور ودفعت فنداروس على إطلاق سهم، فاندفع وأطلق سهما على منيلاوس فجرح جرحا ظنه أغاممنون قاضيا، ولكنه ما لبث أن شفي بعناية النطاسي مخاوون، وما وقف جيش الطرواد عند تلك الخيانة بل انقضوا هاجمين على الإغريق، فتربص الإغريق وهاجت أغاممنون الحمية، فخاض الصفوف يستحث همم الزعماء ويؤنب المتثبطين منهم، والتحم القتال فاستظهر جيش الإغريق وكاد يقضي على الطرواديين لو لم يبادر أفلون ويستنهض الهمم، وقاتل الفريقان قتال المستبسل اليئس حتى «كسا أديم الأرض تيار الدماء».
مجرى وقائع هذا النشيد في السهل أمام طروادة، وكلها جرت في اليوم الثالث والعشرين، وهو اليوم الذي جرت فيه وقائع النشيدين السابقين، والنشيدين التاليين أيضا حتى أواخر النشيد السابع.
النشيد الرابع
قد أقام الأرباب من حول زفس
مجلسا في ذاك البلاط المذهب
بكئوس النضار دارت عليهم
هيبيا والسلاف بالدور يسكب
1
فبإليون أحدقوا من علاهم
وبمر الكلام زفس تعتب
قال مذ رام أن يحدم هيرا: «ذا منيلا بربتين تحجب
تلك هيرا الأرغية احتضنته
وأثينا لفوزه تتعصب
2
وبمرآه سرتا من بعيد
إنما عفرذيت فاريس تصحب
تدرأ الموت عنه بالبشر والآ
ن وقته الردى وقد كاد ينشب
إنما النصر لابن أترا يقينا
فهلموا نقضي بما يترتب:
أنسيل الدماء والحرب نوري
أم نرى حقنها على الصلح أقرب
فإذا السلم رمتم ظل فريا
م بإليون في ذويه مهيب
وبهيلانة يسير منيلا
فيسود السلام والدم يحجب»
تسعرتا وقد دنتا مقاما
فهمهمتا وقد بغتا انتقاما
فآثينا اشمأزت من أبيها
وكاد يبزها الحنق اهتضاما
3
على حسراتها كظمت وهيرا
أبت صبرا وأغلظت الكلاما
4
تقول ولم تطق إخماد نار
تؤجج جوفها الغالي اضطراما: «بغيت علي يا ابن قرون هلا
بغيت تبيد آمالي انصراما
وتحبط بغيتي وتخيب جهدي
وخيلي أوهنت جسدا وهاما
على فريام قد سقت السرايا
تجرع آله الموت الزؤاما
فنجهم وما الأرباب طرا
براضية (وإن صمتوا احتراما)
فقال وقد غلا حنقا: «وماذا
يسومك يا ظلومهم احتداما
عليك فما جنوا حتى ترومي
دماءهم اعتسافا واعتزاما
ألا لو حصنهم أعليت يوما
وهضت اللحم تفرين العظاما
ولم تبقي لملتهم رسوما
لبلغ حقدك الحد التماما
إليك زمامهم ما شئت فاقضي
لئلا يورث المنع اختصاما
ولكن عي مقالي واسمعيه:
إذا ما رمت أنفذت المراما
وإن ما شئت إيقاعا بقوم
وددت فلا تسوميني احتكاما
5
وهبتك ما سألت بطيب نفس
وإن أك قد تكلفت الحراما
فتحت الشمس والزهر الدراري
مدائن جمة حوت الأناما
وليس لدي من إليون أوفى
وفريام وأهليه ذماما
6
ففوق مذابحي أبدا أقاموا
ذبائحهم مشربة مداما
وظل دخانها للجو يعلو
وبالعدل استباحوها اقتساما»
فقالت: «إن لي مدنا ثلاثا
علقت بهن قلبا مستهاما
وهن علمت إسبرطا وأرغس
وميكينا التي زهت انتظاما
فإن ما شئت دمرهن إني
أبيت لهن عونا والتزاما
7
وليس بنافعي صدي لعلمي
بأنك قد تملكت الزماما
ولكني حكيتك بانتسابي
لذاك فضلت أربابا كراما
وقد عظمت بين بني قرون
وإن كانوا جميعهم عظاما
8
فإني بنت ذاك وعرس زفس
مليك الكون فارع لي الذماما
9
فعما أبتغي حينا تجاوز
وعما تبتغي أرضى دواما
يروم بنو الخلود بنا اقتداء
فمر تنقض آثينا اقتحاما
تعيث بعهدة الجيشين لكن
لينقض آل طرواد السلاما»
10
لان زفس لقولها ثم قالا
لأثينا: «هيي أجيبي السؤالا
ليقم قائم الشقاق ويحنث
جيش طروادة بما قد آلى»
11
فهي والحرب قصدها ومناها
لبت الأمر تبتغيه امتثالا
خرقت مهجة الرقيع إليهم
كشهاب في الجو أج اشتعالا
لسفين أو جم جيش يريه
زفس شؤما مقربا أو فالا
بشرار منثر بأوار
يخمد الروع أو يهيج الوبالا
وجلوا جازعين مذ أبصروها
وبهم هاجس الظنون تعالى: «أبسيل الدماء زفس مشير
أم لربط الإخاء بالوفق مالا»
وهي في هيئة ابن أنطينر لو
ذوق حلت تحكيه شكلا وحالا
وتوارت في جيش طروادة في
طلب الشهم فندروس انتحالا
فرأته بقومه من ربى إي
سيف من قلدوا التروس الثقالا
12
فتدانت إليه قالت: «ألا اسمع
يا ابن ليقاون العظيم المقالا
حقق الظن وابتدر لمنيلا
وارمه تكسبن فخرا ومالا
ومقاما عند الطراود يعلو
وامتنانا لن يعرفن الزوالا
سيما عند ذلك الملك فاري
س إذا ما قتلت أتريذ حالا
ثم ناهيك بالذي هو يحبو
ك هبات تثقل الأحمالا
13
فتوكل أراك وادع أفلو
ليقيامن بالعزم هال النبالا
14
والضحايا الأبكار فانذر ذبيحا
تنتقيها نقية أحمالا
15
ذاك في زيليا بقصرك لما
بانتصار تغدو لها ترحالا»
خدعته فاغتر واجتر جهلا
هائل القوس من جفير تدلى
16
كان بين الجبال يقنص قبلا
فلديه تيس من الصخر ولى
فرماه بصدره مفتلا
طول قرنيه بالغا كان قدرا
من قياس الأشبار ستة عشرا
منهما عند صانع ذاع ذكرا
أكمل القوس آله ليس تبرا
طرفيها بخالص التبر حلي
17
فأتاها موقعا باعتناء
وعلى الأرض مدها باتكاء
وذووه بمنعة واتقاء
خشية أن تبلي سرى الأعداء
ومنيلا ما نال جرحا وقتلا
ثم من واسع الكنانة أخرج
سهم بؤس مقذذا يترجرج
18
فوق متن الأوتار بالفوق أولج
وانثنى ينذر الذبيح المدبج
19
مذ يوافي بلاده محتلا
ثم فرض المريش بالعنف أمسك
وإلى صدره السرية أضنك
20
قوست قوسه ولم تتفكك
فرمى رننت وفي السهم نيزك
21
في فسيح الفضاء قد غل غلا
يا منيلا طوباك أهل الخلود
دفعوا عنك كل بؤس شديد
فأثينا وقتك سهم الحديد
مثلما الأم وابنها في هجود
عنه جمع الذباب تدفع مهلا
هي بالنفس وجهته فمالا
لعرى عسجد الحمائل حالا
22
حيث ثقل النضار كالدرع حالا
إنما السهم قطع الأوصالا
فلها والجا وفي الدرع حلا
وجرى نافذا لجوف حزام
قد وقاه من غابر الأيام
شقه خارقا إلى الآدام
ولج الجلد وهو بالجرح هامي
بدم أسود تعكر شكلا
ضرج الفخذ ثمت الساق خضب
وبهي الرجلين لونا محبب
مثلما برفير على العاج يسكب
غيد قريا وإيميونة ترغب
فيه صبغا للخيل حليا يدلى
23
فيه قد زن منزلا بادخار
لم ينله إلا عزيز المنار
فهو فخر الفرسان آل الفخار
ومنال الملوك يوم الطواري
ليس يرجوه بينهم من ذلا
فأغاممنون دنا وتحقق
ذلك الجرح كاد بالنفس يشرق
ومنيلا ببادئ الأمر أشفق
فرأى النصل مائلا كاد يزلق
فتروى مستبشرا مهتلا
ضج قوم الإغريق يطلب حقا
وأخوه استشاط غيظا ورقا
يده ممسكا أفاض وألقى: «يا شقيق الفؤاد قل ألتلقى
حتفك اليوم رمت ذا الوفق شغلا
24
ورضيت النزال فيه تنادي
وحدك الآن في بني طرواد
قد رموا عن تجبر وعناد
وبنكث داسوا سداد العهاد
إنما النكث سوف يمطر خذلا
وفقنا والأيمان والخمر حاشا
ودماء الكباش أن تتلاشى
25
فإذا زفس غض طرفا وما شا
يوقع اليوم سوف ينهض جاشا
ويسيل الدماء منهم وبلا
26
سوف يلقون عنه شر العقاب
ويلقون منه قطع الرقاب
وبنوهم وأهلهم بانتحاب
تجرع الموت في شديد العذاب
فعلى ذا عقلي وقلبي دلا
وكأني بزفس غيظ وأنا
ثم هاج البلا ورج المجنا
27
هو للناس حرمة العهد سنا
خرقوها فسوف ينقم عنا
وبإليون يهبط الويل ثقلا
وإذا ما لقيت موتا عجولا
ولأرغوس أغتدي مخذولا
تتلظى نفسي شجى يا منيلا
إذ جنود الإغريق والصبر عيلا
وطنا عز يذكرون وأهلا
لا يجلون منك عظما دفينا
ظل ملقى لدى حما إليونا
وبهيلانة العدى خالونا
فلنا الخيبة العظيمة هونا
ولهم ناطق الشماتة عذلا
ويقولون عند قبرك لؤما
آغاممنون هكذا انحط عزما
ظل في النحر كيده الدهر حتما
قاد جيشا عرمرما مدلهما
فانثنى مفعما وبالا وأجلى
عاد عن حربنا بفلك خوالي
لم ينل غير خيبة الآمال
وأخوه في الترب والعظم بالي
لجة الأرض إن يكن ذا مآلي
فابلعيني واخفي ادكاري أصلا»
فمنيلا بعزة النفس سكن
روعه قال: «فاحذر الجيش يحزن
في ذا السهم قط لم يتمكن
قد وقتني العرى ودرعي المبطن
وحزام الحديد أوقف نصلا»
28
قال: «عل المقال بالفأل صحا
ولنرم آسيا ليسبر جرحا
وليخفف ببلسم البرء برحا
فعسانا نلقى لمسعاه نجحا»
ثم نادى بتلثبيوس: رحلا
29
لمخاوون أسقليب النطاسي
سرو وأحضره مسرعا خير آس
30
لمنيلا المقدم النبراس
فيرى جرح نابل ذا باس
31
نال فخرا ونحن قهرا ونكلا»
سمع الفيج منه أمرا ولبى
بين قوم الإغريق ينهب نهبا
يتقصى مستطلعا مشرئبا
فرآه بالعزم يشتد قلبا
بين أصحابه مجلا معلى
فأتاه مقطع الأنفاس
قال: ذا الطول لب يا خير آس
لمنيلا المقدم النبراس
فترى جرح نابل ذا باس
نال فخرا ونحن قهرا ونكلا»
رق قلب الطبيب حزنا ولجا
يصحب الفيج بالفيالق فجا
ألفياه كالرب والجمع عجا
حوله في أماثل الصيد ضجا
فلهم فرع أسقليب تجلى
32
سحب السهم من رباط الحمائل
كسر النصل وهو بالرأس مائل
حلها ثم حل درع الغلائل
وحزاما دون المقاتل حائل
بذل الجهد فيه بالصنع بذلا
سبر الجرح والدم امتص جرا
وعليه شافي البلاسم ذرا
ذاك سر خيرون قبل أسرا
لأبيه فكان من ثم ذخرا
عم كل الأنام خيرا وفضلا
33
قوم الأغارق قد لهوا بجريحهم
وعليهم زحفت قوى الأعداء
34
فتقنعوا بسلاحهم وتقدموا
مستلئمين لساحة الهيجاء
أفلا رأيت مليكهم قد هب لا
متقاعدا بتقاعس الجبناء
35
بل سار يبرح متن مركبة زهت
بنحاسها لمواقع الإجراء
ألقى أزمة ضابحات جيادها
لأريمذون نخبة الأمناء
36
وإليه أوعز أن يظل بقربه
ليله حين مشقة وعياء
ومضى على قدميه ينفذ أمره
بمواقف النبلاء والأمراء
37
بالحزم يثبت عزم كل كتيبة
نهضت ببأس ثابت وبلاء: «يا أيها الإغريق لا تترددوا
برج النفاق عماده تتهدم
38
أعداؤنا نقضوا العهاد خيانة
وعن الخيانة إن زفس لينقم
ولسوف تفترس الطيور لحومهم
وجميع أنقاض البلاد تقصم
ولسوف تحرز فلكنا أزواجهم
وبنيهم وديارهم تتردم»
39
ويميل بالتعنيف محتدما على
من ذل تحت الأزمة اللأواء:
40 «يا أيها الجند الأولي زعموا البلا
وتذللوا بقوى غدت تتفصم
أفلا خجلتم مذ وجلتم رعدة
كالإيل الواهي يراع ويرغم
وإذا تملكه العياء بجريه
بالبر يلبث جازعا يتهضم
حتى م يقعدكم تباطؤ كم فهل
رمتم لفلككم العدى تتقدم
وعليكم تنقض في جرف طغا
ليمد من زفس إليكم معصم»
خاض الصفوف يجوب في دفاعها
لحما بني إقريطش النجباء
ألقاهم بدروعهم وإذومن
يشتد كالخرنوص في البيداء
41
ساق الطليعة يستجيش مخلفا
مريون عند الساقة الجأواء
42
فاهتز من طرب لشدة بأسه
وعليه قام يفيض خير ثناء: «حييت من بطل أجل معظما
يوم الوحي وبكل ما يتجشم
وإذا الولائم أولمت وغدت على ال
زعماء أقداح التفاخر تقسم
فلسهمهم حد وسهمك طافح
وكذاك سهمي لا يحد ويحسم
تتناول الأقداح مهما شئتها
حتى تطيب وأنت عنها تجحم
43
زحفا تعودت الفخار سجية
أبدا وأنت الفائز المتحكم»
فأجاب: «يا أتريذ سوف أبر بال
عهد القديم وسابق الإيماء
44
وأنا ظهيرك فادعون إلى الوغى
لتشب حالا سائر النصراء
آلى العداة فأخلفوا فليجرعوا
مضضا جزاء الخلف بالإيلاء»
جذلا مضى أتريذ مندفعا على
هب النسيم لسائر الزعماء
ألفى الاياسين اللذين تدججا
وهنا المشاة كغيمة سوداء
دلفوا بجحفل فتية فتاكة
بمناصل وعوامل صماء
كغمامة قارية سبحت على
وجه البحار بشدة الأنواء
45
فتلوح للراعي فيخفق سائقا
سرب الشياه لأكهف الظلماء
فارتاح أتريذ وقال مخاطبا
لهما بحر الهول والأرزاء: «إيه زعيمي رهط دراع الحدي
د فإن مثلكما يكر ويقدم
حسبي بنفسكما تثير إلى الوغى
همم الجنود بهمة تتجهم
لو آه زفس وآله منوا وما
احكمتما كل الكتائب أحكموا
لتهدمت إليون تحت ذراعنا
عجلا وشم عمادها تتحطم»
46
ثم انثنى لسواهم فبدا له
بذويه نسطر أفصح الخطباء
قد قام ينظم جيشه مستنهضا
وهنا بياس نخبة الصلحاء
والملك هيمون خروميس الس
تر فيلغون وسائر النجداء
جعل الطليعة خيله وعجاله
ومشاته في ساقة شهباء
والقلب أودع كل نكس واهن
عاف اللقاء ليلتجي للقاء
47
وبدا يحثهم لكل كريهة
والصبر في السراء والضراء: «لا تقحموا بعجالكم وتبددوا»
مستهدفين لغارة شعواء
48
وحذار تغترون في بأس لكم
ومهارة في الحث والإعداء
بكتائب الأعداء تنفردون أو
أن تنكصوا بجبانة لوراء
فبذا يهون على العدو نكالكم
وبذاك أعظم شدة وعناء
وبأيكم كبت الجياد وقد لجا
لسواه منكم مقبلا لنجاء
بالرمح فليلق العداة فإنما
هذا يقينا أصوب الآراء
49
أسلافنا هدموا كذا بدهائهم
أسوار كل مدينة شماء»
طرب المليك لحزم نسطور الذي
خبرت مخابره بطول بقاء
فإليه مال مخاطبا برعاية: «يا شيخ صدرك بالبسالة مفعم
لا كان دهر منك جسمك موهن
وقوام عزمك مخمص ومهضم
يا ليت ساقك مثل قلبك شدة
ولئن هرمت وذل قرم يهرم
منحتك أرباب العلى بأس الصبا
وأولي الصبا طول البقا منحتهم»
50
فأجاب نسطر: «قد هرمت وحبذا
لو كنت بعد بشدة الأعضاء
زمنا أروثليون فيه مجندلا
ألقيت مختضبا ببحر دماء
51
لكنما لم تحب آلهة الورى
كل الأنام بجملة الآلاء
فلئن مرحت شبيبتي بتشددي
فلقد هرمت وخفضت نعمائي
أدع الطعان وشأنه لأولي القوى
وأولو القوى واعون صوت ندائي»
وأتى الاثينيين قوم منستس
ذي السبق بالإعداء والإجراء
ويليهم بهم الكفاليين من
دانوا لأوذس أحكم الحكماء
فإذا هما لم يسمعا لجب الوحي
والجاش زعزع سائر الأنحاء
وتربصا حتى على الأعدا يكر
سواهما بسرية خرساء
فسعى يؤنب عاتبا بملامة
واستنكر المسعى بالاستبطاء:
52 «لم يا ابن فيتيس ونيت وأنت يا
قلب الدهاء أراك لا تتقدم
53
فلم التخلف رعدة لسواكما
والقوم خرصان العوامل قوموا
قد كنت آمل في الصدور أراكما
بسراكما وأراكم أعجزتم
54
أفلم تكونا والولائم اولمت
للصيد أول من يعز ويكرم
فهناك ترتميان باللحم الشو
ي وضافيات الكأس حين تقدم
وهنا يسركما بأن كتائبا
عشرا أمامكما تكر وتهجم
فعلام عن قرع القنا أقعدتما
ومواقف الأعداء ضرجها الدم»
فأجاب أوذس مغضبا: «أفلا ترى
رجما علي حكمت بالإبطاء
فلسوف تنظر إن وددت قتالنا
بطلائع العظماء والنبلاء
وترى أبا تلماخ في صدر العدى
وهنا أراك خبطت بالخيلاء»
فأجابه متبسما مذ خاله
قد غيظ بالحسنى والاسترضاء:
55 «مهلا أيا ابن ليرت لست منددا
فلقد بلوتك حكمة تستعصم
وقد استوينا بغية وشعائرا
جلى فدونك ذروة تتسنم
وتعد عما اشتد من عتبي عسى
بالريح يذهب بائدا يتخرم
ولئن تسؤك من المقال صلابة
فلسوف أرتق ما فتقت وألئم»
56
واستأنف السير السريع مطوفا
لذيومذ ذي العزة الأباء
ألفاه منتصبا بظهر عجاله
في عزلة عن موقف الإبلاء
وبقربه إستينل فلحاهما
لوما لذا الإجحام والإغضاء: «أسفا خليفة تيذيوس أراك من
دون الفوارس جازعا تتلملم
هلا اقتفيت أباك في عزم به
قد كان قبل أولي العزائم يعزم
لم ألقه لكن رويت لمن رأى
عنه فعالا بالفخار تعظم
ولقد أتى ميكينيا وفلينك
ذو البأس ضيفا للجحافل ينظم
لحصار ثيبة يجمع الأجناد في
حلفائه والجيش ثم عرمرم
رغبا بنجدتهم فما بخلوا بها
لكن زفس على الخلاف مصمم
فأراهم للشؤم منه إشارة
ولوى العزيمة عن مرام أبرموا
نكصا ولما بلغا آسوفسا
والخيزران بضفتيه مخيم
فبدا لدى الإغريق أمر مهمة
فبتيذيس خيرا رأوا وتوسموا
بعثوه سار فجاء أبنا قدمس
في صرح إتيكل ومد المطعم
ما راعه أن كان منفردا لدى
قوم العدى وبدا ببأس يفحم
باراهم واحتاز أعظم نصرة
وله بآثينا النصير الأعظم
فتحدموا غيظا عليه وأكمنوا
خمسين أخمس بالحديد استلأموا
وبرأسهم ذو العزم ليفوفنطس
وميون ذو الطول الشديد الأيهم
أفناهم عن بكرة الآباء لا
ناج نجا إلا ميون منهم
أبقاه إذعانا لأرباب العلى
فلذاك تيذيس وهذا الإبنم
ما كان مثل أبيه إبان الوغى
وأبوه لم يك مثله يتعظم»
57
فوعى ذيوميذ الملامة صامتا
رعيا لحرمة سيد الرؤساء
لكنما إستينل لم يرعها
وأجاب مبتدرا بلا استحياء:
58 «هلا صدقت بما نطقت وإننا
قوم أشد قوى من الآباء
ولقد فتحنا ثيبة بفيالق
شم النفوس قليلة الإحصاء
ولقد وثقنا بالمقامات العلى
ومنال زفس صادق الأنباء
آباؤنا هلكوا بسوء سريرة
أقصر فما الآباء كالأبناء»
59
حنقا ذيوميذ أتاه معنفا: «إجلس حليف الصمت والإصغاء
ما كنت ذا جهل لأحنق إن مضى
أتريذ ينهض همة العمداء
إن نالنا النصر العظيم فمجده
هو فائق الأوصاف والأسماء
وإذا ذللنا بانكسار جنودنا
فعليه أعظم لزبة دهماء
60
فلنعتصم بالبأس ولنقدم إذا
مجنبين غواية الأهواء»
ثم انبرى من فوق مركبة له
للأرض بالإقدام والغلواء
فعلا لصلصلة السلاح بصدره
صوت يهيج حوبة الحوباء
61
تدفقت الأجناد أي تدفق
إلى الحرب تجري فيلقا إثر فيلق
كثائر أمواج البحار تهيجها
من الريح أنواء بغير ترفق
يدفع بعضا فوق لجها
إلى حيث فوق الجرف بالعنف تلتقي
62
فتنقض أعلى الصخر عن زبد غثا
تغرغر عن قصف الهدير المصفق
بهم أولياء الأمر يسمع أمرهم
وهم لا هوى نفس ولا صوت منطق
تخالهم بكما لأول وهلة
وقد نظموا نظم الخبير المحقق
وفوق الصدور الطامحات تألقت
صوارمهم والسمر أي تألق
63
ولكنما الأعداء قام ضجيجهم
كسرب شياه بالحظائر قلق
إذا ما استدرت والكباش ثغت لها
لهن رنت تثغو بأنة مشفق
64
فأوزاعهم من كل فج تألفوا
بعدة لسن واختلاف تخلق
تشوقهم طورا أثينا إلى الوغى
وطورا إله الحرب أدهى مشوق
ومن حوله هول ورعدة فتنة
شقيقته إلف الشقاق المفرق
65
نعم هي إن تنشأ هزال وإن نمت
إلى قبة الزرقاء بالجو ترتقي
66
بمجتمع القومين طافت مجدة
ممزق جمع الشمل كل ممزق
ولما تدانوا والنفوس سواخط
تحرقت الأجناد أي تحرق
طعان تلاقت في صدور تدججت
وكر يواري يلمقا فوق يلمق
67
وزفرة مقتول ونعرة قاتل
بسيل دماء بالأسنة مهرق
68
يلاطمهم داعي الكفاح مشددا
كشؤبوب ماء بالسحائب ريق
بسيلين من شم الجبال تحدرا
يفيض بسفح عن مجاريه ضيق
زعاب طغا يبدو بهائل منظر
لراع لدى قاصي الشوامخ محدق
عج العجاج وكان أول طاعن
أنطيلخ بطلائع الطرواد
69
طعن ابن ثالسياس إيخوفولسا
في خوذة سبكت لصد صعاد
70
نفذ السنان بفوده لدماغه
فانغض طرفاه بغير رشاد
71
في ساحة الهيجاء كالطود ارتمى
فأغذ ألفينور الإسآد
72
واجتره من أخمصيه لخلوة
يبغي استلاب سلاحه الوقاد
ما نال إلا خيبة وبداره
في الحين عاد عليه شر معاد
فالترس مال بميله عن خصمه
وهناك آغينور بالمرصاد
فانقض يطعنه بأسمر عاسل
فلواه مطروحا كليل فؤاد
فاشتد معترك الجيوش مغيرة
كالذئب أفراد على أفراد
فسطا أياس على ابن أنثيمين «يفع ترعرع فانبرى لطراد
نسبا لسمويس دعي سمويسسا
مذ فاز في شاطيه بالميلاد
زمنا أتى من طود إيذا أهله
ليروا قطاعهم بذاك الوادي»
73
ما نال أهلوه جزاء عنائهم
وقضى الحياة قصيرة الآماد
بقنا ابن تيلامون قوض عيشه
لما علا بالقوم وقع جلاد
خرق السنان لمنكبيه صدره
كدم الحضيض مذبل الأوراد
ملقى حكى صفصافة ممشوقة
والرأس غض يانع الأفناد
ربيت على عذب المياه فقطعت
آصالها بقواطع الحداد
منها يروم عجال مركبة زهت
فتجف ملقاة على الأجداد
74
فرمى ابن فريام الفتى أنطيفس
بقناته للقاتل المرتاد
75
فنبت ولكن أنفذت في لوقس
ذي البأس صاحب أوذس الشداد
قد كان يحتمل القتيل لسلبه
فمضت بحالبه كوري زناد
سقط القتيل إلى الحضيض ولوقس
ورد الردى من جملة الوراد
فانقض بالزرد المؤلق أوذس
لطلاب ثأر أليفه وذياد
قصد الطلائع دانيا متشوفا
وأطار صعدته على الأجناد
فتبعثروا لكنها سلكى مضت
لذميكوون بالحتوف تنادي
76
نغل لفريام أتى من آبذس
يجري إليه على سراع جياد
وخضت بصدغيه فراح مجندلا
بصلاصل تحت السلاح شداد
نكص الطراود للوراء تقهقرا
وكذاك هكطر عمدة الأمجاد
وتقدم الإغريق بين هلاهل
وسعوا بجمع مشتت الأجساد
من فوق فرغام أفلون رأى
فدعاهم لتصلب وعناد: «يا قوم إليون الكرام تقدموا
فلقد دعا داعي الردى البداد
لا تستذلوا فالعدى ليسوا من ال
فولاذ والجلمود يوم جلاد
ليكل وقع نصالكم وقنيكم
وأخيل ليس بجملة الأعداد
ما زال بين الفلك محتدما على
ما ناله من شدة الأضداد»
77
وبجحفل الإغريق آثينا انبرت
بين الصفوف بعزمها المعتاد
78
راحت تهيج نفوسهم وتثيرها
وتحث ذا الإمساك والترداد
وإذا بصخر من يدي فيروس
مولى الثراقة بالأغارق غادي
فأصاب رجل ذيورس بشظية
سحقت فمد يديه لاستنجاد
للأرض ألقي يستغيث بقومه
لكن فيروس تقدم عادي
أحشاءه بالرمح شق فمزقت
وعلى الرمال بدت لدى الأنداد
فعدا تواس على العدو بطعنة
يبغي انتقاما واري الأحقاد
ولجت بأعلى ثديه في صدره
وقفت على رئة بنصل بادي
فدنا وأخرجها وسل حسامه
وبجوفه واراه غير مماد
79
نال المراد بسلب نور حياته
وبكسب سلب لم يفز بمراد
فذووه من وسموا بعقص غدائر
طلبوه مندفعين للأنداد
فنشاطه وثباته ما أغنيا
أن عاد منثنيا بغير تهادي
فكذا ثوى الندان مولى إيفيا
وثراقة قتلا بذاك النادي
وعليها تنهال من قوميهما
أجساد قتلى باشتباك أعادي
لو كان بين صفوفهم راء يرى
ويجول بين مواقف الأشهاد
ووقته فالاس الحتوف وقد مضى
متوشحا من حفظها ببجاد
لرأى الحراب نوافذا وخوارقا
ورأى السهام غواديا وصوادي
والهول شدد والتفنن محكم
لا تعتريه لومة النقاد
وكسا أديم الأرض تيار الدما
وعديد قتلاهم بلا تعداد
80
هوامش
النشيد الخامس
بطش ذيوميذ
مجمله
اندفع ذيوميذ إلى ساحة القتال بإيعاز آثينا، فقاتل قتال الأسود، وكان آريس إله الحرب عاملا على نجدة الطرواد، فحملته أثينا على مغادرة ميدان الكفاح فاصطدم الجيشان، واستظهر الإغريق وجرح ذيوميذ بسهم أطاره عليه فنداروس، ولكن الجرح لم يكن قاضيا.
فاندفع ثانية وفتك بالأعداء فتكا ذريعا، فاجتمع آنياس وفنداروس على قتال ذيوميذ، فجندل ذيوميذ فنداروس وكاد يفتك بآنياس لو لم تبادر أمه الزهرة، وتحلق طائرة به، وكانت أثينا قد جعلت لزيوميذ قوة التمييز بين الآلهة والبشر وأغرته بطعن الزهرة أيان تسنى له ذلك، فأطار عليها سهما وجرحها في يدها فأسرعت إلى الأولمب، وشكت إلى أمها ما نالها من تحامل ذيوميذ عليها، فطيبت قلبها ولأمت الجرح، وبادرت أثينا وهيرا فشكتا الزهرة إلى زفس حتى لا يتأثر لشكواها، وما لبث ذيوميذ بعد ذلك أن قصد الإيقاع بأفلون، فزجره أفلون ونادى بآريس لنجدة الطرواد فتزيا آريس بزي بشر وأسرع فاستنهض همم الطرواد فهاجت الحمية هكطور وعاد آنياس سالما، واصطدم الجيشان وجرت الدماء سيلا من الفريقين، وكان أشدهم بطشا هكطور بين الطرواد، وذيوميذ بين الإغريق، وكان آريس نصيرا للطرواد في تلك المعمعة ففازوا الفوز المبين، ففزعت هيرا وآثينا للإغريق فصعدتا إلى السماء واستأذنتا زفس فأذن لهما بصد هجمات آريس، فحثت أثينا ذيوميذ على الفتك به فطعنه وجرحه، فصعد يشكو أمره إلى زفس فأنبه وعنفه ثم أمر بالتئام جرحه، وعادت من ثم أثينا وهيرا إلى مقام زفس.
مجرى وقائع هذا النشيد كالنشيد السابق، وهي حلقة من حلقات يومه أيضا.
النشيد الخامس
حبت فالاس ذاك اليوم عزما
وبأسا لابن تيذيس منيعا
1
ليعظم في بني الإغريق شأنا
ويبلغ فيهم الشرف الرفيعا
وفوق صفاح مغفره أفاضت
وفوق مجنه قبسا بديعا
فشب برأسه وبمنكبيه
شعاع فاض مندفقا سطيعا
ككوكبة الخريف قد استحمت
بلج البحر وامتطت الرقيعا
2
وألقته إلى حيث الأعادي
تكثف من كتائبها الجموعا «وكان بزمرة الطرواد شيخ
وفير المال لم يدنس صنيعا
بذارس عرفوه وكان إلفا
لهيفست وكاهنه المطيعا
كذا ولداه إيذيس وفيغس
ضروب الحرب قد بلوا جميعا»
فكرا فوق مركبة عليه
وأقدم راجلا يطس الربوعا
3
وبادر فيغس لما تدانوا
إلى مزراقه طعنا مروعا
فعن كتفيه منعطفا يمينا
مضى ونبا ولم يسل النجيعا
فزج ذيومذ بشحيذ نصل
فشق الصدر واخترق الضلوعا
فخر إلى الحضيض وخار عزما
أخوه ففر منهزما هلوعا
فغادر متن مركبه ولولا
إله النار أدركه صريعا
فهيفست هنا واراه حتى
يخفف عن حشا الشيخ الصدوعا
وصاح ذيومذ بذويه هيوا
إلى السفن الجياد خذوا سريعا
4
فجل الخطب بالطرواد لما
عنا بطليهما جهدا أضيعا
فذا ملقى تخضب من دماه
وذا لاو بخيبته رجوعا
بكف إله الحرب فالاس أمسكت
وقالت: «إلى م الفتك يا سافك الدما
ويا هادم الأسوار يا باعث الفنا
ألا ما تركنا الحرب للناس معلما
بشأنهم دعهم ونحن بمعزل
ومن شاء زفس فليعز محكما
بذا نتوقى غيظه» ومضت به
لضفة إسكامندر حيث أحجما
فولت لدى الإغريق طروادة العدى
وكل زعيم منهم اجتاح أيهما
فكان أغاممنون أول فاتك
بأوذيس من للهليزونة انتمى
فألقى إليه طعنة وهو مدبر
بمركبة يبغي الهزيمة مغنما
فقوض مبتتا إلى الصدر ظهره
فجندل مصروعا على الأرض وارتمى
فصلت عليه شكة وإذومن
على ابن الميوني بورس كر مقدما
فمن أرض طرنا كان فسطس قد أتى
فراح ونور الطرف بالحتف أظلما
لقد كاد يعلو متن مركبه على
رجاء نجاة والحمام تقدما
على كتف يمنى تولته طعنة
فألقته في ترب الحضيض ميمما
فبادر أصحاب المليك إذومن
لنزع سلاح عنه كسبا مسهما
ورام منيلا إسكمندر سترف
فبادره طعنا برمح تقدما «لقد كان بالأنضاد هولا مروعا
لوحش الفلا والرمي بالنبل أحكما
وقد علمته أرطميس فنونها
فلم يغن بأس فيه بالشم قد سما
5
فمن منكبيه أولج الرمح نافذا
إلى الصدر لما للفرار تجشما
أكب على وجه الحضيض بوجهه
ومن فوقه صوت الحديد تهزما
وأقبل مريون وراء فركلس
وبادره طعنا بردف تهشما
فأنفذ تحت العظم نصل ممزقصا
مثانته فانقض يجثو مهمهما
هو ابن السري هرمونذ الصانع الذي
أجلته فالاس وزادته أنعما
وقد علمته شائق الذوق وابنه
حكاه وأعمال اليدين تعلما
فأتقن صنعا فلك فاريس جملة
فكانت عليهم وبل شر معمما
وفارقه نور الحياة ولم يكن
ليفقه أنباء السماء مقدما
وفيذيس وافاه ميجيس طاعنا
فذالا بمسقي السنان تفصما
6
فمر سنان الرمح بالفك خارقا
ثناياه واقتب اللسان مصرما
فخر يعض النصل في الترب خابطا
ومهجة أنطينور بالحزن أضرما «هو ابن له من غير زوج حليلة
وعند ثيانو زوجه الحل قد نما
فحبا بأنطينور مثواه أكرمت
فشب ربيبا كالبنين مكرما»
تلاه ابن ذولفيون كاهن زنثس
ومن كان كالأرباب فيهم معظما
تأثره أوريفل وهو قافل
فلم يجده أن يستذل ويهزما
فأدركه يبتت بالسيف كتفه
فمات ولم يدرك مراما توهما
لو تربصت والعجاج استطارا
ونجيع الدماء سال وفارا
7
وتبصرت بابن تيذيس لم
تدر أي الجيشين منه أغارا
مستشيطا ينقض فوق الأعادي
ينهب السهل بين عاد وغاد
كخليج يضيق بالسيل مجرا
ه فيستأصل الجسور الكبارا
ويقض السدود والزبد يدفع
ومباني الحراث منه تزعزع
وتلاشى آمالهم بعباب
ساقه زفس فوقه مدرارا
8
فصفوف العدى وإن زدن عدا
ضقن ذرعا عن صده اليوم صدا
شتتوا حيث ثار يعمل سمرا
فاريات وصارما بتارا
ساء صنديد ليقيا أن رآه
يخرق الجيش صائلا بقواه
9
فعليه مسددا مد قوسا
وإليه أمر سهم أطارا
لخلايا الدروع سار وأولج
وبيمنى الكتفين غار يهملج
فجرت تخضب الدروع دماء
ودعا فندروس ينمي الفخارا: «يا خيار الفرسان قوم الولاء
بادروا قد أدميت خير أخائي
إن يكن صادقا دعاء ابن زفس
لي فبالسهم سوف يلقى البوارا»
10
إنما الجرح لم يكن قتالا
والجريح انثنى يروم العجالا
جاء أستينلا وقال: «أخي با
در وأخرج سهما بكتفي غارا»
فإلى الأرض واثبا مال يجتر
ذلك السهم والنجيع تفجر
11
قام يدعو ذيومذ ودماه
صبغت حلة الزرود احمرارا: «إن تكوني يا بنت رب التروس
زدتني البأس يوم قرع البئوس
12
وأبي قبل عنه لم تتخلى
لا ترومي عن مبتغاي استتارا
قربي من مرمى حرابي غرورا
صال وليلق من ذراعي الثبورا
قد رماني وظن يفخر أني
من سنا الشمس لن أرى الأنوارا»
فأصاخت وجددت فيه حزما
ونشاطا وشددت منه عزما
وإليه مالت تقول: «ألا ك
ر على موقف العدى تكرارا
فيك أنزلت كل بأس أبيكا
وأزلت الغمام حتى أريكا
فالحجاب انجلى فتعرف من تل
قى أإنسا أم خالدا قهارا
13
فلئن خلت خالدا جاء يبلو
فاجتنبه ما أنت للصد أهل
غير قبريس إن تلح لك فاطعن
ها ولا ترهب انتقاما وثارا»
14
وتوارت عنه فهب مغيرا
مذ أثارت للبطش فيه سعيرا
ثلثت عزمه فكر يحاكي
بأعاديه ضيغما هصارا
كهزبر بين المراعي يفاجي
واثبا فوق راتعات النعاج
يبتليه الراعي بسهم فتزدا
د قواه وينثني لا يجارى
يتخلى الراعي سحيق الفؤاد
ولمأواه يلتجي بارتعاد
فتراع الشياه مرتميات
جازعات ينفرن منه نفارا
عائثا عابثا منى النفس يقضي
ثم عنهن بالمفاوز يمضي
هكذا في العدى ذيوميذ ألقى
روعه كالأسود ليس يبارى
15
فبهيفيرن وأستينووس
بادئا حام حول قتل النفوس
فرمى عنق ذاك بالسيف والبأ
ديل بالرأس عن عرى الجيد طارا
16
وعلى ذا بالثدي مد قناه
فرماه ثم انثنى لسواه
وعلى ابني أفريذماس أباس
وفليذ كأس الحتوف أدارا «لم يفده أن كان شيخا خبيرا
من رؤى الخلق يفقه التعبيرا
لم ينل ما أغناه عن مصرع ابني
ه على حين للقتال أسارا»
بهما فاتكا ذيوميذ أتبع
زنثسا مع ثوون وانساب يهرع
بهما للهلاك ألقى وأبقى
لفنبس أبيهما الإدبارا
فهما عز عمره ومناه
وارثا كل ذخره وغناه
لم يؤمل سواهما من ولي
وبه العجز أنشب الأظفارا
بقي اليأس والتحرق فيه
حظه والأموال حظ ذويه
17
وذيوميذ حظه الفتك فانق
ض على ابني فريام يهمي التبارا
نحو إيخيمون وأخر ميوس
شب كالليث فوق قطع الرءوس
ذاك لما في الغاب يسحق عنق ال
ثور سحقا وينثني ممتارا
18
هب يرميهما بمركبة قد
ركباها وعدة الحرب جرد
وإلى صحبه أشار بأن سو
قوا إلى الفلك خيلها إلا حرارا
فرأى آنياس فتكا ذريعا
منه بالقوم راح يجري سريعا
19
تحت وقع القنا ووقع السهام ان
ساب يبغي ابن ليقوون اغترارا
فأتاه من بعد جهد جهيد
مستجيشا بالبأس بين الجنود
قال: «يا فندروس حتى م قوسا
وسهاما قد ادخرت ادخارا
وإلى م احتويت مجدا قديما
هل هنا من حكاك شأنا عظيما
وأشد الرماة في ليقيا هل
بك قيسوا مهارة واشتهارا
دونك القرم ذا الذي غاب عني
نور عرفانه أحققت ظني
ولزفس بسطت كفا وأنفذ
ت له سهمك المريش اهتوارا
20
كم رقاب رمى وكم من ركاب
قد لوى من بواسل الأتراب
فعسى لا يكون ربا مغيظا
لم نقدم له الضحايا الكثارا
إن غيظ الأرباب أدهى الشرور»
قال: «يا آنياس خير مشير
21
إن يكن صادقا مقالي وظني
فأرى ذا ذيومذ الجبارا
ذاك حتما مجنه والقتير
هذه خيله السراع تغير
هذه الخوذة المثلثة الأط
راف لكن لا أجزمن ائترارا
22
فهو إما رب ذيوميذ مثل
أو إلى جانبيه في الغيم أقبل
فيليه ويدفع الصم عنه
ويقيه ويرفع الأخطارا
كاد سهمي يذيقه الحتف لما
غار في الكتف والدم الجم أهمى
خلته للجحيم يمضي ولكن
كره الآن كذب الأفكارا
آه أين العجال أين جيادي
راجلا جئت طامعا باشتدادي
وعلى الرحب مركباني إحدى
عشرة فوقها سدلت الستارا
ولكل مطهمان وأكثر
تقضم الدوم والشعير المقشر
لم أع النصح من أبي الهم لما
قد تجشمت للوغى الأسفارا
قال فاذهب وكن بصدر الكماة
وعلى القوم كر بالمركبات
فهو بالحق قد أشار ولكن
قد رأيت العدول عما أشارا
قلت تضوى الجياد في تي الديار
لامتناع الكلاء تحت الحصار
راجلا جئت أرئس القوم مغت
را بقوس منها لقيت الشنارا
قد رميت العميد أتريذ عنها
وذيوميذ ناله الجرح منها
فجرت منهما الدماء ولكن
فيهما البأس زاد والجأش ثارا
ساد لا شك طالع السوء لما
قد تناولت هذه القوس وهما
ولإليون قمت حبا بهكطو
ر بقومي إلى الوغى أمارا
فلئن جئت زوجتي وأليفي
وصروحي بعاليات السقوف
لا تخلى عن قطع رأسي عدو
إن بخبري لم أنفذ الأخبارا
هذه القوس شر سحق سأسحق
ولجوف النيران ترمي فتحرق
راح كالريح نفعها في لا تج
دي ائتمارا كما علمت اختبارا»
23
قال: «يا فندروس مهلا وهيا
بعجالي لكبحه نتهيأ
فهي أولى للصد أقبل وبادر
نتربص لملتقاه ابتدارا
فجيادي لسوف تخبر خبرا
جريها في السهول كرا وفرا
وإذا زفس شاء نصر ذيومي
ذ بها عن مناله نتوارى
فخذ السوط ثم أجر الخيولا
وأنا للكفاح أبغي سبيلا
وإذا تبتغي النزال فلي الخي
ل فما شئت فاتخذه اختيارا»
24
قال: «يا آنياس عندي أحرى
أن تسوق الجياد مذ كنت أدرى
خشيتي لا تنقاد لي ولصوتي
إن دفعنا إلى الفرار اضطرارا
جامحات تغير بين الجنود
فيوافي ذيومذ بالحديد
وكلينا يجتاح والخيل يقتا
د فسقها فأنت أكفى اختبارا
25
ولي الطعن بالقنا والحراب»
ثم ساقا بشدة واصطخاب
لذيوميذ قال إستينلوس
عند ما أقبلا يشبان نارا: «يا حليف الفؤاد ندين ألقى
نهضا الآن يطلبانك حقا
آنياس بن عفرذيت وأنخي
س كذا فندروسا المغوارا
فاتق الآن فاجعات المنايا
لا تكن في مقدمات السرايا
وخطى الجرد فلنؤخر» فوافا
ه ذيوميذ بالمقال ازورارا: «لا تحدثني بالفرار فإني
لا إخال المرام تبلغ مني
ليس شأني وشأن أهلي قبلي
أن نولي يوم الوغى الإدبارا
لي عزم لا ينثني للخطوب
جل عن سوق مركبات الركوب
هاكها راجلا أصول مكرا
وأثينا قد حرمت لي الفرارا
لن تنجيهما الجياد جميعا
إن نجا ذا فذاك ألقي صريعا
إنما لي بالأمر غير مرام
فادكره إذا بطشت ادكارا
لهما إن أذقت كأس الحمام
وأثينا بذاك أعلت مقامي
ألق حالا صروع خيلي في مر
كبتي واجرين منها ائتثارا
26
وامض وافتد مطهمي آنياس
خير ما في الدنيا من الأفراس
نتجا من جياد زفس التي للم
لك أطروس أهديت تذكارا
عن غنيميذ ابنه المرفوع
عوضا نال أصل خير الفروع
27
رام أنخيس نسلها فبغاها
خفية حيث ألقح الأحجارا
ستة أنتجت فزوجين أبقى
وإلى آنياس ذا الزوج ألقى
هاكه ينهب السهول انتهابا
آه لو منه أبلغ الأوطارا»
هذا حديثهما انتهى وعليهما
بطلا الطرواد بالعجاجة أقبلا
حتى إذا وقفا على مرمى القنا
دفع ابن ليقاوون ينشد أولا:
إن طاش سهمي يا ذيوميذ ففي
ظبة السنان لك الحمام معجلا»
ورمى القتاة فأولجت بمجنه
وتخللته إلى الدروع تخللا
فغر ابن ليقاوون فاه كأنه
رعد دوى مستبشرا متهللا: «ولجت حشاك فأنت حتما هالك
وأنا أنا نلت المفاخر والعلا»
قال ابن تيذيس: «هنا رب الوغى
يسقى الدما من جوف مفري الكلى
إن فاز بعضكما وفر موليا
من صولتي لا فوز للثاني ولا»
وعليه صوب طعنة قذفت بها
تفري وتيرته فلاس من العلى
28
خرقت ثناياه وجذع لسانه
للحي حيث بدت فخر مجندلا
29
فتصلصلت نثراته بسلاحه
والخيل شبت تقشعر تجفلا
فانقض يحمي آنياس رفيقه
خوفا عليه من العدى أن يحملا
متدججا كالليث حام عليه لا
يخشى ولا تلويه جمهرة الملا
وعليه مد قناته ومجنه
بهديده متشوفا متبسلا
عمد ابن تيذيس لهائل صخرة
في عصرنا بطلان لن يتحملا
30
حنقا رماه بها بغير تكلف
بالفخذ يسحق حقه متعجلا
برز الأديم ومزقت عضلاته
فجثا على وجه الحضيض مثقلا
مستقبلا وجه الثرى بذراعه
والحتف إثر سقوطه مستقبلا
فاربد ناظره ولولا أمه
قبريس مبصرة لأدركه البلى
عشقت أباه قبل وهو بأرضه
يرعى العجول فراودته تمحلا
والآن عطف الأمهات على ابنها
عطفت تبادر حيث مصرعه انجلى
ألقت عليه بض أذرعها وقد
خشيت عليه طعن مطلب قلا
سترته في برد زهي خولت
رصدا يصد العاليات الذبلا
31
ومضت به من ساحة الهيجاء تح
مله عن الأعداء تطلب معزلا
ووعى ابن قافانيس ذيومذ
فاستوقف الأفراس ثم ترجلا
32
وسعى إلى خيل الصريع يحثها
حتى بها بين الأغارق أدخلا
ودعا أحب رفاقه ذيفيلسا
لدة له حاكاه معنى مجملا
للفلك سيره بها وهو انثنى
لحثيث مركبة له مستعجلا
أخذ الصروع الساطعات بكفه
واستاق بالعنف الجياد مجفلا
ومضى يروم ذيومذا وذيومذ
في إثر قبريس يشق الحجفلا
متقصيا يجري ويعلم أنها
ليست على بأس يروع مهولا
ليست كإينيا مهدمة الفنا
أو مثل آثينا وربات البلا
وإذا بها في لب أوزاع العدى
فعدا إليها طاعنا مسترسلا
33
نفذ السنان ببردها البهج الذي
نسجت لها البهجات حتى ترفلا
34
وجرى لمعصمها اللطيف ففطرت
بشراته بدم عليه تهيلا
بدم نقي بل عصير رائق
بعروق أرباب العباد تسلسلا
فهم ولا خبز ولا خمر لهم
خلدوا ومن دمنا وجودهم خلا
35
صاحت وأفلت آنياس فقله
بيديه فيبس بالسحاب مظللا
ومضى به طمعا بحفظ حياته
وذيومذ بجهير منطقه تلا: «يا بنت زفس كفى فكفي وارعوي
لن تخدعي إلا النساء الخملا
فلئن رجعت إلى الحروب فذكرها
سترين يوليك الوبال الأثقلا»
مضت وفي قلبها من غلبها غصص
ما بين مضطرب أمسى وملتهب
وناصع الجسم دام كاد يلبسه
ثوب السوادا اشتداد الغيظ والكرب
فبادرتها تجاري الريح طائرة
إيريس تدفعها عن مضرب القضب
إذا بآريس يسرى القوم تحجبه
والرمح والخيل أركام من السحب
أحنت على ركبتيه تبتغي عجلا
خيلا له ملجمات خالص الذهب
قالت: «أخي أعرنيها لتذهب بي
لمرتع الخلد إن الجرح برح بي
أنالنيه ابن إنسي أخو قحة
لا ينثني جزعا حتى لزفس أبي»
فقال: «دونك أفراسي ومركبتي»
حلت بها بفؤاد خار مكتئب
وإيرس وصروع الخيل في يدها
تستاقها وهي أجرى من سنا الشهب
حتى إذا لذرى شم الألمب علت
فاستوقفتها وحلتها من القتب
وبادرتها بقوت الخلد وانطلقت
لأمها قبرس تحنو على الركب
36
هشت لها واستضمتها لمهجتها
ذيونة تستقص الأمر بالعجب «وأي رب كما لو كنت جانية
جنى عليك كما ألقاك أي غبي»
قالت: «فما كان ربا جل بل بشرا
ذاك ابن تيذيس مستمطر النوب
لأنني آنياس رمت نجوته
أعزما لي بأهل الأرض من نسب
37
فالدانويون بالطرواد ما اجتزءوا
حتى إلينا انثنوا بالبيض والشهب»
قالت ذيونة: «صبرا كم لنا مثل
بالناس يبلون أهل الخلد بالنصب
فإسوة لك آريس وهيبته
عاما وشهرا ثوى في السجن لم يهب
ألقاه فيه ابن ألويس أتوس كذا
أخوه إفيلطس بالذل والحرب
وكبلاه بأغلال الحديد وما
أجداه من غضب يشتد أو صخب
وكاد يهلك لو لم تنم مخبره
إيريب إذ صانه هرميس بالحجب
38
وهيرة فابن أمفترون ألمها
بشر سهم بأعلى الثدي منتشب
ونفس آذيس ذاك القرم أورثه
مر العذاب بسهم عنه لم يخب
أطاره دون أبواب الجحيم له
عمدا فنكص ملتاعا على العقب
فأم صرح أبي الأرباب زفس أخا
بؤس بنبل بعظم الكتف منتصب
فذر بلسمه فيون يبرئه
مذ كان من خالدي الأدهار والحقب
39
فيا لويل بني الإنسان إن حملوا
على بني الخلد عن حمق وعن غضب
فالاس أغرت ذيوميذا عليك ولم
يعلم لصنع يديه أي منقلب
40
لم يدر أن على الأرباب من كسبت
يداه شرا إلى الأوطان لم يؤب
فلا يهش له من فوق ركبته
طفل يقول بلطف يا أبي أجب
فليخش بطش أخي بأس أشد قوى
وصولة منك يستقريه بالطلب
وليفكرن بأغيالا حليلته
ذات الجمال وذات العقل والحسب
41
وسنى تؤرقها الرؤيا فتقلقها
فتستفيق بقلب ريع مضطرب
من ثم توقظ في لهف جواريها
وينتحبن بدمع فاض منسكب»
42
وطهرت بيديها الجرح فانفرجت
آلامها واستكنت ثقلة الوصب
لكن أثينا وهيرا مذ تعمدتا
إغضاب زفس لما في النفس من أرب
قالت أثينا: «أبي هل لا يسوءك أن
أقول ما كان في ذا الجرح من سبب
لا شك قبريس رامت دفع غانية
وجد الصب من الطرواد ذي نشب
فأنشبت بعرى الإبريز راحتها
فمزقتها فرامت نحلة الكذب»
43
أصاخ يبسم واستدعى الجريح على
رفق وقال لها: «يا منيتي احتسبي
دعي لآرس وآثينا الحروب ولا
تعني بغير لذيذ الحب والطرب»
لهم في السما هذا الحديث وفي الثرى
ذيوميذ لا ينفك إيناس يطلب
تحدم يبغيه ويعلم أنما
يقيه أفلون ولم يك يرهب
ثلاثا عليه كر يأمل قتله
وشكته الغراء بالعنف يسلب
ولكن ثلاثا ترس فيبوس صده
ورابعة قد كاد يسطو ويضرب
فقال له والصوت يدوي رعيده
ويعلو محياه العبوس تقطب: «مه فتربص يا ابن تيذيس فعن
بني الخلد للإنسان قد عز مطلب
فشتان بين الناس والترب أسكنوا
وقوم بني الإسعاد والنور ألهبوا»
فكف ذيوميذ وما كاد ينثني
مخافة يشتد الإله ويغضب
44
وسار أفلون بأنياس مسرعا
لمعبده في طود فرغام يذهب
فوافته أرطاميس في بلسم الشفا
وذيتا بإكسير المحاسن يسكب
وما شاء فيبوس يشيع انقلابه
فأرسل طيفا مثله يتقلب
45
ومن حوله بين الفريقين مزقت
مسردة حصداء وافتل مجوب
46
ومن ثم فيبوس إلى آرس انثنى
يحث خطاه للوغى ويثرب: «أيا ممطر الأهوال يا باعث الردى
ويا هادم الأسوار حتى م ترقب
ألا ما اندفعت الآن فوق امرئ عتا
يكاد على زفس يصول ويصخب
تأثر قبريسا وأدمى يمينها
وأقبل نحوي بعد ذلك يقرب»
فأغراه ثم اختار فرغام معزلا
وآريس للطرواد راح يؤنب
47
فماثل آكاماس شكلا وهيبة
وصاح: «ألا فاسطوا على القوم واضربوا
إلى م التراخي والعدى فتكها أبدا
أفالجبن حتى دكة الحصن تركب
فأنياس والفتاك هكطور قد حكى
طريح بسيال الدماء مخضب
ألا ما أخذتم من عداكم بثأره
وأنقذتموه فاستجيشوا وصوبوا»
فهاجت بهم كل النفوس حمية
وأقبل سرفيدون بالعنف يخطب: «أين هكطور همة لك قدما
أين بأس وباع عزم متين
قد زعمت الحصون تحمي ولا أن
صار لا جيش بل بآل الحصون
أين هم أين لست ألقى كميا
كالكلاب التووا لأسد العرين
إنما نحن نجدة وعلينا
أنت ألقيت كل ثقل المنون
أنت تدري في أي بون بلادي
ليقيا أرض زنثس الميمون
فبها زوجتي تخليت عنها
وغلامي وذخر مال ثمين
وهنا ليس لي متاع ولا ما
ل فأخشى أن العدى يسلبوني
كل هذا ما كف بالبطش كفي
وأراك اعتزلت بادي السكون
فلماذا لا تنهض العزم والأعرا
ض تحمي من هول هون مبين
أفلا خلت أن ثم شراكا
كامنات لكم وأي كمون
وبها تؤخذون أخذا ذريعا
وتدك الحصون فوق المتون
زعماء الأنصار دونك فادفع
عنهم بالثبات سوء الظنون
ذاك ذاك اعتبر نهارا وليلا
نصب عينيك فليكن كل حين»
لمهجة هكطور الحديث مؤلما
جرى جري سهم بالمفاصل ينشب
48
ترجل مصطك السلاح مطوفا
وفي يده سمر القنا تتلهب
يشدد همات الفوارس منهضا
عزيمتهم حتى انثنوا وتصلبوا
فكروا ولكن الأغارق جملة
على صدهم بالعزم طرا تألبوا
فلم يك في القومين خامل همة
ولم يك فيهم من يراع فيهرب
وعند اشتباك الجيش بالقضب والقنا
جرت مقربات الحملة الأرض تنهب
وقد كست الإغريق ثوب عجاجة
فتحت الخطى وقع ومن فوق غيهب
49
كأن مذاري ذيمتير ببيدر
تثير سحيق التبن والحب يرسب
فتذري السحيق الريح ثم تهيله
غبارا كثيفا وهو أبيض أشهب
50
كذا اندفع الإغريق من تحت قسطل
علاهم وآرس للعدى يتعصب
أطاع أفلونا وشدد عزمه أح
تجاب أثينا فاستقر يكوكب
51
وأرسل من فوق الجيوش غمامة
تظلل دراع الحديد وتحجب
ولما علا وقع القنا انقض عائثا
إلى ساحة الهيجاء أنياس يلجب
به جاء فيبوس سليما من الأذى
شديدا حديدا يستجيش ويلغب
فخف وأحيا خفق أكباد قومه
وحف به من صفوة الصيد موكب
فلم يسألوا علما ولم يتساءلوا
ودون التحري من لظى الحرب أضرب
عواصف فيبوس وصعقة فتنة
وآرس ووبل بالذوابل صيب
وآياس آياس وأوذس ذيومذ
يهزهم داعي الكفاح ويطرب
ينادون بالإغريق للحرب نهضة
إذا هم لكر أو لصد تكتبوا
فللصد دفاع الجنود تثبتوا
صناديد لم يخشوا ولم يتهيبوا
كأنهم والجر صاف رقيعه
غمائم من فوق الشوامخ تقطب
وقد هجع الأنواء لا ثم ثمأل
تثور ولا الأنواء فيهن تلعب
52
يجوب أغاممنون بين صفوفهم
يصيح وأعقاب الخطى يتعقب: «شددوا عزمكم وكونوا رجالا
فوطيس الوغى عظيم الشؤون
وليقم بعضكم بحرمه بعض
فلكم بالوفاق خير قرين
والتأخي بين النفوس نصير
ولحفظ الرؤوس أقوى ضمين
للجبان المهزوم موت وعار
والهمام العزوم رفع الجبين»
53
قال هذا وانقض يطعن ذيقو
ن بن فرغاس بادئا بالهجوم
ترب أنياس كان وهو لديهم
كابن فريام ذو مقام قديم
للنجاد السنان أولج يفري ال
ترس حتى حشا الفؤاد الصميم
فالتوى تحت طعنة وكلوم
وصليل السلاح فوق الكليم
كر نحو الإغريق يطلب ثأرا
آنياس كرور ليث غشوم
ثم أردى أرسيلخوس وإكري
ثوتا ابني ذيوكليس الحكيم
وحفيدي أرسيلخوس الذي كا
ن أخا صولة وملك جسيم
وهو ابن للنهر ألفاس أبقى
لابنه ثروة الغنا المركوم
نشأا في فيرس وألفاس فيها
فاض في فيليا بخير عميم
توأما شدة حديثان لكن
بلوا بالنزال كل العلوم
ركبا لجة البحار انتصارا
لمنيلا وعرضه المثلوم
سدل الموت فوق عينيهما الس
تر بحكم المنية المحتوم
شبه شبلين قد غذت لبوة في
أكم الغاب فوق طود عظيم
عبثا فيه في شياه سمان
وعجول بمنعة ونعيم
واستطالا حتى الرعاة أعدت
لهما الحتف بالسنان القويم
هويا مثل أرزتين على التر
ب بجذع مقوض محطوم
54
فمنيلا انبرى يجيل قناه
شائكا في سلاحه الموسوم
ساقه آرس لأنياس يبغي
لمنيلا شرا لسبق الغريم
بيد أن ابن نسطر أنطلوخا
هب في إثره هبوب النسيم
خشية أن يمس بالضيم والآ
مال تفنى بقتل ذاك الزعيم
فمضى والقرنان كادا اشتباكا
يقرنان القنا بصدر الجسوم
فالتوى ثم عزم أنياس لما
لقي اثنين فانثنى للتخوم
55
دفعا جثة القتيلين للقو
م وعادا بصولة وهزيم
جندلا قيل بفلغونة فيلي
مين رواع كل شهم عزوم
فمنيلا عليه مال بطعن
وأقر السنان بالبلعوم
وابن نسطور صد خادمه مي
ذون مذ رام نجوة المهزوم
ورماه بفهر صخر شديد
فتوارى بزنده المقصوم
فاستطارت أعنة الخيل منه
سابحات تخب فوق الأديم
فعليه بالسيف بالصدغ ثنى
فثناه للأرض حد الصروم
56
ناشرا للهواء رجليه لكن
رأسه تحت رملها المركوم
ظل حتى جياده بخطاها
طرحته للأرض دامي الكلوم
57
وابن نسطور ساقها لحماه
مغنما من أجل أصل كريم
تحدم هكطور لما هو باصر
فصاح مغيرا واقتفته العساكر
وفي صدرهم رب الوغى يستحثهم
وإنيو تثير الشغب والشغب ثائر
58
وآريس هكطورا يلي فهو تارة
ظهير وطورا دونه متظاهر
يجيل قناة أثقلت كل كاهل
ويفعل ما لا تستطيع القساور
ولكن ذيوميذ الإله له انجلى
فأحجم كرات الإله يحاذر
كطاو بطون البيد صدته عنوة
سيول غثت عنها تزوغ النواظر
فيعلوه إشفاق وتغشاه خشية
فينكص منهد القوى وهو حائر
59
قال صحبي: «هكطور هولا ظننتم
بقناه والعاسل المسنون
فاتكم أنه أوان الوغى لم
يخل يوما من مرشد ومعين
هاكم آرسا بهيئة إنس
حوله حام كالنصير الأمين
فارجعوا والصدور منقلبات
للعدى واتقوه واتبعوني»
60
وخفت بنو الطرواد زحفا بصدرهم
يصادم هكطور العدى ويصادر
فأردى منستيسا ونخيالسا معا
بمركبة قلتهما وهو سائر
فهاجت بآياس العواطف فانبرى
يطير قناة فرعها متطاير
فاصمى ابن إسلاغوس أمفيس الذي
بفيسوس قد فاضت عليه الذخائر
بغى نصرة الطرواد والحتف ساقه
إلى حيث شكت بالنجاد الخواصر
فأهوى وأهوى طامعا في سلاحه
أياس فصدته السهام المواطر
على جثة المقتول أثبت رجله
يجر سنين النصل والفتك دائر
وكف يباري بالمجن نبالهم
مخافة أن يلهو فتدها الجماهر
61
وعند التحام الحرب ساقت يد القضا
لسرفيدن إطلوفليم يبادر
نظيران في زفس ابنه وحفيده
سليل هرقل والقرين المناظر
ولما على مرمى القني تدانيا
عليه الهرقلي استطال يفاخر: «أي جهل مشير ليقية أغ
راك حتى استهدفت أي جنون
أنت والكر فيه مذ كنت غرا
قد تورطت ورطة المغبون
مان من قال أنت من نسل زفس
أين أبناء زفس من سرفدون
بهرقل أبي كفاك مثالا
قلب ليث وهول كل القرون
قبل أنبئت كيف جاء قديما
طامعا في جياد لوميذون
62
بسفين ست ونزر قليل
أمطر الويل في حما إليون
أين شتان أنت والحتف أفنى
منك قوما وأنت بادي الشجون
ليس في رفدك الطراود جدوى
ولئن صلت فالردى بيميني»
63
قال سرفيدون وميزه الغي
ظ: «نعم بالحديث قد أنبئوني
فهرقل قد دك إليون لا بل
دكها حمق لومدون الرعون
لهرقل ما بر بالوعد لكن
متع الخيل عنه منع الضنين
ورماه وكان قبل دعاه
من بعيد بسهم شتم مهين
إنما أنت والسنان بكفي
سوف تصمى برأس نصلي السنين
ولرب الجحيم نفسك تزجي
ولي الفخر بالمنار المصون»
64
وكل رمى بالزج يحكم رشقه
فبالعنق مزراق وبالفخذ آخر
فمزق أفطوليم بالنصل عنقه
فعض الثرى تنغض منه النواظر
ومزق سرفيدون للعظم حقه
ولولا أبوه بادرته البوادر
65
فأصحابه اجتروه من ساحة الوغى
لساعتهم والنصل في الجسم غائر
وقد شغلوا عن نزعه لذهولهم
فأركب بالآلام والعزم خائر
كذاك ارتمى الإغريق فوق قتيلهم
يرومونه فيهم وأوذس ناظر
فهب به الغيظ العنيف فهاجه
وردد فكرا رددته الخواطر
أيطلب سرفيدون أم جند قومه
لتفتك فيهم من يديه البواتر
فعن سرفدون أشغلته يد القضا
فمال إلى حيث التقته العشائر
وساقته فالاس لمجتمع العدى
وما راعه منهم نصال شواجر
فجندل كيرانس ألستر هليسا
وإخرو ميوسا وهو كالليث كاسر
وألكندرا إفريتنيس نويمنا
صناديد لبقيون صيد جبابر
وكاد يزيد الفتك لو لم يثب إلى
طلائعهم هكطور والنقع فائر
رأى فجرى يلقى الصدور مدججا
فضاقت بهم عن ملتقاه المعابر
وعن سرفدون غصة الكرب انجلت
فنادى برفق والدموع بوادر:
66 «أغثني ابن فريام ولا توقع العدى
علي فإني بالمنية شاعر
ولن يتلقاني على الرحب موطني
وزوجي وطفلي والكرام الأكابر
فدعني بإليون أمت ذا كرامة
وثمة لي في لجة القبر ساتر»
فأعرض هكطور وفي القلب غصة
تحث خطاه وهو للفتك طائر
67
تسير دعاة الموت طوع حسامه
ومن كفه جمر الردى متناثر
وأصحاب سرفيدون في الحال أسرعوا
لزانة زفس فيه والزان ناضر
فبادر فيلاغون إلف وداده
وأخرج نصلا أغفلته البصائر
فغشت على أبصاره ظلم الردى
وخيل أن قد فارقته المشاعر
فهبت لبرياس من الريح نسمة
فأنعش وارفضت تزول المخاطر
68
ودارت على الإغريق في دارة الوغى
بآرس وهكطور الدواهي الدواثر
ولكنهم بالصبر طرا تدرعوا
وكل على دفع العدو مثابر
فلم يك فيهم ناكص نحو فلكه
ولا للقا الأعداء بالصد جاسر
وتحت الدفاع الثبت مهلا تقهقروا
يروعهم أن المهدم حاضر
69
فأثخن آريس وهكطور فيهم
فمن أول القتلى ومن هو آخر؟
70
فأولهم تثراس ند ذوي البقا
فأورست رواض الجياد المكابر
فإتريخ أونوم هلين أرسبس
وكلهم ذاق الردى وهو صاغر
فأورسبسا لم يجد وافر ماله
وملك على أكناف كيفس وافر
ففي هيلة قد كان حيث ثوى الغنا
وبحر البيوتيين بالمال زاخر
فدارت عليه عندهم أكؤس الصفا (ودارت عليه بالنزال الدوائر)
رأت هيرة الفتك بالقوم دارا
وجيش الأغارق سيم البوارا
71
وصاحت بفالاس: «يا للمصاب
أيا بنت زفس وشر المآب
فإنا منيلا جزافا غررنا
بوعد ولكننا ما بررنا
جزمنا بأن لا يعودن ما لم
ينل مبتغاه وإليون تهدم
نعم سوف يحبط وعد وعهد
إذا ظل رب الوغى يستبد
فهيي الحقي بي له نتصدى
فمنا يلاقي اقتدارا أشدا
وفالاس أحرص من أن تحرص
فهبت ولبت ولم تتربص
وهيرة قامت على العجله
تقود الجياد إلى العجله
وقد أوثقت ناصع العدد
على لبب ساطع العسجد
72
وقومت الجذع هيبا إليها
تضم الدواليب من طرفيها
فذاك حديد متين صقيل
وهذي نحاس نقي جميل
تدور على عارضات ثمان
تطوقها حلقات ثمان
ومن فوق أطواقها الذهبيه
عصابات صفر بديع المزيه
لقد أحكمت دائرات عليها
تقر العيون ارتياحا إليها
ومحورها من لجين بديع
ومن فوق ذلك عرش رفيع
يقوم على حلق من نضار
وصافي لجين صفوفا يدار
وفي الصدر قوسان حيث خرج
عمود بمضمده قد ولج
73
فذا من حلي الذهب اللامعه
وذاك من الفضة الناصعه
وشدت عصابات صافي الذهب
وهيرة تصلى أوار الغضب
وفالاس أحشاؤها تتأجج
فقامت على فورها تتدجج
أماطت نقابا لطيفا عليها
بديع المحاسن صنع يديها
وألقته بالعنف في صرح زفس
بأعتابه عن حزازة نفس
وقامت ومهجتها اضطرمت
لدرع أبيها بها استلأمت
وألقت على منكبيها يميد
مجنا يبيد قلوب الحديد
وأهدابه الدهم فيه تحوم
وفيه من الرعب كل الرسوم
وفيه الشقاق وفيه القوى
وفيه اللحاق مهولا ثوى
وفيه كذا هامة المارد
أبي الهول والأروع الواحد
74
وألقت على الرأس أعظم مغفر
لزفس نضارا تألق أحمر
له طرر أربع باتقاد
يقي مئة من جيوش البلاد
ولما استتمت علت تركب
براحتها عامل أشهب
طويل ثقيل متين القناة
يحطم فيلق قوم العتاة
75
وهيرة ساطت جياد الأثير
فراحت بلب الرقيع تطير
لأبواب أقصى السما سبحت
فمن نفسها لهما انفتحت
وأعلت صريفا يهز الجبال
وثمة ساعاتها باتصال
76
وقوف بها أبدا حضر
على كل ذاك الفضا تخفر
فتركم غيما فيعلو القتام
وتقشعه فيبيد الظلام
فشق السحاب وبلغتا
مقاما به زفس قد ثبتا
بأعلى الألمب على ذروته
يجلله المجد في عزلته
هنا وقفت هيرة بالجياد
وراحت إلى زفس تنمي المراد: «إلى م ترى يا ولي الخلود
مظالم آرس تجوز الحدود
ألست ترى كم دما قد سفك
وكم بالأغارق ظلما فتك
وهذا دمي كاد حزنا يفور
وقبرس وفيبس بملء السرور
77
لقد بلواه أليف النفاق
يسوقانه وهو طبعا يساق
ألا فا أذنن بأن أتأهب
وأدفعه بالدماء مخضب»
فقال: «عليك بفالاس تكبح
مظالمه فهي أولى وأصلح
فتلك التي عودته النكال
ومر العذاب بيوم النزال»
78
فسرت وسارت بأحداسها
تشق الرقيع بأفراسها
سراعا تطير كبرق أضا
لأدنى الثرى من أعالي الفضا
فما نظر الناظر المعتلي
على صخرة فوق بحر جلي
من الجو حتى الحصى الراكده
تخطاه في عدوة واحده
79
فما لبثت أن رست بالمقر
إلى حيث سيقت كلمح البصر
وحلت لدى الحصن بالربتين
على ثغر مجتمع الجدولين
هنا هيرة استوقفتها وحلت
وتحت ضباب كثيف أحلت
وسمويس أخرج من تربته
لها خالد النبت في ضفته
80
وسارت على الأثر الربتان
ترفان رف حمام الجنان
81
ترومان في خفة السير عن
جيوش الأغارق درء المحن
فبادرتا نحو أوفى السواد
إلى حيث أبسلهم باشتداد
وحول ذيوميذ كل يذود
ببأس ولا بأس جيش الأسود
وعزم ولا عزم خرنوص بر
يصول ويسطو ويبدي العبر
فهيرا عليهم هنا أقبلت
وهيئة إستنتر مثلت
بصوت جهير كقرع الحديد
له صوت خمسين صوتا شديد
82
وصاحت: «فواعار جيش جبان
وجيه الوجوه ضعيف الجنان
نعم حين كان أخيل يقف
بكم كان جيش العدى يرتجف
ولم يك من منهم يجسر
إلى باب دردنس يعبر
وهاهم وراء الحصون انبروا
لكم وإلى فلككم قد جروا»
ففيهم نيار الحمية ثارت
وفالاس نحو ذيوميذ سارت
فوافته معتزلا بالجياد
يرطب جرحا قواه أباد
على صدره عرق يرشح
به كله جالسا يسبح
يزيح على عيه بيديه
حمائل ترس ثقيل عليه
ويمسح جرحا به فندروس
رماه بأثناء قرع البؤوس
فمدت إلى نير مركبته
يدا ثم مالت لتخطئته: «أذا بابن تيذيس علما
فشتان شتان بينهما
نعم ذاك كان قصيرا صغيرا
ولكنه كان صلبا جسورا
تهيج به نفسه للقتال
ولو عنه يوما حظرت النزال
فلم يك بين بني أرغس
سواه يؤم بني قدمس
إلى ثيبة وحده أرسلا
سفيرا فراح وما هولا
فقلت اتقي بأس تلك القرون
وكن بالمآدب إلف سكون
فلم يملك النفس عما تعود
وراح برازهم يتعمد
وفاز عليهم بنصر مبين
وكنت له خير عون مكين
فذاك أبوك وأنت بعكسه
كأنك أنتجت من غير جنسه
فإما العياء أباد قواكا
وإما جزعت لبأس عداكا
أقيك الردى وأليك وأنهض
قواك وأنت عن الحرب معرض»
فقال: «نعم كل ذا أعلم
وعنك الحقيقة لا أكتم
فلا عي لا جبن قلبي يخامر
ولكنني قد أطعت الأوامر
أما قلت إن تلق قبريس فاضرب
وعن غيرها من بني الخلد أضرب
وهاك إله الوغى أبدا
يقاتل بالنفس صدر العدى
لذاك أمرت الجنود تقهقر
ويبقى هنا للدفاع المعسكر
83
فقالت: «إذا يا أعز البشر
إلي فدونك فصل الخبر
فلا تخشه الآن حيث استقرا
ولا غير رب وكل لي أمرا
تقدم إليه لقرب المجال
بخيلك واطعنه غير مبال
ولا ترع ربا عتا لا يبر
وليس على حالة يستقر
84
فمن قبل واثقنا بالعهود
بصدر سراياكم أن يذود
وها هو بين الطراود قاما
يصول ولم يرع ذاك الذماما»
ومن بعد ذا دفعت إستنيل
فهب إلى الأرض حالا يميل
85
وقامت بمجلسه مغضبه
حذاء ذيوميذ بالمركبه
فأثقل يرتج جذع يميد
بربة بأس وقرن شديد
مضت بالأزمة والسوط تجري
تروم لرب الوغى شر قهر
وكان ابن أوخسيوس البطل
بريفس أشد الأتول قتل
وبادر والدم يخضبه
يصول وفالاس ترقبه
فخوذة آذيس ألقت عليها
لتخفى عليه ويبدو لديها
86
وغير ذيوميذ ما نظرا
فأبقى القتيل طريح الثرى
وكر كذاك ذيوميذ كر
وكل سلاح البراز شهر
فأرسل رب النزال السنان
يمر على النير فوق العنان
ولكن فالاس مدت يدا
وعنه أطاشته فابتعدا
87
وذوميذ بالرمح حالا طعن
فألقته في خصر رب المحن
فتحت الحزام الأديم تخضب
وهم ابن تيذيس الرمح يسحب
فصاح أريس بصوت دوى
يزعزع أركان ذاك الفضا
كعشرة آلاف قرن يصيح
معا فوق ذاك المجال الفسيح
88
فخار الفريقان واضطربا
وآريس بالسحب احتجبا
رآه ذيوميذ وهو يطير
بقلب الغمائم بادي الزفير
بخارا تقتم تحت الغيوم
تهب به عاصفات السموم
فأدرك أولمبسا بالعجل
وجاء إلى زفس جم الوجل
وقر لديه يريه دماه
يبث له حنقا مشتكاه: «أترضى ولي البرايا بما
ترى من فظائع آل السما
على بعضنا بعضنا يفتري
جزافا لأجل بني البشر
ولوم الجميع عليك استقر
لأنك أنتجت ربة شر
أليفة حمق حليفة نكر
وليست لغير المفاسد تجري
فكل أهالي السما لك تخضع
أنت لها كلما شئت تردع
سوى فالس عن مجازاتها
تجاوزت تغفل زلاتها
فلست لها أبدا تنتهر
ومن نفسها هي لا تعتبر
وتطمع مغترة بأبيها
لأن قواه الشداد تقيها
فها هي تغري ابن تيذيس أن
يصول علينا ويرمي ويطعن
فأقبل يطعن قبريس باليد
وصال علي كرب مخلد
ولو لم أطر بخفيف القدم
لألقيت بين رفات الرمم
89
وإلا وعني الحمام منع
لعانيت آلام من قد صرع»
90
فأطرق زفس مغيظا وقال: «عتوت ولا تستقر بحال
فلا تشك أمرك بعد إليا
فإنك أبغض رب لديا
فدأبك ما زال بين الأنام
شقاقا ومفسدة واختصام
فأمك هيرا وعرق العناد
سرى لك منها وهذا الفساد
يثقلني ردعها وإخالك
تقفيتها وبذاك وبالك
ولكنني لست أرضى عذابك
لأن لزوجي وصلبي انتسابك
فلو كنت ما أنت من غير رب
لأهبطت من قبل أدنى الرتب
وسفلت بالذل والهون عن
بني أورنس من قديم الزمن»
91
وفيون نادى فبلسمه
على الجرح ذر فألأمه
ففي الحال والموت لا يعتري
بني الخلد في لحظ طرف بري
كما يخثر اللبن المختلج
عصير من التين فيه مزج
وهيبا على عجل غسلته
وفاخر ملبسه ألبسته
وبالعجب والتيه والكبر أقبل
إزاء أبيه لدى عرشه حل
ومذ أخمدت نار فتنته
وخفت شرارة وطأته
أثينا وهيرة أسرعتا
ونحو أعالي السما علتا
92
هوامش
النشيد السادس
اجتماع غلوكوس بذيوميذ ووداع هكطور لزوجته أنذروماخ
مجمله
خلت ساحة الحرب من كل رب
وثار العجاج بطعن وضرب
وما كادت تخلو حتى استظهر الإغريق وولى الطرواد منهزمين، فأوقفهم هكطور وجرى مسرعا إلى إليون يسأل أمه الملكة أن تستمد عون الإلاهة أثينا، وتسترضيها بالضحايا والنذور دفعا لهجمات الإغريق وبطلهم المغوار ذيوميذ، ولما احتجب هكطور برز لذيوميذ غلوكوس زعيم الليقيين، وقبل أن يصطدما استطلع كل منهما طلع الآخر، فأدى بهما ذلك إلى أن تعارفا واذكرا ما كان بين ذويهما من التواد والتصافي بحقوق الضيافة فتصافحا وافترقا على غير قتال، أما هكطور فإنه دخل إليون، وسأل والدته أن تذهب بكبيرات العقائل فيتشفعن أثينا ففعلت، وصعد من ثم إلى حجرة أخيه فاريس، فلقيه مع هيلانة، فمال عليه بالتقريع والتونيب واستحثه على معاودة الكفاح، ثم سعى يطلب امرأته أنذروماخ فلم يجدها في منزلها، وأنبئ أنها ذهبت ترقب حركات الجيش من فوق الأبراج فجرى عاديا، إليها فلقيها مع طفله وجرى له معها حديث ذو شأن ثم ودعها وانصرف يجري إلى ساحة القتال، وكان فاريس قد شك في سلاحه فلحق به وخرجا مندفعين إلى السهل.
مجرى حوادث هذا النشيد في اليوم السابق ومشهد وقائعه بين نهري سيمويس وإسكندر، ثم في إليون.
