فتقول أمي: «أي والنبي يا ابني، ندر علي يا مسرور لو رجعت تاني لأعملك صحفة سمك لوحدك!»
وعاد مسرور أخيرا. إنه مثل كل القطط، يأتي على السيرة. وقف على الساتر الخشبي قليلا كأنه يتعرف على الجو. فلما رآنا نشخص إليه مذهولين وندعوه ونطمئنه على نفسه، هرول يجري نحونا، وهات يا ناو، ناو ...
ولكن «مسرورا» كان قد تغير. صارت كبرياؤه المحبوبة مع الزمن شيئا حزينا مجروحا، وبدأ يميل إلى العزلة. كنت أعود إلى البيت فأفتش عليه في كل مكان حتى أعثر عليه: فوق السطوح، أو في بير السلم، رأسه بين ذراعيه، ونظرته كسيرة، وجسده ممدد كأنه أبو الهول. فإذا رآني مقبلا عليه يرفع عينيه الحزينتين الواسعتين إلي قليلا ثم يعود إلى إطراقه وصمته. وإذا انحنيت عليه لأصالحه وأربت على ظهره، وأتحسس فروته الناعمة، طفق يموء مواء متقطعا مبحوحا كأنه يريد أن يقول: لم لا تتركونني وحدي؟ واعتدنا مع الأيام أن نراه راقدا على الساتر الخشبي كأنه تمثال فرعوني صامت. حتى الأصناف التي كانت تعجبه لم تعد تحرك فيه ساكنا؛ فلا السمك ولا اللحم يؤثر فيه. وازداد عطف أمي عليه وكأنها تعتذر عن ذنبها في حقه. ولكنه لم يكن يزداد إلا نفورا. حتى أصبح كما قالت أمي في ربع حاله، جلد على عظم.
وانقلب حزنه وصمته مع الزمن عصبية وتحفزا، إذا اقترب أحد منه ليدلله أو يداعبه كشر عن أسنانه، وإذا زاد فيها وقف شعره كالإبر وتقوس ظهره، وزمجر وزام، وربما خربشه وعض يده. ولم يسلم أحد من شره. ولم يعد أحد يتجاسر على الاقتراب منه. وصار كما قالت أمي مثل ضبع الليل.
إلى أن كان يوم ارتكب فيه جريمته التي لا تغتفر. كانت لأمي صومعة كبيرة في حجرة الفرن. وضعت فيها الأرنبة الكبيرة التي ولدت سبعة صغار كالكتاكيت، كلها لحم في لحم. كانت ترعاها بنفسها، وتدس لها الأكل في الصومعة، وتغلق عليهم باب الفرن في عناية وحذر. لا لم تكن العرسة هي السبب، إن القط، بقدرة قادر، هو الذي اقتحم الصومعة ذات ليلة، ليلة أسود من وجهه، وراحت أمي تفتش على الأرانب الصغيرة. وتدس لها حزمتين من البرسيم وإذا بها ترى «مسرور» خارجا كالنمر المفترس، وفي فمه أرنبان. وجرت وراءه ولكنه كان قد اندفع أمامها كالوحش وهرب بفريسته إلى السطوح «الحقوا يا أولاد، القط أكل الأرانب!» وجرينا وراءه ولكنه كان قد أفلت من أيدينا. فعدنا إلى الصومعة نفتش على بقية الأرانب. كان القط قد أتى عليها جميعا، ليلة في ليلة، ولا من شاف ولا من دري.
كانت كل محاولة للصلح مع مسرور قد تبددت.
أصبحنا أمام وحش حقيقي، ومن يدري؟ إذا تركناه في هذه المرة فهل يقف عند حد؟ لقد أصبح حبيبنا وأملنا ولعبتنا هو عدونا الأول.
ووضعنا الخطط للقبض عليه. وكان أبي أكثرنا حماسا، وراح يردد قوله: ده مش قط. أنا عمري شفت قط بالشكل ده؟!
وظهر مسرور أخيرا. نزل على السلالم يتهادى بخطواته المتزنة. وما كان لأحد منا أن يتأخر أو يهرب، وتأهبنا للانقضاض عليه، كل واحد من ناحية، وفي يد كل منا ما يتيسر: غابة طويلة، أو مقشة. هجمنا عليه. كنت أنا الذي قبضت عليه، وبيدي هاتين اللتين طالما طوقتاه في حنان وضعته في زكيبة وأغلقتها عليه. وصاحت أمي: خذوه على طول على الترعة.
وحملت الزكيبة على ظهري، ومسرور يتلوى في داخلها كأنه وحش مقيد بالسلاسل. وسارت الخادمة ورائي، تمد يدها لتضربه على رأسه فيهبط إلى قعر الزكيبة وهو يموء مواء متقطعا مبحوحا.
অজানা পৃষ্ঠা