ইব্রাহিম কাতিব
إبراهيم الكاتب
জনগুলি
في هذا كان إبراهيم أيضا يفكر تلك الليلة، وهو مضطجع على سريره في الظلام، وكان لا يستريح إلى النور إذا ثقلت على كاهله وطأة الحياة، أو ألح عليه إحساس أو خاطر، كأنما يخشى أن يفضح النور له سرا، أو يهتك لما يخفيه سترا، وكان امرءا لا ينفك يغالب نفسه حتى يقهرها أو تقهره قبل أن يستسلم لعاطفة أو فكرة، وكان مذ أوى إلى مخدعه، يدخن سيجارة في إثر سيجارة، وكان يشعل الجديدة من القديمة. ولا يجد للدخان طعما، ولا يفيد منه سرورا، وأراد أن يشغل نفسه أو يلهيها عما يكظ شعابها، فشرع يلتمس تعليلا لفتوره هذا عن التذاذ الدخان، فزعم لنفسه أولا أن الحواس - ولا سيما حاسة النظر - هي التي يرجع إليها الارتياح إلى التدخين وأن المرء إنما يعتاد في الحقيقة أن يرى الدخان يتلوى ويعقد سحابات صغيرة بعد أن ينفخه بفمه، وأن يشعر بالسيجارة بين إصبعيه وبين شفتيه، ولكن المهم هو رؤية الدخان، لأن العين أهم الحواس وأوثقها اتصالا بالدماغ. وأقدرها على إفادة الصور الذهنية.
ولكن هذا التعليل - على قربه من الصواب - لم يقنعه، ووجد إبراهيم نفسه يتساءل: «هب النور مضاء، ومعي.. شوشو، أكنت أنظر إلى الدخان خارجا من فمي ومتلويا في جو الغرفة، أم إليها هي» وغضب لما رأى نفسه يكر إلى ما يريد أن يتلهى عنه، وقال لي عناد: «حسن. فلنواجه الموضوع».
وواجهه في حزم وشجاعة واستعداد لاحتمال النتائج: لقد تحول حبه لشوشو من أخوي إلى جنسي، ذلك ما لا شك فيه، فهل له أن يأمل أن يفوز بها، وأن يقنع أهلها أن يزوجوه منها؟ كلا! فإن في الطريق تلك البنت الخبيثة التى لا تحجم عن كل شر إذا هم أهلها بأن يقدموا شوشو عليها. وستكون النتيجة أن تشقى شوشو، وهي ستشقى على الحالين، ولكن أهون الشرين أن تيأس من الآن، والعاطفة غضة لم يستحفل أمرها، ولم يستعص علاجها.
وهو؟ أوه. ليست هذه بأول عاطفة احتاج أن يخنقها! وإنه لعذاب. وإنه ليحس كأنما يقتلع أحشاءه مع العاطفة التى يحاول أن ينزعها من قلبه. وطاف برأسه قول ابن الرومي: «وقع السهام ونزعهن أليم»
فقال: «صدق المسكين»، وود في هذه الساعة لو أن معه ما طبع من ديوانه، إذا لقضاها ليلة طيبة مع هذا الشاعر المنكود الحظ، الذي ألهبته الحياة بسياط من نار، وكربته الخواطر فراح يتساءل: «ما الحب؟ وما الشهرة والخمول؟ وما السعادة والشقاء؟ وما الحياة نفسها»؟ وأعياه أن يهتدى إلى جواب مريح - وأي جواب آخر سوى أنها عناء وباطل ليس يجدى. وليس هذا بجواب. وإنما هو همسة الضعف، ووسوسة العجز. وصحيح أن الحياة لا فرق عندها بين سعيد وشقي، ومجدود ومكدود، ومعروف ومغمور، وعاشق وخلي: وحيوان ونبات وجماد. ولكن هناك فرقا بين إحساسات المرء بوقع الحياة، والمرء ليس الحياة حتى يطلب منه أن يكون نظره إلى الأشياء كنظرها هي، واعتباره لها كاعتبارها. «والخلاصة»؟.. وجلس