النشيد السادس
خلت ساحة الحرب من كل رب
فعج العجاج بطعن وضرب
1
فمن سمويس إلى زنثس
قراع السيوف ومد القسي
فبادر بالقوم أول باد
أياس يشق صفوف الأعادي
2
ففرج أول هم وباس يص
رع ابن إفسورس أكماس
3
أشد الثراقة بأسا شديد
وجبار هول وقرم عنيد
لواه أياس بطعنته
فغارت بقلب تريكته
وشقت إلى المخ عظم الجبين
فجندل ميتا غضيض الجفون
تلاه ابن نثراكسيل الأغر
نزيل أرسبا الغني الأبر
ففي مضرب السبل كان يطوف
يغيث العباد ويقري الضيوف
وفوق الطريق بنى داره
ليكرم بالقرب زواره
4
أعان ولم يجده ما أعانا
ولم يك من عنه يلقى الطعانا
5
بسيف ابن تيذيس صرعا
وخادمه كلسيوس معا
وخر أفلط كذاك ذريس
بعامل فريال صدر الخميس
فراح وأبقاهما بالزفير
على أسفوس وفيذس يغير
حفيدي حليف العلى لومدونا
وفرعين من بكره بقليونا
نشا خفية بقليون بحجر
فتاة أحب أبوه بسر
ولما ترعرع ساق الشياه
فرامته إحدى بنات المياه
6
فدان لبربارة قلبه
وعن توأمين انجلى حبه
فبأسهما ابن مكست أبادا
ونال سلاحهما مستفادا
وفوليفتيس رمى أستيالا
وأوذيس بالرمح مال وصالا
جرى يطعن الفرقسي فذيت
وطفقير آريتوون يميت
وأصمى ابن نسطور أنطيلخس
بنافذ عاسله ابلرس
وأتريذ مولى الموالي قتل
إلاتوس قرم فداسا البطل
وفيلاق ولى يروم الفرارا
فنال بطعن لطوس البوارا
وميلنثيوس رمى أورفيل
وأذرست حيا دهاه منيل
فجيش الطراود والفتك دار
يهم قد تراموا بباب الديار
وأذرست شبت تغير الخيول
به جامحات بتلك السهول
بغصن من الأثل والكبكبه
تباريه أنشبت المركبه
فسحق مضمدها والجياد
أغارت وقد أفلتت للبلاد
وأذرست للأرض مذ صرعا
إزاء محالاتها وقعا
7
فأدركه وهو يجري منيل
برمح طويل وسيف صقيل
على ركبتيه ترامى ذليلا
وقال: «ألا فاعف وارض بديلا
فإن كنوز أبي بادخار
حديدا وصفرا وصافي نضار
فإن تعف عني فأقتاد حيا
لفلكك يولك كنزا مهيا»
فرق وكاد إلى صحبه
يشير إلى الفلك تمضي به
إذا بأخيه يشق الصفوفا
ليوليه عذلا ولوما عنيفا: «تعست منيلا وأنت تلام
علام رحمت أولاء اللئام
بأي خنى لم يسيئوا إليكا
وأي أسى لم يهيلوا عليكا
أجل فليبيدوا ويفن الجميع
فتاهم وشيخهم والرضيع
ولا ينج ناج وتبل الجسوم
ولا يعل قبر وتمح الرسوم»
8
أصاخ منيلا له وارعوى
وأذرست صد بكل القوى
وفي خصره آغممنون ألقى
سنانا يشقق أحشاه شقا
وداس على صدره واسجره
ونسطور صاح يشدد أمره: «أيا دانويون آل الطراد
موالي أريس رقيب الجلاد
فمنكم لا يتخلف كمي
على السلب والكسب كي يرتمي
فيقفل للفلك فيما ادخر
فيلهو وذا اليوم يوم الظفر
أبيدوا الرجال بدار النزال
فيخلو المجال وثم المنال»
9
فهاجت بهم نفثات الحميه
وماجت تجيش النفوس الأبيه
وكاد الطراود والعزم خارا
يولون نحو الديار فرارا
ولولا أخو هكطر هيلنوس
أجل العوارف يثني الرءوس
10
لولوا ولكن أتى هكطرا
وأنياس يبغيهما منذرا: «ألا مذ تحملتما الفادحات
ومذ كنتما رأس كل الكماة
بسل القواضب بأس شديد
وحل المصاعب رأي سديد
11
قفا استوقفا الجند عند الحصون
لئلا تولي اتقاء المنون
وطوفا بهم بحفيف القدم
أثيرا القوى واستحثا الهمم
مخافة أن يدفعوا بالأسى
مولين حتى حجور النسا
فإما التجلد منا بدا
أمنا شماتة لد العدى
ونحن إذا الجاش بالجيش ثارا
لبثنا نذود ونحمي الذمارا
فلا نجوة من دواعي الضروره
وإن بلغ العي منا أخيره
وإن نهض العزم بين الجميع
أهكطور فاجري سريعا سريع
إلى أمنا طر وقل تذهب
جميع النبيلات تصطحب
وتمضي إلى قمة القلعة
لهيكل فالاس بالسرعة
وتفتح في الحال أبوابه
وتدخل بالذل أعتابه
وتحمل أبهى نقاب لديها
ليسبل فيه على ركبتيها
وتنذر عند اندفاع البليه
تقود اثنتي عشرة للضحيه
تبائع ما قرنت تحت نير
إذا هي منت بدرء الشرور
12
وحنت لدمع النسا والبنين
ومنت علينا بحرز أمين
وصدت ذيوميذ روع البلاد
نذير البلا واندكاك العماد
13
نعم هو ظني أشد العدى
وأطولهم صولة ويدا
ولست أحاشي كذاك أخيلا
وإن كان للربة ابنا جليلا
فهاك تراه تحدم نارا
وأذكى الأوارفليس يجارى»
فما كاد يكمل قولا وقع
لمهجة هكطور حتى اندفع
وهب يغير من العجله
وعدته ترسل الصلصله
يهز القنا وبخوض الصفوف
يهيج النفوس لقرع الحتوف
فهاج الطراود بأسا وماجوا
وتحت خطاهم عج العجاج
فصد الأغارق قتلا وزحفا
وكفوا عن الطعن والضرب كفا
وخالوا وقد بلغ البأس حده
بني الخلد قد رفدوهم بنجده
وهكطور والقرع يعلو صديده
بهم صاح كالرعد يدوي هديده: «أقوم الطراود جند البئوس
ونجادهم مستجيشي النفوس
فها أنا أقصد أبراجنا
لألقى الشيوخ وأزواجنا
لكي ينهضوا وبنذر الضحيه
يآلوا ادراء لهذي البليه
فلا تبرحن كعهدي بكم
بتصعيدكم وبتصويبكم»
14
ولما انتهى راح توا يسير
على قدميه وكاد يطير
وأهداب مجوبه الأسحم
من الرأس تضرب للقدم
15
فشق غلوكس صف الرجال
كذاك ذيوميذ يبغي القتال
16
وعند التلاقي وقد بلغا
خلال الجيوش مرامي الوغى
ذيوميذ بادره بالسؤال: «فمن أنت قل يا أشد الرجال
فإنك ما لحت لي قط قبلا
وسمر العوامل تفتل فلا
وإني إخالك فقت الجميعا
لأنك لم تخش فتكي الذريعا
فويل أب لم يهبني ابنه
فلا شك يهلكه حزنه
فإن كنت من قوم آل الخلود
فقل وأصدقني حتى أعود
فليكرغ قاوم آل السما
فما قام قائمه بعد ما
تقفى مراضع رب الخمور
على طود نيسا خلال الصخور
فروعهن بسوط الفنا
فأسقطن من يدهن القنا
وريع ذيونيس منه وغاصا
إلى لجة البحر يبغي الخلاصا
17
فضمته ثيتس إلى صدرها
تخوله الأمن في بحرها
وليكرغ من ثم كل إله
يعيش بدار النعيم قلاه
وزفس بلاه بكف البصر
وأهلكه عبرة للبشر
18
أنا لست أبغي لقاء الأولى
أنيلوا الصفا في الديار العلى
19
فإن كنت تغذي نتاج التراب
فأقبل وذق من ذراعي العذاب»
فقال: «علام اقتصصت الخبر
ونحن كأوراق هذي الشجر
فبعضا يبيد الهواء وبعض
على منبت بائد النبت غض
ففي كل عام نبات أبيدا
به الغاب تنمي ربيعا جديدا
وكل على إثر كل مشي
فجيل تلاشى وجيل نشا
20
ولكن إذا شئت مني الحسب
فإني ممن سما وانتسب
فإيفيريا بلد من بلاد
بأطراف أرغوس أرض الجياد
بها كان سيسيف أدهى الأنام
سليل أيولا عزيز المقام
وكان غلوكس له ابنا كما
لهذا بليروفن قد نما
ففاق بليروفن بالجمال
وممتدح البأس كل الرجال
وقد كان فيض زفس انتصارا
لإفريط فاحتل تلك الديارا
21
ودانت له كل تلك الأمم
كذاك بليروفن ذو العظم
ولكن إفريط أضمر شرا
له إذ رآه ترفع قدرا
فبادر يطرده مستبدا
وزوجة إفريط رامته وجدا
وعن نفسه راودته فأعرض
عفافا وللعرض لم يتعرض
له أضمرت أنتيا كل شر
وقالت لإفريط تهمي العبر: «فموتن أوفليمت من أراد
بأهلك سوأ سحيق الفؤاد»
تحدم إفريط لكن خشي
نذيرا خفيا ولم يبطش
وخط على رقعة مهرا
رسوم الحمام كما أضمرا
22
وسيره لحميه المبجل
بليقية بالكتاب ليقتل
23
فسار وآل العلى حرس
عليه لحيث جرى زنثس
تلقاه بالبشر مولى البلاد
وأكرم مثواه ضيفا وزاد
فتسع ليال كذا عبرت
عجول بعدتها نحرت
24
ولما انجلى عاشر العشره
بوردي أنمله النضره
بدا ملك ليقية بالخطاب
فألقى الرسول إليه الكتاب
فلما تناوله وتلاه
لقتل الخميرة حالا دعاه
25
مروعة من بنات الخلود
على قمم الشم قسرا تسود
لها رأس ليث على ذيل أفعى
على جسم تيس من المعز يرعى
ومن فمها نفثات الأوار
تقاذف نارا تثير الشرار
ولكن بآل العلى وثقا
وكل وجود لها محقا
وثنى بقتل رجال البئوس
عظام السليمة شم الرءوس
26
وثلث يفتك والمرهبات
أمازونة الهول حتفا أمات
27
وما كاد يفرغ حتى أقيم
له في الطريق كمين عظيم
فأفناه طرا ولم يذر
له ذلك اليوم من أثر
فريع المليك وكف الأذيه
وأيقن عزوته علويه
وأعلاه مستبقيا بالجلال
وأنكحه ابنته باحتفال
وشاطره الحكم والشعب رام
يقيم لديهم عزيز المقام
لذا أقطعوه هبات غزيره
جنانا حسانا وأرضا وفيره
وقد ولد ابنين إيسندرا
كذا هفلوخ الرفيع الذرى
ولوذمية المجتباة ومن
بها هام زفس شجا واقترن
ومنها نشا سرفدون المعلى
ولكن بليروفن سيم ذلا
28
فراح يهيم على آلس
بعيدا عن الناس والمؤنس
29
فحط لدى ساكني الخلد قدرا
وساموه بعد الترفع قهرا
فإيسندرا آرس قتلا
بحرب السليمة روع الملا
ولو ذمية أرطميس قلتها
ولم تعد من بعد أن جندلتها
30
وظل هفولوخ حيا لنا
فذاك أبي وهو أرسلنا
31
فقد حثني أن أخوض المجالا
وألقى بصدر الجيش الرجالا
وأعلى منار جدودي الأولى
أنيلوا الفخار وشادوا العلى
فهم دوخوا كل قرن عتا
بليقية وبإيفيريا
فذا نسب فيه يعتز مثلي
وهذا إذا شئت أصلي وفصلي»
32
فكف ذيوميذ مستبشرا
وأركز عاسله في الثرى
وقال: «إذن لك حق الإخاء
علي وإني حليف الولاء
أتدري لأونفس جدي قديما
بليروفن كان ضيفا كريما
وعشرين يوما له خلت
أقام على الرحب والسعة
وقد أحكما للوفاق الوثاق
قبيل حلول أوان الفراق
فجدي أهداه أبهى نجاد
توشت ببرفيرها المستفاد
وجدك كأس نضار أغر
إلى الآن في منزلي تدخر
وإني أبي تيذيس ما رأيت
ولكنني عنه هذا رويت
فقد كنت في المهد لما الأخاءه
بثيبة بادت ومنها الإساءه
فإنا ترانا حليفي وداد
وما بيننا لا يحل الجلاد
فأنت بأرغوس ضيفي الجليل
وفي ليقيا لك إني نزيل
كفاني ما في العدى من رجال
أصول عليها فتلقى الوبال
سواء بنو الخلد ساقت لباسي
أو اجتحتها مستطيلا بنفسي
وأنت كفاك بقرع البلا
رجال تروم لها مقتلا
وخذ للوفاق سلاحي دليلا
وهات سلاحك عنه بديلا
ليعلم أنا نراعي العهود
وحرمة آبائنا والجدود»
هناك ترجل كل فريق
وبعد التصافح عهد وثيق
وزفس غلوكس رشدا سلب
فنال نحاسا وأعطى ذهب
33
فشكته مئة من عجول
تساوي وذي تسعة لا تعول
34
سار هكطور حثيثا وأتى
باب إسكية والزان ظليل •••
فتلقته نساء وبنات
منه علما تتقصى سائلات
عن بنيهن وإخوان ثقات
35
وبعول وأخلا فأمر
أن يبادرن على ذاك الأثر
ويصلين لأرباب البشر
علها تدفع عنهن الأذى
ولزاهي قصر فريام مضى
هو صرح شيد بالنحت الجميل
فوق أبواب رواق مستطيل
ضمنه صف بديع المنظر
غرف قد بنيت بالمرمر
كلها خمسون ملس الحجر
لبني فريام شيدت مضجعا
وثوت أزواجهم فيها معا
ويحاذيهن صف رفعا
فيه بالإيناس والرغد ثوى
مع كل ابنة الصهر الحليل
36 •••
لبنات الملك شيد اثنا عشر
منزلا طرا بمصقول الحجر
بسقوف شائقات للنظر
37
ثم هكطور إلى الدار ارتقى
حيث بالأم على الفور التقى
عجلا تمضي إلى لاووذقا
أجمل الغادات في ذاك الفنا
فعليه أقبلت توا تميل •••
أمسكته بيد وهي تقول:
وعلام الآن غادرت السهول
38
وإلينا عدت تبدو بقفول
آه ما أدهى الأغاريق الأولى
دهمونا بمعدات البلى
إنما أعلم تبغي عجلا
ترتقي من قمة البرج الذرى
حيث تدعو زفس للخطب الجليل •••
فاسترح حينا وبالراح أعود
لتزكيها لأرباب الخلود
ثم تسقى فهي ريحان الكبود
تنهض العزم وتفني التعبا
بقواك العي أدري ذهبا
39
بذياد عن رفاق نجبا»
قال: «يا أماه تنحط القوى
بارتشافي الآن شهد السلسبيل
40
وكذاك النذر حتما حرما
بيد دنسها سفك الدما
أيجيز النذر لي زفس كما
أنا مخضوب وغشاني الغبار
فبدار الآن في الحال بدار
41
واقصدي هيكل فالاس المزار
فهي الملجا لها النصر انتمى
واصحبي الغادات والطيب الثقيل •••
واحملي أغلى وأعلى برقع
لك في القصر العظيم الأرفع
وعلى ركبتها فيه ضعي
وانذري أن ترجعي مبتدره
بالضحايا الغر ثنتي عشره
من تباع بكر مدخره
إن تشأ أن تدرأ اليوم الأذى
وعثار الولد والأهل تقيل
ورأت تدفع عن قدس البلاد
فرع تيذيوس رواع العباد
بطل البول وهدام العماد
42
فاذهبي أنت ولوذي بالنقى
وأنا فاريس أدعو للقا
عله يسمع نصحا صدقا
آه لو تدفعه الأرض إلى
جوفها أشفي من النفس الغليل •••
آفة أوجده زفس لنا
علة حتى يزيد الشجنا
أنا إن يهلك يزل عني العنا»
43
لبت السؤل وصاحت بالجوار
لينادين نبيلات الديار
وأتت غرفتها حيث استطار
عابق الطيب ومنشور الشذى
فوق أزر زانها الوشي الجميل •••
نسجتها غيد صيدا نقبا
والفتى فاريس منها جلبا
عندما هيلانة قبل سبى
44
فانتقت مقنعة قد وضعت
فوقها مثل الدراري سطعت
وفرت ألوانها واتسعت
ومضت إيقاب في جل النسا
تقصد المعبد في البرج الأثيل •••
وثيانو بنت كيسيس الصفي
زوج أنطينور الفارس في
عجل قامت إلى الباب الخفي
فتحته إذ لتلك الربة
جعلت كاهنة عن ثقة
45
فرفعن اليد بالولولة
نحو فالاس وسلمن الردا
لثيانو ربة الخد الأسيل •••
فلها ألقت به فوق الركب
ودعت طالبة درء النوب: «يا ذمار الدار يأكل الأرب
اسحقي رمح ذيوميذ الألد
واصرعيه عند أبواب البلد
فنضحي لك إن تحم الولد
ونسانا من تباع تنتقي
باثنتي عشرة بالشكر الجزيل»
46 •••
هكذا كان الدعا لكن أبي
لرجاهن استماع الطلب
إنما هكطور لم ينقلب
بل سعى يجري إلى الإسكندر
حيث وافاه بقصر أزهر
شاده قرب المقام الأكبر
حيث فريام وهكطور ثوى
في أعالي قمة البرج الطويل •••
شاده أمهر أرباب الحرف
برواق عرصات وغرف
فإليه فيه هكطور ازدلف
بقناة حدها القاري انتشر
بلغت طولا ذراعا وعشر
وعليها فتخة التبر الأغر
47
فلديه ثم فاريس بدا
يصقل الشكة والدرع الصقيل
عنده هيلانة بين الإماء
تنفذ الأمر بحذق واعتناء
قال هكطور: «أيا أس البلاء
بئس ما أفرغت من هذا الغضب
والأعادي بلغت منا الأرب
ثارت الحرب وأولتنا الحرب
أنت لو خلت فتى عنها التوى
سمته التعنيف بالسيف السليل
كر أو لا فأعادينا الثفال
تضرم الحصن وتجتاح الرجال»
48
قال والأرباب حاكى بالجمال: «بملامي قد أصبت الغرضا
فاتخذ قولي صدقا فرضا
أنا لم أحنق بل اخترت الرضا
إن أكن غادرت كرات الوغى
فلكي أصلى لظى قلبي العليل •••
زوجي الآن ألانت لي المقال
تبتغي عودي إلى دار النزال
صدقت ظني والحرب سجال
فانتظرني الآن أشكك في السلاح
أو تقدمني إذا شئت الرواح
فأوافيك سريعا للكفاح»
49
صامتا هكطور ذا القول وعى
وندا هيلانة شهدا يسيل: ••• «آه هكطور أخي كل الشرور
والرزايا الدهم من أجلي تثور
آه لو كانت رحى الريح تدور
يوم ميلادي وتيار الأوار
للجبال الشم بي كالطير طار
أو رمى بي فوق أمواج البحار
قبل أن أخذل من دون الملا
وأعاني ثقلة الخزي الوبيل
50
إن هذا قدر الأرباب في
حكمها لكنها لم تنصف
كان أولى أن تراعي شرفي
فيكون الآن لي بعل أشد
كاشف العار ودراء الشدد
إن فاريس هوى النفس اعتمد
سوف يلقى شر أعمال جنى
وأرى الإصلاح أمرا مستحيل •••
فاسترح حينا فأنواع العنا
شملتك الآن من شري أنا
وشجا فاريس زاد الشجنا
هكذا زفس علينا قدرا
لنظل الدهر هزأ للورى»
قال: «يا هيلانة لست أرى
لي عن الجري إلى القوم غنى
ما لهم عني إذا غبت بديل •••
حرضي زوجك أن يلحق بي
وأنا أمضي لقصري الأرحب
لأري فيه أعز النسب
زوجتي حينا وطفلي المرضعا
لست أدري هل قضي أن أرجعا
أو يد الإغريق تفري الأضلعا»
ثم جد السير للقصر على
عجل يلقاهما قبل الرحيل
51 •••
خاب ما أمل إذ لم يجد
زوجه الحسناء بيضاء اليد
فهي مع جارية والولد
ذهبت ترقب بالبرج الأثر
تصعد الأنفاس عن هامي العبر
داس بالأعتاب واقتص الخبر:
52 «أين يا هذي النسا قلن لنا
أنذروماخ مضت أي قبيل
هل إلى بعض بيوت الأخوات
أو نساء الإخوة المستعصمات
أو إلى الهيكل تلقي الدعوات
مع بنات الحي تبغي المددا
حيث يستمددن بالدمع اليدا
من أثينا خوف كرات العدى»
قلن: «لم تذهب إلى الأهل ولا
ذهبت قلب أثينا تستميل
قد بغيت الحق والحق يقال
فهي في السور ببلبال وبال
علمت في قومنا حل الوبال
فرأيناها جرت نحو الحصون
جري من داهمه مس الجنون
تصحب المرضع والطفل الحنون»
فانثنى هكطور من حيث مضى
وعلى الفور جرى والصبر عيل
53
بين أسواق بمرصوف البنا
أسرع السير وللباب دنا
فهنا زوجته ذات الغنا
بنت إيتيون الشهم الأبر (من بإيففلاقيا ذات الشجر
قبل في ثيبا تعلى واستقر
والكليكيين بالعدل رعى)
أقبلت تصرخ بالقلب الذليل
معها المرضع والطفل الرضيع
ساطعا بالحسن كالنجم البديع
أستيا ناسا يسميه الجميع
54
إذ أبوه ذاد عنهم أجمعا
إنما هكطور والبر رعى
إسكمندريوسا الطفل دعا
55
فإليه باسما سرا رنا
وانبرت زوجته الدمع تهيل: ••• «يا شقي البخت ذا البأس الوخيم
سوف يلقيك بلجات الجحيم
ولي الإرمال والطفل يتيم
سوف تلقاك جماهير عداك
وتلقيك مضاضات الهلاك
فلمن أبقى إذا مت سواك
آه لو ألقى إلى جوف الثرى
قبل أن تلقى على الأرض قتيل •••
إن تموتن الأسى يخلد لي
وعنا النفس ودمع المقل
لا أب أسلوبه لا أم لي
فأبى آخيل ذو البطش قتل
عندما ثيبا الكليكيين حل
56
إنما الأرباب أولته الوجل
فارعوى منقلبا عما توى
ولحر السلب لم يبغ سبيل •••
أحرق الجثة في شكتها
ثم واراها إلى تربتها
في ضريح شاد في جيرتها
57
حوله غيد الجبال الشامخات
نسل رب الترس سحاق الرفات
58
قد غرسن الدلب حبا بالممات
إخوتي سبعة أبطال كذا
دفعة بادوا وما لي من خليل •••
ذلك القرم دهاهم في الحقول
بين أسراب شياه وعجول
وانثنى من بعد ذا الخطب يصول
ولأمي الأمر بالحكم خلا
فتقفاها لتعميم البلا
ساقها للأسر في ما أرسلا
أجزلت فديتها لكنما
أرطميس اتبعت شر آخيل •••
رشقتها بسهام الغضب
59
أنت أمي وأخي أنت أبي
أنت بعلي أنت كل الأرب
أنت كل الأهل لي إذ أنت حي
آه فارحم وانعطف رفقا علي
آه فارفق بي وبالطفل لدي (أنا لا أطمع أن تأبى الوحى
وعن الهيجاء جبنا تستقيل
إنما أرغب أن تحمي الذمار
وتقي نفسك من شر البوار)
فهنا السور تداعى للدمار
فبغاه كل ذي عزم وباس
كذيوميذ وأتريذ أياس
وثلاثا كاد يندك الأساس
لست أدري هل أتوه عن هوى
أولهم قد كان في الوحي دليل •••
قرب تين البر فوق البرج قر
وتحفظ فيه من شر أمر
فلك النجو (وللجيش الظفر)
ولي السلوى وللطفل الرجا»
60
قال: «ما يشجيك يوليني الشجا
إنما الموقف أضحى حرجا
نزل الروع وبي العزم أبى
أن يكون الروع في القلب نزيل •••
بين أقوامي وربات السدول
61
لست أرضى العار إن تعل النصول
أو عن الهيجاء يثنيني الخمول
وأنا دوما بصدر الفيلق
شأن فريام وشأني أتقي
وأقي قومي بحد المحقق
آه لكن فؤادي والحجى
ينبئاني أن صمصامي كليل •••
سوف تندك بإليون القلاع
وتوافينا الملمات الفظاع
كل هذا منه قلبي لا يراع
لا إذا أمي في الترب ثوت
أو أبي من دمه السمر ارتوت
أو رميم الإخوة الأرض احتوت
لا إذا الطرواد بادوا وإذا
خرق الزرقاء للجو العويل
بيد أن الخطب كل الخطب آه
أن تكوني في سبيات العداه
تذرفين الدمع عن مر الحياه
تستقين الماء كالعبد الأسير
من مسيس أو ينابيع هفير
تنسجين القطن والقلب كسير
كل بؤس كل رزء وعنا
كله إن حل ذا الرزء قليل
كله لا شيء إن صح الصحيح
ولديهم كنت والدمع يسيح
والذي يلقاك بي هزأ يصيح: «تلكم زوجة هكطور الشديد
خير ما في القوم من قرم عنيد
كم له قرع بذراع الحديد» «تل صدر الجيش تلا وهنا
سبيت زوجته وهو تليل»
62
فتصيحين وتصلين السعير
تستجيرين ولكن من يجير
إن يكن هكطور في الترب قرير
فلك الرق وأنواع العذاب
يا لحود الأرض واريني التراب
قبل أن يدهمني هذا المصاب
وأنلني أيها الخطب البلا
قبلما زوجي للسبي تنيل»
63 •••
ثم مد اليد للطفل فصد
جازعا لما رأى تلك العدد
من نواص سابحات وزرد
وبصدر المرضع الطفل ارتمى
فلديه أبواه بسما
وبرفق عنه هكطور رمى
ذلك المغفر والطفل بدا
بيديه بين تقبيل يجيل
ودعا يسأل أسياد الأنام: «أنت يا زفس وأربابا عظام
عونكم أسأله في ذا الغلام
فليكن مثلي هصار الأسود
وهو في إليون بالبأس يسود
وإذا من موقف الحرب يعود
فليقل فوق أبيه قد سما
سل سيف الفوز يا نعم السليل •••
وليجندل كل جبار أبي
فائزا منه بحر السلب
تتلقاه بيادي الطرب
أمه جاذلة مما ترى»
64
ثم ألقاه لها مستبشرا
وهي ضمته لصدر عطرا
بسمت باكية وهو رنا
مشفقا ينظر للطرف البليل •••
ثم ناداها وقد رام العجل «لا يشق الأمر لا يعن الوجل
ليس موت قبل إدراك الأجل
65
كل صنديد ورعديد جبان
مذ تبدى بوجود للعيان
ليس ينجو من تقادير الزمان
ولكل عمل فامضي كفى
واطلبي أعمال ربات السديل •••
فلك النسج وفتل المغزل
ولنا إعمال سمر الذبل
66
وأنا الإيقاع بالأبطال لي»
لبس المغفر حالا ووثب
ومضت تلفت من حيث ذهب
تذرف العبرة والقلب التهب
دخلت للصرح يوليها الشجا
زفرات أشجنت كل الدخيل •••
فعلا بين جواريها النحيب
حين أبصرن بها ذاك اللهيب
عمت الأحزان في القصر الرحيب
هو حي وتعمدن الحداد
إذ توقعن له وقع الصعاد
67
لم يؤملن له حسن المعاد
لم يقل بعد أبادته العدى
إنما نحن كما لو كان قيل
68
مضى وبعالي الصرح فاريس جانح
إلى الحرب منه تستطير الجوانح
69
بعدة فولاذ تألق نورها
جرى وهو بين الطرق كالبرق رامح
كمهر عتي فاض مطعمه على
ربائطه يبتتها وهو جامح
70
ويضرب في قلب المفاوز طافحا
إلى حيث قلب الأرض بالسيل طافح
يروض فيه إثر ما اعتاد نفسه
ويطرب أن تبدو لديه الضحاضح
ويشمخ مختالا بشائق حسنه
يطير وأعراف النواصي سوابح
وتجري به من نفسها خطواته
إلى حيث غصت بالحجور المسارح
71
كذا كان فاريس وقد جد مسرعا
عليه كنور الشمس تزهو الصفائح
فأدرك هكطورا عن الأهل قد نأى
تحث خطاه للكفاح القرائح
فقال: «أخي إني أراني مبطئا
فعزمي مرجوح وعزمك راجح»
فقال: «أيا فاريس ما كان منصف
ليبخسك القدر الذي أنت رابح
فأنت أخو البأس الشديد وإنما
بوجدك قد تثنيك عنه الجوارح
ويلتاح قلبي إن لحتك جنودنا
وأنت مدار الخطب والخطب فادح
72
فهي فليس الآن للبحث موضع
سنبسطه إن لم تبدنا المذابح
وإن شاء زفس أن يقيض نصرة
ويدفع أقواما شدادا نكافح
سترفع أقداح المسرة والتقى
وتذكي لأرباب الأنام الذبائح»
هوامش
النشيد السابع
براز هكتور وآياس
مجمله
لما بلغ هكطور وفاريس معسكر قومهما اضطرمت جذوة الحرب، وكادت تدور الدائرة على الإغريق، فخشيت أثينا عاقبة الأمر وهمت بإغاثتهم، فلحق بها أفلون نصير الطرواد فاتفقا على إيقاف القتال في ذلك اليوم، على أن يبرز هكطور مناديا بطلب أشد اليونان بأسا لبرازه، فأوحيا إلى هيلينوس العراف أن يوعز بمآل وفاقهما إلى هكطور، فتفدم وطلب بطلا من أبطال اليونان فأخذهم الذهول والصمت، فقام منيلاوس ورماهم بالجبن والوهن وعقبه نسطور الشيخ بكلام مؤثر، فبرز منهم تسعة فاقترعوا فأصابت القرعة آياس، فشك بسلاحه وبرز لهكطور ولم يزالا بين كفاح وصدام حتى فصل بينهما الظلام، فافترقا وانحاز كل جيش إلى معسكره، فقام بين الإغريق نسطور الشيخ ونادى بإيقاف رحى القتال ريثما تدفن جثث القتلى، وقام في معسكر الطرواد أنطينور يستحثهم على التجاوز عن هيلانة وأموالها للإغريق حقنا للدماء، فعارضه فاريس في رد هيلانة وإنما سمح بأموالها وزيادة، فبعث الملك فريام بالرسل إلى الإغريق يبلغهم مفاد كلام فاريس، ويطلب الهدنة لدفن الموتى فلما بلغت الرسل وبلغت الرسالة أبى ذيوميذ إلا الحرب فأقر الإغريق على الهدنة، فدفن كل من الفريقين قتلاه، ثم شرع الإغريق عملا بمشورة نسطور بحفر خندق وبناء معقل لصد هجمات الطرواد، فلم يرق ذلك لفوسيذ وقام يندد بالإغريق بمجمع الآلهة، فأسكته زفس، وصرف الجيشان بعض ليلهما بالإيلام والطعام، ثم جنحا إلى الهجوع.
ينتهي اليوم الثالث والعشرون في هذا النشيد ببراز هكطور وإياس، واليوم الرابع والعشرون بعقد الهدنة، والخامس والعشرون بدفن القتلى، والسادس والعشرون ببناء المعقل وحفر الخندق، ومشهد الوقائع جميعه في ساحة القتال.
النشيد السابع
كذا قال هكطور ثم جرى
إلى الباب يصحب إسكندرا
1
بصدريهما النفس تلهب جمرا
لكيد الأغارق طعنا ونحرا
وجيشهما والحشا يلهب
للقياهما هزه الطرب
كنوتية شقت اليم شقا
بملس المجاذيف والأمر شقا
2
وخارت قواها ومن فضل رب
لها هبت الريح خير مهب
ففازوا بما أملوا ثم ثاروا
بإثرهما واستطار الغبار
فمينستس من بأرنا ولد
لآريش الملك المعتضد
3
وفيلومذا ذات عين المها
بصمصام فاريس غزما وهى
4
وآيون بالعنق تحت الترائك
بمزراق هكطور ألفى المهالك
وإيفينس بن ذكسيس عمد
إلى خيله والأوار اتقد
فقيل بني ليقيا زجه
وغيب في كتفه زجه
فعن خيله للحضيض التوى
غضيض العيون فقيد القوى
فجند الأغارق حلت عراهم
وفالاس فوق الألمب تراهم
إلى قدس إليون حثت خطاها
وفيبوس من فرغموس اقتفاها
لقد كان يرقبها ويريد
لقوم الطراود نصرا مجيد
ولما لدى الزانة التقيا
على الفور بادر مبتديا:
5 «علام من الأفق يا بنت زفس
هبطت بغيظ وحدة نفس
أرفدا لقوم الأغارق حالا
بحرب إلى الآن تجري سجالا
لخطب طراودنا لم ترقي
فسمعا فدونك أصلح حق: «بنا اليوم هيي نكف القتال
ومن بعد ندفعهم للنزال
إلى أن نشاهد يوما أخيرا
لإليون مذ رمتما أن تبورا»
6
فقالت: «نعم إنما ذا مرامي
فقل كيف تأمل كف الصدام»
أجاب: «فهكطور نحو البراز
نحث ليدعو العدى للبراز
7
فلا شك بالغيظ يحتدمونا
ومن جندهم بطلا يدفعونا»
فأقنعها وهلانس تحقق
بكنه حجاه القرار المصدق
8
ولما استتما المقال فحالا
تقدم نحو أخيه وقالا: «أهكطور من زفس بالعقل حاكى
ألا ما استمعت مطيعا أخاكا
فقومك أجلس وقوم العدى
وبين الفريقين قم مفردا
وسل يرسلوا لبراز مهول
إليك فتى من أشد القيول
فقد جاءني صوت آل العلى
بأنك ما آن أن تقتلا»
9
فسر الفتى وجرى قابضا
من الوسط اللهذم الوامضا
10
وسكن جيش الطراود قربه
كذا آغممنون أجلس صحبه
11
وسر الإلاهان مما تجلى
وشكل عقابين في الحال حلا
به نزلا فوق زانة زفس
بها ينظران لطرس فطرس
12
وكان الجنود بتلك السهول
جلوسا صفوفا كثافا تهول
عليها الترائك فوق التروس
وسمر العوامل تنمي البئوس
كيم عليه النسيم انتشر
فأرجف واربد يوهي النظر
13
وهكطور نحو البراح اتجه
وصاح: «أجند الطراود مه
ويا قوم آخاي سمعا فإني
أفيض لكم ما يجول بظني
أرى بيننا زفس قاض العهادا
وللكل هيا الرزايا الشدادا
إلى أن تدكوا قلاع الحصون
أو الحتف تلقوا تجاه السفين
فبينكم خير جند الأغارق
فهل بطل لبرازي تائق
فيخرج بالبأس منتدبا
يصادم هكطورا المجتبى
وإني أبرم معه العهود
وزفس على ذاك خير الشهود
فإن يعملن بي اللهذما
يفر بسلاحي له مغنما
إلى الفلك يمضي به رغدا
ويلقي إلى صحبتي الجسدا
فيمضي لبيتي أفواجهم
ويذكونه هم وأزواجهم
14
وإن نال مني مر الحمام
وأولاني النصر رب السهام
بشكته نحو إليون أهرع
لحيث ببيت أفلون ترفع
15
وأدفع جثته غير خائن
إلى قومه الشعر فوق السفائن
ففي جرف بحر هلاذا الفسيح
يوارونه في مشيد الضريح
وإما بمستقبل الزمن
تمر الأنام على السفن
يقال هنا قبر قرم عنيد
بعامل هكطور قدما أبيد
فيخلد مجدي ويعلو منارا»
فظل الأغارق طرا حيارى
16
سكوتا فلا للقا تجسر
ومن رد بغيته تنفر
17
فقام منيلا يؤجج نارا
حشاه وصاح يفيض احتقارا:
18 «نساء أنادي وليس رجالا
فوا أسفا أمرنا أين آلا
19
فوا عارنا إذ بأبطالنا لم
يكن من إلى هكطر يتقدم
عساكم تراب وماء جميعا
فكلكم بات جبنا هلوعا
20
وليس لكم من فؤاد وشان
وها أنني بارز للطعان
وما النصر إلا لآل العلى
فيؤتونه منة وولا»
وشك يجيل السلاح الجميلا
ولكن أبيت الردى يا منيلا
لقد كاد يصميك هكطور لو لم
تثبطك صيد الجموع وترحم
ومولى الموالي أخوك الأبر
بيمناك أمسك ثم انتهر: «مقرب زفس منيلا أرى
هذوت وجئت إذن منكرا
فمهما بك النفس هاجتك فارهب
فتى من سواك ترى يتهيب
ونفس آخيل الذي لا سبيلا
إلى أن تقاس به وتصولا
لقد كان يجزعه أن يسابق
لملقاه يوم اصطكاك اليلامق
21
فهي اجلسن وألق العدد
فيغري الأغارق قرما أشد
وإن يكف في الحرب وقعا أليما
فيخرج من ذا البراز سليما
فلا شك بالأنس يلوي الركب
وإن كان ليس يهاب النوب»
22
فدان منيلا لنصح أخيه
وكف وطابت نفوس ذويه
وشكته جردوا وانتصب
على الفور نسطور ثم خطب:
23 «ألا أي رزء فوا حربا
بلاد الأخاءة قد نكبا
ألا كم يغص خطيب المرامد
حكيمهم الهم فيلا المجاهد
24
إذا ما درى أن هكطور أخمد
بئوس الأغارق جبنا وأقعد
إلا قبل كم كان بادي الطرب
بمغناه يقتص مني النسب
فأنمي له أصل كل الأغارق
ونسبتهم من قديم ولاحق
ألا لو رآكم على ما أرى
لمد يدا لموالي الورى
ليسألها أن تزج بنفسه
لآذيس زجا لشدة بؤسه
25
أيا زفس يا آثنا يا أفلو
ألا ما أعدتم شبابي فأبلو
26
كيوم بأسوار فيا فظيع
وحول سرى يردنوس السريع
27
لدى نهر قيلادن الحرب ثارت
وأبطال أجناد فيلا أغارت
تصادمها بشديد الكفاح
صناديد أرقاديا بالرماح
وإيرثليون زعيم العدى
شديدا لدينا كرب بدا
عليه سلاح المليك المجيد
إريثوس ذي الصولجان الحديدي
إريثوس من كان يلقى الجموعا
به لا يجيل القنا والفروعا
لذاك بفطيسه ذاع ذكرا
ولكن ليكرغ أصماه غدرا
28
لدى معبر حرج بالقناه
رماه وفطيسه ما وقاه
فخر وقاتله سلبا
سلاحا له آرس وهبا
فظل به العمر يستلئم
إلى حين أقعده الهرم
29
فأعطاه إيرثليون الهمام
فكان به ينبري للصدام
ويدعو ولا بطل يفد
وكل الصناديد ترتعد
فأقدمت تدفعني النفس وحدي
وإن كنت إذ ذاك أحدث جندي
فأولت أثينا ذراعي انتصارا
وجندلت أعلى كمي منارا
فخر لدى قدمي بالحضيض
عتلا غليظا طويلا عريض
فلو كنت أواه غض الشباب
لأدرك هكطور مني العجاب
وأبسل ما بكم من رجال
أراهم أبوا وقع هذا النزال»
فلما استتم الحديث المهينا
لديه انبرى تسعة يبرزونا
فأولهم أول القوم سؤدد
زعيمهم آغممنون عربد
تلاه ذيوميذ روع الرجال
كذاك الأياسان هول القتال
فهب إذومن ثم فتاه
مريون عد إله الكماه
فأوريفل فثواس فأوذس
فصدهم الشيخ بالبشر يؤنس:
30 «عليكم إذن بالقداح تجال
فمن قدحه فاز خاض المجال
31
يسر الأغارق إن أقدما
ويجذل نفسا إذا سلما»
فكل فتى قدحه ضربا
بخوذة أتريذ منتصبا
وجيشهم كله رفعا
لآل الخلود أكف الدعا: «أيا زفس إما أياس وإما
ذيوميذ أو لا فأتريذ حتما»
ونسطور تلك الأقاديح رج
فسهم أياس لديه خرج
وتلك أماني الجنود جميعا
فطاف به الفيج يجري سريعا
يمينا جرى يقصد الصيد قصدا
لهم يبرز القدح فردا ففردا
فلم يك من بالنصيب اعترف
هناك إزاء أياس وقف
فلما تناوله ثم أحدق
برسم به كان من قبل نمق
32
تهلل مستبشرا ورماه
إلى قدميه ونادى الكماه: «أصيحاب ذا السهم سهمي فسرا
فؤادي وإني آمل نصرا
أنا عدتي أبتغي مسرعا
وأنتم لزفس أفيضوا الدعا
سكوتا لئلا لطرواد ينمى
وإن شئتم علنا فنعما
فلسنا لنخشى جلاد الأعادي
ولا بأس لا مكر يلوي فؤادي
فما كنت في سلميس لأربو
يروع حشاي براز وحرب»
33
وكل الأغارق قامت تصيح
وتشخص نحو الفضاء الفسيح: «أيا أبتا زفس رب المعالي
أليف الكمال عظيم الجلال
على طود إيذا أيا من تجلى
أنل نصرك اليوم آياس فضلا
وأما لهكطور تأبى الشنارا
فدع يستو البطلان اقتدارا»
34
وإذ كان جيشهم يتضرع
فآياس حصن الأخاءة أدرع
وشك بزاهي السلاح الصقيل
وأقبل جبار روع ثقيل
يجيل القناة لحر الوطيس
ويبسم عن ثغر وجه عبوس
يسير كرب القتال العسوف
لوقع خطاه ارتجاج مخوف
كآريس يمشي على قوم إنس
إلى الويل سيقوا بفتنة زفس
ففاضت قلوب الأغارق سرا
وخار فؤاد الطرواد طرا
ونفس حشا هكطر خفقا
ومن هول ذا الملتقى قلقا
ولكن تربص حتى الجلاد
ولم يلو مذ كان أول باد
فأقبل آياس في كبره
بترس كبرج على صدره
بهيلا له الصانع الأمهر
تخيوس حدف يفتخر
35
على سبعة من جلود البقر
غشاء من الصفر يوهي النظر
ولما إليه دنا وقفا
وصاح بهكطور: «أقبل كفى
فسوف ترى ما بفرد لفرد
يجيش الأخاءة من فتك أسد
وإن كان آخيل قلب الأسد
وخراق قلب العدو الألد
على أغممنون قد حقدا
وعنا لدى فلكه انفردا
ففينا للقياك جم غفير
فأقبل إلي وأور السعير»
أجاب: «أيا من لزفس انتماه
ويا ابن تلامون قيل السراه
مه لا تخل بي رعونة ولد
وعجز نساء جزعن لصد
ألفت القتال وذبح الرجال
على قدمي وفوق العجال
يساري بالترس مثل يميني
ورقصي في الحرب يعلي شئوني
36
ولم يك شأني غدرا أراكا
بل الحرب صدرا لصدر فهاكا»
وهز المثقف يطعن طعنا
مجن أياس فغار ورنا
فشقق فولاذه والجلود
لسابعها فاستقر يميد
فأرسل آياس رمحا شديدا
على جوب هكطور يفري الحديدا
فبالترس للدرع للثوب أولج
وقد كاد شق الكمي يضرج
ولكن هكطور أهوى وحاد
وإلا لغالته أخت النآد
37
وكلهما اجتذب اللهذما
وحملق ينظر محتدما
كليث يمزق لحم الرجال
وخرنوص بر بعيد المنال
فطعنة هكطور لم تنجب
ولكن لواها قفا المجوب
فقر أياس وما انقلبا
وبالرمح من فوره وثبا
فأنفذ بالترس مرتعدا
إلى العنق يجري دما أسودا
وهكطور عن حزمه ما انثنى
ولكن لوجه الحضيض انحنى
تناول أسود صخر أصم
غليظا به مستشيطا هجم
وعن كف بأس أصاب مجنه
فرنن فولاذه أي رنه
وصيخود صخر أشد رفع
أياس فذبذبه ودفع
بعزم رحاه بقدر الرحى
على ترس هكطور فانطرحا
ومن صلب ركبته الدم سالا
فأنهضه الرب فيبس حالا
38
فجرد كل حسام الهوان
وكادا على القرب يشتبكان
39
ولكن رسولا العلى والبشر
أسيرا يكفان شرا أمر
حكيم الأخاءة تلثبيس
وفضل الطراود إيذيس
فبينهما أسبلا الصولجانا
وثانيهما صاح يلقي الأمانا :
40 «كفى يا بني فكلكما
لدى راكم الغيم قدرا سما
وكلكما باسل وأذيع
فخاركما بلسان الجميع
ولكنما الليل جاء بستره
فحسبكما اليوم طوعا لأمره»
41
أجاب أياس: «فهذا يقال
لهكطور فهو مشير القتال
فإن يطعنك أطعك امتثالا»
فقال ابن فريام هكطور حالا: «أجل إن ربا أياس اجتباكا
ومجدا وبأسا وفضلا حباكا
وقد فقت بالطعن كل الأغارق
فدعنا مجال الكفاح نفارق
فسوف نصول ولن نجبنا
ليقضي رب قضى بيننا
ويولي من شاء عز الظفر
فذا الليل خيم فوق البشر
وشأن الأنام احترام الظلام
فيرجع كل عزيز المقام
فرح يبتهج بك قومك طرا
لدى الفلك والصحب تجذل فخرا
وتطرب طروادة بمآبي
رجال الوغى وذوات النقاب
فيدخلن بي هرعا داعيات
معابد آل الخلود الثقات
وهي نبادل قبيل القفول
نفيس الهدايا وكل يقول:
كفاح شديد أوان التلاقي
وود وطيد قبيل الفراق»
42
وأعطى أياس حساما صقيل
عليه قتير لجين جميل
وعمدا وزاهي نجاد ونالا
حزاما بفرفيره قد تلالا
43
وكل تجاه ذويه انقلب
وبين الطراود فاض الطرب
رأوا أن هكطور بعد الإياس
سليما نجا من ذراع أياس
به نحو إليون ساروا وسارا
أياس إلى القوم يزهو افتخارا
فخفوا لخيمة سيدهم
به يدخلون بسؤددهم
44
فضحى لهم بسديس لزفس
وهم سلخوه ببشر وأنس
45
ومن حوله اجتمعوا يقطعونا
وفوق سفافيدهم ينظمونا
ويلقون في جاحم وهجا
إلى أن جميع الشوا نضجا
فأخرج منه ومد الطعام
وكل حوى سهمه بالتمام
وأتريذ أكرم مغتبطا
أياس فأعطاه صلب المطا
46
ولما أزالوا الظما والسغب
بهم نسطر بالسداد خطب
فذاك الذي قبل أعلى المنارا
فبالحلم والحكم فيهم أشارا: «أأتريذ يا زعماء القبيل
بأقوامنا الشعر كم من قتيل
نجيعهم سال في إسكمندر
وأرواحهم للجحيم تحدر
عليك إذن ببزوغ الشفق
تنادي بكف قتال سبق
47
ونحن بجملتنا بالعجال
نقوم بثيرانها والبغال
48
ونجمع كل قتيل فتك
به في تصادمنا المشتبك
ونحرقهم قرب فلك السراة
ونجمع منهم عظام الرفات
فتحمل ذكرا لأبنائنا
إذا ما قفلنا لأرجائنا
ونبني ضريحا لهم يقصد
على السهل حيث علا الموقد
49
لديه نشيد سورا رفيعا
يقي جيشنا والجنود جميعا
ونحكم أبوابه لتجول
بهن متى ما تشاء الخيول
ومن حوله خندق يمنع
جيوش الطراود إن يدفعوا»
50
فكلهم صرحوا برضاهم
وأبناء طروادة بحماهم
بشماء إليون قد جمهروا
بأبواب فريام واأتمروا
فهاجوا وماجوا بلغط عظيم
فصاح بهم أنطنور الحكيم:
51 «أطروادة يا بني دردنوس
ويا حلفاء وكل الرءوس
إليكم حديثا يخالج صدري
فهيوا بنا نجر أصوب فكر
فنرجع هيلانة الأرغسيه
بأموالها خوف شر البليه
فإنا بأيماننا لم نبرا
وإن نمتنع أخش شرا أمرا»
فقام يجيب فريس الأغر
وزوج هلانة ذات الغفر:
52 «أجل أنطنور شططت بما
يشق علي بأن أعلما
لقد كان أجدر أن تنبذا
حديثا ورأيا يماثل ذا
وإلا فإن كنت رمت السدادا
فآل العلى سلبوك الرشادا
وأشهد رواضة الخيل أهلي
بأني لن أسمحن بأهلي
53
ولكن أموالها وأزيد
عليها فإني سريعا أعيد»
فقام بهم ببهي الجلال
أخو الفضل فريام يبدي المقال: «أطروادة يا بني دردنوس
ويا حلفائي وكل الرءوس
إليكم حديثا يخالج صدري
ألا فانهضوا للعشا طوع أمري
فذا حينه وأقيموا الحرس
يطوفوا بكم لانقضاء الغلس
ويذهب قبل بروز الغزاله
إلى الفلك إيذيس بالرساله
إلى الأترذين بهذا الكلام
مقالة فاريس أس الخصام
ويسألهم هدنة نبتغيها
لنحرق قتلى المعامع فيها
54
وبعد نصول ولن نجبنا
ليقضي رب قضى بيننا
ويؤتي من شاء عز الظفر»
أصاخوا ارتياحا لأمر أمر
55
عشوا بالسلاح وبعد الشفق
لفلك العدى إيذيوس انطلق
إذا بهم ضمنهم مجلس
لدى الفلك أتريذهم يرأس
فصاح يقول بصوت ثقيل: «أأتريذ يا زعماء القبيل
بإمرة فريام والمؤتمر
أتيت إليكم لأنمي الخبر
مقالة فاريس أس الشقاق
عسى أن تروق فيلقى الوفاق
فإن الكنوز التي سلبا
ويا ليته قبل ذا نكبا
ومما حواه حلالا يزيد
عليها بهن سريعا يجود
ولكن زوج النبيل منيلا
فعنها على رغمنا لن يحولا
ويسألكم هدنة نبتغيها
لنحرق موتى المعامع فيها
وبعد نصول ولن نجبنا
ليقضي رب قضى بيننا
ويؤتي من شاء عز الظفر»
فطرا سكوتا وعوا ذا الخبر
فصاح ذيوميذ فيهم: «حذار
لإليون هذا أوان الدمار
56
فنابي الكنوز وإن عدت
وهيلانة ولئن ردت
لقد أزف النصر والطفل يعلم
على هامهم عن قليل ستهدم»
فلم يك إلا من استحسنا
وأتريذ تصويبه أعلنا: «سمعت إذن إيذيوس الخطاب
فهذا الجواب وعين الصواب
ولكنني سامح بزمان
لتحرق موتى الوغى بأمان
بحرمتهم فليقم كل عسكر
ويسترضهم بلهيب تسعر
57
وزفس شهيد على تي العهود»
ومد عصاه لآل الخلود
58
وإيذيس لحماه رجع
وقد غص بالنبلا المجتمع
يعالون طرا للقياه صبرا
فبلغ ما كان أمرا فأمرا
فهبوا وبعض لجمع الشعل
وبعض بقتلى الرجال اشتغل
كذاك الأراغس قرب السفين
جروا جريهم باجتهاد مكين
ولما من اليم فوق البحار
بدت تتجلى عروس النهار
وتبرز صاعدة للسماء
وفوق الفدافد تلقي السناء
تلاقى الجميع بذاك المجال
يكادون لا يفرقون الرجال
جسوم لقد شوهتها الجراح
ورهج العجاج بدار الكفاح
فبالماء في مهل غسلوها
وبالدمع في عجل حملوها
59
ولكن فريام حظرا حظر
على قومه أن يهيلوا العبر
سكوتا ولب الفؤاد التهب
أسى جمعوها لكدس الحطب
ومذ فنيت بأجيج اللهيب
لإليون عادوا بقلب كئيب
كذاك الأغارق بين الوجوم
مضوا يجمعون جميع الجسوم
ولما عليها قضى الحرق
تجاه سفينهم انطلقوا
وفي بهرة الليل قبل السحر
أسيرت من الخيم خير الزمر
ومن فوق موقدهم للجثث
جميعا على السهل شادوا جدث
وسورا لديه عليه القلل
وأرتجة لعبور العجل
60
يليه حفير عميق وسيع
على صفحتيه وشيع منيع
وأما بنو الخلد آل الظفر
فقد بهتوا لاقتدار البشر
61
فمن حول زفس لقد رقبوا
فقام بهم فوسذ يصخب: «من الناس من بعد يا زفس يرفع
لآل العلى مقلتيه ويضرع
62
ألم تر قوم أخاي الأولى
بنوا قرب سفنهم معقلا
ومن حوله خندقوا مغفلينا
لقوم الخلود الضحايا المئينا
نعم ذكر هذا الصنيع البديع
إلى حيث فاض السنا سيذيع
ويغفل سور بمصر يجل
للوميذ شدت أنا وأفلو»
ولكن زفس وقد أنفا
أجاب: «أرب البحار كفى
أيا من يزعزع قلب الثرى
شططت بما جئته مخبرا
ليأبى الذي عنك جهدا يقصر
منالا وطولا بذا الفكر يفكر
ومجدك سوف يعم الفلق
ويمتد ما امتد نور الشفق
فمهلا لئن عاد بالسفن
لفيف الأراغس للوطن
فمعقلهم دك دكا فيلقى
إلى لجه البحر يمحق محقا
وفي الساحل اركم رمالا تقر
عليه تبد عينه والأثر»
كذا اأتمروا في القيام الأجل
وقبل المغيب أتم العمل
وقد نحر القوم تحت الخيام
عجولهم يبسطون الطعام
وكان ابن إيسون راعي الأمم
وإيفيسفيلا فتاة النعم
أخو الملك أفنوس من لمنس
أتت فلكه لبني أرغس
من الخمر صرفا بها ألف عين
هدية ود إلى الأترذين
فجيش الأغارق عينا بعين
شرى الخمر من ذينك السيدين
فبعض بصفر مداما أنيل
وبعضهم بجديد صقيل
63
وبعض شرى بجلود البقر
وبعضهم بعجول ذخر
وبعضهم بالسبايا شرى
وليلتهم قضيت بالقرى
لهم في الخيام الطعام يعد
كذاك لطروادة في البلد
ولكن زفس وقد غيظ حقدا
بهم زعزع الليل برقا ورعدا
فهدهم الرعب والكل قام
يريق على الأرض كأس المدام
ويخشى ارتشاف عصير العنب
إلى أن يزكي لزفس القرب
ولما انتهوا جملة قصدوا
مضاجعهم حيثما رقدوا
هوامش
النشيد الثامن
الوقعة الثانية
مجمله
لما طر الفجر عقد زفس مجلس الآلهة وخطب فيهم مكثرا من الوعيد والتهديد قاضيا بألا يتحرش أحد منهم لنجدة أي الفريقين. فالتمست أثينا أن يأذن لها بمؤازرة الإغريق برأيها ليس إلا. فأذن لها واعتلى مركبته وسار إلى جبل إيذا يسرح أنظاره بين إليون ومعسكر الجيوش. فالتقت الفئتان واحتدم الأوار إلى منتصف النهار. فتناول زفس قسطاسه الذهبي فرجحت كفة الطرواد فأرعد وأبرق فهدت الإغريق الرعدة والتووا يتعقبهم الطرواد إلى معقلهم. وكاد نسطور يهلك لو لم يبادر ذيوميذ إلى إغاثته. فأرهب زفس ذيوميذ بالصواعق فانهزم من وجه هكطور فاستظهر هكطور وزاد إقداما. فاستغاثت هيرا بفوسيذ طلبا لنجدة الإغريق فأعرض عنها. وأخذ أغاممنون يستنهض همم الإغريق ويتضرع إلى زفس ففاز الإغريق هنيهة بمعجزة منه، وأبلى ذيوميذ وطفقير بلاء حسنا ثم جرح طفقير فوجهه صحبه إلى السفن، فانثنى زفس إلى إغاثة الطرواد ففازوا فوزا مبينا. فطارت هيرا وأثينا إلى نصرة الإغريق فوجه زفس إليهما إيريس فعادتا صاغرتين، ورجع زفس إلى الأولمب واجتمعت الآلهة من حوله فأنبأهم بما أعد في قضائه المحتوم من اشتداد الأزمة على الإغريق حتى يخمد غيظ آخيل ويرجع إلى مقاتلة الأعداء. ولما خيم الظلام انفصل الفريقان وأقام هكطور العيون والرقباء على الأعداء حتى لا ينهزموا ليلا فأنار الطرواد المقابس وقضوا ليلهم بسلاحهم ريثما يصبح الصباح فيعيدوا الكرة على أعدائهم.
تستغرق وقائع هذا النشيد يوما كاملا وهو اليوم السابع والعشرون لافتتاح إنشاد الإلياذة. ومجرى معظم الحوادث على مقربة من شاطئ البحر والباقي في أندية زفس.
النشيد الثامن
كسا الفجر وجه الأرض ثوبا مزعفرا
وزفس أبو الأهوال في أرفع الذرى
1
على قمة الأولمب تصغي مهابة
لمنطقه الأرباب ألف محضرا
فقال: «ليعلم كل رب وربة
بما اليوم في صدري فؤادي أضمرا
فلا ينبذن الأمر عاص بل اذعنوا
لأنفذ ما أبرمت أمرا مقدرا •••
لنصرة أي القوم من يجر منكم
يئوبن منكوبا يخضبه الدم
وإلا فمن شم الألمب براحتي
إلى الظلمات الدهم يلقى ويرجم
2
إلى حيث أبواب الحديد قد استوت
على عتب الفولاذ والقعر مظلم
إلى هوة بين الجحيم وبينها
مجال كأقصى الجو عن أسفل الثرى •••
فتدرون كم بالطول أسمو وأشرف
وإن شئتم فابلوا الحقيقة تعرفوا
وأرخوا من الزرقا سلاسل عسجد
وكلكم في منتهاها تألفوا
فلن تبلغوا من زفس وهو وليكم
منالا وإن تعنوا وإن تتكلفوا
ولكنني أيان شئت جررتها
ومن دونكم أجتر أرضا وأبحرا
3
ومن حول أولمبي الرفيع أديرها
يعلق فيها الكون وهو أسيرها
فيعلم كل الجن والإنس مبلغي
من الطول والأكوان أني أميرها»
4
أصاخوا سكوتا حرمة وتهيبا
فقالت أثينا يستفيض زفيرها: «أجل أبتا يا قيم القوم جملة
قواك علمنا لن تدين وتقهرا •••
ولكننا نرثي لحال الأغارق
يبيدهم المقدور تحت اليلامق
5
أطعنا فلا نأتي النزال وإنما
نمدهم بالرأي خوف البوائق
6
وإلا فهذا السخط يجتث أصلهم»
فبش لها يرنو مثير الصواعق
وقال: «لئن راعتك مني صرامة
فعنك جميل الرفق لست لأذخرا»
7 •••
ولاحت تزين الخيل من تحت مضمد
حوافر فولاذ وأعراف عسجد
بمركبة غراء ناط صروعها
وفي حلة الإبريز حل بسؤدد
8
وفي يده سوط النضار يسوقها
من القبة الزرقاء للأرض تغتدي
فبلغ إيذا جمة السيح منهلا
وأم الضواري واستقر بغرغرا
9 •••
هناك لدى غاب أجلت وهيكل
له فاح نشرا أوقف الخيل يعتلي
ومذ حلها بين الضباب أحلها
وحل بكبر المجد أرفع منزل
يميل إلى الطرواد حينا وتارة
إلى سفن الإغريق وهو بمعزل
ففي عجل نال الأغارق زادهم
وفي الخيم هبوا للسلاح تحضرا •••
كذاك أعاديهم وإن قل عدهم
تقنع في إليون يبرز جندهم
يحرقهم داعي الضرورة للوغى
لتحفظ أعراض وتسلم ولدهم
ففتحت الأبواب واقتحموا الوغى
مشاة وفرسانا يروع وفدهم
ولما تدانوا والنفوس سواخط
تدفقت الأجناد تصلى تسعرا
10 •••
طعان تلاقت في صدور تدججت
وقرع به سود اليلامق ضرجت
وزفرة مقتول ونعرة قاتل
وسيل دماء فوق أرض ترجرجت
فزال ضحى الأقداس والنقع فائر
بحرب على القومين نارا تأججت
11
وعند انتصاف الشمس في كبد السما
لقسطاسه التبري قام محررا
12 •••
وألقى به قدحين للموت والشقا
لكل من القومين سهما محققا
فسهم بني الإغريق مال إلى الثرى
وسهم بني الطرواد للجو حلقا
13
فأرعد من أطواد إيذا هديده
وما بين دراع الأغارق أبرقا
فهدتهم من شدة الهول رعدة
وأجدرهم بالبطش ولى وأدبرا
14 •••
فإيذومن عاد وأتريذ هارب
وفر أياسا البأس والجيش لاجب
ولكن نسطورا تثبط محرجا
بصرع جواد ساق وهو يراقب
بمقتل بادي العرف في أم رأسه
إلى المخ فيه نبل فاريس ناشب
فشب وأهوى خابطا متمرغا
وشبت جميع الخيل منه تذعرا •••
فبالسيف نسطور عدا يقطع القدد
وهكطور تحت العج في خيله وفد
وقد كاد سيف الحتف بالشيخ يرتوي
ولكن ذيوميذ لنصرته عمد
15
رأى فبأعلى الصوت صاح بأوذس: «إلى أين يا ذا المكر جبنا أرى ترد
ألم تخش أن الطعن يصميك مدبرا
فوليت بين القوم تبغي تسترا •••
فذا شيخنا قف عنه ذا القرم ندفع»
فجد يسوق الخيل للفلك لا يعي
16
وأما ذيوميذ وإن ظل مفردا
فخف لصدر الجيش عن جأش أروع
ولما أتى نسطور كف حثيثه
وقال: «أجل يا شيخ بأسك قد نعي
يصول عليك المرد في حومة الوغى
ولست على بأس الشباب لتصبرا •••
فتبعك ذو عجز وخيلك قصرت
فللصحب أودعها فمركبتي جرت
17
وهي اختبر جردا بأطروس ثقفت
سراعا إذا كرت وإن هي أدبرت
ببأسي من إيناس من قبل نلتها
بها حسبنا جري بحرب تسعرت
18
فيعلم هكطور بأن مهندي
بيمناي للفتك الذريع تضورا»
19 •••
فأذعن نسطور وأستينل قفل
وأفرمذون بالجياد على العجل
20
وقرب ذيوميذ مضى الشيخ يعتلي
يسوط وأطراف الأعنة قد سدل
ولما لدى هكطور في الحال بلغا
أطار ذيوميذ السنان فعنه زل
وأنفذ في ثدي ابن ثيبس أنيف
فخر على وجه الحضيض مكورا •••
فأرمض هكطور ببث يبرح
على تبعه والخيل شبت تطمح
21
وغادره يبغي غلاما يسوقها
فبادره أرخفطليمس يسرح
وكادت سرى الطرواد تجري هزيمة
لإليون كالخرفان والخطب يفدح
ولكن زفسا وهو شاهد وهنهم
أمام ذيوميذ الصواعق أمطرا •••
فدمدم يدوي الرعد والبرق أومضا
بنار من الكبريت تلهب في الفضا
ففي نيرها الخيل اقشعرت تهيبا
وأفلت نسطور العنان ممعضا
وصاح: «فرارا يا ذيوميذ ألا
ترى نصر زفس عنك ذا اليوم معرضا
لهكطور أولاه ومن ذا يصده
سيخلو لنا يوم يشاء فننصرا» •••
فقال: «تحريت الحقيقة إنما
فؤادي ونفسي بالعذاب تضرما
لأجدر بي أن تفتح الأرض جوفها
فتبلعني من أن أذل وأهزما
22
ويصرخ هكطور لدى جند قومه «ذيوميذ في الفلك من بأسي ارتمى»
فقال: «وأنى يا ابن تيذيس ترى
يتاح له أن يستعز معيرا •••
يكذبه قوم الدرادنة الألى
بلوك وأبناء الطراود والملا
23
تكذب غادات تأيمن بعدما
حملت على أزواجهن مجندلا»
ورد رءوس الخيل منهزما به
وفوقهما وبل النبال تهيلا
24
وهكطور هياج الترائك مقبل
بإثرهما ينمي الفخار مظفرا: ••• «ذيوميذ في الإغريق كم كنت ترفع
مقاما ويزجي الزاد والكأس تترع
فسوف تسام الذل بين جموعهم
لوهن به كالغيد قد بت تهلع
خسئت فلن تعلو معاقلنا ولا
عقائلنا فوق السفائن تدفع
فهيهات لن تستأثرن وساعدي
سيوليك من قبل الحمام المسطرا» •••
فردد تيارا يهيج بباله
أيغفله أم ينثني لنزاله
ثلاثا على الأمرين ردد فكره
وزفس ثلاثا راعد بجباله
يشير إلى الطرواد بالنصر معلنا
وهكطور يدوي صوته برجاله: «أيا أيها الطرواد يا قوم ليقيا
ويا دردنيون النجيع تفجرا •••
فكونوا رجالا واستجيشوا بشدة
فقد لاح لي زفس يميل لنصرتي
يخولني نصرا مبينا وعزة
وإهلاك أقوام الأعادي الملمة
بنوا معقلا غثا فيا لضلالهم
بما زعموا فيه انثناء عزيمتي
فخيلي تجتاز الحفير مغيرة
ودونكم مني البلاغ المقررا: ••• «فإن أدن من فلك الأغارق فاقذفوا
عليها لهيب النار لا تتوقفوا
فتفنى ويعلو للرقيع هصيصها
ويفنيهم طرا سنان ومرهف»
وصاح بآذان الجياد يحثها: «أيا زنث يا فوذرغس المتشوف
ويا إيتن يا لمفس الكر كركم
به إيه هذا اليوم قد رمت مخبرا
25 •••
فكم رضتكم جهدي ابتغاء رضاكم
وكم أنذروماخ تمنت مناكم
وكم برها كالشهد قد ذخرت لكم
تراق عليها الخمر آن غذاكم
26
بذلك كم قبلي رعتكم وإن أكن
حليلا لها غضا فحثوا خطاكم
فيا حبذا كر يذل عداتنا
فنغنم تحت النقع مجوب نسطرا •••
من الذهب الإبريز ذا الترس كله
وشهرته حتى السماء تجله
ومن ثم عن كتفي ذيوميذ لأمة
حباه بها هيفست وهي تظله
27
فإن نغتنم هذين لا شك يلتجئ
بليلتنا للفلك جيش نذله»
أماني هكطور كما شاء بثها
وهيرا لذاك الخطب هاجت تحسرا •••
على عرشها اهتزت فقلقلت السما
وصاحت بفوسيذ العظيم تحدما:
28 «وهلا أيا من زعزع الأرض بأسه
جزعت لأرزاء الأراغس مرغما
فكم لك أزكوا في أليقا وإيغس
قرابينهم يبغون قربك مغنما
29
فإن نعتصب في صحبهم من ذوي العلى
فلا ريب أنا لن نصد وندحرا •••
فهي بنا ننقض في كبد العدى
ومن فوق إيذا زفس يحرج مفردا»
فقال لها والغيظ ميزه: «لقد
شططت ومني لا تنالين مقصدا
أبيت لقا زفس وإن تتألفوا
جميعا عليه فهو أعظم سؤددا»
فذاك حديث في بني الخلد دائر
وقد ثقلت تشتد وطأة هكطرا •••
يصول كآريس وزفس يديله
وجيش العدى يصطك باد قفوله
لدى الفلك حتى الحصن دون حفيره
تساق انهزاما رجله وخيوله
وقد كادت النيران تحرق فلكه
فحثت أغاممنون هيرا دليله
فخاض صفوف الخيم والفلك رافعا
بساعده بردا من الخز أحمرا
30 •••
توسط في الأسطول حتى إذا علا
خلية أوذيس به تحدق الملا
وأشراع آخيل وآياس أرسيت
على طرفيه شدة وتبسلا
31
علا صوته يدوي : «أيا عصبة وهت
جنانا وإن أبدت بيانا مجملا
ألا أين ذياك التبجح قد غدا
وأين عرى عزم أراه تفطرا •••
فأف لكم هلا ذكرتم مقامكم
بلمنوس والزاد الشهي أمامكم
32
بلحم سمين ترتمون وأكؤس
تديرون عجبا راشفين مدامكم
على مئة ينقض أو مئتي فتى
فتاكم زعمتم منتضين حسامكم
وعن هكطر فذا عجزنا وخلته
سيلهب نارا فلكنا متنمرا •••
أيا زفس هل مثلي مليك تذللا
ومن سدة المجد الأثيل تنزلا
33
وحقك مذ أقلعت لا جئت مقلعا
على مركبي جم الأرادم مقبلا
34
شحوم عجولي قد دفعت وسوقها
لتحرق أني شاد قومك هيكلا
فمهد لنا سبل النجاة هزيمة
ولا تسلمنا للعدو فيغدرا» •••
فأرفق زفس راحما عبراته
وأومأ يؤتي الجيش بشرى نجاته
وأرسل خير الطير نسرا مطوفا
بمخلبه ظبي بأسنى سماته
وأسقطه في قرب هيكله الذي
لذي الوحي زفس قدموا قرباته
35
ومذ أبصر الإغريق ذلك قوموا
عزيمتهم يبغون فتكا مدمرا •••
أمامهم طرا ذيوميذ أطلقا
أعنته يجتاز بالخيل خندقا
36
يؤم العدى صدرا لصدر ورمحه
بيمناه أحشا آغلاوس مزقا
بعاتقه واراه يبدو لصدره
على حين رد الخيل يجتنب اللقا
فخر صريعا خابطا بدمائه
بصلصلة يربد لونا ومنظرا •••
فشدوا القوى والأترذان تقدما
كذاك الأياسان اللذان تحدما
وإيذمن مع تبعه مرين الذي
حكى شدة آريس مستنزف الدما
فأوريفلوس بن الفتى إيفم تلا
وتاسعهم طفقير والقوس أحكما
يواريه آياس وراء مجنه
فيرفعه حينا فحينا ليبصرا •••
فيحدق في قرم من القوم دونه
ويرشقه رشقا يعد منونه
37
ويأتي أخاه مستظلا بترسه
كطفل لحجر الأم أبدى حنينه
38
ويصدر فيهم سيدا بعد سيد
فجندل أرسيلوخ يفري وتينه
فأرمينسا ثم الفتى أو فلستسا
وأتبعه أخروميوس وذيترا •••
وألحق ليقوفنطسا وأموفنا
وميلانفا تنتابهم غصص الفنا
فأطرب أتريذ وقام تجاهه
يبجله بين العساكر معلنا: «أيا ابن تلامون الحبيب وغرة ال
جنود أسل وبل النبال مرننا
عسى منك يؤتى الدانويون نصرهم
ويعلو أبوك الهم شانا ومشعرا •••
نشأت بمغناه عزيزا مسودا
وإن كنت من نسل السبية مولدا
39
فزده سنا مجد وإن بان بونه
ودونك من أتريذ عهدا مؤيدا
لئن نلت من زفس وفالاس نصرة
فبعدي قبل القوم تظفر بالجدا
بمركبة في خيلها أو منصة
مثلثة أو غادة حسبما ترى»
40 •••
فقال: «وهل داع لإنهاض همتي
وكلي عزم ناهض للملمة
سأفتك ما أوتيت فتكا ولم تزل
طروحي تصمي مذ هببت بشدتي
41
ثمانية أنفذت في فتية العدى
وعن كل سهم خر شهم سرية
42
ولكن هذا الكلب قد عاث طاغيا
ونبلي عنه لا يزال مقصرا»
43 •••
وأحدق في هكطور يرمي مسددا
سريته والقلب منه توقدا
44
فأخطأه والسهم أرسل صادرا
إلى صدر غرغثيون ينفذ مبعدا (هو ابن لفريام وقسطانرا التي
بها جاء قدما من أسيما مصعدا
ورام بها زوجا وفيها توفرت
محاسن ربات الخلود توفرا) •••
فرأس الفتى لما بمحنته مني
بمغفره المسرود أثقل ينحني
كزهرة خشخاش بيانع روضة
يثقلها طل الربيع فتنثني
45
فثنى على هكطور طفقير رميه
فصرح تثني السهم كف أفلن
46
وأنفذ في أرخفطليم بثديه
فأهوى غضيض الجفن منفصم العرى
47 •••
فهكطور صدت طامحات خيوله
وأرمض ملتاعا لقتل زميله
فغادره ملقى على فرط بثه
وأعرض عنه ساعيا لبديله
فألفى أخاه قبريون إزاءه
فأصعده يعلو محل فتيله
48
وألقى له صرع الأعنة واثبا
إلى الأرض بالصوت المروع مجهرا •••
تناول جلمودا وأقبل مسرعا
يروم به طفقير قتلا مصدعا
وأخرج طفقير لجيفا مقذذا
وأوفقه في القوس للرمي مزمعا
49
وبالوتر اجتر المريش لكتفه
إلى حيث عرق العنق بالصدر أودعا
50
فأدركه الجلمود في المقتل الذي
بغى عنه أن يرمي السرية مصدرا
51 •••
فراحته شلت وقد قطع الوتر
وأجثي والقوس استطارت على الأثر
فبادر آياس يقيه بترسه
وطفقير بالأنفاس يشهق والزفر
وبادر ميكست وآلستر معا
يقلانه للفلك مضطرب البصر
وزفس ارتضى طروادة فتأثروا
أعاديهم حتى الحفير تأثرا •••
وهكطور صدر الجيش يجري ويلغب
ويكسأ في الأرداف من يتعقب
كأغضف هول قد تأثر ضيغما
تذعر أوخرنوص بر يكبكب
52
فينشهه في صفحتيه وساقه
وينظر هل يلوي خطاه ويلجب
فولوا لديه جائزين وشيعهم
وخندقهم والسيف يبتت أظهرا •••
وسائرهم دون السفين تربضوا
يثبت بعضا بعضهم ويحرض
ويدوي بهاتيك البقاع دعاؤهم
وهكطور دون القوم بالخيل يعرض
ويقدح من عينيه نارا كأنها
بمقلة غرغون وآريس تومض
فهاج بهيرا هائج الغيظ والأسى
وصاحت بآثينا: أرى الخطب أسفرا •••
أيا بنت زفس الدانويون في نكد
فهلا مددناهم وإن أبطأ المدد
53
بهم رامت الأقدار سوءا وخلتهم
يبيدهم قرم بشدته انفرد
أجل إن هكطورا عتا متنمرا
عليهم وجاز الحد واشتد واتقد»
54
فقالت أثينا: «كاد سيف العدى لدى
معسكره يلقيه ميتا معفرا •••
ولكن أبي قد ساء فعلا ومقصدا
وقاومني غدرا وأفرط واعتدى
وقد فاته كم قبل صنت حبيبه
هرقل ابنه في حكم إفرست مجهدا
يصعد أنفاسا ويندب ضارعا
فيرسلني زفس ملاذا ومرشدا
فلو أنني أنبئت قبل مرامه
لظل هرقل في الجحيم محقرا •••
ولكنني أنقذته حين أرسلا
بهيبة إفرست كئيبا مذللا
لأبواب آذيس ليقتاد كلبه
ولي المنايا من أريبا مكبلا
55
وذا زفس يجفوني وثيتيس يرتضي
تقبله من ركبتيه توسلا
56
وتلعب بين العارضين يمينها
لينصر آخيل العتي المدثرا •••
ولا بد من يوم يناديني ابنتي
أثينا أزرقا المقلتين صفيتي
ولكن بنا قومي فخيلك هيئي
لأحضر في مغناه للحرب شكتي
فأنظر هياج الترائك هكطرا
أيطرب إذ نبدو بصدر السرية
57
لحوم بني طروادة وشحومها
لطير الفلا والكلب بالسيف تبترى»
58 •••
وهيرة بيضاء الذراعين هبت
إلى الخيل تكسوها نضاري عدة
وألقت أثينا في بلاط وليها
نقابا بديعا شائقا هي وشت
بدرع أبيها استلأمت وتدججت
بشكته تصلى أوار الحمية
بها ركبت في كفها عامل له
طويل ثقيل العود يحطم عسكرا •••
وهيرا تسوط الخيل والخيل تسرح
لأبواب دار الخلد في الجو تسبح
فمن نفسها دارت على عتباتها
وأعلت صريفا هائلا وهي تفتح (تحف بها الساعات وهي رقيبة
على قبة الأفلاك لا تتزحزح
تكثف فيها الغيم والجو مظلم
وتقشعه عنها فيبرز نيرا)
59 •••
فجاوزتا الأبواب بالخيل مركبا
ومن طور إيذا زفس ينظر مغضبا
فصاح بإيريس: «اذهبن لترجعا
ولا تأتياني فاللقاء تصعبا
وإلا فقد آليت والقول حازم
لأحطم بالنير الجياد مثربا
وأرميهما من فوق عرش مبطن
بمركبة أذرو سحيقا مكسرا •••
وصاعقتي تنقض يذكو التهابها
وعشرة أعوام يدوم عذابها
فتعلم آثينا نكالا ينالها
بصد أبيها مذ عراها ارتيابها
وإني على هيرا أقل تحدما
فقد ألفت صدي وزال احتجابها»
60
فطارت إريس كالرياح بأجنح
نضارية نحو الألمب تحدرا
61 •••
فألفتهما في صدر أبوابه العلى
وقالت: «إلى أين الحثيث تنصلا
علام تهيجان اضطراما وزفس لا
يتيح لنا بين الأغارق مدخلا
وإلا فقد آلى بحتم مؤكد
ليحطم بالنير الجياد مفللا
ويرميكما من فوق عرش مذهب
بمركبة يذرو سحيقا مبعثرا •••
وصاعقة التنكيل يذكو التهابها
وعشرة أعوام يدوم عذابها
فتعلم آثينا وأوغر صدرها
لصد أبيها كيف كان انقلابها
وهيرا عليها دون ذلك غيظه
فقد ألفت كبرا وزال احتجابها
وأنت أيا شر الكلاب وقاحة
أتلقين بالرمح الثقيل أبا الورى» ...
62 •••
ومذ بلغت إيريس عادت لحينها
وهيرا استكنت ثائرات ظنونها
فقالت لآثينا: «أنا لست أرتضي
على زفس نعتو للملا وشجونها
لتحي وتفني كيفما خط حظها
وما شاء زفس فهو مولى شؤونها»
63
وردت رءوس الخيل والساع سرمدا
بأبواب دار الخلد تلبث حضرا
64 •••
فجردنها حالا وأوثقنها لدى
مذاودها الملأى طعاما مخلدا
ومركبة الأقداس أتكأنها إلى
حياط زهت حسنا يروق توقدا
وحلت تهيج الربتان كآبة
بعرشي نضار في بني الخلد مقعدا
وزفس إلى الأولمب في طور إيذة
لمجتمع الأرباب في ركبه جرى •••
فحل فسيذ الخيل يمضي بسرعة
بمركبة الجبار فوق منصة
وسترا من الكتان أسبل فوقها
وزفس اعتلى تخت النضار بعزة
وتحت خطاه ارتج ذيالك الفضا
وعن منتداه الربتان بعزلة
وجوما وصمتا تطرقان وإنما
بنور حجاه كنه فكرهما درى •••
فقال: «لم الشكوى وفرط التباعد
ولم تجهدا نفسا بحرب الطراود
تعمدتما إهلاكهم ودمارهم
ولكن طولي امتد واشتد ساعدي
فلا ينثني عزمي لكل بني العلى
وقد خرتما قبل اشتداد المشاهد
وإلا لسحت راعدات صواعقي
فصدتكما عن منزل الخلد أدهرا» •••
فأصعدتا الأنفاس عن جمرة الشجا
ترومان للطرواد محقا مروجا
وأخفت أثينا ثائر الغيظ تلتظي
حزازة صدر مستشيط توهجا
ولكن هيرا تلك لم تقو ساعة
على كظم غيظ في حشاها تلجلجا
فقالت: أبيت الوهن يا ابن قرونس
قواك علمنا لن تدين وتصغرا
65 •••
ولكننا نرثي لحال الأغارق
يبيدهم المقدور تحت المخافق
66
أطعنا فلا ناتي الكفاح وإنما
نمدهم بالرأي خوف البوائق
وإلا فهذا السخط يجتث أصلهم»
فقال لها رب الغيوم الدوافق: «إذا بزغ الفجر المنير رأيتني
أسيل دم الإغريق دونك أنهرا •••
وهكطور لا ينفك يرمي ويرتمي
إلى أن يهب القرم آخيل فيهم
ومن حول فطرقل القتيل تلاحم
لدى الفلك بالقومين يسرب بالدم
67
بذا قضت الأيام ينفذ حكمها
ولست أبالي ما تحدمت فاعلمي
وليس بعبئي أن تؤمي مغيظة
وراء الثرى والبحر أعماق طرطرا •••
هنالك لو تمضين حيث قرونس
يقيم وبالإذلال يافث يجلس
ولا الشمس في الآفاق تنشر نورها
ولا نسمات الريح تحيي وتؤنس
68
لما رابني مذ كنت شر سليطة»
أصاخت لذاك القول لا تتنفس
وما لبثت أن حلت الشمس بحرها
وذيل الدجى في الأرض بات مجررا •••
فبرح بالطرواد مرأى غيابها
وأطربت الإغريق بشرى احتجابها
وهكطور نحو النهر ساق جيوشه
بعيدا عن الفلك العظام مضى بها
وألف فيهم مجلسا حيث لا دما
تدنس ذياك الفلا بانصبابها
ترجلت الفرسان تصغي لقوله
فقام خطيبا آمرا ومؤمرا •••
يميل على رمح يعادل طوله
ذراعا وعشرا عز شكلا مثيله
تطوقه من خالص التبر فتخة
بنصل نحاسي يهول صليله: «ألا يا بني الطرواد يا قوم دردن
ويا حلفائي دونكم ما أقوله
حسبت بأني اليوم أدخل ظافرا
بلادي وأفني القوم والفلك مظهرا
69 •••
ولكن وفد الليل أسبل ستره
عليهم وأنجاهم فلا تعص أمره
فحلوا جياد الكر يزجى عليقها
وهيوا بنا للزاد ننظر أمره
ومن قدس إليون عجول سمينة
تساق وخرفان توفر ذخره
70
وعودوا إلينا من منازلكم وقد
حملتم مع الخبز المدام المكررا •••
وزيدوا وقود النار تعلو تأججا
إلى الجو للفجر المنير مدى الدجى
لئلا يرى القوم الفرار غنيمة
فيبغون متن البحر في الليل مخرجا
فإن ركبوا صبوا عليهم سهامكم
وسمرا تغشيهم خضابا مضرجا
بأوطانهم هم يلأمون جراحهم
وغيرهم بالحرب لن يتهورا •••
ويا أصفيا زفس الفيوج تعهدوا
بإليون حزم الولد والشيب شددوا
وسوقوهم طرا لظاهرها على
الحصون التي آل العلى قبل شيدوا
71
وكل النساء الجازعات يقمن في
منازلهن النار للصبح توقد
فليس بإليون جنود وخشيتي
تفاجئها الأعداء في سنة الكرى •••
فحسبكم ذا القول مني مرشدا
وإني بباقي الأمر أنبئكم غدا
سأدعو وزفس لا مراء وآله
ينيلونني نصرا فأظفر بالعدى
كلاب بغونا فوق سود سفينهم
يسوقهم داعي المنايا تعمدا
فأحيوا الدجى والفجر إن لاح نوره
هببنا وكثفنا القنا والسنورا
72 •••
ترى أذيوميذ إلى السور سائقي
أم الحتف يلقى من حدود مخافقي
غدا سوف يبلو بأسه وكأنني
به لورود الحتف أول سابق
يجندل في صدر الرجال وحوله
صناديد خرت باصطدام الفيالق
فلا زارني شيب يلم بعارضي
ولا نظرت عيناي موتا مؤخرا
73 •••
ويا ليتني أوتيت علما بسؤددي
كما قد وثقت اليوم بالنصر في غد
وأعلو كما تعلو أثينا بمجدها
وأسمو سمو الشمس في كل معهد»
74
فلما انتهى شق الفضاء ضجيجهم
لما كان من وقع الحديث المنضد
وحلوا وثاق الخيل يسبحها العيا
وشدوا العرى قرب العجال تحذرا •••
وجاءت سمان الضأن في الحال والبقر
وخمر وخبز في المنازل مدخر
وأوروا وقود النار تعلي دخانها
إلى الجو ريح السهل تحت سنا القمر
ومن فوق هاتيك البطاح تألفت
جموعهم من حولها زمرا زمر
جلوسا وشكاكا بصلد سلاحهم
مدى الليل يرجون السناء المبشرا
75 •••
فبين السفين الراسيات وزنثس
لوامع نيران بذاك المعرس
تؤج لدى إليون في ألف مقبس
يؤججها خمسون في كل مقبس
76
ودونهم بين العجال جيادهم
وقوف على ذاك القضيم المكدس
شعير نقي فوق أسمر حنطة
بها مرحت حتى الصباح تفجرا •••
كأن النجوم الغر والبدر ساطع
بقبة أفلاك السماء لوامع
مؤلقة لا غيم يحجب نورها
ولا رهج حال ذرته الزوابع
فتنعكس الأنوار في كل سبسب
وغور ونجد والعيون هواجع
فيبتهج الراعي بأبهج منظر (ويطمع لو ظلت تنير فينظرا)
77 •••
هوامش
النشيد التاسع
إرسال الوفد لاسترضاء آخيل
مجمله
وهنت عزائم اليونان بعد اندحارهم في اليوم السابق ففاوض أغاممنون الزعماء وارتأى العودة إلى الأوطان، فعارضه ذيوميذ ثم نسطور فأقاموا الحرس وأولم أغاممنون للزعماء. فقام نسطور فيهم خطيبا يحثهم على استرضاء آخيل بالاعتذار والهدايا، فأذعن أغاممنون لكلام نسطور وأتى على تعداد ما يعد من التحف لآخيل على شريطة أن يرعوي ويلين. فأرسلوا وفدا إلى آخيل يرأسه أوذيس فخفوا إليه وألفوه ينشد على نغم قيثارته. فاحتفى بهم وأولم لهم، ولما فرغوا من الطعام خطب أوذيس في مجلس آخيل فذكره بوصايا أبيه وأطمعه بوعود أغاممنون واستحلفه أن يرفق بقومه الإغريق وإن كان موغر الصدر على أغاممنون. فما كان من آخيل إلا أن استشاط حنقا وأبى الإقدام على الحرب لمعاضدة الإغريق. فانبرى أستاذه فينكس وأعاد عليه ذكر صباه وما كان له من العناية به حتى أصبح بمثابة ابن له، وأطال من الاسترضاء والاستصغار والالتماس والاعتذار وتلاه آياس الأكبر فلم يغنهم كل ذلك من شيء بل ظل آخيل مصرا على عناده. فعادت الرسل واستقص أغاممنون منهم الخبر فأنبئوه بما كان، فانتصب ذيوميذ وكلمهم كلاما هاج حميتهم فصرفوا النظر عن آخيل ونزعوا إلى الراحة والهجوع.
يستغرق هذا النشيد والنشيد التالي ليلة واحدة ومشهد وقائعه على جرف البحر عند مرسى السفن.
النشيد التاسع
1
تمنع في الطرواد يخفر جندهم
وفرط الأسى والبث هد الأخائيا
يساق لهم من موقف الخلد رعدة
يلازمها داعي الفرار مباريا
2
وتخفق أحشاهم كما اللج خافق
إذا لقي البحر الرياح السوافيا
ومن بطن إثراقا دبور وشمأل
معا هبتا فيه هبوبا مفاجيا
3
فتركم دهم الموج من فوق يمه
وتقذفها حتى تجوز الشواطيا
4
وأتريذ والتبريح ينتاب لبه
يطوف بهم يدعو الدعاة تواليا
ويأمر بالشورى بأن يهمسوا بها
بأسمائهم للصيد واجتاز عاديا
وبلغ صدر الجند حتى إذا بدوا
جلوسا وصمت الحزن برح باديا
5
على قدميه قام والدمع هامر
تدفق من عينيه كالسيل هاميا
كشؤبوب ماء شق من قلب صخرة
وفي زفرات الحزن صاح مناديا: «أحباي والأقيال والصيد خلتني
رماني زفس في حبائل آتيا
وقد كان والاني بإيماء رأسه
بأنا بإليون ندك المراميا
ولا ننثني للأهل إلا بسبيها
فمان وما أغراه فيما رمانيا
فقدت صناديد الرجال وقد قضى
علي إلى أرغوس أرجع خاسيا
نعم ذاك أمر شاءه الآمر الذي
يقوض أركان البلاد العواتيا
فهيوا أطيعوني الهزيمة مغنم
بعودتنا إني أرى زفس قاضيا
وأصدقكم وعدا يقينا فلن نرى
معاقل إليون ركاما فوانيا»
6
أصاخوا وطال الصمت فوق وجومهم
فصاح ذيوميذ أخو البأس عاليا «شططت أأتريذ وأول منكر
لقولك ذا لا تحنقن أرانيا
فذا حق شورانا وقبل بهمتي
عبثت وقد أعلنت عزمي واهيا
بذا شهد المردان والشيب جملة
على أن زفسا قسم الرزق وافيا
فلم تؤت بأس الكف والبأس أول
وأوتيت فخر الملك والعز ثانيا
7
أأحمق هل خلت الأراغس أوهنوا
فإن رمت عودا دونك السبل هاهيا
وذي السفن اللائي عزمت بهن من
مكينا تراها بالجدود رواسيا
8
وسائرنا لن نبرحن بأرضنا
إلى أن نرى هذي الحصون بواديا
وإن آثر الكل انهزاما وعودة
فإني وأستينيل نكفي الأعاديا
نقاتلهم حتى نفوز بدكها
وينصرني رب لحرب دعانيا
9
فضجت له الإغريق ضجة مطرب
وقام بهم نسطور يخطب تاليا: «سموت ذيوميذ ببأسك مثلما
برأيك بالأتراب قد كنت ساميا
10
فما لك في الإغريق لومة لائم
ولكن فصل القول ما زال خافيا
فأنت فتى لو قيس عمرك لم يكن
لأحدث أبنائي الصغار مساويا
على أنك اخترت الحصافة منهجا
وصيد السرى خاطبت بالحق عانيا
وإني وحسبي الشيب دونك مفخرا
سيجمع أطراف الحديث كلاميا
ولن ألتقي بالقوم حتى زعيمهم
أخي المجد أتريذ لقولي لاحيا
فلا شرع لا مأوى ولا أسرة لمن
بفتنته في القوم يفسد عاثيا
11
فقد خيم الليل البهيم فهيئوا
طعامكم ولنحكمن التصافيا
ويخفر من فتياننا حرس على
حفير خططناه لدى السور صاحيا
لك الأمر أتريذ أقمهم وأولمن
لشيبك منهم تأخذ الرأي شافيا
فخيمك فاضت بالرحيق تسوقه
سفائن إثراقا بها جاء ضافيا
وعندك ما تبغي لخير وليمة
وعدة غلمان تناهت تناهيا
وعند التئام القوم تجمع رأيهم
وتتبع ما قد كان بالقصد وافيا
فما أحوج الإغريق للرأي والعدى
أوارهم أضحى لدى الفلك واريا
فليلتنا هذي ووا حظ من رأى
سنهلك فيها أو ننال الأمانيا»
12
أصاخوا ولبوا ثم هبت خفارة
بشكتها منهم تجد المساعيا
يقودهم من نخبة الجند سبعة
ثريسيم نسطور الملقب راعيا
ويلمين عسقالاف من ولد آرس
ومريون ذيفير كذاك أفاريا
وليقوم قريون وكل مؤمر
على مئة منهم تقل العواليا
فحلوا انتظاما بين سور وخندق
وأذكوا لإعداد الطعام المذاكيا
13
وأتريذ وافى بالشيوخ لخيمه
لمأدبة فاضت طعاما موافيا
فلما بأيديهم قضوا من أمامهم
وكل الظما والجوع أجلي نائيا
بدا من بهم فاق اختبارا وحكمة
نبيلهم نسطور يخطب باديا: «أأتريذ مولى الصيد أول من جرى
وآخر من يجري إليه مقاليا
14
توليت من زفس عصا الملك واليا
شعوبا سمت عدا ونلت المعاليا
15
لك الرأي والإصغاء والأمر تنتقي
بآرائنا ما شئت تأتيه راضيا
وتنفذ قولا قاله أينا إذا
مضى عن فؤاد ظل بالخير ساعيا
فرأيي أراني لست تؤتى نظيره
وما هو في ذا الحين جال بباليا
أردده منذ استلبت أخيلنا
بريسا على رغم الأراغس باغيا
تولاك كيد النفس كبرا فلم تصخ
لحكمي وقول فيه جئتك ناهيا
وقمت وأغلظت المقال لسيد
سما شرفا حتى بني الخلد راقيا
ومهما يكن من بعد منآه فلنجد
سبيلا لنستصفيه يأت مصافيا
نلين له قولا به نستلينه
ونتحفه منا الصلات السوانيا»
16
فقال أغاممنون: «أخطأت إنما
أصبت بتثريبي ولست بمنكر
فإن فتى زفس اصطفاه وزادنا
وبالا لمنآه يقاس بعسكر
عثا بي داعي الشر حتى أهنته
وعلي إن أستغفر الذنب يغفر
سأتحفه غر الهدايا وكلكم
شهود على قولي بحافل محضري
مناضد سبعا لم تر النار جددا
وعشرين طسا ساطعات لمنظر
17
ومن ذهب يغلو شواقل عشرة
وخير جياد تحرز السبق ضمر
18
فيحرزها اثني عشر أجرد سلهبا
حبتني كنوزا في السباق المكرر
19
كنوزا إذا ما نالها أيما امرئ
ترفع عن شكوى شجية معسر
وسبع غوان فقن حسنا وصنعة
من اللاء في لسبوس نال بأبتر
20
وقد كن لي سهما وذلك عندما
تولى عليها بالطعان المدمر
كذاك بريسا مقسما ومثقلا
بأني إليها القرب لم أتصور
فهذي صلاتي اليوم يحرزها وإن
ننل دك إليون بحكم مقدر
نضارا وصفرا يؤت ملء سفينة
وعند اقتسام السبي بالغيد يظفر
بعشرين حسنا فقن غير هلانة
له بانتقاها خيرة المتخير
وإما رجعنا للخصيبة أرغس
يكونن صهري بالمقام الموقر
يجل كأورست الحبيب الذي نشا
بأرغد عيش في يسار موفر
21
ثلاث بناتي هن أخريسثيمة
ولوذيق أفياناس من يرض يختر
ولست بباغ مهرها وأزيدها
جدا لم يجد فيه أب منذ أدهر
22
فينزلها في دار فيلا وفوق ذا
مدائن سبع فوق بر معمر
فريس النقى إيرا الزهور وإنيفا
وقرذملا أنثا الفجاج المنور
23
وإيفية الحسناء فيداس كرمة
إزاء فلوس الكل في جرف أبجر
يجل بأهليها كرب خطورة
ويؤتونه جم الخراج المقرر
غنيما وأبقارا تناهى عديدها
فتلك هباتي فليلن ثم يحضر
فكل مغيظ غير آذيس يرتضي
لذاك قلاه الخلق عن شر مخبر
24
كفى حنقا مذ كنت أعظم رفعة
وأكثر أياما ليذعن ويقصر»
25
فقال له نسطور: «يا سيد الورى
أجل جدت فيما لا يهان ويستقل
فهي بنا ندع الدعاة ليذهبوا
لخيمة آخيل بن فيلا بلا مهل
أنا أتنقاهم ففينكس قائد
لهم معه يمضي أياس الفتى البطل
كذا المجتبى أوذس وفيجان هذيس
وأوريبط ولنغسلن على عجل
26
وبالصمت فأمر نستغث زفس عله
يرق» فضج الجمع واستصوب العمل
فصب على الأيدي الفيوج قراحهم
وفتيانهم بالخمر في أكؤس تقل
يمزون منها طافحات وبعد ذا
يديرونها دورا بكلهم اتصل
27
ولما أراقوها على الأرض قربة
وفوق مرام النفس رشفهم اكتمل
عدا رسلهم من خيمة الملك عاجلا
فقلب نسطور بهم محدق المقل
وحثهم فردا ففردا وسيما
أذيس ليسترضوا أخيل الذي اعتزل
فسار رسولا القوم فيمن تلاهما
على جد بحر عج أمواجه اقتتل
28
محيط البرايا يستغيثان عله
يبدد حقدا بابن آياك قد نزل
29
ولما إلى خيم المرامد بلغا
إذا بأخيل يطرب النفس عن ملل
بقيثارة غناء قد شاق صنعها
ينغم في ذكر الجبابرة الأول
بقوس لجين طوقت وأنيلها
من الكسب مذ في دك إيتونة استقل
يقابله فطرقل بالصمت ريثما
مليا تطيب النفس من ذلك الزجل
30
إذا بأذيس يرئس الوفد داخل
ففي دهش من فوق مجلسه انتقل
وفي يده القيثارة انساب ناهضا
كذلك فطرقل على القدم امتثل
فصافحهم قال: «السلام ومرحبا
فلا شك وافيتم لأمر لكم جلل
ومهما يكن من نفرتي فلأنتم
لآخيل أدنى من يود ومن يجل»
وأجلسهم من فوق فرش تدبجت
ببسط من البرفير نادرة المثل
وقال لفطرقل: «عليك إذن لنا
بأكبر دن ولتفض قسمة الجعل
بكأس لكل من قراح ملية
فمن تحت سقفي خير رهط وددت حل
فبادر فطرقل وآخيل عامد
إلى وضم قرب اللهيب الذي اشتعل
31
ومد عليه صلب كبش وسخلة
كذا صلب خرنوص سمين لهم قتل
وأفطومذون ممسك وهو خازل
وينظم في تلك السفافيد ما خزل
وفطرقل ذو الهمات يضرم وقده
إلى أن لهيب النار بدد واضمحل
فألقى على الجمر السفافيد تحتها
قوائم والملح الذكي بها جبل
32
ولما استتم النضج مد سماطه
وثم قفاع الخبز فطرقل قد حمل
لكل من الأضياف قدم قفعة
وآخيل توزيع اللحوم به اشتغل
تجاه أذيس جالسا لرفيقه
أشار فباسترضاء آل العلى استهل
فللنار ألقى خير لحم ضحية
ومدت أياديهم وكلهم أكل
33
ولما انتهوا آياس أومأ داعيا
فنكس فأوذيس أحاط بما سأل
34
ففي كأسه صب المدام مرددا
بها نخب آخيل ومن ثمة ارتجل:
35 «سلام أخيل لا بحاجة مطعم
نرى فلدينا خير زاد ميسر
36
ففي خيم أتريذ يفيض شهيه
وعندك منه كل أطيب أفخر
وما الآن آن القول في طيب مأكل
وقد راعنا وقع البلاء المدثر
وإنا لفي ريب بأمر سفيننا
أتهلك أم تنجو إذا لم تشمر
فقد عسكر الطرواد في حلفائهم
لديها وقد أوروا لهيب مسعر
يلوح لهم أنا وهينا وأننا
سنلقى عليها حتفنا بتقهقر
وذا زفس أورى البرق فوق يمينهم
دليلا به يشتد ساعد هكطر
فأصبح لا يرعى إلها خلافه
ويرمقنا طرا بعين محقر
ويدعو فتاة الفجر تبرز عاجلا
ليقطع أطراف السفين ويبتري
37
ويذكي بها النيران ثم إزاءها
يذبح كل العسكر المتضور
تحدم غيظا واستشاط وخشيتي
يتاح له فوز فيفري ويفتري
ونهلك في منأى عن الوطن الذي
غذا الخيل في مرج من الروض أخضر
فهب ابن فيلا إن ترم نصر قومنا
وإن يك جل الخطب واشتد وانبري
ستندم لكن لات حين ندامة
فذا الحين حين الكر والذب فافكر
أما قال فيلا يوم فارقت إفثيا
إلى جيش أتريذ: «بني تبصر
أثينا وهيرا توليانك نصرة
إذا شاءتا لكن على جاشك اصبر
فبالحلم كل الخير والفتنة اطرح
رعاية كل الشيب والمرد تذخر»
نعم ذاك قول قاله الشيخ إنما
تناسيته فاذعن وقومك فانصر
وع الآن قولي إذ أعد نفائسا
سيحبوك أتريذ بأعظم مظهر:
مناضد سبعا لم تر النار جددا
وعشرين طسا ساطعات لمنظر
ومن ذهب يغلو شواقل عشرة
وجرد جياد تألف السبق ضمر
فتحرزها اثني عشر أجرد سلهبا
حبته كنوزا في السباق المكرر
كنوزا إذا ما نالها أيما امرئ
ترفع عن شكوى شجية معسر
وسبع غوان فقن حسنا وصنعة
من اللاء من لسبس سبيت بأبتر
وكن له سهما وذلك عندما
توليتها تحت الطعان المدمر
كذاك بريسا مقسما ومثقلا
يقول إليها القرب لم يتصور
فهذي صلات اليوم تحرزها وإن
ننل دك إليون بحكم مقدر
نضارا وصفرا تؤت ملء سفينة
وعند اقتسام السبي بالغيد تظفر
بعشرين حسنا فقن بعد هلانة
تحز بانتقاها خيرة المتخير
وإما رجعنا للخصيبة أرغس
يرومك صهرا بالمقام الموقر
تجل كأورست الحبيب الذي نشا
بأرغد عيش في يسار موقر
ثلاث بنات الملك أخريسثيمة
ولوذيق أفياناس من ترض تختر
وليس بباغ مهرها ويزيدها
ندى لم يجد فيه أب منذ أدهر
فتنزلها في دار فيلا وفوق ذا
مدائن سبع فوق بر معمر
فريس التقى إيرا الزهور وإنيفا
وقرذملا أنثا الفجاج المنور
وإيفية الحسناء فيداس كرمة
تجاه فلوس الكل في جرف أبحر
تجل بأهليها كرب خطورة
وتحرز مذخور الخراج المقرر
غنما وأبقارا تناهى عديدها
فتلك الهدايا فاترك الغيظ واحضر
ولكنما إن كنت أشربت بغضه
وإن تزدري هذي الهبات وتسخر
فرق لقوم سوف تحرز رفعة
كرب لديهم أحرجوا في المعسكر
ونل ذروة المجد الرفيع مخلدا
بمقتل هكطور الفتى الباسل الجري
إليك تدنى حانقا متوهطا
ويزعم ما في القوم ند به حري»
38
قال آخيل: «يا أذيس المؤانس
لي فاسمع فإنني لا ألابس
لي مقال فلن أحولن عنه
فعه واطرحن عنك الوساوس
من يقل غير ما تيقن فكرا
كان عندي من الجحيم أشرا
39
فالذي قد أسررت هاكم جهارا
لجميع الإغريق لست بناكس
ما بأتريذ والأغارق جمعا
من حقوق الأبطال بالحق يرعى
40
فلديهم سيان قرم عنيد
وجبان عن الوغى متقاعس
41
ولديهم سهم الفتى الصنديد
مثل سهم الهيابة الرعديد
والردى يحصد الجميع سواء
متقي الهول والجسور الحمارس
42
أي نفع جنيت من قهر نفسي
واقتحام الأهوال فتكا ببأسي
كنت كالطير للفراخ يوافي
بطعام عن نفسه هو حابس
43
كم ليال أحييت كم من نهار
باصطكاك القنا أثرت أواري
كل هذا حفظا لعرض نساكم
ولكم خضت فادحات الدراهس
44
إثنتي عشرة مدائن بحرا
نلت ثم الطرواد أأقلقت برا
حيث عشرا وبلدة ثم دمر
ت ومنها قسرا سلبت النفائس
45
ولأتريذ سقت كل الغنائم
وهو بين السفين بالأمن قائم
فحبا الصيد والقيول يسيرا
وبجل الأسلاب قد ظل آنس
إنما من جميعهم ما استردا
أنا من دونهم بسهمي استبدا
46
وإلى زوجتي استطال فدعه
يتمتع بقربها وينافس
47
فعلام الإغريق هاجوا وماجوا
وبحرب الطرواد ثار العجاج
أفما في اطلاب هيلانة قد
جاء أتريذ بالكماة القوامس
48
كل شهم لعرسه يتودد
لم يكن ذا بالأترذين مقيد
وبعرسي أنا كلفت وإن لم
تك إلا من السبايا العطامس
49
إن أتريذ غل سهمي مني
مثلما غرني فلن يخدعني
بك أوذيس والملوك لدرء ال
ضيم عنه فليعقدن المجالس
50
بعد بعدي كم جاء أمرا خطيرا
رفع السور ثم مد الحفيرا
ثم شاد الأبواب لكن أراه
من لقا هكطر المدمر راعس
51
قط ما جاز هكطر الزان قبلا
لا ولا باب إسكيا اجتاز فعلا
بل إزاء الحصون ظل يباري
عندما كنت في صدور الفوارس
للقائي بالحرب يوما تربص
كاد يصمى لكن نجا وتملص
52
بيد أني لا أبغين له بع
د كفاحا فالعود بعد الحنادس
53
فلزفس وسائر الأرباب
سأضحي غدا قبيل المآب
وإذا شئتم ارقبن سفيني
جسن قلب العباب أي جوائس
54
بثقيل الأحمال تمخر مخرا
وبها الأردمون تخرق بحرا
55
وإذا شاء فوسذ ثالث الأ
يام في إفثيا رسون أوانس
فبها قد غادرت مالا وفيرا
وإليه أضم كسبا كثيرا
ذهبا ساطعا حديدا وصفرا
والسبايا ذات القدود الموائس
كل هذا أحرزت سهما حلالا
وأغاممنون أجاز وغالا
أبلغوه قولي جهارا ليخزى
إن رأى بعد أن يدس الدسائس
وهو مهما عتا ولم يتهيب
ذل عن أن يدنو ووجهي يقرب
لا يرومن بعد قولي وفعلي
لا يطيلن لي الحديث الخلابس
56
وليسيرن للهلاك ثبورا
إن زفسا أباد منه الشعورا
هو عندي كشعرة باحتقار
وأنا كل ما به جاد باخس
57
لو حباني عشرا وعشرين مثلا
للذي رام والذي حاز فعلا
أو حباني ما قد حوت أرخمينا
أو حوت طيبة القصور الطوائس
58
تلك في مصر رحبة الأبواب
مئة قد علون مثل الروابي
مئتا فارس على مركبات
وخيول في كل باب حوارس
59
أو حباني عد الهبا والرمال
لن أحولن عن بعيد اعتزالي
لن أحلن وسط ناديه حتى
شر عقبى يلقى لتلك المدانس
بنته لو كعفرذيت سناء
أو أثينا الجلال كانت ذكاء
لن أرومنها فغيري يلقى
من يجاري هواه بين الأراغس
فإذا عدت سالما لبلادي
ثم فيلا كفء لكل مرادي
فبهيلاذة وفي إفثيا عن
د الصناديد لا تقل العرائس
أتنقى منهن من أتمنى
وبزاهي جمالها أتهنا
تلك لي زوجة حلال تليني
في رياش الشيخ الجليل المؤانس
لا يوازي الحياة مال توفر
ضمن إليون قبل سوق المعسكر
لا ولا كل ما بفيثس في هي
كل فيبس رب السهام الطوامس
60
يتسنى بالسيف كسب عجول
وغنيم مناضد وخيول
إنما النفس لا تعود إذا جا
زت خلال الأسنان يوم الدلامس
61
أنبأتني ثيتيس أمي حقا
أنني للردى سبيلين ألقى
خالد المجد بعد موت قريب
أو طويل الحياة والذكر طامس
62
ذاك فيما إذا طلبت الطعانا
ثم هذا إن أبتغي الأوطانا
ومرامي حث الأراغس طرا
أن يئوبوا إلى الديار نواكس
فاذهبوا أخبروا الأخاءة جدا
لن تنالن بالطراود قصدا
زفس ألقى على القلوب يد الأم
ن وبالنفس ظل من فوق حارس
أبلغوا والبلاغ شأن الشيب
ينظروا في خلاف رأي مصيب
فعساهم ينجون إذ أخطأوا في
طلبي لست بينهم قط دائس
وفنكس هنا يبيت وإما
رام عودا معي غدا فنعما
بسفيني سأقلعن يقينا
عند طر الصباح غير ملايس»
63
فاستتم الحديث والقوم طرا
بوجوم خالوا التصلب مرا
ثم فينكس والدموع هوام
لاشتداد الوبال قال مصرا:
64 «إن تكن عن تحدم واحتداد
راغبا عن لقاء جيش الأعادي
وطلبت المآب يا ابني المفدى
كيف ألقى على بعادك صبرا
فمعي قد بعثت للحرب لما
رام فيلا تؤم أتريذ قدما
65
باعتنائي أنميك فعال فعل
وخطيبا قوال قول أبرا
66
يانعا كنت جاهلا للطعان
حيث تبدو شجاعة الشجعان
وكذا جاهلا مفاوض شورا
نا وفيها يعلو أخو الرأي فخرا
لا فلن ألبثن عنك بعيدا
لو حباني رب شبابا جديدا
ومحا شيبتي فعدت كيوم
فيه أبحرت من هلاذة قسرا
يوم من فرط غيظ آمنطور
فرع أرمين والدي وأميري
67
هاربا جئت مذ سعيت إلى جا
رية رام رغم أمي نكرا
فأشارت أمي بها لي حتى
تمقت الشيخ إن رأتني مقتا
وعلى ركبتي صغرا ترامت
فأطعت الهوى ولبيت أمرا
فدرى بي أبي وباللعن مالا
وبنات الردى استغاث وقالا: «ركبتيه لا يعلون غلام
كان منه» وقام ينذر نذرا
فاستجاب الدعاء زفس الجحيم
وفرسفين هول كل عظيم
68
فحدا بي غيظي فكدت أوافي
ه بسيف يبتت بطنا وظهرا
إنما راح بعض آل الخلود
يخمد الغيظ من فؤادي الحديد
خشية أن يقال ما بين قومي
ذلكم كان قاتل الأب كبرا
غير أني أنفت طول المقام
ضمن صرح فيه أبي باحتدام
بيد أن الخلان والأهل راموا
بالتماس أن لا أغادر قصرا
ذبحوا للشوا العجول السمانا
والخنانيص في لظى بركانا
69
وخرافا وخمرة الشيخ صبوا
بأباريقه وطابوا مقرا
وأقاموا حولي ليالي تسعا
إن ينم واحد فآخر يسعى
ولدى باب غرفتي وبباب ال
دار لم يطفئوا مدى الليل جمرا
غير أني بعاشر الأيام
والدياجي قد خيمت بالظلام
فلأبواب حجرتي عامدا قم
ت وقد أوصدت فكسرت كسرا
وعلى الفور جزت باب الدار
خافيا عن نواقد الأبصار
وطلبت الفرار في بر هيلا
ذة أعدو لإفثيا مستمرا
فلقيت المليك فيلا الحليما
وعليه نزلت ضيفا كريما
ودني ود رب مال وفير
بتناهي المشيب أنتج بكرا
فحباني مالا وشعبا كثيرا
وبقوم الذولون قمت أميرا
لك ودي من ثم تدري تناهى
وبجهدي بلغت ما أنت قدرا
لم تكن ترتضي بغير طعامي
جالسا فوق ركبتي وأمامي
أقطع اللحم باعتناء وأعطي
ك بكفي هذي وأسقيك خمرا
ولكم قد قذفت من فيك راحا
فبللت الثياب مني مزاحا
70
ولكم قد أجهدت بالقهر نفسي
ولكم قد لقيت بالجهد قهرا
عالما كنت أن آل الرشاد
حرموني من لذة الأولاد
71
فبك ابنا قد رمت آخيل حتى
تدفع العار إن عراني وتدرا
فاكظم الغيظ لا تر الحقد أبقى
إن نفس الأرباب تذعن رفقا
72
ولهم ذروة الفضائل والمج
د وبأس الذراع فالرفق أحرى
إن يقم خاشع لهم يتضرع
فالضحايا والنذر والخمر تشفع
إن زفسا بناته الصلوات ال
لاء تعدو ورفقه تتحرى
هن عرج جعد الوجوه وحسر
يتعقبن زلة حين تعرو
إنما زلة لها السبق مذ كا
نت خطاها أشد وقعا وأجرى
73
تنهب الأرض حيث تلقي الوبالا
يتتبعنها فيشفين حالا
فالذي عندما يوافينه يب
دي احتراما فعنه يدفعن ضرا
إنما الويل للذي صد صدا
فلزفس يعدن يطلبن رفدا
يتطلبن زلة منه تهمي
فوق ذاك العاتي وبالا أمرا
فاتقيهن يا آخيل احتراما
يتقيهن كل قرم تسامى
ويقينا لو أن أتريذ لم يس
د الهدايا الغراء تذخر ذخرا
أو توانى عن ذكر ما سوف يسدى
بعد هذا أو ظل يشتد حقدا
لم أرم منك نصرة القوم مهما اش
تد فيهم وقع الرزية عسرا
74
إنما الآن قد حبا وسيحبو
مرسلا في بلاغه من تحب
فخيار السراة جاءوك فاذعن
وخذ الآن من بلاغي ذكري:
75
قد أتانا عن سالف الأبطال
عندما الغيظ كاد صدر الرجال
أنهم بين نيل غر الهدايا
والتماس كانوا يلينون صغرا
وبذكراي حادث مر قدما
هاكموه كما جرى وألما
ذاك لما الكوريت ثاروا على الإي
تول والحرب وقعها اشتد حرا
تحت أسوار قالذون تلاقى
ذلك الجمع واستباحوا الشقاقا
فترامى الكوريت يبغون فتحا
وترامى الإيتول يخشون غدرا
ذلك الخطب أرطميس أثارت
حنقا من ويناس والحرب ثارت
إذ تغاضى عن أن يقدم باكو
رة زرع لها وأغفل برا
76
والضحايا المئات لما أتاها
لجميع الأرباب أذكى سواها
غفلة أم تغافلا كان منه
ذلك الأمر إنما كان وزرا
فأثارت بالغيظ خرنوص بر
لأراضيه حيث عاث بكبر
بعتو يجتث أصلا وفرعا
ويبيد الأشجار غصنا وزهرا
فابن ويناس ميليغر التقاه
قاتلا بعد أن أعد سراه
من بلاد الجوار رهط رماة
بكلاب لتذعر الوحش ذعرا
رائعا كان لم يكن باليسير
صده في سلاح نذر يسير
77
قتلوه من بعد قتل كثير
واستتب الشقاق من ثم جهرا
بنزاع يبغون رأسا وجلدا
ذاك ما أرطميس رامته حقدا
وبهم طالما سطا ميليغر
نال قوم الإيتول فوزا ونصرا
فالأعادي ولو يزيدون عدا
ما استطاعوا أن يبلغوا السور حدا
إنما الغيظ وهو يعبث بالع
قال بالكيد منه أوغر صدرا
فأثارته نفرة واحتداما
ألثيا أمه فعاف الصداما
وبذات الجمال إكليبطرا
زوجه قد خلا وعاف المكرا (أمها غادة العلى مرفيسا
من بنات المهيب إيفينوسا
وأبوها إيذاس أعظم قرم
كان ذاك الزمان في الأرض طرا
صال حتى على أفلون لما
رام مرفيس منفذا فيه سهما
أبواها من ثم قد لقباها
ألكيونا لحادث كان مرا
حيث مرفيس فيبس قد بغاها
مثلما قبل ألكيونا سباها
فبكت تلتظي بشدة بؤس
ودعت بنتها كذلك ذكرا)
78
حانقا ميليغر من ثم ظلا
عندها نار سخطه يتصلى
79
ذاك مذ ألثيا لقتل أخيها
أوسعته لعنا وشتما وزجرا
80
تضرب الأرض حدة بيديها
ثم تدعو سخطا على ركبتيها
وأذيسا وفرسفينا تنادي
أن يذيقا ابنها حماما أشرا
لإرينيس في دجى الظلمات
بأريبا انتهى صدى الصلوات
81
ثم قض العدى الحصون وفي الأب
واب عج العجاج طعنا ونحرا
فإلى ميليغر شيب البلاد
بعثوا بالكهان لاستنجاد
وعدوه خمسين فدان حقل
حيثما شاءها وكرما أغرا
ووناس الشيخ الجليل أبوه
جاثيا عند بابه يرجوه
والشقيقات ألثيا نفسها والصحب
والأهل وهو يزداد نفرا
ظل حتى ببابه الحرب شبت
خرق السور ثمة النار شبت
فتبدت لديه زوجته المي
ساء للرفق منه تسأل عذرا
وتريه كم من وبال تعاني
بلدة ذللت بحر الطعان
للمباني حرقا وللقوم ذبحا
والغواني والولد ذلا وأسرا
82
رق وارتد يرفد الصحب رفدا
شك واشتد والعدى صد صدا
ولهذا ما نال غر الهدايا
ولئن كان سام أعداه كسرا
صاح قم لا تكن كذاك عنادا
قبل أن تلهب السفين اتقادا
والهدايا فاقبل وسر معنا يع
لوك طرا مقام رب أبرا
فإذا جئت عن مرامك آنس
لصدام به تزيح الدراهس
83
لن ينيلوك ما أنالوك توا
لو تبيد الأعداء برا وبحرا»
84
قال آخيل: «أيها الشيخ صبرا
ليس بي حاجة لما تتحرى
إن زفسا أجلني وسيحمي
سفني بي ما دمت بالعيش آنس
هاك فصل الخطاب لا تهم دمعا
وتسمني في حب أتريذ صدعا
لا تحبنه وأنت حبيبي
إن تكن من محبتي غير بائس
فاقلين الذي قلاني حتما
ومعي احكم أشاطرنك حكما
85
هؤلاء البلاغ ينمون حالا
وهنا بت على وتير الطنافس
فإذا الفجر لاح نبحث فيما
نرتئيه لنغتدي أو نقيما»
86
ولفطرقل مومئا قال يأتي
بفراش غض لتمضي النواطس
87
هب آياس قال: «أوذيس هيا
لا أرى هكذا المنى يتهيا
وعلينا ننمي الجواب وإن سا
ء فإن الإغريق ظلوا بهاجس
إن آخيل قد تصلب طبعا
وأداني الخلان ما ظل يرعى
عظموه من فوق كل عظيم
وهو عات جاف ظلوم قناعس
88
كم أخ يفتدون بالمال وابن
ويظل الجاني برغد وأمن
وأهالي المقتول إن أحرزوا الما
ل وفيرا عفوا وعافوا المراجس
89
قلبك اكمد حانقا لفتاة
وأتينا نحبوك سبع بنات
وعدا الغيد باهرات العطايا
سكن الروع ألق عنك الهواجس
عن جميع الإغريق جئنا إليكا
بغية أن نرى أحب لديكا
نحن في بيتك الذي أنت فيه
فاحترمه وارع الضيوف وآنس»
90
قال آخيل: «يا أياس أراكا
فهت حقا بما حواه نهاكا
بيد أني لم أنس أتريذ يزري
بي كأني فيكم دخيل مخالس
كلما هاج ذكر ذلك فكري
يتلظى قلبي ويوغر صدري
فاذهبا بلغا فلا قمت حتى
دون خيمي تعثو العداة الغطارس
فهنا ألتقي ابن فريام مهما
صال بالبطش مستجيشا وأدمى
بعد أن يهلك الأراغس ذبحا
وبكل السفين تذكو المقابس»
91
ثم قاموا من ثم للقربات
بكئوس للخمر مزدوجات
فأراقوا وللسفائن عادت
رسلهم تقتفي لأوذيس إثرا
والجواري بأمر فطرقل قمن
لفنكس غض الفراش أقمن
من جلود النعاج تحت غطاء
وبهي الكتان يسبل سترا
ثم فينكس نام يرقب صبحا
وأخيل إلى الزوايا تنحى
وذميذا من لسبس بنت فريا
س تليه في مرقد شيد خدرا
ثم فطرقل في الخباء المقابل
وليته إيفيس ذات الشمائل
من آخيل أنيلها مذ غزا إس
كيرسا من إيفس وأحرز وفرا
وإذ الوفد خيم أتريذ حلا
نهض الجمع مكرما ومجلا
وأتوهم بأكؤس من نضار
متقصين أمرهم كيف قرا
وأغاممنون استهل السؤالا: «قل أذيس فخر الإخاءة حالا
أأرعوي مقبلا لصد الأعادي
أم بغل الأحقاد يكمن شرا»
قال: «بل غيظه العنيف أشد
عن حباء تحبو وعنك يصد
ويقول اشددن فيمن سواه
لنجاة السفين والجيش أزرا
وعلى جملة الملوك يشير
أن يئوبوا لأهلهم ويسيروا
ولقد قال سوف يقذف للبح
ر بأشراعه ويقفل فجرا
92
قال إليون لا مرام إليها
إن زفسا ألقى يديه عليها
وقلوب الفرسان فيها لقد ش
دد هذا ما قال طيا ونشرا
وأياسا كذاك فيجيك فاسأل
ما وعوه وثم فينكس قد ظل
معه راجعا يسير إذا ما
رام لا محرجا غدا فهو أدرى»
93
فأصاخوا وكلهم بسكينه
ذعروا لاضطرام تلك الضغينه
وأطالوا الوجوم والصمت حتى
هب ذوميذ صائحا: «يا ابن أترا
حبذا لو لم تبغ يا ذا الجلال
صلح آخيل بالهبات الغوالي
هو عات بنفسه وغشوم
ولقد زدته عتوا وجبرا
94
فلندعه وشأنه أأقاما
أم مضى سوف يقحمن الصداما
ذاك لما تهيجه النفس أم تد
عوه آل العلى فيأتي مكرا
فاستريحوا ذا الآن وأتوا الرقادا
إذ جميعا طبنا شرابا وزادا
فبهذا تؤتون قوة بأس
وغدا الفجر فاسطر الجند سطرا
والعجال اصففن أمام السفين
ثم في الصدر أور نار المنون»
95
جاهروا بالثنا أراقوا وكل
راح يأتي فراشه مستقرا
هوامش
النشيد العاشر
أوذيس وذيوميذ يتجسسان العدو ليلا
مجمله
اضطربت أفكار أغاممنون لخيبة مسعاه في استرضاء آخيل، فلم يهجع طول ليله بل لبث يطوف في المعسكر ويوقظ القواد متبصرا في السبل المؤدية إلى سلامة الجيش وفوزه على الأعداء. وكان أخوه منيلاوس أرقا نظيره فأتاه يشد أزره وينفذ أمره، فأوقظا زعماء الجيش وذهب منيلاوس ونسطور وأوذيس وذيوميذ يتفقدون الحرس فألفوهم متيقظين فخطب فيهم نسطور ثم عقد مجلس الزعماء وأقروا بطلب نسطور على تجسس معسكر الأعداء. وألقوا عبء القيام بتلك المهمة إلى ذيوميذ وأوذيس فذهبا تحت جنح الظلام.
