فالثواب والعقاب مقرران في جميع الأديان. ولهذا يسأل الفلاسفة الدينيون: ما نصيب الإنسان من الحرية في أعماله؟ هل هو حر في عمل الخير والشر كما يريد؟ وهل يكون حرا في أعمال الحياة من خلقت له الحياة؟ وإذا كان مسيرا في أعماله كما هو مسير في وجوده فكيف يحيق به العقاب أو كيف يحق له الثواب؟
إن العدل صفة من صفات الله سبحانه وتعالى. ومسألة الحرية الإنسانية في مذاهب الفلسفة الدينية هي مسألة التوفيق بين العدل الإلهي وبين الثواب والعقاب في الدار الآخرة أو في كلتا الدارين. •••
تلك خلاصة سريعة لمشكلات الفلسفة الإلهية كما عرضت لابن سينا في حياته وعرض لها في كتبه وأقواله. وقد حلها الفلاسفة الذين تقدموه وكان له فيها رأي مستقل عنهم في بعض الحلول. ويطول بنا الشرح لو تناولنا حلولهم كلها في التقديم لفلسفة ابن سينا وما استقل به عنهم من الآراء، فإنما نجتزئ هنا بحلول الفلاسفة الذين كانت بينهم وبينه صلة وثيقة من التمهيد والتعليم، وهم أفلاطون وأرسطو وأفلوطين والفارابي وبعض فرق الإسماعيلية وبعض المتفلسفة من قدماء الهند وفارس، وسنتبع هذا الفصل بإجمال حلول هؤلاء الفلاسفة في هذه المشكلات. (3) حلول الفلسفة
يعد أفلاطون أكبر الفلاسفة «الإلهيين» بين اليونان؛ لأنه أول من وضع بينهم مذهبا مفصلا يجعل «الفكرة» مقدمة على المادة، سابقة لها في المرتبة وفي الزمان.
ولكنه على هذا ليس بأول الفلاسفة الذين عالجوا البحث في مسألة الفكرة والمادة؛ لأنه نبغ في عالم الفلسفة بعد أن تقررت فيه آراء طاليس وفيثاغورس وبارمنيدس وهيرقليطس، وبعد أن ساهم كل منهم بحصته في محصول الحكمة الإلهية وورثها عنهم أفلاطون وتابعوه، فولد أفلاطون وطلاب الفلسفة يعرفون أن «الروح» موجود وأن المادة غشاء باطل لأنها تتغير ولا تستقر على حقيقة ثابتة، وأن «المركب» يتغير ولا يبقى على حالة واحدة غير «الجوهر البسيط» ... وأن المادة والروح عنصران مختلفان، وأن الجسد حجاب يحول بين العقل وبين الخلوص إلى عالم الكمال وهو عالم الروح، وأن الدنيا بأسرها توجد وتزول في دورات تتبعها دورات بغير انتهاء.
وهذا فضلا عما استفاده من أستاذه سقراط ورواه عنه في كتبه ومحاوراته، وهو طبقة واحدة تمثل لنا الفلسفة الإلهية كما وصلت إليه في جيل الأستاذ والتلميذ.
وقد تصرف هؤلاء الفلاسفة الأسبقون في الحكمة الإلهية بالرأي والاجتهاد، ولكنهم أخذوا جميعا من الديانات القديمة التي تلقاها اليونان مباشرة من بين النهرين ومصر وفارس والهند! أو اتصلوا بها من طريق الديانة «الأورفية» في آسيا الصغرى، وهي مزيج من ديانات الهند ومصر والمجوس؛ لأن الديانة الأورفية تشتمل على كل عنصر من عناصر العقائد التي لخصناها في الأسطر السابقة، ولا سيما الرياضة الروحية وبطلان المادة وتناسخ الأرواح، ففيها جرثومة حية لكل رأي قال به طاليس وبارميندس وهيرقليطس، ثم قال به بعدهم سقراط وأفلاطون.
ولا نرى في زبدة المحصول كله ما هو أحق بالتنويه في هذا الصدد من نتيجتين اثنتين: أولاهما، الاعتقاد بقصور المادة وعجزها عن الاستقلال بالحركة ونسبة كل حركة فيها إلى مصدر غير مصدرها، حتى قال «طاليس» بوجود روح في المغناطيس لأنه يحرك الحديد. وثانيتهما، الاعتقاد بالثنوية الروحية والمادية في الإنسان وفي الأرض والسماء ... فإن هاتين النتيجتين داخلتان في كل فلسفة يونانية أو غير يونانية، من ذلك العصر إلى أحدث العصور.
وسنرى موضع هاتين النتيجتين فيما يلي من كل حل من حلول الحكماء للمشكلات الفلسفية كما نلخصها بعد، وفي مقدمتها حلول أفلاطون. (3-1) أفلاطون
العالم والله
অজানা পৃষ্ঠা