إبراهيم على السرير ورد على سؤاله: «والخلاصة: أني لن أذوق النوم في ليلتي هذه على ما أرى». وضايقه أن يكون أكبر ظنه أن يقضي الليل المقرور أرقا، ويناجي نفسه ويحاورها ويداورها على غير طائل. وتوهم أن ليس عليه إلا أن يعتزم النوم وإلا أن يريده فينام. فانطرح على السرير وتغطى وأغمض عينيه وراح يتنفس بانتظام محاولا أن يتقي التفكير في أي شيء. ولكن جهد اتقاء التفكير كان كجهد التفكير نافيا للنوم، لأنه جهد على أية حال، فخطر له أن يوحي إلى نفسه أنه سينام، وجعل يكرر «سأنام» حتى قالها أكثر من ثلاثين مرة، ثم ضحك فجأة وقد تذكر أنه كان مفتوح العينين وهو يردد هذا اللفظ. ولم يكن ضحكه إلا حركة عصبية لا عن سرور نفس ومراح، فما عتم أن تجهم وهو يسأل نفسه: وبعد؟ وضاق صدره إذ لم يسمع مجيبا له على سؤاله. فطرح الغطاء بعنف كأنما كان هو علة أرقه، ووثب على السرير حتى إذا استقر على رجليه تلفت وقال: «ترى أين المصباح؟ ولم يسعه على كل ما به إلا أن يبتسم. أترى تجربة الأمس ستعاد؟ البقرة البارحة - ترى ماذا صنع الله بها - والليلة المصباح؟ وألفى نفسه يعجب لحياة الريف التي لم ير منها شيئا إلى الآن، ويقيسها - متحاملا عليها - إلى حياة المدن. ولكن دقته وما فطر عليه من العطف الذي تؤدي إليه سعة الأفق والقدرة على الإحاطة بالجوانب المختلفة - ردته إلى الإنصاف. فمضى يقول لنفسه إن المفروض أن المرء في المدن يصنع ما بدا له، ولكن استبداد العادات والتقاليد يقضي على كل نزعة إلى التحرر، ولا يدع للمرء مفرا من النزول على حكم هذا العادات والتقاليد، أما هنا في الريف فالحياة أشبه بمناوشات مستمرة، فالمرء يجد نفسه مثلا يتناول طعامه وحده في آية ساعة. وقد تظمأ في الليل فتجد القلة فارغة أو لا تجد القلة على الإطلاق. وهذا الشيخ علي، على كثرة ما أنفق على بيته هذا - بناء وتأثيثا - لم يعن بأن يعلق مصباحا في الغرفة يتدلى من سقفها، فمرة ينام المرء على مصباح يضاء بالبترول، ومرة لا يجد إلا قنديل زيت أو شمعة، وقد لا يجد شيئا من هذا كله. ويذهب المرء إلى الحمام فلا يستطيع أن يوصد الباب، إذ لا مفتاح ولا رتاج، وهذا عجيب، إذا ذهبت تعتبر أن الشيخ علي كلف نفسه أن يجهز الحمام بحوض كبير، وقد تكون في الحوض عاريا فيفتح الباب خادم أو واحد من هؤلاء الفلاحين الذين لا يدري إبراهيم أهم خدم أم أقارب أم من عمال الأرض، والواحد يذهب إلى حيث يشاء في الليل أو النهار، فلا يسأل أحد فيما يرى إلى أين أو لماذا أو متى تعود؟ وأدهش إبراهيم أنه لا يعلم أين يبيت هؤلاء الرجال الذين يبصرهم في النهار رائحين غادين، وداخلين خارجين، وأدهشه فوق ذلك أنه لا يرى أحدا يقلقه اختفاؤهم دفعة واحدة، بل لا أحد يذكرهم أبدا، ولم يذكر إبراهيم أنه رأى أحدا يلعب شيئا خارج البيت - كل ما رأى من الألعاب، وهو لايعدو الورق أو الطاولة، يؤدى داخل البيوت وعلى الكراسي أو الوسائد. ولم يعجب إبراهيم لهذا فإن الزراعة رياضة كافية. وما حاجة الفلاح الذي يقضي يومه عاملا في الحقل إلى كرة أو متوازيين؟ ولم يسع إبراهيم إلا أن يعترف على الرغم من كل ذلك بأنه يشعر أن هناك روحا تمسك البيت وتحفظ عليه وحدته - روحا أو لعلها فتاة في ثوب قان من الصوف.. آه شوشو مرة أخرى! تالله ما ألح هذا الخاطر وأشد تشبثه بالنفس! أتراه هجر السرير في هذا الليل المقرور ليعود إلى التفكير فيها؟ أو لم يفرغ من هذا الأمر؟ ألم ينته منذ لحظة إلى وجوب القنوط والإقناط؟
وقطع عليه تفكيره صوت تهامس خافت. فأرهف أذنيه وتسمع، وكانت حاسة السمع عنده قوية. فخيل إليه إن إنسانا يخلع نعليه. فهز رأسه ومشى على أطراف أصابعه إلى الباب ووقف بجانب الحائط يترقب ويفكر. ما العمل إذا كان هذا الطارق لصا؟ ليس معه سلاحه يدافع به عن نفسه، ولا هو قوي مفتول الساعد فيستغني بقوته عن السلاح، فماذا يصنع؟ والهم في هذه اللحظة أن يستغل الظلمة، فعاد إلى السرير فسحب اللحاف عليه وسواه كأنه نائم تحته ليوهم القادم، ورجع إلى حيث كان بجانب الباب واعتزم أن يدع اللص - إذا كان لصا - يدخل في سكون ومن غير أن يعترضه. وأن يتسلل هو فيخرج، وإذا وسعه فوق النجاة بنفسه أن يوصد الباب على الضيف الثقيل ويغلقه بالمفتاح، كان ذلك خيرا.
وسمع قرقعة كأنما داس اللص المحتمل على بندقة فارغة، فابتسم وقال لنفسه: «سيكون هذا الظلام عوني وحليفي»، لأن هذا الصوت الفرقعة تلته صرخة خافتة مكتومة، فحيره ذلك لأن هذا الصوت قد يند عن طفل أو امرأة أما عن رجل فلا. ونازعته نفسه أن يطل برأسه ولكنه استحمق هذا الخاطر فطرده، ولم يطل وقوفه وانتظاره فقد بدأ مصراع الباب - وكان مواربا - يتحرك ببطء شديد حتى لامس الحائط منه شيء فعض إبراهيم شفته وأدرك أن المفتاح من الداخل. إذا لن يوصد الباب على هذا الوغل؟ وليس من الحزم أن يعالج إخراج المفتاح والواغل منه قريب. فلم يبق إلا أن يترك كل شيء للحظ ولإلهام الموقف، وعليه أن يحافظ على هدوئه واتزان أعصابه ليتأتى له أن يتصرف بحكمة.
وأطل شيء كالكرة الحمراء فلصق بالحائط جدا، وحدق في هذه الكرة العجيبة والتي بدأت ترتفع حتى حاذت رأسه، وامتدت ذراع ليس لها كف ظاهرة، إلى الحائط الآخر؛ وكأنما اطمأن صاحب هذه الأعضاء الغريبة، فخطا بجرأة. فما أسرع ما غير إبراهيم ما كان قد صمم عليه، فأهوى إلى ساقي الداخل وجرهما بقوة فوقع صاحبهما على وجهه وندت عنه صرخة أيقن منها إبراهيم أن هذه امرأة. فحمد الله على أن حماه عار الفرار من امرأة؛ وحنق عليها لأنه كان يوشك أن يبدو لها جبانا، وتقدم إليها في ثبات وركلها برجله وصاح بها: «قومي أيتها اللعينة».
فتوسلت إليه المسكينة: «في عرضك يا سيدى. في عرضك».
فشد ذراعيها بعنف وقال: ماذا تصنعين هنا يا بنت الكلب؟ انطقي!
অজানা পৃষ্ঠা