وكان الطرواد قد فعلوا في معسكرهم فعل الإغريق فأنفذ هكطور ذواون يتجسس ليلا. فقبض اليونانيان على الطروادي واستنبآه نبأ جماعته. ولما قضيا وطرهما منه قتلاه وسارا إلى مضارب الثراقيين فألفياهم نياما فقتل ذيوميذ ملكهم ريسوس وألحقا به اثني عشر جنديا من أجناده ثم رجعا بخيله. فاستيقظ الطرواد مذعورين ولكنهم لم يفوزوا بطائل من القاتلين. فاختفى الإغريق بهما واستقصوا الخبر فأخبراهم بما كان.
مجرى وقائع هذا النشيد في الليلة التي جرت بها وقائع النشيد السابق ومشهدها في المعسكرين.
النشيد العاشر
1
دون السفائن والدجى قد خيما
هجم الهجوع على الجيوش منوما
فتمتعوا بهنيئه لكنما
أتريذ يأرق بالهواجس مفعما
2
كقرين هيرا إن أقام مهيئا
بردا وسيلا في البلاد عرمرما
3
أو رام يستر ثلجه وجه الثرى
أو تفغر الحرب المهدمة الفما
4
في الجو تقصف وامضات بروقه
كفؤاد أتريذ يهيج تضرما
لمعسكر الطرواد يلفت تارة
فيرى مقابسهم بذياك الحما
وعجيجهم وصدى ترسلهم على ال
شباب والقصب الرخيم ترنما
فيعود مذعورا وطورا ينثني
نحو السفائن ثم يحجم مرغما
وشعوره بأصولها وفروعها
يجتث مبتهلا لزفس تظلما
ويصعد الزفرات من لب الحشا
متبصرا فيما عسى أن يلهما
فبدا له أن الصواب بملتقى
نسطور عل لديه رأيا أقوما
ولعله بحجاه يدرك منفذا
يوقى به الإغريق شرا أعظما
فاشتد منتصبا وأدرع موثقا
خفيه في رجليه وثقا محكما
وعليه ألقى جلد قسورة إلى
عقبيه يستره وقل اللهذما
5
وقضى منيلا ليله أرقا على
قلق يفكر ساهدا متألما
يخشى على القوم الألى خاضوا العبا
ب لأجله وأتوا يريقون الدما
فعلى عريض الظهر ألقى مسرعا
بردا بهيا جلد فهد معلما
6
وتريكة الفولاذ تعلو رأسه
وبصلب راحته السنان مقوما
وعدا ليوقظ سيد القوم الذي
كعظيم رب فيهم قد عظما
7
ألفاه في راس السفائن قائما
مستبشرا لقدومه مستلئما
فبدا منيلا بالخطاب : «أخي لما
ذا أنت مدرع أتبغي سيدا
متجسسا يأتي العداة وخشيتي
أن لا ترى قرما يلبي مفردا
ولئن وقعت عليه في قلب الدجى
فلذاك قلب لا يراع من الردى»
فأجاب: «أنت بحاجة وكذا أنا
لمصيب رأي نبتغيه منجدا
أفلا ترى زفسا تغير مؤثرا
قربان هكطر فاجتباه مؤيدا
ما خلت ما بلغت قرما غيره
أمثال هذا الويل أنزل في العدى
ما كان للأرباب ينسب مولدا
وأنالنا الويلات تذكر سرمدا
8
فامض ادع آياسا وإيذمنا كذا
ك أنا إلى نسطور أذهب مقعدا
فعساه في الحراس ينفذ أمره
مذ فيهم قد كان أرفع سؤددا
وعليهم من قبل أمرنا ابنه
والشهم مريونا» فقال وقد عدا: «أفبانتظارك ألبثن لديهما
أم أبلغن وأرجعن مخودا»
9
قال: «ابق ثمة فالمعسكر سبله
شتى وأخشى أن نضل بها الهدى
10
سر صائحا بالجيش يصح مناشدا
كلا أباه ومنتماه محتدا
عظمه لا متعظما واجهد فزف
س منذ نشأتنا قضى أن نجهدا»
11
فكذا أغاممنون حض شقيقه
ولخيم نسطور الحكيم تقدما
ألفاه قرب خيامه وسفينه
وسنا على غض الفراش قد ارتمى
وتليه شكته البهية خوذة
والجوب والرمحان ثمة قوما
وكذاك لأمته التي يجري بها
للحرب في صدر الفوارس مقدما
شيخ وما أيامه بمذلة
لقواه بل ظل الكمي الأيهما
12
فصحا يميل الرأس متكئا على
يده وأتريذا دعا مستفهما: «من أنت من بين السفائن والحما
والناس ناموا في الدجى قد أسأدا
13
أفرمت بعض الصحب أم حراسنا
لا تأتني بالصمت قل لك ما بدا»
14
فأجاب: «يا نسطور يا فخر الأرا
غس ذا أغاممنون فاعرفه اغتدى
زفس يهيل علي من دون الورى
جهدا مدى عمري يدوم على المدى
ولقد جفا طرفي الهجوع وساقني
قلقي فجئتك قاصدا مستنجدا
أبدا يؤرقني وبال رجالنا
والحرب قائمة ومرجعهم غدا
فالنفس بي جاشت وقلبي خافق
ومفاصلي ارتعدت وعزمي بددا
أفلا أتيت وأنت مثلي ساهد
تمضي إلى الحراس كي نتفقدا
15
فلعلهم في جهدهم ونعاسهم
تركوا خفارتهم وباتوا رقدا
فمعسكر الأعداء ذاك وربما
في الليل أورى حربه متمردا»
فأجاب نسطور: «أيا مولى الورى
ما خلت زفس مرام هكطر مسعدا
ولسوف يأخذه العناء إذ ارعوى
آخيل يخمد غيظه المتوقدا
ولنمضين فإنني لك تابع
فنقيم هاتيك السراة الهجدا
ذا الرمح ذوميذا وأوذيسا وآ
ياس السريع وميجس المتجلدا
ولنطلبن الملك إيذمنا وآ
ياس الكبير ففي السفائن أبعدا
وكذا منيلاس الذي أجللته
ولئن تغظ فسألتقيه منددا
ما كان أجدره يليك محرضا
أبطالنا متزلفا متوددا
أفيهجعن ويتركن لك العنا
والرزء برح والوبال تشددا»
فأجاب أتريذ: «نعم يا شيخ كم
قبلا سألتك أن تليه مفندا
16
قد ينثني حينا ويلبث محجما
لا غفلة وتقاعسا وتعمدا
لكنه أبدا يباري موقفي
حتى يكون بحسن مسراي اقتدى
وقد اغتدى قبلي وقد أرسلته
بطلاب أقيال أتيت معددا
17
أقبل نوافهم لدى الحراس في ال
أبواب حيث لهم ضربت الموعدا»
فأجاب نسطور: «وما من لائم
يعصيه إن يأت الجنود مشددا»
ثم انثنى للدرع يلبسها ولل
حقين يوثق محكما بعراهما
ورداؤه برد من الصوف الكثي
ف مبطن ببهي فرفير سما
بعراه شد يقل رمحا ساطعا
فولاذه ثم السفائن يمما
ومضى يصيح فكان أول من دعا
أوذيس ذياك الهمام الأحكما
فإذا به والصوت يخرق لبه
من باب خيمته عدا متكلما: «فعلام ما بين السفائن والحما
هذا التجول والظلام تلبدا»
فأجاب نسطور: «مه وانظر لما
جيش الأراغس بالهلاك تهددا
إلحق بنا ندع السراة ونرتئي
أنكر أم تأوي الكتائب شردا»
فلخيمه أوذيس بالعجل انثنى
وأتى بمجوبه وأدلج معهما
لحما ابن تيذيس مضوا فإذا به
بسلاحه تحت الفلا قد هوما
ووساده زربية ملفوفة
وفراشه من جلد ثور أسحما
18
ورفاقه من حوله بهجوعهم
كل توسد ترسه متجشما
19
ورماحهم أعقابها تحت الثرى
وظبا أسنتها تألق في السما
20
فإليه نسطور تدنى ممسكا
عقبيه ثم دعا يصيح تهكما: «قم يا ابن تيذيس أليلك كله
تكرى ومن لغب العدى ارتفع الصدى
أفخلت جيشهم إزاء سفيننا
في السهل فوق هضابه قد أنجدا»
هب ابن تيذيس وقال: «لكم أرى
يا شيخ نفسك قد جهدت منكدا
أفما بأبناء الأخاءة فتية
يسعون في استنهاض قومك رودا
لكن أبيت سوى الجهاد ذريعة
وعظيم بأسك للجهاد تعودا»
فأجاب نسطور: «أصبت فإن لي
ولدا وغلمانا تلبي المقصدا
لكننا في موقف حرج على
أمضى من الموسى حياة أو ردى
21
فاذهب وأنت فتى وتكفيني العنا
أيقظ أياس وميجسا مسترفدا»
فعليه ألقى جلد قسورة إلى
عقبيه يستره وقل اللهذما
فمضى أتى بهما وجمعهم جرى
يمضي إلى حراسهم مستعلما
فبدا لهم زعماؤهم في يقظة
بسلاحهم كل حماه قد حمى
مثل النواهس في الحظائر سهد
حول الخراف وسبع بر همهما
22
فالوحش منحدر من الشم العلى
في غابه ودجى الظلام تقتما
والناس تقحم والكلاب بصيحة
من حوله في الليل كي لا يقحما
فالنوم يهجرهم كما هجر الألى
خفروا الجنود بجنح ليل أظلما
23
أبدا بذاك السهل يحدق طرفهم
مصغين خوف عدوهم أن يدهما
فاهتز نسطور لرؤيتهم على
حذر وقال مطيبا متبسما: «إيه بني خفرتم فتيقظوا
أو لا فنمسي للأعادي موردا»
واجتاز من ثم الحفير وخلفه
صيد السرى حتى تبت وتبرما
وكذلك الشهم ابن نسطور ومر
يونا لذاك المنتدى استدعوهما
حلوا محلا لم تدنسه الدما
حيث التوى لليل هكطر محجما
24
فهناك مجلسهم تألف وانبرى
نسطور يفتتح الحديث المفحما: «أبكم فتى صحبي بثبت جنانه
عبء التجسس في العداة تقلدا
25
فعسى يفاجئ منهم فردا نأى
أو عنهم يروي حديثا أوردا
ويرى أعزمهم التثبت للوغى
قرب السفائن شدة وتوقدا
أم عودة لديارهم من بعدما
قد أعملوا فينا قنا ومهندا
وعساه يسمع ثم يرجع ذاخرا
في الأرض ذكرا والسماء مخلدا
وكذاك نحبوه جدا لم يحوه
أحد ولم يظفر بذياك الجدا
من كل قيل في السفائن نعجة
سوداء ترضع خير جدي أسودا
ويكون في كل الولائم والمآ
دب من ذوي القربى الأعز المفتدى»
فالصمت طال بهم فصاح ذيومذ: «قلبي يحدثني بأن أتجردا
فأنا أيا نسطور أخترق العدى
فهم بمقربة ولن أترددا
لكن معي إن سار من أصحابنا
أحد أزيد تشددا وتجلدا
إذ حيث سار اثنان بعضهما بدا
لا شك أدرك للمرام وأرشدا
والفرد لو نظر السداد فربما اع
تاص السداد على حجاه وعقدا»
26
فلحاقه الجم الغفير تطلبوا
ذاك الأياس وذا الأياس كلاهما
وكذا ابن نسطور ومريون الفتى
وكذا منيلا من لأتراس انتمى
وأذيس ذياك الهمام أخو النهى
من لاختراق سرى العداة تحدما
27
كل يروم لحاقه لكنما
أتريذهم حسم الجدال محكما: «لك يا ذيوميذ الخيار فخذ إذن
من رمت أبسلهم وأطولهم يدا
لكن حذار بأن تعاف جديرهم
عطفا على من كان أكرم مولدا»
28
فبذاك أتريذ أشار ترفقا
بأخيه قال: «لي الخيار إذا غدا
أفلا أرى مولى أثينا أوذسا
والعزم والرأي الرجيح مسددا
29
وإذا بقلب النار كنت رفيقه
فبحزمه نلقى لمخرجنا مدى»
فأجاب أوذيس: «مه لا تمدحن
أو تقدحن مخفضا ومصعدا
قد قمت ما بين الأغارق خاطبا
وجميعهم عرفوا الصحيح المسندا
فالليل من أثلاثه ثلثين قد
أفنى وأبقى منه ثلثا أوحدا
والفجر دان والظلام مسارع
والنجم مال فقم فقد قصر المدى»
30
نهضا وبالعدد الثقيل تدججا
والشهم ثرسيميذ قام إليهما
أعطى ذيوميذا حساما قاطعا
حداه مذ قد كان أعزل أقدما
ومجنه وتريكة جلدية
ملساء للفتيان كانت معلما
وأذيس مريون أعار سلاحه
قوسا وجعبته وسيفا مخذما
31
وتريكة جلدية بلفائف
من داخل من فوق صوف أنعما
وأدير من سن الخرانيص البهي
صف عليها خارجا قد نظما
قد كان عفطوليق في إيلين
من صرح آمنطور أحرز مغنما
ولأمفداماس بإسقندا حبا
فبها على مولوس ضيفا أنعما
وأنالها مولوس مريون ابنه
وكذاك مريون لأوذس سلما
32
فكذا برواع السلاح تقدما
وإذا بطير سار عن يمناهما
رخم أثينا سيرته وفي الدجى
سمعا وما رأيا يصيح منغما
فاهتز أوذيس له مستبشرا
ووعا وخير الفأل فيه توسما:
33 «يا بنت رب الجوب كم أوليتني
عونا جميع مسالكي قد مهدا
فالآن غوثك مذ علمت مآربي
ولنا أتيحي العود عودا أحمدا
فنجشم الطرواد قبل مآبنا
مضضا يذيقهم النكال مؤبدا»
ثم انبرى ذوميذ يدعو بعده: «يا بنت زفس كذا اسمعي مني الندا
ومعي فسيري مثلما في ثيبة
رافقت قبلا تيذيوس الأمجدا
لما كتائبنا ثغور أسوفس
حلت إلى أبناء قدمس أوفدا
34
فقضى مآل رسالة سلمية
ثم انثنى فوليته فتسودا
وقضى العجاب بعوده فكما أثي
واليت لي كوني الرفيق المرشدا
ولقد نذرت ضحية بتبيعة
جبهاء ما رفعوا إليها المضمدا
35
ولقد نذرت كذاك نذرا صادقا
من فوق قرنيها أذر العسجدا»
دعوا وسارا بعد بث دعاهما
ولدى أثينا حل صوت دعاهما
وتقدما أسدين بين ظلائم
وجماجم وملاحم تلقاهما
أما الطراود فانبرى هكطورهم
يدعو الأماثل خشية أن يهجعوا
حتى إذا التأموا بمجلسه ارتأى
أمرا فقال لهم وكل يسمع: «من منكم إن يؤت خير هدية
عهدا يعاهدني يلبي المطلبا
فينال أكرم سلهبين لدى العدى
وأعز مركبة يجل بها الحبا
36
ويفوز بالشرف الرفيع إذا مضى
يتجسس الأعداء في طلب النبا
أهم على ما عودوا من يقظة
أم هد عزمهم النكال منكبا
والعي أقعدهم وقد أنفوا السها
د معولين على التملص مهربا»
صمتوا فقام فتى دعوا ذولون أو
ميذ فبرز بالنفائس يطمع
فيج توفر عنده بخزائن
فولاذه ونضاره المتجمع
ووحيد والده لخمس شقائق
أعداهم جريا ووجها أشنع
قال: «اصغ هكطور فإن بخاطري
جأشا يحدثني بأن أتأهبا
وأسير للأسطول ليلي راصدا
حركاتهم متحسسا مترقبا
فارفع عصاك إذن وأقسم مثقلا
أني أثاب إذا عزمت مأوبا
بجياد آخيل ومركبة بها
فولاذه الصلب المؤلق ركبا
فأسير مخترقا إلى لب الحما
أعتان ثم لأبلغن المركبا
37
حيث الملوك لدى أغاممنون قد
رأوا الفرار أو التربص أرغبا
ما كنت تعلم ديدبانا جاهلا
حتى لظنك بي أكون مخيبا»
38
رفع العصا بيديه هكطر مقسما: «إستشهدن علي زفس المرهبا
لن يعلون سواك خيل أخيل بل
ستنالها مني حلالا طيبا»
39
ما كان هكطور ليقسم صادقا
لكنه ذولون شدد يقنع
عجلا مضى يأتي بقوس فارج
وبفرو ذئب أبيض يتلفع
40
وبمغفر السنجاب يستر رأسه
وسنان عامله المثقف يلمع
لمواقف الأسطول سار وإنما
هيهات من تلك الرسالة يرجع
حتى إذا برح الحما والخيل وال
فرسان جد مسيره يتسرع
فرآه أوذس قال: «يا ذوميذ ذا
عين من الأعداء جاء محجبا
أترى أتى كي يرقب الأسطول أو
من عدة القتلى يغل ويسلبا
دعه إذن حتى يمر أمامنا
فعليه نقبض حيث يحرج مذهبا
لكن إذا ما اجتازنا عدوا ولم
ندركه بالرمح اقتفيه مصوبا
واقطع سبيل قفوله لرجاله
وإلى السفائن رده متعقبا»
فتواريا زحفا على القتلى على
جدد الطريق وذاك جهلا يهرع
حتى تناءى قيد ثلم قاطعا
مما تثلمه البغال وتقطع
41 (إن البغال لشق قلب الأرض في ال
محراث من بقر الزراعة أنفع)
فتقفياه فحل وقع خطاهما
في سمعه فلوى الخطى يسمع
أملا بأن سعاة هكطر وجهت
بلحاقه فأتت تجد وتسرع
لكن على مرمى القنا عرف العدى
فجرى وكل منهما يتتبع
كالخيطلين مثقفين تأثرا
في الغاب أرنبة وخشفا يرتع
42
ذو الناب بالناب الحديد مروع
والخشف يثأج واثبا يتروع
43
فصلاه عن جيش الطراود نائيا
حتى على العساس أوشك يدفع
دفعت فلاس ذيومذا بعزيمة
كي لا يصول عليه قرم أمنع
ويكون ذاك القرم أول طاعن
وذيومذ بالطعن تال يتبع
هز القناة وقال: «قف أو لا فخذ
تؤتيك أنبئك الحمام مقربا
فرمى يصرح فوق كاهله بها
عمدا فغاصت في الثرى تترعرع
44
فانهد ممتقعا وأوقف هالعا
مصطكة أسنانه يتلعلع
45
وثبا عليه ومن يديه أمسكا
ه فقال يشهق باكيا يتخضع «عفوا وتجزل فديتي ذهبا وصف
را والحديد مثقفا ومصلبا
وأبى ينيلكما الغنى إما درى
أني على الأسطول حي في الخبا»
فأجاب أوذيس بحكم دهائه: «فاسكن ولا تخش الردى متهيبا
46
قل صادقا ما جئت ترقب مفردا
والناس ناموا والظلام تقطبا
أفجئت تسلب أم بغى بك هكطر
عينا لموقفنا أسير ليرقبا
أم جئت من تلقاء نفسك خابطا»
فأجاب يخفق جازعا يتهلع: «بل هكطر أغرى وأورثني البلا
إعداده صلة يجل بها الحبا
أفراس آخيل ومركبة بها
فولاذه الصلب المؤلق ركبا
لأسير والليل ادلهم مسارعا
لمواقف الأعداء في طلب النبا
أسفينكم صنتم كسابق عهدكم
أم هد عزمكم الوبال منكبا
والعي أقعدكم تعافون السها
د معولين على التملص مهربا»
فأجاب مبتسما أذيس: «نعم فقد
أطمعت في صلة تعز تطلبا
لكنما هيهات إنسي على
تلك الجياد يطيق أن يتغلبا
إلا أخيل وذلك ابن إلهة
فاصدق وقل لي أين هكطر كوكبا
وسلاحه وخيوله وعيونه
ومعسكر الطرواد أين ترتبا
أعلمت عزمهم التربص للوغى
قرب السفائن شدة وتصلبا
أم عودة لديارهم من بعد ما
قد أعملوا فينا الحسام الأشهبا»
47
فأجاب ذولون: «سأصدقك النبا
عن كل ما قد رمت تعلم معربا
هكطور عن لغب الوغى في عزلة
من نخبة الزعماء ألف موكبا
وهناك في شوراه أهل المنتدى
يقضون حول ضريح إيلو المجتبى
لم ينظموا حرسا على جنباتهم
لكن جيشهم الهجوع تجنبا
وأقام من حول المقابس ساهدا
متكاثفا متيقظا متألبا
لكنما الحلفاء ليس وراءهم
ولد وأزواج ترام فتستبى
ألقوا على الطرواد عبء هجودهم
ولفيفهم عذب الهجوع استعذبا»
48
فأجاب أوذيس: «وهل هم جملة
أم كل قوم في حماه تكتبا»
فأجاب: «من بعد اقتراع قيولهم
في الجرف عسكر قاريا قد طنبا
وكذا رماة فيونيا وفلاسج
قفقونة والكل يهجع متعبا
وكذلك الليليج ثم بثمبرا
قد حل فيلق ليقيا فوق الربى
وكماة خيل ميونيا وفريجيا
وهناك عسكر ميسيا آل الظبى
49
وعلام ذا التنقيب دونكما الهدى
إن تطلبا ثم الولوج وترغبا
فهنا الثراقة جيشهم توا أتى
طرف الحما حلوا مكانا أقربا
ومليكهم ريسوس خلت خيوله
كالثلج نصعا والعواصف هببا
وعجيب مركبة تنير بعسجد
حول اللجين على سلاح أعجبا
ما كان يجدر صنعه ونضاره
بالإنس بل ويزين ربا أهيبا
فبي اقصدا الأسطول إما شئتما
أو لا وثاقي فاشدداه واذهبا
وتحققا أصدقت فيما قلته
أم رمت عمدا أن أروغ وأكذبا»
فعدا ذيوميذ يحملق صارخا «لا تجعلن لك التملص مأربا
بك قد ظفرنا لا ترم لك نجوة
ولئن بذلت لنا البلاغ الأصوبا
فإذا حييت مسرحا أو مفتدى
فلسوف ترجع راقبا أو محربا
لكن إذا أوردت في العجل الردى
بين الأخاءة لن ترود وتضربا»
فأشار ذولون لعارضه يم
س بكفه متشفعا يتضرع
لكن ذيوميذ على العنق انثنى
بحسامه العضلين قطعا يقطع
50
فالرأس أهوى للحضيض مصدعا
مذ كان يهتف صارخا يتصدع
وكلا ذيوميذ وأوذس عامد
لتريكة والقوس منه ينزع
وكذاك جلد الذئب والرمح الطوي
ل وكلها أوذيس أمسك يرفع
نذرا لآثينا يقدم هاتفا: «يا ربة اقتبلي السلاح مخضبا
51
من كل آل الخلد أبناء العلى
فلأنت أول من نروم تقربا
وبنا إلى حيث الثراقة عسكروا
بخيولهم سيري فلن نتحسبا»
وبجذع طرفاء أناط مكثفا
قصبا وأوراقا عليها تجمع
سمة بغى في جنح ذياك الدجى
لهما فلا تخفى به وتضيع
وتقدما بين القواضب والدما
فإذا الثراقة بالهجوع تمتعوا
52
وإزاءهم فوق الحضيض سلاحهم
سطرا ثلاثة أسطر قد جمعوا
وإزاء كل فتى جواداه وفي
قلب الكماة مليكهم متمنع
ووراء مركبة تليه أوثقت
أفراسه الأنجاب لا تتفزع
فهناك أوذس كان أول باصر
فإلى ذيوميذ أشار يشجع: «هاك الكمي وهاكها أفراسه
ذولون لم يك مائنا متكذبا
فالبأس بأسك صل فأنت مدجج
أو شأننا ذا اليوم أن نتنكبا
حل الجياد وإن تشأ فأحلها
واضرب بأعناق الرجال مقضبا»
ويد ابن تيذيس أثينا شددت
فانقض أسباب الرقاب يقطع
سيف فرى ودم جرى صبغ الثرى
وتصدع وتوجع وتفجع
كالليث فاجأ ثلة لم يرعها
راع فمزقها وما هو مقلع
53
ما زال يبطش فاتكا حتى فرى
بحسامه اثني عشر قرما يصدع
وأذيس ثمة كلما قتل امرؤ
عقبيه يقبض والطريق يوسع
حرصا على الخيل التي ما عودت
عدوا على القتلى فلا تتضعضع
حتى إلى ريسوس ثالث عشرهم
بلغا فجندله ذيومذ يصرع
أرداه وهو مصعد زفراته
قلق لطيف زاره يتجزع
طيفا بشكل ذيومذ فالاس قد
بعثت على رأس المليك يوقع
54
وأذيس حل الخيل يقرنها بمض
مدها وجد بها يسير ويقلع
وبقوسه يستاقها مذ فاته
سوط بمركبة أنيط مرصع
حتى نأى فدعا ذيومذ صافرا
لكن ذيومذ ظل لا يتزعزع
55
مترددا أبجذعها يجتر مر
كبة سلاح رسوس فيها يسطع
أم بين كلتا راحتيه يقلها
أم غصة الموت الثراق يجرع
وإذا بفالاس إليه دنت تقو
ل: «ذيومذ قد حان أن تتأوبا
فلرب رب يوقظ الطرواد في
عجل فتحرج للهزيمة مرعبا»
فوعى ذيومذ صوتها ثم اعتلى
عجلا وأوذس بالحنية يقرع
56
فإلى الحمى طارا ورب النور في
بس راقب حركاتها متطلع
لم تخفه فالاس ذوميذا تلي
فانقض محتدما وراح يفزع
وإفوقنا من آل ريسوس ومر
شد قومه في الحال نبه يجزع
57
فرأى يهب تذعرا ما قد جرى
فدعا رسوس رفيقه يتوجع
الناس تخبط بالدماء أمامه
والخيل مربطها لديه بلقع
فتهافت الطرواد بين ضجيجهم
متذعرين لما رأوه وأسمعوا
واستعظموا قحة بها هجم العدى
فسطوا وللأسطول ليلا أزمعوا
وذيومذ وأذيس لما بلغا ال
أسلاب حيث استبقيت تستودع
وثب ابن تيذيس تناولها وفي
عجل إلى أوذيس أقبل يدفع
ثم اعتلى والخيل ساط فطيرت
للقوم يحملها الطريق المهيع
58
وبهم بدا نسطور أول سامع
قال «اسمعوا يا صحب حدسي ما نبا
59
قد دب في أذني وقلبي منبئي
خبب بكبكبة الجياد مدبدبا
60
فعسى ذيوميذ وأوذس أقبلا
ومن العدى خير الجياد استصحبا
أخشى التألب في العداة عليهما
فعساهما ببلية لم ينكبا»
ما كاد نسطور يتم كلامه
حتى من البطلين هل المطلع
فترجلا والكل جاء مسلما
بيمينه وصدى المديح يرجع
61
فبدا بهم نسطور أول سائل
والكل مصغ للنبا متوقع: «يا فخر آخاي المبجل أوذسا
هذي الجياد فقل أكانت مكسبا
أم رب خلد ساقها صلة أرى
كالشمس تلهب بالشعاع تلهبا
فلقد هرمت وخضت كل كريهة
وأبيت عمري عزلة وتحجبا
لكنني لم ألف عمري مثلها
فلرب رب مجتب لكما حبا
فكلاكما للرب زفس وبنته
فالاس كان مقربا ومحببا»
فأجابه أوذيس: «يا نسطور يا
شرف الأخاءة والحكيم الأنجبا
فالرب والأرباب آل كرامة
لو شاء أتحفنا جيادا أطيبا
لكن هذي الخيل إثراقية
جاءت حديثا فانظرن وتعجبا
فذيومذ المقدام أردى قيلهم
وإزاءه اثني عشر قرما خضبا
وكذا بثالث عشرهم فزنا وكا
ن إلى السفائن قادما متقربا
عين أسير لهكطر ورفاقه
مستطلعا أخبارنا متطلبا»
واجتاز بالخيل الحفير بغبطة
وكذا الجميع على المسرة أجمعوا
صحبوه حتى خيمة لذيومذ
والخيل فيها في المرابط أودعوا
وهناك في الحب الشهي جياده
بمذاود نصبت لديها رتع
ومضى أذيس بمنتهى أشراعه
أسلاب ذولون الخضيبة يشرع
62
نذرا يعد بها وكل منهما
في البحر خاض مسارعا يستنقع
ساقيه والفخذين يغسل دالكا
عنقا بها عرق يسيل ويهمع
حتى إذا ما اليم رطب جسمه
للمسبح المصقول بادر ينزع
مستأنفا غسلا به متطيبا
زيتا به الجسم المرطب يمرع
63
ثم اغتدى لطعامه وهناك ضا
في الدن بالخمر الشهية مترع
منها يريق بأكؤس مملوءة
نذرا لآثينا بها يتشفع
هوامش
النشيد الحادي عشر
المعركة الثالثة
مجمله
لما بدت كوكبة الصباح سير زفس «الفتنة» فهاج الجيشان للقتال فشك أغاممنون بسلاحه واندفع بجيشه تحت رعاية أثينا وهيرا. وأما الطرواد فأخذ زفس بيدهم وتربص هكطور لصد هجمات الأعداء فالتحمت الحرب وأبرز أغاممنون من البسالة ما دهش له الطرواد فالتووا أمامه وهو يتعقبهم ويفتك فيهم. فذهبت إيريس ببلاغ زفس إلى هكطور تأمره باعتزال الحرب حتى يصاب أغاممنون بجرح أليم. وما عتم أن جرح أغاممنون فاندفع هكطور وشدد عزائم جيشه فكادوا يظهرون على الإغريق. وانبرى ذيوميذ لهكطور فصده وإذا بفاريس قد أطار على ذيوميذ سهما أقعده. فبادر أوذيس لإغاثته وظل يناضل حتى جرحه صوقوس وكاد يهلك لو لم يسرع إليه أياس ومنيلاوس. وانقض أياس على قلب الجيش الطروادي فهزمه فأسرع هكطور إليه من طرف الميسرة فانهالت السهام على أياس كالمطر وجرح وقتل من زعماء الإغريق الجم الغفير. وكان أخيل يرقب عن بعد فأرسل فطرقل يتبين ما كان من أمرهم فقص عليه نسطور ما نال القوم من الجهد والعناء، فعاد فطرقل إلى أخيل يتوسل إليه أن ينهض بنفسه أو يلبسه سلاحه ليخدع به الأعداء ويرعبهم.
مجرى وقائع هذا النشيد في اليوم الثامن والعشرين لافتتاح الإلياذة وستستمر وقائع هذا اليوم إلى النشيد الثامن عشر. ومشهد الحوادث في ساحة القتال.
النشيد الحادي عشر
1
لما بدت غزالة الصباح
تنهض من مرقدها الفياح
وغادرت طيثون ذا الوجه الوضي
حتى على الجنة والناس تضي
2
سير زفس فتنة الوبال
بيدها معالم القتال
3
فانتصبت منتصف الأسطول في
مركب أوذيس الكبير المشرف
لتبلغ الفزعة كل العسكر
حتى أخيل وأياس الأكبر
إذ خيما وربطا القلاسا
في الجانبين شدة وباسا
4
فدمدمت تدوي دوي الرعد
وشددتهم للقا المشتد
فآثروا الحرب وثقل المحن
على المآب لعزيز الوطن
فقام أتريذ بهم وصاحا
بالقوم كي يقوموا السلاحا
وشك في فولاذه الأغر
يلبس خفيه ببادي الأمر
وحول ساقيه بقدتين
أوثق حالا بعرى اللجين
ولبس الدرع البهية التي
أهديها من قبل سير الحملة
من ملك قبريس كنير الناءي
تذكرة لمحكم الولاء
5
مذ نبأ الإقلاع للطرواد
على السفين شاع في البلاد
من أبدع السطور فيها اثنا عشر
من النضار شائقات للنظر
ومن نحاس أبيض عشرون مع
عشرة أسحم فولاذ سطع
وفي كلا الجنبين حتى العنق
ثلاث حيات من الوشي النقي
حكت بقلب الغيم أقواس قزح
بنبأ زفس من السما طرح
6
ثم على كاهله أتريذ قد
ألقى حساما بشعاعه اتقد
كلباه والحزام من أبهى الذهب
وغمده من فضة فيها العجب
7
وقل ترسا شائقا بهيا
يستر كل جسمه قويا
عليه دارت حلقات لامعه
عشر من الصفر البهي ساطعه
وفيه عشرون من الحرابي
من النحاس الأبيض اللهاب
8
في وسطها حرباء فولاذ أغر
يبدو بها الغرغون رواع النظر
وحوله الهول ورسم الرعدة
والدرع شدت بحزام فضة
9
يلتف في ثعبان روع أزرق
مثلث الرأس وحيد العنق
من ثم للمغفر أتريذ عمد
يلبسه من بعد هاتيك العدد
مربع الرأس بعرف أملس
من شعر خيل هاج فوق القونس
10
وقل رمحين مثقفين
حتى أعالي الجو ساطعين
11
والرعد إجلالا له وشرفا
بأمر آثينا وهيرا قصفا
فأمرت فرسانه السياسا
تنظم قرب الخندق الأفراسا
واندفعوا ماشين بالسلاح
بين صياح طرة الصباح
فانتظم الأبطال قرب الخندق
تجري وراءهم عجال الفيلق
وزفس بينهم أثار اللغبا
يمطر طلا بدم مخضبا
12
أما بنو الطرواد فوق الهضب
فانتظموا من حول هكطور الأبي
وحول فوليذامس المعصوم
وآنياس المجتبى العظيم
وحول فوليب وآكاماس
فتى حكى الأرباب آل الباس
والقيم المحمود آغنورا
ثلاثة من ولد أنطينورا
وهكطر في صدرهم يدور
في يده مجنه الكبير
يخوض في ساقتهم فيأمر
فيختفي ثم بصدر يصدر
ككوكب الهول الذي يستتر
في الغيم حينا ثم حينا يظهر
يسطع بالحديد والفولاذ
كبرق زفس اللامع الجباذ
13
فعند ذاك اشتبك الجيشان
وثار نقع الضرب والطعان
فكلهم مثل الذئاب اندفعوا
ولم يكن من للفرار ينزع
تبتت الرءوس والأجساد
كسنبل يبتته الحصاد
14
مذ نظموا بزرعهم صفين
في طرفيه متقابلين
ولم يكن يشهد تلك الملحمه
بالبشر إلا الفتنة المهدمه
وفي الألمب سائر الأرباب
بشائق القصور باحتجاب
ولومهم لزفس طرا باد
لميله لنصرة الطرواد
لكن زفس ليس بالمبالي
يعتز في علياه باعتزال
يحيط بالطرواد والأسطول
والحرب والقاتل والمقتول
من البزوغ لارتفاع المشرق
جند تردى وسهام تلتقي
وآن ما الحطاب يضوى تعبا
في غابه وظمأ وسغبا
ويطلب الراحة بعد الغائله
مهيئا طعامه بالقائله
15
تألب الإغريق باشتداد
وخرقوا كتائب الطرواد
في صدرهم يجري أغاممنون
تسير في يمينه المنون
جندل أبيانور راعي الأمم
فتبعه السائق ويلوس الكمي
من فوق مركبته وثبا وثب
يلقى أغاممنون مشتد الغضب
لكنما أتريذ في الجبين
طعنه برمحه المتين
فخرق المغفر والعظم سحق
وبدد الدماغ والهامة دق
عراهما فلبثا ميتين
لاستر فوق ناصع الصدرين
ثم انثنى يسطو على إسوسا
من ولد فريام وأنطفوسا
فذلك ابن غادة خليله
لكن ذامن زوجه الحليله
16
قد ركبا مركبة فذاكا
ساق وهذا ولي العراكا
كليهما قدما أخيل دهما
بطور إيذا يرعيان الغنما
بيانع الخيزور أوثقهما
ونال فدية وأطلقهما
والآن أتريذ إسوسا قتلا
بطعنة في ثديه فجندلا
وأنطفوس بحسامه قطع
أذنه قطعا فللأرض وقع
فشائق الشكة منهما سلب
يذكر من أمرهما ماضي العجب
إذ كان قد رآهما في السفن
بأمر آخيل بذاك الزمن
17
وصائلا مشى كليث داهم
خشفة واهنة العزائم
18
يسحقها برائع الأنياب في
كناسها سحقا بلا تكلف
والأم تلك الظبية المرتجفه
لا حيلة لها برفد الخشفه
مرتاعة ملتاعة تبغى المفر
في الغاب تجري بين ملتف الشجر
تلهث عيا وتسيل عرقا
هالعة من هول ذاك الملتقى
كذاك في الطرواد لم يكن أحد
لولدي فريام يبذل المدد
ولوا لدى الأراغس الفرارا
وخلفهم أتريذ بأسا ثارا
فيسندرا وإيفلوخا دهما
على مطا مركبة قد هزما
من ولد أنطيماخس من منعا
هيلانة لزوجها أن ترجعا
إذ كان فاريس رشاه ووهب
مالا وفيرا من متاع وذهب
19
فعندما لديهما مثل الأسد
لاح الجياد جمحت تحت العدد
وارتجفت أيديهما فوقفت
أعنة بها سناء سطعت
فسجدا من فوق ذاك المجلس
وصرخا بذلة الملتمس: «العفو والفداء فالتبر الأغر
والصفر والحديد طرا مدخر
فأنطماخ يجزل الهدايا
إن نبق حيين على الخلايا»
20
وبكيا تذللا وصغرا
فلقيا منه الجواب المرا: «أليس أنطماخ والدكما
بمجلس الطرواد يوما حكما
بقتل أوذيس ومينيلا وقد
جاءا رسولين وبالكيد اتقد
ستلقيان الآن شر غدره»
وطاعنا فيسندرا بصدره
جندله من فرق عرش العجله
فإيفلوخ بخفيف العجله
رام انهزاما وإلى الأرض وثب
لكن أغاممنون بالسيف انتصب
بضربة عليه بالعزم اندفع
ورأسه مع الذراعين قطع
دفعه للأرض مثل الخشبه
وراح يجري بعظيم الكبكبه
تتبعه كتائب الأجناد
حيث تكثفت سرى الأعادي
فبطش الغلمان بالغلمان
وفتك الفرسان بالفرسان
21
وتحت وقع الخيل نقع ثارا
في السهل للجو ذرا الغبارا
وثم أتريذ يحض الجندا
مقتضبا مقتفيا مشتدا
هب على الأعداء مثل النار
شبت بغاب غضة الأشجار
22
تثيرها الريح وفي كل مهب
تلهم كل ما أمامها انتصب
أمامه الطرواد ولوا جزعا
وسيفه الرءوس قطعا قطعا
وجامحات الخيل بالعجال
تضرب في السهل بلا رجال
تندب ما ألم بالفرسان
تحت عجاج الضرب والطعان
أشهى هم الآن إلى العقبان
منه إلى حلائل النسوان
وزفس هكطور عن النقع حجب
وعن ضجيج القوم في ذاك اللجب
وعن مدى النبال والنجيع
وعن تلاحم بهم فظيع
وظل أتريذ على أعقابهم
مشددا يضرب في رقابهم
فدفعوا للتين ثم اجتازوا
في وسط السهل وفيه انحازوا
23
لقبر إيلو ذلك الدردنسي
يبغون إليون بحر النفس
وإثرهم أتريذ دوما جاري
ملطخا بالدم والغبار
يصيح حتى أبلغ الفرسانا
أبواب إسكية ثم الزانا
فوقفوا يبغون جمع الشمل
وصحبهم تبعثروا في السهل
مثل العجول ذعرت فرارا
والليث في الليل لقد أغارا
فأيها أصابه سحقه
محطما بنابه عنقه
يمتص لا مكتفيا دماءه
يزرد لا مشتفيا أحشاءه
كذا أغاممنون أصمى وسفك
بساقة العدى بمن لاقى فتك
ولوا ومشتدا عليهم حملا
بالرمح يردي بطلا فبطلا
ما بين مصروع من العجال
أهوى ومسلنق على الرمال
وعندما قارب إدراك البلد
وسوره الشاهق في ذاك اللدد
من قبة السماء كالبرق انحدر
زفس وفي إيذا بعلياه استقر
صاح بذات أجنح النضار
بيده عمود برق وار
قال: «فطيري إيرس الرشيقه
وأبلغي هكطورا الحقيقه
فطالما أتريذ في صدر السرى
يبطش فيهم فاتكا مدمرا
فليعتزل وليلق عبء الصد
على سواه من سراة الجند
لكن إذا بطعنة فاهقة
أصيب أو برمية خارقة
وراح يعلو سدة العجال
هكطور أولي نصرة القتال
لأولينه اشتداد البأس
يكسحهم حتى غروب الشمس
لموقف الأسطول يسفك الدما
حتى يرى قدس الدجى قد خيما»
هبت هبوب الريح من إيذا إلى
إليون هكطور توافي عجلا
ألفته في مركبة منتصبا
قالت: «أيا هكطور خذ مني النبا
يا عد زفس زفس بالرسالة
أنفذني فاستمع المقاله
فطالما أتريذ في صدر السرى
يبطش فيكم فاتكا مدمرا
فاعتزلن وألق عبء الصد
على سواك من سراة الجند
لكن إذا بطعنة فاهقة
أصيب أو برمية خارقة
وراح يعلو سدة العجال
هكطور تؤتى الفوز في القتال
ليؤتينك اشتداد البأس
تكسحهم حتى غروب الشمس
لموقف الأسطول تسفك الدما
حتى ترى قدس الدجى قد خيما»
غابت وهكطور إلى الأرض وثب
يهز أطراف القنا بادي الغضب
يرمح في كل السرى مستنهضا
مدججا مشددا محرضا
فانقلبوا لساحة الهيجاء
مقابلين زمر الأعداء
واعتصب الإغريق واصطفوا فرق
واشتدت الحرب وأتريذ انطلق
مبرزا عن سائر الشجعان
مروعا في ذلك الميدان
ولي فقلن يا بنات الشعر
من جاء يلقاه ببدء الأمر:
ذاك ابن أنطينور الطويل
أفيدماس الباسل النبيل
سبط لكيسيس أبي ثيانو
من شاع ذكرا حسنها الفتان
لديه في إثراقة الغنيم
والخصب طفلا شب في النعيم
وعند ما ترعرع استبقاه
في حجره وبنته أعطاه
24
لكنه غادرها على الأثر
مذ شاع عن حرب الأراغس الخبر
أتى لفرقوت بثنتي عشره
سفينة ينزل فيها عسكره
من ثم إليون أتاها برا
فذا الذي أتريذ رام كبرا
تقابلا حتى دنا التلاقي
فزجه أتريذ بالمزراق
فصرح الزج وفي الحال انثنى
أفيدماس وبعنف طعنا
25
أصاب تحت الدرع بالحزام
فدفع العامل باحتدام
وظل لا يفلته من يده
معتمدا على قوى عضده
في عروة اللجين بالوسط استوى
وكالرصاص اللدن في الحال التوى
فعند ذا أتريذ كالليث وثب
وذلك الرامح بالرمح اجتذب
واجتره منه وبالسيف قطع
عنقه فغائر الطرف وقع
يهجع مصروعا هجوع الأبد
بذبه عن قومه والبلد
وأويحه عن عرسه الفتية
في البعد قد أميت شر ميتة
نأى وما إن كاد وهو ناءي
يبلو شعار الحب والوفاء
لها الصلات الغر قد كان ادخر
مبتدئا ب مئة من البعر
وبحماه العنز والغنيم
لم يحصها عد ولا تقويم
خيرها منها بألف رأس
والآن أتريذ الشديد البأس
جندله مجردا من شكته
يرجع فيها لسرايا حملته
فالخطب لاح لأخيه الأكبر
قاوون الفتاك والشهم السري
فذاب بثا وأسا عليه
وأسود نور الشمس في عينيه
فانساب لا يراه أتريذ حذا
صفحته والرمح فيه أنفذا
فخرق الزج الحديد الحد
مؤخر الساعد تحت الزند
وصاح يدعو صحبه إليه
مجتذبا أخاه من رجليه
وفوقه قد أسبل المجنا
يدفع ضربا ويقيه طعنا
فارتاع أتريذ ولكن ما ارتدع
ثم على قاوون بالعزم اندفع
طعنه بالعامل الرواع
طعنة مقدام طويل الباع
على أخيه خر ميتا فضرب
عنقه بالسيف والرأس اقتضب
وهكذا فالأخوان انحدرا
لدار آذيس بحكم قدرا
وظل أتريذ الوغى يبارى
بالسيف والعامل والحجار
يخوض ما بين الأعادي صائلا
ودمه السخين يجري سائلا
حتى إذا ما ذلك السيل انقطع
ويبس الجرح تولاه الوجع
واخترقت قواه آلام ولا
آلام سهم خارق قد أرسلا
ترمي به بنات هيرا الظلم
ألالثيات التي لا ترحم
ينفذ بالأعراض والإرماض
ويصدع المرأة بالمخاض
26
بشدة البث اعتلى ملتاعا
وقال للتبع «ابتغ الأشراعا»
وصاح بالصوت الجهور العالي: «يا صحب يا قيول يا أبطالي
عليكم الآن بإبعاد العدى
عن موقف الأسطول والفوز بدا
فإن زفس قد أبى إصداري
بصدركم لآخر النهار»
27
فطارت الخيل بسوط السائق
تجري وأتريذ بقلب خافق
صدورهن قد كسين زبدا
ونقع وقعهن للجو اغتدى
ومذ رأى هكطور أتريذ التوى
فصوته كالرعد بالقوم دوى:
28 «يا آل دردانوس والطروادا
ويا بني ليقية الأمجادا
إيه فأنتم قادة الهيجاء
وسادة الإيقاع والإبلاء
أبسل من في القوم طرا غربا
وزفس لي نصرا مبينا وهبا
شدوا على الإغريق بالعجال
وادخروا مجدا بلا زوال»
فهاجت النفوس بالجحافل
هياجها في أنفس الخياطل
يثيرها صاحبها هياجا
في إثر خرنوص وليث فاجا
29
وهكذا هكطور عد آرس
أثار طروادا على الأراغس
30
وهو بصدر جيشه يثور
بشدة البأس بهم يسير
كأنه الإعصار من فوق اندفق
وفي عباب البحر قلب اليم شق
فيا ترى من أولا وآخرا
أباد مذ زفس تولى ناصرا
أولهم كان الفتى آسيس
فعفطنوس وكذا أوفيتس
فابن قليطيس زلفس أورس
وآغلاوس وأوفلطيس
وهيفنويس وإيسمن السري
وكلهم من زعماء العسكر
لكنما قتلاه بين الجند
فتلك لا تحصى بحصر العد
هب بهم ولا هبوب العاصفه
تثيرها أنواء ريح قاصفه
فتدفع الدبور غيما ركما
نوطوس في السحاب لما هجما
31
فتفلق اليم وتنشر الزبد
كما رءوس القوم هكطور حصد
فاشتد وقع الخطب والأمر انجلى
وكادت الإغريق تضوى فشلا
فصاح أوذيس: «ذيوميذ علا
م بأسنا ولى برزء ثقلا
32
لئن يفز أعداؤنا بالسفن
وأخزية العار وثقل المحن
هي فكرن معي: «قال وما
يهولني العدو مهما ازدحما
لكننا هيهات أن نؤتى الظفر
فإنما الطرواد زفس قد نصر»
كر وثمبريس في الثدي رمى
فخر للأرض وأوذس هجما
وتبعه مليون أيضا قتلا
وغادراهما على تلك الفلا
لا يشهدان الكر والنزالا
وانثنيا من بعد ذا وصالا
نظير خرنوصين كاسرين
على كلاب الصيد مرتدين
فاعملا بين الأعادي الأسلا
واهتزت الإغريق طرا جذلا
ثمة عنق فارسين ضربا
واستلبا مركبة قد ركبا
من ولد ميروفوس من فرقوت
أبسل من في القوم من رتوت
33
قد عصيا أباهما العرافا
واتبعا إلى الوغى الأحلافا
ساقهما داعي الردى فأقبلا
على ذيوميذ الفتى فجندلا
أخمد أنفاسهما وراحا
من بعد ذا يستلب السلاحا
وأوذس جندل هوفيداما
وهيفريخا يصطلي احتداما
وزفس في إيذة بالمرصاد
فوازن القوات في الأعادي
فاصطدم الأبطال من كل الفرق
وزمر العدى ذيوميذ اخترق
وغسطروف بن فيون جرحا
برمحه في حقه فانطرحا
قد خاض مغترا سرى الطلائع
برجله يخوض في المعامع
والخيل والسائق في الساقة قد
ظلت وعنه انقطعت عرى المدد
هناك هكطور رأى وانصدعا
وصاح في الأبطال ثم اندفعا
واندفعت من خلقه كل السرى
حتى ذيوميذ الهمام ذعرا
قال: «أرى هكطور رواع الملا
يا أوذس فورا علينا أقبلا
قف ندفعنه» وبالعزم وقف
مسددا ونحو رأسه قذف
ففوق رأس البيضة الرمح وقع
لكنما الفولاذ فولاذا دفع
والقونس المثلث الأطراف
عن رأسه رد السنان الجافي
ذلك من فيبوس فضل أعظم
فهو بذا المغفر قدما منعم
وارتد هكطور وبالجمع اختلط
وفوق ركبتيه للأرض سقط
ليده مستندا حيث التوى
وأظلمت عيناه منهد القوى
وريثما هب ذيوميذ وشب
يطلب رمحه وفي الأرض نشب
أفاق هكطور وبالفور اعتلى
وساق بين الجمع يأبى الأجلا
فصاح ذوميذ وبالقناة
جرى: «أأيضا فزت بالنجاة
يا كلب كاد عاملي يصميكا
لو لم يبادر فيبس يقيكا
لست تؤم الحرب عفوا أبدا
إلا به مسترفدا مستنجدا
لكنني سوف ألقيك الردى
إن تؤتني الأرباب يوما مددا
قد فاتك الفوت فرح والآنا
سأبتغي سواك أيا كانا»
ولاستلاب ابن فيون عكفا
فجرد اللأمة ثم انعطفا
مقتلعا مغفره ثم المجن
إذا بإسكندر خلسة كمن
فأتكأ القوس على العمود
في قبر إيلو الشيخ فخر الصيد
وأرسل السهم فشق القدما
وغاص في الأرض بسيال الدما
وزوج هيلانة من حيث ولج
في ذلك الكمين في الحال خرج
مقهقها مبتهجا مفتخرا: «لم أخطئ المرمى وسهمي صدرا
يا حبذا لو غاص في أحشاكا
ليأمن الطرواد من ملقاكا
أنت الذي كلهم منك ارتعد
كرعدة الماعز من بطش الأسد»
34
أما ذيوميذ فجاش وانثنى
قال: «وما غرك يا وجه الخنا
سددت مغترا بذي القوس ألا
ما جئتني وجها لوجه مقبلا
حتى ترى يا أخسأ النبال
أنك لا تعد في الرجال
وأنها لن تدفعن عنك الأسا
وإنما حاملها زير نسا
أنا لك السر بإدراك القدم
مني وهل يذعر ذا أهل الهمم
ما ضر سهم خاسئ رعديد
يهلع كالأوغاد أو كالغيد
وأين أنت من مرامي أسلي
ينفذن مذ يصدرن سهم الأجل
أزواج من خر منهم أيامى
وولدهم في بؤسهم يتامى
ودمهم يسرب والأجساد
يبيدها في أرضها الفساد
وحولهم طير الفلا تحوم
من بعد أزواج بهم تهيم»
وانقض أوذيس يقيه فجلس
يخرج ذاك السهم من حيث انحبس
فاشتدت الآلام فيه فاعتلى
وقال للسائق: «عد بي عجلا»
فبات أوذيس كذا منفردا
ليس له من يبتغيه عضدا
مذ شمل الرعب قلوب الأرغس
فنفسه ناجى بحر النفس: «ويلاه ما الحيلة إن أنهزم
فالعار كل العار بين الأمم
وإن تربصت وزفس الأعظم
بدد قومي فمصيري أشأم
لا كنت يا هاجس دعني هل ترى
غير الجبان النكس ولى مدبرا
وليس للباسل أن يبالي
أصاب أم أصيب في النزال»
وبينما يجول ذا بفكره
مكتئبا مفكرا بأمره
إذا بدراع العدى تجمهروا
وبينهم أس بلاهم حصروا
35
كفتية بزمرة الكلاب
تقنص خرنوصا ببطن الغاب
فيبرز الوحش ويصلي غضبا
ويشحذ الناب ويبدو مرعبا
يصر بالأسنان والقناص قد
داروا عليه وهو بالغيظ اتقد
فما هم يخشون منه الدركا
وهو بمن أصاب منهم فتكا
وهكذا أوذيس بالرمح وثب
وذيفيت بين كتفيه ضرب
تم ثوون وأنوم قتلا
فجاءه خرسيذم مشتعلا
فهب من مركبة يبغيه
وأوذس في الحال يلتقيه
رماه تحت الترس في سرته
فخر مصروعا على راحته
ثم انثنى وابن هفاس طعنا
خربس يلقيه صريعا مثخنا
فانقض صوقوس أخوه الأيهم
وصاح يدوي: «يا أذيس القيم
يا زبدة الإقدام والدهاء
فاليوم تبلي أيما إبلاء
إما حمام ولدي هفاس
والسلب والفخار بين الناس
هذا وإما من قناتي الردى»
ثم أتاه طاعنا مسددا
فنافذ السنان في الترس مرق
واللحم تحت الدرع بالخصر اخترق
لكن أبت فالاس بالخفاء
نفوذه لداخل الأحشاء
ولم يفت أوذيس أن الجرحا
ما كان قتالا لذا تنحى
وصاح في صوقوس يا هذا الشقي
شر بلى مني سوف تلتقي
ألجأتني حينا إلى ترك اللقا
لكن بك الحتف البهيم أحذقا
وبصقيل عاملي إن تقتل
لآذس النفس تدم والفخر لي»
36
فارتاع صوقوس وقد رام الهرب
موليا لكن أوذيس وثب
ورمحه ما بين كتفيه ولج
ومن شعاب الصدر في الحال خرج
فخر في صلصلة الحديد
وأوذس مرتفع الهديد: «صوقوس ما أنجتك هبات المفر
فالموت أعدى منك جريا وأشر
ويحك لم يتح لوالديكا
أن يغمضا يوم الردي عينيكا
خلوت للطير فظفر ينشب
والأجنح الغضة ضربا تضرب
37
لكنني إن مت فالإغريق
غص بهم في مأتمي الطريق»
واجتر من مجنه والشاكله
سنان صوقوس بتلك الغائله
فجرت الدماء واشتد الألم
وحوله جيش العدى طرا هجم
فلاشتداد الخطب عاد القهقرى
وصاح يدوي صوته حتى السرى
دعا ثلاثا يطلب الغياثا
وعى منيلا صوته ثلاثا
مال إلى رفيقه أياس
قال: «أيا أياس رب الباس
صوت أذيس أذني حالا طرق
كأنما أخرج ما بين الفرق
وشددت أزمتها عليه
هي نبادر عجلا إليه
أخاف مهما صال يضوى مفردا
فنرث الأحزان عنه سرمدا»
وسار أولا منيلا وتلا
أياس كالأرباب أبناء العلى
38
فألفيا أوذيس والطرواد قد
تكأكأوا عليه عدا وعدد
كأنهم من حوله ثعالب
على الجبال إيلا تراقب
في الإيل القناص سهما أنشبا
لكنه ما نال منه الأربا
فغاب عن مرآه والثعالي
من حوله تجري على التوالي
تروم فتكا وهو لا يرام
يجري ولا يلويه الازدحام
فطالما تجري به قوائمه
لا تلتوي لجرحه عزائمه
لكن إذا ما الدم في الجرح برد
وعن خفيف لجري بالعي قعد
فازت به في الطود فوق الغاب
إذا بليث فاتك قضاب
يذعرها ذعرا فتلوي هربا
وهو به يخلو منالا طيبا
كذا أذيس وهو ما بين العدى
عن نفسه يدفع بالرمح الردى
بادر آياس بذياك المجن
كالبرج يحميه وقد كان وهن
ففرت الطرواد في كل مفر
ثم منيلا لذراعه ابتدر
39
واجتره من بين تلك القتله
وتبعه أدنى إليه العجله
وصال آياس ودروقل قتل
نغل لفريام وفندوقوس فل
ثم لسندرا وفيراس رمى
كذاك فيلرت يفجر الدما
كالسيل من شم الجبال اندفقا
تمطره أنواء زفس غدقا
يفيض للسهل زعابا يندفع
والأرز والملول عنفا يقتلع
ولعباب البحر يدفع الزبد
كما أياس اشتد فيهم واتقد
طغا بذاك السهل كالزعاب
يبتت ظهر الركب والركاب
وهكطر في ثغر إسكامندر
يصول في صدر الجناح الأيسر
يقضب الأعناق وسط الفيلق
ولا يرى نكال هذي الفرق
وقد علا لديه صوت اللغب
حول إذومن ونسطور الأبي
وهو بمركبته محتدم
كتائب الفتيان حطما يحطم
لكنما جيشهما ما برحا
يدفع حتى ماخوون جرحا
قد كان كالليث يصول وإذا
في كتفه اليمين سهم أنفذا
مثلث الأطراف للإسكندر
زوج هلانة الجميل الشعر
فقوم أرغوس أولو الإقدام
خافوا انقلاب موقف الصدام
فيفتك العدى بذياك البطل
فصاح إيذومين بادي الوجل: «نسطور يا ذا المجد والجلال
هي فهبن على العجال
وسر وسوقن إلى الأسطول
بماخوون الماجد النبيل
هذا النطاسي الذي يستخرج
سهما بكرات الصدام يولج
وفوقه يذر بلسم الشفا
بجحفل يقاس إن تألفا»
40
فهب نسطور وما إن كذبا
وبابن أسقليب حالا ذهبا
41
وساط والجياد كالطير سعت
تتوق للرجوع من حيث أتت
وقبريون تبع هكطور عرف
منقلب الطرواد في ذاك الطرف
أبصرهم من فوق عرش العجله
إزاء هكطور لذا أوعز له: «نحن هنا في طرف المعسكر
نفتك فتك الباسل المدمر
وثم آياس المنايا نشرا
والخيل والفرسان ذعرا ذعرا
نعم فذا مجنه الكبير
من حول كتفيه أرى يدور
فقم نسق لمأذق الهيجاء
حيث علت عجاجة الأعداء
هناك حيث اصطدم الشجعان
تلاحم المشاة والفرسان»
وشدد السوط على الجياد
فاندفعت لساحة الجلاد
تخبط بالقتلى وباليلامق
على نجيع من خطاها دافق
حتى جناحا سدة المركبة
وقوسها من تحت تلك السدة
تخضبت دما بنقع فائر
من دور دولاب ووقع حافر
42
وهكطر للفتك يصلى نارا
فغار ما بين العدى وثارا
يطعن فيهم قاتلا مجندلا
حتى سراياهم جميعا بلبلا
وظل كرات الوغى يجاري
بالسيف والعامل والحجار
وهو على ذيالك البأس أبى
لقاء آياس لذا تنكبا
خشية أن يغاظ زفس إن برز
لفارس أبسل منه وأعز
43
لكن زفس في المقام الأرفع
روع آياس بهول المصرع
فدهشا أطرق والجوب على
كاهله ألقى وعاد وجلا
بطرفه جيش العدى يباري
يخطو وينثني كوحش ضاري
وخطوة فخطوة يلوي القدم
كأنه الضيغم في الليل هجم
والناس والكلاب في الأسحار
تحرس حول عنة الأبقار
44
تسهر كل الليل كي لا يرتعا
بشحمها ولحمها ويرجعا
45
ينقض مدفوعا بفرط السغب
لكن يفوته نوال الأرب
يصده وبل من النبال
ولهب المقابس المنهال
حتى إذا ما الفجر لاح أحجما
مكتئبا مرتعدا محتدما
وهكذا أياس ملتاعا نأى
عن ساحة القتال والعود ارتأى
لموقف السفائن الحدباء
يخشى عليها كرة الأعداء
يمشي الهوينا مثل جأب دخلا
زرعا من الحنطة يبغى أكلا
46
فتنهض الصبية بالعصي
تسحق فوق متنه القوي
لكنه ما كان كي يكترثا
بلغب الصبية مهما عبثا
يلبث في تلك المراعي يرتع
وينثني مذ يكتفي ويشبع
وهكذا الطرواد والأحلاف
من حول آياس بعزم طافوا
وهو يصدهم بجوب أكبر
ألبس سبعة جلود بقر
يحجم حينا ثم حينا يهجم
ببأسه المعتاد ثم يهزم
وصدهم في كل ذاك الزمن
صدا ذريعا عن بلوغ السفن
يحجز مشتدا على الأعادي
بين الأخائيين والطرواد
وصيب النيازك القتاله
عليه من أيدي العدى منهاله
فبعضها عن شدة العزم حذف
يغل غلا وعلى الترس يقف
وبعضها عنه منالا قصرا
مرتكزا يغوص في قلب الثرى
47
ولم يكد يراه أوريفيل
حتى انبرى لرفده يصول
أتاه لا يعبأ بالسهام
تنهال فوقه كوبل هام
وأرسل المزراق من حيث انطلق
وآفمون القرم في العنف اخترق
كبده مزق ثم راحا
يسلبه الشكة والسلاحا
فانتهز الفرصة فاريس وقد
أشغل أوريفيل في تلك العدد
في حقه أنفذ سهما فانكسر
نضيه والدم بالجرح انفجر
48
لصحبه التوى ببراح الألم
يأبى الردى وصاح ينهض الهمم: «يا نخبة الأبطال جند الباس
قفوا ادفعوا الحمام عن أياس
وحوله تألبوا فخشيتي
يصميه وبل من سهام صبت»
ومذ لذلك النداء انصدعوا
حول أريفيل الجريح اجتمعوا
ودون أيد جلن بالعوامل
يلامق ألصقن بالكواهل
49
وانضم آياس إليهم وانقلب
واشتد وقع الحرب والطعن انتشب
وكان آخيل على البعد رقب
وفي مؤخر السفينة انتصب
50
يشهد ما قد حل بالأبطال
من قومه من محن القتال
أبصر نسطور الحكيم انطلقا
على الجياد السابحات عرقا
مع ماخوون ينهب الطريقا
فعرف السائق والرفيقا
صاح بفطرقل فمن خيمته
لبى وهذا مبتدا محنته
51
كآرس من بابه صاح: «وما
رمت ابن فيلا من ندائي للحما»
قال أخيل: «يا أود الخلق لي
قد بلغ الإغريق أقصى الفشل
على دني ركبتي صغرا
سينحنون سائلين عذرا
والآن نسطورا قصدن مسرعا
واسأله مع أي جريح رجعا
ما إن نظرت وجهه لكنه
أشبه ماخوون طبقا متنه
52
قد مرت الجياد من أمامي
طائرة لمضرب الخيام»
ولم يكد يتم حتى كرا
فطرقل يعدو ويلبي الأمرا
ونسطر وماخوون وصلا
خيمة نسطر بها ترجلا
وتابع الشيخ أريميدون حل
جياده وذهبا بلا مهل
ينشفان العرق السيالا
على نسيم البحر ثم مالا
لخيمة الشيخ وفيها جلسا
وهيكميذا بنت أرسينوسا (تلك الربحلة البديعة الشعر
لنسطر كانت نصيبا مدخر
أهديها جزاء رأي أصوبا
لما أخيل تيندوس خربا)
قامت لإعداد الشراب عامده
لديهما تنصب أبهى مائده
جميلة مصقولة القوائم
زرقاءها تنبذ لوم اللائم
من ثم ألقت فوقها دسيعه
مؤلق نحاسها بديعه
53
ومزجت فيها على الفور البصل
وخالص الدقيق مع صافي العسل
ووضعت إزاءها كوبا أغر
كان لدى نسطور من قبل السفر
وهو على قائمتين انتصبا
وبمسامير النضار التهبا
وفوق كل من عراه الأربع
طير حمام من نضار ألمع
وذلك الكوب إذا ما يطفح
هيهات غير نسطر يزحزح
لكنما ذيالك الشيخ الصفي
يحمله حملا بلا تكلف
54
وراحت الصبية السبيه
بحسنها كالربة السنيه
تصب فيه خمر إفرمنا على
ماء وفوقه تفت عجلا
بمبرد النحاس جبن السخل
وتقتل المزيج خير قتل
55
وفوقه ذرت دقيقا صافي
ثم دعتهما للارتشاف
فشربا وارتويا وجلسا
وبأطاريف الحديث أنسا
إذا بفطرقل كرب ظهرا
في الباب فالشيخ رأى وابتدرا
وقام عن سدته الوقاده
بيده يأخذ حكم العاده
ثم دعاه للجلوس فأبى
وقال: «يا مريد زفس الأنجبا
عفوا فلست بملبي الأمر
فشأن آخيل نظيري تدري
قد يصطلي عفوا بسورة الغضب
ويتهم البريء عن غير سبب
سيرني أسأل منك الخبرا
بأي مجروح أتيت مدبرا
سأقفلن راجعا ذا الحينا
مذ قد عرفت الشهم ماخوونا»
فقال نسطور: «وأين يلقى
أخيل بالإغريق هذا الرفقا
أما رأى أن فناهم باد
واشتملوا بحلة الحداد
وخير من فيهم ففي الأشراع
بين جريح وطريح ناعي
فذا أبو البأس ذيوميذ البطل
ألمه السهم وبالرغم قفل
وذاك أوذيس وأتريذ خرق
جسمهما العامل والدم اندفق
وهاك أوريفيل بالعنف انكسر
بفخذه نبل به الجرح انفجر
وها هنا ترى الكمي الباسلا
به جريحا جئت توا قافلا
لكن آخيل على شدته
ليس يبالي ببني لحمته
56
أمتقاعسا يظل حتى؟
يبتتنا سيف الأعادي بتا
وتلهب النيران بالأسطول
تبيدها بالجند والقيول
وا أسفا الشباب ولى ومضى
والبأس والإقدام عني أعرضا
وفاتني الإبلاء والإيقاع
كما استطالت قبل مني الباع
57
يوم الإليون على صوارنا
سطوا فأججنا لظى أوارنا
صلنا عليهم واغتنمنا البقرا
فجاءنا إيتومن مستعرا
ابن هفيروخ الذي قد كانا
يحكم في أليذة السكانا
فنال مني طعنة نال الردى
بها وولى القوم طرا شردا
وخلت الأنعام في السهل لنا
خمسون سربا ماعزا مسمنا
ومثلها من أحسن الأبقور
ومثلها من أسمن الخنزير
ومثل ذا الغنيم سقنا في الغلس
ومئة أيضا وخمسين فرس
شقراء طرا ترضع الأمهارا
سقنا لفيلوس نؤم الدارا
كنت فتى واهتز نيلا طربا
أبي لعودي غانما مكتسبا
وصاحت الدعاة في من طلبا
من ذمة الأعداء مالا سلبا
فاحتشدوا واقتسموا القليلا
وذاك نذر من كثير نيلا
حيث الإفيون على قلتنا
صالوا بفيلوس على جملتنا
وقبل ذا بأحؤل قد صالا
هرقل فينا يذبح الأبطالا
ومن بنى نيلا وكانوا اثني عشر
سواي لم يبق لديه ابن ذكر
فزادنا العدو غدرا واعتسف
وبأساليب اللدادات قذف
وفي اقتسام الكسب نيلا أفرزا
قطيع أبقار له وأحرزا
سرب شياه برعاتها التي
أبقى له ترعى ثلاث مئة
فذمة الأعداء كانت مثقله
له بدين رام أن يحصله
إذ كان قد أرسل للسباق
أربعة من أكرم العتاق
يامل أن يفوز بالرهان
بقدرهم وندب الفرسان
58
لكن مولى الناس أفغياسا
معتسفا قد حبس الأفراسا
كذلك المركبة الغراء
والسائق المستاء فذا جاء
لذاك نيلا اغتم والوفر ادخر
ووزع الباقي بعدل وأمر
بأن نضحي لبني الأرباب
شكرا على أطايب الأسلاب
وثالث الأيام فاجانا العدى
بخيلهم لا يحصرون عددا
والملينان قائدا الفرسان
غران للطعان جاهلان
وفي ثغور ألفيا في طرف
فيلوس قامت فوق تل مشرف
بلدة إثريون حاصروها
يبغون بالعنوة أن يفنوها
وفي الدياجي انحدرت أثينا
وهم بذاك السهل يضربونا
ونبهتنا للوبال المحدق
فهم بالهمة كل الفيلق
وخالني نيلا صبيا غرا
وخاف أن أكر فيمن كرا
فخيلي الجياد أخفى وحظر
علي أن أجري على ذاك الأثر
فراجلا بعونها سرت ولي
كان لدى الفرسان أسمى منزل
59
سرنا إلى حيث لدى آرينسا
يصب نهر قد دعوا مينيسا
للفجر ظلت ترقب الخياله
تعقبها كتائب الرجاله
ثم تكتبنا وعند الظهر
طرا نزلنا فوق قدس الثغر
من ثم أعددنا الضحايا الغرا
لزفس نستمد منه النصرا
وألثس التهر له أذكينا
عجلا كذا بآخر ضحينا
لفوسذ وعجلة تبيعه
لربة الحكمة والشفيعه
ثم تناولنا الطعام ورقد
كل مدججا على ذاك الجدد
وحالما براح من خبائها
للأرض أرسلت سنا ضيائها
60
بزفس لذنا وأثينا ومضى
للحرب جيشنا على ذاك الفضا
أما الإفيون فحول البلد
تألبوا بعدد وعدد
فتحا يرومون ولكن نظروا
شدة آريس بنا وذعروا
فأول الفرسان مطعونا وقع
بنصل رمحي عندما نحوي اندفع (مليوس وهو صهر أفغياس
وبعل آغاميذة الإيناس
من كنه نبت الأرض طرا سبرت
وللعقاقير جميعا خبرت)
جندلته فخر من مركبته
وواثبا علوت في منصته
وصلت صدرا لجيش والأعداء
ولوا وفيهم علت الضوضاء
راعهم أن زعيم العجل
وأبسل الأبطال بالحتف بلي
وفيهم هببت كالإعصار
أذبح كل سارح وسار
وفوق خمسين من العجال
بمئة من أمنع الأبطال
فتكت طاعنا وأوليت الردى
ومنهم اغتنمت تلك العددا
وكدت أولي ولدي أكتورا
وملينا بعاملي الثبورا
لكنما جدهما فوسيذ في
مكثف الضباب فيهما خفي
ولم نزل نكسأهم في السهل
ونصر زفس فوقنا يستعلي
نذبحهم ونسلب السلاحا
والخيل فينا تنهب البطاحا
حتى وطئنا أرض بفراسا النعم
وصخر أولينيس ذلك الأشم
وعند تل آلس أثينا
بدت لعود عاجل تدعونا
عدنا ولكن بعد ما بمخفقي
حتفا لقي آخر جندي بقي
وفي مآبنا الأخائيونا
شكرا وحمدا كلهم يسدونا
لزفس في الأرباب أبناء العلى
وللفتى نسطور ما بين الملا
فذاك أني كان يوم المحن
إن لم يكن كالحلم ماضي الزمن
61
لكن أخيل ليس بالشفيق
وسوف يبكي نكبة الإغريق
فاذكر منتيوس وما قال لكا
في إفثيا الفيحاء مذ أرسلكا
ألم أكن وأوذس في القصر
نسمع ما تسمعه من أمر
يوم ذهبنا نحشد العمالا
بين الأخائيين والأبطالا
ودار فيلا كنت مع أبيكا
فيها وآخيل الفتى يليكا
والشيخ فيلا في فناء الدار
مؤجج فيها لهيب النار
يحرق أفخاذا من الثيران
لزفس يسترضيه بالقربان
وفوقها يريق من كأس الذهب
مدامة سوداء من صافي العنب
وأنتم اللحوم تقطعونا
من مدخل الباب نظرتمونا
فقام آخيل وفي أيدينا
أمسك راحبا بنا يدعونا
وإذ قضينا من شراب ضافي
وخير زاد حق للأضياف
إليكما وجهت قولي علنا
فرمتما اللحاق في الحال بنا
فقال فيلا لأخيل: «يا بني
برز على الأقران يوم الطعن» «ثم منتيوس تلا يقول: «رفيقك الباسل ذا أخيل «فاقك بأسا نسبا وقدرا
وزدته عمرا وزدت خبرا «فانصحه خيرا وله كن مرشدا
يطع لما تريه من سبل الهدى»
62
فذاك أمر الشيخ لكني أرى
أنك قد نسيت أمرا أمرا
بلغ أخيل قبل إدراك الدرك
قولي عساه مصغيا يذعن لك
فرب رب مال للترفق
والخير في نصح الرفيق المشفق
وإن يكن يخشى حلول البؤس
بوحي ثيتيس له عن زفس
63
فبك فليبعث مع المرامده
عسى بكم لنا تتم الفائده
والبس سلاحه عسى الطرواد
يروعهم لذلك الجلاد
إن نظروه فيك والإغريق
يبدو لهم للراحة الطريق
جيشك إذ مل من القعود
يبطش في جيش العدى المجهود
بذا تقي السفين والخيم وعن
عاتقنا تدرأ أثقال المحن»
64
لذاك فطرقل أسا تفطرا
وكر يبتغي أخيل مخبرا
وإذ لأشراع أذيس عرضا
حيث أقام القوم ديوان القضا
حيث أحلوا مجلس الأعيان
ونصبوا مذابح القربان
بدا أريفيل لديه عارجا
من ساحة الحرب جريحا عارجا
65
يرشح من جبينه سيل عرق
والسهم باد عضل الحق اخترق
والدم أسودا سخينا يجري
لكنه معتصم بالصبر
فرق فطرقل لذاك المنظر
وقال ملتاعا لهول المخبر: «وا أسفا يا زبدة الأغارق
أتهلكنكم ظبى المخافق
66
عن داركم نائين والأصحاب
لتذهبوا مطاعم الكلاب
قل لي أريفيل: أفي الإغريق
بقية لعبر ذا المضيق؟
أم ثقلت وطأة هكطور فلا
مرد للخزي الوبيل فشلا»
قال: «فبل قد قضي الأمر ولا
مناص وانظر تلق خير النبلا
بين جريح وطريح غادي
وقوة الطرواد في ازدياد
هي أغثني واصحبني للخيم
وأخرج السهم يزل عني الألم
والجرح فاغسله بماء فاتر
واسكب عليه بلسم القناطر
سر حفظت عن أخيل وهو عن
أستاذه خيرون في ماضي الزمن
أما طبيبانا ففوذا لير
ما بين دراع العدى محصور
وماخوون ذاك بادي العطب
في حاجة أضحى إلى التطبب»
فقال فطرقل: «سرى الوبال
ويلاه ما الحيلة والمآل
فها أنا أمضي إلى أخيل
أبلغ قول نسطر النبيل
لكن أراني عنك غير ناء
وأنت تحت الأزمة اللأواء»
ومن ذراعيه بلطف حمله
ولخيامه سليما أوصله
ومذ لدى الأتباع في القرب ظهر
مدوا له الفراش من جلد البقر
ألقاه فطرقل عليه وقطع
بالسيف نصل السهم من حيث وقع
وغسل الجرح وعرقا مرا
بيده فت وحالا ذرا
فالتأم الجرح وأوقف الدم
وأورفيل زال عنه الألم
هوامش
النشيد الثاني عشر
واقعة الخندق
مجمله
استظهر الطرواد على الإغريق، فدفعوهم إلى داخل معقلهم، وهزموهم إلى سفنهم، وألقى هكطور الرعب في قلوبهم، فخارت عزائمهم وهانت قواهم، أما هكطور فدفعته الحمية إلى اجتياز السور والخندق إلى السفن، فهيأ قومه لذلك، وارتأى فوليداماس أن يترجل الجميع ويندفعوا مرة واحدة مشاة، فاستصوب الطرواد رأيه، وتكتبوا خمس كتائب، كل كتيبة بزعامة رئيسها إلا أسيوس فإنه ظل على مركبته فقتل، ولما اندفع الطرواد إلى أبواب المعقل وقف لصدهم بطلان من أبطال اليونان، فأبرزا من البسالة ما يفوق الوصف، وإذ أوشك هكطور أن ينقض على المعقل ظهر لهم على ميسرة الجيش الطروادي نسر ممسك بمخالبه حية حية، فارتاع فوليداماس لذلك وأشار بالكف عن القتال، فوبخه هكطور ولبث على كرته فثبت الإغريق في موقفهم وأمطروا على الطرواد وبل نبال وامتاز الآياسان بالبأس والبطش بين الإغريق، كما امتاز سرفيدون وغلوكوس بين الليقيين نجاد الطرواد، ثم جرح غلوكوس فانهزم، وبقي سرفيدون وحده، فخرق السور وفتح منفذا فيه لجماعته فكادوا ينفذون فيه لولا بسالة آياس، فكثر الفتك والقتل فانحاز حينئذ زفس إلى الطرواد، وتقدم هكطور ورمي بصخر على أحد الأبواب فسحقه وولج مع كل جيشه معسكر الإغريق، ولم يزل يتعقبهم إلى أن لجأوا إلى سفنهم.
النشيد الثاني عشر
فطرقل عند أريفيل بخيمته
يعنى به ويداويه بحكمته
والحرب في مأزق ضاقت مسالكه
على الفريقين ألقى ثقل وطأته
أما الأغارق فالحصن المتين بنوا
والخندق احتفروا من حول خطته
ليدفعوا عن خلاياهم ومحملها
من الغنائم ما يغلو بقيمته •••
لكنهم حين شادوا سورهم غفلوا
عن الضحايا مئات بئس ما فعلوا
فما إذا هو واقيهم بمنعته
من الأعادي إذا كروا وإن حملوا
فلا يقوم بناء لا تحيط به
عين العناية إلا شابه الخلل
1
قد دام ما دام هكطور وما بقيت
إليون واشتد آخيل بنفرته •••
وعندما فتحت إليون واندثرت
من بعد عشرة أعوام بها حصرت
والأرغسيون هاتيك السفائن في
من عاش منهم إلى أوطانهم مخرت
فوسيذ فورا وآفلون انحدرا
وكل أنهار إيذا فوقه انحدرت
ريسوس روديس قاريس إيسفس
والهفتفور بضافي سيل ضفته •••
والإسكندر إغرانيق يتبعه
وسيمويس انجلى يهوي تدفعه
عن جنة سطعت أو بيضة لمعت
أو قرن رب بذاك الجد مصرعه
2
وفيبس حول الأنهار قاطبة
عليه تسعة أيام تزعزعه
وزفس أمطر شؤبوبا يقوضه
للبحر يقذفه في قعر لجته •••
وفوسذ وعصا الأنواء في يده
يطغي السيول عليه في توقده
يدك أركانه من أسها وبها
لليم يقذف معتزا بسؤدده
يستأصل الصخر منها والجذوع إلى
أن ساوت الجرف في مألوف معهده
فأسبل الرمل يعلوها وقد رجع ال
أنهار كل إلى محدود جدته •••
ذاك الذي سوف يبديه لنا القدر
والآن من حوله الطروادة استعروا
3
ترتج أبراجه من عنف كرهم
والأرغسيون في الأسطول قد حصروا
يروعهم سخط زفس مذ أصابهم
وهكطر ذاك أس الروع والخطر
لا زال يعصف فيهم مثل عاصفة
وقوم طروادة اشتدوا لشدته •••
كأن خرنوص بر صال أو أسدا
لم يعبأن بجمع حوله احتشدا
به تحيط السرايا والكلاب وقد
أهمت حواليه من أسهامها بردا
4
فيستجيش بقلب لا يروعه
بأس فلا يلتوي للخطب مرتعدا
بل ينثني وهو حيث انقض منقبضا
أو صال شقت سراياهم لصولته •••
كذاك هاج بهم هكطور يندفق
يصيح في القوم: «هيوا الخندق اخترقوا»
لكنما خيله في الجرف جازعة
ترددت مذ تراءى دونها العمق
وأطرقت صاهلات لا تطيق به
وثبا فتجتاز أو عدوا فتنطلق
وكيف تعدو وحول السور هاوية
يحوطها السد إحكاما لمنعته •••
هيهات تحت العجال الخيل تقطعها
لكنما لمشاة الجيش مرجعها
لذاك فوليدماس جاء هكطر وال
فرسان نادى بقرب الفوز يطمعها: «يا هكطر يا سراة الجند كيف ترى
فوق الحفير جياد الخيل ندفعها
وراءه السور والأركان قد رفعت
أوتادها غضة من ضمن سدته •••
فكيف ننزل في هذي العجال إلى
هذا الشفير ولا نلقى به فشلا
لئن ننل من لدى زفس إبادتهم
ونشر خزيهم فليهلكوا عجلا
فإن عبرنا وصدونا لوهدته
فأي رزء يوافينا وأي بلا
والحق أصدقكم لن ينجون بنا
ناج لإليون ينمي شر محنته •••
فالرأي عندي أن نبقي الجياد لدى
سياسها عند هذا الحد حيث بدا
ونحن نتبع هكطورا بجملتنا
مكثفين على أكتافنا العددا
فالأرغسيون إما حان مصرعهم
لن يستطيعوا سبيلا للقا أبدا»
فلم يكد ينتهي والقول راقهم
حتى ترجل هكطور لساعته •••
وكل فرسانهم ألقوا عجالهم
لساسة الخيل تستبقي حيالهم
تقام في الجرف صفا واحدا وهم
فيالقا خمسة صفوا رجالهم
فقاد أولها هكطور أولهم
كذاك فوليدماس من أمالهم
وقبريون وقد أبقى الجياد لدى
فتى لهكطور من أعراض فتيته
5 •••
كتيبة تلك ضمت جلهم عددا
جندا تمد إلى كيد العداة يدا
وقاد ثانيها فاريس يصحبه
ألقاث ثم أغينور الذي اتقدا
وحاز ثالثها من ولد ملكهم
فريام قرمان مقدامين قد عهدا
هيلينس ثم ذيفوب الذي طلعت
سيماء آل العلى تزهو بطلعته •••
كذا ابن هرطاقس آسيس البطل
من ثقف الجرد للهيجاء يشتعل
من بر آرسبة من جد سيلس قد
جرى عليها إلى إليون ينتقل
6
وانضم رابعها جيشا على حدة
لأمر أنياس رب البأس يمتثل
وآكماس ابن أنطينور يصحبه
أخوه أرخليخ كانا بصحبته •••
وخامس الفرق الغراء قد جمعت
أحلافهم ولسرفيدون قد خضعت
وعسطروف بغى عونا له وكذا
غلوكسا تلك صيد الحملة اندفعت
كماة بأس بلا هكطور وقعهم
في الحرب أيان أطراف القنا وقعت
قد قصر الكل عن إدراك شأوهم
وقصروا جملة عن شأو سطوته •••
وعندما التأموا تزهو يلامقهم
تقدموا ومرام النفس سائقهم
وأيقنوا أن أعداهم وقد وهنوا
تبيدهم في خلاياهم مخافقهم
7
بصدق فوليدماس كلهم وثقوا
على اختلاف سراهم وهو صادقهم
سوى ابن هرطاقس ما زال معتليا
يليه حوذيه من فوق سدته
8 •••
أم السفائن مغترا على حمق
بخيله وبشر الحتف لم يثق
فلن يرى بعد إليونا ويفخر بل
برمح إيذومن حكم القضاء لقي
9
يسرى السفين مضى حيث الأغارق قد
آبوا بخيلهم من أفسح الطرق
أغار تتبعه الأجناد لا غبة
وأيقنت في العدى فوزا بغارته •••
للباب كروا ومصراعاه ما زلجا
بل فيه قوم يباري من عدا ونجا
ودونه من بني اللافيث يحرسه
قرما نكال على هز القنا درجا
لينطس عد آريس وفولفت
لصده وقفا فيه وما اختلجا
قاما كأنهما ملولتان على
طود وقد قامتا من فوق قمته •••
فإن أصلهما في الأرض ينتشر
ولا يروعهما ريح ولا مطر
تربصا للقاه لا يهولهما
أنصاره وإن اشتدوا وإن كثروا
فكر يتلوه يامين وآدمس
كذا ثوون وأورست الأولى اشتهروا
وإينماوس تعلوهم يلامقهم
وجيشهم لغبا داو بصيحته •••
والأرغسيان لا يلويهما الجزع
صاحا بمن ضمن ذاك المعقل امتنعوا
فما أجاب مجيب والتووا قلقا
وكاد جيش العدى للسور يندفع
فبرزا خارج الأبواب وانفردا
مكافحين وأسهام العدى تقع
وفوق صدريهما الفولاذ متقد
يصل للوبل يهمي فوق صفحته •••
كأن في الشم خرنوصين قد ذعرا
بين الخياطل والقناص مذ حصرا
فيسحقان ببطن الغاب ما لقيا
كيدا ويستأصلان الفرع والشجرا
ويعليان صريف الناب ما بقيا
حيين لم يلقيا في المعرك القدرا
فهكذا اشتد ذان الباسلان وما
ريعا لكل قوى جيش وكثرته •••
كانا على ثقة من بأس ذرعهما
وبأس من قام فوق السور خلفهما
جند مدافعة بالعنف دافعة
وبلا من الصخر من فوق العداة همى
ومن كلا الجحفلين الرمي منطلق
على الرءوس بغيث بالنبال طما
10
كصيب الثلج تنهال الغيوم به
والنوء هب فتهمي تحت هبته
11 •••
والبيض ترجع عن وقع الحجار صدى
للجو عنها وعن أجوابهم صعدا
12
ففات آسيسا ما كان أمله
فصاح يلطم يضويه العنا كمدا: «أكنت يا زفس خداعا وكيف أرى
قرمين فذين لم نبلغهما أمدا
مثل الزنابير ذبت عن خشارمها
والنحل لا يتخلى عن خليته •••
فلن يكفا ترى إلا إذا صرعا
أو بين فتاك أيدينا إذا وقعا»
13
لكن زفس وهكطورا بنصرته
من دونهم خص ذاك الصوت ما سمعا
14
وسائر الجيش لم ينفك مضطرما
بأسا على سائر الأبواب مندفعا
من لي بإلهام ذي علم فينبئني
كم هامة وقعت في حر وقعته
15 •••
من كل فج لدى السور الأوار علا
وارتاع للخطب أهلوه وقد ثقلا
فلم يروا غير حسن الذود من مدد
ورهط أنصارهم في الخلد قد وجلا
لكنما ولدا اللافيث حولهما
قد أعملا في الأعادي السيف والأسلا
واجتاح فولفت داماس مبتدرا
بطعنة نفذت في بطن خوذته •••
ما صدها ذلك الفولاذ بل خرقت
حتى الدماغ وأم الرأس قد سحقت
من ثم أتبعه فيلون يلحقه
أرمين عن طعنة في جوفه مرقت
كذا لينطس في لدن القناة مشى
رمى وفي خصر هيفوماخس فهقت
فاستل من غمده السيف الحديد وفي
قلب العدى كر يلقي روع كرته •••
فانطفأت فرى يلقيه منقلبا
من ثم كر ومنيون الفتى اقتضبا
واجتاح أورست تسقى الأرض من دمه
والقرم يامين ثم استقبل السلبا
وهكذا فتيا اللافيث قد فتكا
فتكا ذريعا وحازا بعده النشبا
وهكطر إثره الفتيان لا غبة
وإثر فوليدماس تحت إمرته ••• (كتيبة تلك ضمت جلهم عددا
جندا تمد إلى كيد العداة يدا)
كادت حفيرهم تجتاز عابرة
إذا بطير لها تحت السماء بدا
فاستوقفت جزعا في الجرف حائرة
تطير أو هو عن يسرى السرى وردا
نسر مخالبه في الجو قد نشبت
بأفعوان خضيب تحت قبضته •••
فالأفعوان وفيه لم يزل رمق
ما بين أظفاره في الجو يصطفق
حتى عليه التوى بالعنف يلسعه
في بارز الصدر حيث التفت العنق
فصاح عن ألم مر وأفلته
وراح تحت مهب الريح ينطلق
والأفعوان هوى للأرض مختضبا
حيا وطروادة ارتاعت لرؤيته •••
فتلك من زفس نجوى رامها علنا
ونحو قرمهم فوليدماس دنا
وقال: «عودت هكطور معارضتي
إذا اقترحت مقالا بيننا حسنا
لا يجدرن بنا أن نستطيل إلى
مداك أو نرتئي ما لا يلوح لنا
لكنني كيفما دارت مباحثنا
مهما أقل فمقالي ثق بصحته
16 •••
لا خير بالفتك في الإغريق بالسفن
إن صح حدسي ففيه فادح المحن
ألم نر النسر يسرى الجيش مرتفعا
بحية حية مشتدة الإحن
أما رأيناه ألقاها مخضبة
فريسة تلك فاتته ولم تهن
ولم تكن لفراخ قد خلون بها
بوكره فانثنى يخلو بخيبته •••
وهكذا فلئن نظفر بسورهم
وخرق أبوابه خرقا برغمهم
ولو هزمناهم لن يرجعن بنا ا
أجناد من حيث كروا بانتظامهم
بل سوف نلوى شتاتا تاركين لهم
جندا تمزقها نيران كيدهم
فذاك تفسير هذا النجو يخبره
أخو الهدى تهتدي الدنيا بخبرته»
17 •••
فمال هكطور شزرا وهو يلتهب
غيظا وقال: «أللإحجام تنتدب
فإن تكن قلت ما قد قلت عن ثقة
لا شك رشدك أبناء العلى سلبوا
لأنت أولى برأي أصوب فعلا
م رمت أني قضايا زفس أجتنب
تلك القضايا التي بلغتها سلفا
مذ مال بالرأس إعلانا لنصرته •••
أرمت أني أطيع الطير إن رمحت
سيان تعلم عندي كيفما سرحت
لمطلع الشمس عن يمناي إن سنحت
أو يسرتي لدياجي الغرب إن برحت
فلا نطيعن إلا من أطاع جميع ال
جن والإنس والدنيا به انتصحت
وليس للمرء من فأل يدين له
خير من الذود عن أوطان نشأته
18 •••
علام تخشى الوغى جبنا وتضطرب
وأنت في الأمن لن ينتابك العطب
فلست بالقرم يأتي مؤقفا حرجا
حتى ولو جملة أجنادنا نكبوا
19
لكن إذا ما اعتزلت الحرب مجتنبا
أو ما بنصحك رمت الجند تجتنب
واغتر من قومنا فرد لقولك ذا
فاعلم فروحك في رمحي وطعنته»
20 •••
وكر والجيش طرا إثره حملا
وزفس من طور إيذا ريحه حملا
هبت بعثيرها من فوقهم ومضت
تذروه فوق العدى توليهم الوجلا
21
فتلك من فضل زفس نصرة وثقوا
بها وفي بأسهم واستقبلوا القللا
22
فهدموها وأطراف الوشيع رموا
والمعقل ابتدروا ثغرا لثغرته •••
وزعزعوا صخر أركان بدت عمدا
من تحت أبراجه قامت لها سندا
وشددوا العزم في استئصالها أملا
بمنفذ منه يؤتون العدى الشددا
لكنما عسكر الإغريق ظل على
أبراجه مستجيش العزم مجتهدا
مدت يلامقهم حصنا يذود به
يرمي العداة الأولى آلوا بخذلته
23 •••
آياس يجري وآياس على القلل
يستنهضان السرى بالقول والعمل
طورا بلين حديث للأولى اعتزلوا
وتارة بملام الفارس الوجل: «يا أول الصيد أبطالا وثانيهم
بأسا ومن لم يخول قوة البطل
لم يمنح الكل بأسا واحدا ولكم
في يومنا الذود كل جهد طاقته •••
عرفتم ضيق هذا الموقف الحرج
لا تلتون بقلب هد مختلج
لا يصدعنكم قرم يسوقكم
إلى سفينكم في خائر المهج
بل شددوا بعضكم بعضا ولا تهنوا
لعل زفس منيل النصر والفرج
به نذل عدوا قد ألم بنا
يصمى ويذبح حتى باب بلدته» •••
فهاج قولهما الأجناد فاعتصبوا
وماج من فوق ذاك المعقل اللجب
حجارة من كلا الصوبين طائرة
في الجو في موقف الجيشين تنسكب
كأن يوم شتاء زفس كان له
بالقر فيه على كيد الورى أرب
فتسكن الريح والثلج الكثيف على
وجه الثرى صبيا هام بوفرته •••
يهمي فيستر وجه السهل والجبلا
والمرج والزرع والأرياف والسبلا
والثغر حيث زغاب الموج يمحقه
وسائر الأرض منه ألبست حللا
لكن هكطور والطرواد ما ظفروا
بالسور والباب بالمزلاج قد قفلا
إلا بهمة سرفيدون هيجه
أبوه زفس ببادي بأس همته •••
جرى كليث على سرب الثيار جرى
أمامه مجوب فولاذه بهرا
مؤلق مستدير دق صانعه
قتيره دق حذق يدهش البصرا
مبطن بجلود الثور دار على
أطرافه قضب من عسجد نشرا
به مشى بيديه عاملان مضى
عجبا يهزهما أثناء مشيته
24 •••
كضيغم بين شم الراسيات ربي
وبرحت بحشاه آفة السغب
ينقض حتى مباني الناس مبتغيا
فريسة بفؤاد غير مضطرب
لا ينثني لكلاب الحي إن نبحت
أم بادرته رعاة القوم بالقضب
وليس يرجع إلا نائلا وطرا
أو هالكا بقناهم قبل عودته •••
وهكذا انقض سرفيدون ممتحنا
خرق المراقب والسور الذي حصنا
25
فقال لابن هفولوخ: «علام ترى
في ليقيا كان صدر القوم مجلسنا
والكأس تترع واللحم السمين لنا
والناس مثل بني العليا تبجلنا
علام في ثغر زنث أرضنا اتسعت
والكرم والزرع يسقى ملء حاجته •••
فلا يسوغ لنا إلا التربص في
صدر السرى حيث نلنا منتهى الشرف
26
حتى كتائبنا تعتز قائلة: «نعم الملوك علوا عن حطة الضعف» «فليهنأوا بسمين اللحم مأكلهم
والراح إذ وقفوا في موقف التلف»
وهل ترى لو أبينا الكر ننقذ من
وخط الشيب وموت بعد وخطته •••
لو كان ذا عفت شر الحرب والحرب
وما بغيتك في ذا المأقط اللجب
27
لكنما الموت منه لا مناص وقد
يأتي بأي سبيل كان أو سبب
28
فلنقدمن فإن المجد راقبنا
أو راقب من سقانا غصة النوب»
29
لبى غلوكس لا يرتاع مطلبه
وكر تتبعه أبطال أمته •••
فهال مرآهما مينستسا وهما
هما إلى برجه بالعزم واقتحما
فسرح الطرف حول السور مبتغيا
قرما يروم به عونا يصدهما
ألفى الأياسين لا يضويهما تعب
قد بارح الخيم طفقير يرومهما
ولم يكن من سبيل للنداء على
ما اشتد من لغب يصمي بضجته •••
حيث الطرواد قد ثاروا بمعترك
يبغون إدراك دك السور للدرك
وفي اليلامق والبيض المعذب وال
أبواب قرع دوى في قبة الفلك
30
فصاح مينستس بالفيج ثوطس
وقال: «طر بمقالي غير مرتبك
وادع الأياسين أو مهما بدا لهما
فليأت آياس يرفدني بنجدته
31 •••
والرأي هذا فعندي موقف الخطر
وقوم ليقية انقضوا على أثري
وإن يكن جل وقع الخطب عندهما
فليأتني ابن تلامون أبو الظفر
وليأت طفقير رب القوس يصحبه»
فأسرع الفيج ينمي صحة الخبر
قال: «ابن فيتيس حينا يرومكما
كليكما فأجيباه لدعوته •••
والرأي ذا فلديه موقف الخطر
إذ قوم ليقية انقضوا على الأثر
وإن يكن جل وقع الخطب عندكما
فليأته ابن تلامون أبو الظفر
وليأت طفقير رب القوس يصحبه»
لبى كبيرهما يجري بلا حذر
ومال نحو ابن ويلوس يشدده
ليحسن الذود فيهم حين غيبته:
32 ••• «قف يا أياس وفوليميذ لا تهنا
وحرضا الجند لا تأب الوغى جبنا
أمضي فأبلو بأعداء هناك عتوا
وإن دفعتهم دفعا رجعت هنا
وسار يصحب طفقير الفتى معه
أخاه وابن أبيه النابل الفطنا
كذلك الشهم فنديون متبع
وراء طفقير يجري في حنيته
33 •••
من داخل السور أموه وما برحا
في برجه فإذا بالأمر قد فدحا
وقوم ليقية مثل العواصف قد
تسلقوا بوحى يشتد أي وحى
فقل آياس صخرا هائلا وعلى
أفكلس خل سرفيدونهم طرحا
جلمودة من رجال العصر ما رفعت
يدا فتى رب بأس في شبيبته •••
فذلك الصخر من ضمن الوشيع رفع
رحاه ثم على رأس العدو دفع
فدق هامته من تحت خوذته
فغائصا من على البرج المتين وقع
كذاك أبصر طفقير غلوكس قد
رام التسلق مشتد القوى وطلع
وقد بدت يده البيضاء عارية
فأرسل السهم يعروها برميته •••
فشب للأرض واهي العزم يستتر
كي لا يرى الجرح أعداه ويفتخروا
فأثقل الغم سرفيدون حين رأى
منآه لكنه ما ناله الضجر
وألقماوون ثسطور أصاب فلم
يقف وعاجله بالرمح يبتدر
واجتر عامله من صدره فهوى
يصل فولاذه من فوق جثته •••
من ثم بين يديه ممسكا جذبا
إحدى دعائم سطح السور فاضطربا
وأسقطت من أعالي الحصن وانكشفت
عن منفذ لبني طروادة رحبا
فانقض آياس يبغيه وبادره
طفقير يرمي بسهم فيه ما نشبا
حزام جنته الكبرى أصاب فلم
ينفذ وزفس تلافاه بقدرته
34 •••
لم يرض موت ابنه قرب السفين ولا
نكاله وأياس ثار مشتعلا
وكر يطعن والرمح الحديد مضى
في ترسه وإلى الأعضاء ما وصلا
فصد يرجع سرفيدون بعض خطى
عن خطة السور لكن لم يهن وجلا
بل ظل يأمل نصرا وانثنى عجلا
يصيح في من تلاه من عشيرته: ••• «يا قوم ليقية هل خار عزمكم
فقد فتحت سبيلا في وجوهكم
وهل تيسر لي ما صلت منفردا
أمهد السبل للأشراع دونكم
35
هيوا اتبعوني فخير الأمر ما اجتمعت
على تطلبه القوات تلتئم»
فجملة وجلوا من عذل ملكهم
وفار فائرهم من حول فورته •••
والدانويون قد ضموا كتائبهم
من داخل السور لا يلوون غاربهم
فما هم دافعوا أعدائهم صببا
عن ثغرة جعلوا فيها مضاربهم
ولا أولئك منهم نائلو وطر
ولا سبيل ليحتلوا مراكبهم
وليس يفصلهم إلا الفواصل في ال
سور الذي اشتبكوا من حول فرجته •••
كزارعين بحقل بعد ما قسما
تنازعا كل شبر في حدودهما
ولا يظلان في جهد وفي عمل
حتى يوازنه المقياس بينهما
36
كذا تعادلت القوات يسرب من
كلا الفريقين سيالا نجيعهما
كم جنة سحقت في صدر حاملها
ولأمة خرقت من تحت جنته •••
وكم فتى مدبر قد بان كاهله
فالسهم واصله والرمح قاتله
37
وما استطاع بنو الطرواد صدهم
بل استوى في مجال الفتك هائله
كمرأة عالت الأطفال عادلة
قد أمسكت عود ميزان تعادله
لا تخسر الصوف مثقالا تضن به
عن العيار الذي ألقت بكفته
38 •••
لكن زفس ذرى المجد الرفيع ذخر
لهكطر فإلى الحصن المنيع عبر
فكر أولهم كرا يصيح بهم: «إيه فكروا بني الطرواد خير مكر
والسور فاخترقوا والنار مضرمة
ألقوا فلا تبق من أسطولهم وتذر»
فهاجت النفس والسور المنيع رموا
يهز كل فتى رمحا براحته •••
وهكطر حجرا في الباب قد ثقلا
محدد الرأس ضخم قعره حملا
جلمود صخر إذا ما رام يحمله
قرمان من خير ما في عصر نارجلا
ما بلغا رفعه إلا بجهدهما
من صفحة الأرض حتى يبلغ العجلا
لكن هكطور يرحوه بغير عنا
إذ زفس أذهب عنه كل ثقلته
39 •••
نظير جزة كبش خف محملها
هيهات في راحة الراعي تثقلها
كذاك صخرته هكطور محتدما
عنفا رماها لصفق الباب يرسلها
40
قد أحكموا قفل مصراعيه إذ رتجا
حتى يعز على الأعداء مدخلها
وقد تعارض قفلاه ووسطهما
ثقب تخلل مزلاج بفرضته •••
فهكطر مذ أتاه أثبت القدما
مفرجا بين ساقيه رحا ورمى
فراح ما بين صفقيه وقد سحق ال
قفلين ينفذ والصفقان قد حطما
والرزتان استطارت قائماتهما
والباب يصرف من عنف به صدما
فانقض هكطور بالفولاذ متشحا
كالليل يذعر ذعرا في دجنته •••
يهز بين يديه عامليه ولا
يصده غير رب عندما حملا
واجتاز وثبا وعيناه شرارهما
وار وألفت يدعو قومه عجلا
تلوه ما بين عاد قد تسلق أو
في الباب جار لداوي الصوت ممتثلا
والأرغسيون للأسطول قد لجأوا
في مأزق ضاق مشتد بأزمته
هوامش
النشيد الثالث عشر
الواقعة الرابعة
مجمله
دفع زفس هكطور وأنصاره إلى الثغر فاشتد الكفاح.
وغادرهم في لظى ناره
وحول وقاد أبصاره
ففتك الطرواد بالإغريق، وهاجت العاطفة فوسيذ فهم خفية عن زفس بمعاونة الإغريق، فاتخذ هيئة كلخاس العراف، واستنهض همة الآياسين ونفرا من المقاتلة، فالتف الإغريق حول آياس بن تيلامون، وقاتلوا قتالا مرا فصدوا هكطور وأتباعه، فجرح هكطور ودفع عن مرسى السفن بعد أن قتل أمفياخوس، وامتعض فوسيذ لموت هذا البطل، فهب مرة أخرى وتمثل لأيذومين بهيئة ثواس وألهب لبه، فشك في سلاحه وسار بمريون حوذيه إلى ميسرة الجيش وظل الآياسان في القلب، فاصطدم الجيشان وخرت القتلى أفواجا، وزفس منحرف إلى الطرواد وفوسيذ إلى الإغريق، وكان ذلك اليوم يوم أيذومين فبرز ببسالة أحرز بها قصب السبق وجندل الأبطال وهزم الأقيال، وكادت ترجح كفة النصر للإغريق، فتثبت هكطور بموقفه وتألبت عليه الأعداء فلم تفز منه بطائل، وزحف عليه الآياسان بجيشهما وانهالت النبال كالمطر على الطرواد، حتى كادوا ينهزمون، فأشار فوليداماس بجمع الزعماء؛ للوقوف على رأيهم فيما إذا كان الأولى لهم أن يتقهقروا، أو يتصبروا فخاض هكطور الصفوف وعنف أخاه فاريس، ثم انقضا معا انقضاض الأسود، فلم يظفرا بخرق كتائب الإغريق فالتقى الجيشان.
وعج الخميسين شق الفضا
إلى حيث في الجو زفس اضا
مجرى وقائع هذا النشيد في اليوم الثامن والعشرين أيضا، ومشهدها بين معقل الإغريق والساحل.
النشيد الثالث عشر
إلى الثغر هكطور زفس دفع
وأنصاره والكفاح صدع
وغادرهم في لظى ناره
وحول وقاد أبصاره
لإثراقة أرض خير الجياد
وميسة مهد قروم الجلاد
ونحو الإفوملغ أهل الفطن
أباة النفوس غذاة اللبن
1
ونحو الأبيين رهط الكمال
وعن حصن إليون صد ومال
وما كان يخطر في باله
بأن بني الخلد من آله
يثور بهم أحد ويقوم
لنصرة أي فريق يروم
ولكن مزعزع ركن الثرى
فسيذ جميع البلا أبصرا
لقد كان شق عباب البحار
وأقبل يرقب حر الأوار
وام سمثراق أم الشجر
لأشمخ طود بها واستقر
فلاحت له كل إيذا وأبصر
سفين البحار وإليون والبر
وأحدق مستعجبا وهو عابس
وشق عليه نكال الأراغس
فهب من القمة الوعره
بنفس على زفس مستعره
وتحت خطاه ارتجاج شديد
له الشم والغاب طرا تميد
2
ثلاثا خطا في الذرى الشاسعه
فأدرك إيغاس في الرابعه
3
هنالك شيدت صروح النضار
له خالدات بقعر البخار
فشد لشائق مركبته
جيادا تطير بمرحلته
حوافرها ذكرة تلمع
وعسجد أعرافها يسطع
وحل بإبريز شكته
وسوط النضار بسدته
فراحت بقلب العباب تلج
لها اليم مبتهجا ينفرج
وخلق البحار وقد شعرا
بوطأة مولاه إذ عبرا
من القعر حيتانه تثب
لمرآه يأخذها الطرب
فطارت بجذع بها اتصلا
وما سيم فولاذه بللا
سراعا بها خيلها رامحات
لتبلغه السفن الراسيات
وفي اللج ما بين تينيذس
وذات الجلاميد أمبرس
توسط من تحت ذاك الطريق
على البحر في القعر كهف عميق
هنالك أوقفها ثم حلا
ومد لها علف الخلد حلا
وقيدها ذهبا يبهر
فليس يحل ولا يكسر
4
لتلبث ثم له بانتظار
ونحو الأغارق بالنفس سار
5
فألفى الطراود قد هرعوا
على إثر هكطور واندفعوا
بصوت جهير وقلب يفور
كنار تثور ونوء يدور
يرومون أخذ الأساطيل قهرا
وذبح الأخاءة ثمة طرا
ولكن فوسيذ من قبضا
على الأرض من فوره اعترضا
من اليم أم الأراغس رفقا
فماثل كلخاس شكلا ونطقا
ونحو الأياسين مال بحده
فزادهما شدة فوق شده: «أياس أياس ألا فاحملا
فحملكما فيه درء البلا
ألا فاذكرا شأو بأسكما
نعم وانبذا الرعب خلفكما
فلست بخاش ذراع العدى
وإن كثفوا حولنا العددا
فهم حيثما عبروا السور جهرا
يصدهم قومنا الغر قهرا
ولكنما خشيتي ها هنا
وهكطور كالنار ثار بنا
يفاخر أن كان من نسل زفس
فرب إلاه يقوم ببأس
ويوليكما العزم في ملتقاه
وضم القيول لكف أذاه
يغادر أسطولكم فشلا
وإن كان أغراه مولى العلى»
6
ومن ثم مسهما بعصاه
وأولاهما قوة من قواه
شديد ذراع وثبت قدم
وخفة جسم وكل الهمم
وحالا توارى بسرعة صقر
على الفور ينقض من صلد صخر
ويرمح طي الجناح الخفيف
إلى الواد في إثر طير ضعيف
ففيه أحس أياس الصغير
ونبه يدعو أياس الكبير:
7 «من الخلد لا شك رب نهض
وماثل عرافنا لغرض
لنوري الأوار ونحمي السفينا
فما هو كلخاس فاعلم يقينا
تبينت وهو يسير خطاه
وأمر يسير بيان الإلاه
فنفسي ماجت لسفك الدم
وهاجت يدي وعدت قدمي »
فقال: «نعم، وأنا الآن ألفي
برمحي تهتز للفتك كفي
ورجلي بي شدة تثب
وروحي للنقع تضطرب
تحرقني لبراز يجل
مع القرم هكطور من لا يكل»
فذاك حديثهما طربا
وفوسيذ قلبهما ألهبا
وراح لساقة جيش الأراغس
يشدد كل فتى متقاعس
فقامت مفاصلهم تنتعش
وكانت على عيها ترتعش
إزاء الأساطيل يضوون غما
وبالسور جيش العدو ألما
يرون ويذرون دمعا سخينا
وبالحتف قد أصبحوا موقنينا
ففوسيذ بينهم اندفقا
يحثهم فرقا فرقا
وبادر يدعو قروم الرجال
كليطس طفقير رب النبال
وفينيل ذيفير فخر الكماة
وثاوس مريون هول العداة
كذا أنطلوخ وبكتهم
بقول أثار عزيمتهم: «ألا أي عار أرى أي عار
أفتيتنا يا حماة الذمار
ظننت بكم إن ثبتم جهادا
وقاية أسطولكم أن يقادا
وإلا فإن تجبنوا في الكفاح
ففجر انتصار الطرواد لاح
أتبصر عيني عجابا خطيرا
تيقنت رباه أن لن يصيرا
علينا الطراود منتصره
وهم قبل إيلة فرره
تتيه بعجز بغاباتها
ولا عزم يدفع آفاتها
إلى أن تروح بسوق النصيب
طعام ابن آوى وفهد وذيب
أهم هم ولم يك من منهم
إلينا ولو لحظة يقحم
أهم هم وقد غادروا البلدا
وساموا عمارتنا النكدا
وذاك لان المليك عثر
فغيظ الجنود وسيموا الضجر
فحول سفائنهم يذبحونا
وللذود عنهن لا ينهضونا
وهب أن أتريذ كان امتطى
بإغضاب آخيل متن الخطا
هلمو بنا نتلافى العرض
فعقل أخي الفضل يأبى المرض
وليس جديرا بصيد الرجال
مغادرة الكر يوم النزال
ولا أعذل النكس إن قعدا
ولست بعاذركم أبدا
تقاعسكم سيزيد البلا
ألا فاذكروا العار بين الملا
ألا تنظرون الصدام الشديدا
وهكطور ذاك العميد العنيدا
بأرتاجنا فاز والقفل حطم
وحول السفائن صال وصمم»
8
فهاجوا وحول الأياسين ضمت
كتائبهم للصدام وهمت
9
صفوفا تشوق انتظاما أريسا
وفالاس يوم تثير الوطيسا
تربص صيد جماهيرهم
لصد العداة وهكطورهم
نصال القنا لنصال القنا
وفوق المجن المجن انحنى
وبالمغفر المغفر اتصلا
وقد لاصق البطل البطلا
برصهم الخوذ اللامعات
تلاقت تموج بها العذبات
ومن دون صلد أناملهم
تلاقي اهتزاز عواملهم
فهبوا بهن بثبت جنان
تضرم نارا لحر الطعان
وهب الطراود والتصقوا
وفي الصدر هكطور مندفق
كجلمود صخر قد انتزعا
من الشم سيل به اندفعا
له الغاب مرتجة ترتجف
إلى القعر حيث بعنف يقف
10
وقد كاد هكطور يسفك سفكا
على الخيم والفلك للبحر فتكا
ولما بتلك الصفوف اصطدم
على رغمه ثبطته القدم
وجيش الأخاءة هم إليه
يهيل القنا والسيوف عليه
فصدوه وانكفأ القهقرى
يصيح ويدعو قيول السرى: «طراودتي وبني ليقيا
ويا آل دردانس الأصفيا
قفوا فالعدو قريبا يدين
وإن رص رص الحصار المتين
11
لئن كان خير بني الخلد طرا
نعم بعل هيرا المعظم قدرا
12
هو الدافعي لنكال العدى
فإن لهم بسناني الردى»
فهاجوا لذا النطق نفسا ولبا
وبرز ذيفوب يختال عجبا
بجنته مستجيش القوى كر
يحث الخطى وبها يتستر
فلقاه مريون صلد سنانه
فمد المجن اتقاء طعانه
فمن نصله الرمح عنفا تكسر
ومريون بين ذويه تقهقر
مغيظا لرمح قد انصدعا
ونجوى العدو المبين معا
وللفلك والخيم حالا سعى
يروم قناة بها استودعا
وقوم أخاي بكرتهم
يعج الفضاء بصيحتهم
وطفقير أول من ظهرا
بإمبريوس الفتى ظفرا (هو ابن لمنطور حاوي الجياد
بفيذية كان قبل الجهاد
وزوج لميديسكستا الجميله
فتاة لفريام غير حليله
13
فعند انتشاب الوغى قفلا
لإليون حيث كما بطلا
وحل لفريام ضيفا كريما
على حرمة كبنيه مقيما
فأرداه طفقير بالأذن
وجر القناة ولم ينثن»
فخر كدردارة نبتت
على رأس طود به ثبتت
يميل بها النصل حين برى
بغض الغصون لوجه الثرى
كذلك إمبريوس التوى
بصلصلة الدرع واهي القوى
وطفقير هم يروم السلب
ولكن هكطور حالا وثب
وأقبل يرميه بالعامل
وطفقير ما كان بالغافل
تنحى فراح السنان يطير
لصدر الفتى أمفماخ المقير «فتى أقطياط أبوه وكانا
لأقطور ينسب نسلا وشانا»
14
فخر يصل وهكطور كرا
ليسلب خوذته حيث خرا
ولكن آياس عامله
أطير عليه يعاجله
فلم يبلغ الرمح جسما تردى
حديدا يصد العوامل صدا
ولكن بمتن المجن وقع
وهكطور بالعنف رغما دفع
فظل القتيلان حيث هما
وقوم أخاي خلوا بهما
ففي أمفماخ منست الموقر
وإستيخيس قفلا المعسكر
وإمبريوس إلا ياسان سارا
به يقدحان احتداما شرارا
كليثين من تحت ناب الكلاب
قد انتزعا سخلة وسط غاب
لغض الغياض قد احتملاها
وما بين فكيهما أعلياها
كذا بين أيديهما رفعا
وشائق شكته انتزعا
وظل ابن ويلوس يشتد حقدا
لقتل الفتى أمفماخ المفدى
فهامة إمبريوس اقتضب
رحا ورماها شديد الغضب
فدارت ولا كرة حيث مرت
وتلقاء هكطور في الترب قرت
15
وفوسيذ منتقما لحفيده
يعد لطرواد شر وعيده
16
فهب إلى الفلك والخيم يجري
يهيج النفوس لوقع أمر
فأبصر إيذومنا قفلا
إلى الحرب من بعد ما اعتزلا
يعالج حينا فتى طرحا
ببطن شظيته جرحا
فمن بعد أن حملوه إلى
خيامهم عجلا عجلا
وألقاه إيذومن للإسى
لخيمته جد بادي الأسى
17
يشك بها بثقيل السلاح
ويقبل مقتحما للكفاح
18
تلقاه فوسيذ يعدو بباس
بشكل ابن أنذرمون ثواس
ثواس الذي كان ملكا كبيرا
وساد الإتول أميرا خطيرا
على كالدونة أم الجبال
كذلك فلورونة بالجلال
فقال: «أإيذومن أين ما
لفيف الأخاءة قد زعما
ببأس يقد الطرواد قدا
وعيد أراه قد انهد هدا»
أجاب: «ولست أرى أن يلام
بنا أحد لاعتزال الصدام
كررنا جميعا وما من أحد
عن الحرب جبنا وذلا قعد
فلا شك زفس القدير استطابا
نكالا وعارا لنا واغترابا
ثواس وأنت الفتى الباسل
بنصحك يسترشد الخامل
فلا تألون برشدك جهدا
وحض الفوارس فردا ففردا»
فقال: «أإيذومن من بغى
قعودا عن الكر في ذا الوغى
عسى أن يعز عليه المآب
ويبقى هنا مضغة للكلاب
فشك وهي اتلنى مسرعا
عسى الفوز في أن نكر معا
فأعجز ما في الرجال لدى
تكافلهم يحرزون القوى
وزد أننا بقروم الرجال
إذا اشتدت الحرب لسنا نبالي»
ولما انتهى راح وجهته
وإيذومن أم خيمته
فألقى زهي السلاح عليه
وهب برمحين بين يديه
كصاعقة زفس من عنده
على الأرض يدفع من زنده
يطير لها في الألمب شرر
فينبئ بالشؤم بين البشر
شعاع حكته على صدره
صفائحه الغر في كره
فأبصر تابعه الشهم أضحى
لدى الخيم يطلب من ثم رمحا
فصاح: «ابن مولوس مريون حبي
أعز الفوارس من كل صحبي
علام برحت الصدام الأصم
أصابك سهم وزاد الألم
أم الآن تحمل لي خبرا
ألست تراني مستعرا
أبيت التخلف بين خيامي
ويدفعني عاملي وحسامي»
فقال: «أتيت نعم عاجلا
أرى في خيامك لي عاملا
فإن قناتي قد انقعرت
على ترس ذيفوب وانكسرت»
فقال: «هنا خيمتي ادخل تنقى
قناة وإن شئت عشرين تلقى
صفوفا بها علقت ساطعات
بأكنافها من سلاح العداة
لأني مقتحم أبدا
بوجهي وجه علوج العدى
19
ففيها تروس وفيها رماح
وبيض ولام بزاهي الصفاح»
20
أجاب: «وفي خيمتي وبفلكي
سلاح كثير ذخرت بفتكي
ولكنه والعدو استطال
عسير المنال لبعد المجال
وإني مثلك افتخر
بأني بأسي أدكر
وأني يوم الطعان أرى
إذ التحم النقع صدر السرى
21
فغيرك إن أبل قد لا يراني
ولكن إيذومنا قد بلاني»
فقال: «ومثلي من خبرك
فلست لتنمي لي خبرك
22
علمت بأنا إذا ما أقمنا
كمينا له صفوة البهم رمنا
هنالك حيث يكون المحك
فيعرف من صك ممن فتك
23
هنالك حيث الجبان امتقع
ومن جوفه قلبه ينخلع
بمهجته هلعا يحقق
ومن خشية الموت يصطفق
وتصطك أسنانه ويقف
فتقعده ركب ترتجف
وأما الجسور فليس ليعبا
ولا يتغير لونا وقلبا
يعال وقد رصد القوم صبرا
إلى الكر والبطش طعنا ونحرا
هنالك من ذا الذي يجد
عليك سبيلا فينتقد
فإما طعنت وإما ضربت
قريبا إذن أو بعيدا أصبت
فليس بظهرك وقع سلاح
وصدرك ذاك محط الرماح
24
ولكن دع البحث في صدد
نلام عليه ولا نجتدي
هلم ادخلن عزيزا مكينا
ومن خيمتي اقتل سنانا متينا»
25
لئن يرم ما مثله نابل
وإن كر فهو الفتى الباسل
فهم كفء هكطور مهما طغى
فلن يبلغن بهم ما بغى
ومهما يكن عزمه لن يهونا
عليه المنال فيوري السفينا
فلا نالها غير زفس إذا
رماها بمقباس نار الأذى
ولا بشر من جميع البشر
يؤلمه عامل وحجر
ويغذي نتاج الثرى مستمرا
يطيق لآياس ذلا وقهرا
وليس بغير السباق يطال
ولو نفس آخيل بالعزم صال
فقم فنسير إذا لليسار
لنولي أو نحن نولى الفخار»
ومريون حالا كرب القتال
تقدم يجري إلى حيث قال
ودون الطراود مذ ظهرا
يضرم إيذومن شررا
وتابعه بالسلاح المتين
تراموا بكبحهما مجمعين
هناك السرى اشتبكت والغبار
إزاء السفائن للجو ثار
وقد ستر السبل سحق رفيع
فتنسفه لعباب الرقيع
كأن الرياح قد اصطدمت
بنوء تفاقم فالتطمت
كذا اشتبكوا فوق تلك الفلا
وقارنت الأسل الأسلا
رماح تمزق صدر الرجال
وأفئدة لهبت للنزال
ولمع الدروع وغر التروس
وزهر الترائك فوق الرءوس
وقد عانق الفيلق الفيلقا
بمنظره يبهر الحدقا
وليس سوى الفاتك الباسل
يسر لذا المشهد الهائل
وكل من ابني قرونس رام
خلاف مرام أخيه الهمام
26
فزفس لإعزاز شأن أخيل
لهكطور كان مليا يميل
27
ولكنه لم يشأ أن يبيدا
بإليون قوم الأخاء بعيدا
بل اختار إجلال ثيتيس قدرا
كذاك أخيل ابنها الشهم جهرا
وفوسيذ سرا من البحر هبا
ليحيي الأراغس نفسا وقلبا
يؤلمه أن زفس جنف
عليهم ونحو العداة انحرف
هما ابنا أب واحد ليس إلا
وثم التكافؤ فرعا وأصلا
ولكنما البكر زفس غدا
وقد فاق علما وطال يدا
28
لذلك فوسيذ ما جسرا
بجيش الأراغس أن يظهرا
فجاب يخوض الصفوف خفيا
يماثل بين الكماة كميا
وأورى الإلاهان نار نكال
له بسطا حبل حرب سجال
بأطرافه كلهم وقعوا
فقطعهم وهو لا يقطع
وخرت سراة كتائبهم
لديه بعنف تجاذبهم
29
هنالك إيذومن سخطا
وإن كان بالشيب قد وخطا
لقلب العداة بثبت القدم
دعا قومه حنقا وهجم
وهد عزائمهم مذ قتل
بكرته أثريون البطل
فتى من قبيسة قد أقبلا
حديثا ونيل العلى أملا
بكسندرا ربة الحسن هام
فخاطب فريام في ذا المرام
وما ساق مهرا لها بل وعد
بقهر العدو وحفظ البلد
ومذ وعد الشيخ أبهى بناته
يزوجه انقض فوق عداته
مضى شامخا بعزيمته
فلم يقه صلب جنته
وغار السنان بمهجته
فخر يصل بشكته
فناداه إيذومن يفتخر: «أيا أثريون لئن تنتصر
فتتبع خبرك بالخبر
علمتك خير بني البشر
فإن كان فريام أبدى العهود
فنحن نبر كذا بالوعود
على دك إليون إن نلنا
فعهدك نوثقه علنا
ونجعل عرسك أجمل بنت
لأتريذ من أرغليذة تأتي
هلم إلى الفلك نبدي القرار
فأحماؤنا لن يشابوا بعار
30
ومن ثم وافاه مجتذبا
بساق فزاد العدى لغبا
وآسيس راجلا أقبلا
لينقم وانقض مشتعلا
ومن خلفه الخيل يحرسها
فتى قد علاه تنفسها
فهم وإيذومن سبقا
بزج بحلقومه مرقا
فمال أمام الجياد يصر
بأسنانه للحضيض يخر
كأرزة طود وحورته
وملولة فوق قنته
تميل بفأس لها شحذوا
لصنع السفائن تتخذ
وسائقه ظل مضطربا
وحاز فلم ينهزم هربا
ورمح ابن نسطور وافى يميذ
بأحشائه فوق درع الحديد
فأهوى إلى الأرض يشهق شهقا
وأفراسه أنطلوخ تلقى
وسار بها للحمى مغنما
وذيفوب إيذومنا يمما
لآسيس هب يطلب ثارا
مشى وعليه السنان أطارا
وإيذومن مذ رآه تقدم
وزج فتحت المجن تلملم «مجن يغشيه جلد البقر
وفولاذه ساطع للنظر
له مقبضان متين كبير
يحف القتير به مستدير»
فلامس بطن السنان المجنا
وطار ومن وقعه الترس رنا
وغل وما طاش إذ صدرا
إلى ابن هفاسس إفسينرا
فأنفذ يصميه بالكبد
وذيفوب يشهد عن بعد
فراح بخيلة مفتخر
يصيح بنعرة منتصر: «نعم دم آسيس ما انهدر
وإن أم آذيس هول البشر
سيأمن ضمن المقام العميق
لأني أتبعته برفيق»
فساء الأراغس ذاك النعير
وأورى حشا أنطلوخ السعير
على بثه راح والصبر عيلا
يقي بالمجن الخليل القتيلا
31
وآلسطر ومكست أسيرا
به للسفائن يعلي الزفيرا
وإيذومن ظل في حزمه
يكر بعزم على عزمه
فإما ليردي كميا ببأسه
وإما ليفدي ذويه بنفسه
أصاب سليلا لزفس الأغر
بألقاث بن إسيت اشتهر
لأنخيس قد كان صهرا صفيا
على بنته البكر هيفوذميا
فتاة بصرحهما أبواها
بمنزل قلبهما أنزلاها
وما كان بين لدات الزمان
لها مثل في العذارى الحسان
وفاقت بوشي وعقل وحسن
كما فاق ذاك بضرب وطعن
فزفت إليه ولكنما
أبى الرب فوسيذ أن يسلما
فحل قواه وغشى البصر
فضاق المفر وحال المكر
وظل بغير حراك مقيم
كركن مكين وجذع عظيم
بدرع مرارا وفته الردى
فلم تقه الآن طعن العدى
فمزقها الزج مذ رشقا
وفي الصدر من دونها مرقا
فصلت وخر وكيف المناص
وفي قلبه العامل اللدن غاص
وعود السنان إلى الكعب ماد
بعنف اشتداد وجيب الفؤاد
32
وما زال يهتز حتى تلاشى
وإيذومن صاح يشتد جاشا: «أذيفوب ها قد فرى ساعدي
ثلاثة صيد لقا واحد
علام التشدق أقبل هنا
فتعلم أي ابن زفس أنا
ألم يأتك العلم عن نسبي
وأن ذقليون كان أبي
وأهل إقريط مينوس جدي
بزفس أبيه رقى طود مجد
وأن بإقريط باعي شديده
لملكي دانت شعوب عديده
أتيت أريك هنا وأباك
وكل الطراود سبل الهلاك»
فنازع ذيفوب في أمره
مرامان ردد في فكره
أيبرز فذا إلى ملتقاه
أم الرأي أن يلتجي لسواه
فعول في شدة المعمعة
يلوذ بأنياس يأتي معه
فألفاه في طرف الفيلق
تقاعد من شدة الحنق
33
يؤلمه أن فريام أزرى
به وبإقدامه لم يبرا
فوافاه قال: «إذن فهلما
أأنياس صدر الطراود علما
34
فإن كنت ترعى حقوق النسب
فذا صهرك الآن بادي العطب
فكم بك في سالف الزمن
وقد كنت طفلا قديما عني
وألقاث إيذومن أدركا
فقم ذب عنه فقد هلكا»
فهاج بأنياس لب الحشا
ونحو العدو الألد مشى
وإيذومن مستجيشا مكث
ولم يرتعد كالغلام الحدث
أقام كخرنوص بر خبر
قواه فقام بطود أغر
بمنفرج في البراح تربص
ليرقب من جاءه يتقنص
فيلهب عينا ويعقف ظهرا
ويشحذ نابا ويكمن شرا
ويذخر بطشا بعيد المنال
لذبح الكلاب وكبح الرجال
35
كذلك إيذومن وقفا
لأنياس مذ حنقا زحفا
ونادى الرفاق بصوت جهير
كذيفيز مريون ذاك الجسور
وآفارس عسقلاف البطل
كذا أنطلوخ وصاح: «العجل
هلموا رفاقي فليس لديا
معين وأنياس خف إليا
هو القرم يبلي بجم غفير
وما زال غض الشباب النضير
خشيت ولم أخش لو كان تربى
وذا العزم عزمي وذا القلب قلبي
فلا شك كان النزال سجال
فإما يعال وإما أعال»
فحركهم عامل واحد
وهزمهم الجلل الوافد
فهبوا إليه بأصنافهم
وأجوابهم فوق أكتافهم
وأنياس صاح بمن لمحا
ينادي السراة بذاك الوحي
فهب أغينور ذيفوب فارس
ومن خلفهم هب كل القوامس
كما تبع الكبش سرب الشياه
تعاف المراعي لورد المياه
وأنياس بادي السرور رقب
كما هز راعي الغنم الطرب
36
ومن حول ألقاث اصطدموا
صدام الكواسر وازدحموا
وفوق الصدور دروع تصل
بضرب يحل وطعن يفل
وأفتكهم كان إيذومنا
وأنياس كل لكل دنا
كآريس في بأسه اندفقا
وأنياس عامله سبقا
فأبصر إيذومن واحتفز
وفي الأرض راس السنان ارتكز
فلم تك بالطعنة الصادره
وإن أنفذتها يد قادرة
37
وبالرمح إيذومن رشقا
على وينماس فما زهقا
ففي الدرع غاص وشق الحشا
فخر على الأرض مرتعشا
وإيذومن اجتر ذاك المثقف
وهم يجرده فتوقف
فإن السهام عليه همت
وبالعي أعضاؤه وهنت
فلا قوة لالتقاط الزجاج
ولا لفرار بذاك العجاج
38
ولكن فيه بقية حزم
بها يدفع الحتف عنه ويصمي
وذيفوب أبصره يتقهقر
وقد كان حقدا عليه تسعر
39
وزج فطاش السنان وطار
إلى عسقلاف ابن رب البدار
فحل بعاتقه فتلقى
براحته الأرض يخفق خفقا
ولم يدر آريس أن فتاه
بذا الملتقى فارقته الحياه
لقد كان فوق الألمب احتجب
تحيط به سحب من ذهب
هنالك زفس بحكم القدر
على الخالدين القتال حظر
وحول القتيل الوغى صدعا
وذيفوب مغفرة انتزعا
ولكن كآريس مريون خف
على يده بالقناة قذف
فمنه التريكة في الحال فرت
وصلت على الأرض حيث استقرت
وهب إليه هبوب العقاب
ومن يده الرمح جر وآب
وفوليت بين يديه رفع
أخاه القتيل وفيه رجع
إلى حيث سائقه قد تخلف
بمركبة دونها الخيل أوقف
فراحت لإليون فيه تطير
على ألم ودم وزفير
وسائرهم فوق ذاك الفجاج
يعج بهم بالصدام العجاج
فآفارس بن قليطور راما
بأنياس فتكا فألقى الحماما
فأنياس من فوره وثبا
برمح بحلقومه نشبا
فمالت على الصدر هامته
وأهوى المجن وخوذته
وأحدق فيه ظلام الردى
فأخمد أنفاسه سرمدا
ورام ثوون فرارا فأحدق
به أنطلوخ وكاهله شق
بطعنته ابتت حبل الكتد
فمستلقيا في التراب رقد
40
يمد ذراعيه مستنجدا
وقاتله ينزع العددا
وينظر حوليه في صخبه
فكر الطراود في طلبه
وفوق المجن العريض البديع
ظبات حداد وقرع ذريع
وما مسه من ظباهم ضرر
ففوسيذ واقيه كل الخطر
وما ارتاع فانصاع بل ظل فيهم
يجيل مثقفه ويليهم
يفكر إما يزج وإما
يشق الصفوف بسيف أصما
وأما أداماس آسيسا
فأدرك ما بالخفا هجسا
فزج برمح إليه يطير
فغاص بقلب المجن الكبير
وفوسيذ يأبى منيته
فأوقف في الترس طعنته
وعود القناة وفيه انصدع
فشطر إلى الأرض منه وقع
وشطر بمتن المجن التصق
حكى وتدا باللهيب احترق
وأما أداماس فانقلبا
إلى قومه يتقي العطبا
ولكن مريون مذ كان أعدى
له بالسنان الشحيذ تصدى
فأنفذ حيث أريس يهيل
على الإنس موتا أليما وبيل
بأسفل حالبه فسقط
إلى الأرض مصطفقا وخبط
41
كثور على جبل ربطا
بعنف على رغمه ضغطا
وما دام هذا الوجيب وطال
سوى لحظات قصار قلال
فما انتزع الرمح حتى انسدل
على مقلتيه ظلام الأجل
وهيلينس صدغ ذيفير فل
بسيف بإثراقة قد صقل
أطار تريكته تتدحرج
إلى قومه بالدماء تضرج
بها من ذويه خلا نفر
وأظلم في عينه البصر
فشق فؤاد منيلا الأسى
وأقبل يطلب هيلينسا
وهز القناة وذاك حنى
حنيته ومعا طعنا
42
فهيلينس سهمه نشبا
بلأمة أتريذ ثم نبا
وحلق وانطاد ثم وقع
كما الحب بين المذاري اندفع
43
وذو الزرع في بيدر عاجلا
ذرى الحمص اليبس والباقلي
فبين الرياح وجهد المذري
تدافع حب إلى الأرض يجري
ولكن رمح منيلا استقر
بكف بها لا يزال الوتر
فأنفذ منها وفي القوس غاصا
فأم ذويه يروم الخلاصا
فوافاهم النصل في يده
يقوض ركن تجلده
فأقبل فورا أغينور يخرج
برقته النصل من حيث أولج
ومن صوف مقلاع تابعه حل
ضمادا على ذلك الجرح أسبل
44
وفيسندر انقض متقدا
وللحتف ساقته أيدي الردى
لديك منيلا رماه القدر
لتعمل فيه حسام الظفر
كلا البطلين مشى ورشق
ولكن رمح منيلا زهق
وفيسندر رمحه وقعا
على الترس لكنه ارتدعا
بفولاذه الصلب ما صدرا
ومن كعب نصلته انكسرا
ولكن فيسندرا طربا
لما خال من نيله الأربا
فسل منيلا حساما ترصع
قتير لجين بهي وأسرع
وذلك تحت المجن قبض
على فأسه وإليه ركض
45
بفولاذها بدعت عملا
وزيتون مقبضها صقلا
فما كان إلا أن اقتربا
وكل بشدته ضربا
فمن بيضة الخوذة الفأس حلت
على عذبات بهن تحلت
ولكن منيلا بطعنته
أحل السنان بجبهته
فأولج والعظم سحقا سحق
ومن مقلتيه النجيع اندفق
وطيرتا بخضيب الدم
من الرأس حتى ثرى القدم
فقوس ظهرا وخر صريعا
وقاتله الصدر داس سريعا
وجرده من بهي السلاح
ومفتخرا صاح أي صياح: «ألا يا طراودة يا لئام
ويا ظمئين لورد الصدام
ألا هكذا ستعافون قهرا
سفائننا اللاء يمخرن مخرا
علام إضافة عار لعار
تحريتم يا كلاب الشنار
فهلا غنيتم عن الغدر نفسا
وهلا خشيتم إثارة زفسا
إلاه القرى من سيهدم هدما
دياركم إذ جنيتم ظلما
وزوجي لما رعتكم ضيوفا
فررتم بها والكنوز صنوفا
ألا ما اجتزأتم بما قد سبق
لتوروا السفين وتردوا الفرق
فلالا ومهما اضطرمتم غرورا
ستلقون تحت العجاج الثبورا
أيا زفس يا من بسامي النهى
على الإنس والجن طرا سما
بقدرتك استعصم المكره
فكيف تلي زمرا غدره
جنوا وسيجنون طول الزمن
ولا يرتوون وغي وفتن
فرقص السرور وعذب المنام
وطيب الأغاني وكل هيام
وكل سرور وإن طمحا
له المرء فوق شرور الوحي
فلا بد صاحبه أن يملا
ولكن من العيث طروادة لا»
46
ولما أتم مقالته
وجرد ذلك شكته
وأدلى بها لرفيق بطل
وعاد فبرز بين الأول
فهرفليون بن فيليمن
بدا للقواضب لا ينثني
وراء أبيه لإليون قدما
أتى ليوافي القضاء الملما
فبادر أتريذ في طعنته
فلم ينفذ الرمح في جنته
ونحو ذويه التوى ينظر
حواليه خوف العدى تغدر
فما كاد ينصاع حتى تلقى
مثقف مريون يخرق حقا
بأيمن فخذيه بالعظم مرا
وشق مثانته واستمرا
فأقعى ووجه التراب تروى
دما وارتمى دودة تتلوى
47
فألفاه خلانه بالحضيض
بطرف غضيض وروح تفيض
فحف به البفلغون ذووه
وبين أكفهم رفعوه
وألقوه من فوق مركبة
يهدهم فادح المحنة
لإليون ساروا أمامهم
أبوه مآقيه تنسجم
فإذ ذاك مقتله عظما
على نفس فاريس فاقتحما
لقد كان قبلا نزيلا لديه
فشق عظيم المصاب عليه
فزج وكان هناك فتى
بأوخينر بينهم نعتا
همام بقورنش ذو رياش
وأيقن بالحتف منذ استجاش
لأن أباه فليذ النبيل
مرارا له قال قبل الرحيل : «فإما الحمام بداء عضال
وإما لدى الفلك يوم القتال»
48
فلم يرض داء يؤرقه
وعذلا وحزنا يحرقه
فجاء وفاريس فيه فتك
بزج تلجلج تحت الحنك
فأودى على لهب الغمرات
وهام على أوجه الظلمات
هنا كاللهيب السرى اقتتلوا
وهكطور مقتلهم يجهل
ولم يدر أن يسار السفين
عثت بذويه أيادي المنون
وكاد العدى يحرزون الظفر
وفوسيذ فيهم يهيج الزمر
فإن مزعزع ركن الثرى
لنصرتهم بقواه انبرى
49
وهكطور مازال حيث اندفع
بهم أولا والصفاق اقتلع
50
هنالك حيث جرى حنقا
وفيلق دراعهم خرقا
وحيث سفين فروطسلاس
لقد قرنت بخلايا أياس
وقد جذبت لجدود البحار
تحاذي أداني ارتفاع الحصار
هناك الفوارس والخيل مالت
بجملتها للصدام فجالت
هنالك هكطور كالنار شبا
على فلكهم فتلقوه غضبى
وصدوه عنها وما ظفروا
بإجلائه فله صبروا
بصدرهم زعماؤهم
تخوض المنايا وتقتحم
هناك البيوتة جند أثينا
بصدر طلائعهم يصدرونا
منستس قائدهم وفداس
يليه وإستيخيس وبياس
ومسترسلو اللأم يونانهم
تصدر للطعن فتيانهم
51
إليهم قد انضم قرب الخلايا
بنو أفثس بلفيف السرايا
وميدون في قومهم آمر
وفوذرقس البطل القاهر (فميدون كان فتى رب باس
لويلوس من غير أم أياس
بها هام ويلوس من غير حل
وميدون عن موطن الأهل أجلي
لفيلاقة كان مذ قتلا
أخا عرس والده رحلا
فهاجت لذا إريفيس استعارا
فأخلى البلاد وعاف الديارا
وفوذرقس بن إفقلوس كانا
سليلا لفيلاقس عز شانا)
ويصحبهم باسلو لقريا
ومبجيس قاد بني إيفيا
لإمرته كلهم ذعنا
وإدراقس ولأمفينا
وأما الأياسان فاندفقا
معا لحظة قط ما افترقا
كثورين في مزرع أسحمين
بنبر لقد قرنا كفؤين
جرى محرث الأرض خلفهما
بعزم تعادل بينهما
فيثلم ثلما وينثنيان
وصدراهما رقا يرشحان
52
ولكن لدى ابن تلامون ثارت
عصابة بأس حواليه دارت
لجنته تتناوب حملا
لتخفض من ثقلة العي حملا
53
وأما رجال ابن ويلس فما
جروا خلفه عندما هجما
فما لبني لقريا مهج
بصدر الكتائب كي يلجوا
فليس لهم خوذ سابحات
على صلب فولاذها العذبات
وليس لهم جنن من صفاح
أديرت ولا أسل ورماح
ولكنهم أقبلوا للقتال
بتلك القسي وتلك النبال
وتلك المخاذف تحكم جدلا
من الصوف تمطر في الحرب وبلا
بعدتهم تلك هم أبدا
نكال كتائب جيش العدى
54
فظل مجيلو السلاح الكثير
يصدون أعداءهم بالصدور
وهم خلفهم جحفلا ثانيا
يظل وبالهم هاميا
فربك وجه العدو الألد
وأوهى عزيمته والجلد
وكاد الطرواد ينكفئونا
إلى حصن إليون مكتئبينا
ولكن فوليدماس سبق
فصاح بهكطور بين الفرق:
عتوت فلا ترعوي لمقال
أأنت سبوق بكل مجال
أمذ كنت هكطور تسمو بعزمك
زعمت بأنك فقت بعلمك
ألم تر آل الخلود العظام
ينيلون هذا فخار الصدام
ويؤتون ذلك صوتا رقيقا
وقيثارة ثم رقصا أنيقا
وذياك زفس الحكيم يزين
يثاقب فكر وعقل رزين
فذياك ذياك خابر تقسه
وواقي الذمار ونافع جنسه
55
إذن خذ مقالي رأيا صوابا
فحولك ثار القتال التهابا
فأصحابنا منذ عبر الحصار
هم بين معتزل لا يباري
ونزر لجيش العدى صدرا
وحول السفائن قد ذعرا
فعدوا عقدن من الصيد محضر
لنبحث فيما به نتدبر
أبا لفلك فتكا بزحف وكر
لعل إلاها بنيل الظفر
أم العود عنهن منقلبينا
ونحن بأرواحنا سالمونا
فإني أخشى إيثار الأعادي
لنكبة أمس بحر الجلاد
هنا قرب فلكهم رجل
من الفتك لا يرتوي بطل
وظني لا يلبثن طويلا
فيبرز للحرب سخطا وبيلا»
56
تلقاه هكطور رأيا مصيبا
وقال لفولدماس مجيبا:
57 «هنا أوقفن خيار الجنود
إلى أن أكر أنا وأعود
أثير بقومي نار الكفاح
وأرشدهم لسبيل الصلاح»
وهب بخوذته يستطير
كطود من الثلج راح يسير
58
وخاض يصيح بصوت جفا
صفوف الطراود والحلفا
فكل أصاخ لوقع الندا
ومن حول فوليدماس عدا
وهكطور بين الطلائع هام
يسائل عن هيلنوس الهمام
وعن آدماس بن آسيسا
وآسيس نجل هرطافسا
وذيفوب لكن أتيح القضا
فبعض جريح وبعض قضى
فمن بطل بطعان الأراغس
قتيل أمام السفائن راكس
ومن باسل لم تغله المنون
جريح بأكناف تلك الحصون
فأبصر فاريسا المجتبى
يسار الجناحين ملتهبا
يكر ويدفعهم للقتال
فعاجله بأمر مقال: «ألا يا شقيا بديع الجمال
وعشاق خداع غيد الدلال
ألا أين ذيفوب هيلينس
كذا أثريون الفتى الأكيس
كذا آدماس بن آسيسا
وآسيس نجل هرطاقسا
أشماء إليون تم المصاب
بك اليوم حتما يحوق الخراب»
فقال كرب يفيض جمالا: «أخي أالبريء اتهمت محالا
أفي مثل ذا اليوم بأسي أنسى
وأمي ما ولدتني نكسا
فمذ سرت بالقوم قرب العماره
فنحن هنا بطعان وغاره
فمن رمت من دون هيلينسا
وذيفوب عنهم ورثنا الأسى
وذان جريحان قد رغما
وزفس من الحتف صانهما
بنا الآن سر حيث شئت فإنا
لك التابعون قراعا وطعنا
وحقك لن نبرحن الرهانا
نكر إلى أن تكل قوانا
فمهما عتا القرم لن يجدا
سبيلا إلى البطش إن جهدا»
59
لذا لان هكطور ثم زحف
وفاريس حيث اصطكاك الحجف
وحيث الفتى قبريون ضرب
وفلقيس ثار وأرثيس هب
وفوليدماس وفلميس كرا
وفولفت ذو الجلال استقرا
ونجلا هفتيون قد ثبتا
مروس وعسقانيوس الفتى
بأمسهما أقبلا بدلا
لرهط لعسقانيا رحلا
60
وزفس إلى الحرب حثهما
وجمع السرى واحدا هجما
كأن من الجو نوءا شديد
به زفس يقذف طي الرعيد
يعيث ببر ويهوي لبحر
ويدوي بصعقة هول ويجري
فيركم موجا ويزيد يما
تدافع مرتفعا مدلهما
61
فذاك اندفاع لفيف السرى
على أثر الصيد مستبشرا
صفوف تدفع دهم صفوف
تألق فولاذها للحتوف
وهكطورهم عد آريس في
زعامتهم باهر الشرف
مشى بمجن جلود البقر
كسته وفولاذه قد بهر
ومن حول صدغيه خوذته
تهيج فتسطع جبهته
دنا جائلا يسبر القوم سبرا
يرى هل يذلهم اليوم قهرا
فما راعهم هوله وتقدم
أياس يحث الخطى وتكلم: «هلم إلي وألق الوساوس
علام كذا رمت ذعر الأراغس
بلونا القتال بثبت الخطى
ولكنما صوت زفس سطا
توهمت أن تنهب الفلك نهبا
وفينا أكف تقيهن ذبا
وتسبق مفتتحات حماكم
ومغتنمات جزيل غناكم
ولم يبق ظني إلا اليسير
أهكطور حتى فرارا تطير
تلوذ بزفس وكل إله
ليجري خيلك جري البزاه
فتلقيك خوف العدو المفاجي
بإليون تحت غمام العجاج»
وما كاد يفرغ حتى تراءى
بقلب الفضا طائر يتناءى
هو النسر من فوق هامته
يبشر خيرا بحومته
فضج الأراغس للفأل بشرا
لما أنسوا فيه من خير بشرى
ولكن هكطور حالا أجاب: «أثرثارة زاغ غث الخطاب
62
هرفت أياس بما قلته
وقد خاب ما أنت أملته
ألا ليت لي أن أقول بنفسي
بأني من ولد هيرا وزفس
ويا ليت لي باعتزازي يقينا
كعزة آفلن وأثينا
كما أنني موقن ببوار
لفيف الأخاءة في ذا النهار
فإما اغتررت وعرضت نفسك
لرمحي تؤتى على الرغم بؤسك
يمزق جلدك ماضي سناني
فتلقى لدى الفلك ميت الهوان
وفي شحمك الغض واللحم ترتع
نواهس إليون والطير تشبع»
ومن ثم هم وفيهم تصدر
وفي إثره زعماء المعسكر
بهم خلفه ارتفع الصخب
ومن خلفهم جحفل لجب
وجيش الأخاءة بأسا تدرع
بموقفه ظل لا يتزعزع
تربص يلقى علوج العدى
بنقع لقلب الفضا صعدا
وعج الخميسين شق الفضا
إلى حيث في الجو زفس أضا
هوامش
النشيد الرابع عشر
مكر هيرا ببعلها زفس
مجمله
كان نسطور في المعسكر يعنى بتمريض ماخاوون الجريح، فخرق آذانه قرع الحراب فارتاع وخرج من مضربه يتشوف، فشهد مشهدا هاله ولقيه أغاممنون وأوذيس وذيوميذ وكلهم جريح، فتشاوروا فرأى أغاممنون أن الغنيمة في الهزيمة لميل زفس إلى الأعداء، فقبح أوذيس رأيه وارتأى ذيوميذ وجوب العودة إلى ساحة القتال لعلهم إذا عادوا بين أجنادهم يثبرون بهم ثائر الحمية فكان كذلك. وظهر فوسيذ بهيئة جندي شيخ ونشط أغاممنون وثبت الإغريق، وكانت هيرا قد ارتاعت لانحراف بعلها زفس إلى الطرواد، فتهيأت لأعمال الحيلة فاستعارت حزام الزهرة ومضت إلى لمنوس، والتمست معاونة «الكرى» أخي «الموت» على زفس، فتمنع الكرى بادئ بدء عن إجابة سؤلها فلم تزل تخادعه حتى أذعن لها وسكب طله على عيني زفس فاستولى عليه السبات بين يديها، وطيرت الخبر إلى فوسيذ فاغتنمها فرصة خير فرصة ودفع الإغريق، فقضوا على الطرواد وجرح إياس هكطور فأقصاه أتباعه عن موقف النزال، وطلبه الإغريق فلم ينالوا منه مأربا، وهناك ازداد الإغريق بأسا ففتكوا بأعدائهم وصدوهم وأبعدوهم عن مواقف السفن وملأوا السهل أشلاء من قتلاهم لانهزم الطرواد من أمامهم وأياس في أعقابهم تخر الأبطال بين ذراعيه.
يبتدئ هذا النشيد وينتهي أيضا في اليوم الثامن والعشرين ومشهد وقائعه في مضارب اليونان فطور إيذا ثم في ساحة القتال.
النشيد الرابع عشر
كان نسطور لدى كأس الشراب
مصغيا يسمع عجا واصطخاب
فلما خاوون قال: «أفكر فما
علة ينجم عن قرع الحراب
حول تلك الفلك فتيان الوحي
نقعهم يعلو مه لا تبرحا
واشرب الخمرة صرفا ريثما
هيكميذا لك تحمي المسبحا
1
وتنقي الجرح من هذا الخضاب •••
وأنا ماض أرى ماذا جرى
بالسري» واقتال ترسا أكبرا
2
كان ترسيميذ قد غادره
مؤثرا ترس أبيه نسطرا
وعلى رمح طويل قبضا
بسنان قاطع صفرا أضا
وإلى الباب عدا مستشرفا
فله لاح القضا أي قضا
ببني الإغريق قد جل المصاب •••
دفعوا دون عدو مندفع
خلفهم من خلفه السور صدع
لبث الشيخ على هاجسه
خامد الجأش كبحر متسع
بدنو النوء في الجو شعر
يمه فأربد لونا واكفهر
لا يعج الموج فيه مائلا
أي ميل قبل ما زفس انتهر
ريحه تنقض من فوق العباب
3 •••
هكذا الشيخ على أمرين جاش
لبلوغ الجيش من فوق الرشاش
4
ألحاقا بأغاممنون أم
بالحواشي حيثما اصطك الكباش
5
فعلى ذاك أخيرا عولا
واشتباك السمر يصمي النبلا
يقرع الجنات في دراعهم
أبتر ماض ورمح صقلا
نافذ الحدين ريان الذباب
6 •••
فإذا في الثغر جرحى الأمرا
من بني زفس تراءوا زمرا
كذيوميذ وأوذيس وأت
ريذ من فلكهم أموا السرى
فلكهم عن موقف الطعن المبيد
أرسيت بالجرف في بون بعيد
درنها للسهل فلك أدنيت
دونهن السور بالإحكام شيد
معقلا يمنع أن جد الطلاب •••
ذلك الجرف العريض المتسع
كل هاتيك الخلايا ما وسع
خوف تضييق مجال حال من
دونها فيه السرايا تجتمع
فصفوفا كن في ذاك الخليج
بينهن النفس في الصيد تهيج
فانبروا كل على عامله
يتوكأ راقبا عج الأجيج
وإذا بالشيخ نسطور المجاب •••
فالتظوا طرا لمرآه أسى
وأغاممنون نادى يئسا: «يا ابن نيلا فدوة الإغريق لم
عدت من قرع القنا محترسا
خشيتي ويلاه إنفاذ وعيد
ذلك الفتاك هكطور العنيد
يوم في شوراه آلى أنه
يحرق الأشراع والقوم يبيد
قبل أن ينوي لإليون المآب •••
وعده رباه فيه اليوم بر
وفؤاد الجيش بالغيظ استعر
كأخيل كلهم لاح وقد
عذلوني وأبوا دفع الضرر»
7
قال: «ها قد قضي الأمر فلا
نفس زفس دافع هذا البلا
ذلك السور به منعتنا
وتراه اندك والنقع علا
ولدى الأسطول ميدان الضراب •••
فأجل طرفك في كل طرف
لا ترى أين بنا جل التلف
حيثما تنظر فالقتلى هوت
وهديد القوم في الجو قصف
فلنرم رأيا به نؤتى الفلاح
إن يكن ذا الحين للرأي صلاح
إنما الحكمة في عزلتنا
ما على المجروح إتيان الكفاح»
8
فأغاممنون ملتاعا أجاب: ••• «إن يكن ذيالك السور الخطير»
ما وقى ضرا ولا صد الحفير
أو تكن خابت أمانينا به
بعد إجهاد قوى الجيش الكثير
أو يكن ثار الوغى دون السفين
إنما من زفس ذا الذل المهين
نصره عاينت قبلا مثلما
قد شهدت اليوم ذا الخذل المبين
موقنا بالحتف في دار اغتراب •••
غل أيدينا وأعدانا الثقال
عز آل الخلد إجلالا أنال
فلنجرن من الأسطول ما
كان أدناه إلى الجرف مجال
وبقلب البحر نرسيه إلى
أن نرى جيش الدياجي أقبلا
فإذا أوقف كرات العدى
سائر الفلك اجتذبنا عجلا
وكفينا شر فضاح العذاب •••
ففرار المرء أولى أبدا
من نكال الأسر في أيدي العدى
ليس عار لا ولا في الليل أن
يتوارى المرء عن خطب بدا»
9
قال أوذيس وبالغيظ اشتعل: «يا أخا العي فما هذا الملل
لك أولى إمرة الأنكاس لا
إمرة في البهم من كل بطل
شيخهم يبطش كالغض الشباب
10 •••
زفس قد علمنا سل السيوف
بصبانا وإلى يوم الحتوف»
11
أبنا رمت ارتدادا وترى
بحما إليون قتلانا ألوف
مه فلا يسمع سوانا بالفرق
نطق عجز ما به قط نطق
لا أخو ذوق ولا قيل ولا
قائد مثلك للحرب اندفق
جيشه الجرار كاللب اللباب
12 •••
أإلى اليم نسوق الأغربه
والوغى للجو أعلى صخبه
13
إنما الأعداء ذي منيتهم
ولئن فازوا بحكم الغلبه
فإذا ما نحن باشرنا العمل
ما الذي يدفع أهوال الفشل
وإذا الأجناد من خلفهم
أبصرونا وجلوا أي وجل
والتووا ... لا لا فما هذا الصواب»
14 •••
قال أتريذ: «لقد كلمتني
بمقال فيه قد كلمتني
15
أنا لا أرغم قسرا جندنا
أن يسوقوا راسيات السفن
فليقم أيكم لا فرق إن
كان غض العمر أو شيخا مسن
ويوافينا برأي صالح
أتلقاه بقلب مطمئن»
16
فانبرى يلقي ذيوميذ الخطاب: ••• «ذونك انظر فهنا المرء المراد
فاستمعه إن ترم قول السداد
لا يغيظنكم نصح فتى
فبه فخرا سما فضل التلاد
فأبى تيذيس الشهم الصحيح
من له في ثيبة سامي الضريح
جده فرثوس في أفلورنا
وكليدونا حوى الملك الفسيح
وبها مغناه بالإعزاز طاب •••
ولده أغريس ثم ملاس
وونوس خيرهم عزما وباس
ذاك جدي ظل في أوطانه
وأبى أرغوس مذ أجلي داس
17
قدر من زفس والأرباب كان
فله تيذيس بالرغم دان
ثم في غربته تم على
بنت أدرست له عقد القران
وثوى في منزل زاهي الرحاب •••
ملك الأرياف واحتاز الحقول
خصبة فيها مواشيه تجول
وبهز الرمح ما ماثله
أحد والحق تدرون أقول
فإذا ما كنت بالفرع الضئيل
لا ولا في الحرب مهيابا ذليل
ولذا لا تحقروا قولي إن
قلت للهيجاء فلنلق السبيل
ولئن ظلت دمانا بانسراب •••
فالضرورات لها حكم عظيم
إنما عن موقف الطعن نقيم
باعتزال فيه لا يدركنا
في الوغى جرح على جرح أليم
ندفع الجند وندعو للمدد
من هوى النفس به جبنا قعد»
18
فأصاخوا ووعوا حتى انتهى
وجروا والقلب بالحزم اتقد
خلف أتريذ بقلب لا يهاب •••
إنما فوسيذ عن قرب رقب
فحكى شيخا جليلا واقترب
وأغاممنون وافى قابضا
يده اليمنى برواع الغضب
قال: «يا أتريذ آخيل الحقود
فرح بالفتك في بهم الجنود
فليمت وليضمحلن على
غيه واعلم فأبناء الخلود
لم يسوموك قلي يولي العقاب •••
سوف يربد على السهل الغبار
ببني الطرواد يبغون الفرار»
ثم من دونهم انقض على
هدة كالرعد تشتد وسار
بصديد صاح من صدر حديد
عن وحي تسعة آلاف يزيد
بل وحي عشرة آلاف إذا
صد يوم الطعن دراع الحديد
فالتظى الإغريق للحرب التهاب: •••
من ذرى الأولمب عن عرش النضار
نهضت تلفت هيرا للأوار»
19
فأخاها أبصرت مندفعا
وحبورا قلبها الميمون طار
20
ولإيذا أرسلت طرف المها
فرأت زفس الذي ألمها
فر معتزا على قنته
فكرت في هاجس كلمها
21
علها تغريه في أمر عجاب •••
فارتأت مذ أعملت فكرتها
لتعدن له زينتها
فإذا ما جاءها مفتتنا
بسناها أنفذت حيلتها
وعلى عينيه إن تلق السبيل
سكبت روح السبات المستطيل
ثم أمت غرفة شاد لها
نجلها الصانع هيفست النبيل
لسواها قط لا يفتح باب •••
فوق أبراج علت أرتاجها
لا يرى إلا لها مزلاجها
22
أقفلت مذ دخلت ثم خلت
بطيوب نفحها وهاجها
طهرت أعضاءها بالعنبر
ثم بالزيت العلي الأذفر
23
أرج أيان مسته يد
فاح من قبة زفس الأكبر
عابقا في الأرض يسمو للسحاب •••
وانثنت تجدل براق الضفور
بيديها بعد تسريح الشعور
نظمتها حلقا هدابة
فوق ذاك الراس فتانا يدور
24
وارتدت مسبلة بردا رقيق
صنع آثينا به وشي أنيق
بعرى العسجد زرت وانثنت
لنطاق يشمل القد الرشيق
مئة أهدابه غر العصاب •••
ثم قرطين جمالا شائقين
مهلا ناطت بكلتا الأذنين
كل شنف بيتيمات ثلا
ث بديع الصنع غض المقلتين
ونقاب الحسن وهاج على
رأسها كالشمس في جوف الفلا
ثم خفا أوثقت يسطع في
كل رجل بسناها اشتعلا
وانبرت تبرز من طي الحجاب
25 •••
ثم عفردوذيت نادتها إلى
عزلة عن كل أرباب العلى
26
ولها قالت: «أتصغين إذن
أم تسوميني ابنتاه الفشلا
حنقا مني لإيثار الأخاء
مذ بني الطرواد أوليت الولاء»
فأجابت: «كل أمر رمته
كان مقضيا بطيب ورضاء
إن يطق أو كان مما يستجاب» •••
قالت الربة والحيلة قد
أكمنت: «إيه إذن منك المدد
لهب الشهوة والحب الذي
بقلوب الجن والإنس اتقد
27
لأقاصي الأرض أزمعت ارتحال
لأوافي أبوي رهط الكمال
أوقيانوس وتيثيس اللذي
ن أشباني على كف الدلال
فعسى أرأب مصدوع الشعاب •••
طال عهد الكيد في بعدهما
واطراح الود في حقدهما
لهما مذ قبل ألقتني ريا
عنيا بي منتهى جهدهما
عندما أقرونسا زفس العظيم
غل تحت الأرض والبحر العقيم
28
فإذا باللين وسدتهما
وسد الحب فلي الفضل العميم
وذرى الحظوى ومرعي الجناب» •••
فأجابتها ببشر وابتسام: «أو مثلي لا يلبي ذا المرام
كيف لا يا ربة زفس لها
بسط الذراعين مفتونا وهام»
ثم حلت من على الصدر النطاق
معلم الطرز موشى بانتساق
تعلق اللذات في أكنافه
من هوى نفس ووجد واشتياق
وأطاريف الحديث المستطاب •••
وبه من كل خلاب الشعور
منطق يعبث بالشيخ الوقور
بيد الربة ألقته وقا
لت ببشر شف عن بادي السرور: «دونك الآن انتطاق المعلما
كل حرز رمت فيه رسما
29
فعلى صدرك أخفيه فقد
لاح لي في الغيب أن قد حتما
لك بالإقبال من قبل الإياب» •••
بسمت هيرا له مستبشره
ثم ضمته وأما الزهره
فانثنت تأوي إلى منزلها
ثم هيرا انبعثت منحدره
من ذرى الأولمب كالبرق تطير
لإفيريا على الروض النضير
فإماثيا فأطواد بإث
راقة فرسانها البهم تغير
واكتست ثلجا يغشيه الضباب •••
كل ذاك البون طافته ولم
تطأ الأرض بوضاح القدم
وجرت من شم آثوس إلى
حيث يم البحر بالموج التطم
بلغت من بعد تطواف البلاد
لمنسا حيث ثواس الفضل ساد
فبها قرت بملء البشر إذ
لقيت فيها أخا الموت الرقاد.
30
فتلقته بألفاظ عذاب: ••• «يا ولي الجن والإنس ومن
قد حباني الفضل في ماضي الزمن
زدني الآن عليه منة
تولني للدهر مذخور المنن
ألق لي في مقلتي زفس السبات
إن على زندي بوجد الحب بات
ولك العهد إذا لبيتني
صلة من دونها غر الصلات
من لباب التبر عرش لا يعاب •••
يفرغ الصنعة فيه والحكم
نجلي الأعرج هيفست الحكم
ويليه مدوس تبسطه
زمن الأدبة من تحت القدم»
قال: «مهلا» وحلى النوم لديه «أي رب شئت أستولي عليه
ومجاري أوقيانوس الذي
كل شيء كان منه وإليه
31
لي تعنو أبدا دون ارتياب •••
بيد أني زفس لا أولي الكرى
أبدا إلا إذا ما أمرا
حكمة علمتني من قبل مذ
طرفه الحواط طيفي خدرا
يوم إليون هرقل اكتسحا
ومضى يقلع عنها فرحا
زفس بي أغفلت حتى تنزلي
بابنه القوام خطبا فدحا
ثم هجت البحر فورا باضطراب •••
وهرقل بين تبريح وضيق
حل قوصا لا يرى فيها صديق
فعلى الأرباب بالغيظ التظى
زفس لما هب فيهم يستفيق
هدهم هدا ومن دون الجميع
في اطلابي هاجه السخط الفظيع
كاد يلقيني من الجو إلى
لجة البحر إلى القعر صريع
إنما الظلمة حالت باحتجاب •••
لذت فيها وهي حيث الليل قر
هابها كل إلاه وبشر
32
فتروى زفس في حدته
ورعى حرمتها ثم غفر
أو بعد الخبر ذا رمت المحال»
فأجابته بدل وجلال: «أكذا ظنك غيظا يلتظي
ألزفس جيش طرواد تخال
كابنه يدنيهم فضل انتساب
33 •••
إيه قم أعطك زوجا تستباح
بهجة إحدى الخريدات الصباح
34
تلك سعديك فسيثيا وكم
رمتها وجدا مساء وصباح»
قال يهتز حبورا: «أقسمي
لي بإستكس الرهيب الأعظم
وضعي كفيك كفا في الثرى
ثم كفا فوق بحر مظلم
يشهد الأيمان أرباب رهاب
35 •••
أن تعدي لي زوجا تستباح
بهجة إحدى الخريدات الملاح
فتنيليني فسيثيا التي
أتمناها مساء وصباح»
36
أشهدت تقسم بالحلف العظيم
حفل أقرونس أرباب الجحيم
جملة الطيطان والقوم الأولى
رهطهم في قعر طر طار يقيم
أنها لم تؤته قولا كذاب
37 •••
ثم طارا تحت أذيال الغمام
وسريعا أدركا حد الختام
من على لمنوس حتى لمبرو
س إلى إيذا الينابيع العظام
فلدى لقطوس حيث الوحش ذاع
غادرا البحر وسارا في البقاع
وفروع الغاب من وقعهما
قلقت ترتج في تلك البقاع
38
وبتلك الغاب رب النوم غاب •••
واختفى عن مقلتي زفس على
أرزة شماء تعلو في الفلا
حل في مشتك الأغصان طي
را رخيم الصوت يأوي الجبلا
قد دعاه الجن خلقيس العبر
وقمنديس يسميه البشر
رقيت هيرا أعالي غرغرو
س وزفس من معاليه نظر
فلها وجدا كيوم الوصل ذاب •••
يوم في الخفية عن أم وأب
علقا حبا وفازا بالأرب
قال: «لم جئت وغادرت الألم
ب وأين الجرد» قالت: «لا عجب
39
لأقاصي الأرض أزمعت ارتحال
لأوافي أبوي رهط الكمال
أوقيانوس وتيثيس اللذي
ن أشباني على كف الدلال
فعسى ألأم مصدوع الشعاب •••
طال عهد الكيد في بعدهما
واطراح الود في حقدهما
وعلى مركبتي أسعى على ال
بر والبحر إلى رفدهما
بيد أني الجرد أبقيت لدى
سفح إيذامنك أبغي المددا
خوف أن يأخذك الغيظ إذا
خفية أزمعت أبغي منتدى
أوقيانوس إيابا وذهاب» •••
فلها ركام غيم الجو قال: «سوف تمضين فما ضاق الجال
إنما الآن بنا هبي إذن
نتعاطى حلو لذات الوصال
قط ما أرقني حر اضطرام
مثلما حرقني اليوم الغرام
قط ما إن همت في إنسية
قبل أو جنية هذا الهيام
لا أحاشي كل ربات النقاب •••
لا أحاشي زوج إكسيون من
ولدت فيرثيسا رب الفطن
أوذنيا بنت أكريس التي
ولدت فرسيسا فرد الزمن
40
لا أحاشي بنت فينكس التي
ردمنثا ومنوسا ربت
أو بثبس ألقمينا الحسن من
حبلت لي بهرقل القوة
أو سميلا أم ذيون الشراب
41 •••
لا وذيميتير ما قط بها
همت أولا طونة ذات البها
42
لا ولا في حسنك الفتان ما
قط كاليوم فؤادي ولها»
فأجابت تكمن الحيلة: «هل
لوصال الحب في إيذا محل
أفما الدنيا ترانا علنا
أولا رب رآنا وقفل
وديار الخلد بالأنباء جاب •••
أي دار لك آتي أي دار
بعد أن يلحقني هذا الشنار
إنما تعلم هيفست ابنك ال
صانع الحاذق شياد المنار
غرفة محكمة الأبواب شاد
لك قامت فوق أركان العماد
فإلى سترتها هي بنا
إن يكن لا بد من هذا المراد
أكف في الخلوة فضاح المعاب» •••
قال: «لا تخشى هنا وشي رقيب
من بني الإنسان أو رب رهيب
لأظلن غماما شائقا
من نضار دونه الشمس تغيب»
ضمها والأرض جادت بالربيع
من خزام نشر رياه يذيع
وحواشي زعفران كسيت
حندقوقا بله الطل البديع
يتلالا تحت منثور الحباب •••
بهما النور عن الأرض ارتفع
وغمام التبر بالنور سطع
وحباب القطر من أكنافه
كحبوب الدر للأرض وقع
43
فأبو الأرباب في ظل النعيم
هكذا ظل على إيذا مقيم
خامد الحس بذرعي عرسه
بهجوع وغرام في نظيم
رطب أزهار علت بسطا رطاب
44 •••
ولميدان الوغى عذب الكرى
جد للأسطول ينمي الخبرا
ولفوسيذ دنا قال: «أيا
ملكا زعزع أركان الثرى
كلل الإغريق بالمجد الخطير
وابل ما شئت ولو حينا يسير
خلبت هيرا نهى زفس وفي
قربها يهجع بالطرف القرير
وعلى جفنيه طلى بانسكاب» •••
ثم جد السير يسعى في الورى
وانبرى فوسيذ في صدر السرى
45
صاح مشتدا على شدته: «أأخائيين ما آها أرى
ألهكطور نتيحن الظفر
يحرز الأسطول والمجد الأغر
تلكم منيته اغتر بها
مذ رأى آخيل بالحقد استعر
وعن الهيجاء أمسى باجتناب •••
قط ما منآه أولانا البوار
إي نعم لو كلنا كل أثار
فأصيخوا الآن طرا وانهضوا
يحمل الكبار أجوابا كبار
تسطع الخوذات في هاماتهم
وطوال السمر في راحاتهم
وأولو العزم الأولى جناتهم
صغرت فلينبذوا جناتهم
46
للأولي يثقلهم هول الصعاب •••
فاتبعوني واحملوا طرا فلا
صدنا هكطور مهما اشتعلا»
فأصاخوا جملة وانقض في
إثره للحرب رهط النبلا
وذيوميذ وأوذيس الفلاح
وأغاممنون في دامي الجراح
رتبوا الجند وما أقعدهم
دمهم بل وازنوا حمل السلاح
وبهم جابوا يعبون العياب •••
فبدا ذو الطول بالحمل الكثيف
وضعيف العزم بالثقل الخفيف
وبلوا شكتهم حتى إذا
وازنوها اندفعوا الدفع العنيف
صدرهم فوسيذ في راحته
عامل كالبرق في حدته
ليس من كفء يلاقيه به
بل تراع الخلق من رؤيته
إنما هكطور لم يبغ انسياب •••
كتب الطرواد مشتد النداء
مثلما فوسيذ نادى بالبلاء
فكلا القرمين قوام فذا
بين طرواد وهذا في الأخاء
47
زحف الجيشان والبحر اصطفق
قاصفا والجيش بالجيش التصق
48
ولدى عجهم عج العبا
ب إذا الموج على الجرف اندفق
بشمال لم يكن طي الحساب •••
لم تكن في جنب هذات الفرق
عندما الكل على الكل انطلق
تذكر النيران في زهزمة
حين بطن الغاب بالشم احترق
لا ولا صهصلق الريح اكتنف
باسق الملول من كل طرف
49
فالتقى الجمعان في صدرهم
واثبا هكطور بالرمح قذف
لأياس مذ إلى ملقاه آب •••
نشب الرمح بقلب المحملين
حيث بالصدر استطالا ضخمين
محمل للترس لاقى محملا
لحسام بحرابي اللجين
وقياه شر تلك الطعنة
والتوى هكطور بادي الخيبة
يتقي في قومه هول الردى
وأياس بأبي الهمة
إثره انقض كخطاف الشهاب •••
ولجلمود من الصخر عمد
من صفا بدد في تلك الجدد
50 (بعضه قد ظل ما بين الخطى
وأقيم البعض للفلك سند)
فرحاه فمضى وهو يثور
مثلما دوامة الوغد تدور
51
وعلى جنة هكطور لدى
عنقه في صدره أهوى يمور
فهوى منقلبا أي انقلاب •••
فكما ملولة الطود اقتلع
زفس والأنواء بالعنف دفع
وفشا من حولها الكبريت في
صادع الريحة والعج ارتفع
52
وقلوب الناس في جيرتها
خفقت رعبا لدى رؤيتها
هكذا هكطور في سقطته
أفلت الصعدة من شدتها
والتوى مستلقيا فوق التراب •••
ظلت الخوذة والترس لديه
وصدى شكته صل عليه
وبنو الإغريق في نعرتهم
هرعت أفواجهم تجري إليه
بغية أن يظفروا فيه وقد
أمطروا الأسهم تهمي كالبرد
إنما لم يدركوا بغيتهم
إذ سعى كالبرق يؤتيه المدد
نخبة الطرواد والغر الصحاب •••
أسبلوا من حوله صلد المجان
ووقوه هول هطال الطعان
بينهم فوليدماس وكذا
آنياس وغلوكوس الجنان
ثم سرفيدون قوام بني
ليقيا ثم أغينور السني
حملوه حيث ظلت جرده
في ذرا عن قرع تلك الجنن
وإلى إليون ساروا باكتئاب •••
فعلى مركبة فيه تسير
حملوه وهو مشتد الزفير
وأتوا شفاف زنث الملتوي
بمجار صبها زفس القدير
وضعوه ثم والماء الدفاق
باردا صبوا عليه فأفاق
وجثا يفتح عينيه ومن
دمه الأسود قيء واندفاق
جاريا من فيه ينصب انصباب •••
ثم فوق الترب مغشيا عليه
خر والظلمة غشت مقلتيه
صدمة ما ارتاح من صعقتها
زمنا إلا لتوهي ركبتيه
وبنو الإغريق مذ هكطور راح
هاج في ألبابهم وجد الكفاح
وابن ويلوس أياس كر في
عامل ثقف من شهب الرماح
كعبه يهتز في صدر الكعاب •••
شق ذاك الرمح من تحت الكتف
خصر قرم بستنيوس عرف
أمه الحوارء ناييس التي
لأنوف قبل كانت تزدلف
راودته حين وافى قدما
جرف ستنيويس يرعى الغنما
ونتاج الحب ذياك الفتى
رمح آياس حشاه اخترما
وحواليه اختضام واختضاب •••
فجرى فوليدماس وأطار
عاملا صلدا لأخذ الثار ثار
فعلى كاهل إفروثونر
غاص يلقيه مغشى بالغبار
صرخ الظافر والفخر انتحل: «لم يطش رمح ابن فنثوس البطل
شق من قلب العدى قلب فتى
موكئا يلقيه أيان ارتحل
لمثاوي صرح آذيس الرحاب»
53 •••
فالتظى الإغريق من هذا النعير
سيما الفتاك آياس الكبير
دونه خر الفتى فانقض في
طلب القاتل بالرمح الشهير
فالتوى فوليدماس ونجا
ولأرخيلوخ فورا عرجا
54
خرق البأديل من مفصله
وبقلب العظم فيه أولجا
قاضبا أعصابه شر اقتضاب •••
خر والهامة قبل القدم
لخضيب الترب أهوت ترتمي
وأياس صاح في نعرته: «يا ابن فنثوس المليك الأعظم
قل ألم أفتك بعلج أكبر
كان كفوء ابن أريليق الجري
55
إي نعم ما لاح لي إلا فتى
عالي الهمة سامي المعشر
ولأنطينور يدنيه اقتراب •••
فهو لا شك ابنه القرم البطل
أو أخوه الشهم ثقاف الأسل»
قال ما قال أياس عالما
قبل ذاك القول من كان قتل
فحشى الطرواد بالبث التهب
وأخو الميت كاماس وثب
ورمى يردي فروماخ الذي
جثة المقتول قد كان سحب
ثم نادى بأساليب السباب: ••• «يا بني الإغريق حذاف النبال
وأولي الدعوى غرورا واختيال
56
لم تكن كل المنايا سهمنا
فلكم منها نصيب ومنال
أفما خلتم فروماخ السري
بعد أرخيلوخ بالحتف حري
أفما كل امرئ منكم صبا
لأخ من بعده مثئر
أبدا مرتقب قطع الرقاب»
57 •••
حرق الإغريق ذياك الفخار
سيما الملك فنيلاس فثار
وأكاماس رمى لكن أكا
ماس ولى يبتغي سبل الفرار
فبإليونيس الرمح صدر
فرع فرباس الوحيد المدخر
مجتبى هرمس في طروادة
من حباه بغنيم وبقر
وعليه هال موفور الرغاب •••
خرق الحاجب والعين قذف
وبلب العظم في الراس وقف
خر للترب يديه باسطا
وفنيلاس انتضى السيف وخف
قطع الهامة في خوذتها
فهوت والرمح في مقلتها
وحكت في كفه خشخاشة
قطعت تجتث من منبتها
قال يعليها على ذاك النصاب: ••• «أصدقوا طرواد هول الخبر
والديه يذرفا الدمع الذري
مثلما عرس فروماخ إذا
آبت الإغريق بعد الظفر
لا تراه سار حين الجيش سار
وبه تحظى بهاتيك الديار»
نظر الطرواد من حولهم
يبتغي كل سبيلا لقرار
ثم ولوا بارتعاد وارتعاب •••
يا بنات الرب زفس من على
قمة الأولمب يشهدن الملا
لي فقلن الآن من خلتنه
بينهم شق الصفوف الأولا
مذ إلى الإغريق إبان النزال
كفة الرجحان فوسيذ أمال
ذاك آياس على هرتيس
فرع غرتياس بالبدء استطال
والمسيون عليه بانتحاب •••
ثم أنطيلوخ فلقيس قتل
وعلى مرميرس الهول حمل
ثم مريون مريسا وكذا
هيفتيون بحد السيف فل
ثم طفقير فريفيت ضرب
وفروثوون واحتاز السلب
ومنيلا رام هيفيرينرا
ومن الشاكلة الجوف اقتضب
فمن الجرح هوت روح المصاب •••
إنما أعدى فتى بين السرى
لم يكن إلا أياس الأصغرا
كر في إثر العدى مستقبلا
جيشهم فاجتاحه مستدبرا
حيثما خفت خطاه أدركا
طالب النجوى وفيه فتكا
خرت الدراع في كراته
تترامى من خميس هلكا
سامه زفس انخذالا وانقلاب
هوامش
النشيد الخامس عشر
الواقعة الخامسة وبسالة أياس
مجمله
تجاوزت الطرواد حد الخنادق
يصلمهم فيها حسام الأغارق
فاستيقظ زفس وعلم أن حيلة هيرا قد جازت عليه، فانهال عليها بالتقريع والتونيب، فادعت أن فوسيذ نكل بالطرواد منبعثا بمجرد هوى نفسه، فأمرها باستدعاء إيريس وأفلون وإنفاذهما لاستنهاض الطرواد، فرجعت إلى السماء وأطالت على مسمع الآلهة شكواها من زفس، وأنبأت آريس بما كان من موت ابنه عسقلاف، فهاج آريس وماج فثبتطته آثينا، وطار أفلون وإيريس إلى إيذا عملا بأمر زفس، فبعث بإيريس إلى حومة الوغى تتوعد فوسيذ، فاضطر إلى مغادرة ساحة القتال وعاد أفلون بهكطور مستعرا بالغيظ والبسالة بعد أن بسط أفلون مجنه أمام الإغريق وهد قلوبهم بمنظره، فانقضت الطروادة على الإغريق وذبحوهم ذبحا، فالتوى الإغريق إلى معسكرهم وتقدم هكطور بجيشه يصحبهم أفلون، فاجتازوا الخندق ووقع الرعب في قلوب الإغريق فتضرع نسطور إلى زفس فأرعد وأبرق، فتفاءل الطرواد بذلك، وما زال هكطور متقدما بفيلقه حتى بلغ السفن. وكان فطرقل يشهد كل هذا من مضرب أوريفيل فجد مسرعا إلى أخيل يستنهضه ليفزغ لقومه، وقام الإغريق فقاتلوا قتال الأسود على أنهم ما لبثوا أن اضطروا إلى الهزيمة فانثنى آياس بنزر من صحبه وثبت أمام الطرواد، واشتد القتال ثانية فخرت الأبطال من الفريقين، وحال آياس دون بلوغ الطرواد سفن قومه، وهم هكطور بإحراق السفن وكان يبلغ منها مأربه لو لم يقف آياس فيصد الأبطال ويجندل الرجال.
لا تزال وقائع هذا النشيد في اليوم الثامن والعشرين.
النشيد الخامس عشر
تجاوزت الطرواد حد الخنادق
يصلمهم فيها حسام الأغارق
وحول العجال استوقفوا وتألفوا
برعدة مذعور وصفرة خافق
ومن طور إيذا هب زفس ودونه
صفيته هيرا فهاج ظنونه
1
وألفت والإغريق أبصر عقبوا
عداهم وفوسيذ ببطن الفيالق
وأبصر هكطورا به القوم أحدقا
ومن فيه سيال النجيع تدفقا
على الترب ملقى خامد الحس خافقا
وما صرعته كف أضرع خافق
2
فهزت أبا الأرباب والناس رأفة
ولاحت لهيرا منه بالغيظ نظرة
وقال: «نعم هكطور مكرا أبنته
عن الحرب فارتاعوا لقرع المخافق
تحدثني نفسي أهيل عقوبتي
فتجنين قبل القوم عقبى الخديعة
أفاتك أن علقت قبل مهانة
بلب رقيع الجو بين البوارق
وغلت بصلد القيد من عسجد القدم
يداك وسندانان في أخمص القدم
وآل العلى حوليك ذلوا وأشفقوا
وهل كان من يوليك نصرة شافق
ولو فعلوا ألقيت أيهم اجترا
من السدة العليا صريعا إلى الثرى
وما كان هذا خافضا غضبي لما
أنلت هرقلا في السنين السوابق
به رمت سوءا ثم أهببت شمألا
تقاذفه الأنواء فيها منكلا
وأحللته قوصا ومنها أعدته
لأرغوس ممنوا بأدهى البوائق
3
ألا ادكري تلك الشئون وجانبي
مخاتلتي فيما ابتغيت بجانبي
برحت مقام الخلد تشجينني جوى
فليس بمغن عنك مكر المنافق»
أجابته هيرا تقشعر تظلما: «يمينا علي الأرض تشهد والسما
وتحتهما إستكس يشهد يمه
يمين لنا لم يأتها غير صادق
ورأسك والعقد الذي بيننا ولم
يكن قسمي إلا إذا أثقل القسم
4
لئن سام فوسيذ الطراود ذلة
فما كان مبعوثي ولا كان لاحقي
وما ساقه إلا فؤاد تفطرا
لجيش لدى أسطوله قد تذعرا
5
فمرني فأمضي بالبلاغ فينثني
لحيث قضى زفس مثير الصواعق»
فهش لها زفس وقال بمنتدى
بني الخلد لو رأيي ارتأيت مؤبدا
ففوسيذ مهم كان من نزعاته
لأذعن وانقاد انقياد الموافق
فإن كنت أخلصت المقال فبادري
لمؤتمر الأرباب ألقي أوامري
فتحضر إيريس الرشيقة عاجلا
وفيبوس هيال النبال الذوالق
فأنفذ إيريسا لفوسيذ مبلغا
إلى يمه يأوي ويطرح الوغى
وفيبوس هكطورا يسكن روعه
ويوليه حزما لاختراق الحزائق
6
فيكتسح الإغريق يكساهم إلى
أساطيل آخيل فيشفق للبلا
ويرسل فطرقلا فيفتك فيهم
ويدمي وصمي في لباب الغرانق
7
ويجتاح سرفيدون قري ويقحم
ويبطش للأسوار يصمي ويهزم
8
فيطعنه هكطور طعنة قاتل
فينهض آخيل بهبة حانق
ويقتل هكطورا ومن ثم تلبث
أخاءة في الطرواد تعثو وتعبث
إلى حين آثينا تتيح بحذقها
لهم فتح إليون بحكمة حاذق
على أنني ما دام آخيل لم ينل
مناه فلن أولي الأغارقة الأمل
ولست براض أن يقوم برفدهم
من الخلد قوام بتلك المضايق
بذلك قد عاهدت ثيتيس عندما
ترامت ومست ركبتي تظلما
لإعزاز آخيل دعتني ترفقا
فأومأت بالإيجاب إيماء رافق»
9
فلبته هيرا واستطارت بلحظة
إلى قمة الأولمب من طور إيذة
كفكر يجوب الشرق والغرب طارقا
بلادا وفيه ذكر تلك المطارق
10
وأمت سراة الخلد في منتداهم
بمربع زفس في سمو علاهم
فمذ أبصروها جملة نهضوا لها
وقارا وحيوا بالكئوس الدوافق
أبت رشف هاتيك الكئوس وإنما
لكأس ثميس الحسن مالت تكرما
11
فتلك إليها سارعت مستقصة: «أرى جئتنا في غصة المتضايق
فلا غير زفس راعك اليوم غاضبا»
فقالت: «دعي عنك التحري جانبا
عرفت عتوا شأنه وصلابة
فعودي إلى بسط الطعام الشوائق
وفي أدبة الأرباب مجدا تصدري
أبثكم من خبره شر مخبر
أمور قضاها أزعجت كل آدب
من الإنس والجن الكرام المعارق
ومن ثم حلت عرشها ولفيفهم
تألم من زفس وزفس مخيفهم
فهشت ولكن عن جبين مقطب
على سود أجفان بحمر الحمالق
وقالت وجمر الغيظ ميزها: «فوا
حماقتنا في كبح زفس وما نوى
وأحمق منه زعمنا خفض جأشه
بمأزق بأس أو بقول مماذق
ولكنه في عز عزلته ولا
يبالي ادعاء أنه فوقنا علا
وأن له بالبطش فيكم سوابقا
فذوقوا نكالا عاديات اللواحق
فهذا أريس قيم الحرب نابه
مصاب وما أدراكم ما أصابه
أعز البرايا عسقلاف سليله
صريع وما أغناه ظهر اليلامق»
12
فهب أريس ثائر الجأش لاطما
بكفيه فخذيه يولول ناقما: «أيا معشر الأولمب لا تلحونني
إذا ما لثأر ابني أثرت مرافقي
سأنزل لو صم الصواعق تنزل
وفوق خضيب الترب صعقا أجندل»
وأوعز للهول العظيم ورعدة
بإعداد هاتيك الخيول العتائق
13
وشك ببراق السلاح ولو مضى
لأرعد زفس في الألمب وأومضا
ولكن أثينا من على عرشها انبرت
إليه تلافي هول تلك الطوارق
وهبت إلى تلك التريكة تقتلع
عن الرأس والجوب المحدب تنتزع
وعامله الجباذ من صلد كفه
أماطت تريه شر تلك المزالق :
14 «تعست وما أغواك هل فاتك الندا
وأصممت واخترت الهلاك المؤبدا
أغادرك الحس المنبه والحيا
وأصدق نطق قاله خير ناطق
ألم تفقه الأنباء هيرا بها أتت
ومنذ يسير زفس بالنفس غادرت
أشاقك أن تمضي وقد هدك البلا
وترجع موقوذ الخطوب النواعق
وتدفع زفسا للألمب ممعضا
وعن جملة القومين أغضى وأعرضا
فيحطمنا حطما وما هو بيننا
إذا ما اقترفنا أو برئنا بفارق
فجأشك خفض واكظمن فكم بطل
من ابنك خير جندلته ظبا الأسل
وهل من سبيل دافع غصص الردى
عن الخلق ما امتدت حياة الخلائق»
15
فأجلس مرغوما وهيرا بحقة
من المجلس انسابت لموقف عزلة
ونادت أفلونا وإيريس خارجا
وقالت: «ألاسيرا بحقة بارق
وزفسا بأعلى إيذة الآن وافيا
يلقنكما الأمر الذي كان خافيا»
وعادت وحلت عرشها فتسابقا
لإيذة في جهد الكدود المسابق
16
فما لبثا أن أدركاه بأنور
ذرى غرغروس في غمام معنبر
وما غيظ أن جاءاه إذ لبيا ندا
صفيته هيرا بإذعان واثق
فقال: «أإريس الرشيقة فاسبقي
لفوسيذ بالأنباء مني واصدقي
وقولي له عن موقف الحرب ينثني
لشورى العلى أو يمه المتلاصق
فإن لم يرد إلا اتباع مراده
ليفكر بما يوليه شر عناده
فليس بكفئي ما استطال فإن لي
مزية بكر بالمكانة سابق
17
ولكنه ما زال يطلب إسوتي
وإن قلق الأرباب طرا لخشيتي»
فلبت وطارت في قضاء بلاغه
مصفقة مثل الرياح الصوافق
ومن طور إيذا كالعواصف هبت
وما لبثت أن ثغر إليون حلت
كما انهال غيث الثلج والبرد الذي
به الريح هبت من غيوم غوادق
وفوسيذ نادت: «يا محيط العوالم
أتيتك من زفس بأنباء صارم
فيأمر أن تأبى المعامع لاحقا
بشورى العلى أو لجك المتلاحق
فإن لم ترد إلا اتباع مرادكا
سيأتيك مقتصا لشر عنادكا
فإياك والعصيان إن له سمت
مزية بكر بالمكانة سابق
وأنت على هذا المساواة تزعم
وإن أكبر الارباب طرا وأعظموا»
فأن أنين السأم ثم أجابها: «لئن ساد خلقا فهو فظ الخلائق
أيزعم إرغامي وقد ضمنا النسب
ثلاثة إخوان لنا إقرنوس أب
18
ريا أمنا طرا وثالثنا غدا
اذيس ولي الموت بين الودائق
19
ثلاثة أقسام جميع العوالم
قسمنا اقتراعا بالقداح الرواغم
فنال أذيس ظلمة الموت قسمة
وفزت ببحر مزبد اليم دافق
وزفس له الأفلاك والغيم والسما
ليهنأ قرير العين فيها معظما
فإن ذرى الأولمب والأرض بيننا
مشاع فلا ألوي له حبل عاتقي
فمهما سما بأسا ومجدا وسؤددا
فلست بمرتاع ولا أبسط اليدا
ليطبق على أبنائه وبناته
يدينوا ويرتاحوا ارتياح المطابق»
أجابت: «وهل هذا المقال اقوله
له علنا أو هل لديك بديله
تحامقت لكن ذو الحصافة يرعوي
وينبذ عنه خلة المتحامق
وللسن فضل فالموارد سرمدا
حوارس بكر أحرز السبق مولدا»
20
فقال: «نعم بالحق فهت وخير ما
يكون رسول عالم بالحقائق
سأذعن كرها لاعج الغيظ مكمنا
لكبر إلاه لم يكن فوق ما أنا
ولكن لي قولا بقلبي أقوله
فعيه إلى يوم انبتات العلائق:
على رغم فالاس وهيرا وهرمس
ورغمي وهيفست الملي المرأس
إذا صان إليونا وصد عداتها
سنفتق فتقا ليس زفس براتق»
وأقلع يبغي لجة البحر فاستعر
لمنآه أبناء الأخاء على الأثر
وزفس لآفلون قال: «ألا إذن
لهكطور طر في مثل لحظة رامق
ففوسيذ في بطن العباب قد التجا
ومن نار غيظي في حزازته نجا
وإلا لأهمت فاتكات أكفنا
بنا عرفا يهمي به كل عارق
21
وكان اصطدام بالعوالم يحدق
ويزعج أرباب الجحيم ويقلق
فيا نعم مسعاه له ولعزتي
فإنا كفينا فلق تلك الفلائق
22
وهج جوبي المزدان في حلق الذهب
فلا يبق في الإغريق الأمن ارتعب
ومل نحو هكطور فشدده يندفع
وراءهم للفلك خلف الخنادق
فإن تم هذا كله سوف أنظر
بأمرهم فيما عساي أقدر»
فلبى أفلون وطار كباشق
على الورق منقض بشم الشواهق
فهكطور ألفى جالسا وقد انتعش
يحاط به والرشح جف وما ارتعش
رعاية زفس أسكنت زفراته
فقال أفلون بلهجة وامق: «علام ابن فريام بجهد التقاعد
أمثلك من يوهيه جهد المجاهد
أبرح فيك الغم قل» فأجابه
بصوت خفيف الجأش خافي المناطق: «أيا خير رب جاءني الآن يسأل
فمن أنت قل هل كنت أمري تجهل
أياس وقد أقبلت أذبح قومه
بجلمودة كالطود أقبل راشقي
فغيب إحساسي فضاق تنفسي
وأيقنت أني زائر دار آذس»
23
فقال أفلون : «اطمإن وطب وثق
فزفس إليك الآن بالبشر سائقي
أنا فيبس رب الحسام المذهب
فهل بعد ذا ترتاع من هول مضرب
24
فكم صنت إليونا وصنتك فامتثل
وهب لإعمال الطعان الموارق
أثر جملة الفرسان بالخيل يقبلوا
على موقف الأسطول والسيف يعملوا
أمامكم أجري أمهد سبلها
وأهزم أبطال الأخاء البطارق»
أفلون هاتيك العزائم مانح
وهكطور للإبلاء والحرب جانح
كمهر عتي فاض مطعمه على
مرابطه يبتتها وهو جامح
ويضرب في قلب المفاوز طافحا
إلى حيث وجه الأرض بالسيل طافح
يروض فيه إثر ما اعتاد نفسه
ويطرب أن تبدوا لديه الضحاضح
25
ويشمخ مختالا بشائق حسنه
يطير وأعراف النواصي سوابح
وتجري به من نفسها خطواته
إلى حيث غصت بالحجور المسارح
26
كذا كان هكطور بنصرة فيبس
يسوق سرى فرسانه ويكافح
كأن كلاب الصيد والصيد أقبلت
على سخلة أو إيل وهو سارح
27
وقاه ببطن الغاب جلمود صخرة
وما خط في الأقدار يصميه ذابح
28
فأقبل في إثر الصديد غضنفر
فولوا ولم تغن النفوس الطوامح
كذا كانت الإغريق خلف عداتها
بسمر وبيض باترات تكاشح
فلما بدا هكطور في حومة الوغى
بهم قلقت رعبا تجيش الجوانح
فهب ثواس الفضل من زانه النهى
ونطق فصيح بالحصافة راجح
ثواس الذي ما بالإتولة عده
إذا هو بالبتار أو هو رامح
وما فاقه بين السراة بلاغة
سوى النزر إن فاضت تسيل القرائح
فصاح: «أجل رباه لاح لناظري
عجاب فذا هكطور ذو البأس لائح
حسبنا أياس اجتاحه بصفاته
فها هو وافى تنقيه الجوائح
29
فثم إلاه صانه لتروعنا
به مثلما قبلا عرتنا المذابح
فهاكم سداد القول فأتمروا له:
لتمض إلى الفلك الجموع الجوامح
ونحن أولي العزم الصحيح نصده
عسى في عوالينا له اليوم كابح
فمهما عتا واشتد ظني يرعوي
وتثنيه عن خرق الجيوش الجوارح»
أصاخوا ولبوا واسجاش أولو العزم
يعبون أبطال المقاتلة البهم
وحول أياس استبسلوا وإذومن
وطفقير مريون وميجيس ذي الحزم
بصد العدى آلوا وأعراض قومهم
مضت تتوارى فوق لفلكهم السحم
30
وأبناء طرواد تكثف جيشهم
رصيصا وهكطور يحث خطى العظم
ومن دونه فيبوس وسط غمامة
يعد مغازي ذلك الفيلق الدهم
وفي يده الجوب المروع الذي بدت
حرابيه من تحت هدابه الضخم
31
هي الجنة الكبرى لزفس أعدها
هفست لإرعاب الخليقة والنقم
تكاثفت الإغريق يلتف جيشهم
وفي ملتقى الجيشين عج إلى النجم
طعان مضت عن كل ساعد أيهم
ووبل سهام عن بطون الكلى يهمي
32
فمن نافذ في صدر كل مدجج
من المرد فهاق سريته تصمي
ومن ناشب في الترب قبل بلوغهم
وإن طار غرثانا على العظم واللحم
33
تساوت مرامي الطعن والفتك ما استوت
بغير حراك جنة النوب الدهم
34
ولما على الإغريق فيبوس هاجها
وصاح بهم صوتا يهد قوى الجسم
تخلعت الأحشاء في مهجاتهم
وولوا يزيد الرعب وهما على وهم
كأنهم الأبقار والضأن أجفلت
يفاجئها ليثان في الدجن القتم
فتذهب أشتاتا وفي كل مهمة
تضل ولا راع يدافع أو يحمي
وفيبوس في أعقابهم دافع العدى
وفي كل قرم قد أحل قنا قرم
فهكطور إستيخيسا كر قاتلا
زعيم البيوتيين مدرعي اللأم
وثنى بأركيسيل عد منستس
وإيناس وافاهم مدون الفتى يرمي (مدون بن ويلوس لغير حليلة
بفيلاقة قد كان في غربة السأم
بها ظل في منفاه مذ راح قاتلا
أخا إريفيس زوج ويلوس ذي الحكم)
وثنى بياسوس بن إسفيل بوفل
زعيم الأثينيين والبطل الشهم
وفوليدماس اجتاح ميكست صادرا
بصدر السرى يرمي وقلب العدى يدمي
وفوليت إخيوسا وكر أغينر
فجندل إقلونيس الشيم الشم
وذيوخس ولى ففاريس زجه
بمزراقه في الكتف ينفذ في العظم
وأقبت الطرواد للسلب مغنما
وهزمن الإغريق في ذلك الهزم
35
فولوا فلولا للحفير فسدهم
إلى السور والأعداء لاهون بالغنم
فصاح بهم هكطور صيحة حانق: «إلى الفلك فالأسلاب من رامها خصمي
ومن غادر الأسطول أوليته الردى
وأهليه والإخوان غادرت باليتم
فلا يضرمون النار من تحت جسمه
وللكلب يبقى مطعما شائق الطعم»
36
وساط جياد الخيل فاندفعت به
ليستنهض الهمات في العسكر الجم
وفي إثره كرت عجالهم على
هديد نما للجو عزمهم ينمي
أمامهم فيبوس في خفة الطرف
يهدم حافات الحفير بلا عنف
برجليه هاتيك التلال تساقطت
إلى جوفه حتى استوى الجوف بالجرف
سبيل لهم إن يقذف السهم نابل
فما اجتازه ذيالك السهم بالقدف
37
عليه مضى يجري صفوفا خميسهم
وبالجوب فيبوس أمامهم يكفي
فقوض ذاك السور لا متكلفا
كطفل بجرف البحر يلهو بلا إلف
بنى لاعبا بالرمل تلا وسامه
برجليه أو كفيه خسفا على خسف
38
كذا يا أفلون نقضت معاقلا
بتشييدها كان العنا فائق الوصف
وسقت بني أرغوس للفلك حيثما
دنوا فاستجاشوا ثم صفا غلى صف
وصاحوا يمدون الأكف تضرعا
إلى زمر الأرباب للرفق واللطف
ونسطور قوام الأخاءة رافعا
ذراعيه للزرقاء صاح على لهف: «لئن كانت الإغريق قبل توسلت
إليك أيا زفس بعود لدى الزحف
وسوق سمان الضأن والثور أحرقت
وأومأت بالإيجاب إيماءك العرفي
فلا تنس يا مولى الألمب وصنهم
من الحتف واصرف عنهم فادح الصرف»
فأسمع زفس صوت نسطور ضارعا
وأسمع رعدا في الفضا داوي القصف
وأما بنو الطرواد فاشتد عزمهم
وكروا بجيش ثائر الجأش ملتف
وجازوا على الخيل الحصار بنعرة
لفلك العدى فاصطكت الكف بالكف
كأنهم الأمواج والنوء ساقها
فتعلو صفاح الفلك تعبث بالسجف
فمن حاذف فوق العجال بعامل
تذلق حداه وأنفذ بالحذف
ومن قاذف بالفلك في أسل ثوت
هناك لحرب البحر تنذر بالحتف
ظل فطرقل أورفيل يجاري
بينما النقع ثائر بالحصار
39
برقيق الحديث يلهيه حينا
ويداوي كلومه ويداري
إنما عندما رأى الطروادا
عبروا السور بالعجال طرادا
وجيوش الإغريق ولت شتاتا
بصياح وذلة وانكسار
صاح بالويل لاطما فخذيه
بدموع تنهال من عينيه: «أورفيل لا بد لي أنثني عن
ك وإن كنت لي بفرط اضطرار
بك فليعن من صحابك غيري
وأنا ذاهب بخفة سيري
جل وقع البلا فعل أخيلا
إن أهجه يهج لدفع الشنار
رب رب أنالني منه سمعا
فكلام الصديق يحسن وقعا»
ثم جد المسير يبغيه والإغ
ريق ظلت بفلكها بانحصار
فخميس العدى وإن قل عدا
ما استطاعوا إليه دفعا وصدا
وهو لم يلق للسفين وللخي
م سبيلا بكشفة وانتصار
بل تساوت بهم مرامي الكفاح
كاستواء الخطوط في الألواح
سطرتها كف أنارت أثينا
بذكاء لوشر فلك البحار
40
هكذا حول ذلك الأسطول
قد تساوى اشتداد تلك القيول
وترامى هكطور قرب غراب
وأياس رمى الأسود الضواري
41
لا أياس يطيق دفع كمي
كر يسطو بعون رب قوي
لا وهكطور لم يكن للخلايا
من سبيل يلقى لدس النار
وقليطور هم في مقباس
فتلقى في الصدر رمح أياس
خر تحت الصليل والنار فرت
من يديه والنقع في الترب جاري
فتلظى هكطور لما رآه
ودعا كالرعيد يذوي نداه:
42 «آل طرواد يا بني ليقيا يا
دردنيين دافعي الأخطار
إيه ضاق المجال كروا جميعا
فابن إقليطيوس خر صريعا
بادروا لا تجردنه الأعادي
واحملوه فاليوم يوم البدار»
ورمى طاعنا أياس فخابا
إنما الرمح لقرفون أصابا
لأياس قد كان خير رفيق
ونزيل له برحب الدار
من قثيرا مهاجرا جاء قبلا
مذ لقيل بها تعمد قتلا
لم يزل في ولاء آياس حتى
صرعته نوافذ الأقدار
خر مستلقيا أمام الغراب
يتلوى تمرغا في التراب
وظباة القناة هامته ش
جت وآياس صاح في طفقار: «أي قرم أخي أجل أي قرم
جاء هكطور بيننا الآن يصمي
ابن نسطور من أقام لدينا
مثل آل القربى عزيز المنار
43
أين قوس فيبوس قبل حباكا
أين تلك النبال تنمي الهلاكا»
هم طفقير بالحنية والجع
بة يهمي السهام كالأمطار
ورمى ينفذ القضا المقدورا
بقليطوس بن فيسينورا
كان بين الجيوش ساق مغيرا
جرد فوليدماس المغوار
حثها حيث ثار يعلو العجاج
وجيوش الطرواد هاجوا وماجوا
طامعا منهم ومن لدن هكطو
ر بكسب الثنا ونيل الفخار
خرق السهم جيده يرديه
ورمته المنون رغم ذويه
خر للأرض والجياد أغارت
جامحات بين العجال الجواري
جد يجري فوليدماس سريعا
ولأستينووس ألقى الصروعا
قال: «لا تنأيا ابن إفروطيا ع
ني فإني ماض أثير أواري»
ثم ألقى طفقير في القوس نبلا
يبتغي في نفس هكطور قتلا
لو رماه وأنفذ السهم فيه
لانتهت حربهم بذاك النهار
إنما زفس وهو بالغيب أدرى
لم يشأ أن ينال طفقير نصرا
كان طي الخفاء هكطور يرعى
فوقاه شر المنون الطواري
هم طفقير راميا فتبتت
وتر القوس وهي للأرض فرت
ومضى السهم طائشا فتلظى
مستشيطا وصاح بالإدبار: «ثم رب أياس يأبى القلاحا
تلك قوس أوترتها ذا الصباحا
كم بها رمت خرق صدر عدو
وأراها مفتلة الأوتار»
قال: «دعها فإن ربا حسودا
نبلها افتل راغبا أن تبيدا
خلها واحتمل مجنا ورمحا
ثم كرن بالقنا الخطار
ناد في القوم يثبتوا في الجهاد
ويذودوا لكبح جيش الأعادي
لا ينيلوهم السفائن إلا
بعد قرع القنا وفتك الشفار»
كر طفقير للخيام فألقى
قوسه والسلاح فورا تنقى
خوذة أرسلت لها عذبات
سابحات يفرعها الطيار
ومجنا ألقى على عاتقيه
وجلود الأبقار دارت عليه
وقناة شحيذة الحد وانق
ض يجاري أياس في المضمار
فرآه هكطور ألقى النبالا
فعلا صوته الجهور وقالا: «آل طرواد يا بني ليقيا يا
دردنيين سادة الأمصار
حول هاتي السفائن الحدباء
لا تكلوا فاليوم يوم البلاء
هاكم النابل النبيل وزفس
كاده أحدقت به أبصاري
لم يكن في الأنام أمرا عسيرا
أن يقولوا من زفس وإلى نصيرا
44
ففريق لذروة المجد يرقى
وفريق يشقى بذل البوار
صاننا اليوم والعدى سام قهرا
كثفوا للعمارة الجيش كرا
وليموتن بالجهاد سعيدا
بطل الذود عن عزيز الذمار
45
فإذا أقلع الأراغس ذلا
في سفين بها يؤمون أهلا
ظل في الأمن زوجه وبنوه
وبنوهم في سالمات الديار»
فاستجاشت بهم جميع النفوس
وأياس نادى بوجه عبوس: «أي عار قد أصبح اليوم فينا
محدقا يا أراغسا أي عار
لا مناص لنا فإما المنايا
لا وإما بالذود صون الخلايا
46
أفإن نالهن هكطور خلتم
عودة للديار فوق القفار
أفما جاءكم دوي نداه
وبحرق السفين يغري سراه
ليس للرقص قام يدعوهم بل
لاشتباك القناة بالبتار
ما لنا غير أن نكر سريعا
نرد الحتف أو نعيش جميعا
ذاك خير من جهد حرب سجال
أجهدتنا بدار إيه بدار
فالعدى دوننا بقرع البئوس»
فاستجاشوا لدفع تلك البئوس
47
وتلاقوا وصوت هكطور يدوي
وأياس كالضيغم الزءار
فرمى ذاك إسخذيوس مولى
فوقيا والحمام في الحال أولى
ورمى ذا لورذماس بن أنطي
نور رأس المشاة زاهي الشعار
والسري الفتى أطوس القليني
فولداماس ساقه للمنون
قيل إيفية وإلف محبيس
فمحيس انثنى لأخذ الثار
ورماه لكنما الطروادي
صد والرمح غل بين الأعادي
قد وقاه فيبوس لكن مضى الرم
ح إلى صدر فارس جبار
ذاك إقرسمس فخر قتيلا
ومجيس احتاز السلاح الصقيلا
فدهاه ذو البأس ذو لفس لمفس
من بني لومذون القهار
زجه طاعنا بجوب كبير
صد عن درعه بصلد القتير
لأمة تلك قبل صانت أباه
فيليوسا في سالف الأعصار
تحفة من أفيت كانت سنيه
نالها فيليوس منه هديه
حين وافى إفيرة حيث يجري
سيلييس المغبوط في الأنهار
ومجيس انثنى وزج فمزق
قونس المغفر الذي يتألق
دفع الرمح للثرى عذبات
قد كساها البرفير ثوب احمرار
وذلفس ما زال بالفوز يطمع
ومنيلا لرفد ميجيس يهرع
ما رآه ذلفس حين أتاه
وهو عاد عن عينه متواري
أنفذ الرمح فيه ظهرا لصدر
فعلى الأرض خر والنقع يجري
والمليكان ثم ينتزعان ال
عدد الشائقات للأنظار
صاح هكطور في بني لومذونا
سيما ميلنيف هيقيطوونا
فارس من فرقوط قبل الوغى قد
كان يرعى بها سوام الصوار
48
ثم لما الأسطول حل البلادا
فلإليون ثائر الجأش عادا
ولفريام كان ضيفا كريما
وده ود ولده الأظهار
قال يرميه بالملام العنيف: «أثوى الجبن في حشا ميلنيف
أفما مقتل ابن عمك يوري
في حشاك اللهيف ذاكي الشرار
أفما خلتهم تراموا عليه
لانتزاع السلاح من عاتقيه
فاتبعني لم يبق في الحرب بد
من وقوع الغرار فوق الغرار
49
نتبارى ليهلكوا خاسئينا
أو يدكوا بموتنا إليونا»
خف يجري وخلفه ميلنيف
كإلاه يجري على الآثار
صاح آياس في جيوش الأخاء: «صحب صبرا تدرعوا بالحياء
وليقم بعضكم بحرمة بعض
وتوالوا في فادح الأدعار
50
متقي العار ذو الحياء يقينا
ظل أدنى إلى النجاة أمينا
أنما لا فخار يبقى ولا أم
ن لنكس يوم الوغى فرار»
51
فبهم ثارت الخمية طرا
بفؤاد للذود يلهب جمرا
وأقاموا حول السفائن بالفو
لاذ حصنا مؤلق الأنوار
إنما زفس دافع الطرواد
ومنيلاس أنطلوخ ينادي: «أبغض الشباب والجري والبأ
س يجاريك بيننا من مجاري
أفما رمت في الطرواد قرما
بظباة القناة يرمى فيصمى»
هاجه وانثنى فبرز كرا
أنطلوخ كالضيغم الهصار
مشرئبا جرى وقد زج زجا
وخميس العداة قد عج عجا
فالتووا والقناة قد أنشبت في
ميلنيف المنتقض كالتيار
خرقت ثديه فخر قتيلا
وعليه السلاح صل صليلا
وابن نسطور هم ينتزع الش
كة لا ينثني لوقع الحرار
كالسلوقي ظبية رام غنما
وهي عند الكناس بالسهم ترمى
فرآه هكطور فانقض يجري
لا يبالي بالعسكر الجرار
فلمرآة أنطلوخ ارتاعا
ثم من ساحة القتال انصاعا
لم يقف لانقضاء كرته بل
فر من وجهه حثيث الفرار
مثل وحش سطا بقلب المراعي
يقتل الكلب أو يبيد الراعي
ثم ينصاع قبل أن تقبل النا
س عليه بفزعة وانتهار
فتقفوا آثاره بالصديد
وبوبل من النبال شديد
وهو لا ينثني وما زال حتى
قر في صحبة أمين القرار
زفس هذي أقداره المنويه
نافذات أحكامها مرعية
52
فترامى الطرواد للفلك مثل ال
أسد تنقض في طلاب الرميه
نالهم نصره وذل عداهم
فرماهم بعاديات الرزيه
لابن فريام أحرز المجد حتى
يضرم النار في السفين الرسيه
كل هذا استجابة لدعاء
أنفذته ثيتيس أس البليه
فقضى زفس بالنوائب حتى
يبصر النار ألهبت بخليه
فيزيح الطرواد عنها ويولي
قوم أرغوس نصرة علويه
فبهذا قضى وهكطور أغرى
للأساطيل واريا بالحميه
كر يحكي آريس ذا الرمح أو نا
را بغاب شبت بشم عليه
فمه مزبد وعيناه نار
ثارتا من أجفانه الوحشيه
وحوالي صدغيه هاجت هياجا
خوذة بالبريق أجت بهيه
من عباب الرقيع زفس وقاه
ورعاه من دون كل البريه
إنما يومه دنا وأثينا
بابن فيلا أدنت إليه المنية
كر حيث الصفوف رصت كثافا
وتلالت مناصل السمهريه
53
وبغى خرقهم فصدته جند
كالبناء المرصوص صفت سويه
لبثوا لا يروعهم منه كر
لا ولا همة وكف قويه
كصفاة بالثغر ليست تبالي
برياح وموجة مائيه
54
لاهبا هب ناحيا كل نحو
بسراهم كجمرة محميه
ودهاهم كما دها الموج في الي
م غرابا بهبة نويه
55
بشراع بالريح منتفخات
وصفاح بغثيه مغشيه
56
فتلوح المنون منبعثات
دانيات لأعين النوتيه
هكذا كانت الأغارق تنتا
ب حشاها شجية وشجيه
ثار فيهم كالليث بين صوار
راتع في جدود هور عذيه
57
لا تطيق الرعاة ذودا فيجري
بينه وهي رعدة ضاويه
58
يقنص الليث منه ثورا وباقي
ه فلولا يفر في البريه
هكذا فرت الأراغس منه
بل ومن زفس ذي القضايا الخفيه
فل هكطور منهم فارسا ف
ذا فولوا بأضلع محنيه
فيرفيت الذي أتى من مكينا
وابن قفريس الذميم الطويه
لهرقل من لدن أفرستس المل
ك مضى بالرسائل الوديه
لم يكن فيرفيت مثل أبيه
بل حميد الخلال ذو ألمعيه
فاق بين الأقران عدوا بأسا
ثم حلته حكمة ورويه
فلهذا قد نال هكطور في مق
تله المجد في السرى الدردنيه
هم في جنة إلى قدميه
قد تثنت أهدابها المثنيه
حصنه في الكفاح كانت وصدت
عنه تحت القراع كل أذيه
ملفتا كان فالتوى بخطاه
عاثرا في أطرافها الملويه
خر مستلقيا فصلت عليه
خوذة كللته فولاذيه
خف هكطور منقذا رمحه في
صدره بين جند كل السريه
فتلظوا أسى ولكنه لم
يبق فيهم لرفده من بقيه
لجأوا في صفاح أول صف
من خلايا العمارة الأرغسيه
والعدى في الأعقاب تضرب حتى
حصروهم حول الخيام الخليه
وقفوا ثم عصبة أوقفتهم
خشية العار والمنايا الدنيه
وتوالوا بعض يحرض بعضا
بعجيج للجو أعلى دويه
وملاذ الكماة نسطور يستح
لف كلا بالأهل والعصبيه: «صحب لا تشغلوا بالكم ألسن الخل
ق وذودوا ذود الرجال الأبيه
واذكروا الولد والنساء وملكا
لكم في تلك الديار القصيه
واذكروا أهلكم أماتوا بادوا
أم هم في قيد الحياة الرضيه
59
لا تزيدوا الشكوى بحق عيال
لبثت خلفكم ثبت الشكيه»
فاسجاشت نفوسهم وأثينا
قشعت عنهم الغيوم المليه
سحب صبها ركاما عليهم
رب هول دجنة ليليه
بددتها قفاض في السهل والأس
طول نورا أشعة شمسيه
فلهم لاح ثائر الجأش هكطو
ر بجند تكر طرواديه
ولهم لاح من توانى عن الحر
ب ومن خاضها بصادق نيه
وأياس بعزة النفس يأبى
عزلة في المواقف العسكريه
غادر الجند ثم حث خطاه
في سطوح السفائن الصدريه
رمحه طوله اثنتان وعشرو
ن ذراعا للكرة البحريه
نافذ النصل محكم الوصل زاه
بحرابيه الحسان الزهيه
كر يعدو كفارس كر يعلو
أربعا من عتاق جرد سويه
60
ضمها ثم حثها في طريق ال
خلق في السهل حثة سلهبيه
وضواحي البلاد غصت رجالا
ونساء تجل تلك المزيه
وهو في جريها بغير عناء
واثب من مطية لمطيه
61
هكذا طار بالسفين أياس
داوي الصوت للذرى الجويه
يستثير النفوس للفتك ذودا
عن أساطيلهم بنفس جريه
وابن فريام رامح مثل نسر
شق أسراب طير بر شقيه
يدهم الرهو والغرانيق والب
ط بأكناف جدة نهريه
هكذا عن سراه برز هكطو
ر يؤم السفائن الدانويه
زفس أغراه دافعا مستثيرا
خلفه سائر الجنود الكفيه
فتلاقوا كأنهم ما تلاقوا
قبل ما بين عامل وحنيه
لو رأيت النفوس كيف تلظت
قلت ذي كرة لهم أوليه
والأماني هجن مختلفات
ففريق يرى المنون جليه
وفريق يرى الأعادي اضمحلت
والخلايا براسخ الأمنيه
وابن فريام كالشهاب انبرى يق
بض أطراف مركب مرخيه
مركب فيه جاء أفرطسيلا
س بلا عودة عليه هنيه
62
حوله استحكم التلاحم لا تر
ويهم الشهب والحنايا الرويه
بل تراموا بمدية وسنان
رق حده والسيوف الوضيه
كم حسام أهوى بكف كمي
أو بكتف الفوارس المرميه
والثرى اسود وابن فريام قد قا
م على الفلك صائحا بالبقيه: «دونكم ناركم وكروا كثافا
إنما اليوم زفس يرعى الرعيه
إنما اليوم يوم قشع الرزايا
واحتلال السفائن المحميه
أوسعتنا مذ أوفدوها خطوبا
رغم آل الميامن العليه
حال بيني وبينها بجنودي
جبن هيبة الشيوخ الغبيه
إن يكن زفس قبل أعمى حجانا
فله اليوم بالهجوم مشيه»
63
فاستشاطوا وأقبلوا وأياس
حوله الرمي كالغيوث الحبيه
سئم العيش لا يطيق ثبوتا
فالتوى نحو مجلس البحريه (مقعد قاس سبع أقدام طول
وعليه ملاحة الجنديه)
ظل مستطلعا يصد برمح
من ترامى منهم بنار ذكيه
داويا صوته: «ألا صحب كروا
يا بني دانووس الآريه
64
حصنكم باسكم وليس سواه
خلفكم نجدة بجند عتيه
لا ولا معقل يصد المنايا
إن ترامت به الجنود القميه
لا ولا بلدة نلوذ إليها
وبها نبتغي عصابا وليه
قد نأينا عن الديار وأضحى
دوننا البحر والأعادي العديه
فالأمان الأمان بين أكف
فاتكات لا في الأكف البطيه
65
ثم هز القنا وهكطور يغري
صحبه بالمقابس الناريه
ما تصدى بها فتى منهم ح
تى تخلى بمهجة مفريه
فأياس برمحه أهبط اثني
عشر قرما للظلمة الأبديه
هوامش
النشيد السادس عشر
المعركة السادسة ومقتل فطرقل
مجمله
دخل فطرقل على أخيل ووقف لديه موقف الضارع الباكي يتوسل إليه أن يسلحه بسلاحه ليذهب لمقاتلة الطرواد، فأجابه أخيل إلى طلبه على شريطة أن لا يتجاوز الحدود بل يصد الطرواد عن السفن، ولا يتقدم إلى ما وراء ذلك، وكانت الأعداء قد تألبت على آياس وخارت قواه فجعل يتقهقر، وأضرمت النار بإحدى السفن وأخيل ينظر ذلك؛ فنادى فطرقل وهو يشك في سلاحه وأمره بسرعة المسير، فركب مركبة أخيل وإلى جانبه أفطوميذون رفيقه وحوذيه يسوق الجياد الخالدات، وجمع أخيل قومه المرامد وخطب فيهم ودعا وصلى فانقض بهم فطرقل على الأعداء فهزمهم، وأطفأ النيران المضطرمة بالسفن، وجرى أياس في طلب هكطور فاجتاز الطرواد وهم مدبرون الخندق، وفطرقل في أعقابهم يثير الكفاح ويعمل السلاح ولم يقف في وجه فطرقل من الطرواد إلا زعيم الليقبين، وكان زفس ينقذه من يد فطرقل لو لم تتصد هيرا فتمنعه، فاحتدم غلوكوس الليقي وتقدم بقومه صيانة لجثة زعيمهم فما أغناهم ذلك من شيء بل انتهى الأمر بالتوائهم، واستيلاء الإغريق على أسلاب ذلك الزعيم، وأما جثته فطار بها أفلون إلى ليقيا، فثمل فطرقل بخمرة الانتصار، ولم يأخذ بأمر أخيل بل تعقب الأعداء في هزيمتهم، وهم بتسلق أسوار المدينة فدفعه أفلون وأرسل إليه هكطور، فقتل فطرقل حوذي هكطور فتقدم أفلون بنفسه وضرب فطرقل وجرده من سلاحه، فبات أعزل لا يقوى على الدفاع فطعنه أوفرب وأجهز عليه هكطور، وجرى في طلب خيل أخيل، فأرخى لها أفطوميذ الأعنة فطارت به وتوارت.
وليست لتدرك بين الملا
عناق بها زفس فيلا حبا
وقائع هذا النشيد أيضا في اليوم الثامن والعشرين.
النشيد السادس عشر
بذاك الغراب استطار الوحى
وفطرقل نحو أخيل عدا
تساقط عيناه دمعا سخينا
كأسحم ماء بصخر جرى
1
فهزت أخيل لرؤيته
عواطف رفق وفرط أسى
فمال إليه وقال: «إذن
أفطرقل قل لي علام الشجى •••
شهقت كطفل جرت تسرع
ومن دونها أمها تهرع
فتعلق في ذيل أثوابها
ومقلتها صببا تهمع
وترسل طرفا بليلا إليها
عساه بذلتها يشفع
وتجذبها وهي ضارعة
لتحملها فتكف البكا •••
أعندك من إفثيا خبر
له قومنا وأنا نذعر
فإن منتيوس ما زال حيا
بذلك قد أنبأ الأثر
وفيلا كذا بمرامده
عزيز وإمرته ائتمروا
همامان لا شك موتهما
بلاء علينا وأي بلا
2 •••
أم انتابك البث حزنا على
لفيف الأخاءة مذ فشلا
تجاه عمارتهم جيشهم
جزاء مظالمه خذلا
فبح بحقي ضميرك لي
أحط بالذي رمته عجلا»
فقال وصعد أنفاسه: «أجل يا أشد قروم الورى •••
دع الكيد فالخطب جل وقد
تدفق نقع جراح العمد
ذيوميذ أقعده دمه
وأوذيس رب الطعان قعد
وأتريذ ألمه جرحه
كذاك أريفيل ألقى العدد
أحاطت بهم بسفائنهم
لضمد الجراح خيار الإسى
3 •••
وأنت على الكيد صلد الفؤاد
فلا كان لي قط هذا العناد
أيا فاسد الباس قل لي لمن
تعد اشتداد البئوس الشداد
إذا لم تزح عن لفيف الأخاء
عميم البلاء بيوم الطراد
4
فلالا فما أنت من بشر
ولست ابن فيلا الفوارس لا •••
وثيتيس ليست بأمك أصلا
بل اخترت في لجة البحر أصلا
ومن كبد الصخر كنت وليدا
لأن فؤادك كالصخر فعلا
5
فإما خشيت المقادير فيما
روت لك أمك عن زفس نقلا
فبي فابعثن وفي إمرتي
لفيف المرامد أسد الشرى •••
عسى بسلاحك إن أقبل
يخالوك وافيتهم تصطلي
فينجو الأخاء وطروادة
تفر وكربتنا تنجلي
6
ونكتسح القوم نكسأهم
لإليون بالبيض والأسل
فإنا وليس بنا من عياء
نبدد جيشا رماه العيا» •••
لتلك أمانيه عن دفع نفس
إلى الحتف ساقته في يوم بؤس
فأن أخيل وقال له: «أفطرقل حدسك ليس بحدسي
فلست لأخشى المقادير فيما
روت لي أمي عن حكم زفس
ولكن بي غصة حرقت
فؤادي الكليم بحر اللظى •••
وما زلت ألهب منذ انتصب
زعيم السرى وفتاتي اغتصب
وما هو إلا قريني مقاما
وما هي الأجزاء النصب
حباء حباني الأراغس لما
فتحت البلاد ونالوا الأرب
وأتريذ معتسفا رامها
كأني دخيل بذاك الحما •••
ولكن لنغض عن الغابر
ونله بموقفنا الحاضر
فإني وإن كنت آليت قبلا
بأن لا ألين إلى الآخر
إلى أن تحيط بفلكي العدى
وتبدو لدي ظبا الباتر
فما كان للمرء مهما التظى
بأن يكمن الغيظ طول المدى
7 •••
فقم بسلاحي وسر بالمرامد
فقد أدرك الفلك جيش الطراود
وبالثغر قد حصروا قومنا
فضاق عليهم مجال المجاهد
وإليون خلفهم اندفعت
كأن لها النصر ألقى المقالد
وما لقيت بطلائعهم
تريكة آخيل تلقي السنا •••
فلو أن أتريذ لم يعتسف
لما خلت جيش العداة يقف
وولوا وصرعى كتائبهم
ببطن حفائرنا ترتجف
وها هم أحاطوا بدراعنا
وعنهم ذيوميذ عنفا صرف
وليس براحته عامل
يهيج احتداما لدفع الأذى •••
وليس لأتريذ من قبح نطق
به نفثات الخبائث يلقي
ولكن لهكطور صوت دوى
يشق الفضاء بغرب وشرق
وقد فاز بالنصر أعداؤنا
وضحوا وعجوا ونادوا بسبق
فكر وق الفلك من نارهم
لبلغنا الوطن المرتجى •••
لأمري ائتمر ومرامي أجر
فتحرز لي كل مجد وفخر
وتحمل لي بالجلال فتاتي
على تحف ونفائس غر
عن الفلك صد العدو وعد
ولو زفس أولاك أعظم نصر
ولا تندفع في العدى مفردا
فتبخس قدري بين الورى •••
ولا يدفعنك طيش القتال
لإليون بالجيش تحت النبال
فرب إلاه ولي العداة
كفيبوس أخلى الألمب وصال
إذن حالما الأمن تضمنه
لأسطولنا وتصد الرجال
فعد ودع الحرب يضرمها
سواك وبادر إلي هنا •••
أيا زفس رب العلى يا أثينا
وفيبوسا السادة الأعظمينا
أبيدوا الطرواد فوق الأخاء
ة يفنوا برمتهم صاغرينا
ولا يبق حيا سوانا بإليو
ن تخلو ودكا ندك الحصونا»
8
فذاك حديثهما ها هنا
وثمة عزم أياس ارتخى •••
توالت عليه طعان العدى
وزفس قوى بأسه بددا
وفوق تريكته انهملت
نبالهم شاسعات الصدى
ويسراه بالجوب قائمة
يكاد من العي يلوي يدا
9
وما كل جيش العدى بقناه
بدافعه عنهم القهقري •••
وفوق جوارحه العرق
من الجهد كالسيل يندفق
فشق تردد أنفاسه
عليه وقد كاد يختنق
وسيم على أزمة أزمة
وزاد على القلق القلق
ألا ليت شعري كيف الأوار
علا الفلك قلن قيان العلى
10 •••
لآياس هكطور جريا جرى
وعامله بالحسام برى
فأهوى السنان بثعلبه
يصل صليلا لوجه الثرى
11
فبات أياس بعود ضئيل
وفي سخط آل العلى شعرا
وقد خال زفس برى دونه
عماد القتال لنصر العدى •••
لذاك التوى عن مرامي الظبا
وبالفلك أورى العدى اللهبا
بكل الغراب السعير فشا
وفي سطح وجهته نشبا
12
فصاح أخيل لذا لاطما
بكفيه فخذيه مضطربا: «بدار أفطرقل يا فرع زفس
بدار أيا فارسا قد سما •••
أرى الفلك بالنار تلتهب
وأعداؤنا جملة وثبوا
فوا لهفي هل ينالونها
ويمنع في وجهنا الهرب
فقم بسلاحي إذن ريثما
أعبي كتائبنا واذهبوا»
13
ففطرقل شك بزاهي سلاح
ببراق فولاذه قد أضا •••
فأوثق خفين بالقدمين
بساقيه شدت عرى من لجين
وألقى على صدره لأمة
لآخيل روعة الفيلقين
وألقى حساما يرصعه
قتير لجين على العاتقين
وجنته تلك ذات الوبال
تناولها ثم فيها اكتمى •••
وتلك التريكة والعذبات
تطير بقونسها سابحات
14
رماها على ثبت هامته
تذل لرؤيتها العزمات
وقام يهز قنيا ثقالا
تخف عليه لدى الأزمات
كذا غير صلد قناة أخيل
جميع سلاح أخيل حوى
15 •••
فما كان في القوم غير أخيل
فتى ذلك الرمح منهم يجيل
وعامله زانة قطعت
بقنة فليون عودا ثقيل
16
وخيرون أهدى لفيلا سلاحا
على رقبات العداة وبيل
ومذ شك فطرقل أفطمذا
لشد الجياد سريعا دعا •••
فتى كان يوم انتياب الشدد
وليا وفيا له وسند
17
وما كان يرعى فتى مثله
من الصيد بعد ابن فيلا أحد
فهب لزنثس يقرنه
بباليس ببهي العدد
جوادان عنقاء أمهما
وقد علقت من نسيم الهوا •••
نعم تلك فوذرغة وهي تسعى
على ضفة الأقيانس ترعى
كذا حملت والجوادان شبا
كعاصفة الريح جريا وطبعا
وللنير شد فداس الذي
أخيل بإيتين نال سقعا
جواد وإن كان رهن الردى
فجري جياد الخلود جرى
18 •••
وبالخيم طار أخيل وصاح
يعبي مرامده للكفاح
فهبوا كسرب الذئاب الكواس
ر يدفعه البأس دفع الرياح
ممزق فوق الذرى إيلا
وأفواهها داميات الصفاح
وتنضم جيشا جرى والفا
بسلط اللسان بماء حلا •••
فتنبذ في الماء تلك الدما
وتروي ولا ترتخي همما
19
كذا حول فطرقل كبارهم
لفيفهم دار وانتظما
وبينهم خل زفس أخيل
يحض الكماة حماة الحما
بخمسين فلكا أتى بهم
بخمسين كل غراب أتى •••
بخمسة صيد بهم وثقا
بإمرته كفل الفيلقا
فأولى جرائدهم نظمت
بإمرة مينستيوس اللقا (هو ابن الجدول إسفر خيوس ال
ذي كان من زفس انبثقا
ولكنما أمه فولدورا ال
جميلة وابنة فيلا النهى •••
ومن بعد ذاك الإلاه بغاها
بروس بن فيريرس وحباها
فكانت له علنا زوجة
وشاع بأن فتاه فتاها)
وثانية الفرق انتظمت
لأفدور من جل بأسا وجاها
هو ابن فليميلة ابنة فيلا
س من ولدته بشرخ الصبا •••
بديعة حسن بمغنى الطرب
بها هرمس بالغرام التهب
رآها تغني وترقص بين ال
عذارى لدى ذات قوس الذهب
20
فقاتل أرغوص هام بها
وفي ذروة القصر فيها احتجب
21
وأولدها ولدا نابغا
إذا ما عدا وإذا ما رمى •••
ولما تبدى لشمس النهار
وثم إليثية بانتظار
22
إخكليس أكطور أنزلها
بمنزله بأجل شعار
وفي حجر فيلاس ظل الغلام
يشب ربيبا عزيز المنار
وثالثة الفرق اجتمعت
لفيندر بن ممال الفتى •••
فتى لم يفقه بهز القنا
بهم غير فطرقل إن طعنا
وفينكس رابع قوادهم
هو الفارس الشيخ إلف العنا
وخامسهم ألقميذ بن الفي
س من عاديات الوغى امتحنا
كذلك آخيل كتبهم
وصاح يثبتهم للوغى: ••• «مرامدة ادكروا كم على
عداكم صديد الوعيد علا
فكلكم عاذلي كلما
حنقت وكل قلى وتلا: «أيا ظالما يا ابن فيلا فأم
ك قد أرضعت مرة وقلا «تصلبت لبا وقسرا حجرت
رفاقك عن أشرف الملتقى ••• «هلم بنا للديار وإلا
فماذا التحامل حقدا وغلا»
لتلك أقاويلكم جملة
فدنكم جذوة الحرب تصلى
وتلك أمانيكم فليكر
إليها الذي كان للكر أهلا»
فهبوا ولبوا مليكهم
كتائب رصت كرص البنا •••
كصخر بصخر قد اتصلا
بحائط دار سمت للعلى
وأحكم بناؤها رصفها
فلسيت تبالي بنوء ولا
كذاك تألب جيشهم
وقد لاصق البطل البطلا
وبالخوذة الخوذة اشتبكت
وفوق المجن المجن انحنى
23 •••
بهبتهم عذبات القوانس
تلاقت تموج بهام القوامس
وفطرقل شك وأفطمذ
وقد برزا لالتقاء الدراهس
همامان همهما واحد
نكال العدو بصدر الفوارس
وأما أخيل فلما استتم ان
تظامهم للخيام انثنى •••
هناك غطاء خزانته
أماط يؤج ببهجته
فتلك الخزانة قد أتحفته
بها أمه يوم غزوته
وقد شحنتها بأردية
تصد الهواء بهبته
وأكسية وطنافس غر
تشوق برؤيتها من رأى •••
فأخرج كوبا بديعا سناه
به ليس يشرب خمرا سواه
لزفس به الراح ترفع صرفا
وتهرق من دون كل إلاه
بنار الكباريت طهره
وغمسه بنقي المياه
ومن بعد غسل يديه به الخم
ر سوداء صب بكل اعتناء •••
وبين السرى قام يرفعه
ويعلو لزفس تضرعه
يشير بعينيه نحو السماء
وزفس يراه ويسمعه: «أيا زفس رب الددون ومولى ال
فلاسج من بان مربعه
24
ويا ملكا بددونه حيث أز
مهر على القوم قر الشتا •••
وحيث سرى السلة السهد
رواتك من حولك احتشدوا
25
فلم يغسلوا لهم قدما
وغير الثرى ما لهم مرقد
دعوتك قبلا فأعززتني
بذل الأخاء وقد جهدوا
ألا فاستجبني أيضا ولا
تخيبني يا سميع الدعا •••
فها أنا ما بين فلكي مقيم
فيزمع فطرقل خلي الحميم
يقود مرامدتي للوغى
فخوله نصرا أزفس العظيم
وصلبه لبا فيعلم هكطو
ر هل هو كفؤ لرغم الغريم
وهل لا يكر ويبطش إلا
إذا ما وراء أخيل انبرى •••
وشدده حتى إذا ما انتصر
وعن موقف الفلك زال الخطر
يأوب إلي هنا سالما
بعسكره وسلاحي الأغر»
لزفس دعاء أخيل رقى
وزفس وعى جابرا وكسر
فخول فطرقل صون الخلايا
وأما سلامته فأبى •••
وأما أخيل فمذ أكملا
فروض عبادته قفلا
بموضعه الكوب أودع ثم
إلى باب خيمته أقبلا
وظل هنالك مرتقبا
منازلة الجحفل الجحفلا
وفطرقل والجيش منتظم
بإمرته للكفاح مشى •••
كأنهم الدبر ثار يمور
وخشرمه بسبيل العبور
وثمة ولد تحثحثه
ليبعث منتشرا بالشرور
يمر على جهله عابر
فيدفعه فعليه يثور
يذب عن البيض مستبسلا
حديدا لحمات شديد القوى
26 •••
سرى المرمدون بشدتهم
كذا انبعثوا من عمارتهم
وفطرقل يصرخ مذ أقبلوا
يعج الفضاء بضجتهم: «مراميد ليس لقوم أخيل
بأن ينثنوا عن عزيمتهم
علينا ونحن سراه بأن
نجل أجل فتى بالسرى •••
ليعلم أتريذ ما اجترحا
بحط أشد قروم الوحى»
فهاجت لذاك حميتهم
وكلهم للقا طمحا
وكروا وصاحوا وصيحتهم
صداها بفلكهم صدحا
وفطرقل يزهو وأفطمذ
بصدرهم ببهي الحلى •••
فخار الطرواد وارتعبوا
لمنظر فطرقل واضطربوا
وخالوا أخيل ارعوى مقبلا
عليهم وقد فاته الغضب
فكلهم التاع مستشرفا
يرى كيف ينجو به الهرب
ومعظمهم عج حيث غراب
فروطسلاس الأبي رسا •••
هنالك فطرقل حيث خطاه
وأرسل يقذف صلد القناه
فأدرك بالكتف فيرخم مولى ال
فيونة صيد الجياد العتاه
بهم من أميدون من جد أكس
يس خف معتصما بقواه
فخر وخارت كتائبه
وولوا شتاتا بعرض الفلا •••
مقابسهم غادروا بالتهاب
وقد لهمت نصف ذاك الغراب
ففطرقل أخمدها والعدى
تبدد شملهم باصطخاب
وهب الأخاء بتلك الخلايا
وهدة نعرتهم للسحاب
عن الفلك شت العدو وقد
بدا فرج بعد طول العنا •••
كأن مثير الصواعق بدد
سحابا به شامخ الطود يربد
فتبدوا الضواحي وشم الرواسي
وبطن الوهاد ونجد وفدفد
وينفتح الجو والنور يلقي
بلب الرقيع شعاعا توقد
27
ولكنما الحرب ما بلغت
بشدتها غاية المنتهى •••
فطروادة ساق حكم اضطرار
فغادرت الفلك تبغي الفرار
وظلت تذود وفي إثرها
على كل قرم عميد أغار
وفطرقل في صدر جند الأخاء
على عرليق السنان أطار
فأنفذ في حقه والجا
إلى العظم فانقض فوق الثرى •••
وخر ثواس برمح منيل
وعن صدره الجوب كان أميل
وأمفقل رام مجيس ولكن
مجيس تلقى برمح صقيل
فبتت قلب شظيته
فخر غضيض الجفون قتيل
وأنطيلخ شق خصر أتمن
يسا فلدى قدميه التوى •••
فحرق ماريس موت أخيه
فخف لجثته ليقيه
وقد كاد يطعن أنطيلخا
ولكن بدا ترسميذ يليه
فبادر عاتقه بسنان
فرى اللحم والعظم ينفذ فيه
فخر وصل بشكته
وعينيه غشى ظلام الردى •••
كلا الأخوين رمى الأخوان
فمن ولد نسطور ذي الفضل ذان
وذانك فرعا أميسودر
سليل خميرة هول الزمان
28
حليفا وداد لسرفيذن
وشهمان قرمان يوم الطعان
هما لأريبا كذا انحدرا
وقد غادرا قرع صم القنا
29 •••
كذاك أياس بن ويلوس كر
إذا إقليوبول حيا ظهر
تربك يبغي الفرار فوافى
أياس بماضي غرار أغر
فواراه في جيده فقراه
وأخرج يلهب والقرم خر
وليقون رام فنيلا وكل
رمى وكلا العاملين نبا •••
فكرا وكل براحته
حسام فخف بضربته
فعامل ذاك أصاب التريك
ة فانقض من كعب قبضته
ولكن فنيلا فرى الجيد والرأ
س علق يهوي بجلدته
فغادره نور مقلته
وفوق الحضيض صريعا هوى •••
ومريون مذ أقبل السهل ينهب
أكاماس أدرك إذ هم يركب
فألقى بعاتقه طعنة
فجندل عن طرفه النور يحجب
وإيذومن إرماس أصاب
بفيه وفيه السرية غيب
فشققت العظم تحت الدماغ
وأسنانه فلقلت في اللثى •••
فمن منخريه النجيع تفجر
ومن فيه والطرف بالدم محمر
ومن فوقه الموت ألقى سحابا
كثيفا بسترته قد تستر
وجيش الطراود ولى شتاتا
وقد فاته البأس والذب والكر
وإثرهم انقض جند الأخاء
وكل زعيم زعيما فرى •••
كسرب ذئاب بشم الخبال
قد انقض يبغي قطيع السخال
وقد فرقته الرعاة بجبل
فيدهمه بفسيح المجال
ويبطش فيه يمزقه
وليس له مهجة للنضال
فذا شأنهم وأياس حشاه
لإدراك هكطور فيه التظى •••
ولكن هكطور وهو الهمام
وقد حنكته ضروب الصدام
أصاخ بسترة جنته
لقرع القنا وهزيز السهام
وقد شهد النصر رجحانه
لقوم العداة فهام وحام
تثبت يفكر في صحبه
يروم لهم نجوة ترتجى •••
فمن موقف الفلك بالعنف ثار
هديد الوغى وصديد الفرار
كما اندفع الغيم بالجو في يو
م صحو به زفس نوءا أطار
وفيلق إليون قد فر حتى ال
حفير بغير هدى وقرار
بهكطورهم جمحت جرده
فألقته عنهم بعيد المدى •••
وبينهم بات ذاك الحفير
لهم حاجزا عن حثيث المسير
فكم من عجال به سحقت
وقد غادرتها الجياد تطير
وفطرقل ينخي كتائبه
لسحق جيوش العدى ويغير
فولوا بعرض الفلا شردا
وقد ولولوا والفؤاد وهى •••
فعج عجاجهم للسحاب
وفطرقل يطلب لب العباب
فكم فارس بات تحت العجال
وقد خر يخفق فوق التراب
وكم فرس غادر المركبات
تخب ووجهة إليون آب
ولم تك جرد أخيل لتعبا
بذاك الحفير العميق الهوى •••
تعدته كالبرق رامحة
من الجرف للجرف سابحة
سلاهب خلد بنو الخلد كانت
لفيلا الفوارس مانحة
ومهجة فطرقل ما لبثت
لإدراك هكطور طامحة
ولكن هكطور والخيل شطت
به جامحات الصدور نأى •••
وخيلهم وهي منطلقه
تغير وتصهل مندفقه
كأن الغيوم بيوم خريف
بنوء على الأرض منطبقه
فيهمر زفس السيول انتقاما
من الخلق إذ تنبذ الشفقه
وتقضي القضاة بمجلسها
ولا قسط في حكمها والقضا •••
وقد فاتها حمقا أن تهاب
بني الخلد إن نهضت للعقاب
فتطغى مجاري المياه وتطمو ال
سيول وتنقض فوق الهضاب
تغادر شم الجبال زعابا
إلى البحر يعلو لظهر زعاب
تعيث وتفسد في الأرض حتى
عنا الناس يصبح طرا هبا
30 •••
وفطرقل بين الصدور صدر
وساق إلى الفلك تلك الزمر
على رغمهم دون عودتهم
لإليون حال وأجرى العبر
وجندهم بين مرسى الخلايا
وسيموس والحصار حصر
31
وصال وأول صولته
على أفرنوس الهمام سطا •••
بدا صدره تحت جنته
وفطرقل خف بطعنته
فجندله لا حراك به
وأهوى يصل بشكته
وثنى بثسطور إينفس لما
تلملم من فوق سدته
تضعضع خوفا فأرخى العنان
وفطرقل في إثره مضى
32 •••
بصفحة وجنته الرمح ألقى
فغاص وشق النواجذ شقا
ومن ثمة اجتره بالسنان
عن العرش بالرمح يلصق لصقا
كما اصطاد بالشص من فوق صخر
فتى سمك البحر والشص دقا
فألقاه والرمح يفغر فاه
على وجهه ثم عنه اغتدى •••
فإريال ألفى إليه ابتدر
فبادره قاذفا بحجر
فحل ببطن تريكته
وهامته شق ثم انحدر
فخر صريعا ومن حوله ال
حمام مبيد الحياة انتشر
ومن ثم أتبعه بقروم
على بعضهم بعضهم قد ثوى •••
فمنهم إريماس أمفوطروس
وإيفلط إيفيس إيخيوس
وإطلوفلتم فريس كذاك
فليميل أرغيس إيفوس
فلما رأى صحبه سرفذون
بهم لعبت عاديات البئوس
تحدم يصرخ في قومه: «فوا عاركم يا بني ليقيا •••
قفوا لا تفروا علام الوجل
فإني أطلب هذا البطل
لأعلم من ذا الذي عاث فينا
ومنا العديد الوفير قتل»
ترجل يعدو وفطرقل لما
رآه ترجل ثم حمل
كأنهما عندما اصطدما
عقابان من فوق صخر نتا •••
يهبان هبة مظفر
بعقف المخالب والمنسر
33
يصران صرصرة ويشبا
ن من فوق ذيالك الحجر
وزفس بعزلته راقب
فهاج به الرفق بالبشر
فقال لهيرا شقيقته
وزوجته: «آه حل القضا •••
أرى سرفذون أحب العباد
إلي بعامل فطرقل باد
ينازع قلبي أمران إما
مواراته عن مجال الجلاد
وإلقاؤه وهو حي مفدى
إلى قومه في خصيب البلاد
وإما السماح بمقتله
فيبلغ فطرقل منه المنى» •••
فقالت: «وأي مقال تقول
أيا ابن قرونس قيل القيول
فتى من بني الموت حكم الردى
رماه وأنت تجوز الأصول
فأنفذ مرامك إن رمت لكن
بنو الخلد لا يظهرون القبول
فدونك مني مقالة حق
فألق مقالي بسامي الحجى •••
إذا سرفذون إلى الأهل حيا
أعدت فآل العلى تتهيا
وتطلب إنقاذ أبنائها
من الحتف مثلك شيئا فشيئا
فإن أنت أحببته سمتهم
على مضض الكيد غيظا وغيا
فخل حنوك واأذن إذن
ففطرقل ينفذ حكما مضى •••
فإن غادرته الحياة وباد
مر الموت فورا وعذب الرقاد
إلى ليقيا يحملاه سريعا
لإخوته والصحاب البعاد
فيدفن في اللحد حرا كريما
ونصب الكرام عليه يشاد
فذاك جزاء الأولى جاهدوا
وماتوا كراما ونعم الجزا» •••
فأذعن زفس لها ثم أمطر
على الأرض طلا من الدم أحمر
34
قياما بإجلال فرع حبيب
سيردى غريبا وفطرقل يفخر
فكرا وفطرقل ثرسملا
رمى بالصفاق فمن فوره خر
تلا سرفذون بسوق الجياد
وكان حليف الصبا المرتضى •••
وعامله سرفذون قذف
ولكن بكتف فداس وقف
فخر لوجه الثرى صاهلا
وقد زهقت روحه وارتجف
فأزعج مصرعه الفرسين
فشبا ونيرهما قد قصف
وصرع عنانيهما التف فاست
ل أفطمذ سيفه وانتضى •••
وخف وبت رباط الجواد
فعادا لروعهما والطراد
وعاد الكميان للضرب والطع
ن في حومة الحرب قرمي عناد
رمى سرفذون مثقفه
فعن كتف فطرقل يسراه حاد
ولكن فطرقل عامله
أطار وما إن أطار سدى •••
ففي سرفذون السنان انتشب
على عضل القلب حيث انتصب
فأهوى يصر أمام العجال
بأسنانه والحضيض اختضب
كملولة أو كصفصافة
وباسقة الأرز فوق الهضب
بها نفذ الحد في كف وشا
ر فلك متين الجذوع برى
35 •••
وخر كثور بصدر الصوار
عتا وعليه الغضنفر ثار
ومن تحت صكة أنيابه
يخور إلى أن ترج القفار
كذا خر مولى بني ليقيا
ومن كف فطرقل ألفى البوار
ولكنه بتجلده
علا صوته بجهير الندا: ••• «ألا يا غلوكس خير أليف
لذا الحين حين الصدام العنيف
لئن كنت ذا مهجة وجنان
فلا تصب إلا لقرع السيوف
أثر بقيول بني ليقيا
لدى سرفذون أوار الحتوف
وذودن عني وللحرب ألهب
قلوب السرى بسعير الجذى •••
وإلا وبهم العدى صرعوني
وجندلت في وجه هذي السفين
سأورثك الدهر خزيا وعارا
إذا ما العدى شكتي سلبوني»
ومن ثم أخمد أنفاسه
وأغمض عينيه ستر المنون
36
وفطرقل داس على صدره
لينتزع العامل الممتهى
37 •••
فأخرج يعلق ذاك العضل
بحد السنان وروح البطل
وهم المرامد في عجل
ليستوقفوا الجرد تحت العجل
عتاق وغادرها فارساها
فحثحثها للفرار الوجل
وأما غلوكس فالتاع بثا
لذاك الندا وحشاه انفأى
38 •••
لقد بسط الكف فوق الذراع
وليس به قوة للدفاع
فما زال يؤلمه نبل طفقي
ر لما تسلق فوق القلاع
فألفت يدعو أفلون رب الس
هام: «ألا رب جد باستماع
فحيث تكن أنت يبلغك صوت
كئيب تلهف مثلي أنا •••
أفي ليقيا كنت أرض اليسار
أم اخترت إليون دار قرار
فأنت ترى ألمي وجراحي
وسيل دم من ذراعي فار
تثقل كتفي من هز رمحي
إذا ما علا بالبدار الغبار
وذا سرفذون العميد ابن زفس
وما صانه زفس ألفى التوى
39 •••
فآلامي الآن سكن وخفف
وبأسا أنلني والدم جفف
لكي استحث بني ليقيا
وحول القتيل الرماح نكثف»
دعا فاستجيب الدعا ومسيل
الدماء على الفور بالجرح أوقف
وآلامه سكنت وحشاه
ببأس شديد ذكا واصطلى •••
فمالت به هزة الطرب
لما نال من بلغة الأرب
بصيد بني ليقيا طافي يستن
هض البهم للذود والطلب
وبين الطراود جال فمال
لفوليدماس الهمام الأبي
وأنياس ألقى فحث وخف
إلى آغنور الفتى المجتبى •••
وهكطور وافى بقلب الحديد
يؤج فصاح بصوت شديد: «أشأنك هكطور عن حلفائ
ك تغضي وصيد سراهم تبيد
بحبك قد هلكوا وعداهم
عن الأهل والدار بون بعيد
فذا سرفذون المليك الذي
حوى البأس والعدل غضا ذوى •••
أريس براحة فطرقل قد
رماه وحرقنا بالكمد
ألا ما كررتم وقلبكم ال
تياعا بحر الأوار اتقد
ألا ما خشيتم أن المرام
د ينتزعون زهي العدد
ويولونه الذل منا انتقاما
لبهم أبدنا بغر الظبا» •••
فهد الطراود ذاكي اللهف
على سرفذون وفاض الأسف
فقد كان وهو دخيل بهم
لهم منعة من عوادي التلف
مشى إثره البهم جيشا وليس
له بهم شبه أو خلف
فهاجوا وهكطور في صدرهم
تحدم غيظا يحث الخطى •••
ولكن فطرقل بين الأخاء
عدا يستحثهم للقاء
وأقبل يدعو الأياسين لكن
فؤاد الأياسين يذكو اصطلاء: «ألا الآن دونكما الذود مذ كن
تما خير كل قروم البلاء
فذا سرفذون الفتى من إلى ال
معاقل قبل الجميع رقى •••
عسى أن نفوز بجثته
نجردها لمذلته
ونفري بحد الغرار الأولى
يذبون من جند عصبته»
فهبا ومن كل صوب تكث
ف جيش يجيش بهمته
وحول القتيل اصطدام عنيف
وعج مخيف وصل الشبا
40 •••
بنو ليقيا ولفيف الطراود
وجند الأخاء وجيش المرامد
جميعهم اندفعوا دفعة
بصلصلة ووحي متصاعد
وزفس على فرعه حسرة
تحرق يبغي اشتداد الشدائد
فأحدق فيهم وقد كيد كيدا
وأسبل ستر ظلام دجا
41 •••
ففي البدء جيش القتيل اندفق
وصد الأخاء الحداد الحدق
فبين المرامد خر إفيج
يس بن أغكليس فخر الفرق
لقد كان قبلا ببوذية
فغادرها تحت جرم سبق
مضى فاتكا بابن عم له
وعند ثتيس وفيلا التجا •••
إلى حرب طروادة سيراه
لآخيل خراق جيش الكماه
لقد رام سلب القتيل وهكطو
ر فورا بجلمود صخر رماه
وهامته بتريكته
لشطرين شق فألفى رداه
ومن فوره خر فوق القتيل
وحرق فطرقل فرط الشدا
42 •••
حكى مذ مضى في الطلائع صقرا
لديه الزرازير يفررن فرا
وسرب العقاعق من وجهه
شتاتا تساق به حيث كرا
فسعديك يا ابن منتيوس هزم
ت كل فتى هالعا مقشعرا
بني ليقيا والطراود طرا
قهرت انتقاما لإلف كبا •••
وعنق ابن إيثيمن إستنيل
دققت بصخر قذفت ثقيل
ففر الطراود في وجههم
كذلك هكطور ولى ذليل
إلى أن أبينوا على روعهم
على بعد مرمى سنان صقيل
على العنف يرمي به طاعن
بدار الوغى أو بعرض اللهى
43 •••
ولكن غلوكس ثم انثنى
وعاد فأعمل شهب القنا
وأصمى بثكليس خلوكون من
بهيلاذة ناعما سكنا
وما كان بين الطراود من
حكاه بهم ثروة وغنى
لقد كاد يرمي غلوكس لما
وراء العداة حثيثا سعى •••
فعاد غلوكس والرمح زج
وفي الصدر حد السنان ولج
على بأسه خر فارتجت الأر
ض والتهبت بذويه المهج
ولكن جيش العدى فرحا
تكثف من حوله وابتهج
وأما الأخاء فلم ينثنوا
بل اندفعوا كزعاب طغا
44 •••
ومريون بين العدى ظفرا
بقرم بلوغونس شهرا
هو ابن أنيطور كاهن زفس
بإيذا ومن مثله وقرا
أصيب على مقتل الأذن فانق
ض لا رمق فيه فوق الثرى
فبادر أنياس يطعن مريو
ن لكن ذاك السنان هفا
45 •••
لقد كان مريون مستترا
بجنته عندما ابتدرا
فمال عن الرمح والنصل زل
ومن خلفه للحضيض سرى
وظل هنالك مرتعشا
على ذلك العزم إذ خدرا
رمته ذراع لها البأس ينمي
فأنفذ لكن ببطن النقا
46 •••
وأنياس صاح مغيظا: «أجل
أمريون فاتك سهم الأجل
وإلا فمهما تفوقت رقصا
لو النصل وافاك عزمك فل»
47
فقال: «أأنياس هيهات تصمي
جميع العداة وأنت بطل
وأنت رهين الحمام عسى
أصيبك مهما حشاك عسا
48 •••
فإما زمتك طبا أسلي
وقد أدركتك انتهى أملي
فلا شك تهبط في فشل
لآذيس روحك والفخر لي»
ولكن فطرقل سيء فقال
يؤنب مريون بالعجل: «علام أخي ذا المقال المهين
وأنت بلوتك سامي النهى •••
أتزعم أن حديد الكلام
يصد الطراود يوم الصدام
فماذا بدافعهم عن قتيل
حواليه تصطك لام بلام
ولن يرجعوا عنه حتى يضاف
صريعا لذاك الهمام همام
فللحرب فعل وللسلم قول
وهذا أوان الوغى لا اللغا»
49 •••
فخف ومريون في الإثر خف
كرب وللجيش جيش زحف
وفي السهل للبيض والسمر قرع
بفولاذهم وإهاب الحجف
50
كأن بأذرع حطابة
بغاب فئوسا صداها قصف
51
وحول القتيل استطار العجاج
وويل الدما والنصال همى •••
من الرأس غشاه حتى القدم
فما كان يبصر بين الرمم
وفيلق كل فريق لديه
بهدته الكفاح ازدحم
كأنهم بالربيع ذباب
يطن طنينا ببيت النعم
وقد حام من حول ألبانها
إذا ما الإناء رآه امتلا
52 •••
وزفس بشامخ تلك الذرى
عن الحرب ما حول النظرا
ولكنه لم يزل راقبا
بمقتل فطرقل مفتكرا
يجيل بأمرين هاجسه
أيدفع هكطور مستعرا
فيقتله فوق ذاك القتيل
ويسلب منه سلاحا زها •••
أم الحرب عنفا شديدا يزيد
وفيها قروم الرجال يبيد
فعول أن يستحث إلى الفت
ك بالبهم إلف أخيل العميد
فيدفع هكطور والجيش طرا
لإليون من تحت قرع الحديد
لذلك أوهن هكطور قلبا
فهب لمركبه واعتلى •••
وولى ونادى بهم بالفرار
وأوجس من زفس عنه ازورار
درى أن كفة ميزانه
أميلت ودور الدوائر دار
وعزم بني ليقيا خار حتى
غدوا لا يقر لهم من قرار
وراعهم صرع ملكهم
فولوا وقد جلت الأربى
53 •••
رأوه طعين الحشا جندلا
ومن فوقه جثث النبلا
حواليه خر الصناديد لما
قضى زفس أن يدلهم البلا
فجرده قوم فطرقل شك
ته وإلى فلكهم أرسلا
فصاح بفيبوس زفس:«إذن
ألا يا ولي الوداد كفى •••
إلى سرفذون الأمير الخطير
سر الآن فورا وجد المسير
فإن جئته فامضين به
إلى عزلة قرب ماء غزير
وطهره من دنيس الدم حالا
وأنزله في ماء ذاك الغدير
وبالعنبر ادهنه ثم اكسه
ملابس لا يعتريها الفنا •••
لا سرع قادة كل العباد
إلى التوأمين الردى والرقاد
54
به ألق يحتملاه سريعا
لإخوته والصحاب البعاد
فيدفن في ليقيا ضمن لحد
ونصب الكرام عليه يشاد
فذاك جزاء الأولى جاهدو
وماتوا كراما ونعم الجزاء»
55 •••
فلبى أفلون طوعا يسير
ومن طور إيذة هب يطير
أتى سرفذون وسار به
إلى عزلة فوق سيل غزير
وطهره من دم دانس
ونقاه في ماء ذاك الغدير
وطيبه عنبرا وكساه
ملابس لا يعتريها الفنا •••
لأسرع قادة كل العباد
إلى التوأمين الردى والرقاد
به راح يلقي فطارا به
لإخوته والصحاب البعاد
ليدفن في اللحد حرا كريما
ونصب الكرام عليه يشاد
فذاك جزاء الأولى جاهدوا
وماتوا كراما ونعم الجزا •••
وفطرقل أفطمذا والخيول
وراء العدى حث فوق السهول
وبالنفس ألقى لتهلكة
وضل ضلال الغبي الجهول
فلو لأخيل ارعوى ما انبرت
عليه عوادي الحمام تصول
ولكن زفس إذا ما نوى
فما للورى رد ما قد نوى
56 •••
فقد يدفع الفارس البطلا
ليوليه الذل والفشلا
لذلك فطرقل حث وأغرى
ليبلغ في كره الأجلا
ألا قل أفطرقل من آخرا
ومن أنت جندلته أولا:
عدا وبأذرست ثم بأوطو
نووس وإيخيكلوس بدا •••
كذاك ابن ميناس فيريم ثما
فلرتس ثم إفستور أصمى
وإيلاس موليا ميلنفا
وسائرهم للهزيمة هما
وكان الأخاءة إليون يفت
تحون بهمة فطرقل رغما
ولكن رقى الحصن فيبوس ينوي
له الشر والحصن منه وقى •••
ثلاثا لركن الحصار اندفع
وفيبوس عنه ثلاثا دفع
براحته صد جنته
فما ارتد عن عزمه وارتدع
بل انقض رابعة كإلاه
فما خال إلا الدوي ارتفع
وفيبوس صاح: «ألا عد أيا فر
ع زفس فما لك ذا المنتسا
57 •••
فما دك إليون في الغيب لك
ولا لأخيل الذي فضلك»
تقهقر فطرقل مضطربا
لخشيته سخط ذاك الملك
وهكطور في باب إسكية
على جرده فاكر بالدرك
أيدفعها للجهاد أم القو
م يجمع للذود خلف الربى •••
وإذ كان يفكر مضطربا
إليه أفلون اقتربا
دنا وحكى خال هكطور آس
يسا فرع ديماس منتدبا
شقيق لإيقاب من ثغر سنغا
رس بفريجا بشرخ الصبا
وصاح: «علام اعتزلت الكفاح
أهكطور ليس بشأنك ذا •••
فلو زفس لي بقواك حكم
لأوليتك الآن مر الندم
فعد وجيادك حث عسى
وفطرقل ترمي بحد أصم»
لعل أفلوز يوليك نصرا
وفطرقل ترمى بحد أصم
ومن ثم عنه الإلاه توارى
وكالبرق بين الجيوش سرى •••
وهد قلوب الأخاءة هدا
وطروادة بالولاء أمدا
وفي قبريون بن فريام صاح
يرد الجياد إلى الحرب ردا
فساط وهكطور من دون كل ال
أراغس يقصد فطرقل قصدا
ولكن فطرقل ما ارتاع بل
ترجل محتفزا للقا •••
بيسراه عامل رمح متين
كذا حجر خشن باليمين
رماه فأخطأه ومضى
إلى قبريون أخيه الأمين
فأدركه وهو مستمسك
بصرع أعته بالجبين
فقض العظام على الحاجبين
وعيناه طيرتا للبرى
58 •••
فخر عن الخيل كالبرق يسري
إلى الأرض يهوي كابر قعر
وفطرقل صاح به ساخرا: «فيا للباقته كيف يجري
فلو من سفينته واثبا
إلى اليم غاص للجة بحر
لصاد حلزا ولو صدع النوء
يكفي الجماهير شر الطوى
59 •••
لئن غاص بالبر من تي العجال
فغاصة طرواد نعم الرجال»
ومن ثمة انقض فوق القتيل
كليث بقلب الحظائر صال
فيدركه السهم في صدره
ويلقي به بأسه للوبال
فويحك فطرقل من صائل
على قبريون تهيج صلا
60 •••
وهكطور عن خيله نزلا
وفي طلب الجثة اقتتلا
كليثين بينهما ظبية
بها فتكا فوق طود علا
كلا البطلين يهيج احتداما
ليعمل في نده الأسلا
فهكطور بالرأس مستمسك
وفطرقل بالقدمين كذا •••
وحولهما اصطدم الجحفلان
بنقع علا تحت قرع الطعان
كأن الصبا عرضت للجنوب
بغاب تشامخ فوق القنان
تزعزع دردارها والقرا
نيا وكذا الزان بين الرعان
61
فيلتف غصن بغصن فين
قض بين حفيف وقصف دوى •••
كذا اشتبكوا والوغى التحما
يثير بهبته الهمما
طعان تشق الدروع وغيث
سهام بعرض الفلا التطما
وصخر يقض الترائك حول ال
قتيل الذي خر هامي الدما
سها عنهم تحت عثيرهم
وللدهر عن جرده قد لها •••
تساوت مراميهم ما استوت
براح بقلب السما وعلت
62
ولما دنا آن حل الثيار
ومالت فجند الأخاء ارتمت
63
ورغم القضاء بجثته
خلت وبها للبراح جرت
64
وشكته انتزعت وانثنت
وفطرقل كيد العداة انتوى
65 •••
ثلاثا كآريس كر يصيح
بصوت دوي في الفضاء الفسيح
ثلاثا ثلاثة صيد رمى
وأقبل رابعة يستبيح
فويبك فطرقل قد قضي الأم
ر فاليوم قتلك حتما أبيح
وفيبوس وافاك منحدرا
بظل السحاب بطي الخفا •••
ومن خلفه جاء مستترا
لذلك فطرقل ما شعرا
وألقى على ظهره يده
فعيناه ألهبتا شررا
ودحرج للأرض خوذته
أمام خطى الخيل فوق الثرى
فصلت ودنست العذبات
بنقع الحضيض وسيل الدما •••
تريكة آخيل تلك وما
إلى الأرض قط هوت قدما
ولم تك إلا لذاك الجبين ال
ذي بالفخار سما عظما
وزفس قضى أن تجلل هام
ة هكطور لما هنا أقدما
ولن تلبثن له غير حين
لأن الحمام إليه دنا •••
وعامل فطرقل في كفه
تسحق ينذر في حتفه
وجنته بحمائلها
أميلت إلى الأرض عن كتفه
وحلت عن الصدر لأمته
بصرف أفلون لا صرفه
فأوقف يهلع رعبا وخارت
قواه وغشى حجاه العمى •••
وثمة كان فتى دردني
تفوق في فتية الزمن
بأوفرب فنثوس يعرف وهو
أخو البأس والعدو والحصن
66
لقد كان وهو يكر فتى
تحنكه ساحة المحن
رمى عن صدور العجال من الصي
د عشرين قرما لظهر الحثى
67 •••
فذلك ذلك فطرقل قد
أتاك وظهرك بالرمح قد
وذلك أول قرم رماك
ولكنه خاب فيما قصد
فعامله اجتر ثم جرى
يفر إلى قومه وارتعد
لقد سمته الرعب حتى اتقى
وإن كنت أعزل لا تتقي •••
ولكن فطرقل هد قواه
سنان القناة وروع الإلاه
لذاك تنصل خوف المنون
إلى صحبه لائذا بسراه
وهكطور لما رآه جريحا
تقفاه بينهم ورماه
فشق الصفاق لأحشائه
فخر وقلب ذويه ذكا •••
كأن على الشم خرنوص بر
دهاه على الورد ليث فكر
وفي طلب الوشل اقتتلا
فما انكفأ الليث حتى انتصر
68
كذلك هكطور فطرقل أصمى
وهد به صائحا وافتخر: «زعمت أفطرقل أن لك الج
و من فوق إليوننا قد خلا •••
أخلت بدك معاقلنا
تفوز وسبي عقائلنا
لقومك بالفلك تحملهن
أفاتك طعن ذوابلنا
تعست ألم تدر أن بهكطو
ر تنساب جرد صواهلنا
ليرفع عنهن ذلة رق
برمح بقلب العداة مضى •••
هلكت فرح مطعما للصقور
فهلا كفاك أخيل الثبور
كأني به قال حين الوداع
بتلك الخيام مقال الغرور: «إلى الفلك فطرقل لا عود ما لم
تمن العداة بأدهى الشرور «تمزق عن صدر هكطور درعا
كستها الدماء خضيب الكسا» •••
أجل قوله ذاك مذ أرسلك
وأنت اغتررت بما قال لك»
أجاب على زفرات المنون: «على العجب فوزك قد حملك
بصولة زفس وفيبوس فطرق
ل لا بأس هكطور حتما هلك
هما عرياني من عدتي
وإلا أريتك قطع الطلى
69 •••
بعشرين هكطور مثلك لا
أبالي إذا ما الغبار علا
أصلمهم وسنان قناتي
شحيذ لهم يحمل الأجلا
فإن الردى وابن لاطونة
وأوفرب هم علتي والبلا
70
وما كنت أنت بطعنك لي
سوى ثالث قد تلا ووني
71 •••
ومني خذ نبأ صدقا
ففطرقل بالحق قد نطقا
فما أنت بعدي حي طويلا
فإن الردى بك قد أحدقا
وقد حان حينك فاشق به
قريبا بكف أخيل اللقا»
72
ومن ثم أسبل ظل الظلام
عليه ستار الردى فطفا
73 •••
هوت روحه صببا تستطير
لرب الجحيم بوادي الزفير
هنالك تندب حكم القضاء
وتلك القوى والشباب النضير
وهكطور ما زال يزري به: «علام بحتفي كنت النذير
فمن قال عمر ابن ثيتيس لا
بحد قناتي قبلي انقضى» •••
وعامله اجتر من صدره
وألقاه فيه على ظهره
وفي نفسه قتل أفطمذ
فأقبل ينقض في إثره
ولكن إلف أخيل بخيل
أخيل توارى على قهره
وليست لندرك بين الملا
عتاق بها زفس فيلا حبا
هوامش
النشيد السابع عشر
المعركة السابعة حول جثة فطرقل
مجمله
تحرق منيلاوس لقتل فطرقل فتقدم يدافع عن جثته وكان أوفرب يجردها من السلاح فقتله منيلاوس، وإذا بهكطور مقبل بإيعاز أفلون فتقهقر منيلاوس واستعان بآياس، فأقبل آياس وهكطور يوشك أن يقطع رأس فطرقل فصده آياس فأقبل غلوكوس يؤنب هكطور لتخليه عن سرفيذون والتوائه أمام آياس، فشك هكطور بسلاح أخيل ونادى صحبه فانقضوا مع الإغريق وفزع لمنيلاوس الأبطال من قومه والتحم القتال حول القتيل، وكلهم طامع في الاستيلاء على شأوه، فالتوت الطرواد أمام إياس ولم يكن النبأ قد طار بعد إلى أخيل بمقتل حبيبه، ولما توارت جياد أخيل عن ميدان الحرب ذرفت الدموع حزنا على فطرقل، فرق لها زفس وأهبط عليها قوة جديدة فانثنى أفطوميذ بها إلى ساحة القتال، ثم ألقى بالأعنة إلى رفيقه القيميذ وأخذ يقاتل راجلا فاندفع هكطور وأنياس ونفر من أبطال الطرواد في طلب تلك الجياد، واشتد الكر والفر وجرت جياد أخيل مسرعة فتوارت بالمركبة عن الطرواد، وأخذت أثينا بيد منيلاوس وأفلون بيد هكطور وأرعد زفس فأرعب الإغريق فاستظهر عليهم الأعداء، وأرسل منيلاوس ينمي إلى أخيل موت فطرقل ونكبة الإغريق، وظل الأياسان يدفعان العدو عن جثة القتيل فسار بها منيلاوس ومريون إلى المعسكر، وانهزمت الإغريق إلى ما وراء خندقهم.
وغادرت في الحاف والحفير
ما انهال من سلاحها الكثير
وقائع هذا النشيد في مساء اليوم الثامن والعشرين.
النشيد السابع عشر
لم يخف إلف آرس منيلا
هلاك فطرقل الفتى قتيلا
1
فخف في صدر السرى إليه
بعدة تألقت عليه
ودار حوله العدى يباري
كأنه ثنية الصوار
2
قد نتجت بكرا عليه حنت
وانعطفت من حوله وأنت
قناته وجوبه الثقيلا
مد يروم للعدى تنكيلا
لكن أوفرب الفتى ما زال في
فطرقل فاكرا بذاك الموقف
لذا على مقربة منه وقف
يخاطب الشهم منيلا بصلف: «يا إلف زفس سيد القبيل
تخل لي عن شلو ذا القتيل
إذ كنت في الطرواد والأحلاف
أول طاعن له حذاف
فخلني أحرز جميل الشرف
أولا فأيقن بوبيل التلف»
فنفس أتريذ ذكت توقدا
وصاح: «يا زفس الأب المسودا
ما أقبح الغرور بالنفوس
فما حكى كبر بني فنثوس
لا خيلاء اليبر والليث ولا
رت الفلا المغوار روع الملا
لكن هذا الكبر والغرورا
ما وقيا الفتى هفير ينورا
3
لم تهنه غضاضة الشباب
لما تصدى لي بالسباب
وقال إني ساعة الإبلاء
أجبن من في زمرة الأخاء
غدا ولا عرسا وأما وأبا
يبتهجون بلقاه طربا
فدن إذن وول من أمامي
فليس يغني العجب من إقدامي
ولذ إلى قومك من قبل اللقا
أولا فوقع الخطب يشفي الحمقا»
فلم يزد أوفرب إلا حنقا
وصاح: «يا أتريذ أدركت الشقا
غرك أن بات أخي صريعا
لتؤخذن بدمه سريعا
فعرسه الهدي في أقصى الغرف
أرملة باتت وما كادت تزف
4
وقد أذقت أبويه غصصا
ظل بها عيشهما منغصا
لكن سأروي غلة الحداد
حين بعيد العود للبلاد
لدى فرنثيس وفنثوس يرى
رأسك والسلاح في تلك الذرى
5
والآن فصل القول فالبدار
يعقبه الفوز أو الفرار»
وأطلق الرمح ففي الجوب وقع
لكن عن النحاس في الحال ارتدع
فزفس أتريذ دعا وشهرا
نصلا وأوفرب يسير القهقري
وزج زج واثق عميد
فقطع النصل حبال الجيد
فصل لما خر والنقع جرى
يكسو بديع الشعر ثوبا أحمرا
غدائر كشعر حورا العين
ضفرن بالعين وباللجين
6
كأنه فرخ من الزيتون
غض على مجتمع العيون
ينعشه النسيم والزهور
بيضاء في فروعه تمور
لكنما الإعصار فورا هبت
فاستأصلته من زوايا العزلة
7
فخر أوفرب يحاكي مذ وثب
عليه أتريذ لإحراز السلب
ولم يكن في قوم أوفرب أحد
يلقى منيلا وهو يخلو بالعدد
كأنه ضيغم غاب وثقا
ببأسه وفي الصوار اندفقا
8
ففرس الغرة منها وسحق
عنقها ما بين نابيه ودق
9
ومزق الأحشاء وامتص الدما
والناس والكلاب عجت في الحما
لا تستطيع الذود عنها فالجزع
من رؤية الليث قلوبها خلع
وكاد أتريذ يفوز بالمنى لكن
ذكت غيرة فيبوس هنا
10
كقيم الكيكون ميتيس نهض: «وصاح يا هطور أخطأت الغرض
11
جريت تبغي خيل آخيل ولا
يبلغ منهن سواه الأملا
ألا ترى أتريذ عن فطرقل ذب
وأبسل الطرواد أوفرب ضرب»
ثم مضى عنه وفي الجيش ذهب
وقلب هكطور من البث التهب
سرح ما بين الجموع النظرا
وثمة القرمين حالا أبصرا
ذاك صريع دمه ينفجر
وذا إلى تجريده مبتدر
12
فثار يحكي نار هيفست التي
ما إن خبت قط إذا ما هبت
وانقض في صدر السرى مدججا
بهدة لها منيلا اختلجا
فهاج بثا نفسه يناجي: «ما حيلتي في القدر المفاجي
أأبرح الآن وذا فطرقل من
في الذود عن عرضي وافته المحن
فمن من الإغريق لو رآني
أحجمت عنه الآن ما لحاني
وإن دعتني عزة النفس إلى
كفاح هكطور الذي قد حملا
فخلف هكطور بنو الطرواد
طرا على أني بانفراد ...
لا كان ذا الهاجس من لاقى الأولى
صانتهم آل العلى لاقى البلا
بحكم آل الخلد هكطور هجم
فمن يلومني إذا ألوي القدم
آه ولو لي صوت آياس نمي
لاقتحمت دهم الرزايا هممي
أنا وآياس نخوض الشددا
حتى ولو رب للقيانا بدا
بشلو فطرقل إلى أخيلا
نمضي فيمسي خطبنا محمولا»
13
وبينما هاجسه يثور
وافى العدى في صدرهم هكطور
فغادر الجثة ثم انصاعا
ملتفتا إليهم ملتاعا
كالليث للمربط يوما لاحا
فقابل النباح والرماحا
وارتد مغتما على الأعقاب
كما انثنى أتريذ باكتئاب
14
حتى إذا في قومه حل وقف
مستشرفا يطلب آياس وخف
لما رآه قام أقصى الميسره
مستنفرا إلى الصدام عسكره
وهدهم فيبوس طرا رعبا
صاح: «ألا فورا أياس هبا
نذود عن فطرقل حول جثته
فإن هكطور خلا بشكته
لعلنا وإن عرت عن العدد
لإلفه آخيل نمضي بالجسد»
فهاج آياس أسى ثم انطلق
يجري وأتريذ إلى صدر الفرق
فألفيا هكطور ثم جردا
شكة فطرقل وجر الجسدا
ليأخذ الهامة باقتضاب
ويدفع الجثة للكلاب
يجوبه كالبرج آياس جرى
فعاد هكطور إلى قلب السرى
ثم اعتلى وصاح: «ألقوا لي في
إليون ذا السلاح يسمو شرفي
15
لكن أياس بسط الجوب على
جثة فطرقل وما تقلقلا
كلبوة في الغاب بالأشبال
حلت فبالكماة لا تبالي
تقطب الجفن على مقلتها
صائلة تحمي حما فتيتها
16
وقام أتريذ لدى أياسا
يذكو حشاه كأبة وباسا
فجاء هكطور غلوكس الفتى
قيل بني ليقية مبكتا
صاح به يرمقه ازورارا: «ما كنت إلا هالعا فرارا
يعزي لك البأس جزافا إنما
حالك شفت عن فؤاد أحجما
ألك في جماعة الطرواد
من دوننا حماية البلاد
فقومنا في وجه أبطال العدى
لن يقفوا حول الحصون أبدا
إذ قد أطالوا الحرب والإبلاء
ولم يوافوا فيكم وفاء
ويحك أنى بك عرض الجند
خيرا ترجي بعد هذا الصد
17
وضيفك الحبيب سرفذونا
غادرت غنما للأخائيينا
وقاكم من أزمة الدراهس
وما وقيته من النواهس
18
فرأي الآن على أصحابي
بأن يعدوا أهبة المآب
عنكم إلى الأوطان ينثنونا
فينزل الويل على إليونا
فلو لكم بسالة الشجعان
في ذودهم عن ساحة الأوطان
لجملة صلنا ونحو البلد
سرنا بفطرقل بلا تردد
19
بسرفذون والسلاح الأزهر
يؤمنا العدى بلا تأخر
إذ إن فطرقل أعز الناس
لدى أخيل القرم رب الباس
لكن لآياس الذي تراه
وهنت عزما قبل أن تلقاه
هيهات هيهات فلن تنفردا
له وتدري أنه أسمى يدا»
فقال منعما حديد النظر: «كفاك يا غلوكس أن تفتري
خلتك ذا عقل رجيح قد سما
فق بين ليقية إن حكما
لكن أرى الخلاف فيما تزعم
أني لدى أياس جبنا أحجم
ما راعني الطعن ولا وقع خطى
جرد الوغى لكنما زفس سطا
وهو ولي الأمر قد يخذل من
يحث للإقدام في حر الفتن
20
فادن إلي الآن واشهد تنظر
ذا اليوم من هكطور حق المخبر
أكان مهيابا كما تقول
أم هو محراب وغى يصول
يذل قسرا كل صنديد بطل
للذود عن جثة فطرقل حمل»
وصاح يعلو صوته بين الزمر: «طرواد ليقيون أبناء الظفر
يا آل دردانوس هبوا وقفوا
ببأسكم فذاك ذاك الموقف
وإنني ماض أشك مقبلا
بعدة القرم أخيل عجلا
تلك التي سلبت من فطرقل»
ثم انثنى يعدو حثيث الرجل
فصحبة أدرك من بعد أمد
من قبل أن تبلغ إليون العدد
فثم عن وقع القنا بمعزل
ألقى لهم شكته في العجل
يأمرهم أن يحملوها للبلد
وشك في سلاح أخيل وجد
21
ذاك سلاح ليس بعروه البلا
حباه آل الخلد فيلا البطلا
ولابنه مذ شاخ تلك العدد
ظلت ولن يشيخ فيها الولد
22
وعندما هكطور زفس نظرا
معتزلا بدرع آخيل انبرى
آجال رأسه بنجوى نفسه: «واويحه شت الردى عن حدسه
هكطور قد كاد يوافيك الأجل
وأنت في حلة رواع الملل
صرعت إلفه النبيل الأبسلا
ونلت عنفا منه تلك الحللا
لكنني موليك نصري السامي
جزاء ما أوتيك من حمامي
إذ لن ترى في صرحك ارتياحا
عرسك كي تلقي لها السلاحا»
ومؤمنا بجفنه زفس اعتدل
فناسبت أعضاء هكطور الحلل
23
وحل آريس به فاحتدما
فتكا وبالبأس حشاه اضطرما
فهب بالأحلاف بالهديد
يسطع بالنحاس والحديد
يخوض في صفوفهم مشتدا
يحث للإيقاع فردا فردا
كمستليس وغلوكس الجري
وثرسلوخ ثم ميدون السري
وعسطروف ثم هيفوثوسا
فرقيس ذيسينور إخروميسا
كذلك العراف إينوموسا
يثير في أحشاهم النفوسا: «سمعا أيا قبائلا عديده
أحلافنا والجيرة العميدة
لم أدعكم من دوركم طرا أنا
لتلبثوا حشدا بلا جدوى هنا
بل لتصولوا في لقا الأعادي
ذودا عن النسوة والأولاد
أنفدت رزق الجند زادا وجدا
لكم لتعملوا القنا المجردا
فاندفعوا بالبأس في وجه العدى
والحرب إما ظفر إما ردى
فأيكم أياس صد وانثنى
بشلو فطرقل ولو ميتا لنا
أحيوه نصف الغنم مني أجرا
وهو قريني شرفا وقدرا»
فقوموا السلاح فوق الساعد
واندفعوا دفعة صف واحد
لينقذوا الجثة من أياس
وأويبهم في ذلك الوسواس
فكم كمي منهم سيمسي
من فوق فطرقل فقيد الحس
وبمنيلا صاح آياس: «ألا
ما خلت أنا قد بلغنا الأجلا
ما جزعي لشلو فطرقل لدي
كجزعي الآن عليك وعلي
فإن فطرقل قريبا يغتدي
للطير طعما وكلاب البلد
وذا غمام الحرب فوقنا انطبق
هكطور وهو حيثما حل حرق
24
فقم وناد صفوة الأبطال
لعلهم يسعون للنضال»
فصاح أتريذ بهم يقول: «يا صحب يا رتوت يا قيول
يا من على موائد ابني أترا
من قسمة الجند رشفتم خمرا
ومن حباكم زفس عالي القدر
فقمتم بين السري بالأمر
كيف أراكم وعجاج القسطل
يستر عني كل جند الجحفل
فطرقل كاد الغضف والضواري
ينهشنه هبوا لدرء العار»
فما انتهى حتى ابن ويلوس عدا
أولهم ملبيا ذاك الندا
25
تلاه إيذومين ثم القرم
مريون والكل تباعا هموا
كماة باس لا يحيط الفكر
بعدهم فانبثوا وكروا
ونحوهم جند العدى تقدموا
في صدرهم هكطور ذاك الأيهم
بهدة مثل عجيج البحر
يقذف بالموج لثغر النهر
فتدفع الأمواج فوق الجرف
منتشرات بشديد القصف
ودون هاتيك الجيوش الوافده
تقدم الإغريق نفسا واحده
حول القتيل كثفوا الأجوابا
وزفس ألقى فوقهم ضبابا
يستر براق الترائك التي
أجت وأغراهم بصون الجثة
لأن فطرقل عزيزا حسبا
لديه منذ لأخيل انتسبا
فكره الإغضاء عنه حينا
فيشبع الكلاب في إليونا
ودفع الإغريق بدء الأمر
فانهزموا عن ميتهم بالقسر
ولم يسمهم من الضر سوى
أن القتيل ظل في أيدي العدى
لكنما أياس في الحال انثنى
بهم وفي طليعة الجيش دنا
أياس من بعد أخيل كانا
أجملهم وجها وأعلى شانا
فانقض كالرت بغاب عربدا
والغضف والفتية طرا بددا
26
كذا تبددت لديه الفرق
لما بفطرقل جميعا أحدقوا
إذ يحسبون منتهى فخارهم
بحمله فورا إلى ديارهم
وكان هيفوثوس الشهم الأبر
فرع الفلاسجي ليثوس الأغر
أدار حول قدم القتيل
حمالة وهم بالقفول
يجتره لداخل البلاد
تقربا لسادة الطرواد
فكان ذا على الفتى وبالا
لم يملكوا لدفعه مجالا
إذ إن آياس على الفور زحف
ثم على الخوذة بالرمح قذف
فخرق الدماغ هول المضرب
فانهال بالدماء فوق الثعلب
27
فأفلتت من يده الحماله
وخر فوق الميت لا محالة
28
ويا لها عليه من مصيبه
في البعد عن لريسة الخصيبة
إذ لم يتح له إداء الشكر
لأبويه قصر ذاك العمر
فهب هكطور وبالرمح حذف
لكن آياس عن النصل انحرف
فحل في بأديل إسكيذيسا
همام فوقيا فتى إيفيتسا
قد كان يرعى أمما كثيره
بالجاه في فانوفه الشهيره
فصل مذ خر صريعا يرتجف
وبرز السنان من فوق الكتف
وهب إياس وفرقيس ضرب
إذ دون هيفوثوس كان انتصب
فنفذ السنان في مهجته
بالدرع يلقيه على راحته
فانهزمت طليعة الطرواد
وبينهم هكطور أيضا عادي
والأرغسيون وراهم عربدوا
وبالقتيلين خلوا فجردوا
29
وكادت الطرواد تلوي ذعرا
ونحو إليون تفر قسرا
ويظفر الأغارق انتصارا
وإن يكن زفس لهم قهارا
لكن فيبوس انبرى على الأثر
وفي مثال ابن إفيتوس ظهر (ألفيج فبريفاس من شاخ لدى
أبيه ذاك الشيخ رغام العدى
له انتمت إصالة الآراء)
فحث أنياس على الإبلاء: «أما أتاك كيف تحمى الدار
حتى ولو قاومت الأقدار
بالكر مثل كرة القوم الأولى
بلوت في طي زمان قد خلا
بالعزم والإقدام جدوا الجدا
وباس أجناد تقل عدا
زفس لنا أحرز مذخور الظفر
وكلكم أحجم بالجبن وفر»
فلم يفت أنياس لما أحدقا
بأنه رب السهام مطلقا
فصاح يعلو صوته الهدار: «هكطور يا طرواد يا أنصار
العار كل العار أن نرتدا
تجاه إليون بعزم هدا
والآن لي لاح من الأرباب
رب تصدى لي بالخطاب
وقال: إن زفس قيم الظفر
ظهيرنا إيه فأحسنوا المكر
فطرقل ذا لا تدعوا الإغريقا
يلقوا به لفلكهم طريقا»
وانقض في صدرهم ووقفا
والجيش من وراه طرا زحفا
فزج عن ساعد باس قاس
يردي ليقريط بن آرسباس
وكان ليقوميذ إلفه يرى
فهاجه البث ونحوه جرى
وأرسل العامل رميا يرمي
أفيسوون بن هفاس القرم
فحل في كبده فانطرحا
وكان من فيونة قد برحا
ولم يكن من بعد عسطروف
فتى حكاه في أولى الصفوف
فثار عسطروف ثم وثبا
فلم ينل من الأخاء مأربا
تدرعوا بشدة البؤوس
وراء معقل من التروس
وبسطوا من حول فطرقل القنا
إذا بآياس يصيح علنا: «عن شلو فطرقل إلى الوراء
لا تلتووا يا معشر الأخاء
ولا تهبن إلى الأمام
بل حوله ذودن بالإقدام»
فاشتبكوا والنقع كالسيل جرى
فألبس الحضيض ثوبا أحمرا
وانبسطت فوق الثرى الأشلاء
رصت كثافا ما لها إحصاء
أقلهم قتلى الأخائيينا
إذ هم قاموا متكاثفينا
يدرأ بعض وافد المنون
عن بعضهم كراسخ الحصون
والتحم القتال كالأوار
وانتشرت سحابة الغبار
حتى كأن الشمس بادت والقمر
مما لدى فطرقل في الجو انتشر
لكنهم في سائر الأطراف
تلاحموا تحت رقيع صاف
لا غيم يعلو الأرض والجبالا
والشمس يزهو نورها جمالا
بينهم بون فهم يبلونا
غبا وهول الحرب يتقونا
30
وظلمة النقع بحر الحرب
ما فتكت إلا بجند القلب
وولدا نسطور في الجناح
ما شعرا بالنبأ الفضاح
31
بل حسبا فطرقل في الصدور
حيا دهى الأعداء بالثبور
جيشهما انحل فخلف الجحفل
ظلا يذودان اتقاء الفشل
بأمر نسطور الحكيم عملا
إذ بهما إلى الخلايا أرسلا
ودام حول جثة الجديل
مشتجر الرماح للأصيل
حتى وهت أعضاء تلك الفرق
من عيها وسبحت بالعرق
فالتوت الركبة والشظيه
خارت تقل القدم المضويه
وكفت الكف وكف البصر
والجسم طرا سابح معفر
تألبوا تألب الأتباع
بأمر سيد لهم مطاع
داروا حوالي جلد ثور مدا
والشحم سيال عليه امتدا
تجاذبوا حتى البلال نضحا
والشحم للجلد مليا رشحا
32
وهكذا تجاذب القومان
جثة فطرقل بجهد العاني
قوم به أسطولهم يبغونا
ولحما إليون آخرونا
بينهم قد حمي الوطيس
بهمة ما عليها آريس
ولا رمتها آن الاحتدام
فالاس بالتثريب والملام
33
يوم به زفس على الأجناد
والخيل أورى جذوة الجهاد
والحرب في بون عن السفين
أجت على مقربة الحصون
لذاك لم يحط أخيل علما
بما بفطرقل هنا ألما
بل ظنه حيا أتى الابوابا
فينثني ويحسن المآبا
إذ لم يكن في الغيب أن البلدا
لبأس فطرقل يدين أبدا
حتى ولو أخيل انقض معه
ذلك سر من ثتيس سمعه
أوحت إليه غيب زفس في القدر
مخفية مصاب إلفه الأبر
هناك ظل نافذ السنان
يصمي فيصطك به القومان
يشجع الإغريق بعض بعضا: «للفلك عود العار أنى نرضى
خير لنا يا قوم أن ينشقا
جوف الثرى وفيه طرا نلقى
من أن نرى قتيلنا يغيب
بين العدى وسعينا يخيب»
وضجت الطرواد في الصفوف: «لا تنثنوا عن موقف الحتوف
حتى ولو طرا أبادنا القدر
من حول فطرقل وفاتنا الظفر
وفي الرقيع طار فوق المعمعه
لقبة النحاس صوت القعقعه
34
هذا وصافنات آخيل انبرت
في عزلة تذرف دمعا مذدرت
بأن رواض متونها هلك
وفيه هكطور أخو البأس فتك
35
لم يجد أفطميذ سوط الجبر
على تلطف بها أو زجر
وقد أبت تسير نحو البحر
للفلك أو نحو السرى أن تجري
بل لبثت صماء كالعمود
على ضريح سيد عميد
أو قبر ذات عزة وشان
وأطرقت في الأرض بالبحران
36
وهي لدى المركبة العجيبة
بلا حراك تندب المصيبه
والدمع من بين مآقيها جرى
من كبد حرى إلى وجه الثرى
وانبسطت أعراقها المخضبه
مسدولة من فوق عرش المركبه
فلأساها رق زفس وانعطف
وهاج رأسه على ذاك اللهف
وقال في نجواه: «أواه لما
بكم حبونا الملك فيلا قدما
فهو مليك لبني الموت انتمى
وأنتم لا هرم ولا فنا
ويحكم أكان ذا في القدر
حتى تمنوا بشقاء البشر
إذ ليس فيما دب أو تنفا
أشقى من الإنسان بؤسا وأسى
لكن مه فلن يرى هكطور
بكم على مركبة يغير
فلن أتيحن له هذا كفى
أن تاه في درع أخيل شرفا
وها أنا في هول ذياك اللجب
موليكم قوة قلب وركب
لتنقذوا من ساحة الهيجاء
سائقكم للسفن الحدباء
إذ قد أتحت الفتك والتنكيلا
للقوم حتى يبلغوا الأسطولا
حتى يوافي الغروب المؤنس
من ثم يتلوه الظلام الأقدس
37
ونفخ القوة فيها فمضت
وعن نواصيها غبارا نفضت
طارت وأفطميذ منقض بها
مثل العقاب البط في الجو دها
لم يثنه البث على الرفيق
عن موقف الطرواد والإغريق
كرا وفرا جرده تطير
وهو على غير هدى يسير
يهزمهم وليس يصمي أحدا
مذ ظل في كرسيه منفردا
إذ لم يكن في حيز الإمكان
تدبر العنان والسنان
38
أبصره الشهم ابن لا يرق فهب
ومن ورائه على الفور انتصب
قال: «أأفطميذ من أغواكا»
وأي رب سالب هداكا
دفعت مفردا بصدر الفيلق
آه على إلفك فالتحف لقي
أورده الردى ابن فريام وظل
يعتز مذ بثوب أخيل رفل»
قال أألقميذ من في الجند
يثير أو يكبح جرد الخلد
سواك من بعد الفتى فطرقل من
آل العلى حاكى ذكاء وفطن
لكنما فطرقل أواه مضى
ينفذ فيه الموت أحكام القضا
فدونك الصروع والسوط هنا
حتى على الأعداء أنقض أنا»
فاحتل ألقميذ بطن العرش
وأفطميذ انحاز عنه يمشي
فصاح هكطور لدى مرآه
ذاك بأنياس الذي حاذاه
وقال: «يا أنياس يا عضيدي
انظر فقد أبصرت من بعيد
مطهمي أخيل منقادين
لسائقين في الوغى غرين
فإن تكن أنت ظهيري في الطلب
أحرزهما غنما ويا نعم السلب
فما لسائقيهما من شدة
على لقائنا ودفع الصدمة»
فانقض آياس وما ترددا
واندفعا قرمين قد توقدا
بجنن فيها على سبت البقر
صفائح النحاس تبهر النظر
39
معهما استطار إخروميس
وذو المحاسن الفتى إريتس
طرا بغوا بالفارسين شرا
والعود في تلك العتاق ذخرا
ضلوا فما هم قط راجعونا
ما لم يريقوا الدم خاسرينا
زفس دعا يضرع أفطميذ
فاشتد ثم صاح: «ألقميذ: «بهذه الجياد قربي ظلا
بعاتقي أنفاسها تحلا
40
فإنما هكطور لا ينفك ما
لم ينل النصر ويسفك الدما
ويدفع الجياد والجنودا
يفلها مبددا مبيدا
أو إننا في صدر جيش النبلا
نظفر فيه خاسرا مذللا»
من ثم صاح: «يا أياس الأكبرا
ويا منيلا يا أياس الأصغرا
عن جثة القتيل عبء الصد
ألقوا به لخير بهم الجند
وأدركونا نحن حيان وقد
برز هكطور وأنياس وفد
بصفوة الطرواد طرا أقبلوا
ونحونا كل قواهم حولوا
لكنني أبلي ولا أبالي
على ولاء زفس اتكاي»
41
رمى ورمحه مضى يغل
وفي حشا إريتس يحل
ما صده المجن بل منه مرق
إلى نجاده وأحشاه اخترق
فهب هبة ومن ثم انحرف
مسلنقيا والنصل مرتجا وقف
كأنما ذو شدة وبأس
قابل ثورا بشحيذ الفأس
من منبت القرنين بت العرقا
فهب ثم خر ثم اسلنقى
فخف هكطور وفورا طعنا
لكن أفطميذ في الحال انحنى
فذهب السنان من فوق الكتف
مرتكزا في الأرض عنفا يرتجف
وأوشك القرمان يصطكان
بالسيف دون الرمح والسنان
لولا إلا ياسان اللذان اندفعا
لرفد أفطميذ لما سمعا
فارتاع هكطور وصاحباه
وانقلبا والميت غادراه
منطرحا ممزق الأحشاء
فهب أفطميذ كالأنواء
وجرد العدة عنه وابتدر
يصيح: «عن قلبي انجلى بعض الكدر
وإن يكن فطرقل لا يقاس
بذا الفتى ولو بلاه الناس»
ووضع العدة فوق العجله
ثم اعتلى منتصبا بالعجله
مخضب اليدين والرجلين
كالليث ثورا رض بالكفين
هناك عج حول فطرقل الوحى
يثير خطبا فادحا مبرحا
وانحدرت فالاس من أعلى السما
بأمر زفس لإراقة الدما
أنفذها لتنصر الأخاء
إذ شاء أن يبدل القضاء
وسط سحابة من البرفير
حلت على شأن لها خطير
كأن في قلب السما قوس قزح
ألقاه زفس منبئا بما سمح
42
ينذر بالحرب وقر العام
وأزمة الحارث والسوام
43
فانخرطت بينهم في السحب
تحثهم من طي تلك الحجب
ثم حكت فينكس شيخا أكملا
تخاطب الشهم منيلا أولا: «العار والشنار أن تمزقا
غضف العدى خل أخيل الأصدقا
قم لا يزعزعك هزيع الحرب
وصل مثيرا بأس كل الشعب»
قال: «أجل يا أبتا الشيخ ألا
ليت أثينا عضدي في ذا البلا
حتى تبين وابل النبال
عني ففطرقل أقي في الحال
فإن موته فؤادي فطرا
لكنما هكطور كالنار انبرى
ولم يزل يعمل باري الحد
لأن زفس خصه بالمجد»
فطربت إذ ذاك مما وجها
دعاءه قبل بني الخلد لها
فشددت بالحزم منكبيه
وصلبت بالعزم ركبتيه
وحام حول الميت حيث انبعثا
كأنه الذباب غرثانا عثا
44
يدفعه المرء فلا يظل
يمتص من دم لديه يحلو
كذا منيلا الدم بالبأس سفك
بنصل رمح حيثما حل فتك
وكان في الطرواد علج يسعى
بفودس بن إيتيون يدعى
ذو دولة وصولة يجله
هكطور وهو ضيفه وخله
لم يرع مثله فتى فذاكا
أورده أتريذ الهلاكا
45
ولى فغاص النصل في نجاده
لجوفه يمرق من فؤاده
فخر والعدة صلت وعدا
يجتره أتريذ من بين العدى
فجاء آفلون هكطور على
شكل ابن آسيوس فينفس العلا
من صرح آميدوسة قديما
ضيفا لهكطور أتى كريما
46
فقال: «من هكطور يخشاك إذا
حاذرت من سطوة أتريذ الأذى
ما إن عهدت البأس فيه قبلا
وهو تراه قد جرى وأبلى
واجتر من بين سراكم مفردا
جثة فودس الذي أولى الردى»
غشى ابن فريام غمام الغم
فانقض يجري بالسلاح الجم
إذ ذاك زفس هز للإرهاب
مجنه الباهر ذا الهداب
فغشيت إيذة دهم السحب
بالبرق والرعد المخوف المرهب
يشير للطرواد بالغنيمه
ولبني الإغريق بالهزيمه
ولى فنيلاس البيوتي أولا
مذ كان في صدر السرى مستقبلا
فزجه فوليدماس الباسل
فشق حتى العظم منه الكاهل
وانقض هكطور وليطوس ضرب
بقبضة الكف فولى وهرب
ملتفتا من كل صوب يئسا
من ملتقى العدى بزند يبسا
في إثره هكطور كالبرق ركض
لكن إيذومين في الحال اعترض
بطعنة بالثدي كادت تنشب
لكن ببطن الدرع قض الثعلب
فصاحت الطرواد والمطعون
زج فما أصيب إيذومين
قد كان واقفا على مركبته
فمال والنصل مضى بشدته
إلى فتى مريون قيرانوسا
تابعه الأمين من لقطوسا
كان إذومين من الخيام
قد جاء عاديا على الأقدام
وأوشك الطرواد يحرزونا
بموته نصرا لهم مبينا
لكن قيرانوس وافى بالعجل
إليه فامتطى على خير العجل
من العدى أنجاه لكن ما نجا
ونصل هكطور بفيه ولجا
في الفلك تحت الأذن والأسنانا
سحق ثم استأصل اللسانا
فخر والعنان من يديه
أهوى فمريون انحنى عليه
تناول الصرع وإيذومينا
دعا: «ألا سط واطلب السفينا
47
أما رأيت النصر عنا ولى
فما إليه من سبيل أصلا»
فخف نحو الفلك بالجياد
مرتعدا منخلع الفؤاد
رأى منيلا وأياس حالا
أن العدى زفس إليهم مالا
وقد حباهم ببتات النصر
فصاح آياس بضيق الصدر: «ذو العلم ويلا والجهول أبصرا
زفس اجتبى اليوم العدى ونصرا
فكل سهم منهم طار قتل
سيان إن رماه نكس أو بطل
فإنما زفس هو المصوب
وسهمنا يطيش حيث يذهب
48
فلنفكرن الآن مهما كانا
برد فطرقل إلى حمانا
لعل جندنا تسر طربا
بعودنا فيه وإن ساء النبا
هدهم لا شك فرط الحزن
لما رأوا من هول هذي المحن
فما يخالون بنا من شدة
لصد هكطور بهذي الشدة
بل حسبوه لن يكف حتى
يعلو الخلايا والسرى يبتتا
آها ألا نلقى لنا رسولا
يطير بالأنباء لابن فيلا
ظني به لا زال يجهل الخبر
بقتل إلف ود من فوق البشر
أواه لكن كيف بالوصول
فما إلى الرسول من سبيل
فحجب الظلام بانسدال
على السرى والخيل والعجال
يا زفس أيها الإلاه الأكبر
أنر على الإغريق حتى يبصروا
من جوك امحق حندس الديجور
ثم امحهم إن شئت وسط النور»
49
فرق للدموع زفس وانصدع
وبدد الضباب والغيم قشع
وسطعت في ساحة الكفاح
شمس العلى بنورها الوضاح
فصاح آياس: «منيلا هيا
علك أنطيلوخ تلقى حيا
فقل له بالخبر المشئوم
يمضي إلى أخيل الغشوم»
50
لبى منيلا ومضى كالضاري
أجلي عن حظائر الأبقار
صدته غضف ورعاة ظلت
ترصده الليل وما تخلت
ولم تبح له سمين الشحم
فصد غرثانا لذاك اللحم
تهمي عليه في الظلام الدامس
شهب القنا ولهب المقابس
لم يجده الباس وقبل الفجر
ممتعضا ولى بكيد النحر
كذاك فطرقل منيلا كرها
غادر يخشى وقع خطب أدهى
يخشى إذا الإغريق هد الجزع
ولوا وفي أيدي العداة يقع
فصاح: «يا أياس يا مريون
يا زعماء الجيش لا تبينوا
وادكروا أخلاق فطرقل وكم
برقة الجانب للكل اتسم
واويحه كم من يد بيضاء
له قبيل الحتف بالقضاء»
ثم انبرى مستشرفا حيث جرى
كالنسر أحدق الطيور بصرا
ذاك الذي من قلة السحاب
أبصر خرنقا بوعر الغاب
51
ومن عباب الجو كالبرق انحدر
وأنشب المنسر في لمح البصر
كذا منيلا لحظك النقادا
سرحت ما بين السرى ارتيادا
عل ابن نسطور لديك يبدو
حيا فتجري نحوه وتعدو
إذا به ميسرة الأجناد
يستنهض الهمات للجهاد
فخف نحوه وصاح: «ادن ترى
يا أنطلوخ الصادع المفطرا
خطب بنا يا ليته ما حلا
جل وظني بك تدري جلا
تدري لنا أعد زفس العارا
وانحاز عنا للعدى انتصارا
فطرقل ذياك الهمام الأروع
ميت وهد القوم منه المصرع
طر لأخيل عله في حسرته
ينهض في طلاب عاري جثته
قل سوف يلقى جسمه مجردا
لأن هكطور استباح العددا»
أصاخ أنطلوخ واقشعرا
وظل صامتا يطيل الفكرا
ففاض دمعه وقلبه انخلع
وصوته الهدار في الحال انقطع
52
لكنه لبى منيلا وهرع
من بعدما سلاحه حالا نزع
ألقى به للوذق الجواد
ظهيره وسائق الجياد
وغادر العسكر والدمع همى
بنبأ جل وخطب دهما
أبعدت أنطلوخ يا منيلا
ولم تقم مقامه بديلا
ساء بني فيلوس أن قد نزحا
عنهم وجهد العي فيهم برحا
أمر فيهم ثرسميذ المجتبى
ونحو فطرقل عدا منقلبا
ولم يقف حتى الأياسين أتى
فقال: «قد أنفذت للفلك فتى
أنفذت أنطلوخ بالأنباء
إلى أخيل المستبد الناءي
لكن على هكطور مهما اشتعلا
غلا فهل نراه يبلي أعزلا
إذن علينا عهدة التبصر
بحمل فطرقل إلى المعسكر
والعود عن مشتجر السيوف
تملصا من داهم الحتوف»
قال أياس بن تلامون: «أجل
بمثل هذا القول من قال عقل
أنت ومريون احملا الفقيدا
واندفعا عنا به بعيدا
خلفكما نقارع الأعادي
صدا لهكطور وللطرواد
إني وآياس الفتى قرنان
بالبأس واسما متشابهان
فكم كبحنا قبل علجا أروعا
وكم تحالفنا على الكر معا»
وما انتهى حتى سريعا عمدا
ورفعا الجثة ثم ابتعدا
فضجت الطرواد ثم اندفعت
كالغضف دون فتية الصيد سعت
تعقبت رتا جريحا طمعت
فيه فمال نحوها فجزعت
وانهزمت يدفع بعض بعضا
كعسكر الطرواد لما انقضا
تأثروا الإغريق بالمغاول
نفحا وخزا بظبى العوامل
53
حتى إذا ضاق المجال انعطفا
كلا الأياسين لهم ووقفا
فامتقعوا لونا وخاروا ووهوا
وجملة عن طلب الشلو سهوا
وذانك القرمان نحو الفلك
خفا به فثار نقع الفتك
كالنار شبت تحت قصف الريح
في بلد جم الذرى فسيح
فالتهمت منازل السكان
وهدر النوء على المباني
ذلك عج الجيش والخيول
خلفهما في طلب الأسطول
ولبثا بالشلو يجريان
كما من الشم جرى بغلان
جدا بجذع حملا متين
أعد فوق الغاب للسفين
توغلا بشدة في الوغر
بعرق في الجهد رشحا يجري
أما الأياسان فمن خلفهما
قد حكيا في بطن واد علما
54
في وجه مجرى النهر جبارا يقف
فصاغرا عنه سريعا ينعطف
كذا الأياسان بوجه الفرق
صدا سرايا جيشها المندفق
لكنما الطرواد ظلوا في العقب
أنياس يغريهم وهكطور يثب
قرمان ضجت لهما الجيوش
وانهزمت بالرعب تستجيش
حكوا سحابة من الزرازر
ولت لدى منظر صقر كاسر
رأت به موتا لها زؤاما
فانهزمت من وجهه انهزاما
كذلك الإغريق في كشفتها
مذعورة ولت على ذلتها
وغادرت في الحاف والحفير
ما انهال من سلاحها الكثير
وليس هذا منتهى القتال
وعبث الأزمة والوبال
55
هوامش
النشيد الثامن عشر
تفجع أخيل على فطرقل ووصف الترس الذي صنعه له إلاه النار
مجمله
جرى أنطيلوخ إلى أخيل فأنبأه بموت فطرقل، فبكى أخيل وانتحب، وأخذ منه الحزن كل مأخذ، فسمعت أمه ثيتيس أنينه وهي في لجة البحر، فصعدت إليه مع بنات الماء فأخذت تصبره وهو لا يتصبر، ولا يرى إلا الانتقام لرفيقه وحبيبه، وكان فطرقل قد ذهب بسلاح أخيل فبقي أعزل لا قبل له بالتقاء الأعداء على تلك الحال، فثبطته أمه ريثما تحضر له شكة في اليوم التالي مع صنع إلاه النار، فصرفت زميلاتها وصعدت إلى الأولمب فتلاحم الجيشان حول جثة القتيل، وكاد هكطور يظفر بها لو لم تأت إيريس من قبل هيرا، وتأمر أخيل بالإقبال من بعيد على الطرواد، فأقبل إلى حافة الخندق وصاح ثلاث صيحات فارتاع الطرواد وانهزموا وخلا الإغريق بجثة فطرقل، وأتوا بها قبيل المغرب إلى خيمة أخيل، وعقد الطرواد مجلسهم فأشار فوليداماس بالتحصن في المدينة فأبى هكطور إلا البقاء خارجها، فقضوا ليلتهم متيقظين والإغريق وأخيل يندبون فطرقل فغسلوه وطيبوه، وأما ثيتيس فدخلت صرح إلاه النار فرحبت بها زوجته، ثم أتاها بنفسه فبثت له شكواها والتمست سلاحا لابنها، فدخل معمله واصطنع الترس العجيب والدرع والخوذة والخفين وألقى بهن إليها، «فاندفعت بها اندفاع الصقر».
وقائع هذا النشيد في اليوم التاسع والعشرين وليلة الثلاثين، ومجرى حوادثه في مضارب أخيل وفي منزل إلاه النار.
النشيد الثامن عشر
صدامهم كأوار النار محتدم
وأنطلوخ به قد خفت القدم
ألفى أخيل لدى الأسطول يخبط في
بحرانه قلقا مما بدا لهم
1
يئن وهو يناجي النفس مضطربا: «ويلا علام أرى الأرغوسة انهزموا
ولوا عباديد نحو الفلك شاردة
هل جل خطب به الأرباب قد حكموا
2
خطب به أوعزت ثيتيس قائلة: «بهم المرامد يلقى الحتف خيرهم
3 «يغيب عنه ضياء الشمس فاتكة
به الأعادي وحي أنت عندهم»
لا شك فطرقل أودى ويحه أفلم
أقل له دونك النيران تضطرم
أخمد شرارتها وارتد مجتنبا
هكطور لا تنخرط إياك وسطهم»
تلك الهواجس هاجت بثه فإذا
بأنطلوخ بدا والدمع ينسجم
قال: «ابن فيلا مصاب قد دهمنا به
يا حبذا لو بنو العلياء ما دهموا
فطرقل ملقى وهكطور بشكته
والجسم عار عليه النقع ملتحم»
4
فما انتهى أنطلوخ من مقالته
حتى محيا أخيل غشت الغمم
5
وفوق طلعته الغراء وهامته
براحتيه سناجا ذر يلتطم
6
فاسود منه محياه وقد علقت
بطيب أثوابه آثاره السحم
7
أكب يشغل ميدانا بقامته
تمرغا وهو زاهي الشعر يصطلم
8
وحوله انطلقت تبكي مولولة
تلك السبايا التي غصت بها الخيم
9
غيد أخيل وفطرقل ببأسهما
قد أحرزا سلما يا حبذا السلم
10
لطمن بض صدور والتوين أسى
فسح من أنطلوخ المدمع الرذم
11
ذرعيه أمسك حتى لا يثور أسى
ونحره يلج الصمصامة الخذم
12
فأن عن ألم من ضيمه فمضى
حتى لثيتيس ذاك الضيم والألم
13
فصعدت من عباب البحر زفرتها
حيث استقر أبوها نيرس الهرم
14
وحولها ثم في الأعماق قائمة
في اليم كل بنات اليم تلتئم
غلوكة قيمذوكا ثاليا وثوا
وآليا من بعين الحور تتسم
صفية نيسيا أكتا قموثوة
لمنورة ذروس فانوب أمفنم
أمفيثوا ذينمينا ذكسمينا ذتو
غلاطيا الحسن من شاعت لها الشيم
وحولها ياريا ميليت آغبيا
فيروز قليانرا إفروط تزدحم
وأفسذيس نميريتيس قلينسا
أماثيا من بشعر زانها وسموا
ياناس يا نير إقليمين أورثيا
ما يير والكل ضمن الكهف ينتظم
15
كهف لها أبيض حسنا فارتكمن به
وفيه كل بنات البحر ترتكم
ولولن ولولة ثم التطمن معا
وولولت عن فؤاد كاد ينفصم
صاحت: «أخيات سمعا وانتبهن إذا
لنقمة قد عرتني دونها النقم
ويلاه ويلاه من أم لقرم وغى
عن شأوه قصر الأبطال كلهم
أنشأته مثل غصن طاب منبته
في روضة فإذا بالسادة اختصموا
16
بالفلك أنفذته للحرب واحربا
والآن موطن فيلا دونه حرم
17
ما زال حيا عليه الشمس ساطعة
وفي حشاشته من ضيمه ضرم
لا أستطيع له عونا وها أنذا
فورا لرؤيته ذا الحين أغتنم
أرى الحبيب فأدري ما ألم به
من محنة وهو عن قرع القنا وجم»
وغادرت كهفها يصحبنها وغدا
أمامهن عباب البحر ينقسم
حتى إذا ما بلغن السهل سرن إلى
حيث المرامد تلك الفلك قد نظموا
وحيث حوليه قد أرسوا عمارتهم
فأسمعت زفرات هاجها السأم
دنت وأنت وضمت رأسه لهفا
وكلمته تجاري دمعها الكلم:
18 «بني ماذا الأسى ما الدمع تذرفه
بح لي فبثك عني ليس يكتتم
ألا ترى زفس ذاك الوعد بر به
لما بسطت له كفيك تظلم
ناشدته مذ عن الإغريق بنت إذن
في وجه فلكهم كيدا يكيدهم»
19
فأن عن كبد حرى وقال: «أجل
قد بر ويلاه فيما قد أذاقهم
لكن إذا اخترمت أبطال صيدهم
ما نالني والفتى فطرقل مخترم؟
20
فطرقل أرفعهم شأنا وأعلقهم
بمهجتي لا تضاهيه قرومهم
بهامتي كنت أفديه فوا لهفي
عدمته مثلما كبارهم عدموا
من بعد مصرعه في صلد شكته
هكطور ذو القونس الطيار محتكم
21
سلاح خلد من الأرباب أهديه
فيلا فما حصرت تقويمه القيم
فيضا أنالوه لما كنت قسمته
يا حبذا لو له إنسية قسموا
22
فلو بقيت ببطن البحر قاطنة
ما نلت من إنس أهل الأرض ضيمهم
وما تألمت لابن لن يأوب إلى
أوطانه وهو بحر الموت يقتحم
لا عيش لي فسناني اليوم تنفذه
كفي لهكطور عن فطرقل أنتقم»
صاحت وسحت على الخدين عبرتها: «إذا حياتك كادت آه تنصرم
هلاك هكطور يتلوه هلاكك لا
مرى» فقال: «إذن يا حبذا الشبم
23
يا حبذا الموت إذ غلت يدي سلقا
عن صون إلفي لما اشتدت الإزم
فطرقل أودى ولم أبرز لجانبه
أقيه من صدمات تحتها اصطدموا
فلم أصد زؤام الموت عنه ولم
أرد عن فتية هكطور فلهم
فالموت فالموت لا عود ولا وطن
إذ لم أهب إلى الهيجا أصونهم
حملا على الأرض لا جدوى لثقلته
ظللت دون أساطيلي تجاههم
لئن يفق بسداد الرأي بعضهم
فإنني بقراع الصم فقتهم
فلتهلك الفتنة الدهما التي عبثت
بالجن والإنس حتى افتل شملهم
وليهلك الغيظ من بين الأنام فكم
أغرى وأوغر منقادا حكيمهم
كالشهد في الصدر يجري وهو منتفخ
مثل الدخان به أهل العيون عموا
أتريذ حد مني غيظا وذاك خلا
فلنغض ولنمض مهما برح الأضم
24
نعم سأطلب هكطور الذي فتكت
كفاه في قمة تعنو لها القمم
حتى إذا شاء زفس في بطانته
موتي فإن حياتي تلك دونهم
هرقل لم يغن عنه بأسه وولا
زفس فأودى وإن أولوه ودهم
أصابه كيد هيرا والقضاء إذن
فلألق ميتا إذا كانت كذا القسم
وليس من شاغل ذا اليوم يشغلني
إلا ادخار على تسمو به الهمم
والدردنيات بضات الصدور يرى
لهن دمع سخين جريه ديم
25
يمسحن ما سح عن غض الخدود وقد
هاجت تلهفهن الأبؤس الدهم
يعلمن أن اعتزالي طال فاغتنم ال
أعداء بوني وإني الآن بينهم
ما أنت مهما بذلت النصح مانعتي»
قالت: «أجل أحكمت في قولك الحكم
26
وافخر من عن سراياه وأسرته
أزاح بالبأس خطبا جل هالهم
لكن شكتك الغراء فاز بها ال
عدى وهكطور فيها الآن متسم
ما خلته يتمادى عهده زمنا
علمت ساعته حانت وما علموا
فلا تلج لجج الهيجاء مقتحما
حتى تراني غدا والفجر يبتسم
في شكة من لدى هيفست شائقة
أعود فأبل بها وافتل جمعهم»
وغادرته وقالت للحسان: «إلى
م الشيخ والدنا بالصبر معتصم
لجن العباب إذن بلغنه وأنا
هيفست أطلب فهو العهد يحترم»
فغصن وهي استطارت تبتغي مددا
في الخلد حيث استقر المجد والعظم
ما زالت الطرواد تحت القسطل
من وجه هكطور المدمر تنجلي
بلغت على صلقاتها أسطولها
وقتيلها تحت النبال الهمل
كشرارة هكطور هب يرومه
بعجاله ولفيف ذاك الجحفل
أحنى ثلاثا قابضا قدميه وه
و يصيح يا جند الطراود أقبلي
وكذا ثلاثا صده عزم الأيا
سين المذلل عزم كل مذلل
لكنه ما انفك عن عزماته
متدرعا بزماع قرم قيل
متربصا طورا يهد وتارة
يلج العباب بكرة المستبسل
لم يبلغا أربا به لكنه
من حول ذاك الشلو لم يتحول
كالليث ضوره الطوى بفريسة
يخلو ويزري بالرعاة البسل
ولربما بمناه عاد مظفرا
لو لم تلح إيريس ترمح من عل
أمت أخيل من الألمب فأقبلت
كالريح تنذر بالوبال المقبل
هيرا أسارتها فلم يعلم بها
زفس ولا أرباب ذاك المحفل
قالت: «أخيل وأنت مغوار الوغى
للذود عن فطرقل كر وعجل
دون السفائن تحت مشتجر القنا
حوليه كم قرم يخر مجندل
ما بين حام يستشيط وحائم
بالشلو إليونا يروم ويصطلي
وأشدهم هكطور يدفعه المرا
م لفصل هامته وبت المفصل
من ثم تعرض للهوان على القنا
أفتلبثن عن الكفاح بمعزل
كرن أو فطرقل بين نواهس
في ساحة الأعداء جثته تلي
فإذا بها عبثت فأية حطة
أبدا تسومك ذلة المتذلل»
فأجاب: «إيريس ومن أسراك لي»
قالت: «حليلة زفس ذي الطول العلي
لم يدر بي زفس وسائر من ثوى
بذرى ألمب بالثلوج مكلل»
فأجاب: «آه وكيف أقتحم الوغى
وأخوض لجتها براحة أعزل
ملك العدى عددي وأمي حتمها
أبقى هنا بتربص المتحمل
حتى أراها أقبلت في شكة
قد دقها هيفست أعظم صيقل
أولا فأي فتى بشكته أرى
غرضي خلاف مجن آياس الملي
وأياس من حول القتيل إخاله
قد حام يطعن في الخميس الأول»
قالت: «علمنا كل ذلك إنما
إن تبد للطرواد دون المعقل
ذعروا وصحبك يانسون بجهدهم
فعلى البروز لدى سراهم عول
ضاقت منافسهم وفي دار والوحى
هيهات تؤمل راحة لمؤمل»
طارت فهب فألبسته مجنها
فالاس في هدابه المسترسل
وعلى محياه غمامة عسجد
ألقت يفيض لها لهيب المشعل
فكأنما بلد بقلب جزيرة
حصرت علا منه الدخان المعتلي
خرجت بنوه إلى مبارزة العدى
وقضوا نهارهم بقرع الأنصل
حتى إذا برحت براح تألقت
نيرانهم من تحت ليل أليل
27
أملا بجيرتهم ترى فتمدهم
بعمارة تجلي العدو المبتلى
وكذا أخيل لهيب هامته سما
حتى الرقيع لمقلة المتأمل
فوق الحفير أقام لا يطأ الوغى
إذ عن مقالة أمه لم يغفل
بالقوم صاح وصوت فالاس علا
فتقلقل الأعداء أي تقلقل
كالصور خلف السور ينفخه العدى
تحت الحصار تبينوا الصوت الجلي
صدعوا وأعراف الجياد تطايرت
جزعا وفرت خيلهم بتجفل
بعجالها انقلبت تفر بساقة
ذعرت لذياك اللهيب المنجلي
من حول هامته أثينا أججت
ذاك السعير يروع عين المجتلى
فوق الحفير علا ثلاثا صوته
وكذا ثلاثا أجفلوا بتبلبل
وتجندل اثنا عشر من أبطالهم
برماحهم تحت العجال العجل
28
فخلا بفطرقل الأغارق وانثنوا
نائين عن مرمى الرماح الدبل
وضعوه فوق سريره وتقاطرت
خلانه تبكي لهول المقتل
وافاهم آخيل منتحبا على
إلف به لعبت حدود المنصل
هو ساقه للحرب فوق جياده
لكنه وا ويحه لم يقفل
فهناك هيرا أنقذت شمس العلى
فتخللت بطن العباب لتختلي
فتثبط الإغريق عن هجماتهم
وتربصوا تحت الظلام المسبل
تخلفت الطرواد لما الدجى أربدا
مغيرا وحلوا من عجالهم الجردا
وقوفا قبيل الزاد حشدا تألفوا
ولم يجلسوا رعبا وإن أثقلوا جهدا
لقد هالهم أن ابن فيلا بدا لهم
وبعد اعتزال الحرب قد عاد مشتدا
بهم فولداماس الحكيم ابن فنثس
تبدى خطيبا يفقه الحل والعقدا
نظور لما يأتي خبير بما مضى
ولي لهكطور ومن رهطه عدا
لقد ولدا في ليلة بيد أنه
بدا دونه بأسا كما فاته رشدا
فقال: «أصيحابي اقتفن نصيحتي»
هلموا إلى إليون ذا الحين نرتدا
لدى الفلك في ذا السهل للفجر لا أرى
مقاما وعنا السور تدرون قد ندا
لقد كانت الأرغوس أسهل مأخذا
وآخيل مشتد بعزلته حقدا
وكم شاقني إذ ذاك ليلي بقربها
على أمل بالقرب أن نبلغ القصدا
ولكنني أخشى وأدري بأنه
بحدته لن يرضين هنا الحدا
يجوز مرامي الجحفلين مغادرا
ليمتلك الأسوار والأهل والولدا
صدقتكم نصحا فسيروا بنا فإن
يكف فذاك الليل في وجهه اسودا
ولكن إذا ما أصبح الصبح وانبرى
بعدته أيقنتموه الفتى الفردا
لإليون من ولى فمستبشرا نجا
ويشبع طير الجو والغضف من يردى
فلا طرقت هذي النوازل مسمعي
ولكن علمي ذا وإن ساءكم جدا
إذا فلنقم في الليل حشدا مكثفا
بإليون أسباب الوقاية نعتدا
فأبراجها الشما وأرتاجها التي
بأصفاقها زلجن نجلي بها الوفدا
29
وعند بزوغ الفجر بالعدد الأولى
تألقن نبدو فوق معقلنا حشدا
فهيهات آخيل يفوز إذا بدا
بممتنع الأسوار مهما علا جهدا
يعود إذا ما أجهد الخيل حولها
مغارا إلى أسطوله لاهبا وجدا
ستفرسه غضف الكلاب قبيل أن
يحل بهن اليوم أو يعمل الحدا»
فأحدق شزرا فيه هكطور صارخا: «لقد جئت أمرا فولداماسنا إدا
أندخل إليونا فهلا عييت من
مقامك من خلف المعاقل منهدا
لقد ملأ الأسماع ما أرضنا حوت
نضارا بهيا أو نحاسا بها صلدا
وقد نفدت جلى الكنوز وبددت
فلست لها تلقى بأفنائها عهدا
بإفريجيا بيعت وأرض ميونة
على حين عنا زفس منتقما صدا
وها هو عني الآن راض منيلني
من النصر ما للفلك يطردهم طردا
تعست فصه لا تخدع الجند لن يروا
برأيك نصحا أو أردهم ردا
هلموا إذن للزاد لا تتشتتوا
وكل فتى في حينه يحسن الرصدا
ومن بات في خوف على المال فليقم
ويجمع لديه المال يطعمه الجندا
فخبر لنا نلهو به جملة ولا
نمتع بالأموال أعداءنا اللدا
وإن طر وجه الصبح دجج جيشنا
فتعقد دون الفلك كرته العقدا
فإن كر آخيل إلى ساحة الوغى
رأى عجبا من قبل أن يرد الوردا
أبارزه لا هالعا أو موليا
ولا بد منا ماجد يحرز المجدا
لكل همام كانت الحرب منهلا
فكم بطل فيها يصد العدى أصدى
30
فضجت له الطرواد جهلا وما دروا
بأن أثينا قد أضلتهم عمدا
وهكطور طرا وافقوا يغفلون ما
لهم فولداماس بحكمته أبدى
ومالوا وما زالوا بملء انتظامهم
لزاد لهم ما بين تلك السرى مدا
وأما بنو الإغريق آناء ليلهم
فقد لبثوا في مأتم هدهم هدا
وبينهم آخيل في زفراته
يحن لفطرقل وقد أكبر الفقدا
على صدر ذاك الإلف ألقى أكفه
يحاكي إذا ما أحدق الأسد الوردا
كأن ببطن الغاب أشباله بها
خلا قانص فاربد واشتد واحتدا
وهب على آثاره بحزازة
تحدره وهدا وتصعده نجدا
فصاح: «ألا رباه واعظم موعد
وعدت منتيوسا ولن أصدق الوعدا
31
بمنزله عاهدته لأفنطس
أعيد ابنه من بعد أن يقهر الضدا
ويهدم إليونا ويرجع غانما
وهيهات زفس كل آمالنا أسدى
بإليون قد خط القضاء بأن من
دماء كلينا الأرض محمرة تندى
فلن يتلقاني أبي الشيخ عائدا
وثيتيس أمي بعد أن أعظما البعدا
أفطرقل مذ سيقت لذا الترب أعظمي
وبعدك لي قد خط أن أنزل اللحدا
فلست متما مأتما لك قبل أن
أذيق الردى هكطور قاتلك الجلدا
وشكته تلقى لديك ورأسه
فأذكي لك النيران مدخرا حمدا
ومن حولها اثني عشر رأسا بصارمي
أقضب من طروادة فتية مردا
32
فظل إذن ملقى لدى الفلك ريثما
أبر فذا عهدي ولن أخلف العهدا
فكم ثم طروادية دردنية
سبينا بدار بأسنا فوقها امتدا
ينحن عليك اليوم والليل كله
ويلطمن بض الصدر والنحر والخدا»
وأوعز أن يعلى على النار مرجل
وفي غسل جسم الميت من حينهم يبدا
فلبوا وفيه الماء صبوا وأشبعوا
له النار تذكو من جوانبه وقدا
ولما غلى في ساطع القدر ماؤهم
ففي غسله جدوا وقد أحسنوا الجدا
ونقوه من تلك الدماء وبادروا
لزيت كثيف يدلكون به الجلدا
وفي كل جرح أفرغوا بلسما مضى
لتسعة أعوام تقادمه عهدا
وألقوه من فوق السرير وأسبلوا
من الرأس حتى تحت أقدامه بردا
ومن فوقه ستر من النسج أبيض
وناحوا وآخيل مدى ليلهم سهدا
33
فقال لهيرا زفس في قبة العلى: «فلحت فآخيل لقد أنف الصدا
فلا ريب في أن الأغارق قد نموا
إليك وأضحى منك طارفهم تلدا»
34
فقالت: «ألا يا ظالما قد هزأت بي
وللإنس تلقى الإنس قد أحسنوا العضدا
ولم يبلغوا من راسخ العلم علمنا
ولا مثلنا أوتوا بأرضهم الخلدا
وإني وإن ما كنت أسمى إلاهة
وبعلي أخي من لا أقيس به ندا
35
فلم أعط أن أولي الطراود ذلة
ولا قوم أرغوس أنيل هنا رفدا» •••
ذاك الحديث في السماء يجري
ونحو هيفست ثتيس تجري
حيث بني الأعرج زاهي القصر
صرحا من النحاس عالي القدر
36
في الخلد يسمو راسخا للدهر
ألفته سح عرقا فوارا
يدير منفخا ويذكي نارا
مناضدا عشرين قد أدارا
على الجدار تبهر الأبصارا
37
مرفوعة على عجال تبر
حتى بها بأعجب العجاب
من نفسها لمجلس الأرباب
تسرع بالذهاب والإياب
تمت سوى مقابض الأجناب
مع عراها الشائقات الغر
أمامه قد حمي الوطيس
يشغله إذ أقبلت ثيتيس
فأبصرتها عرسه خاريس
فبادت بقرعها تميس
وصافحتها بعظيم البشر: «يا ربة المقنعة المسدوله
ثيتيس يا خلتنا الجليله
علام أنت عندنا نزيله
على خلاف عادة جميله
هيي بنا حيث الضيوف نقري»
وأجلستها طلقة الإيناس
عرشا بديعا محكم القياس
قتيره من اللجين القاسي
ذا موطئ لأرجل الجلاس
38
وزوجها نادت بصوت الجهر: «هيفست قم ثيتيس عونك ابتغت»
فقال: «أهلا بإلاهة سمت
39
تلك التي الكربة عني فرجت
لما من السماء بي أمي رمت
تكتم عاهتي بشر الكبر
فهي وافر ينومة الإحسان
بنت المحيط الجازر الهتان
بالبشر والأنس تلقتاني
أولا فما كان إذن أشقاني
ووارتاني في عباب القعر
حللت كهفا حوله قد دارا
مجرى الخضم مزبدا هدارا
كم صغت فيه لهما سوارا
خواتما قلائدا أزرارا
تسعة أعوام بطي الستر
سواهما في الأرض والسماء
لا أحد درى مقام النائي
هما هما قد خففا شقائي
والآن ثيتيس هنا إزائي
أني أأدي حق فرض الشكر
خاريس وافيها بواجب القرى
حتى أريح منفخي وأحضرا»
وغادر العلاة عنها مدبرا
تخمع ساقاه به فأخرا
40
منفاخه عن حر واري الجمر
وأودع العدة درج فضة
يعمد من ثم إلى إسفنجة
يمسح صدره وعالي الجبهة
كذا يديه ومتين الرقية
ثم اكتسى بردا وعاد يسري
بصولجان شائق صلب ذهب
معتمدا على وصيفتي ذهب
41
أعطيتا صوتا وعقلا وأدب
لخدمة الأرباب في كل أرب
كغادتين ازدانتا بالفكر
وليتا هيفست من حيث انثنى
حتى إلى ثيتيس بالجهد دنا
حل على عرش بهي معلنا
ترحابه لها ومن ثم انحنى
مصافحا لها بقول الحر: «يا ربة المقنعة المسدوله
ثيتيس يا خلتنا الجليله
علام أنت عندنا نزيله
على خلاف عادة جميله
مري فإنني رهين الأمر»
قالت تسيل الدمع: «هل مثلي ترى
شقية ما بين ربات الورى
دون بنات الماء زفس قدرا
علي أن أصيب بعلا بشرا
فيلا وأمضى أمره بالقسر
فيلا لقد أقعده فرط الكبر
عجزا وزفس كادني كيدا أمر
أعطيت نجلا فاق أبطال البشر
أنشأته كالغصن في روض أغر
42
فثارت الحرب على ما تدري
أنقذته في الفلك للطعان
آه فلن يعود للأوطان
قصر عن إمداده بناني
حيا ولكن ثائر الأشجان
يرى سنا الشمس قصير العمر
حبته غادة بنو الآخاء
جزاء حسن الذود والإبلاء
فرامها أتريذ بالدهاء
أقعده الكيد عن الهيجاء
فشهر الطرواد سيف النصر
ودفعوا الإغريق للأسطول
فهبت الصيد إلى أخيل
تطمعه بنائل جزيل
أبى قبول تحفة القيول
لكن دعا فطرقل للمكر
ألبسه شكته سلاحا
فهب في أصحابه وراحا
فكافحوا عداهم كفاحا
لسور إليونهم اكتساحا
فأوشكت تعنو لهم بالقهر
لكنما فيبوس فطرقل قتل
لما رآه مزق الجيش وفل
وخول النصر لهكطور البطل
لذاك بادرت إليك بالعجل
أبسط فوق ركبتيك عذري
أحسن إذن لولدي الحبيب
من سيلاقي الموت عن قريب
بخوذة ومجوب عجيب
ولأمة مع حذا قشيب
43
تحرز ثنائي وجميل الأجر»
قال: «اطمئني آه لو يوم القدر
يتاح أن أقيه أهوال الخطر
كما يتاح الآن في هذا المقر
إعداد عدة له أي نظر
إلى سناها بسواها يزري»
ثم مضى يدير نحو الكور
منافخا دارت بلا مدير
فأججت بمثل لمح النور
عشرين موقدا لظى السعير
تفرغ ما يحتاجه بالقدر
تهب طورا هبة الأنواء
وتارة تنفخ بالإبطاء
ثم رمى بالعسجد الوضاء
للنار فوق الفضة الغراء
فوق فلزه وصلد الصفر
وإذ دحى سندانه المهيلا
ففي يد مطرقه الثقيلا
وفي يد ملقاطه الطويلا
أعلى وقام شاغلا مشغولا
يشرع في المجن بدء الأمر
ترس عظيم شائق الأوصاف
وطوقه البهي فوق الحاف
44
يكنفه مثلث الأطراف
على حمائل اللجين الصافي
يزهو على خمس طباق الظهر
أودعه نقشا به تحار
لحسنه الأنظار والأفكار
فالأرض والسماء والبحار
منهن لاحت فوقه الآثار
وساطع الشمس وتم البدر
وصاغ فيه جملة الدراري
مثل الثريا الجمة الأنوار
والدبران ولقا الجبار
دب دعوا مركبة دوار
من دونها لا يرتوي بالبحر
45
وبلدتين غصتا بالناس
إحداهما بالبشر والإيناس
زف بها الزوجان بالأعراس
بين غناء وسنا مقباس
ورقص فتية لهت وصقر
46
ونغمة الرباب والشباب
تصدح والنساء في الأعتاب
وقفن للزفة بالإعجاب
وغير هذا الحشد بانتصاب
حشد بشوراهم عسير الحصر
هنالك اثنان استطالا جدلا
لدية حق قتيل قتلا
هذا ادعى إيفاءها مكملا
يعلن ذاك الأمر ما بين الملا
وذاك منكر أشد النكر
كلاهما يطلب حكم القاضي
والناس بين ساخط وراض
ضجوا لأي ساعة التقاضي
أحسن والفيوج باعتراض
تأمر بالصمت لحسم الأمر
هنالك الشيوخ من ضمن حرم
على مقاعد من الصخر الأصم
قاموا بأيديهم على مرأى الأمم
صوالج الفيوج يبدون الحكم
قاضين عن رواية وخبر
فردا ففردا الأحكاما
أمام هاتيك السرى قياما
وشاقلان ذهبا تماما
بينهم قد أودعت إكراما
لمن محا بالعدل شير الوزر
47
والبلدة الأخرى هفست رسما
جيشين حولها عليها هجما
جيش لقد آلى بأن تهدما
وذاك نصف المال يبغي مغنما
وأهلها تحصنوا بالسر
كمينهم بينهم أعدوا
وفوق سورهم أقام الولد
والأهل والشيوخ ثم امتدوا
أمامهم رب الكفاح الصلد
كذا أثينا ملجأ المضطر (كلاهما من ذهب وضاح
بالجسم والملبس والسلاح
تراهما العين على البراح
أعظم قدا من سرى الكفاح
ما مس آل الخلد شين الصغر)
فبلغوا جدة نهر جاري
مورد غر الشاء والثيار
48
فوقفوا بالرمح والبتار
وأرصدوا عينين للصوار
49
ليرقبا عند ورود النهر
فأقبلت أمام راعيين
بنغمة المزمار لاهيين
عن ذلك الكمين غافلين
فوثبوا وقتلوا الغرين
ونحروا السوام شر النحر
فارتفعت عجاعج الضوضاء
فبلغت مسامع الأعداء
فأقبلوا بغارة شعواء
واشتبكوا وانهال باللقاء
غيث من النصال فوق الثغر
بينهم فتنة والغوغاء
كذا مبيد الأمم القضاء
يعلو على كاهله رداء
تسيل من أطرافه الدماء
يفر عن هذا وذاك يفري
وآخرا أمسك بالأقدام
يزيح عن مواقف الصدام
50
تلك رسوم بذكا الرسام
ترى على المجن كالأجسام
تسحب موتاها وبريا تبري
ودون هذا الرسم رسم حقل
خصب ثلاثا حرثوا بالفعل
رجاله قامت بعبء الشغل
قد عمقوا الثلم بسطر عدل
يرتشفون من لذيذ الخمر
51
في منتهى الأرض انبرى غلام
إذا انقضى ثلمهم التمام
ناولهم كاسا وهم قيام
فانقلبوا ونيرهم أقاموا
بكل وجهة بملء الصبر
والأرض سوداء تلوح للنظر
وإن تكن من ذهب تلك الصور
كأنما الفلاح في الحال عبر
نعم فذي معجزة ممن قدر
أن يخضع العسر لأمر اليسر
وقربه يانع زرع بادي
دارت به مناجل الحصاد
ومن وراها زمرة الأولاد
تجمع ما يلقى على التمادي
وخلفهم ثلاثة تستقري
تضم ما ألقوا لهم ضمن حزم
وثم رب الأرض ما بين الحشم
قد قام صامتا يرى تلك الهمم
معتمدا على عصاه فابتسم
ينظر بالبشر لوفر الذخر
وتحت سنديانة قام الندل
يهيئون الزاد في ذاك المحل
52
قد ذبحوا ثورا به الكل اشتغل
وعاونتهم النساء في العمل
على لحومه الدقيق تذري
كذاك كرم بدوالي ذهب
قامت فمالت تحت ثقل العنب
سمكه من فضة لم تشب
قد سطرت دون وشيع أشهب
53
يكنفها وخندق مغبر
ليس له إلا طريق رسما
يعبره الكرام أيام النما
وللرد تبدي والعذارى الهمما
تجني وفي السلال تلقي كل ما
جنته من قطف ذكا محمر
54
بينهم فتى بعود قاما
مرددا بنقره الأنغاما
نشيد لينوس الذي تسامى
فرددوا النشيد والأقداما
55
في الأرض دقوا وفق ذاك النقر
ودون ذا سرب من الثيار
من الفلز ومن النضار
مندفع يزار للبراري
يرى لدى نهر على مجار
محاطة بالقصب المخضر
رعاته أربعة من عسجد
وتسعة كلابه للرصد
وثم ليثان مروعا المشهد
قد فرسا ثورا فكرت تغتدي
رعاته وغضفه في الإثر
قد مزقاه مغنما بينهما
وازدردا الأحشاء وامتصا الدما
فأوغر الرعاة من خلفهما
كلابهم فهالها بطشهما
هرت رهدها شديد الذعر
ودون ذا في مرجة خضراء
صرائف محكمة البناء
56
لدى حظائر تسر الراءي
بين مراتع لغر الشاء
كذا غياض فوق روض نضر
وقرب هذا رسم مغنى طرب
كأنه ناد بديع العجب
ألف في أكنوس ذيذال الأبي
لحظ أريانا بماضي الحقب
57
من فتية ومن عذارى زهر
رداهم المنسوج كالزيت برق
وبرقع الحسان بالحسن نطق
وحليهم سيف من التبر انطلق
على نجاد فضة هيفست دق
لكن حليهن تاج زهر
58
تعاضدوا بالكف والإبهام
فرقصوا بالعلم والإلمام
كأنهم بحقة الأقدام
محال خزاف رماه الرامي
59
ثم جروا سطر وراء سطر
حولهم حشد وفي وسطهم
قام مغن بشجي النغم
إن نقر العود فمن بينهم
قرمان دارا بخفيف القدم
رقصا يرددان لحن الشعر
وعند ما أتم هاتيك البدع
مجاري المحيط في الحاف وضع
60
فأكمل المجن من ثم ابتدع
درعا سناها كسنا الشمس سطع
ما صلحت إلا لذاك الصدر
وخوذة بقونس جميل
من عسجد ومحمل ثقيل
لاقت لذاك البطل الجليل
ومن نحاس لين مصقول
طرق خفين تمام البر
وإذ أتم كل تلك الغرر
ألقى بها لأم آخيل السري
من لدن رب تحفة للبشر
فانحدرت من الألمب الأزهر
واندفعت بها اندفاع الصقر
ترس أخيل (ترس أخيل).
مقسوما إلى اثني عشر جزءا
ثلثه منها لبلدة مسالمة: (1) حفلة زفاف، (2) مجلس شورى، (3) مجلس قضاء.
وثلثه لبلدة محاربة: (4) حصار، (5) رعاة وكمين، (6) قتال.
وثلثه للزراعة: (7) حراثة، (8) حصاد، (9) كرمة.
وثلثه لرعاية المواشي: (10) سباع وأنعام، (11) خراف، (12) رقص وطرب.
هذا هو الترس العجيب الذي أطنب هوميروس بوصفه، وكأنه لم يكتف بجعله إسطرلابا للأفلاك، فأودعه جميع مخلوقات الله من أجرام وسماء ويبس وماء، وأخاله اختار الترس مستودعا لتلك البدائع دون سواه من قطع السلاح؛ لأنه كان من عادتهم أن يزخرفوا تروسهم رسوم ونقوش. وقد نسب لهسيودس الشاعر وصف من هذا القبيل، ثم أنه فضلا عن ذلك لم يكن يصلح سواه لرسم الكون بأجمعه، وهو سواء كان بيضيا كما ذهب البعض أو مدورا كما هو في الرسم يصح به تمثيل كروية الأرض والسماء.
ولقد أصاب هذا الترس من نقد النقاد وهذر الحساد ما أصاب غيره من اللآلئ الهوميرية، كقولهم مثلا: إنه لم يكن يعقل أن المناضد تدور من نفسها على عجالها، كأنه لا يسوغ لشاعر يروي أعجوبة لرب باعتقاده قدير أن يتصور أمرا تقول الشعراء أعظم منه لبشر باعتقادهم قصير الباع مقيد الذراع، كقول أبي الطيب لسيف الدولة:
إذا كان ما تنويه فعلا مضارعا
مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم
وقوله في محمد بن زريق الطرسوسي:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه
لما أتى الظلمات صرن شموسا
أو كان لج البحر مثل يمينه
ما انشق حتى جاز فيه موسى
أو كان للنيران ضوء جبينه
عبدت فكان العالمون مجوسا
وإذا أردنا مجاراتهم وأتينا الأمر من حيث أتوه طلبا لإثبات الممكن المعقول، أفلا يكون ذلك ممكنا ونحن نرى من ألاعيب الصبية ما يسير بنفسه، والعجب أن الذين قالوا هذا القول صمتوا عن مغالاة الشاعر بارتجاج السموات، وزلزال الأرضين، وانفجار البحار بإشارة من أربابهم ذوي الهيبة والاقتدار، وكقولهم: إن الترس لم يكن ليتسع لكل تلك الرسوم والنقوش البارزة، كأنه لم يكن بوسع ذلك الصيقل العلوي أن يكبر ويصغر حسبما يشاء، وهي كما تراها بادية على رسم صغير مع أنه يؤخذ من نص هوميروس وغيره أن مجانهم كان كبيرها يستر الجسم من الرأس إلى ما تحت الركبة.
وقد أثبتنا هنا صورة الرسم الذي صنع لپوپ فأدرجه بترجمته الإنكليزية المطبوعة سنة 1720 وإليك تفصيله تتمة للفائدة:
الظاهر من كلام هوميروس أنه شرع في بسط المعدن خمس طبقات فأكمل المجن وطوقه طوقا.
يكنفه مثلث الأطراف
على حمائل اللجين الصافي
ثم أخذ يرسم وينقش فبدأ به من وسطه فرسم فيه الأرض، وفي دائرة من حولها القمر والكواكب، وفي دائرة أخرى الشمس والبروج، وجعل ما وراء ذلك دائرة أكبر أودعها المألوف من أحوال البشر فكانت اثني عشر جزءا.
الجزء الأول: البلدة المسالمة
وبلدتين غصتا بالناس
إحداهما بالبشر والإيناس ...
ترى في الرسم العروسين يتقدمهما حملة المصابيح ويكنفهما الراقصون والراقصات ووراءهما العزفة والمغنون.
ونغمة الرباب والشباب
تصدح والنساء في الأعتاب
وقفن للزفة بالإعجاب
الجزء الثاني: مجلس شورى الأمة
هنالك اثنان استطالا جدلا
لدية حق قتيل قتلا ...
رسم فيه والد القتيل والقائد والشهود والحضور، والمدعي والمتهم.
كلاهما يطلب حكم القاضي
والناس بين ساخط وراض
وهذا الجزء مع الذي يليه في حلقة واحدة، وفيها المجال يتسع لتصور أمهر المصورين.
الجزء الثالث: مجلس الشيوخ أو القضاء
هنالك الشيوخ من ضمن حرم
على مقاعد من الصخر الأصم
الشيوخ في وسط الرسم يتكلم أحدهم واقفا وقد هم الآخر بالوقوف ليشرع في الكلام، والجمع محدق بهم بين سامع ومنفرج.
الجزء الرابع: البلدة المحاربة
والبلدة الأخرى هفست رسما
جيشين حولها عليها هجما
جيش لقد آلى بأن تهدما
وذاك نصف المال يبغي مغنما
وأهلها تحصنوا في السر
يعبر عن البلدة بما يبدوا للنظر من مجموع الرسم وزعماء الجيشين أمام الأسوار، أخذ فريق منهم بمقابض السيوف وهم ينظرون إلى البلد إشارة إلى أنهم يرومون فتحه عنوة، والفريق الآخر يهون عليهم الأمر وينهاهم عن ذلك، أما أهالي البلد فقد ذعروا. ... ... ... ...
وفوق سورهم أقام الولد
والأهل والشيوخ ثم امتدوا
أمامهم رب الكفاح الصلد
كذا أثينا ملجأ المضطر
وقد ميز الشاعر بين رسوم الآلهة ورسوم البشر كما جرت به عادة أبناء ذلك الزمان، فأفرد لرب الحرب وربة الحكمة وصفا خاصا وجعلهما أعظم قدا كما كانا أرفع قدرا.
الجزء الخامس: الكمين
فبلغوا جدة نهر جاري
مورد غر الشاء والثيار ...
إن اعتراض هذا القسم بين الذي تقدمه والذي يليه يمثل أويقات الراحة والسكون في زمان الحرب، فإن فيه نهرا وعلى إحدى ضفتيه شجر تتفيأ الجنود بظله، وعلى الضفة المقابلة رقيبان يرصدان الماشية.
فأقبلت أمام راعيين
بنغمة المزمار لاهيين
عن ذلك الكمين غافلين
الجزء السادس: القتال
فوثبوا وقتلوا الغرين ...
في صدر الرسم الراعيان قتيلان والسوام منحورة وباقيه صدام وكفاح واهم ما فيه صورة «القضاء مبيد الأمم».
يعلو على كاهله رداء
تسيل من أطرافه الدماء
الجزء السابع: الحرث
ودون هذا الرسم رسم حقل
خصب ثلاثا حرثوا بالفعل ...
في الرسم صورة الحرث والحارث وأرضه وآلات الزراعة، وأبدع ما فيه من مؤثرات النظم الهوميري ذلك الغلام الذي قام في طرف الأرض المحروثة. ... ... ... ...
إذا انتهى ثلمهم التمام
ناولهم كأسا وهم قيام
فانقلبوا ونيرهم أقاموا
بكل وجهة بملء الصبر
الجزء الثامن: الحصاد
وقربه يانع زرع باد
دارت به مناجل الحصاد ...
فالحصاد في صدر الرسم محولون وجوههم نحو الجمع المحدق بهم، وخلفهم الفعلة والأولاد يجمعون ويرزمون، وفي وسط الرسم رب الأرض قام بينهم آمرا مطاعا يشير بعصاه وتليهم سنديانة قام تحتها الخدم. ... ... ... ...
يهيئون الزاد في ذاك المحل
قد ذبحوا ثورا به الكل اشتغل
وعاونتهم النساء في العمل
على لحومه الدقيق تذري
الجزء التاسع: الكرمة
كذاك كرم بدوالي ذهب
قامت فمالت تحت ثقل العنب ...
هنا الكرمة بدواليها وقطوفها ووشيعها وسمكها وخندقها وفيها الغلمان والعذارى.
تجني وفي السلال تلقى كلما
جنته من قطف ذكا محمر
وبينهم فتى ينقر عوده وينشدوهم إذا غناهم صوتا طربوا.
فرددوا النشيد والأقداما
بالأرض دقوا وفق ذاك النقر
ليس على المجن رسم أوقع في النفس من هذا.
الجزء العاشر: الحيوانات
ودون ذا سرب من الثيار ... مندفع يزأر للبراري ...
سوام ورعاة وكلاب وسباع، فالأسود في وجه الرسم قبض أحدها على ثور والآخر آخذ في تمزيق ثور آخر، والرعاة تثير الكلاب للذود عن القطيع، وأمام هذا المشهد مشهد قطيع آخر منهزم رعبا ووراءه رعاته وكلابه والنهر في ما وراء ذلك.
الجزء الحادي عشر: الخراف
ودون ذا في مرجة خضراء
صرائف محكمة البناء
لدى حظائر تسر الرائي
بين مراتع لغر الشاء
كذا غياض فوق روض نضر
لم يكن للشاعر بد بعد هول منظر الجزء السابق من إراحة المخيلة بمشهد عزلة وسكون، تسرح فيها الفكرة بين مناظر الطبيعة، فأتى بهذا التخيل البديع.
الجزء الثاني عشر: المرقص
وقرب هذا رسم مغنى طرب
كأنه ناد بديع العجب ...
جعل هوميروس هذا المشهد خاتمة المشاهد التي نقشها على ظهر المجن، وحسب المطالع الرجوع إلى المتن شرحا وافيا للإعجاب بهذا المنظر الراقص المرقص، فالفتية والعذارى بأبهى الملابس، حلي الفتية السيوف وحلي العذارى أكاليل الزهر وقد:
تعاضدوا بالكف والإبهام
فرقصوا بالعلم والإلمام
كأنهم بحقة الأقدام
محال خزاف رماه الرامي
ثم جروا سطر وراء سطر
وهناك على ربوة صاحب العود يضرب ويطرب ثم هو:
إن نقر العود فمن بينهم
قرمان دارا بخفيف القدم
رقصا يرددان لحن الشعر
أفلا يليق أن تتخذ هذه خطة تتبع حتى في أيامنا هذه.
حاشية المجن
وعندما أكمل هاتيك البدع
مجاري المحيط في الحاف وضع
لم يزد الشاعر على هذا الكلام بوصف حاشية المجن، وفيه ما يغني عن الإطناب وقد استبقى المحيط إلى الحاشية تتكنف المجن كما تكنف المياه اليابسة، فكان مجنه جامعا رسوم العالمين من علويات وسفليات.
هوامش
النشيد التاسع عشر
مصالحة أغاممنون وأخيل
مجمله
ما اشتمل الفجر بثوب الجساد
من يمه يبرز فوق العباد
حتى انبرت ثيتيس إلى ابنها أخيل بالشكة التي اصطنعها إلاه النار وحسنت له مصالحة أغاممنون، وأفرغت بمنخري فطرقل مادة تحفظها من الفساد أثناء غيابه، فحشد أخيل الجمع وتصالح مع أغاممنون وأنبأ القوم أنه على أهبة القتال في تلك الساعة، فاعترف أغاممنون بخطئه وألقى تبعة فعلته على القضاء والقدر، ورغب إلى أخيل أن ينتظر ريثما يؤتى له بالتحف التي مر تعدادها، فأبى أخيل إلا الكر بلا توان لما بلغ منه الغيظ على مقتل حبيبه فطرقل، فاعترضه أوذيس محتجا أنه لا بد للجيش من تناول الطعام، ودعا أخيل إلى الغذاء في مضرب أغاممنون فآلى أخيل أن لا يذوق طعاما قبل الأخذ بثأر فطرقل، فأكل الجيش وأحضرت تحف أغاممنون ومعها بريسا سبية أخيل، وأقسم أغاممنون أمام الجمع أنه لم يمسسها أثناء إقامتها عنده، وأرسلت التحف إلى خيام أخيل وأخذت الجواري وبريسا يبكين فطرقل ويندبنه، وأخيل كل تلك الآونة متوجع متفجع لا يرى إلا القتال ومن حوله الملوك يرومون له تعزية، فلا يتعزى بل يندب وينتحب كالطفل، ثم تقدم أخيل بالجيش مستلما درع هيفست وشد أفطوميذ الخيل إلى مركبته فاعتلى، وعنف الجياد فنطق أحدها وأنبأه بمصرعه القريب فلم يعبأ بنبوته.
وحث في صدر السرى جرده
بهدة تدوي بتلك النجاد
مجرى الوقائع في اليوم الثلاثين.
النشيد التاسع عشر
ما اشتمل الفجر بثوب الجساد
من يمه يبرز فوق البلاد
1
يرمقه معبودها والعباد
حتى انبرت دون الخلايا ثتيس
في تحف الرب هفست تميس
2
فأبصرت آخيل فوق الثرى
معانقا فطرقل واري الفؤاد •••
يشهق بالعبرة هامي الجفون
وحوله أصحابه يندبون
وسطهم حلت بتلك الشجون
ويده اجترت وقالت: «ألا
مهما طما الخطب وطم البلا
دع ثم فطرقل على الترب إذ
في قدر الأرباب بالغيب باد •••
بني قم وارفل أتاك السلاح
من لدن هيفست زهي الصفاح
3
ما قط إنسي به قبل لاح»
من ثم ألقته لديه فصل
وهد قلب المرمدون الوجل
4
لم يستطيعوا رمق أنواره
بل عنه صدوا جملة بارتعاد •••
لكنما آخيل مذ أحدقا
فيه حشاه غله مزقا
وطرفه نارا ذكت ألقا
مستبشرا قلبه في يديه
ينظر بالبشر مليا إليه
وقال يا أماه ليست سوى
تحفة رب جاد فيما أجاد •••
هيهات إنسي كذا يبتدع
وها أنا من ساعتي أدرع
لكن فؤادي جملة ينخلع
لهاجسي بالشلو إن الذباب
يعيث ما بين جراح الذباب
5
وينشر الدود به عابثا
فيعتري جسم الحبيب الفساد»
6 •••
قالت: «دع الفكرة إني أزيل
عنه جراثيم الذباب الوبيل
تلك التي تنهش لحم القتيل
حتى ولو عاما هنا الجسم ظل
ما خلت ذا التشويه إلا اضمحل
فناد للشورى كبار السرى
وصاف أتريذ وألق العناد •••
وشك وألبس ثوب بأس منيع»
وألهبته بالزماع الذريع
ثم انثنت تلفت نحو الصريع
في منخريه أفرغت عنبرا
وسلسبيلا صافيا أحمرا
ليسلم الجسم وفورا جرى
آخيل فوق الجرف يذكوا تقاد
7 •••
وصاح صوتا بالسرايا قصف
فكلهم لسبي مجيبا وزف
حتى الذي بالفلك دوما وقف
ومن على السكان ظل المقيم
ومن على الأرزاق كان الزعيم
طرا إلى الشورى سعوا مذ بدا
آخيل للهيجاء بعد البعاد
8 •••
ثمة ما عتم أن عرجا
يعرج أوذيس إمام الحجا
كذا ذيوميذ الفتى المرتجى
توكأ على كعوب الرماح
بشدة الضيم وهول الجراح
تصدرا في الناد ثم انبرى
بعدهما أتريذ رب القياد •••
أثقله جرح كوون الهمام
يوم علا النقع بحر الصدام
وما إن انضموا وتم النظام
حتى بهم آخيل فورا نهض
وصاح: «يا أتريذ بئس الغرض
ما كان أولى السلم ما بيننا
مذ ثارت الأحقاد توري الزناد •••
يا حبذا لو يوم كدت العداه
بقهر لرنيسا وسبي الفتاه
من أرطميس فخر صيد الرماه
أدركها في الفلك سهم الردى
لما بنا جلت خطوب العدى
وعضت الترب صناديدنا
ونالت الطرواد منا المراد •••
أقعدني الغل ببون بعيد
تلك إذا عقبى الخصام الشديد
يذكرها الإغريق دهرا مديد
قد فدح الأمر فدع ما ذهب
ولنغض ولنخمد سعير الغضب
فلست بالحافظ حقدا مضى
فقم إذن أضرم أوار الجهاد •••
واحمل على الأعداء حتى أرى
أتطلب الأسطول تلك السرى
لكنني أدري ومثلي دري
أن الذي منهم هزيما نجا
من عاملي يأنس حيث التجا»
9
فضجت الإغريق بشرا له
إذ غادر الأضغان توا وعاد •••
فقام أتريذ ولم يمتثل
في الوسط بل من عرشه يرتجل: «يا صحب أتباع أريس المذل
يا دانويون اصمتوا للختام
فليس باللائق قطع الكلام
فكل ناد قد علا ضجة
لا مستفيد فيه ممن أفاد •••
مهما علا صوت خطيب خطب
واتقدت نار حجاه اضطرب
10
آخيل لبيت إلى ما انتدب
فاصغوا فكم لمتم بمر الكلام
ولم أكن أهلا لذاك الملام
ما الذنب ذنبي حين حرمانه
فتاته إذ قد حرمت الرشاد •••
بل ذنب زفس ذا وذنب القدر
والظلمة الدهماء ذات العبر
فهم هم أعموا علي البصر
وما ترى قد كان في طاقتي
لما استباحت فتنة باحتي
فتاة زفس تلك غدارة
تقود من شاءت وليست تقاد
11 •••
تجري وفوق الترب ليست تدوس
لكنها تهشم شم الرءوس
وتبتلي الناس بدهم البئوس
وزفس قوام الدني والعلى
أدركه منها عميم البلا
مذ بهرقل ألقمينا أتى ال
مخاض في ثيبة ذات العماد •••
زوجته والت وثيق الولاء
فأعملت فيه دهاء النساء
12
إذ قال معتزا بدار البقاء: «أرباب يا ربات سمعا لما
نفسي تناجيني بأن يعلما «رأس المواليد إليثيه
ترئس هذا اليوم أسمى ولاد
13 ••• «في الإنس من ذريتي أيهم
بالبأس فيهم سائدا يحكم»
قالت له هيرا الدها تكتم: «كذبت لن تنفذ هذا المقال
أو لا فأيمانك أغلظ ثقال «بأن من تلقيه إنسية
ذا اليوم منك الإنس بالبأس ساد» •••
فأغلظ الأيمان زفس وما
أدرك مغزاها فيا بئسما
فاندفعت هيرا كسيل طما
تجري وتدري أن في أرغا
عرس ستينيل فتى فرسسا
حبلى شهورا قد خلت وهي في
أوائل السابع دون ازدياد •••
فولدتها الطفل من قبل حين
واستوقفت في ألقمينا الجنين
وزفس جاءت بالبلاغ اليقين: «يا قاذف البرق اسمعني فقد
أقبل من نسلك ذاك الولد
14
إفرستس يدعى وحق له
أن يحكم الإغريق أنى أراد» •••
فنفسه جاشت على قهرها
وفتنة أمسك من شعرها
آلى بأن تنفى مدى دهرها
من مجلس الأولمب والأصفياء
ومن رقيع بالدراري أضاء
وللثرى ألقى بها قاذفا
من بعدما بالكف عنفا أماد
15 •••
وكم تلظى زفس لما احتكم
إفرستس ثم فتاه حكم
يسومه الأمر بجافي العظم
كذاك لما للخلايا اندفق
هكطور يصمي بين تلك الفرق
ما كان لي طاقة رد لها
لكنما لي الآن حسن ارتداد
16 •••
أضلني زفس وعقلي انحرف
لكن لك اليوم تهال الطرف
فكر إن تزحف فكل زحف
وكل ما أمس أذيس وعد
لا زال طرا لك عندي معد
فإن تشأ فالبث يسيرا ترى
وإن تعل صبرا لقرع الصعاد •••
فليحضرن الآن تلك الغرر
قومي من الفلك وعينا تقر»
17
فقال: «يا أتريذ مولى البشر
أنت ولي الأمر والمرجع
إن شئت فامنح أو تشأ فامنع
18
لكنما ذا الحين حين الوغى
فلا نضع باللغو وقت الجلاد •••
مكرنا تدرون ما أنجزا
كروا تروا آخيلكم برزا
بعامل يفري ولن يعجزا
كروا وكل منكم فليصل
مبارزا منهم كميا عتل»
19
فقال محتجا على قوله
أوذيس ذو الحكمة رب السداد: ••• «آخيل يا عد سراة الخلود
مهما تحدمت فخل الجنود
لا تدفعن الجيش دون الحدود
وهم صيام فإذا النقع ثار
واصطدم الجيشان تحت الغبار
وهاجت الأرباب كل السرى
يطول لا ريبة أمر الطراد •••
فمر إذن يؤتى بزاد وراح
فذاك يولي البأس يوم الكفاح
فمن إلى المغرب منذ الصباح
يقوى على الإبلاء فوق السغب
مهما علت همته والتهب
20
ينهكه العي على رغمه
وهو بلا قوت ضئيل وصاد
21 •••
لكنه إما اكتفى وارتوى
نهاره قاتل جم القوى
بقلب بأس لم ينله الطوى
ولا يبالي باصطدام الطغام
من غرة الكرة حتى الختام
فوزع الجند على فلكهم
ومر إذن يؤتى براح وزاد
22 •••
وليحضرن أتريذ للمجلس
ما لك من ذخر حوى أنفس
في مشهد القوم به تانس
وواقفا بالجند فليحلف
أن بريسا قط لم يعرف
من ثم في خيمته فليقم
مأدبة تضمن صافي التواد •••
ويحسم الأمر فترضى إذا
تطيب نفسا وتعاف الأذى
وأنت يا أتريذ من بعد ذا
أنصف فمن قوام قوم أهان
لا بدع إن يسترضه كل آن»
فقال أتريذ: «أيا أوذس
أديت بالحكمة كل المفاد •••
أجل يميني صادقا أحلف
أمام رب كنهها يعرف
ولست بالحانث لكن قفوا
وأنت يا آخيل مهما استطار
في لبك الذاكي شرار الأوار
مه ريثما تبدو الهدايا هنا
فنبرم العقد لعهد الوداد •••
وأنت يا أوذيس بالأمر سر
من نخبة الفتيان وفدا أسر
للفلك يأتونا بذخر ذخر
أعددته لابن أياك أنا
وتلثبيوس يضحي لنا
23
رت لزفس ولشمس العلى
واستقدموا كل السبابا الخراد»
24 •••
فقال: «يا أتريذ هذا المجال
نخوضه بعد اصطدام الرجال
في هدنة تبدو عقيب القتال
إذ تسكن الغلة في مهجتي
أما ترى صيد سرى الحملة
صرعى فرى الحديد أجسادها
مذ زفس هكطور به القوم كاد •••
شاقكما الزاد فلا لن أحول
أحرض الآن جميع القيول
25
للكر لا زاد قبيل القفول
نؤجل الأدبة حتى المغيب
من بعد أن ننقم عمن أصيب
فالقوت والمشرب لن يدخلا
فمي وما إن خضت تلك الوهاد •••
كيف وفي الخيمة إلفي يرى
مخضبا بحد نصل فرى
من حوله الصحب بدمع جرى
قد حولوا رجليه للمدخل
آه فلن يحلو ذا اليوم لي
26
إلا انفجار النقع والبطش وال
إبلاء بين الزفرات الشداد» •••
فقال أوذيس: «ابن فيلا أجل
قد فقتني بأسا وفقت الملل
لكن لي فضل رشاد أجل
حنكني العمر وطول اختبار
فانظر إلى قولي بعين اعتبار
تضوى القوى أيان تمضي القنا
في الهام كالسنبل وقت الحصاد •••
ولا يهون الأمر حتى يميل
ميزانه زفس لأمر جليل
فليس للإغريق ندب القتيل
بالصوم إذ في كل يوم تخر
قتلاهم أنى إذن نستقر
ندفن قتلانا ونبكي أسى
يوما ولا نضوي ونألوا اجتهاد •••
ومن يعيشوا بعد ذاك القراع
عليهم أن لا يظلوا جياع
ليدركوا قهر العدى بالزماع
فذاك رأيي لا تطيعوا سواه
من ظل بين الفلك وافى بلاه
نكر طرا كر عزم على
أعدائنا رواض جرد الجياد» •••
وما انتهى أوذيس حتى اندفع
في ولد نسطور إمام الورع
ثواس ميجيس ومريون مع
ليقومذ يصحبهم ميلنيف
فسارعوا طرا بسير خفيف
خيم أغاممنون أموا إلى
أوذيس ينقادون أي انقياد •••
عادوا بما أتريذ فيها اذخر
مناضد سبع تشوق النظر
يكنفها عشرون طسا أغر
ومن بنات السبي سبع حسان
قد أبلغتهن بريسا الثمان
طرا تثقفن بصنع النسا
كذلك اثنا عشر رأسا جواد •••
أمامهم أوذيس في عشرة
شواقل من ذهب عدت
سائرهم في سائر التحفة
ساروا وألقوها أمام الحضور
فقام أتريذ المليك الوقور
وثلثبيوس هناك انبرى
إليه والخرنوص في الحال قاد •••
من ثم أتريذ انتضى مدية
إزاء غمد السيف ملوية
أدى فروضا صان مرعية
ناصية الخرنوص مذ قص مد
يديه من زفس يروم المدد
وسائر الإغريق أصغوا له
يعتقدون الخير خير اعتقاد •••
ثم تلا ينظر نحو العلى: «بزفس إني مقسم أولا
أجل آل الخلد بين الملا
بالأرض والشمس كذا أقسم
وببنات النار من تعلم
حقائق الأمر وتحت الثرى
بكيدها الحالف زورا يكاد •••
أن بريسا لبثت باحترام
ما قط مستها يدي في الخيام
لا لفراش أو لأمر يرام
وإن أمن فلألق كل الخطوب
شأن الذي يقسم وهو الكذوب»
وعنق ذاك الرت رميا رمى
فورا بنصل ساطع الحد حاد •••
وتلثبيوس تلقى الذبيح
يطرحه في قعر بحر فسيح
في اليم للأسماك قوتا أبيح
27
فصاح بين الجمع آخيل: «كم
يا زفس فوق الخلق هلت النقم
لو لم تشأ نكبة أبطالنا
ما سامني أتريذ قط احتداد •••
كلا ولا حمقا فتاتي استباح
لكن مضى الماضي وآن الرواح
هبوا إلى زادكم بارتياح
ثم على أعدائنا نحمل
طرا» كذاك انصراف المحفل
وارفضت الجند وكل مضى
يجري إلى أسطوله باشتداد •••
وقوم آخيل حثيثي القدم
ساروا بذياك الحبا للخيم
وأجلسوا الغيد وبعض الحشم
ساقوا جياد الخيل بين الجموع
فاندفعت تذري بريسا الدموع
مذ أبصرت فطرقل قد مزقت
أعضاءه صم الحدود الحداد •••
أهوت عليه بالبكا والعويل
تلطم ذياك المحيا الجميل
وصدرها البض وجيدا أميل
كأنها الزهرة في المشهد
جللها فرع هوى عسجدي
صاحت: «أيا فطرقل ويلاه يا
خل فتاة لازمتها النآد
28 •••
ألم أغادرك قبيل الذهاب
حيا فألقيتك عند المآب
ميتا فكم يتلو مصابي مصاب
أبي وأمي أنكحاني فتى
قد أبصرته مقلتي ميتا
دون الحصون اخترمته القنا
مكافحا يحسن عنا الذياد •••
وإخوتي لما استطار الغبار
ثلاثة بادوا بذاك النهار
وعاث آخيل بتلك الديار
بلدة مينيس العظيم اكتسح
وفي التحام الحرب بعلي ذبح
ولم تبح لي آه فطرقل أن
أهمي عليه عبرات الحداد •••
عللتني أن أخيلا يسير
لإفثيا بي فوق فتك تطير
يولم للأفراح حتى أصير
عرسا له يا معدن اللطف آه
عليك أهمي الدمع طول الحياة»
29
وانفجرت أجفانها وانبرت
كل السبايا حولها باحتشاد •••
يندبن في الظاهر فطرقل بل
يندبن خطبا جل فيهن حل
30
وحول آخيل سراة الملل
ساعون في استرضائه أن ينال
شيئا من القوت فبالبث قال: «أستحلف الأحباب أن يرعووا
ولا يسوموا ما أقول انتقاد •••
لا قوت لا شرب فقتل الحبيب
أجج في قلبي أوار اللهيب
أصوم حتى الشمس عنا تغيب
وليس يؤذيني طول انتظار»
وصرف القوم وظل الكبار
أتريذ أتريذ أذيس ونس
طور إذومين فنكس الجواد
31 •••
ظلوا وراموا سلوة تجمل
يلهوا بها وا بعد ما أملوا
سلوانه أن الوغى تثقل
وطأتها فكر في نفسه
وأن مغتما على بؤسه
وصاح: «واويبك يا ذا الذي
قد كنت لي إلفا وثيق العهاد •••
كم قبل في خيمي بذلت الهمم
في أدبة تقيم يوم النقم
32
مذ طلب الجيش العدى واقتحم
وأنت ذا الآن طعين طريح
كلا فنفسي الزاد لا تستبيح
ما عشت لن ينتابني حادث
يبدو كما ذا الحادث اليوم باد •••
كلا ولو يوما أتاني النبا
أن أبي في إفثيا قد خبا
ذاك الذي بالدمع دوما صبا
لابن نأي عنه بدار اغتراب
فيها يثير الحرب تحت الحزاب
وذاك من آثار هيلانة
أس الرزايا والعوادي الغواد •••
كلا ولو أنبتت فرعي الوحيد
نفطولم رب الجمال الفريد
إن لم يمت للآن أضحى فقيد
أملت لكن خاب كل الأمل
أني بإليون أوافي الأجل
أودي بعيدا عن حمى أرغس
وأنت يا فطرقل حي تزاد •••
إسكيرسا أملت أن تطلبا
حيث ترى نفطولما قد ربا
أملت من ثمة أن تذهبا
لإفثيا في فلكك الأسحم
ليده تدلي بما ينتمي
لي من عقار أو سبايا ومن
منازل شاقت وكل العتاد •••
فإن فيلا الهم لا شك مات
أو إنه في جرف اللحد بات
يشفق دوما أن توافي الثقات
مبلغة حتفي له بغتة»
وجاد بالدمع وهم جملة
33
هزتهم الذكرى لأوطانهم
وكلهم بفائض الدمع جاد •••
فرق زفس لهم وانثنى
نحو أثينا رفقه معلنا: «لم يا ابنتي ألقيت عبء العنا
بالشهم آخيل ألم ألفه
في خيمه يبكي على إلفه
كلهم لاهون في زادهم
وهو عن الخمرة والزاد صاد •••
هبي اسكبي العنبر والكوثرا
في صدره الضامر كي يصبرا»
فانبعثت من شم تلك الذرى
كنسر بحر في عظيم الجناح
يدوي بساحات الرقيع الفساح
قد هاجها زفس وفي نفسها
ود لآخيل فلا تستزاد •••
فأفرغت في صدره كوثرا
وعنبر الخلد لكي يصبرا
والجيش يستلئم مستبشرا
عادت إلى صرح أبيها الرفيع
ومن خلال الفلك هب الجميع
فانتشروا كالثلج في شمأل
ترمي به فامتد أي امتداد •••
ترائك تسطع من فوق هام
من دونها زان العوالي ولام
وصم أجواب تصد الحمام
34
فطفقت تبسم تلك البطاح
يشق فيها الجو لمع السلاح
وارتجت الأرض لوقع الخطى
وصبر آخيل اعتراه النفاد •••
أسنانه صرت صريرا وطار
من لحظ عينيه أوار الشرار
ولبة للبطش بالقوم ثار
وسطهم هب إلى شكته
من فضل هيفست ومن صنعته
فزر خفيه لساقيه في
عرى لجين شائقات جداد •••
ثم كسا الصدر بدرع تنير
وبين كتفيه الحسام الخطير
من فضة قد دق فيه القتير
والجوب ذاك الجوب أنى ارتفع
كالبدر بدر التم نورا سطع
في قبة الجو مضى لامعا
ينير أطراف الرقيع البعاد •••
كأنه والنوء عنفا قصف
حتى إلى اليم بفلك قذف
وعن مجال الأمن فيه انحرف
لهيب نار في محل اعتزال
يبصره الملاح فوق الجبال
وبعد هذا خوذة قد غدت
ككوكب في أفق الجو غاد •••
قونسها الواري عليه أدار
هيفست تزهو عذبات النضار
ثمت في الشكة آخيل دار
يخبرها هل وافقت جسمه
أو أزعجت في ثقلها عزمه
إذا بها مثل الجناحين قد
خفت بها يرتاد كل ارتياد •••
وسل من غمد سنانا صقيل
يثقل كل البهم إلا أخيل
أهداه خيرون لفيلا الجليل
قناته قد كان قبل انتقى
من رعن فليون ليوم اللقا
35
مرانة شماء أهوالها
عادت على الأبطال أدهى معاد
36 •••
وأفطميذ الخيل في الحال شد
وألقميذ ببهي العدد
فألجمت والصرع لما استند
للعرش أفطميذ في الكبكبه
في سوطه هب إلى المركبه
تلاه آخيل كشمس الضحى
عدته تزهو وتجلو السواد •••
بصوتيه الهدار بالجرد صاح: «يا نسل فوذرغة نسل الفلاح
زنث أباليس بجنح النجاح
بي للحمى عودا إذا ما ارتويت
لا تتركاني إن أمت ثم ميت
نظير فطرقل» فزنث انحنى
يطرق بالمضمد تحت القلاد
37 •••
قال وهيرا خولته المقال
وللثرى أعرافه بانسدال: «أجل أخيل اليوم شر النزال
نقيك لكن المنايا إليك
دنت ولم نجن بهذا عليك
لكنما الجاني إلاه سطا
وقدر ما رده قط راد
38 •••
فإن يكن فطرقل قد جردا
فلا لعجز من كلينا بدا
ليطونة تلك فتاها اعتدى
39
رماه في صدر السرى إذ أغار
يولي ابن فريام شعار الفخار
فالريح إن نسبق فإن الردى
في الغيب محتوم فلا يستعاد •••
لا بد أن يصميك تحت النصال
رب وقرم بقوى الرب صال»
40
وصوته أخفت بنات الوبال
فما بحرف بعد هذا نطق
فقال آخيل بملء الحنق: «لم بالردى يا زنث أنبأتني
فمنك ذا المنطق لا يستجاد •••
فلست بالجاهل حكما مضى
علي بالموت غريبا قضى
فلا أبالي لا ولن أعرضا
حتى أرى الطرواد سيموا الجزع
وثقلة العي عليه تقع»
وحث في صدر السرى جرده
بهدة تدوي بتلك النجاد
هوامش
النشيد العشرون
تحفز الآلهة للقتال وبطش أخيل
مجمله
عقد زفس مجلسه وأذن للآلهة بمعاضدة أي شاؤا من الفريقين، فانحازت هيرا وأثينا وفوسيذ وهيفست إلى الإغريق، وآذيس وأفلون وأرطميس ولاطونة وزنثس والزهرة على الطرواد، فاتخذ أفلون هيئة ليقاوون وحث آنياس على البروز لأخيل، فرامت هيرا أن تنفذ فوسيذ وأثينا لشد أزر أخيل ولكن أفلون رأى أن الأجدر بهم أن تجتنب الآلهة قتال البشر وترقبهم عن بعد، ولما رأى أخيل آنياس مقبلا عليه أنذره بالقتل إن لم يرجع فأبى إلا مبارزة أخيل، وكاد يهلك لو لم يبادر فوسيذ إلى إنقاذه فغشي على بصر أخيل، فاحتدم أخيل غيظا وأقدم يستحث صحبه على الفتك بالأعداء، وهكطور من الجهة الأخرى يستنهض همم صحبه وهم بالإقبال على أخيل لو لم يصده أفلون، فرجع وانقض أخيل على الطرواد يذبحهم ذبحا حتى فتك بأحد أبناء فريام الملك، فلم يتمالك هكطور عن الكر للطلب بثأر أخيه، وكاد البطلان يصطدمان لو لم ينقذ أفلون هكطور ويواريه في سحابة، ولما لم ينل أخيل منالا من هكطور جعل يبطش يمنة ويسرة بجنود الطرواد حتى جرت مركبته فوق القتلى.
وبراحتيه وقد تخضبتا
تقع العجاج على الدما جمدا
مجرى هذه الواقعة في اليوم الثلاثين أيضا.
النشيد العشرون
1
لك يا ابن فيلا الباسل احتشدا
حوليك قومك ينظم العددا
أنتم إزاء الفلك قابلكم
فوق الهضاب يعج جيش عدى
وثميس زفس دعا فأنفذها
تدعو ذويه لمجلس عقدا
2
طارت من الأولمب جائبة
كل الورى تستقدم العمدا
3 •••
لبوا وغير الأوقيانس لا
نهر تخلف بل جروا عجلا
4
لم يبق من حورية سكنت
نبعا جرى أو جدولا جدلا
أو غابة أو روضة نضرت
إلا سعت فورا لتمتثلا
فإذا بهم والصرح غص بهم
من حول زفس بمحفل حشدا •••
جلسوا على سدد تفيض سنا
لأبيه هيفست النبيل بنى
ومزعزع الأرضين من لجج ال
أعماق هب ملبيا علنا
5
ثم انبرى إذ قر وسطهم
مستفسرا عما دعاه هنا: «يا ذا الذي يرمي الصواعق ما
أفضى لحشد بني العلى وبدا •••
أبذينك القومين تفتكر
والحرب بينهم ستشعر»
فأجاب ركام الغيوم: «نعم
أدركت ما علقت به الفكر
ما زلت دوما عانيا بهم
حتى ولو هلكوا ولو دمروا
فأنا أسرح ناظري جذلا
فوق الألمب إذا اللظى اتقدا •••
وجميعكم بين السرى انقسموا
وبسلك أي شئتم انتظموا
ما خلت طروادا تطيق لقا
آخيل لو فذا بدا لهم
مرآه راعهم فكيف وقد
أضحى على فطرقل يحتدم
لا بدع إن دك الحصون وإن
قصد القضاء خلاف ما قصدا»
6 •••
فبهم أوار الفتنة التهبا
وتطايروا كل كما رغبا
للفلك هيرا أسرعت وكذا
فالاس ثمة فوسيذ ذهبا
وكذلك القوام هرمس وال
جبار هيفست القوي عقبا
يجري يخمع لا تطيق له
ساقاه حملا إن جرى وعدا •••
وأريس رب القونس القلق
أم الطراود بادي الحنق
مع أرطميس في كنانتها
مع عفرذيت المبسم الطلق
7
وكذاك لاطونا وزنث جرى
من ضفتيه جري مندفق
وكذاك فيبوس من انسدلت
تزهو غدائره لكل مدى
8 •••
وقبيل ما آل العلى انحدروا
كرت سرى الإغريق تفتخر
آخيل عاد عقيب عزلته
ولهول رؤيته العدى صغروا
ألفوه مشتدا بشكته
كأريس هول الإنس يستعر
وبنو العلى بالناس ما اشتبكوا
حتى غمام الفتنة التبدا •••
فالاس بين الثغر والحفر
صاحت تشدد جملة الزمر
وأريس هب هبوب عاصفة
يغري طراوده على الأثر
بهضاب سيموس يهد وفي
قبل المعاقل واري الشرر
فكذلك الأرباب فتنتهم
صدعت وزفس من العلى رعدا •••
فتنوا سرى الجيشين فاصطدما
وفسيذ هز الأرض محتدما
فارتج إيذا من دعائمه
حتى أماد بميده القمما
وتزعزعت طروادة وغدا
بالفلك وجه اليم ملتطما
حتى بجوف الأرض آذس عن
عرش الجحيم اهتز مرتعدا •••
بالويل صاح وهاله الخبر
يخشى فجاج الأرض تنفجر
ومنازل الظلمات ظاهرة
تبدو يراها الجن والبشر
تلك الوهاد اللاء مخبرها
حتى بنو العليا له ذعروا
ولذاك زلزال العوالم إن
بسرى العلى عادي الشقاق عدا •••
لفسيذ ملك الهول مذ ظهرا
فيبوس بين سهامه صدرا
ولهرمس لاطونة برزت
وإلى أثينا آرس انحدرا
ولزوج زفس بدت شقيقة من
في القاصيات سهامه نشرا
هي أرطميس تميد ساطعة
قوس النضار بكفها ميدا
9 •••
وعلى هفست انقض مصطفقا
ذيالك النهر الذي اندفقا
في الخلد زنث جرى اسمه وكذا
بالإسكندر في الورى انطلقا
هذي هي الأرباب فتنتهم
وأخيل ظل يؤج محترقا
للقاء هكطور وخرق سرى
تلك الكتائب صبره نفدا •••
يذكر ليروي في تحدمه
رب الوغى السفاك من دمه
لكن فيبوسا أثار له
أنياس يعصم بأس معصمه
في شكل ليقاوون خاطبه: «أنياس أين صلى تعظمه
آليت للطرواد مرتشفا
لتلاقين أخيل منفردا»
10 •••
قال: «ابن فريام علام على
رغمي إليه تسوقني عجلا
ليست بأول مرة ثبتت
قدمي لديه فأمني فشلا
في إيذة من وجه صعدته
وليت قبلا هالعا وجلا
لما استباح صوارنا ورمى
لرئيسة وفداس مضطهدا
11 •••
لكن زفس مشددا زكى
وقواي أنقذني من العطب
أولا فكان أبادني عجلا
وأمامه فالاس في الحجب
توليه نصرتها ليقتضب ال
ليليغ والطرواد بالقضب
ما كان إنسي له كفؤا
وبنو العلى كانوا له عضدا •••
إن يرم صانوه وحيث رمى
طارت مناصله تسيل دما
فلو أنهم ما بيننا عدلوا
ما سامني ذلا كما زعما
حتى ولو صلبت مفاصله
مثل النحاس وصال واقتحما»
فأجاب فيبوس: «ادع أنت إذن
رهطا بأكناف العلى خلدا •••
فلعفرذيت ساقك النسب
ولبنت شيخ البحر ينتسب
فإذن لك الرجحان عن ثقة
حسبا وزفس لعفرذيت أب
فهلم بادره بنصلك لا
يأخذك من نعراته الرعب»
من ثم أفرغ فيه قدرته
فانقض لا يرتد مبتعدا •••
فرأته هيرا بارزا يثب
من جيشه لأخيل يقترب
فدعت إليها من بطانتها
من نصرة الأرغوسة اطلبوا
قالت: «أثينا فوسذ انتبها
لمآل حرب دونها الحرب
أنياس رام أخيل مدرعا
بأسا على فيبوس معتمدا •••
فيبوس فلندفع بلا مهل
أو بعضا فورا أخيل يلي
ويخولنه فوق شدته
بأسا ويعصمه من الوجل
فيرى عيانا صيد أسرتنا
أولوه ودا جل عن مثل
وجميع أحلاف الطراود ما
هالوا وعنا يقصرون يدا •••
أفما انحدرنا للكفاح هنا
لنقي أخيل اليوم كل عنا
فإذا كتمنا الأمر ثم بدا
في وجهه رب عتا جبنا
12
فمناظر الأرباب مرعبة
ولأي إنسي بدت وهنا
من ثم فليرد الحمام كما
غزل القضاء سنيه مذ وجدا» •••
فأجاب فوسيذ: «دعي الشططا
ما كان شأنك أعهد الغلطا
ما رمت إذ كنا أشد قوى
حرب العباد نلي فننخرطا
للإنس خلي الحرب نرقبها
من فوق ذاك التل طي غطا
وإذا أريس وفيبس اعتديا
فورا عمدنا مثلما عمدا •••
وأخيل إن ردا وإن ردعا
فهناك بأس أكفنا صدعا
وهناك ظني للعلى هلعا
نلقاهما لسرى العلى رجعا»
من ثم فوسيذ بأسرته
هرعوا إلى السور الذي ارتفعا
سور لأجل هرقل قبل بنت
فالاس والطرواد مذ جهدا •••
من وجه وحش البحر فيه لجا
لما عليه هاجما خرجا
فهناك فوسيذ بمن معه
في طي حجب غمامة ولجا
وإلى رياض هضاب سيميس
فيبوس مال وآرس عرجا
بجميع أنصار الطراود من
حوليهما فوق الربى قعدا •••
وكذا من الصويين قائمة
لبثت سرى الأرباب ناقمة
ظلت عناك بظل عزلتها
عن ساحة الهيجاء واجمة
لكن زفس بعرش عزته
قاض بأن تنقض هاجمة
وصفائع الجيشين ساطعة
أجت ونقع خطاهما صعدا •••
والأرض تحت الرجل والعجل
مادت لوطأة هاته الملل
من كل جيش زف مقتحما
بطل تحدم أيما بطل
أنياس رب البأس قابله
آخيل رب البيض والأسل
هز القناة مبرزا وعدا
أنياس في الميدان منجردا •••
في رأسه أعراف خوذته
قد هاج يرفع صلد جنته
فانقض آخيل كليث شرى
نهض الجموع لكسر شوكته
فزعت لهم كل البلاد فلم
يعبأ وظل على سكينته
حتى رماه بهم فتيتهم
بقنا فأحدق مرغيا زبدا •••
حنقا تقدم فاغرا فمه
يصلي بمهجته تضرمه
أسنانه صرت ومقلته
بشرارها تذكي تحدمه
ولذيله في صفحتيه غدا
قرع يروع من توسمه
فيهب منقضا ليهلك أو
ليبيد من أبطالهم عددا •••
فلذاك آخيل تحرقه
للقاء أنياس يشوقه
حتى إذا ضاق المجال أتا
ه مخاطبا بالعنف يرمقه: «أنياس جيشك لم أراك كذا
برزت عنه إلي تسبقه
أزعمت فرياما يشاطراك ال
أحكام في طروادة أبدا •••
كلا فلن يجزيك ذاك فما
هو قاصر حكما بما حكما
كلا وإن ما بي ظفرت هنا
فلديه أبناء سموا عظما
ولعله إن بي فسكت إذن
من أرضه لك يجزل الكرما
بقعا زهت كرما ومزرعها
خصب فتحشد كل ما حصدا •••
هيهات تدرك ها هنا الأربا
أفما لواك مثقفي هربا
أفما ادكرت اليوم يوم على
إيذا فررت لدي مضطربا
إذ عن سوامك قد فصلتك لم
تنفت فردت وراءك الهضبا
فلجأت في لرنيسة وأنا
هدمت من لرنيسة العمدا •••
زفس وآثينا بعونهما
إذ واصلاني عدت مغتنما
وسبيت منها الغيد مستلبا
حرية متعنها قدما
لكن زفس وآله حفظوا
أنياس حتى ناجيا سلما
وإخالهم ذا الحين ما عبئوا
فيه فصانوه كما اعتقدا •••
فارجع نصحتك بين قومك لا
تتصد لي فتسام شر بلا
فالغر ليس بذاعن أبدا
إلا إذا بهوانه اتصلا»
قال: «ابن فيلا لست أعجز عن
فظ الكلام فذلك ابتذلا
أزعمت إرعابي بقولك ذا
أو خلت تلقى ها هنا ولدا •••
إن غاب عن أبصارنا الأثر
ما غاب عنا العلم والخبر
فنقد روى الراوون قبل لنا
آثار أسلاف لنا اشتهروا
لأياك إما كنت متصلا
وكذا لثيتيس كما ذكروا
للزهرة الغراء منتسبي
والشهم انخيس أبي عهدا •••
لا بد إحدى الأسرتين ترى
ذا اليوم نادبة فتى قهرا
ما كان لغو القول فاصلنا
عن موقف الطعن الذي استعرا
ولئن ترم تحقيق نسبتنا
وفقا لما قد ذاع وانتشرا
فاعلم فدردنوس وهو فتى
زفس بنى دردانيا بلدا •••
إليون في ذيالك الزمن
في عرض هذا السهل لم تكن
والناس قد كانت منازلهم
في سفح إيذا الشامخ القنن
من ثم دردانوس منه نشا ال
مولى إرخثون فتى الفطن
أثرى الورى طرا مسارحه
مرحت بهن خيوله رغدا •••
ألف وألفا حجرة سرحت
من خلفها أفلاؤها مرحت
برياس هام ببعضها فحكى
مهرا نواصيه لقد سبحت
13
فعلقن باثني عشر ما سحقت
قمم السنابل حيثما رمحت
وإذا هبين على البحار فمن
فوق المياه وثبن مطردا •••
هذا إرخثون ومنه نما
أطروس من طروادة حكما
إيلوس عساراقس وكذا
غانيمذ أبناؤه العظما
غانيمذ لجمال طلعته
رفعته أبناء العلى فسما
ليكون ساقي زفس بينهم
فلذاك في أولمبهم سعدا
14 •••
إيلوس كان للومذون أبا
وللومذون طثون انتسبا
وكذاك فريام قليطيس
هيقيطوون ولمبس النجبا
وبنجل عساراقس عرفوا
قافيس جدي من علا رتبا
فأبي ابنه أنخيس كان كما
فريام هكطور فتاه غدا •••
هذا فخاري نسبتي ودمي
ولزفس ذلك قيم الأمم
إن شاء أعلى همة وإذا
ما شاء أوهن عالي الهمم
فهنا مجال الطعن ليس لنا
كالولد فيه ساقط الكلم
فلسان كل فتى بفيه يرى
ذلقا ومهما يبتغي سردا •••
ميدان هذا اللغو متسع
وسبابهم من أسمعوا سمعوا
إن نبغ يشحن لغونا فلكا
مئة أرادمه ولا يسع
15
فعلام كامرأتين أشربتا
سفها بموقع حطة نقع
شتما تقاذفتا بقارعة
كذبا على صدق بغير هدى •••
كلا فلست برائعي جزعا
أقبل نجل صم النصال معا»
من ثم أرسل رمحه فمضى
وعلى المجن سنانه وقعا
فعليه صل وفوق هامته
آخيل صلد مجنه رفعا
قد خاف أن الرمح يخرقه
لكنما ذا الخوف كان سدى •••
هيهات عجز الإنس يعمل في
ما أولت الأرباب من تحف
وقف السنان على النضار فلم
ينفذ ولولا ذاك لم يقف
خمس طباق الترس طرقها
هيفست تدفع آفة التلف
نضد اثنتين من الفلز على
ظهر المجن ونعم ما نضدا •••
وعليهما لوح من الذهب
ومن النحاس صفيحتا عجب
خرق النحاس النصل يرجع عن
لوح النضار رجوع مضطرب
فرمى أخيل سنانه فمضى
في جوب أنياس ولم يخب
في صفحة حيث النحاس علي
ه السبت رق وطائرا صردا
16 •••
متلملما أنياس مستترا
مد المجن أمامه حذرا
فقناة فليون به نفذت
والجوب ماد يصل منكسرا
17
والنصل أنياس رآه إلى
وجه الثرى عن وجهه صدرا
فلق الحضيض يغل مرتعشا
فيه وكاد يفلق الكتدا
18 •••
فنجا ولكن صدره انتفضا
وأخيل صاح ودونه اعترضا
سل الحسام وفي حزازته
أنياس هائل صخرة قبضا
بطلين تجهض في زمانك ذا
فبها بغير تكلف نهضا
ومزعزع الأرضين بأسهما
من حيث فر مراقبا شهدا
19 •••
لولاه أنياس بحدته
لرمى أخيل بصلد صخرته
ولكان صان أخيل مجوبه
أو خوذة لمعت بجبهته
ولكان سيف أخيل في يده
أنياس أدنى من منيته
لكن فوسيذا بأسرته
في الحال صاح ينيله المددا: ••• «أنياس آخيل سيقتله
أسفا ونحو أذيس يرسله
فيبوس أغواه فدان له
جهلا وذا فيبوس يغفله
فعلام وهو البر تدهمه
نوب الأنام ونحن نهمله
ما قط عن بث الفروض لها
بين العباد لكل من عبدا •••
لا شك زفس يغاظ إن سفكا
دمعه أخيل فاتقوا الملكا
يأبى القضاء له الهلاك هنا
وسليل دردانوس ما هلكا
أو كيف دردانوس أسرته
طرا تبيد وتألف الدركا
وهو الذي من نسل زفس له
في الإنس عهد الود قد عقدا •••
فعلى بني فريام قد غضبا
زفس وأنياس اجتبى وحبا
فلذاك سوف يسود محتكما
بين الطراود كيفما رغبا
وبنوه ثم بنوهم وكذا
من بعدهم من ولدهم نجبا»
20
قالت له هيرا: «برأيك رم
أو نجوة أو كشفة وردى
21 •••
لكنما فالاس أقسمت
ولكم أنا أقسمت من جهتي
أن لا نعين بني الطراود لو
إليون بالنيران ألهبت»
فانقض فوسيذ لمشتجر ال
أرماح حيث الصم صلصلت
حيث ابن أنخيس بصخرته
وحسامه آخيل قد جردا •••
فلدى أخيل غمامة نشرا
غشيت نواظره فما نظرا
ومن المجن اجتر زانته
وأمامه ألقى بها وجرى
وبوثبة فوق الرجال ومن
فوق العجال بنده عبرا
فإذا به طرف الكتائب حي
ث معسكر القفقونة انتضدا •••
قال: «ابن أنخيس وأي سري
أعماك فاستهدفت للخطر
آخيل آل الخلد تؤثره
ولقد عداك فكن على حذر
أولا فدار أذيس تبلغها
بالقسر عما خط في القدر
وسواه في الإغريق لا بطل
تلقى إذا لاقيته الشددا •••
وإذا القضاء أباده فجل
صدر الكتائب باطشا وصل»
من ثم غادره بموقفه
وخلاف هذا القول لم يقل
وأنار حول أخيل فانقشعت
تلك الغياهب عنه في العجل
فرأى وصعد حر زفرته
لهفا يناجي النفس والخلدا: ••• «رباه أي عجيبة رمقا
طرفي فذا رمحي الذي انطلقا
لا أبصر القرم الذي طعنت
كفي أروم هلاكه حمقا
قد خلت أنياس انتمى خطأ
لبني العلى فإذا به صدقا
إن ينج حينا حسبه فرج
ابدا فهذا الورد لن يردا
22 •••
ولأدفعن كتائبي وأنا
لي عنه في بهم العداة غنى»
ومضى يجوب صفوف فيلقه
علنا يمنيهم بليل منى: «هلا رأيت بني أخاي هنا
كل امرئ منهم فتى طعنا
ما كان لي ما صلت منفردا
أردي وأحطم جحفلا أجدا
23 •••
لا آرس ذا الجمع إن هجموا
أو نفس فالاس تصدهم
سأكر ما ثبتت قوى قدمي
ويدي أصول بهم ولا أجم
وأخوض كل سرى كتائبهم
في همة من دونها الهمم
خا خلت من يلقى ظبي أسلي
هذا اللقاء هنيهة حمدا •••
فهنا أخيل يحث عصبته
وهناك هكطور بطانته: «نبلاء طرواد أخيل فلا
تخشوا تبجحه وصولته
وأنا أطيق كذاك عن حمق
رهط الخلود أهين حرمته
لكن إذا بدت القنا علنا
بات الهمام أمامهم خردا
24 •••
إن قال بعض القول ثم وفى
فبسائر الأقوال قد هرفا
فلأبرزن له لو التهبت
كالنار كفاه كما وصفا
كالنار لو كفا ألهبتا
أو كالحديد الصلب لو وقفا»
فارتدت الطرواد مسبلة
سمر القنا مشتدة جلدا •••
وتكثفوا وعلا هديدهم
لكن جرى فيبوس بينهم
قال: «ابن فريام أخيل على
جدة هنا إياك تقتحم
قابله في قلب السرى أبدا
إذ غص بالدراع حشدهم
أو لا فإن فاتتك صعدته
ماعنك حد حسامه شردا»
25 •••
فارتاع هكطور لما سمعا
وانصاع بين جنوده هلعا
وأخيل صاح تروع هدته
وبعزمه بين العدى اندفعا
بسليل أطرنت إفيتين
من خير صيد جنودهم شرعا
في سفح إيمول بهيذة ذا
ت الخصب من حورية ولدا •••
لاقاه آخيل بكرته
بالرمح يفلق صلب هامته
فهوى يصل سلاحه وعدا
آخيل مفتخرا بنصرته: «يا أشجع الأبطال أنت هنا
ميت نأى عن أرض نشأته
عن بحر غيفس حيث هيلس وال
هدار هرمس قد سقى الجددا»
26 •••
غشى ظلام الموت مقلته
والمركبات ترض جثته
وأخيل ذيمول بن انطنر
ذا الباس أورده منيته
في الصدغ وارى رمحه فمضى
للعظم مخترقا تريكته
قض الدماغ فقضه بطلا
واري العزيمة باسلا نجدا •••
وهفودماس رماه مذ وثبا
عن خيله متملصا هربا
في ظهره فأكب يزار مث
ل الثور قيد لفوسذ قربا
ومزعزع الأرضين يجذل في
هيليقة لعجيجه طربا
27
وكذاك عج هفودماس إلى
أن فارقت أنفاسه الجسدا •••
ومن ثم آخيل انثنى وسعى
وفليذر ابن مليكهم صرعا
من ولد فريام وأحدثهم
سنا وأعداهم إذا طلعا
وأحبهم طرا إليه لذا
منع الوغى عنه فما امتنعا
فجرى بصدر الجيش مفتخرا
في عدوه حمقا وما رشدا •••
آخيل وافاه بعدوته
في الظهر ينفذ حد صعدته
حيث النجاد هناك يكنفه
حلق النضار ووصل لأمته
نفذ السنان إزاء سرته
فأكب يشهق فوق ركبته
أمعاؤه اندلعت فأمسكها
بأكفه للأرض مستندا •••
فرآه هكطور فهاج أسى
فورا وعينيه الظلام كسا
فانقض مثل النار يؤلمه
أن ظل من آخيل محترسا
بشحيذ منصله انبرى ومضى
يجري أخيل وباللقا أنسا
قال: «اطمئني نفس هاك بدا
من قد أذاب حشاشتي كمدا •••
ذا قاتل الخل الحبيب دنا
فعسى هنا فصل الخطاب لنا
ما بعد هذا القرب من فرج
بلياذنا بالجيش يفصلنا»
ومن ثم أحدق ثم صاح به: «هي ادن فالموت الزؤام هنا»
فأجابه من غير ما جزع: «أفخلت تلقى ها هنا ولدا؟ •••
لن تجزعني هاته الكلم
لن يعجزني شتم من شتموا
لن أبخسنك طول باعك لا
إذ فقتني والبهم كلهم
لكنما الأرباب عصمتنا
يؤتون من شاءوا ولاءهم
ولعل ذا النصل الشحيذ إذا
وافاك في أحشائك اطردا» •••
ورمى القناة وفي الخفا وقفت
فالاس تنفخ حينما حذفت
رجعت لدى قدميه ساقطة
وعن ابن فيلافي الهوى انحرفت
فعدا أخيل ثائرا حنقا
في هدة بين السرى قصفت
لكن فيبوسا بقدرته
وولائه هكطورا افتقدا •••
بغمامة دهماء حجبه
وأخيل منقضا تعقبه
فعدا ثلاثا ضاربا حنقا
بطن الغمام يضيع مضربه
ثم انبرى كالرب رابعة
بهديده يوري تلهبه: «ذي نجوة أخرى وذاك جدا
فيبوس يا كلبا وأي جدا
28 •••
ما خضت نقع الحرب مزدلفا
إلا لجأت لعونه سلفا
فلئن أتل نصر الأولى نصروا
ما عدت إلى منك منتصفا
والآن لي بسواك عنك غنى
في كل ما بلغت يدي وكفى»
وبجيد ذريوف مثقفه
وارى فأهوى يكدم الثأدا
29 •••
وسليل فيليتور البطلا
ذيموخسا وافى وقد قفلا
في طعنة نفذت بركبته
فرمته ثم بسيفه حملا
وعليه أجهز ثم كر على
ولدي بياس عمدة النبلا
ألقرم دردانوس يصحبه
لوغوس من لوقوده فئدا
30 •••
فكلاهما كانا بمركبة
وكلاهما خرا بصلصلة
هذا يراه بالحسام وذا
بمثقف للموت منصلت
وغدا فلاح فتى ألسطر أط
روس لديه بقلب معمعة
فلركبتي آخيل مرتميا
أحنى ومنهد القوى سجدا •••
قال: «اعف وارفق بالصبا كرما
مذ كنت تربك واحقن دما»
وا جهله قد فاته حمقا
أن ابن فيلا قط ما رحما
لندائه ما رق يسمع بل
بحسامه ذك الندا حسما
في طعنة فهقت بسيل دم
واستخرجت من جوفه الكبدا •••
من ثم من موليس اقتربا
وبصعدة ذك الفتى ضربا
خرقته من أذن إلى أذن
فأكب فوق الأرض منقلبا
وتلاه إيخكلوس آغنر
بمهند في رأسه نشيا
والسيف حتى كعب مقبضه
بدم القتيل بكفه ومدا
31 •••
وبزند ذوقليون البطل
وارى السنان بمجمع العضل
فأميل ساعده بثقلته
فثوى يراقب وافد الأجل
بحسامه آخيل هامته
أنأى بخوذته ولم يمل
متناثرا طار الدماغ ومن
ه الجسم ظل هناك منجردا •••
وتلاه رغموس بن فيرس من
كانت له إثراق خير وطن
فسنانه آخيل أنفذ في
رئتيه لما بالسنان طعن
فارتاع آريثوس سائقه
فلوى العنان وللفرار ركن
في ظهره آخيل بادره
فأكب والخيل انثنت زؤدا
32 •••
هذا أخيل وتلك سطوته
كالرب صال تروع صولته
حيث انبرى أجرى سيول دم
واجتاحت الأعداء كرته
مثل اللهيب بقنة كسيت
أجما بها تشتد هبته
حيث الرياح جرت به التهم ال
أشجار يحطم كيفما وقدا •••
وكأنما في بيدر طرقا
ثوران فوق السنبل انطلقا
يبسط الشعير لديهما فغدا
بخطاهما يندق منسحقا
داسا وعجا تحت نيرهما
ومن السنابل حبها اندفقا
33
وكذا بمركبة أخيل جرى
فمضت تدوس البهم والزردا •••
ومن المحالات النجيع غدا
ومن الحوافر طائرا أمدا
متفجرا سيلا يخضب ذا
ك الجذع تحت الخيل والعددا
34
وأخيل للشرف الرفيع ولل
عز المنيع به المرام حدا
وبراحتيه وقد تخضبتا
نقع العجاج على الدما جمدا
35
هوامش
النشيد الحادي والعشرون
وقائع أخيل وقتال الآلهة
مجمله
انهزم الطرواد أمام أخيل حتى بلغوا ضفة نهر زنثس، وساد بينهم الرعب فاندفع بعضهم إلى المدينة وألقى الجم الغفير منهم بأنفسهم إلى النهر، وقبض أخيل على اثني عشر فتى غض الشباب ليقتلهم بدم فطرقل، ثم التقى بليقاوون بن فريام فقتله وطرحه في النهر، فحنق النهر وحث عسطروف على قتاله فظفر به أخيل وقتل كثيرين من صحبه، فسالت الدماء في النهر وارتفعت فيه الأشلاء، ثم هاج وماج وطغى على أخيل ليغرقه، واستغاث أخيل زفس فبادرت أثينا وفوسيذ لإغاثته، فنجا من طغيان زنثس، فاستصرخ ذلك النهر نهر سيمويس المحاذي له وتألبا على إغراق أخيل، فكاد يهلك لو لم تبادر هيرا إلى إنقاذ ابنها إلاه النار أخذا بيده، فانقض هيفست واشتعل وألهب الضفتين وجفف المياه الطاغية في السهل، فالتمس النهر رحمة هيرا صاغرا فتشفعت له، وهناك انحدر الآلهة إلى حومة الوغى والتحم القتال بينهم، فبرزت أثينا لإلاه الحرب وصرعته وبادرت الزهرة فذهبت به، فتعقبتها أثينا ولطمتها، وبرز فوسيذ إلى أفلون، ثم انبرت هيرا فلطمت أرطميس واجترت من على كتفيها قوسها وكنانتها، فشكت أرطميس أمرها إلى أبيها زفس فطيب خاطرها وسكن بلبالها، ثم دخل أفلون إلى إليون ورجعت الآلهة إلى الأولمب وظل أخيل مندفقا كالسيل وفريام يراه من فوق البرج فأمر الحرس بفتح الأبواب ليتسنى لشذاذ الجيش المنهزمين أن يدخلوا، وأنهض أفلون البطل أغينور فتربص للقاء أخيل، وكاد يهلك لو لم يبادر أفلون لإغاثته فواراه ثم تمثل بهيئته وانهزم أمامه فأبعده عن الحصون حتى لجأ جميع الطرواد إلى مدينتهم. «ولم ينج إلا حثيث الخطا»
لا تزال وقائع هذا النشيد في اليوم الثلاثين.
النشيد الحادي والعشرون
1
لدى ثغر زنث الذي اندفقا
زلالا ومن زفس انبثقا
2
أخيل جيوش العدى بددا
فشطر تدافع مرتعدا
لإليون فوق السهول التي
بها أمس أرغوسة ولت
وهامت بقلب قد انخلعا
وهكطور من خلفها اندفعا
وفوق الطراود هيرا البخار
أثارت لتثقلهم بالفرار
3
وشطر بمجرى المياه العميق
ترامى بصلصلة وشهيق
يموج بفضي موج يمور
له يقصف اليم حتى الثغور
صراخ شديد ورجع صدى
وجند تراموا بغير هدى
كأنهم بحثيث المفر
جراد من النار للنهر فر
يثور اللهيب على أثره
فيلجأ للماء من شرره
4
كذاك أخيل الطرواد ساق
إلى زنث فوق المجاري العماق
خليطا بهم غص ذاك المجال
كباش رجال وجرد عجال
5
وألقى بعامله فاستند
على أثلة فوق تلك الجدد
وكر بصارمه المنتضى
كرب بدهم البئوس قضى
وخاض العباب يبت الرقابا
ويقتل كل كمي أصابا
6
وما ثم إلا زفير كماه
ونقع يخضب وجه المياه
فمن وجهه اندفعوا بالثبور
إلى النهر والتجأوا للصخور
كأنهم سمك ذعرا
لدلفين هول وراه جرى
فأم الشقوق بثغر أمين
لينجو من شر موت مبين
ولما من الفتك كلت يداه
ونال مناه بكيد العداه
من اللجة استخرج اثني عشر
غلاما كخشف الفلاة اقشعر
وكل فتى بزهي نطاقه
هنالك أحكم شد وثاقه
لفطرقل كفارة تدخر
إلى الفلك أرسلهم ثم كر
إذا بلقاوون قد خرجا
من النهر يحسب أن قد نجا (هو ابن لفريام كان أسر
أخيل قديما بليل عبر
دهاه إلى تينة قد عمد
بأرض أبيه بنصل أحد
وغض الغصون لقد قطعا
لأكناف مركبة صنعا
وأركبه معه السفنا
فبيع بلمنوس ممتهنا
هناك ابن إيسون منه شراه
وإيتين الإمبروسي افتداه
وأرسله بعد بذل الكرم
لأرض أرسبا فمنها انهزم
وعاش قريرا لثاني عشر
نهار بأوطانه حيث قر
فسيق بحكم إلاه عظيم
لآخيل ينفذه للجحيم)
وما عبر النهر حتى سحق
قواه العياء وسح العرق
فألقى على الجرف شكته
قنا ومجنا وخوذته
وألفاه آخيل مرتعشا
فبادره صائحا دهشا: «لعيني رباه لاح العجاب
أمن أرض لمنوس ذا القرم آب
إذن من أبدت ببهم الجنود
من اللجج الدهم سوف يعود
نعم آب واليم ما عاقه
وإن عاق بالرغم أرفاقه
إذن حد ذا النصل فليجرعن
لنعلم هل بعد ذا يرجعن
أو الأرض هدامة العزمات
تبيدنه كرثيث الرفات»
فهاجس آخيل ذا هجسا
وذياك نجوته التمسا
دنا يرتمي فوق ركبته
وآخيل أوما بصعدته
فأهوى وعن ظهره انحرفت
وفي الأرض غرثانة وقفت
7
فمد لقاوون كلتا يديه
يمس بإحداهما ركبتيه
وتلك بها النصل عنفا قبض
وصاح: «أخيل أصبت الغرض
فها أنذا لاثم ركبتيكا
فرق لمرء ذليل لديكا
عليك له حق حق الولاء
فقد ذاق زادك قبل الجلاء
8
قبيل المسير بهذا الأسير
يباع بلمنوس عبدا كسير
نعم بى ظفرت بروض أغن
وأنأيتني عن أبي والوطن
وما نلت من ثمني المستفاد
سوى مئة من عجول البلاد
فإن تعف عني فحق الفداء
مئات ثلاث وصدق الولاء
نهاري ثاني عشر نهار
به عدت بعد العوادي الكبار
وقد ساقني ليديك القدر
فكم قد قلاني مولى البشر
أجل آه أمي لعيش قصير
لقد ولدتني وويل كثير (لووثوة بنت ألتيس من
على ثغر سستينويس قطن
وشاخ بفيداسة حيث ساد
قروم الليغ رجال الجلاد)
لفريام زوجا غدت ولكم
له غيرها زوجة مذ حكم
فأولدها عنده ولدين
وأنت ستثكلها البطلين
فليذر من كإلاه صدر
برأس المشاة ببأسك خر
وبي قد رمى بعض آل العلى
إليك لأجرع كأس البلا
ألا ما رحمت فكنت العتيقا
فلست لهكطور تدري شقيقا
وما ولدتني أم فتى
حشاك لفطرقل قد فتتا»
كذاك لقاوون ألقى الخطاب
ذليلا فأسمع مر الجواب: «تعست فلا تذكرن الفدا
ففطرقل قبلك قد فقدا
فكم بكم قبل من بطل
أسرت وبعت ولم أقتل
ولكنني اليوم أيا رماه
بقبضة كفي أي إلاه
يبيد ذليلا ولا سيما
بنو الملك فريام حامي الحمى
فمت صاح مت ودع الحسرات
ففطرقل أرفع شأنا ومات
ألم تر قدي وهذا الجمال
وفيلا أبي الشيخ شخص الكمال
وأمي من الخالدات العظام
وما كل ذا ليقيني الحمام
ولا فرق إما نهارا يتاح
وإما مساء وإما صباح
فلا بد قرم بنصل يطير
يجندلني أو بسهم طرير»
9
فخر لقاوون ممتقعا
ومن جوفه لبه انخلعا
وعاف القناة ومد يديه
وآخيل في الحال مال عليه
بسيف بحديه غاص بصدره
بترقوة الجيد من تحت نحره
فخر على وجهه والتوى
ووجه الثرى من دماه ارتوى
وآخيل ألقاه من قدمه
إلى النهر مختضبا بدمه
وصاح: «فرح مطعما للسمك
يمص بهامي الجراح دمك
فلا أم ثم عليك تصيح
هنا الإسكمندر فيك يسيح
فيلقيك للبحر حيث يدب
إليك من اللج حوت يثب
ومن شحمك الغض يؤتى الغذا
أجل فلتبيدن طرا كذا
تفرون دوني وسيفي يفل
كذاك بإليونكم نستقل
فليس بواقيكم النهر ذا
بقضي مجراه شر الأذى
ولا ما ذبحتم له من عجول
ولا ما طرحتم به من خيول
10
نعم ستبيدون طرا هنا
فداء لذي البأس فطرقلنا
وجند بسيفكم قتلوا
وآخيل إذ ذاك معتزل»
كذا قال والنهر زاد احتداما
وفكر كيف ينال المراما
وكيف بصد أخيل يزيل
عن القوم شر الهلاك الوبيل
ولكن آخيل بالرمح زف
على عسطروف سليل الشرف
11 (هو ابن فليغون من نسبا
لأكسيس وإلى فيربا
فأكسيس النهر قد كان هام
بها فحبته بذاك الغلام
12
ألا وهي ذات المكان المكين
وبكر بنات لدى أكسمين)
له عسطروف بواري الزماع
تربص محتدما لا يراع
برمحيه قام يروم لقاه
وزنث ببأس شديد حباه
وكم كاد زنث أخيل بما
به من خيار الجنود رمى
ولما تدانى بذاك البراح
كلا البطلين فآخيل صاح: «أيا ذا الذي لم يرعه جلاد
أخيل فمن أنت من أي ناد
فويل أب لم يهبني ابنه
فلا شك ينهكه حزنه »
فقال: «وما بانتسابي تروم
فداري البعيدة دار القروم
فيونا الخصيبة منها الرجال
معي أقبلوا برماح طوال
ومنذ بلغت لهذا المقر
ببهمي ذا اليوم حادي عشر
وجدي أكسيس خير نهر
بماء زلال على الأرض يجري
وأنبئت أني سليل فتاه
فليغون ذي البأس رب القناه
فأقبل إلي» فأوما أخيل
عليه بعود القناة الطويل
فزج هنا عسطروف إليه
بكلتا قناتيه من راحتيه
وقد كان يحكم زج النصال
بكف يمين وكف شمال
فنصل بظهر المجن وقع
بعسجد هيفست حيث ارتدع
ونصل ذراع أخيل قشر
فمنه يسير النجيع انفجر
وغل يغوص بفرط ظماه
إلى النقع فوق الحضيض إزاه
فآخيل بالرمح فورا قذف
فطاش إلى الجرف حيث وقف
وغاص إلى وسطه باضطراب
من العنف يرتج فوق التراب
فسل أخيل حساما صقيلا
على جنبه الصلب كان أميلا
ورام الفيوني اقتلاع القناه
ثلاثا فخابت ثلاثا مناه
ولما انثنى خاسرا وبدا
عياه إلى كسرها عمدا
لولها ولكن أخيل وثب
عليه ببتاره وضرب
فخر وأجفانه انطبقت
وللأرض أحشاؤه اندفقت
ففي صدره داس يدخر
صفائحه وهو يفتخر: «هنا مت فليس يهون على
بني النهر حرب سليل العلى
فإن كنت من نسل نهر كبير
فإني من آل زفس القدير
أبي قيل المرمدون الحميد
أبوه أياك بن زفس المجيد
لزفس عنا كل رب فخور
وأبناؤه فوق ولد النهور
فذا زنث دونك هيهات أن
يقيك ويدفع عنك المحن
ومن ذا الذي دون زفس يقف
ومنه أخلوس يرتجف
13
ونفس المحيط أبي كل بحر
ونهر وينبوع ماء وبئر»
إذا زفس من جوه رعدا
تراه بلجته ارتعدا»
وجر مثقفه وهناك
ثوى عسطروف بغير حراك
على الجرف من حوله تندفق
مياه بنينانها تصطفق
14
تقاطر مندفعات لديه
لكي تنهش الشحم من رئتيه
وقوم الفيونة مذ أبصروا
زعيمهم دمه يهدر
وزند أخيل رماه قتيلا
لديه على زنث ولوا فلولا
وخلقهم ابن أياك انطلق
يبيد القروم بتلك الفرق
كثر سيلخ ميدن إينيوسا
أفيلست عسطيفل ثرسيوسا
كذا إمنسوس ولولا تصدى
له النهر فل الجموع وأردى
تصدى له حانقا وخرج
بزي فتى من عباب اللجج
وصاح بصوت دوى بالجدود: «آخيل رعتك سراة الخلود
لقد فقت بالبأس بهم الزمر
كما فقتهم بعتو وشر
إذا زفس أولاك قهر العدى
أما لك في السهل كل المدى
فدعني فسيلي هذا الدفاق
بأشلاء قتلى الطراود ضاق
فلا منقذ لغصيص زعابة
إلى البحر ممتزجا بعبابة
كفاك صدقتك فتك ذريع
فقد راعني منك هذا الصنيع»
فقال: «أمرت وأنت المطاع
أيا إسكمندر في تي البقاع
على أنه ليس لي من مرد
إلى أن أردهم للبد
وهكطور ألقى ببأس شديد
يبيد به أو حياتي يبيد»
وهب كرب وراهم يصول
فصاح بفيبوس زنث يقول: «أيا رب قوس اللجين الأغر
أفاتك مطلب زفس الأبر
أما بك أرسل معتمدا
إلى قوم طروادة عضدا
تدافع حتى براح تغيب
ويسيل ستر الظلام القريب»
15
وأما أخيل فما ارتدعا
وللنهر من ثغره اندفعا
هنا لك زنث احتداما طنا
وأزبد منتفخا ورغا
وثار وعج كثور يخور
بتياره مستشيطا يمور
وفاض على جثث طرحا
بمجراه آخيل مجترحا
فمن مات ألقاه في ثغره
ومن عاش واراه في قعره
وحول ابن فيلا جحافا جرافا
تدافع حتى على الجوب طافا
16
به قدماه تقلقلتا
فما بهما بعد ذا ثبتا
تشبث بالمهجة الزاهقه
بدردارة غضة باسقه
فمالت وآصلها تتفكك
إلى الأرض أهوت به تتبتك
ويانع أغصانها انتشرا
ووجه الحضيض بها انقشرا
وظلت كجسر عظيم يحول
وصدت مجاري تلك السيول
فريع أخيل وفر يطير
إلى السهل فيه حثيثا يسير
ولكن تقفاه ذاك الإلاه
بتياره المدلهم وراه
يروم له ذلة وانخذال
فيكفي الطراود شر الوبال
فخف أخيل كطير يدف
على بعد مرمى الرماح يزف
كحالك نسر عثا بالطيور
وقصر عنه هفيف الصقور
وراح يفر على ذعره
يصل السلاح على صدره
وفي إثره النهر حيث التوى
تعقبه طاغيا ودوى
كأن امرأ بنضير الغياض
سقى بدفاق العيون الرياض
فطهر قبل انصباباته
مجاري المياه بمسحاته
فما خلت إلا انبجاسا تدفق
تدافع فوق حصى تترقرق
وخر خريرا مذ انحدرا
يسيح ودافعه قصرا
كذا حيث دار أخيل يميل
بآثاره زنث سد السبيل
ولا بدع فالناس لا قبلا
لهم أبدا بموالي الملا
فكم مرة بخطاه تربص
لزنث يرى هل إذن يتخلص
وهل كل آل العلى اعتصبوا
عليه ليخذله الهرب
فما كان من زنث إلا ارتفع
إلى كتفيه بتلك الترع
فهب ومحتفزا وثبا
بأزمته فعلا الهضبا
ولكن زنث التراب جرف
فموقف آخيل فيه انخسف
هناك التوت هلعا ركبتاه
فأن وصاح يروم النجاه: «أيا زفس هل لا إلاه قدير
يرق لحالي به أستجير
فإن أنج من زنث فلينزل
علي بلا النوب الهمل
فليس بآل العلى جملة
كأمي من سامني ذلة
فكم خدعتني بقول الكذوب
وكم زعمت باشتداد الخطوب
بأني قبالة هذي الحصون
بسهم أفلون ألقى المنون
علام بعامل هكطور لا
هلكت وأخبره البطلا
لو اجتاحني وسلاحي سلب
لقيل همام هماما ضرب
على أنني اليوم في ذا المكان
أموت بذا النهر موت الهوان
كراعي خنانيص غر ولج
خليجا فما منه قط خرج»
17
فلما انتهى فوسذ أسرعا
لنجدته وأثينا معا
بهيئة إنس له اعترضا
وبالأنس راحته قبضا
فخاطبه فوسذ أولا: «ألا يا ابن فيلا دع الوجلا
إلاهان رفدك راما هنا
أثينا بحكمتها وأنا
بنا زفس أسرى إذن فاسمع
وكل نصائحنا فاتبع
فزنث ستلقيه عاف أذاكا
وما كان في الغيب فيه رداكا
فلا تغمد السيف حتى ترى
بإليون جيش العدى انحصرا
وهكطور تصمي وللسفن
تعود بمجد رفيع سني»
هما انقلبا للعلى والبطل
بجملته للكفاح اشتعل
ومن حوله السهل حيث لمح
بما فاض من زنث طرا سبح
غثا بسلاح عليه يطوف
وأشلاء قتلى ابترتها السيوف
فكر وما بعد ذا ناله
خمول وزنث فما هاله
أثينا أنالته عزما جديد
فما راعه بعد منه الهديد
فبرح بالنهر ذاك الغرور
فزاد اضطرابا وعج يفور
وصاح بسمويس مستنجدا: «أخي هلم فعجزي بدا
هلم كلانا هنا نعتصب
على رجل واحد ونثب
وإلا فمعقل فريام ذل
له والطراود سيموا الفشل
هلم وفض بالعيون الكبار
وأجر السيول غزارا غزار
وفض الصخور على الشجر
فتفتر عزمة ذا المفتري
عتا مستبدا كرب فخور
وعاث اعتسافا يهيل الثبور
فلا نال في حسنه وقواه
ولا بصفائحه مبتغاه
سيلبث ذاك السلاح المتين
بقعر المياه دفين الغرين
18
وأطمر بالرمل ذاك الجسد
عليه يهال قضيض الزبد
هناك يقيم بشر مقامه
فلا يهتدي قومه لعظامه
وأكفيهم عبء قبر يشاد
له يوم يلتزمون الحداد»
ومن ثم هاج عليه وماج
ودمدم يدوي بذاك الفجاج
رغا زبدا ودما وخبث
وتياره احمر تحت الجثث
19
وماد بآخيل يضطرب
وهيرا بسدتها ترقب
فصاحت تولول مذ أطبقا
عليه فأوشك أن يغرقا: «بني حبيبي الأعيرج طر
فقرنك زنث فقيه استعر
20
هلم انجدنا بنار تثور
وأغري الجنوب أنا والدبور
من اليم بالنوء تصطدمان
فتلهم نارك كل مكان
تذيق الطراود دهم البئوس
وتفني صفائحهم والرءوس
فلا تبق في ثغره شجرا
وفي قلبه انقض مستعرا
ولا يغرينك لا بفديد
ولا بالتماس ولا بوعيد
21
ولا تخمدن أوار السعير
إلى أن أصيح بصوت جهير»
فأرث بالسهل نارا ذكت
بأشلائهم أولا فتكت
كماة رماهم أخيل العنيد
وما كان أكثر ذاك العديد
فما خلت إلا لثرى يبسا
وطغيان زنث به انحبسا
كروض سقاه الحياء تهف
شمال خريف به فيجف
فيجذل زارعه طربا:
ومن ثم هيفست ملتهبا
أدار على زنث نار الشرار
فثار بمجراه واري الأوار
فدرداره باد من أصله
بصفصافه وكذا أثله
كذا السعد والسدر والخيزران
بآصلها والفروع الحسان
برمتها اتقدت شررا
فلم تبق عينا ولا أثرا
وأسماكه كل حيتانها
وحياتها فوق نينانها
تغوص فلولا بضيق النفس
لهول المهب وحر القبس
وفي قلب زنث استطار يعيث
حميم الصلا فدعا يستغيث: «هيفست بنارك مالي قبل
فأي إلاه تطلبت ذل
كفى كف وليفتك ابن أياكا
بطروادة فيذيع الهلاكا
فما لي وهذا الوبال الألد»
كذا صاح لكن هفست استبد
وأج بغدران زنث ففار
كقدر تفور بنار تثار
يسيح بها شحم رت سمين
على حافها يسرة ويمين
ومن تحتها يابس الحطب
بموقده قدح اللهب
كذا زنث لما به اشتعلا
سعير هفست علا وغلا
ولم يجر بل فار متقدا
فهيرا دعا يطلب المددا : «علام بحقك دون سوايا
سليلك هب يروم أذايا
أمن كل أنصار طرواد هل
تخالين أني المسيء الأضل
فإن شئت لا جئتهم بعد ذا
كفاه كفى فليكف الأذى
ولن أبتغي بعد رفدهم
باك نعم علنا أقسم
ولو كل طروادة احترقت
بنار الأخاءة وامحقت»
فهيرا استجابت وصاحت: «كفى
بني فقف ذاك حد الجفا
فما فوق ذا جاز أن نشجنا
بني الخلد من أجل قوم الفنا»
22
فأخمد هيفست نيرانه
وأجرى كذا زنث غدرانه
وهيرا بغل مرارتها
إليه سعت بوساطتها
فتم بكشفه زنث الوفاق
وثار بآل الخلود الشقاق
فقامت لهم ضجة وعجيج
من الأرض للجو يعلي الضجيج
وزفس لفتنتهم والصخب
لقد هزه بعلاه الطرب
23
وما لبث الخطب أن فدحا
فهبوا يثيرون تلك الوحى
وأولهم خارق الجنن
أريس تصدر للفتن
أثينا أتى بشحيذ الدباب
وصاح: «اخسئي يا ذباب الكلاب
24
علام بنا هجت هذا اللدد
بشر عتو عدا كل حد
أأنسيت يوم ذيوميذ صال
علي وأغريته للنضال
وسددت عامله فاستطار
ومزق جلدي فثار بثار»
25
وإذ ذاك عامله دفعا
ففي ظهر مجوبها دفعا
مجن وهيهات تفعل به
صواعق زفس على غضبه
فما كان إلا أن التوت
وجلمود صخر تناولت
هنالك ذا الصخر منذ القديم
لتلك المعالم حدا أقيم
ثوى هائلا حالكا خشنا
رمته به بيسير العنا
فحلقومه دق فانقلبا
وسبعة أفدية حجبا
26
فعقر بالترب ذاك الشعر
وصل السلاح عليه وصر
فصاحت إذ ابتسمت جذلا: «جهلت وما الحق أن تجهلا
وفاتك حمقا سمو قوايا
فأقبلت مستهدفا لبلايا
فذق من صلى أمك اللعنات
لظى أزمات على أزمات
27
جزاء اطراحك رفد الأخاء
وعون الطراود أس البلاء»
وعنه بألحاظها أعرضت
هنا عفرذيت له عرضت
وقادته من يده تتدفق
دماه بحس تضعضع يشهق
وهيرا على البعد تبصرها
فصاحت بفالاس توغرها: «ألا فانظري قحة الزهرة
تفاقم والحرب مستعرة
28
عليك بها فلقد أدبرت
بآريس هو الملا وجرت»
فهمت أثينا وقد طفحا
لذا لب مهجتها فرحا
براحتها صدرها لطمت
فخارت قوى عزمها وارتمت
29
كذا عفرذيت وآريس ظلا
طريحين فوق التراب وذلا
هما لبثا بعنا وزفير
وفالاس صاحت بداري النعير: «كذا فليبد من لطرواد مال
وسام الأغارق شر النكال
فلو أن جملة أنصارهم
إلى الحرب ثاروا بكبارهم
بعزم كما عفرذيت بدت
لنجدة آريس مذ عربدت
لكف القتال العنيف الوبيل
وإليون دكت لعهد طويل»
30
فهيرا لذا ابتسمت واستطار
إلى سيد النور رب البحار:
31 «أوار سراة العلى مضطرم
لماذا إذن نحن لا نصطدم
أنرضى الهون وعار القفول
لقبة زفس بهذا الخمول
إلى الحرب فيبوس قم وتهيا
فإنك أحدث سنا فهيا
تقدمت عهدا وزدت اختبار
فبادر فحقك بدء البدار
32
فهلا ادكرت أأحمق كم
بإليون برح فينا الألم
بنا زفس أرسل دون الجميع
إلى لومدون فجئنا نطيع
لنعمل عاما بخدمته
فنقبض معلوم أجرته
فشدت الحصون الحسان الفساح
تعز امتناعا ولا تستباح
وأنت سرحت بتلك البقر
على شم إيذا الكثيف الشجر
ولما عنا جهدنا اكتملا
وحان لنا نقبض البدلا
وأقبلت الساع بالفرج
أبى لومدون لما نرتجي
33
فأرسلنا خاسئين وأقسم
وهم بآذننا أن تصلم
وهم بغلك رجلا وزندا
وبيعك في جزر البحر عبدا
تعمد شر خيانتنا
فعدنا بغل حزازتنا
أمن أجل هذا وليت بنيه
ولم تنتقم مثلنا من ذويه
لنفني طروادة الكافرة
وأبناءها والنسا الطاهرة»
34
فقال: «أفوسيذ هل خلتني
قصير الحجى فاقد الفطن
فمن أجل من أنا أبرز لك
أمن أجل إنس ثواه الدرك
وما الإنس في الأرض إلا ورق
تراه نشا يانعا وبسق
معيشته من نتاج الثرى
ولكنه صاغرا دثرا
35
فدعنا إذن من ويل النضال
ودعم يجولوا بحرب سجال»
وعنه تقهقر محتجبا
لقاء أخي زفس مجتنبا
فلاحت هناك له أخته
قنيص الضواري تبكته:
36 «أراك انهزمت أرامي السهام
وخولت فوسيذ كل المرام
لماذا برزت بقوس طحور
وأبرزت بين الصدور الغرور
37
فهل بعد ذلك ذا تزعم
بباسك فوسيذ تقتحم»
فصد ولم يلق بنت شفه
وهيرا استطارت بها الأنفه
على أرطميس انثنت بالخطاب
تعنفها بشديد السباب
وصاحت: «أيا كلبة يا وقاح
أفي ظل وجهي هذا الصياح
ستصلين نيران غيظي وإن
برزت بقوس لغيري ترن
جعلت نعم لبوة للنسا
تنيلين من شئت مر الأسى
38
ألا ما فتكت بوحش ربا
بشم الجبال وغر الظبا
وعفت البروز بحمق الشطط
لمن لا تطيقين لقياه قط
أرمت إذن خبر هول المكر
خذيها إذن عبرة تعتبر»
هنا قبضت مذ تدنت إليها
بيسرى يديها على معصميها
ومالت بيمنى على منكبيها
تجرد قوسا تؤج عليها
وباسمة أذنها ضربت
بتلك الكنانة فاضطربت
ودارت بجملتها تنتتر
وأسهامها دونها تنتثر
وغادرت القوس وانهزمت
بذلتها والدموع همت
كورقاء يذعرها وجه صقر
تزف لتلجأ في شق صخر
وما كان قبل له قدرا
بها قط أن ينشب المنسرا
وصاح بلاطونة هرمس: «بحربك هل خلتني آنس
فمن رام عرس أبي السحب
بسوء فقد ضل في مذهبي
فأمي بني الخلد وافتخري
علي ببأسك والظفر»
39
ففورا لجمع النبال انبرت
عن الأرض من حيث قد نثرت
وسارت على أثر ابنتها
بفارجها وكنانتها
40
وإذ للألمب أتت أرطميس
بقصر النحاس تبدت تميس
بعبرتها أقبلت تسبح
على ركبتي زفس تنطرح
ومن حولها البرقع العنبري
تألق يسطع للنظر
إلى صدره ضمها وابتدر
يهش لها واستقص الخبر: «من الخلد من ذا عليك افترى
كما لو أتيت ابنتي منكرا»
فقالت: «أبي تلك زوجك من
أثارت بآل السماء الفتن»
كذا بحديثهما اشتغلا
وفيبوس طروادة دخلا
لئلا يدك العداة الحصار
برغم القضاء بذاك النهار
وسائر آل العلى رجعوا
لأولمبهم حيثما اجتمعوا
لدى زفس ذاك بنصرته
طروب وذا بحزازته
وظل أخيل بحر الجلاد
يبيد كماة العدى والجياد
وحيث بدا لهم فتكا
بهم ودماءهم سفكا
كنار بغيظ بني الخلد شبت
ببلدة قوم عصاة فهبت
وأعلت دخانا رقى للرقيع
فسيم الجميع البلاء الفظيع
41
وفي البرج فريام منتصبا
على البعد آخيل قد رقبا
إذا بالطراود قد ذعروا
وكلهم شردا أدبروا
فمن ثم مكتئبا نزلا
يحذر حراسه وجلا: «ألا فافتحوا كل أبوابكم
إلى أن تدوس بأعتابكم
فلول السرى. فأخيل هجم
مغيرا ووا هول هاتي النقم
وإن لجأ الجند طرا إلى
معاقلنا فاقفلوا عجلا
لئلا يحل بحر العراك
أخيل بها وهناك الهلاك»
ففتح في الحال كل رتاج
وقد رفعوا منه كل زلاج
42
وشذاذ طروادة شرد
قضيضا قلاعهم وردوا
يغشيهم نقعهم والصدى
يحرق مهجتهم كمدا
43
وفيبوس خف أمامهم
يسهل ثم انهزامهم
وراهم أخيل حديد الفؤاد
يجيل حدود الحديد الحداد
وكاد يجوز بعسكره
معاقلهم بتسعره
فأغرى أفلون آغنرا
أخا العزمات ابن أنطنرا
وألهب بالبأس مهجته
وبالسحب حل قبالته
إلى زانه قربه استندا
ليدرأ عنه ثقيل الردى
لآخيل آغنر وقفا
ولكنه مع ذا ارتجفا
وفي نفسه قال: «إن أجم
لآخيل آه وأنهزم
كما جندنا هلعا هربت
لديه فمنقي لا شك بت
وإن أعتزلهم وشأنهم
وآخيل مكتسح لهم
واضرب بذا السهل مجتهدا
حثيثا لإيذة مبتعدا
وفي بعض آجامه أستتر
نهاري ومن بعد ذا أنحدر
وفي النهر أغسل رشيح العرق
وأرجع لإليون عند الغسق
أفز ناجيا - لا فماذا الصواب
ولا لا علام أنا بارتياب
أليس يراني طلبت الخلاص
فينقض إثري وأين المناص
ومن أين لي عدوه وقوى
بها الخلق طرا لديه سوا
إذا فلأقف دون هذي القلاع
للقياه محتفزا للدفاع
فليس له غير نفس تنال
وجسم يشق بحد النبال
44
نعم زفس عظمه إنما
علمنا لقوم الفناء انتمى»
45
ومن ثم تحت السلاح تلملم
بقلب لحرب ابن فيلا تضرم
كبير قد انقض من أجمه
على قانص واري العزمه
فلا يلتوي لشديد النباح
ولا للصياح ولا للسلاح
وليس يذل ولو نفذا
بعاتقه منصل شحذا
فإما البلوغ لمنيته
وإما ليوم منيته
كذاك ابن أنطنر لبثا
لصد أخيل وما اكترثا
فهز القناة ومد المجنا
وصاح: «ابن فيلا هنا أقبلنا
فهل خلت ذا اليوم إليوننا
تذل فتبلغ منها المنى
تعست فمن دون ذا غمرات
تمنى بها وكماة ثقات
أباة حماة لأوطانهم
وأولادهم ولنسوانهم
46
إذن أنت أنت ستلقى رداكا
هنا اليوم مهما استطالت قواكا»
وآخيل بالرمح فورا طعن
ففي ساقه بالصفائح رن
ومرتدعا بالفضاء انطلق
وكيف نحاس هفست يشق
فهم ابن آياك يستعر
وكاد بآغنر يظفر
ولكن فيبوس في الحال حال
فحجبه بغيوم ثقال
وأرسلته سالما يذهب
أمينا وما مسه عطب
وجاء آخيل بحيلته
كآغنر تحت هيئته
لديه على السهل ولي يهيم
لينئيه عن فل جيش هزيم
وراوغه طي بون قليل
ليطمعه بارتواء الغليل
47
على إسكمندر راح يجد
وآخيل في إثره مبتعد
وطروادة بمناسرها
وهلع جند عساكرها
48
لهم لاح في بعده الفرج
بغير هدى سورهم ولجوا
49
لدى الباب لا أحد أحدا
تربص يرقب مفتقدا
ليعلم من باد ممن سلم
وكلهم هالع منهزم
فغصت وماجت بهم لغطا
ولم ينج إلا حثيث الخطى
هوامش
النشيد الثاني والعشرون
مقتل هكطور
مجمله
لم يبق من الطرواد خارج الأسوار إلا هكطور، فانقض أخيل عليه فشهد فريام ذلك واستحلف ابنه أن يتقي الخطر ويدخل السور فلم يصغ هكطور إلى كلام أبيه، فأخذت أمه هيقاب تتوسل إليه وتنذره بالخطر المحدق به فلبث مكانه لا يتزعزع تتقاذفه الأفكار، وإذا بأخيل كاد يدركه فانهزم مرتاعا، فجرى أخيل في أثره حتى دار ثلاثا حول إليون، فرق زفس لهكطور ومال إلى إنقاذه فعارضته أثينا وأبت إلا إنفاذ القدر المحتوم، فأذعن زفس لها فاندفعت أثنيا من السماء وحاول أفلون أن ينقذ هكطور، فأخذ زفس فسطاسه فوزن قدر الفريقين، فإذا بأجل هكطور قد حل فتخلى عنه أفلون، وتمثلت أثينا بصورة ذيفوب أخي هكطور فحسنت له التربص لملاقاة أخيل، ولما التقى البطلان رام هكطور أن يتواثق وأخيل، على أن القاتل منهما لا يدنس جثة القتيل، فأبى أخيل مواثقته على شيء فتبارزا فأطلق هكطور رمحه فلم ينل من خصمه إربا، فالتفت إلى أخيه وإذا به قد توارى فعرف الخدعة واستبسل وقاتل حتى خر صريعا، وقبل أن تفيض روحه سأل آخيل أن يعيد جثته إلى أهله، فشتمه آخيل فتنبأ له هكطور ساعة الموت بالحمام القريب، فاجتمع الإغريق حول الجثة ومثلوا بها، ثم ربطها آخيل إلى مركبته ودار بها حول البلد والطرواد ينظرون ويتوجعون والنساء يندبن وينتحبن، وكانت أنذروماخ امرأة هكطور غافلة لا تعلم بما جرى فسمعت عويل حماتها فصعدت إلى البرج تستطلع الخبر فرأت الجثة، فأغمي عليها ورثت زوجها رثاء تتفطر له الأكباد:
وكل نساء إليون
ذرفن لنوحها العبرا
لم تنته حتى الآن حوادث اليوم الثلاثين.
النشيد الثاني والعشرون
1
قضيض الجيش مذ ذعرا
هزيما كالظبا نفرا
إلى إليون حيث هنا
ك خلف حصاره انحصرا
يجفف في ظلال قلا
عه عرقا به سبحت
كتائبه ويروي غلة
فيها قد استعرا
وراءهم الأخاءة وال
جواشن في عواتقهم
2
جروا لكن هكطورا
تربص يرقب القدرا
لدى أبواب إسكيا
قضاء الشؤم ثبطه
وبابن أياك آفلون
أحدق يصدق الخبرا:
3 ••• «علام وأنت من بشر
جريت تجد في أثري
أتجهل أنني رب
فثرت بلاهب الشرر
تركت هناك طروادا
تفر إلى معاقلها
وجئت هنا فلالا أن
تفوز تعست بالظفر
فلست بمائت أبدا»
فقال آخيل متقدا: «أزجاح السهام وشر
آل الخلد والكبر
أرى أنأيتني عن سو
رهم مكرا وإلا كم
فتى عض الحضيض قبي
ل ما بحصاره استترا •••
بغدرك للحمى دخلوا
ومجدي شابه الخلل
ولم تخش العقاب فآه
لو بك كان لي قبل»
ونحو السور راح بكب
ره يسعى كلهميم
مجل بالعجال طوى
المجال وفاته الملل
4
وكان الشيخ فريام
على الأبراج يرقبه
فلاح له بكرته
عليه تسطع الحلل
ككوكبة الخريف إذا
بديجور الدجى ظهرت
تخال الزهر لا نور
حواليها لها ظهرا
5 ••• (دعوها الكلب جبارا
لما عن شؤمها دارا
تؤج وإنما يصلى ال
ورى من حرها نارا)
فأن الشيخ ملتطما
ومد يدي ضراعته
وهكطور الحبيب دعا
ووجدا قلبه فارا
ولكن ظل هكطور
لدى الأبواب محتدما
لحرب آخيل مضطرما
ليدرأ باللقا العارا
فمد أبوه كفيه
إليه وصاح مكتئبا:
حبيبي لا تقم فذا «لآخيل فتندحرا
6 •••
نعم هو فائق عزما
فيؤتيك الردى رغما
نعم ويلاه ما أعتا
ه في سفك الدما ظلما
فلو آل العلى ودو
ه ودي خلت جثته
7
كلاب البر والعقبا
ن تنهش لحمها حتما
وفارق مهجتي ضيم
يبرح بي لولد في
أقاصي البحر وا لهفي
عبيدا باع أو أصمى
وأين الآن ليقاوو
ن أين فليذر فهنا
فلول الجيش لكني
لذينك لا أرى أثرا •••
أفي جيش العداة هما
لنجزل في فدائها
نحاسا أو نضارا في
خزائن منزلي ركما
فإن الشيخ ألتيسا
حبا من قبل ابنته
لووثا عين أزواجي
جزيل كنوزه كرما
أم انحدرا بموتهما
إلى ظلمات آذيس
وثم البث والحسرا
ت تدهمني وأمهما
ولكن للعزاء ترى
سبيلا كل أسرتنا
إذا لم يقض آخيل
بموتك ها هنا الوطرا •••
فلذ للسور لذ عجلا
حبيبي واتق الفشلا
وذد عن جند طرواد
ونسوة جندها النبلا
ولا تتعرضن إلى ال
حمام بوجه آخيل
فتلبسه حلى المجد ال
أثيل ويبلغ الأملا
ورق لوالد هم
نصوح زفس قدر أن
يبيد بعيد أن يدها
ه كل بلا وأي بلا
8
إبادة ولده طرا
وذل بناته أسرا
ونهب منازل فيها
العدو يعيث منتشرا •••
وكنات بذلتها
تجر على مرارتها
وأطفال بكف الظل
م ترمي من أسرتها
هناك أبوك تهلكه
الحتوف وسوف تدركه
ببتار الأعادي أو
بسهم من كنانتها
فأطرح دون أعتابي
تمزقني كلاب قد
غذوت بظل أبوابي
حماة لي بجملتها
دمي تمتص ناهشة
فتروي حر غلتها
وثم تنام ملأى دو
ن لحم بينها انتثرا •••
لئن مات الفتى الجلد
وفيه أنفذ الحد
صريعا ظل لكن ج
ل فيه الحسن والمجد
ولكن حيث شيخ العج
ز حرمته قد انتهكت
كلاب دسن شيبته
وناصع لحية تبدو
فتلك النكبة الدهما
ء لا رزء يشاكلها
بمرء البؤس ما اشتدت
به أرزاؤه الأد»
9
وظل ينوح مصطلما
بكفي عجزه شعرا
وهكطور يصد كأن
ه بأبيه ما شعرا •••
هنالك أمه اندفعت
بهاطل عبرة همعت
لديه صدرها كشفت
وثدييها له رفعت
وصاحت: «آه هكطور
بني ارفق بوالدة
وهذا الصدر فارع فكم
بعهد صباك قبل رعت
وهذا الثدي فاذكر كم
رضعت فنحت مبتهجا
تعال تعال فالأسوا
ر في وجه العدى امتنعت
إليها لذ وقاتل ذ
لك العاتي بسترتها
ولا تتربصن له
وحيدا واتق الخطرا •••
فإن دمك السخين سفك
فلا نعش يهيأ لك
تنوح أنا وعرسك حو
له والحتف قد صدعك
ولكن تغتدي عند ال
سفائن نائيا عنا
طعاما للكلاب بذل
ة فيها الشقي هلك»
10
كذاك كلاهما انتحبا
ولكن صم هكطور
وظل بوجه ذاك القر
م لا يخشى عنا ودرك
كأفعى الشم حول الوك
ر نقع السم في فمها
ترى ملتفة حنقا
وتقدح عينها شررا •••
وتلبث في انتظار فتى
عليها بالسلاح أتى
كما هكطور في وجه ال
عدو بأرضه ثبتا
فأتكا جوبه للسو
ر يخبط في هواجسه: «لئن ألح الحصار ففو
لداماسا أراه عتا
11
يعنفني على منعي ال
طراود عن معاقلهم
وسيف آخيل لاح لنا
بذاك الليل متصلتا
فلم أفقه نصيحته
وإن حسنت وسرت على
مرام النفس فامحقت
سرايا الجيش وانكسرا •••
ورب معارض جحد
أمام الغيد والعمد
12
يقول: «عتو هكطور ال
مكابر علة الشدد
فكلا لن أعود إذن
فإما قتل آخيل
وإما مصرعي بالعز
في ذودي عن البلد ...
13
وما ظني إذا ألقي ال
تريكة والمجن هنا
وأتكئ عاملي للسو
ر منبعثا بلا عدد
وأطمعه برد هلان
ة وجميع ما ذخرت
وما فاريس قبل أتى
به في الفلك وادخرا •••
فتلك العلة الكبرى
ليخل بها بنو أترا
ومما في خزائننا
نبيح لهم كذا شطرا
وكبار الشيوخ يمي
ن صدق يغلظون لهم
بأنهم عليها جم
لة ما أسبلوا سترا
14
شططت فتلك أضغاث
بها قلبي يحدثني
فعذري لن يروق لعي
نه إن ألتمس عذرا
فيبطش بي بغير ترد
د فأبيد كامرأة
إذا عريت من عدد
تصد الخطب حيث عرا •••
فما هذا المجال هنا
مجال للحديث لنا
فأبذل في الخطاب له
عميق السر والعلنا
كما شاق الحديث فتى
وغانية بلا حرج
لدى ملولة أو صخ
رة في ظلها أمنا
فليس لنا سوى قرع ال
نصال أجل بلا مهل
فيظفر من أبو الأولم
ب زفس دماءه حقنا»
15
كذلك ثار هاجسه
وآخيل بعامله
كرب الحرب هياج ال
ترائك للوغى ابتدرا •••
بريق الدرع قد سطعا
عليه كبارق لمعا
تألق أو كنور الشم
س في كبد السما طعلا
وهكطور لرؤيته
تقطع وصل عزمته
ففر وخلفه آخي
ل طيار الخطى اندفعا
16
كباز يطلب الورقا
ء وهي تزف هالعة
وما جارى بزاة الشم
طير في الفلا ارتفعا
تعقبها بصرصرة
تذيب لباب مهجتها
فراغت وهو منقض
بنافذ مخلب شهرا •••
كذا الأبواب هكطور
تجاوز وهو مذعور
تطير به خطاه وه
و دون آخيل مدحور
فجازا مرقب الأرصا
د حتى التينة العظمى
على جدد العجال حيا
ل خط فوقه السور
17
إلى أن بلغا الحوضي
ن حيث الماء منبجس
بينبوعين من زنث
تؤم رباهما الحور
فينبوع سخين وال
بخار عليه منتشر
وينبوع بماء كال
جليد تخاله انفجرا
18 •••
هناك مغاسل الصخر
لغسل ملابس غر
لها قد كانت الغادا
ت من قبل الوغى تجري
تعداها كلا البطلي
ن ذا عاد وذا تال
شجاع فر ممن كا
ن أشجع منه بالكر
19
وما انبريا بميدان ال
رهان لجلد ثور أو
لذبح يحرز العدا
ء يوم الفوز بالنصر
20
ولكن السباق هنا
على أنفاس هكطور
ثلاثا حول إليون
إزاء حصارها عبرا •••
كسباق القياديد
تغير بمأتم الصيد
21
إلى غرض على أمد
يقام لهن محدود
وجائزة المجلي تل
ك إما خبر منضدة
وإما غادة مسبية
من صفوة الغيد
وآل الخلد قاطبة
من الأولمب راقبة
فصاح أبو سراة الخل
د والناس المناكيد: «أرى بشرا أحب تعق
بوه حول إليون
لهكطور الفتى الورع ال
فؤاد أراه منفطرا •••
فكم في إيذة قدما
وفي أبراجها الشما
بخير الثور لي ضجى
يسيل اللحم والشحما
وهاكم خلفه آخي
ل منقضا بخفته
عليه فاحكموا فيما
عسى أن نصدر الحكما
أنرجعه سليما أم
ببأس آخيل نهلكه»
فآثينا انبرت تحتج: «ذاك إذن غدا ظلما
أتنقذ من زؤام المو
ت من حتم القضاء له
فإن تفعل فما في الخل
د رب خلته شكرا» •••
فقال لها أو السحب: «بغيظك لأقضي أربي
فما شئت ابتغي عجلا
وسيري وا أمني غضبي»
فثارت فوق ثورتها
وطارت عن منصتها
وهكطور وراه آخي
ل ظل يجد في الطلب
كأغضف رام ريما في ال
كناس فهب منبعثا
22
لديه ضاربا في الطو
د بين مشاعب الهضب
فلا أزياف تحميه
ولا أيك يواريه
وحيث جرى ففي أعقا
به داعي المنون جرى •••
كذا هكطور ما وجدا
سبيلا للنجاة بدا
فآخيل على آثا
ره مستظهر أبدا
فكم من مرة أبوا
ب إليون ومعقلها
بغى لتهال أسهمها
بوجه عدوه بردا
23
وكم من مرة آخي
ل قام بوجهه فعدا
هزيما فوق ذاك السه
ل عن إليون مبتعدا
كما لو في الكرى طيف
بغاك فم تطق هربا
وإما رمته فصر
ت عنه كيفما صدرا
24 •••
فلا هذا نجا هربا
ولا ذا مدرك أربا
وإن بعدو هكطور
بذياك المدى عجبا
ولا بدع فآفلو
ن أفرغ فيه قدرته
وخفته لكي لا يل
توي بفراره تعبا
25
وآخيل بعزته إلى
الأجناد أوما أن
قفوا كي لا بهكطور
يرى نصل لهم نشبا
لئلا يحرز الشرف ال
رفيع بقتله علنا
سواه فلا ينال فخا
ر ذاك اليوم والظفرا
26 •••
وإذ بلغا متابعة
إلى العينين رابعة
موازين النضار أبو ال
عباد أقام ساطعة
بها قدحي ردى ألقى
لذا سهم وذا سهم
ولاحت كفه في وس
طها في الحال رافعة
فهكطور أميلت لل
جحيم هناك كفته
وفيبس صد عنه وبا
درت فالاس هارعة
27
أتت آخيل قالت: «يا
حليف المجد حان لنا
بأن نحبو الخميس بنص
رة ما مثلها انتصرا •••
فهكطورا بشدته
نميت بوجه أسرته
فيهلك دون أسطول
الأخاءة في مذلته
ولن يجد المناص ولو
أفلون ارتمى وجلا
على قدمي حفيظ الجو
ب مزدلفا لنجدته
28
هنا قف واسترح حتى
أوافيه وأغريه
بحربك فانثنى آخي
ل مبتهجا بجملته
وقام إلى القناة هنا
ك مستندا وآثينا
أتت هكطور في زي
به ذيفوب قد شهرا
29 •••
وصاحت: «يا أخي كفى
أرى آخيل زاد جفا
وسامك بالهزيمة وال
فرار أمامه الضعفا
فقف تتربصن له
فيرجع خاسئا عنا»
فسكن روع هكطور
وقال لها وقد وقفا:
قدرتك فوق سائر ول
د فريام وإيقاب
فأنت شقيق هكطور ال
شفيق ومن به كلفا
وكيف وقد شهدت الخط
ب والطرواد طرا في
معاقلهم قد انحصروا
أتيت إلي منحدرا» •••
فقالت: «يا أخي أبي
وأمي قبلا ركبي
وكل الصحب حولهما
بقلب هد مكتئب
يروعهم روزي خا
رج الأسوار فالتمسوا
سكوني في معاقلهم
بدمع سح منسكب
أبت نفسي البقاء وأن
ت منفرد لآخيل
فأقبل نشحذن له
صقيل النصل والقضب
إخال دماءه هدرت
برمحك أو لأسرته
مضى في جثتينا ظا
فرا ودماءنا هدرا •••
وراحت تحت سترتها
لنعمل كل خدعتها
تسير أمامه فخطا
يجد وراء خطوتها
وحين تقابل البطلا
ن صاح يقول هكطور:
آخيل هاك نفسي الآ «ن جاشت في حميتها
أبت من بعد أن تنصا
ع هالعة كما نفرت
ثلاثا حول إليون
أمامك في هزيمتها
وإن الآن حد الفص
ل لكن فلنقم علنا
ونعقد عقد ميثاق
ونقسم ها هنا جهرا •••
ونستشهد بني الخلد
على الأيمان والعهد
فهم خير الشهود على
الورى في القرب والبعد
لئن أوتيت نصرا من
لدى زفس فحسبي أن
تموت وأن تجرد من
زهي سلاحك الصلد
ولكني أزدك لل
أخاءة لا هوان ولا
أذى عدني إذا في مث
ل هذا صادق الوعد»
فأحدق فيه شزرا يل
تظي آخيل قال: «صه
ولا تذكر وفاقا لا
وفاق بينا ذكرا •••
أبين الناس والأسد
وفاق محكم العقد
وهل خلت العهود تصح
بين الذئب والنقد
30
فكل قلبه بضغا
ئن الأحقاد متقد
كقلب بيننا في غل
ة الأضغان متقد
ولا عهد لنا إلا
نصال الصم نعملها
فيجرع آرس دم من
ثوى في هاته الجدد
فأبرز بالبراز لنا
قواك ولا مناص هنا
وقوم رمحك العالي
وأعمل سيفك الذكرا
31 •••
أثينا الآن تبتدر
برمحي منك تثئر
لبهم قد أبدت وأن
ت بالهيجاء تستعر»
32
وأطلق رمحه فمضى
وهكطور انحنى حذرا
فجاوز رأسه للأر
ض لا ينتابه ضرر
ولكن بادرت فالا
س تنزعه على عجل
وترجعه لآخيل
وعن هكطور تستتر
فصاح فتى الطراود: «قد
شططت وتدعي زورا
بعلم من لدى زفس
بما لي في القضا سطرا •••
ألفت المين والكذبا
لتثني همتي رعبا
فلست بطاعن ظهري
ولست بمنثن هربا
ودونك للقا صدري
إذا زفس بذاك قضى
وذا رمحي عسى ألقا
ه في أحشاك منتصبا
فوا طرب الطراود إن
تمت فلأنت آفتهم
وبعدم حربهم لا أز
مة فيها ولا حربا»
وزج فطار عامله
لقلب مجن آخيل
وعنه ارتد لا يل
قى العدو بنصله الضررا •••
فهكطور التظى قهرا
لنصل زاهقا طرا
فصاح يروم ذيفوبا
ويطلب صعدة أخرى
33
ولا أثر لذيفوب
يلوح لديه فاضطربت
جوارحه وأدرك كن
ه ذاك النكر والمكرا
وصاح يقول : «وا لهفا
أرى الأرباب قاضية
علي فخلت ذيفوبا
إلي مسارعا جهرا
فلم يتعد أسوار ال
حصار وتلك فالاس
على عيني غشت وال
حمام أراه منتظرا •••
فلا نجوى وزفس قضى
وآفلون ما اعترضا
وكم قد أولياني قب
ل ظل حماية ورضا
ولكن القضاء أتى
فأهلا بالقضاء فلا
مرد وخلته ما حط
من هممي ولا خفضا
34
أموت بعزة تترى
لأجيال فأجيال
ومجد باذخ بي فو
ق أبراج العلى نهضا»
35
وسل حسامه من غم
ده بلباقة ومضى
بقلب لا تغيره ال
خطوب ولا يرى الغيرا •••
كنسر من على السحب
يزف إلى ربى كثب
على حمل يرى أو أر
نب في مشعب الهضب
وآخيل انبرى متضر
ما غيظا بعزمته
بجنته التي في الكو
ن أضحت آية العجب
وخوذته التي من صن
ع هيفست بهامته
تهيج منيرة ويهي
ج فيها قونس الذهب
وصعدته تؤج كما
بليل حالك سطعت
تفوق الزهر كوكبة ال
مساء وتبهج النظرا
36 •••
فسرح طرف مقلته
بهكطور وشكته
ليبصر منفذا فيه
يواري حد صعدته
37
وهل تمضي النصال بعد
ة فطرقل كر بها
وما هي قط غير سلا
ح آخيل ولأمته
فأبصر بعد حين نح
ره برزت مفاصله
فبين الجيد والكتفي
ن بادره بطعنته
فغاص سنانه في مخ
رج الأرواح منتصبا
ولكن في مجاري الصو
ت والأنفاس ما صدرا •••
فخر وللثرى ضرجا
وصاح آخيل مبتهجا: «أخلت تعست فطرقلا
يبيد هنا ولا حرجا
أغرك أنني قد كن
ت يا هكطور معتزلا
ولم تعلم لفطرقل
ظهيرا يقحم اللججا
فتى وافاك محتدما
من الأشراع منتقما
فبدت ولم تزعزعه
قواك ولا لها اختلجا
فرح طعم النواهس وال
صقور وثم فطرقل
بمأتمه لفيف الجي
ش سار بحرمة وسرى» •••
فقال بغصة الحتف: «بروحك مصرعي يكفي
بحرمة والديك ورك
بتيك عليك باللطف
وخذ ما شئت من أبوي
من ذهب ومن صفر
فلا تخلو الكلاب بجث
تي في ذلك الجرف
وجد لهما بجسمي يذ
هبان به لصرحهما
فتحرق أعظمي وعلي
يهمر وابل الطرف»
فصاح آخيل: «ويلك لا
بحرمة والدي ولا
بقبلة ركبتي تجا
ب يا ذا الكلب معتذرا •••
وددت لو أنني غضبا
بلحمك أقتل السغبا
لما جرعتني غصصا
وما أورثتني كربا
38
فلا غير الكلاب تشق
رأسك لو هم بذلوا
فداءك عشر أو عشري
ن فدية ميت ذهبا
ولو فريام أدى ثق
ل جسمك عسجدا صرفا
فأمك حول نعشك لن
تفيض شجى وتنتحبا»
فقال بزاهق الأنفا
س: «آه أجل بلوتك ذا
جنان كالحديد فلن
يلين أسى وينكسرا •••
ألست الآن تخشى أن
يهال عليك غيث محن
وتنقم لي سراة الخل
د منك ولو عقيب زمن
وتنكب يوم فاريس
وفيبوس بإسكيا
بقتلك يخمدان صلى اح
تدام بالفؤاد كمن»
39
وأسبل فوق مقلته
ظلام الموت سترته
وأمت روحه سقرا
تطير على أسى وشجن
وتندب بأسه وشبا
به ومصيره فثوى
هناك وصاح آخيل
بذاك الفوز مفتخرا: ••• «ألا مت صاغرا وأنا
أموت إذا الحمام دنا
وروحي حين يقضي أم
ر زفس تفارق البدنا»
وجر سنانه من نح
ره يلقيه في طرف
وجرده السلاح فنا
ل أبعد بغية ومنى
وأقبلت الأخاءة حو
ل ذاك القرم مكبرة
جمالا زان طلعته
كل طعنة طعنا
40
يقول: «ألا اعجبوا ما كان
أروعه وقد أورى
سفائننا فها هو لا
يروع ولا صلاه يرى» •••
وآخيل مذ انتزعا
جميع سلاحه هرعا
يصيح بذروة من حي
ث سائر جيشه سمعا: «ألا يا صحب يا أقيا
ل فالأرباب قد دفعت
لكم من زاد هولا عن
جميع الجيش مجتمعا
ألا ما رمتم إليو
ن بالبتار ندهمها
لنعلم ما عليه أه
لها والخطب قد صدعا
أينصاعون منحازي
ن عن أبراج معقلهم
أم ارتأوا البقاء وثا
بروا في عزمهم كبرا •••
علام العزم قد هجسا
بصدري الكر ملتمسا
وفطرقل صريع لا
يفيض عليه دمع أسى
ولا قبر يواريه
ولا أحباب تبكيه
فنفسي آه لن تنسا
ه ما بي رددت نفسا
سأذكره ولو في من
تهى أعماق آذيس
ولو كل سلا كل ال
أنام هناك إن حبسا
41
بنا يا فتية الإغري
ق سيروا للسفين إذا
بهكطور على نغم ال
نشيد تفرج الكدرا: ••• «قتلنا القرم هكطورا
وعاد الجيش منصورا
فأين فتى الطراود من
كرب كان مقدورا»
42
وبالغ في الهوان فش
ق كعبيه يشدهما
بسير للعجال وظل
رأس الميت مجرورا
43
وحل بعرشه وسلا
ح هكطور براحته
وساق الجرد فاندفعت
تثير النقع ديجورا
وحالك فرع تلك الها
مة الحسناء منتشر
عليها وهي سائلة
دماها تلطم الحجرا •••
كذلك زفس ألقاه
هناك لهون أعداه
يدنس حسن طلعته
بعثير أرض منشاه
وإيقاب ببرقعها
رمت تبكي مولولة
تقطع شعرها وتصي
ح نائحة لمرآه
وفريام لجانبها
يئن بغل حسرته
وحولهما علا وبكل
تلك الأرض منعاه
وضج الجيش منتحبا
كما لو كل إليون
سعير النار ألهبها
وكل ربوعها دمرا •••
وكاد الشيخ ينهزم
من الأبواب رغمهم
فصدوه وما كادوا
وفي أحشائه ضرم
فخر على السماد تمر
غا مستحلفا هذا
وذلك مستغيثا ثم
قام يصيح بينهم:
44
بحقكم دعوني أب «رح الأبراج منفردا
إلى فلك العداة ولو
بعادي الآن ساءكم
لدى ذيالك العاتي
بشيبي وانحنا ظهري
أذل فربما لهما
بعين عناية نظرا •••
فإن له أبا هما
نظيري يدرك الهما
ويا لخليفة أهمت
علينا الأبؤس الدهما
ومهما نالكم من شر
ه فبلتي أدهى
فكم لي في الشباب الغ
ض أفنى فتية بهما
بكيتهم وأبكيهم
ولكن كل حسرتهم
جميعا لا توازي حز
ن هكطور فوا غما
أيا هكطور حزنك سو
ف ينزل بي إلى قبري
45
ألا ما بين أذرعنا
صرمت بموتك العمرا •••
لكان هنا العزا دارا
فأشبع لاعجا ثارا
بقلب أب وأم يذ
رفان الدمع مدرارا»
وغص بفائض العبرا
ت والحسرات منتحبا
ومن حوليه دمع القو
م بحرا فاض ذخارا
وبين نساء طرواد
بدت إيقاب نادبة:
بني علام أشقى بال «حياة وألتظي نارا
وأنت بني مت وكن
ت في يومي وفي ليلي
فخاري وابتهاجي واب
تهاج جميع من حضرا •••
وكنت ظهيرنا البرا
تشيد لقومك الفخرا
تكاد تكون بالإجلا
ل معبود السرى طرا
ودفاع البلا عن به
م طرواد ونسوتها
فها قد غالك الحتف ال
مريع بحكمه قسرا»
46
وأما أنذروماخ
فما إن جاءها نبأ
بأن القرم هكطورا
وراء حصاره خرا
وكانت في أعالي القص
ر تنسج ثوب برفير
تبطنه وتنقش فو
قه من وشيها غررا •••
وقد قامت جواريها
لدى النيران تذكيها
وتحمي الماء في قدر
ليسبح زوجها فيها
فيا لمصابها لم تد
ر آثينا به فتكت
بكف آخيل لا غسل
لبعل لن يوافيها
فقامت ضجة في البر
ج بين بكى وولولة
فخارت بين بلبلة
وأشجان تلظيها
وكفاها الوشيعة من
هما سقطت بدهشتها
47
وصاحت بالحسان وشع
رهن جدائلا ضفرا: ••• «ألا منكن ثنتان
معي فورا تسيران
لننظر ما جرى فبكى
حماتي هاج أشجاني
فقلبي خافق حتى
يكاد يطير فوق فمي
48
وثقلة ركبتي تكا
د تطرح جسمي العاني
أرى خطبا فظيعا دا
هيا أبناء فريام
فلا طرقت نواعي الخط
ب آه وآه آذاني
كأني بابن فيلا حا
ل دون قفول هكطور
وفي آثاره في السه
ل صال عليه مهتصرا •••
نعم هكطور آه لا
يذل لمحنة أصلا
ويقتحم المعامع في ال
صدور ولا يرى ذلا»
ومن ثم انبرت تعدو
بغير هدى ونسوتها
جرين وراءها حتى
علون المعقل الأعلى
فسرحت النواظر في
السهول فلاح هكطور
به خيل ابن فيلا قد
طوت واويله السهلا
رأت وجفونها انطبقت
وفي أنفاسها شهقت
وهوت فوق وجه الأر
ض لا جبسا ولا بصرا •••
ومن فوق الثرى انتثرت
حلي الفرع وانتشرت
49
جدائل طرة وضفا
ئر في وفرة وفرت
وهداب الذوائب وال
شباك وخير مقنعة
لها من قبل عفروذي
ت يوم زفافها ادخرت
50
وخفت وانبرت من حو
لها أخوات هكطور
وكل نساء إخوته
تجل الخطب مذ نظرت
على راحاتهن رفع
نها والنفس زاهقة
وما لبثت أن انتعشت
وغيث دموعها انهمرا •••
وصاحت تفطر المهجا: «أيا هكطور وا وهجا
أطالعك الشقي بطا
لعي من يومه امتزجا
ولدنا أنت في طروا
د بين قصور فريام
وفي ثيبا أنا في صر
ح إيتين لعيش شجى
نشأت وليتني ما إن
نشأت بنعمة لأبي
فيا لشقا ابنة وشقا
أب بنشوئها ابتهجا
فأنت الآن يا هكطو
ر منحدر إلى سقر
وزوجك أيما تبقى
بصرحك تلتظي سقرا
51 •••
وهذا الطفل في المهد
نتاج الغم والجهد
فلن تجديه نفعا أن
ت وهو النفع لن يجدي
فإن هو من خطوب الحر
ب ينجو كم بلا وبلا
يحيق به وكم عات
تجاوز خطة الحد
تعيث به مطامعه
فيسلبه مزارعه
وما إن لليتيم يرى
صديق صادق الود
فيطرق ذلة وتسي
ل أدمعه ويذهب في
طلاب رفاق والده
إذا ما ذل وافتقرا •••
يجر رداء ذا خجلا
ويسحب برد ذا وجلا
وإن ما نال منهم نا
ل كأسا ما روت نهلا
يبل بمائها شفتي
ه ظمآنا على ظمأ
وهيهات اللهاة على
صداها ترتوي بللا
ورب فتى فخور في
أبيه وأمه قحة
على الأدبات يلطمه
ويصرخ فيه: «قم عجلا
لعنت فما هنا لأبي
ك حظ في ولائمنا»
52
فيرجع أستياناس
إلي ينوح منتهرا •••
بحجر أب وأي أب
يغذيه على الركب
على مخ وشحم من
سمين الضان قبل ربي
وإن أجفانه انطبقت
نعاسا وارتوى لعبا
على راحات مرضعه
ينام بفرشه القشب
فأضحى الآن وا ويلا
ه إذ يتمته طفلا
أيا هكطور إلف عنا
عقيب اللهو والطرب
دعوه أستياناسا
لذودك عن معاقلهم
وبت الآن طعم الغض
ف والديدان محتقرا
53 •••
وعريانا لدى السفن
غدوت بزي ممتهن
وكم من حلة لك في ال
ديار تجل عن ثمن
سأطرحها جميعا ل
لهيب وليس لي أرب
بها من بعد أن حرمت
على ذيالك البدن
لتذهب حرمة لك من
لدى الطرواد محرقة
لذودك طول عمرك عن
ذمار الأهل والوطن»
كذلك أنذروماخ
بلاهب لبها ناحت
وكل نساء إليون
ذرفن لنوحها العبرا
54
هوامش
النشيد الثالث والعشرون
مأتم فطرقل
مجمله
شرع آخيل في التأهب لمأتم حبيبه فطرقل، فأمر بإعداد الطعام، فسأله أصحابه أن يغتسل من الدماء التي تخضب بها فأبى إلا أن يبقى على حاله إلى أن يدفنه، وبعد اللتيا والتي تناول شيئا من الطعام في مضربه، ولكنه لم يغتسل وأرفض الجمع كل إلى مرقده، فظهر فطرقل في الرؤيا لآخيل وطلب إليه أن يعجل بدفنه، فمد آخيل يده ليقبله فاستيقظ وإذا به حلم، ولما بزغ الفجر أسرع الجند إلى جبل إيذة للاحتطاب فجمعوا الوقود وألقوا عليه الجثة، فقص آخيل شعره ليحرق مع القتيل، وذبح خيلا واثني عشر فتى من الطرواد ليحرقوا فوق جاحمه، وأما هكطور فحفظته الزهرة وأفلون من الفساد، وأضرموا النار فلم تضطرم إلا قليلا، فتضرع آخيل إلى الرياح فبادرت وأضرمت اللهيب، ولما احترقت الجثة جمعت العظام ودفنت، ثم تهيأوا للألعاب المعتادة وأعد آخيل الجوائز فتسابقوا بالعجال، ثم برزوا للكام والصراع والسباق عدوا، والبراز بالسلاح والتخاطر بقذف الكرة والمناضلة وزج الرماح، وهكذا انتهت الحفلة.
ينتهي اليوم الثلاثون في أول هذا النشيد وفي الليلة التالية يظهر فطرقل لآخيل، واليوم الحادي والثلاثون للاحتطاب، والثاني والثلاثون لإحراق الجثة، والثالث والثلاثون للألعاب، ومجرى ذلك على شاطئ البحر.
النشيد الثالث والعشرون
1
إليون بالنحيب والحداد
وفيلق الإغريق بارتداد
للثغر والسفين حيث انتشروا
كل إلى أسطوله يبتدر
لكن أبى آخيل أن ينحلا
خميسه بل في سراه ظلا
2
قامت على انتظامها الصفوف
فصاح وهو بينهم يطوق: «مرميد يا فرسان يا رجالي
لا تفصلوا الخيل عن العجال
3
بل قربوهن بذا المجال
نبكي وترثي غرة الأبطال
فطرقل فالندب بلا محال
فرض على ميت صريع خال
فإن روينا غلة النكال
حلت وهيأنا بلا بلبال
وضيمة نعدها في الحال»
4
فهطلت دموعهم جميعا
وخف آخيل بهم سريعا
وحول فطرقل ثلاثا داروا
بخيلهم ودمعهم مدرار
تزيدهم ثيتيس حزنا عيلا
فولولوا وأكثروا العويلا
حتى جرى ما سح من تلك العبر
غيثا على السلاح والسهل انهمر
أمامهم آخيل بالنحيب
يشهق قرب خله الحبيب
عليه ألقى يكبر المقاله
بينهم أكفه القتاله: «أقريك يا فطرقلا السلاما
وإن تهم في سقر هياما
فها أنا والجيش حولي قاما
أبر بالوعد هنا تماما
فساعدي هكطور ذلا ساما
وسوف ألقيه هنا طعاما
للكلب يفري اللحم والعظاما
والنار إذ تذكو لك اضطراما
أذبح من طروادة انتقاما
من حولها اثني عشرا كراما»
5
وزاد وهو لاهب سعيرا
على هوان المجتبى هكطورا
فكبه لوجهه معفرا
حيال نعش الميت في وجه الثرى
من ثم حلوا صاهلات الجرد
ونزعوا زاهي السلاح الصلد
وحول فلك ابن أياك التأموا
وذلك الزاد الشهي اقتسموا
فمن خراف وثيار غر
هالعة تحقق عند النحر
ومن عنوز ثاغيات ترتجف
أمامها الجزار بالنصل يقف
ومن رتوت صلدة الأنياب
تسيل شحما باللظى اللهاب
6
دماؤها كذا جرت سيولا
وأقبل الصيد إلى ابن فيلا
وذهبوا به وما كادوا لما
على حبيبه تلظى ألما
وإذ أتوا خيم أغاممنونا
صاحوا على الفيوج أجمعينا
إن يرفعوا المرجل فوق النار
ويوسعوا الجاحم بالأوار
7
لغسل ما لطخه من الدم
لكن أبي يغلظ بر القسم:
8 «بحق زفس السائد المخلد
أقسم لا قطرة مست جسدي
ما لم أشد ضريح خلي الأوحد
من بعد أن أحرقه في كمدي
حيث له أقص شعري العسجدي
مهما أعش فلن تلظى كبدي
9
أسى كهذا اللاعج المتقد
فأرضخ الآن على توقدي
إلى اقتسام الزاد في ذا المشهد
لكن إذا طر الصباح من غد
على ابن أتراس المليك الأمجد
أن ينفذ القوم بلا تردد
في طلب الوقود ثم نبتدي
بمأتم حق لميت يغتدي
من فوره إلى الظلام الأبدي
حتى إذا جثة ذاك السيد
ذابت وفزنا بجميل المقصد
للحرب عدنا بزهي العدد»
لبوا وكل هب يبغي الزادا
فنال منه سهمه المعتادا
حتى إذا ظماه ولى والسغب
لخيمه في طلب النوم ذهب
وفي فجاج قرب جرف البحر
لدى دوي الموج فوق الثغر
آخيل والعي به قد برحا
ما بين جيش المرمدون انطرحا
أنهكه العدو ورا هكطورا
فنام في ظل الكرى قريرا
فروح فطرقل بطيف الحلم
قامت على هامته كالجسم
بقده والحلل المسدوله
وصوته والمقل الجميله
10
قالت: «آخيل له طاب الكرى
حتى عن الحبيب غض النظرا
أهملني ميتا فهلا ذكرا
وداده لي وأنا حي أرى
بادر إلى دفني حتى أعبرا
أبواب آذيس ولا أحقرا
صدتني الأرواح عن أن أصدرا
ما بينهن فأخوض الأنهرا
فرحت هائما بلجات الثرى
وجئتك الآن ودمعي انهمرا
فانهض وأعدد لي صلى تسعرا
فبعد ذا لن أبرحن سقرا
11
آه فقد فات زمان غبرا
حيين فيه نعقد المؤتمرا
في عزلة فيها تحاشينا السرى
منذ نشأت كان هذا القدرا
فغالني وفيه قدما سطرا
حتفك في أكناف سور حصرا
12
أجب إذا ملتمسي مهما جرى
فمثلما معا قضينا العمرا
من يوم مينتيوس بي غرا سرى
لصرح فيلا من أفنط مدبرا
من وجه رهط رامني مثئرا
لما قتلت (وصلي الجهل عرا
وقد لعبنا بالكعاب عسكرا)
فرعا لأمفيدامس مستكبرا
13
ومثلما قبلا أبوك استبشرا
بي فنشأت ناعما موقرا
في حجره كما نشات الأصغرا
دع هكذا رفاتنا أن تقبرا
معا فلا تنحل هاتيك العرى
ولتلق في حق لديك ادخرا
من لدن ثيتيس نضارا بهرا»
14
فقال آخيل: «علام يا منى
نفسي أتيتني بذا البحث هنا
فكلما رمت سيجرى علنا
فادن وعانقني فلا عج العنا
نوري ونروي بالعناق الشجنا»
ومد كفه إلى العناق
لكنه فطرقل لم يلاق
فروحه مثل الدخان طارت
صافرة وفي الثرى توارت
فقام آخيل وكفيه صفق
بدهشة ثم لسانه انطلق: «نعم نعم رباه حتى لسقر
يسري مثالنا وأراح البشر
لكنما الحياة في ذاك المقر
ليس لها بعد الممات من أثر
فإن فطرقل مدى الليل ظهر
بروحه لي بشقاء وكدر
حكته حتى قلت بالنفس ابتدر
مقترحا يأمرني بما أمر»
وما انتهى حتى جهير الندب
من حوله عم جميع الصحب
ولبث الدمع سخينا يجري
حتى بدا ورد بنان الفجر
هنا أغاممنون هب حالا
وأنفذ الرجال والبغالا
فبادروا فورا إلى الذهاب
بأمر مريون للاحتطاب
ساقوا يجدون إلى الجبال
بقاطع الأفؤس والحبال
أمامهم تلك البغال مسرعة
متهمة منجدة مندفعه
ضاربة في وعر تلك الهضب
وعقبات مشعب فمشعب
حتى علت إيذة في الصعيد
فأعملوا مناصل الحديد
بشامخ الملول فالفروع
خرت تشق تحتها الجذوع
وقطعوه قطعا وشدوا
أحمالهم من فورهم وارتدوا
واشتاقت البغال للسهول
فانحدرت في الوعر بالقفول
وراءها كل فتى جذعا حمل
أمر لمريون له الكل امتثل
والثغر فيه كدسوا الوقودا
وانتظموا من حوله قعودا
حيث آخيل رام أن يعينا
مدفن فطرقل وفيه يدفنا
وصاح بالمرميد أن يجدوا
وللعجال خيلهم يشدوا
وأن يشك الكل في السلاح
كأنهم في حومة الكفاح
فسارت العجال في الميدان
بساسة وسادة فرسان
خلفهم المشاة كالسحاب
وصحب ذاك الميت باكئاب
ساروا به تستره النواصي
قصت له دلالة الإخلاص
15
ومن ورائهم آخيل رفعا
هامة فطرقل بلب خلعا
وأنزلوه المنزل المعهودا
وبادروا فهيأوا الوقودا
وعنهم آخيل منحازا عدا
لغرض في نفسه مبتعدا
وقص فرعا زاهيا جميلا
للنهر إسفرخيس أطيلا
16
وصاح محدقا بلج اليم
مضطرما يصلي أوار الغم: «يا نهر إسفرخيس الكبير
وا خيبة القربان والنذور
نذرا لك انتوي أبي شعوري
ومئة من نخبة الأبقور
17
ومن ضحايا الغنم الذكور
خمسين عند هيكل البخور
في مرجك المقدس المبرور
في القرب من منبعك المأثور
بكل ذا آلى لدى مسيري
لوطني بالبشر والسرور
فما استجبت سؤل مستجير
ولم تكن من الردى مجيري
ولن أدوس باب تلك الدرر
لذا على فطرقل والسعير
أطرح فرع وفرتي الموفور»
وبين كفي خله ألقاه
وجيشه طرا علا بكاه
وأوشكوا حتى غروب الشمس
أن يندبوا بكربة وبؤس
لكن آخيل لأتريذ دنا
وصاح ما بين الجموع علنا: «أتريذ قد حق لك الخضوع
فمر إذن تكفكف الدموع
ومن هنا تنصرف الجموع
يهيئوا الزاد فلا يجوعوا
فإن مضوا فنحن نستطيع
وصيدنا الأصول والفروع
18
نحرق ميتا وده الجميع»
ففض أتريذ الجموع فمضت
إلى سفينها وعنهم أعرضت
وحوله ظلت سراة الموكب
تركم للميت وقود الحطب
حتى له شادوا على السهل هرم
قياسه عشر وتسعون قدم
ورفعوا لقمة الإباله
فطرقلهم بأدمع منهاله
19
وسلخوا الثيار والخرافانا
ليحرقوها معه قربانا
وخف آخيل لقطع الشحم
يسبله من فوق ذاك الجسم
وحوله ألقى بلا إبطاء
لحومها وسائر الأعضاء
من بعد ذا صب قوارير العسل
والزيت فوق نعش ذياك البطل
وزاد وهو لاهب الفؤاد
أربعة من ضمر الجياد
وفي كلابه التي في نعمته
قد نشأت أعمل حد شفرته
من تسعة من فوره اثنين ذبح
وللوقود جثتيهما طرح
وهام الاثني عشر بالسيف قطع
من بهم إليون وبئس ما صنع
20
وأرث النيران حتى تلتهم
وصاح والدمع سخينا ينسجم: «أقريك يا فطرقلا السلاما
وإن تهم في سقر هياما
فها أنا والجيش حولي قاما
أبر بالوعد هنا تماما
وها هنا تلتهم التهاما
نيرانك اثني عشرا كراما
لكن هكطور فلا ضراما
يذكى له بل يغتدي طعاما
للكلب يفري اللحم والعظاما»
21
لكنما الكلاب لم تدن إلى
جثة هكطور بهاتيك الفلا
فإنما الزهرة بالمرصاد
تدفع كل صادر وغاد
وأفرغت قدسي عطر الورد
فيه فلا يعطب خلف الجرد
وفيبس من قبة السماء
جلله بغيمة سوداء
حتى يظل ترف المجس
ولا يجف بشعاع الشمس
22
والنار في الوقود لم تذك ولا
أوارها من حول فطرقل علا
فلوسيلة آخيل عمدا
وانحاز عن جمهوره مبتعدا
واستنجد الدبور والشمالا
لتلهبا الإبالة اشتعالا
وتلهم الأجساد ثم نذرا
غر الضحايا لهما وابتدرا
يريق فوق الأرض صرف الخمر
بكأس عسجد تمام البر
وصوته إيريس لما سمعت
لمنتدى الرياح حالا أسرعت
إذا بهم في مجلس السرور
على وليمة لدى الدبور
23
فنهضوا طرا لها إجلالا
وانتدبوها للقرى احتفالا
فوقفت في عتبات الصخر
تأبى وقالت بجميل العذر: «ما لي إلى الجلوس من سبيل
فإنني بنية الرحيل
لشعب إثيوبية النبيل
فهو على المحيط بالتبجيل
ب مئة ضحى من العجول
لنا فلا ندحة من قفولي
وللشمال من لدى آخيل
وللدبور جئت كالرسول
لتعصفا بالقبس المشعول
تحت شلا فطرقل القتيل
حيث بنو الإغريق بالعويل
ولهما جزاء ذا الجميل
آلى بنذر شائق جزيل»
ثم توارت عنهما فقصفا
وبددا الغيوم حيث عصفا
وزمزما في لجة العباب
فهاج وجه اليم باضطراب
واندفعا في السهل يقصفان
فارتفعت زهزمة النيران
فالنوء كل الليل فيها قد قصف
وليله آخيل سهرانا وقف
خمرا بكوب عسجد مزدوج
يسقي الثرى من حب تبر بهج
24
وهو يناجي روح فطرقل ومن
حول ضرام النار بالبث يئن
فهي على أعظمه تثور
وهو لديها لاهبا يدور
كوالد يحرق أعظم ابنه
بكفه مختنقا بحزنه
على فراش العرس قد مات الفتى
وقلب والديه حزنا فتتا
وإذ بدت بالنور في أوج العلى
كوكبة الصبح تبشر الملا
وخلفها امتد سناء الفجر
بحلة الجساد فوق البحر
25
أخمدت النيران والنوآن
كهفهما أما يدمدمان
ببحر إثراقة مرا فاختلج
ملتطما في يمه الموج وعج
26
فارتاح آخيل إلى الهجوع
في عزلة عن لغط الجموع
أنهكه العي فبالنوم استكن
ولم يكد يذوق لذات الوسن
حتى استفاق لعجيج الجند
من حول أتريذ الزعيم الجلد
فهب ثم قام ثم ارتجلا: «أتريذ يا صيد السراة النبلا
خمركم السوداء صبوا عجلا
تخمد وقودا باللهيب اشتعلا
ثم اجمعوا أعظم فطرقل الأولى
تبرز إذ في الوسط كان اعتزلا (والناس والخيل خليطا جعلا
في الحاف فيه لهب النار علا)
نودعها حقا من التبر غلا
والشحم ستران عليها أسبلا
تبقى بذاك الحق حتى أنزلا
للظلمات يوم ألقى الأجلا
ولا تشيدوا القبر قبرا أمثلا
بل فاعتوا به اعتناء مجملا
ومن يعش بعدي من هذا الملا
يشد ضريحا شائقا مكملا»
27
لبوه طرا وأراقوا الخمرا
حيث ذكت نار الوقود جمرا
فجرفت تلا من الرماد
وابتدروا بغلة الفؤاد
أعظمه البيضاء يجمعونا
وعبرات الحزن يذرفونا
فأودعت حقا من التبر غلا
والشحم سترين عليه أسبلا
ألقوه في الخيام تحت أزر
من النسيج الشائق الأغر
ورسموا في موضع اللهيب
دائرة الضريح بالنحيب
ووضعوا الأساس ثم رفعوا
تلا من التراب ثم رجعوا
الألعاب
فاستوقف الجمع آخيل وعمد
لرسم مجلس به الكل قعد
28
واستحضر الجوائز السنية
آنية مناضدا بهيه
والخيل والبغال والعجولا
والغيد شدت منطقا جميلا
وناصع الحديد من ثم انطلق
يلقي لديهم أولا كل السبق
29
السباق
فللمجلي غادة حسناء
تفاخرت بوشيها النساء
ومعها دسيعة ذات عرى
قياسها اثنان وعشرون جرى
وللمصلي حجرة ما ذللت
في عامها السادس بغلا حملت
وللمسلي مرجل قشيب
ما تحته بعد علا اللهيب
أربعة يملا بالمكيال
وشاقلان ذهبا للتالي
وصلة المرتاح كوب مزدوج
من ذهب في النار قط لم يلج
30
وصاح يغري طالبي الرهان: «أتريذ يا أرغوس آل الشان
هذي ترون تحف الفرسان
فلو تخاطرنا لميت ثاني
أحرزت حتما خطر الرهان
فما جيادي من نتاج فاني
ولا لها كفؤ بذا المكان
بها حبا في غابر الزمان
فوسيذ فيلا فبها حباني
لذاك لا حاجة للبرهان
حتى بها هذا العنا أعاني
قد ند آه قابض العنان
ذاك الذي قد كان بالإحسان
يغسل بالماء بلا تواني
أعرافها وأكثر الأحيان
بالزيت يطليها بجهد العاني
فهي هنا بدمعها الهتان
قد أسبلت بفائض الأحزان
فوق الثرى نواصي التيجان
فأنتم يا نخبة الفتيان
فمن يثق منكم بهذا الآن
بعجل محكمة المباني
وخيله يبرز إلى الميدان»
وما انتهى حتى انبرى السواق
إفميل أذميت الفتى السباق
رواض جرد الخيل هب الأولا
ثم ذيوميذ أخو الباس تلا
بخيل طرواد التي كان اغتنم
في الحرب من أنياس بالنصل الأصم
لما أفلون وقى الطروادي
ينئيه عن مواقف الجلاد
31
ثم ابن أتراس منيلا الأشقر
بفرسي رهانه يبتدر
فوذرغس حصانه الثمين
وإيثيا حجر أغاممنون
تلك التي بمضمد العجال
تشتاق خوض شاسع المجال
كان ابن أنخيس إخيفول حبا
بها أغاممنون لما انتدبا
للحرب تحت معقل الطرواد
قبلا ليعفي من عنا الجهاد
وفي ربى سكيونة قريرا
يظل معتدا غنى وفيرا
32
وأنطلوخ رابعا هب إلى
جياده القب وشد واعتلى
33
خيل عتاق جمة الأعراف
من فيلس كريمة الأوصاف
إزاءه والده الجليل
نسطور قام نحوه يميل
يرشده ويحسن التعليما
وإن يكن بنفسه حكيما:
34 «بني قد ودك زفس وارتضى
وفوسذ وثقفا منذ الصبا
وعلماك الجري بالجرد فلا
حاجة أن أزيدك العلم أنا
نبغت في استقبال نصب يبتغى
لكنما خيلك يعروها البطا
35
أخشى بها ينالك اليوم البلا
وسائر الجياد أعدى في المدى
لكنك السابق في سبل الهدى
أقدم إذن بحزم ميقاد الحجى
ولا تقف بني عن نيل الجزا
فإنما الحطاب نال المرتجى
بالحذق والصنعة ليس بالقوى
كذلك الربان بالحذق سرى
بفلكه في البحر في وجه الهوى
والفارس الفارس بالحذق رمى
فمن يثق بخيله ضل وما
تراه للسبيل في الجري اهتدى
وراح في البراح يجري وغدا
لا يستطيع كبحها ولو بغى
لكنما الحاذق حتى لو على
خيل تراءت دون سباق السرى
فالنصب نصب عينه دوما يرى
حتى لديه ينثني إلى الورا
لا يغفل العنان كيفما انثنى
يديره بثبت كف وكذا
يرقب من أمامه قسرا غدا
وها أنا أريك حد المنتهى
فالنصب هاك ليس في طي الخفا
باعا عن الحضيض فانظره نتا
جذع ولم يعبث به دهر خلا
من شامخ الملول أو أرز الفلا
يعضده صخران أبيضا الصفا
حيث طريق السهل ضاق والتوى
وحوله المضمار بالعدل استوى
لعله قبر به قيل ثوى
أو علما كان قديما مثلما
قد رامه آخيل ذا اليوم لنا
فإن تدنيت فسط وانحز إلى
يسراك في الكرسي وصح صوتا دوى
والفرس اليمين سق فإن جرى
أطلق عنانه بذياك الفضا
وباليسار مل إلى النصب هنا
حتى تخال القطب والنصب سوى
36
وحاذر الصدمة بالصخر إذا
دنوت كيلا يعتري الخيل الأذى
أو يسحق النير فيشمت العدى
وأنت بين القوم يغشاك الحيا
بني كن ثبتا فإن نلت المنى
وجزته ولم يضعضعك العيا
لا سائق جاراك حتى لو عدا
وراك أريون الجواد المجتبى
جواد أدرست ومن نسل العلى
أو خيل لومذون التي حوى
بهذه الأصقاع تنهب الثرى»
كذاك نسطور ابنه مذ أرشدا
عاد إلى مجلسه وقعدا
وهب خامسا إلى السباق
مريون في جياده العتاق
ثم اعتلوا وطرحوا الأزلاما
يجيلها آخيل استقساما
فسهم أنطيلوخ أولا ظهر
فسهم إفميل فأتريذ الأغر
وبعده مريون والأخير
أبسلهم ذيومذ الشهير
فانتظموا صفا وآخيل اعترض
يريهم في السهل بارز الغرض
37
وأنفذ المحنك النبيلا
فينكس رواض خيول فيلا
ليرقب الفرسان في المضمار
وينثني بصادق الأخبار
فرفعوا سياطهم وحثحثوا
جيادهم طرا معا وانبعثوا
فاندفعت تضرب في السهول
نائية عن موقف الأسطول
تحت الصدور ثائر الغبار
كالغيم أو عجاجة الإعصار
أعرافها تطير في الهواء
وخلفها العجال كالأنواء
حينا ترى بالأرض رامحات
وتارة في الجو سابحات
وراءها الفرسان فوق السدد
تحقق قلبا لبلوغ الأمد
صاحوا فراحت بهم تغير
بعثير فوقهم يطير
وعندما انتهت وعادت تجري
منقلبات نحو ثغر البحر
هناك ثارت همة الفتيان
فأطلقوا أزمة العنان
فبرزت خيل ابن فيريس ولم
تكد فإثرها ذيوميذ هجم
38
بجرد طرواد فزفت عقبه
كأنها راقية للمركبه
تنفخ في عاتق إفميل النفس
حرا كأنه بظهره قبس
طارت وهامها على هامته
ألقت تباريه على غارته
حتى بها أوشك أن يجتازا
ذيومذ أو مثله يمتازا
لكن فيبوسا بسخطه سطا
والسوط من يديه حالا أسقطا
39
فخيله ونت وتلك انطلقت
وملء عينيه الدموع اندفعت
ولم تفت فالاس تلك الحيلة
فابتدرت تدرأ شر الغيله
أعادت السوط له وجددت
عزما به جياده تشددت
40
ثم انبرت حانقة وسحقت
مضمد إفميل وعنه انطلقت
فسقط المضمد والخيل جرت
جامحة وفي البراح نفرت
ونفس إفميل على التراب
أهوى من الكرسي للدولاب
يسيل من فيه ومنخريه
نجيعه كذاك من يديه
وانفضخت جبهته حين وقع
وفاضت العبرة والصوت انقطع
ومن أمامه ذيوميذ اندفق
وسائر الخيل مبرزا سبق
تفرغ آثينا القوى بالجرد
حتى تنيله أعالي المجد
تلا منيلا ففتى نسطورا
مطهميه سائقا مغيرا
يصيح: «هلا تفرغان كلما
عدوا لمثل الحين ذا أعطيتما
سبق ذيوميذ نعم لن أزعما
ففرساه اليوم طارت بهما
فالاس تعلي مجده لكنما
وراء أتريذ استفزا الهمما
فأدركاه أفلا أخجلتما
وإيثيا حجر جرت دونكما
41
شأنكما السبق فلم أبطأتما
لأقسمن وأبرن قسما
عن سابقات الخيل إن قصرتما
وغير أطراف الجزا لم تغنما
لا خلتما نسطور يعني بكما
بل بظبي أنصله أهلكتما
إيه إذن فانبعثا وعندما
تبلغ ذياك المضيق المظلما
نعمل فيه حيلة فنقحما
لما أضله السبيل الأقوما»
42
فجزعا لهول ذاك الزجر
واندفعا حينا ببطن البر
فأنطلوخ أبصر المضيقا
حيث السيول هدت الطريقا
وانحدرت جوارف الأمطار
بهوة تنذر بالأخطار
بنفسه من ثم أتريذ انحدر
منفردا يخشى لقا الخيل الأخر
فأنطلوخ من على الكرسي انحرف
وغادر المنهج يبغيه وخف
فصاح أتريذ بملء الجزع: «أأنطلوخ لم أرك لا تعي
جيادك اكبح للطريق الأوسع
فسوف تجتاز بذاك المهيع
43
فإن تزاحمني كلانا نقع»
فلم يصخ وساط ثم اندفعا
بخيله كأنه ما سمعا
فاجتاز مرمى كرة قد قذفا
بها فتى بأس عليها اأتلفا
فارتدعت خيل منيلا القهقري
ولم يسق خشية خطب اكبرا
خشية أن تصطدم العجال
فتسقط العجال والرجال
وهكذا في طلب الفخار
تعفر الأوجه بالغبار
وصاح أتريذ بغل الكدر: «أأنطلوخ بين كل البشر
ما قط حاكاك شقي مفتري
ند عن الإغريق صدق المخبر
وهم يخالونك بالعقل حري
فلن تفوزن مه بالظفر
أو تقسم الآن أمام الزمر»
وفرسيه ساط ثم صاح: «لا
يورثكما الغم حذار المللا
دونكما مذ كيان أثقلا
سنا وسوف يجهدان عجلا»
44
فجزعا لصوته وثارا
وأنطلوخ أدركا تكرارا
وظلت الصيد بتلك الحلقه
ترقب تلك الضمر المندفقه
تنهب قلب السهل والعجاج
للجو من وقع الخطى وهاج
وكان عنهم لليفاع انعطفا
قيل إكريت ومنه أشرفا
فأبصر الخيل وهم لم يبصروا
وسمع الصوت الذي يزدجر
فعرف الفارس عن بعد الأمد
والأشقر السابق في تلك الجدد
في وجهه الغرة لاحت كالقمر
فقام ثم صاح يصدق الخبر: «يا صحب يا عصابة الأقيال
ألكم بدا الذي بدا لي
أرى جيادا برزت حيالي
وفارسا غير الذي في البال
فالسابقات أصبحت توالي
لا شك ألفت قدرا ذا بال
رأيتها والنصب باد عال
جازته والآن بلا انفصال
اسرح الطرف على الأطلال
كأنني أسعى إلى المحال
لا شك عند العود والإقبال
طار العنان من يد الخيال
أو جمحت فيه ولم تبال
وقضت النير وبالإجفال
ولت فألقته على الرمال
قوموا اجتلوا حقائق الأحوال
فلم أكن ظني بالمغالي
وخلتني أبصر في الأوالي
قيل الإتول الشائع الأفضال
رواض متن الجرد ذا الأهوال
ذيومذ القرم أخا المعالي»
هنا ابن ويلوس له تصدى
وصاح فيه حانقا محتدا: «أإيذمين لم تكن بالمنصف
هرفت ألفيك بما لم تعرف
فتلك تلك الخيل شم المعطف
تنتهب السهل وما الأمر خفي
ما كنت بالغض الشباب الترف
بل شاب أنظارك عيب الضعف
والهذر عودت بقول المرجف
أفقت أهل الحكم في ذا الموقف
حتى تشدقت بهذا الصلف
فخيل إفميل نعم لم تختف
بل لم تزل في الصدر لم تنحرف
يدير صرعها بلا تكلف»
فقال إيذومين يصلى حنقا: «أياس تسمو قحة وحمقا
ومنطقا بكل خبث ذلقا
وفي سوى ذاك عجزت مطلقا
فقم وخاطرني فأي صدقا
يحرز قدرا أو إناء نمقا
حتى إذا أتريذ عدلا نطقا
هناك تدري خاسرا ومنفقا
أي جواد في الرهان سبقا»
فهب آياس على الأقدام
يثور للجواب باحتدام
وكادت الفتنة تذكو ضرما
لكن آخيل تصدى لهما
فقال: «إيذومين آياس كفى
لا كان من مثلكما هذا الجفا
سواكما لو حل هذا الموقفا
عنفتماه فاجلسا وانعطفا
أقبلت الخيل انظراها تعرفا
سابقها من الذي تخلفا»
45
ثم ذيوميذ هناك لاحا
منتهبا بخيله البطاحا
تسبح في الهواء والسوط على
أكتافها والنقع للجو علا
وراءها مركبة المغار
تسطع بالنحاس والنضار
طارت فأضحى أثر الدولاب
يوشك أن يخفى على التراب
حتى إذا بينهم حل انتصب
ثم عن الكرسي للأرض وثب
ومن صدورها إلى الأرض اندفق
كذاك من أعرافها رشح العرق
والسوط للمضمد ألقى وابتدر
من فوره إستينل إلى الخطر
فالبكر والدسيعة المكتسبه
ألقى لصحبه وحل المركبه
46
إذا بأنطلوخ للقوم بدا
قبل منيلا خدعة لا مطردا
لكنه ما ند عنه وسبق
إلا كما الجواد بالنير التصق (إذا لدى مركبة القيل اندفع
وذيله حول المحالات ارتفع)
47
قد كان مرمى كرة عنه ابتعد
لكن مضى بإيثيا يجري وجد
ولو مجالهم يسيرا طالا
لأحرز السبق وفخرا نالا
ثم على مرمى مثقف أتى
حوذي إيذومين مريون الفتى
فليس ذا سلاهب كرام
وليس بالمضمار ذا إلمام
وآخر الحلبة مقطوع الصله
لاح ابن أذميت يجر العجله
وخيله يسوق في مجنته
فرق آخيل لدى رؤيته
وصاح ناهضا: «أرى الجديرا
بالسبق أضحى ها هنا الأخيرا
فلا نضع إقدامه المبرورا
ذلك نال الخطر الخطيرا
48
فلنجعل الثاني ذا الأميرا»
49
فاستصوبوا وكاد يعطي الحجرا
لو لم يعارض أنطلوخ جهرا
وصاح: «يا آخيل إني أنقم
منك إذا اعتديت فيما تحكم
تحرمني حقي وأنت تزعم
إفميل فيه الخيل وهو الأيهم
قد أصبحت عن السباق تحجم
فلو سراة الخلد عونا منهم
رام لما كان أخيرا يقدم
فإن به تعنى وأنت الأكرم
ففي خيامك المنال الأقوم
من ذهب ومن نحاس يركم
والغيد والخيل بها والنعم
أما له إن شئت فيها مغنم
من صلتي أوفى نعم وأعظم
عاجله بالبر إذن فتعلم
كل السرى أنك أنت المنعم
لكنني في مغنمي لا أرغم
ومن يعارضني به فالحكم
ما بيننا الصم بها نستعصم»
فهش آخيل له منتصبا
إذ كان إلف وده منذ الصبا
وقال: «مذ قد رمت أن أنيلا
من منزلي جائزة إفميلا
فالآن يعطى الجوشن الثقيلا
جوشن عسطروف الصقيلا
50
ذاك الذي طرحته قتيلا
حلقه صفر زها جميلا
وهو جزاء خلته جليلا»
ثم إلى أفطومذ أشارا
فهب من ساعته وسارا
وأحضر الدرع وإفميل حبا
بها ففاض جذلا وطربا
لكن منيلا قام واري اللهب
على ابن نسطور وبادي الغضب
من كف فيج صولجانا قبضا
يأمر بالصمت السرى مذ نهضا
51
وصاح: «أنطلوخ يا ذا العقل
لم اجترحت اليوم شر الفعل
وسمت شاني الخذل شر الخذل
أحرجت خيلي وبخيل خطل
جزت سراحيبي الكرام الأصل
فيا سراة القوم آل الفضل
هيوا افصلوا ما بيننا بالعدل
كي لا يقال بعد هذا الفصل: «غدرا منيلا قد غدا يستعلي
وأحرز الحجر بفضل النبل «والبأس لا بالجري فوق السهل»
وهاكم حكمي بذا المحل
52
ولا إخالني رهين العذل
إذ إنني بالحق حكمي أملي
قم أنطلوخ وفق عرف الأهل
وقف هنا قرب الجياد مثلي
والسوط ذا السوط الذي من قبل
سقت به اقبض بيد وخل
يدا على الخيل أمام الكل
واخلف بهدام الورى الأجل
أنك لم تغدر ولم تحتل لي»
فقال: «صبرا يا منيلا صبرا
جاوزتني سنا وفقت قدرا
فنزق الشباب تدري خيرا
يدفع فورا ويضل الفكرا
جهل الصبا هذا وأنت أدرى
فالطيش فيه علة لا تبرا
أنت إذن بالعفو كنت الأحرى
فدونك الحجر فخذها جهرا
وإن تشأ زدت صلات أخرى
فذاك خير لي يا ابن أترا
من أن تسومني قلى وهجرا
وعند آل الخلد أجني وزرا»
53
وقادها بيده يلقيها
إليه فاعتز بها بديها
ومثلما السنبل (والطل فرش
حبابه في مائد الزرع) انتعش
54
كذاك يا أتريذ لبك انشرح
وغلة الغم على الفور اطرح
وقال: «أنطلوخ عفت الغضبا
والآن لي الإذعان والغيظ خبا
قد كنت دوما ذا حجى مهذبا
لكنما بالعقل قد عاث الصبا
لا تخدعن بعد قيلا أنجبا
منك فلا سواك فورا أذهبا
غلي وقد شاهدت فيما ذهبا
كم نصبا عانيتم ونصبا
أنت وثرسيميذ ذاك المجتبى
والشيخ نسطور وكنت السببا
55
عذرك قد قبلته مستصوبا
والحجر لي خذها حلالا طيبا
ليشهد الإغريق في هذي الربى
أن جناني العسف والكبر أبى »
ثم إلى رفيقه نومونا
ألقى بها فاقتادها مأمونا
لذاك بالمرجل أتريذ ذهب
وخص مريون بشاقلي ذهب
إذ كان تاليا أتى على أمد
وصلة المرتاح لم ينل أحد
56
لذاك بالكوب آخيل راحا
يهدي إلى نسطور ثم صاحا: «خذ أيها الشيخ فهذا الذخر لك
ذكرا لفطرقل الذي آه هلك
ولن تراه بعد في هذي الدرك
إليك قد أهديته إذ أثقلك
عجز فلن تكون ممن اشترك
لا بلكام أو صراع أو سلك
في العدو والطعن بهذا المعترك»
57
والكوب ألقاه له فطابا
نفسا ومن ساعته أجابا: «بني قد نطقت بالحق نعم
قد وهت الكف وخارت القدم
آه فيا ليت شبابي ما انصرم
ودام لي إقدام غابر القدم
لما الإفيون ببفراس النعم
سعوا إلى دفن عمار نقا الحكم
وولده قد أجزلوا والحشد تم
جوائز الألعاب حتى تقتسم
فلم يكن في كل هاتيك الأمم
منهم ومن فيلوس أرباب الشيم
كذا من الإيتول من معي انتظم
فإقلطوميذ بن إينفس اصطدم
معي لكاما فانثنى واري الألم
ثم الفلوروني أنقاص هجم
نحوي صراعا فانثنى بادي الندم
ثم إفكلوس الفتى من اتسم
بعدوه قصر عني واعتصم
ثم بزج الرمح فيلاس الأشم
وفولذورا جزت مأثور العظم
لكنني بسبق العجال لم
أفز وإن كان له القدر الأهم
فولدا أكتور أدركا العلم
قبلي يغنمان خير مغتنم
والفوز للكثرة بالفضل حكم
والتوأمان انبريا فذا اقتحم
بسوطه وذا الأزمة استلم
58
ذلك شأني كان من قبل الهرم
والآن للفتيان إبراز الهمم
أتمم إذن مأتم إلفك الأحم
وها أنا أقبل بالبشر الأتم
ذخرك إذ أكرمت يا نعم الكرم
حرمة شيخ كان من أهل الحرم
فلتجزك الأرباب موفور النعم»
الملاكمة
فبعد أن أصغى إلى نسطورا
آخيل راح يخرق الجمهورا
مستحضرا جائزة اللكام
بغلا عتا في سادس الأعوام
ماريض بل يوشك أن لا يقربا
وقدحا لمن عيانا غلبا
59
وصاح: «أي اثنين فاقا الجندا
وفي أساليب اللكام اشتدا
فليبرزا فذا الجزا أعدا
فمن بنصر فيبس أمدا
وشهد الجمع له فيهدى
إليه ذا البغل القوي جدا
والكأس للمغلوب حقا يسدى»
فقام قرم باسل كبير
إفيوس فانوف الفتى الخبير
ألقى على البغل يدا وقالا : «يا من يروم القدح ابرز حالا
فلا سواي البغل منكم نالا
فتى ومثلي خاض ذا المجالا
60
حسبي أن لا أحسن القتالا
من ذا الذي كل مجال جالا
قلت وإني صادق مقالا
من قام لي قطعته أوصالا
وليعدد الصحب له الرجالا
تحمله مثقلا نكالا»
فصمتوا طرا سوى فريال
عد بني الخلد أبي الأهوال
فرع مكست بن طلاووس ومن
قد كان من أعظم لكام الزمن
قد كان في مأتم أوذيب ظهر
في ثيبة وآل قدمس قهر
ونحوه ذيومذ مستنهضا
بادر يبغي فوزه محرضا
شد له النطاق حول الخصر
والجمع غشى جلد ثور بري
61
فنزلا الساحة يرفعان
كفيهما معا ويلكمان
حتى هناك الجمع بالجمع اشتبك
ورشح الأعضاء واصطك الحنك
فانقض إفيوس وفريال لطم
بوجهه لطمة صنديد غشم
فلم يطق لهولها احتمالا
وارتجفت أعضاؤه ومالا
كالحوت والنوء بشمأل عصف
في الجرف بين زبد البحر ارتجف
لكن إفيوس انحنى عليه
يرفعه ما بين ساعديه
وصحبه خفوا به والتوت
ساقاه والهامة أيضا أهوت
يسيل وهو لا يعي شعورا
نجيعه من فمه غزيرا
كذا به ساروا بملء اليأس
ولم يفتهم أخذ تلك الكاس
62
الصراع
ثم انبرى آخيل للخطاب
منتدبا لثالث الألعاب
يري القروم تحف الصراع
محثحثا لهوله الرواع
للصارع الفائز مرجل أغر
قيمته اثنا عشر من البقر
وللصريع غادة مروعه
قيمتها لا تتعدى الأربعه
وصاح: «يا أبطال من منكم رغب
بخوض ذا الميدان حالا ينتصب»
فقام أولا أياس الأكبر
ثم أذيس السائس المدبر
تمنطقا وبرزا بلا عدد
والتقيا واشتبكا يدا بيد
تلاصقا تلاصق الجسرين
في السقف بالبناء قائمين
قد رسخا بحكمة البناء
لصد فعل الغيث والأنواء
حتى عرى الأضلع كادت تنكسر
والرشح سال كغيث منهم
وكلف الدماء حمرا تجري
على الصفاح وفقار الظهر
63
والكل وار بأوار الأمل
للفوز بالنصر وذاك المرجل
فلا أذيس بأياس ظفرا
ولا أياس نال منه وطرا
فضجر الحضار أجمعونا
فعند ذا صاح ابن تيلامونا: «أذيس طال الأمر فارفعني هنا
وإن تشأ رفعتك الآن أنا
وزفس موكول له باقي العنا»
ثم على الفور أياس رفعه
ولم يكن ذاك لينسى خدعه
عنفا على الساق أياسا ضربا
فالتوت الركبة ثم انقلبا
64
وفوق صدره أذيس وقعا
والجمع يستعجب مما صنعا
ثم أذيس رام أن يحتمله
لكنه لم يقو أن يقلقله
حتى لوى الركبة والقرمان
كلاهما خرا يعفران
ثالثة هما بأن يصطدما
لكنما الأمر آخيل حسما: «كفى صراعا وكفى أذيه
كلاكما قد أبرز الحميه
فلكما الجزاء بالسويه
كفا إذن لتبرز البقيه»
فسمعا وأمره أطاعا
وانفصلا وغادرا الصراعا
ونفضا الغبار ثم لبسا
كل رداه ومضى فجلسا
65
الحضر
وخطر الحضر آخيل أبرزا
حقا من اللجين كان أحرزا
66
منمنم مكيله ستا وزن
ما مثله حق بذياك الزمن
زخرفه أبناء صيدا وخرج
قوم فنيقيا به على اللجج
حتى إذا لمنوس جاءوا وقفوا
حيث به القيل ثواس أتحفوا
وإفنس بن إيسن بين العدى
به ابن فريام لقاوون افتدى
لذاك فطرقل عفا عن دمه
والآن قد أبرز في مأتمه
أعده خليله للسابق
وخير ثور قارح للاحق
وللأخير نصف شاقل ذهب
من ثم يبن القوم ناهضا خطب
وصاح: «يا سراة من منكم رغب
بخوض ذا الميدان حالا ينتصب»
فانتصب ابن ويلس أياس
ثم أذيس اللبق النبراس
فأنطلوخ سابق الأتراب
وانتظموا صفا على اقتراب
ولهم آخيل أعلن الغرض
فانبعثوا انبعاث عداء ركض
إذا بآياس سريعا سبقا
لكن وراءه أذيس طبقا
يدنوا كما النساجة البديعه
لصدرها قد دنت الوشيعه
67 (إذا بها بنولها أمرت
سلكا به تحوك ثم اجترت)
خطاه في خطى ابن ويلس تقع
من قبلما العثير عنهن ارتفع
يجري على أعقابه ونفسه
برأس آياس يثور قبسه
والقوم طرا يرتجون الغلبه
له وضجوا وهو عاد عقبه
حتى إذا على الختام أشرفا
أذيس فالاس دعا وهتفا: «عونك يا ربة قوي قدمي»
وذلك الدعاء في الحال نمي
فشددت بالعزم معصميه
وخففت بجريه رجليه
وحين هما أن يصيبا الخطرا
أياس فالاس رمت فعثرا
أكب في خثي ثيار ذبحا
آخيل في مأتم فطرقل ضحى
به امتلا فوه وأنفه وخف
أذيس أولا إلى أولى التحف
وأسرع ابن ويلس يليه
والخثي حشو أنفه وفيه
لقرن ذاك الثور حالا مالا
وصاح وهو يتفل الدمالا
68 «وا خيبة الهمة والإقدام
فربة تلك لوت أقدامي
وعن أذيس أبدا تحامي
كالأم منذ غابر الأيام»
فارتفعت قهقهة الجمهور
وأنطلوخ صاح بالحضور
قال لهم مبتسما مسرورا
وإن غدا مغنمه الأخيرا: «هلا أيا صحب خبرتم خبري
آل العلى تجل قدر العمر
أياس فاتني نعم بنزر
لكن أذيس إلف ذاك العصر
شيخ ولكن ذو جنان نضر
ما معه قط بهذا الدهر
خلا آخيل من مجار يجري»
69
أجاب آخيل لذا الإطراء: «ما كنت مداحي بلا جزاء
70
لذاك قد زدتك من حبائي
نضار نصف شاقل وضاء»
وعاجلا نفحه بالذهب
فراح معتزا بملء الطرب
71
الطعان
ثم أتى بعامل طويل
وخوذة ومجوب ثقيل
سلاح سرفدون الذي استلب
فطرقل لما ذلك القرم غلب
بين الجموع طرح الجميعا
وصاح يستنهضهم سريعا: «أبسل من في القوم قرما صد
فليبرزا بكل ماضي الحد
إلى الطعان بين كل الجند
ومن هنا سالت دماء الند
بطعنه فوق الحديد الصلد
نعطيه سيف عسطروف الجلد
ذاك الذي اكتسبته بجدي
قتيره الفضي زاهي الوقد
لكن سلاح سرفدون نهدي
إلى كليهما شعار مجد
ولهما مني جميل الوعد
في الخيم أدبة بضافي الرغد»
فقام آياس التلاموني
ثم ذيوميذ الفتى السري
تسلحا في طرف الكتائب
وبرزا بروز ليث واثب
يحتدمان للقا أوارا
بأعين قادحة شرارا
تدانيا ووقع ذاك المنظر
لهوله ارتاع جميع العسكر
كرا ثلاثا وثلاثا أعلنا
ظبي القنا ثم أياس طعنا
فخرق المجوب لكن ما ولج
في الجسم بل في اللأمة الرمح اختلج
ثم ذيوميذ أجال العاملا
به أياس طالبا مقابلا
يرقب فرصة لشتى الجيد
من تحت ترس ذلك الصنديد
فأشفق القوم على أياس
وأمروا بالكف خوف الباس
وقسمة الجزاء بالسواء
لكن آخيل بلا إبطاء
ألقى إلى ذيومذ الحساما
والغمد والنجاد ثم قاما
72
الكرة
يلقي على مرأى جميع الصيد
هائل أكرة من الحديد
73
كان بها يقذف إيتيون
من قبل أن تدركه المنون
به أخو البأس آخيل مذ فتك
بفلكه استقل كل ما ملك
فصاح: «من بذا الجزاء طمعا
منك ألا ما الآن فورا أسرعا
فهو لمن أبعد مرمى رفعا
مهما نما مزرعه واتسعا
ما بعد ذا خمسة أعوام سعى
لبلد يبغي الحديد المودعا
لحارث الأرض وللذي رعى
بل فيه ما يكفيه هذا المطمعا»
74
فهب فوليفيت الجبار
ثم لينط الباسل القهار
ثم أياس الأكبر المغوار
والقرم إفيوس وصفا داروا
أولهم إفيوس ألقى بالكره
فاندفعت دائرة منتثره
فقهقه الجمع وبعده قذف
بها لينط ثم آياس وقف
وإذ بعزم زنده مشتدا
رمى بها مرماهما تعدى
لكن فوليفيت لما ألقى
بها على الجميع حاز السبقا
فانبعثت بمشهد الحضور
مبعدة عن مجلس الجمهور
كبعد مرمى محجن البقار
يغل فوق راتع الثيار
والجمع ضج وبتلك الصلة
لفلكه أصحابه بادرت
النضال
75
ثم آخيل صاح بالنبال
يطمعهم بالأفؤس الغوالي
عشرين من صلد الحديد قد أعد
عشرا بحدين كذا عشرا بحد
ثم على مسافة في السهل
سارية أركز فوق الرمل
بمسد دق عليها علقا
حمامة برجلها قد أوثقا
76
حتى تكون الغرض المقصودا
ثم دعا يستنهض الجنودا: «الأفؤس الأولى لمن أنيلا
بأن يصيب الطائر الذليلا
وذي لمن يخطئه قليلا
ثم يصيب المسد المفتولا»
فهب طفقير الأمير ونهض
مريون تبع إيذمين واعترض
فاستقسما بخوذة من صفر
فلاح طفقير ببدء الأمر
بالعزم والزماع سهما أرسلا
لكن عن النذور عفوا غفلا
لفيبس لم ينو عندما عزم
من غرر القربان أكبار الغنم
فلم يصب بسهمه الحمامه
إذ إن فيبسا بغى إرغامه
لكن إزاء الرجل في الحبل وقع
مريشه والحبل في الحال انقطع
77
ومال والطائر مذ نال الفرج
حلق في الجو وكل الجمع ضج
فانتاش منه القوس مريون وفي
يديه سهمه بلا توقف
ومئة الخراف أبكارا نذر
ضحية لذي السهام تدخر
78
ورشق النبل بلا اضطراب
مسددا والطير في السحاب
فمن جناح الطائر السهم برز
ثم لدى مريون في الترب ارتكز
والطير فوق الدقل الموتود
أهوى هديل الجنح لاوي الجيد
79
فخمدت أنفاسه وهبطا
وللثرى عنهم بعيدا سقطا
وأعين الجميع بانصباب
عليه راقبته باستعجاب
لذاك مريون الفئوس الأولا
نال وباقيها لطفقير خلا
80
المراشقة
ثم آخيل عاملا مثقفا
ألقى وألقى مرجلا مزخرفا
مزينا بصور الأزهار
لم يعل قط بعد فوق النار
جائزة للرامح المجيد
بالرشق بالصعاد من بعيد
81
فقام ذو الطول أغاممنون
كذا انبرى منتصبا مريون
فصاح آخيل: «وهل منا أحد
يجهل يا أتريذ كم فقت العمد
وكم بزج وقى كنت الأشد
إذن لك الجزاء بالحق معد
خذه إلى فلكك من غير مرد
وإن تشأ ما شئت في هذا الصدد
فلنحب مريون بذا الرمح وقد»
بذاك أتريذ له أبدى الرضا
والرمح مريون حباه فمضى
ثم استقل الخطر النفيسا
يلقي به للفيج تثبيوسا
82
هوامش
النشيد الرابع والعشرون
إعادة جثة هكطور إلى أهله
مجمله
أرفض جيش الإغريق إلى سفنهم يستطيبون الزاد والرقاد.
وظل آخيل والكرى قاتل الأسى
بذكراه فطرقلا يؤرقه السهد
ولما لاح الصباح دار ثلاثا حول قبر فطرقل بجثة هكطور، فعطفت الآلهة على هكطور وسعت في إنفاذ هرمس لرفع الجثة، فعارضتهم هيرا وأثينا، فاستدعى زفس ثيتيس فحاسنها وأنبأها بأنه يود أن يعيد آخيل جثة هكطور إلى والده الشيخ، فذهبت ثيتيس بالأمر فاستمع آخيل مطيعا، ثم أنفذ زفس إيريس إلى فريام يأمره بافتداء ابنه، فأخبر فريام امرأته بذلك فعارضته، ولم تذعن حتى اطمأنت برؤية نسر أرسله زفس، فركب فريام مركبته واستصحب أذيوس وأدركه هرمس في السهل ورافقه حتى أدخله إلى خيمة آخيل ولم يشعر به أحد، فقبل آخيل الفداء وسلم فريام الجثة ووادعه أحد عشر يوما ليتسنى له القيام بمأتمه، ولما أظلم الليل أيقظ هرمس فريام وسار به قافلا إلى إليون، ولما قارب البلد أبصرت كسندرة ابنته جثة أخيها يعود بها أبوها، فصاحت وناحت واندفع الناس أفواجا لملاقاة ملكهم، فدخل فريام واستقبله الجمهور، ورثت هكطور امرأته أنذروماخ وأمه إيقاب وامرأة أخيه هيلانة، ثم بادر الجمع إلى الاحتطاب وأضرموا النار وقضوا بالمأتم عشرة أيام، ثم جمعوا عظامه ودفنوها في قبر أعدوه له.
ولهم قسم المليك طعاما
كان في مأتم الفقيد ختاما
يستغرق هذا النشيد ثلاثة وعشرين يوما منها اثنا عشر يوما أثناء إقامة جثة هكطور خيمة آخيل، وأحد عشر يوما مدة الهدنة ومجرى الحوادث في خيمة آخيل وإليون.
النشيد الرابع والعشرون
1
إلى الفلك لما ارفض ذيالك الحشد
تفرق يبغي الزاد والوسن الجند
وظل آخيل والكرى قاتل الأسى
بذكراه فطرقلا يؤرقه السهد
ينوح على إقدامه وزماعه
وكل سجاياه لخاطره تبدو
ويذكر كم حربا بها جهدا معا
وكم بعباب البحر نالهما الجهد
يكب فيستلقي يسيرا فينثني
على صفحتيه والهواجس تشتد
فينهض ملتاعا تسح دموعه
وفي الجرف يجري جري من فاته الرشد
فهام إلى أن أبلج الفجر ساطعا
به يستضيء البحر والغور والنجد
لمركبه شد الجياد وخلفه
لقد شد هكطور على الترب يمتد
على قبر فطرقل ثلاثا به جرى
وعاد ابتغاء النوم للخيم يرتد
وغادر هكطورا مكبا على الثرى
ولكن فيبوسا به هاجه الوجد
فمد عليه عسجدي مجنه
فلا مسه ضر ولا مزق الجلد
2
فساءت بني العليا مهانته لذا
لدى هرمس طرا بإنقاذه جدوا
3
على أن آثينا وهيرا وفوسذا
تصدوا ولكن ليس يجديهم الصد (على قدس إليون وفريام لبهم
وأقوامه ما زال يلهبه الحقد
ففاريس سام الربتين مهانة
بمرعاه قدما وهو غض الصبا وغد
غدا قاضيا بالفضل للربة التي
أباحت له بئس المنى ومضت تغدو)
4
ومذ لاح ثاني عشر فجر مقاله
أفلون ألقى يستشيط ويحتد: «بني الخلد آل الجور كم ساق سخلة
وثور لكم هكطور من قبل أحرقا
فها هو ميت ليس من تستفزه
لإنقاذه نفس تجيش ترفقا
فترمقه زوج وأم ووالد
وطفل وشعب هام وجدا ليرمقا
يقومون بالفرض الأخير وحوله
تألق نيران الوقود تألقا
فآخيل آثرتم وآخيل ما أرى
به أثرا للدين والعدل مطلقا
كليث غشوم فاتك متغشمر
دهى السرب منقضا وعاث ومزقا
فما هو ذو رفق وقد غادر التقى
نعم والحيا أس السعادة والشقا
فقد يفقد المرء ابنه وشقيقه
وخلا فيبكي ناحبا متحرقا
فيسلو وللأقدار حكم إذا مضى
رأيناه قلب الخلق للصبر شوقا
5
وهذا آخيل منذ قتل عدوه
يجرره حول الضريح معلقا
فما ذا ليجديه ومهما عتا فهل
بأمن غدا من أن نغاظ ونحنقا
ونستاء من إفراطه بإساءة
لجسم فقيد الحس بالترب ألحقا»
فصاحت به هيرا: «ولو كفؤا غدا
لآخيل هكطور مقالك صدقا
فذاك غذت إنسية بلبانها
وذا ربة ربت وفي المجد أعرقا
بحجري قد أنشأتها وأبحتها
لفيلا الذي مرقاة وذكم رقى
حضرتم جميعا للزفاف وليمة
بها كلكم حول الطعام تأنقا
وقد كنت بالقيثار في العرس عازفا
أرب الخنى إلف الأولي نبذوا التقى»
6
فعارضها زفس وقال لها: «قفي
أهيرا وأبناء العلى لا تعنفي
فهكطور لن نرى كآخيل إنما
بإليون لا مرء كهكطور نصطفي
مدى عمره لم يسه عن قرباته
لنا وعن التبجيل لم يتوقف
7
ولم يخل يوما مذبحي من مدامة
وشحم وإيلام بحسن تصرف
وما أنا باغ أن نواريه خفية
فما الأمر عن آخيل قط ليختفي
فثيتيس بالمرصاد في كل ساعة
علي بها أسترضها بتلطف
فيقبل من فريام آخيل فدية
ويدفع هكطورا إليه ويكتفي»
فإيريس هبت كالرياح تغوص في
خضم عباب البحر يدوي لها الجد
وما بين ساموس وإمبرس مضت
إلى القعر حيث اليم في اللج مربد
كما دون قرن الثور غاصت رصاصة
لأسماكه فيها المنية تعتد
8
فثيتيس ألفت في غيابة كهفها
وحشد بنات الماء من حولها عقد
9
تنوح على ابن في بعيد اغترابه
من الموت في طرواد ليس له بد
فصاحت: «أثيتيس انهضي زفس ذو النهى
لقاءك يبغي فاستطيري إلى اللقا»
فقالت: «وماذا رام ذو الطول إنني
أنا أتحاشى مجلس الخلد والبقا
ولكن بنا سيري فمهما يهج أسى
فؤادي ففي زفس الجلال تحققا
ومهما يكن من نطقه ومقاله
بغير صواب لن يفوه وينطقا»
وإيريس سارت وهي طارت وراءها
عليها نقاب حالك اللون مسود
أمامها انشق العباب فهبتا
من الجرف للعلياء حيث ثوى الخلد
وحيث ميامين العلى منتداهم
به زفس رب المجد كلله المجد
لدى زفس فورا أجلستها بعرشها
أثينا وهيرا أقبلت نحوها تعدو
وهشت تعزيها وألقت بكفتها
لها قدحا يزهو بعسجده الوقد
ولما قضت منه ارتشافا وأرجعت
لهيرا فزفس صاح يبلغ ما القصد: «أثيتيس إني بالتياعك عالم
وقد جئتني طوعا فبغيتي اعرفي
سراة العلى شق الشقاق لفيفها
لتسعة أيام ولم تتألف
وهرمس حثثت أن يسير بخلسة
بجثة هكطور الصريع فتشتفي
ومذ رمت أستصفيك ودا وحرمة
لآخيل أبغي فضل هذا التعطف
فطيري إليه بلغي غيظ قومنا
ومن فوقه غيظي وفرط تأسفي
فهكطورا استبقى لدى الفلك حانقا
ليرجعه خوف السخط إن يتخوف
وها أنا إيريسا لفريام منقذ
ليمضي إلى الأسطول حق الفدا يفي
فيتحف آخيلا بما طاب قلبه
به من عتاد شائق ومزخرف»
فلبت وهبت من ذرى الطود تنثني
لخيم ابنها القته أكمده الكمد
وقد ذبح الأنصار إذ ذاك نعجة
وداروا حواليه وزادهم مدوا
فخفت تحاذيه ومنها تزلفا
تدور على أعطافه الكف والزند
وقالت: «إلى م القلب تقضم كأبة
ولا زاد تبغي أو فراشا منمقا
10
ولا بأس أن تلهو آخيل بغادة
فسهم المنايا موشك أن يفوقا
11
بني وزفس اختصني برسالة
فحقدك أرباب السيادة أقلقا
فغيظوا وزفس اشتد يلهب غيظه
لحفظك هكطورا لدى الفلك موثقا
به ادفع وخذ عنه الفكاك بديله»
فقال: «قضى زفس ولا ريب مشفقا
ليات إذن من يبذل المال فدية
فيرجع فيه شائقا ومشوقا»
12
فهذا حديث الأم في الفلك وابنها
وزفس دعا إيريس قال لها: «ادلفي
13
بلاغي من شم الأولمب به اذهبي
وفريام في إليون بالأمر كلفي
ليذهب إلى الأسطول هكطور يفتدي
وآخيل يسترضي وبالغر يتحف
ولا يمض معه غير فيج معمر
لسوق بغال المركب الآن مسعف
ويرجع فيها قافلا بابنه الذي
قد اجتاح آخيل بحد المثقف
ولا يضطرب خوفا ولا يرهب الردى
فقاتل أرغوص نسير فيقتفي
فذاك دليل معه يذهب آمنا
لمنزل آخيل بآمن موقف
14
وآخيل لن يغتاله متعسفا
ويحميه ممن رامه بتعسف
فلا هو ذو جهل ولا ذو حماقة
ولا نابذ التقوى بشر التعجرف
15
فإيريس مثل الريح فريام يممت
فألفته وسط الدار من حوله الولد
ولم تلف غير النوح بلت ثيابهم
دموعهم والعزم بالحزن منهد
وفريام مما قد حثا متمرغا
يدنسه خثي ويكنفه برد
16
وفي صرحه كناته وبناته
ينحن لبهم بعدهم عظم البعد
17
تدنت إليه وهو منتفض أسى
برعدته مما به برح الفقد
وقالت برفق: «يا ابن دردانس فلا
تخف فبأنباء الأسى لم أكلف
ولكن بخير العلم زفس أسارني
نعم وهو أسمى مشفق لك منصف
يقول امض للأسطول هكطورا افتدى
وآخيل فاسترضى وبالغر أتحف
18
ولا معك يمضي غير فيج معمر
لسوق بغال المركب الآن مسعف
19
فيرجع فيها قافلا بابنك الذي
قد اجتاح آخيل بحد المثقف
ولا تضطرب خوفا ولا ترهب الردى
فقاتل أرغوص يسير فتقتفي
فذاك دليل معه تذهب آمنا
لمنزل آخيل بآمن موقف
فآخيل لن يؤذيك منه تعسف
ويمنع حتما عنك كل تعسف
فلا هو ذو جهل ولا ذو حماقة
ولا نابذ التقوى بشر التعجرف
ولكنه يرعى ولا ريب حرمة
لمن جاءه في ذلة المتزلف»
طارت وفريام لساعته أمر
أبناءه لتعد مركبة السفر
ولها تشد بغالها وتعلق ال
زنبيل ثم لحجرة النوم انحدر
هي غرفة عطرية جدرانها
شماء بالأرز ازدهى بنيانها
قد كان ثم أعد كل نفيسة
وثمينة يشتاق رؤيتها البصر
إيقاب نادى قال: «من شم العلى
زفس إلي إلاهة قد أرسلا
لأسير للأسطول وابني أفتدي
وآخيل أتحف ما يشاء من الغرر
فإذن بفكرك لي سريعا صرحي
أما أنا فلذاك غاية مطمحي
والقلب يدفعني إلى فلك العدى
وجيوشهم» قالت ومدمعها انهمر: «ويلاه أين حجى عرفت به لدى
طروادة حتى وفي قوم العدى
أتسير وحدك للسفين إلى فتى
لك كم فتى بطل همام قد قهر
لا شك قلبك كالحديد ألا ترى
آخيل غدارا عتا وتجبرا
فلئن رآك أتيت لا رفق ولا
عطف لديه وخلته فورا غدر
فلنندبن بصرحنا في معزل
فسوى الهوان له القضا لم يغزل
20
وله الهلاك أتيح منذ ولدته
في البعد عنا لا تبلله العبر
وفريسة للغضف ويلا يغتدي
بحما عتي ظالم متمرد
من لي بذا السفاك أقضم كبده
قضما فلا أبقي عليه ولا أذر
21
إن يقض هكطور فلا نكسا قضى
لكن لكل كريهة متعرضا
في الذود عن طروادة ونسائها
ما انتابه جزع ولا عرف المفر»
22
فأجابها بجلال رب عظما: «خلي الملام فقد نويت مصمما
لن تصرفي عزمي فلا تقفي إذن
كوقوف طير الشؤم في هذا المقر
لو جاءني بالأمر عراف هنا
أو كاهن أو عائف متكهنا
لرغبت عنه وقلت ذلك كاذب
وصرفت فورا عن مقالته النظر
لكن تلك إلاهة أبصرتها
وسمعتها وبذا اليقين أطعتها
ولقد رضيت بأن يوافيني الردى
بين العدى إن كان ذا حكم القدر
فلئن أضم ابني الحبيب وغلتي
أشفي ليفتك بي آخيل بذلتي»
ثم الخزائن قام يفتح مخرجا
من كل منضود بهن اثني عشر
من بردها ونقابها وشعارها
وكذاك من زربيها ودثارها
وأعد من ذهب شواقل عشرة
وكذا جفانا أربعا كان ادخر
ومنصتين كذلك الكأس التي
إثراقة قدما إليه أهدت
وبها حبته وافدا برسالة
فأضافها لفكاك هكطور الأبر
وتكأكأ الطرواد في أبوابه
فمضى يعنفهم بمر خطابه: «عني أيا قوم الهوان افرنقعوا
أفلم يبرح في مقامكم الكدر
أو ما لكم من تندبون بدوركم
حتى تزيدوني أسى بزفيركم
أوليس حسبي أن يلظيني أسى
زفس وأبسل فتيتي هكطور خر
ولسوف تلفون إلا ذي كل الأذى
إذ بتم مذ مات أسهل مأخذا
لا أبصرت عيناي دك معاقلي
من لي بزجي قبل ذلك في سقر»
واستاقهم بالصولجان فأدبروا
من وجهه وبنيه أقبل يزجر
23
هيلينسا فاريس هيفوثوسا
فمون ذيفوبا أغاثون الأغر
أنطيفنا فوليت سفاك الدما
وكذاك تاسعهم ذيوس الأيهما
24
ألقى أوامره عليهم ساخطا
حنقا وكلهم بحدته انتهر: «عجلا أولد السوء يا رهط الفشل
يا ليتكم طرا فدا ذاك البطل
ويلاه واعظم الشقاء فكم فتى
لي كان في إليون قرم ذي خطر
لم يبق لي أحد فلا لهفاه لا
مسطور ذاك القرن قرن بني العلى
25
وأبو الفوارس إطرويل ومنيتي
هكطور من ربا غدا بين البشر
قد كان أشبه بابن رب معرق
منه بمولود لإنسي شقي
طرا أبادهم الوغى مستبقيا
لي زمرة وأقبحها بين الزمر
رنامة رقاصة كذابة
وبني البلاد سوامها سلابة
26
أفلا شددتم مركبي ونضدتم
هذا المتاع لكي أسير على الأثر»
جزع البنون لزجره وتألبوا
ولشد مركبة البغال تأهبوا
طيارة صنعت حديثا وازدهت
فبسطحها الزنبيل في الحال استقر
والنير نير البقس كان على الوتد
محقوقف في ظهره حلق العدد
فأتوا به وكذاك بالسير الذي
فيه وتسعة أذرع طولا قدر
بالنير رأس الجذع حالا أدخلوا
والسير حوليه ثلاثا حولوا
من تحت ذاك الجذع أحكم عقده
من ثم كلهم إلى الصرح ابتدر
27
منه استقلوا يشحنون المركبه
بفكاك هكطور لآخيل هبه
قرنوا لها بغلين من ميسية
فريام نال هدية وبها افتخر
من بعد ذا عمدوا إلى فرسين في
أكناف عنته غذا بتلطف
28
فبنفسه مع فيجه في صرجه
في الحال شدهما ولم يرع الكبر
29
وأتته إيقاب يحزقها النصب
بشهي صرف الراح في كأس الذهب
وقفت أمام الخيل تندبه إلى
صب المدامة قبل أن يلج الخطر
قالت: «إليك الكأس خذها واسكب
زلفى وحسن العود من زفس اطلب
من زفس من إليون يرمق طرفه
من طود إيذا حيث في علياه قر
تمضي على رغمي فسله يرسل
لك طيره الميمون ذا الطول العلي
فإذا أتاك إلى يمينك سانحا
ورأيته جئت العداة بلا حذر
30
لكنما إن ظل زفس معرضا
وبذي الرسالة منه لم يبد الرضا
لا أغرينك أن تسير لفلكهم
مهما رغبت ولب مهجتك استعر»
فأجابها: «لن أعصينك يا امرأة
بسط الأكف لزفس نعم التوطئه
فلعله عطفا يرق» وأمره
فورا لجارية بخدمته صدر
فدنت بإبريق وطس تذهب
ماء الطهور على يديه تسكب
والكأس من بعد الوضوء أراقها
فوق الحضيض لزفس دفاع الضرر
وإلى السماء أقام ينظر واقفا
في وسط تلك الدار يصرخ هاتفا: «اأبا العوالم زفس من إيذا علا
يا من لأمر جلاله الكل ائتمر
سكن آخيل فلي يرق وأرسل
لي طيرك الميمون ذا الطول العلي
فإذا أتاني عن يميني سانحا
ورأيته جئت العداة بلا حذر»
فدعاءه زفس استجاب وأرسلا
في الحال أصدق كل أطيار الفلا
نسرا زفيفا كاسرا ذا قتمة
بالأسمر الفتاك في العرف اشتهر
جنحاه قد نشرا كصفقي حجرة
شماء في صرح الغنا مبنية
فتنسم الطرواد خير ظهوره
لما يمينا فوق إليون ظهر
فهناك فريام لساعته على
كرسيه بحميل بشراه اعتلى
واستاقها فمضت تغير بداره
ورتاجها من وقع ذاك الجري صر
31
وأمامه حث البغال وأسرعا
إيذوس معتليا محالا أربعا
32
جريا بإليون وكل ذويه في ال
آثار تندب ندب من ميتا قبر
حتى إذا اجتازا بأسواق البلد
للسهل جدا لا يحوطهما أحد
وإلى ديارهم انثنى الأبناء وال
أصهار مع كل الجماهير الأخر
لما رأى زفس والشيخان قد ولجا
في السهل رق لفريام وهاج شجا
نادى ابنه هرمس المحبوب قال: «لكم
أحببت بين بني الإنسان أن تلجا
وإن تشأ تستجبهم فاصحبن إذن
فريام فهو إلى الأسطول قد خرجا
لا يعلمن به بين الملا أحد
حتى إذا جاء آخيلا فلا حرجا»
لباه قاتل أرغوص وفي عجل
خفيه أوثق في رجليه مبتهجا (خفان من عنبر صيغا ومن ذهب
في البحر والبر مثل الريح قد درجا)
33
والصولجان الذي يلقي السبات على
من شاء أو يوقظ الوسنان إن خلجا
34
به مضى مثل لمح الطرف ينزل في
تلك السهول بجرف البحر مدلجا
وراح يحكي أميرا جد نحوهما
عذاره خط في شرخ الصبا بلجا
35
وقبر إيلوس لما جاوزا وقفا
وقد أغار على الغبراء جيش دجى
هما بأن يوردا للنهر خيلهما
مع البغال فهب الفيج منزعجا
رأى الإله فنادى: «يا ابن دردنس
ترو وانظر وقفنا موقفا حرجا
أرى امرأ جاءنا بالحتف هل هربا
نلوي الجياد وفورا نطلب الفرجا
أو فوق ركبته نحني ومرحمة
نرجو عساه لنا أن يستجيب رجا»
فارتاع فريام خوفا واقشعر أسى
وقد غدا مزبئر الشعر ملتعجا
لكن دنا هرمس يهوي على يده
يلقي السؤال بلين القول ممتزجا: «علام يا أبتا والناس قد وسنت
بذي البغال وهذي الخيل ترتحل
36
هنا الأخاءة هلا خفت شرهم
وكلهم لك بالعدوان مشتعل
ما بالك الآن لو وافاك أيهم
بذا الرياش وستر الليل منسدل
ما كنت غض ضباب والرفيق أرى
شيخا فما لك في دفع الأذى قبل
فلا تخف ضرري بل فالق بي عضدا
لك انبرى وأباه فيك يمتثل»
37
فقال فريام يعلوه الجلال: «أجل
بني غير مقال الحق لم تقل
لكن أرى بعض آل الخلد قد بسطوا
علي كفهم في الموقف الجلل
إلي أسروا بسيار نظيرك ذي
قد وحسن وعقل نادر المثل
أهلا وطوبى لأهل أنت فرعهم»
فقال: «يا شيخ خير القول ترتجل
فأطلعني طلع الأمر أين ترى
يساق في الليل هذا الحلي والحلل
أتطلبن بقاصي الدار مؤتمنا
لهن أم كل إليون عرا الوجل
فرمتم هجرها لما نأى وقضى
هول الأخاءة هكطور ابنك البطل»
فقال: «من أنت من أي الأرومة يا
من ذكر حتف ابني المنتاب يبسط لي»
أجاب: «يا شيخ هل ذاك امتحانك لي
إذ جئت خبري عن هكطور أمتثل
38
فكم بصرت به للفلك مكتسئا
جيش الأخاء وسيف الحتف يمتشل
39
وكم رأينا وأكبرنا ومانعنا
آخيل غيظا على أتريذ نقتتل
في قوم أعوانه وافيت منتظما
بفلكه وإلى المرميد أتصل
أبي فلقطور من أهل اليسار غدا
شيخا حكاك بنوه سبعة كملوا
فعنده ستة ظلوا وسابعهم
أنا حملت مع الإغريق مذ حملوا
لما اقترعنا فسهمي دون أسهمهم
بدا فأمر آخيل جئت أمتثل
والآن أنفذني للسهل مرتقبا
فقد عرا القوم من كف الوغى الملل
سيحملون على إليون من غدهم
والصيد عن ردعهم ضاقت بها الحيل»
فقال فريام: «إما كنت منتسبا
إلى ابن آياك فاصدقني بلا مهل
أجسم هكطور آخيل رمى قطعا
للغضف أم قرب تلك الفلك لم يزل»
40
فقال: «لا منسر لا ناب عاث به
لكن جثته للخيم قد حملوا
في القرب من فلك آخيل لقد بزغ اث
نا عشر فجرا عليه وهو معتقل
فلا عراه فساد أو تخلله
دود تخلل بهما في الوغى قتلوا
وكلما طر فجر حول صاحبه
آخيل طاف به بالعنف يجتذل
41
لتعجبن إذا أبصرته ترفا
لا تقع دنسه والجرح مندمل
كم طعنة فهقت فيه قد اندملت
كأن آل العلى تلك الدما غسلوا
لا شك ودوه حتى بعد مصرعه
عن ذلك البطل القهار ما غفلوا»
فطاب قلبا وصاح الشيخ: «وا ولدا
يا حبذا البر للأرباب من عمل
لم ينس ما عاش أرباب الألمب ولا
هم أغفلوه ولو بعد انقضا الأجل
فهذه الكأس خذ مني وكن عضدي
بعون آل العلى في هذه السبل
حتى لخيمة آخيل تبلغني»
فقال هرمس: «ليست شيمتي النحل
مهما أكن حدثا ما أنت تطمعني
بنائل عن آخيل خفية تصل
أخشاه والنفس تأبى أن تمد يدي
لسلبه إن عقبى ذلك الفشل
42
لأصحبنك حتى لو بغيت إلى
بلاد أرغوس ذات الشأن تنتقل
وليس برا وبحرا ما ظللت على
عهدي تمسك من كف العدى الأسل»
وهب هرمس للكرسي واستلم ال
عنان والسوط ثم استاق منتهجا
وهمة الخيل أورى والبغال وبال
حفير حالا لأسوار الحمى اتلجا
43
ألفى العيون أعدت زادها فعلى
أجفانهم صب تهجاعا بها اندمجا
44
وراح يفتح أرتاج الحصار بلا
عنا ويدفع أزلاجا بها زلجا
45
وبالهدايا وفريام ومركبه
أم الخيام وفي بطن الحمى زلجا
46
حتى إلى الخيمة الشما التي رفع ال
مرميد لابن أياك ملكهم عرجا
من أسؤق السر وشيدت تحت أغمية
من المروج بها البردي قد مرجا
وحولها الدار شيدت تحت أعمدة
والباب مزلاج سرو واحد رتجا
47
ثلاثة منهم بالعنف تدفعه
لكنما دفعه آخيل ما زعجا
بوجه فريام خف الرب يفتحه
وبالهدايا إلى ذاك الفنا ولجا
وصاح من بعد ذا لما ترجل: «يا
ذا الشيخ هرمس من والاك لا رجل
أبي نصيرا إليك اليوم أنفذني
وها أنا الآن ماض عنك أنفصل
لن أظهرن لآخيل فما لبني ال
على جهارا ولاء الإنس تبتذل
وأنت رح وانطرح من فوق ركبته
وسله رفقا عسى يصغي لما تسل
وباسم فيلا وثيتيس ونفطلم
ناشده يرن لدمع منك ينهمل
48 •••
هكذا هرمس أتم الخطابا
وتوارى إلى الألمب وآبا
49
فعدا الشيخ راجلا وأنابا
إيذيوسا فظل عند العجال
عانيا في جيادها والبغال
ومضى يقصد ابن فيلا فألفا
ه تنحى وعنه أنأى الصحابا •••
ما لديه غير الفتى أفطميذ
وكذا فرع آرس ألقميذ
كان عن زاده ورشف النبيذ
قام والزاد لا يزال لديه
وهما قائمان بين يديه
كلهم ما رأوه فانسل وانص
ب على ركبتي آخيل انصبابا •••
ويديه اللتين كم من فتى جل
من بنيه أبادتا قبل قبل
دهشوا عندما على الفور أقبل
دهشة القوم من وفود غريب
ساقه فادح القضاء المريب
قاتلا من بلاده فر يلجا
لديار امرئ تعلى جنابا
50 •••
فأجالوا الأبصار باستعجاب
وهو ألقى خطابه باكتئاب: «يا ابن فيلا مقرب الأرباب
اذكر اذكر بشيبتي والدا لك
درك العجز آه مثلي أدرك
رب جار أصابه ببلاء
وهو لا عون صد عنه المصابا •••
إنما للسرور يلقى سبيلا
ذاك إن أبلغوه حيا آخيلا
فيرجي له معادا جميلا
ليراه من بعد طول اغتراب
وأنا آه ألتظي بالتهاب
كم فتى باسل بإليون لي كا
ن فطرا بادوا وأضحوا ترابا •••
عندما جاءت الأخاءة بحرا
حسبوا لي خمسين عدا وحصرا
من نساء شتى وتسعة عشرا
عصبة إخوة أشقاء كانوا
جلهم بالجهاد للحتف دانوا
واحد ظل منهم بذياد
عن سرانا يقي البلاد الخرابا •••
ذاك هكطور من قتلت أخيرا
وهو يحمي ذماره والعشيرا
ذاك ما ساقني هنا مستجيرا
فأممت الأسطول في ذا السبيل
ولقد جئت بالفكاك الجزيل
فسراة العلى آخيل اتقي وار
فق بحالي واذكر أباك اهتيابا •••
لا جدير في الخلق بالرفق مثلي
لا ولا في الورى امرؤ ذل ذلي
هذه الكف أس بؤسي وخذلي
وبها ابني أضحى قتيلا جديلا
وأنا قد قبلتها تقبيلا»
51
فبذا الشيخ هاج مدمع آخي
ل لذكرى أبيه فيلا اكتئابا •••
فبرفق أنآه عنه وأجرى
عبرات سحت على الفور حرى
فكلا القيمين ناح لذكرى
ذا لهكطور ساجدا لآخيلا
وآخيل فطرقل يبكي وفيلا
لبثا ينحبان ثمة حتى
لهما اهتزت السقوف انتحابا •••
وآخيل لما روى بنحيبه
غله قام مغضيا عن كروبه
أنهض الشيخ رافقا بمشيبه
وله وجه الخطاب فقالا: «إي نعم سامك القضاء وبالا
كيف قل لم تخف فجئت إلى الفل
ك وحيدا لمن بنيك انتابا •••
لك قلب مثل الحديد الصليب
فانهض اجلس ولنبق طي القلوب
غصص النفس لاشتداد الخطوب
ليس يجدي بكاؤنا والنحيب
فالرزايا لكل مرء نصيب
ليس يخلو سوى بني الخلد من ه
م ولكن لنا أعدوا العذابا •••
فبأعتاب زفس قارورتان
ذي لخير وذي لشر الهوان
فيهما كل قسمة الإنسان
فالذي منهما مزيجا أنالا
زفس يلقي خيرا ويلقي وبالا
والذي لا ينال إلا من الش
ر فتنتابه الخطوب انتيابا •••
بطواه يطوي البلاد كليلا
تائها في عرض الفلاة ذليلا
من بني الخلد والورى مخذولا
52
فلفيلا الأرباب خير الهبات
أجزلوا مذ بدا لهذي الحياة
فاق جاها وثروة وعلى المر
ميد أضحى قيلا مطاعا مجابا •••
ولئن كان فانيا وابن فان
أنكحوه إلاهة ذات شان
وعلى ذا منوه بالأشجان
بحماه لم يعط قط بنينا
بعده في بلاده يحكمونا
فرعه واحد سيقضي قريبا
غير مجد مشيبه حين شابا •••
كيف أجدي وقد شططت ديارا
وبإليون قمت والهول دارا
لك أهمي وآلك الأكدارا
وكذا أنت فد روى الراوونا
لك يا شيخ طالعا ميمونا
كنت ذا دولة ومال وأبنا
ء بشرخ الصبا سموا أنجابا •••
من ذرى لسبس مقر مقار
لفريجا لجرف هذي البحار
53
سدت جم القوى رفيع المنار
إنما منذ ذا القتال الوبيل
لا ترى غير قاتل وقتيل
فاعتصم بالعزاء لا تجعل الضي
م أسى فيه تقطع الأحقابا •••
ليس يجديك حزن هكطور نفعا
لن تقيمنه بذرفك دمعا
54
رب خطب إليك من بعد يسعى»
55
قال يحكي فريام آل الخلود: «يا ابن فيلا لا تدعني للقعود
إن هكطور في خيامك لا قب
ر يواريه في التراب احتجابا •••
أعطنيه حتى بعيني أراه
وجزيل النفائس اقبل فداه
فبها قد أتيت أبغي شلاه
منك يا من حيا قد استبقاني
انظر النور ساطعا بالأمان
فبها اهنا عساك ترجع للأو
طان من بعد ما نأيت اغترابا» •••
عند هذا آخيل أحدق شزرا
قال: «يا شيخ لا تغظني قسرا
لك هكطور سوف يعطى فصبرا
بنت شيخ البحار أمي أتتني
من لدى زفس أمره بلغتني
وأنا عالم بأن إلاها
بك حتى الأسطول جاء فغابا •••
أي مرء ولو بشرخ الشباب
يخرق الجيش قاصدا أبوابي
عن عيون العيون طي الحجاب
أو أزلاجنا له يتهيا
دفعها اصمت إن شئت تلبث حيا
لا تهجني فزفس أعصي ولا أر
عى ذليلا هما وشيخا مصابا»
56 •••
جزع الشيخ للوعيد مطيعا
وآخيل كالليث هب سريعا
غادر الخيم آمرا متبوعا
معه من رفاقه تبعان
بعد فطرقل أقرب الفتيان
أفطميذ وألقميذ أخو العز
م جميعا عدوا وجازوا البابا •••
ذلك الفيج أدخلوا وأحلوا
مجلسا والبغال والخيل حلوا
ومن المركب الرياش استقلوا
غير بردين شائقين جمالا
وشعار مزخرف يتلالا
رام آخيل أن يكفن هكطو
ر بها عندما يتيح المآبا •••
والجواري لغسل هكطور نادى
ولتطييبه هناك بعادا
خشية أن يرى الأب ابنا أبادا
فيثور الأوار ضمن فؤاده
وآخيل يشتد داعي اشتداده
وبه يعمل الظبي لا يبالي
أنهى زفس أم أنيل العقابا •••
غسلته وطيبته الجواري
وببرد كفنه وشعار
57
وآخيل ألقاه خلف الدار
فوق نعش وذان باستعجال
رفعاه لظهر كبرى العجال
عند هذا بكى آخيل وفطرق
ل دعا قال: «لا تسمني عتابا •••
لا تغظ إن بلج آذيس ينمى
لك أني أعدت هكطور رغما
فأبوه أدى الفكاك الأتما
وأنا منه سهمك المعتادا
سوف أبقي» وللصريفة عادا
58
حل في عرشه البهي لدى الحا
ئط يلقي ألفاظ نطق عذابا: ••• «لك يا شيخ قد أعيد فتاكا
وهو في نعشه فنل مبتغاكا
فإذا الفجر بكرة وافاكا
فمليا تراه عند المعاد
إنما الآن حان وقت الزاد
فنيوبا لم تسه عن زادها في
صرحها مذ أصابها ما أصابا
59 •••
ولدها اثنا عشر بريع الخياة
فتية ستة وست بنات
فتكت أرطميس بالغادات
وبقوس اللجين فيبوس أردى
وأباد الفتيان غيظا وحقدا
ذاك إذ فاخرت نيوبا لطونا ال
حسن يوما بضنوها إعجابا
60 •••
فلها اثنا عشر وتلك اثنان
إنما قد أفناهم هذان
أنهرا تسعة بموت الهوان
لبثوا لا قبر فزفس جهارا
مسخ الناس حولهم أحجارا
وسراة الخلود عاشر يوم
دفنوهم والأم تجرع صابا •••
شعرت بالطوى بجهد البكاء
وهي للآن تلتظي بشقاء
61
نالها من لدى سراة السماء
بعد أن أصبحت بسيفيل صخرا
بجبال شم يروعن ذعرا
حيث مثوى الحور اللواتي على جر
ف أخلوس لها الرقص طابا •••
وكذا نحن زادنا نأتيه
وابنك القرم باكرا تبكيه
عندما للبلاد ترجع فيه
فهناك الدموع ما شئت تهمر»
ثم شاة بيضاء أقبل ينحر
وذووه من بعد أن سلخوها
أربوها وسفدوا الآرابا
62 •••
واشتووها بلاهب النيران
ثم مدوا الشواء فوق الخوان
والفتى أفطميذ للضيفان
وزع الخبز بالقفاع امتثالا
وآخيل اللحوم قسم حالا
والأيادي مدت إلى الزاد حتى
أنفوا الزاد جملة والشرابا •••
وابن دردانس آخيل تأمل
يعظم القد والجمال المكمل
63
ومحيا الأرباب إن هو أقبل
وآخيل فريام أعظم قدرا
لوقار ومنطق زان فكرا
لبثا برهة وكل بكل
محدق مكبر له استعجابا •••
ثم فريام قال: «آخيل دعنا
بلذيذ الهجوع ذا الحين نهنا
فأنا لم أغمض لعيني جفنا
مذ قضى هالكا بساعدك ابني
بل ببثي ما زلت أشقى بحزني
أتلوى على الدمال بصحن ال
دار أصلى لظى الأسى اللهابا •••
إن أذق زادك الذي لي تهيأ
أو تراني رشفت كأس الحميا
فإلى الآن لم أذق قط شيئا»
فآخيل في الحال أصدر جهرا
للحواشي واللسبيات أمرا
أن يعدوا في الباب فرشا ويلقوا
لحف البرفير الحسان قشابا •••
ويمدوا فوق الفراش الزرابي
وعليها مكثف الأثواب
64
فالجواري جرين للأعتاب
معهن المصباح للباب رحن
وفراشين في المجاز طرحن
ولفريام قال إذ ذاك آخي
ل يريه مخافة وارتيابا: ••• «أيها الشيخ خارجا نم قريرا
خشية أن تلقى بخيمي أميرا
قادما في الدجى هنا مستشيرا
فهنا في أبحاثنا نستفيد
ذاك عرف جرى عليه الصيد
فإذا ما رأوك في الليل أتري
ذ درى والأمور باتت صعابا
65 •••
ولعل المليك يرجي الفكاكا
فقل الآن لي صريحا مناكا
66
كم نهارا تبغي لدفن فتاكا
قل فنفسي أصد عن أهوائي
وأرد السرى عن الإبلاء»
فعلى ذا فريام وهو يحاكي
بوقار ربا مهيبا أجابا: ••• «إن تبح أن حفلة الدفن تجرى
تلك آخيل منة منك تترى
قد حصرنا تدري بإليون حصرا
والمدى شاسع لقطع الوفود
بالرواسي والرعب هد جنودي
ولنا للبكاء تسعة أيا
م بها نذرف الدموع انسكابا •••
ثم يوم للدفن والإيلام
ثم يوم للرمس والإتمام
وإذا ما اقتضت دواعي الخصام
نتهيا للحرب إن نأت فجرا
بعد هذي الأيام ثاني عشرا»
قال: «ما شئت فليكن وبهذا ال
حين نلوي عند الحروب الحرابا» •••
ثم يمنى فريام أمسك عهدا
لوفاق جرى وأبرم عقدا
67
خشية أن يسومه الرعب جهدا
عند هذا فريام والفيج قاما
وبظل الرواق بالأمن ناما
وآخيل في عزلة بحماه
وبريسا طيب الهجوع استطابا •••
وجميع الأرباب والناس طرا
هجعوا والظلام أسبل سترا
إنما ظل هرمس لا يكرى
فاكرا في فريام كيف يبين
عن حمى القوم لا تراه العيون
فعلى رأسه استقر ونادا
ه: «أيا شيخ هل أمنت الطلابا •••
نمت بين العدى بأمن آخيل
ولقد جدت بالعطاء الجزيل
لافتكاك ابنك الكريم النبيل
إن تلاقي هنا أغاممنونا
والسرى كدت ولدك الباقينا
عنك يعطونه ثلاثة أضعا
ف الذي قد أديت مالا لبابا»
68 •••
قام فريام ينهض الفيج رعبا
ولشد العجال هرمس هبا
وبها جد ينهب السهل نهبا
لا يراهم من ذلك الجيش رائي
فأتوا آمنين مجرى الماء
فوق جرف فيه تدفق زنث ال
منتمي نشأة لزفس انتسابا •••
لأعالي الأولمب هرمس راحا
وبدا برقع الجساد صباحا
فهنا الشيخان استباحا النواحا
ثم حثا الجياد نحو البلاد
وبغالا قلت جديل الجلاد
جريا لا يراهما بعد مرء
أو فتاة في الأهل حيث اجتابا •••
بهما ما درى بذاك المجال
غير كسندرا فتاة الدلال
من تجلت كعفرذيت الجمال
أشرفت من فرغام فوق الوهاد
فأباها رأت وذاك المنادي
وأخاها رأت على نعشه في
ه اذلعبت بغاله إذلعبابا
69 •••
ولولت والدموع ملء المآقي
ثم جدت تصيح في الأسواق: «يا رفيقات يا خيار الرفاق
إن تكونوا حييتم هكطورا
وهو حي بعوده منصورا
وجذلتم بملتقاه جميعا
فانهضوا رحبوا به ترحابا» •••
أكبروا الخطب والأسى والوبالا
وإلى الباب بادروا استقبالا
كلهم كلهم نسا ورجالا
وأمام الجميع زوج حليله
أعظمت خطبه وأم جليله
بعويل وقطع شعر وندب
جاءتا النعش تلمسان النطابا
70 •••
وحواليهما الجموع تبوح
بأساها وبالنحيب تصيح
أوشكوا كل يومهم أن ينوحوا
بين تلك الأبواب من حول نعشه
إنما الشيخ صاح من فوق عرشه: «افتحوا لي السبيل للصرح من ث
م اسكبوا الدمع فوقه تسكابا» •••
فله وسعوا الطريق فجدا
وأتى القصر خلفه القوم حشدا
وضعوا الميت فوق نعش أعدا
وأقاموا حوليه ندابينا
بشجي الأنغام توري الشجونا
71
ينشدون الرثاء بين نساء
وفق ذاك النشيد نحن كئابا •••
وانبرت أولا فعم العويل
أنذروماخ والدموع تسيل
فعلى رأسه ترامت تقول: «مت بعلاه بالشباب النضير
وأنا أيم بهذي القصور
وهنا الطفل طفلنا ونتاج ال
حزن لن يدركن آه الشبابا •••
قبل ذاك الزمان خلت الديارا
أصبحت قفرة وباتت دمارا
إن تمت لا سواك يحمي الذمارا
وجميع البنين والأطفال
والعذارى والمحصنات الخوالي
سوف يمسين في الخلايا سبايا
وأنا بينهن وا أوصابا •••
وكذا أنت يا بني ستمسي
حيث أمسي تعنو بذل وبؤس
لفتى ظالم عتا ذي بأس
أو عدو سيم الوبال الثقيلا
يتوخى لك الحمام الوبيلا
بك يلقي من فوق برج فيشفي
غلة كادت النفوس الغضابا •••
بابن هكطور يشتفي في انتقام
لأب أو أخ رمى أو غلام
فهماما قد كان أي همام
ولكم باسل بجيش الأعادي
كدم الأرض دونه في الجهاد
72
فلهذا بكته طرواد طرا
وعليه الفؤاد بالبث ذابا •••
جل عن واجب التأسي أساكا
ولقد هد والديك رداكا
إنما لي فوق الجميع شجاكا
73
آه لو فهت لي ببعض الكلام
تبسط الكف لي أوان الحمام
لتذكرته نهاري وليلي
ودموعي تنصب عمري انصبابا» •••
ثم غصت بفائض الزفرات
والعذارى يجدن بالعبرات
ثم صاحت إيقاب: «وا حسراتي
وا أعز البنين وا هكطورا
كم رعتك الأرباب حيا قريرا
وهي من بعد فاجعات المنايا
بك تعني تجلة وثوابا •••
بأقاصي البحار في إمبروس
أو بساموس أو ربى لمنوس
باع من فتيتي آخيل البئوس
كل من في يديه أضحى أسيرا
إنما أنت مذ رماك مغيرا
بك ما زال طائفا حول رمس
لخليل أنفذت فيه الذبابا
74 •••
كل هذا لم يحي ذاك الخليلا
وأمامي أراك رطبا جميلا
مثلما لو ذا الحين رحت قتيلا
مثل من فيبس أباد بسهم
دق عن صولج الحنية يرمي»
75
وعلا النوح ثم هيلانة ثا
لثة ولولت تزيح النقابا: •••
يا أحم الأصهار إلف الوداد
أعلق الأهل كلهم بفؤادي
لم أر مذ عشرين عاما بلادي
منذ فاريس مجتبى الخالدينا
ساقني قادما إلى إليونا
ليتني قبل أن أفارق شعبي
وبني أسرتي انشعبت انشعابا
76 •••
شأنك الرفق بي لقد كان دوما
قط ما سمتني المهانة يوما
وإذا كادني سبابا ولوما
أي صهر أو زوجه أو شقيقه
أو حماتي إيقاب تلك الشفيقه (غير فريام من بدا كأب لي)
كنت رفقا عني تزيح السبابا •••
سوف أبكيك سوف أبكي شقائي
ليس لي راحم وإلف ولاء
قد قلاني الجميع فوق بلائي»
77
وبكت والجموع ناحت جميعا
ثم فريام صاح فيهم سريعا: «يا سراة الطرواد قوموا فسيروا
واجمعوا وافر الوقود احتطابا •••
لا تخافوا من الأخاءة غدرا
فآخيل لي قال أن لن يكرا
قبل فجر يلوح ثاني عشرا»
أسرعوا جملة لشد البغال
وقوي الثيران حول العجال
ثم ساروا بهن فورا وجدوا
وإلى السور أقبلوا أسرابا •••
أنهرا تسعة بجمع الضرام
لبثوا ثم عاشر الأيام
رفعوا الميت والعيون هوام
فرق ذاك الوقود ثم النارا
أضرموها به تؤج أوارا
ولهم حين لاح ورد بنان ال
فجر من حوله أقاموا عصابا •••
حيث هبت لواهب النيران
أخمدوها بصرف خمر الدنان
ولفيف الإخوان والخلان
جمعوا كل أعظم الميت جمعا
بكئيب الفؤاد يذرون دمعا
أودعوها من ثم حق لجين
وكسوة برفيرهم جلبابا •••
أنزلوها في حفرة حفروها
وبجلمود صخرهم طمروها
ثم شادوا الضريح إذ دفنوها
وحواليه أوقفوا الأرصادا
من سراة السرى قروما شدادا
خشية من عدوهم أن يفاجي
بغتة حين غفلة واحتسابا •••
وإذ القبر أكملوا وأتموا
صرح ذاك المليك فريام أموا
حيث حوليه للعزاء انضموا
ولهم هيأ المليك طعاما
كان في مأتم الفقيد ختاما
ذاك ما كان من مناحة هكطو
ر الذي روض الجياد الصلابا
78
تتمة حوادث الإلياذة
يتشوف القارئ وقد أتم تلاوة الإلياذة إلى الإلمام بمآل الأعيان من أولئك الرجال، وهاتيك النسوة، وما كان من عقبى الحرب المضطرمة بين الإغريق والطرواد، مما هو مروي في الأثر.
بنيت الإلياذة على غيظ آخيل، فأخذ الشاعر بجميع أطراف ذلك الغيظ، حتى إذا قضى وطره استتم خبره ختم الكلام.
وإننا موردون الآن بأوجز عبارة ما كان من خاتمة الحرب ومصير كبار القوم.
لما انقضت الموادعة استأنف الفريقان القتال؛ وإذ أعيت الإغريق الحيلة في فتح إليون لجأوا إلى خدعة هيأها لهم داهيتهم أوذيس، فصنعوا حصانا كبيرا من خشب على شكل كبش مما كان يستعمل في الحروب، ونصبوه لدى أبواب البلد، وفيه الكماة المدججون بالسلاح، ومن جملتهم صاحب الخدعة وذيوميذ ونيفطوليم ابن آخيل، وكان قد لحق بقومه في أخريات أيام الحرب، وهو بعد صبي، ثم تظاهروا بالسأم والملل والتأهب للانصراف فانخدع الطرواد وخرجوا فأدخلوا الحصان، فلما كان الليل خرج منه رجال كمينه وقتلوا الحراس وفتحوا الأبواب، فدخل الإغريق البلد ودمروه واستباحوه نهبا وقتلا وسبيا، ولم ينج إلا نفر قليل ممن لاذ بالهزيمة.
أما آخيل فقتل قبل فتح البلد بسهم رماه به فاريس فأصابه بعقبه، فتنازع أوذيس وإياس الكبير على سلاحه ففاز به أوذيس فغيظ أياس وانتحر كيدا.
وأما سائر الزعماء فتفرقوا وعادوا كل إلى بلاده ولكنهم تجرعوا مضض الأهوال وهلك معظمهم.
فأغاممنون غدرت به زوجته ومعشوقها اغستوس، وكان قد استعمله أغاممنون على بلاده أثناء غيابه.
وأخوه منيلاوس رجع بامرأته هيلانة، فوصل بلاده بعد عناء ثمانية أعوام، ولم يقم طويلا حتى مات.
وذيوميذ كاد يصيبه من غدر زوجته ما أصاب أغاممنون لو لم يلجأ على الفرار، فشخص إلى إيطاليا بشرذمة من أتباعه وبنى فيها عدة مدائن.
وإياس الصغير عصفت الريح بسفائنه، وهو راجع بها فأغرقتها، فلاذ إلى صخر وقف عليه، ثم ما لبث الصخر أن انشق تحت قدميه فمات غرقا.
وأوذيس لعبت بسفنه العواصف فهام عشرة أعوام على وجه المياه في حديث طويل بنى عليه هوميروس منظومته «الأوذيسية»، وكانت امرأته بديعة الجمال طاهرة الذيل فطمع بها عظماء قومها، فحاولت وطاولت إلى أن عاد زوجها فشكت إليه أمرها فقتلهم جميعا، ومات أوذيس قتيلا بيد ابنه تليغون قتله في معركة وهو لا يعلم أنه أبوه.
ونسطور عاد إلى بلاده سالما فقضى بقية أيامه بأمن وسلام.
أما فريام ملك طروادة فذبحه نيفطوليم بن آخيل أمام الهيكل بعد فتح إليون، وابنه فاريس مات قتيلا قبل الفتح.
وزوجه إيقاب كانت في سهم أوذيس عند اقتسام السبايا فاسترقها.
وابنته كسندرا كانت من سبايا أغاممنون.
وكنته أنذروماخ امرأة هكطور استأثر بها ابن آخيل، وعاد بها إلى بلاده وتزوجها ثم طلقها، وأزوجها هيلينوس أحد أبناء فريام، وأما ابنها استياناس فألقى به ابن آخيل عند فتح البلد من شاهق، كما كانت تقول متشائمة وهي تندب هكطور (ن 24).
وهيلانة بقيت مع منيلاوس في إسبارطة إلى أن توفي فاضطرت إلى مغادرة البلاد، فذهبت إلى رودس فشنقتها إحدى أرامل الأبطال الذين هلكوا بحصار إليون.
وأوفر رجال القومين حظا وأحسنهم منقلبا كان أنياس بطل منظومة فرجيليوس، فإنه تمكن من الفرار وأسس دولة كبيرة كما تقدم (ن 20).
رسم وهمي للحصان الخشبي الذي اصطنعه أوذيس.
هوامش
অজানা পৃষ্ঠা