10
وسهواته من المخلص الذي يأمن الريبة ولا يتكلف الاحتراس مع الناس.
إلا أن التمحل باسم الدين لم يكن بالنادر في ذلك الزمن، وقد عرفنا شواهده المكتوبة في كلام رجل من أهل العلم كالفتح بن خاقان صاحب قلائد العقيان، فإنه رضي عن ابن باجة فقال عنه إنه: «نور فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تتوجت بعصره الأعصار، وتأرجت من طيب ذكره الأمصار.»
ثم سخط عليه فقال: «هو رمد عين الدين، وكمد نفوس المهتدين ... نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم.»
فإذا جاز هذا من رجل كالفتح بن خاقان في رجل يحسن مسايرة الناس كابن باجة، فليس بالبعيد أن يصيب ابن رشد طائف من تلك التهم، وهو في تزمته وصدقه للعلم ومكانته العالية عرضة لنقمة الكاذبين والحاسدين.
ولا نعني أن كتبه لم يكن فيها ما يساء فهمه أو ما يفهمه المخالف فينكره، ولكننا نعني أن سر التهمة كلها بعيد من هذه العلل، وأن للنكبة باطنا غير ظاهرها، ليس من العسير أن نستشفه من مجمل أحواله وأحوال زمانه وأميره.
فمن مجمل أحواله أنه كان رجلا يحسن المساجلة ولا يحسن المنادمة، ولا يبالي تزييف لغة «البلاط» في سبيل تحقيق لغة العلم ورفع الكلفة من مجالس الباحثين فيه، ولو كانوا من الملوك والأمراء. ومما يصح أن يشار إليه من لواحق هذا أنه غفل عن مكانة الغزالي عند ملوك الموحدين، وهو أستاذ أستاذهم الأكبر، فرد عليه دفاعا عن الفلاسفة ، ولم يبال في هذا الدفاع أن ينسب إليه المغالطة.
ومن مجمل أحوال الزمن أنه كان زمن العداوات الدينية، وكانت أخطار الحروب فيه بين المسلمين والإفرنج على أشدها، فكان من أصعب الأمور على الحكام أن يتعرضوا لغضب العامة إذا وقع في وهم هؤلاء أن قاضيا من أعظم القضاة يشتغل بالعلوم التي يرتابون بها ويحسبونها من الكفر والضلالة، وقد اشتهر عن ابن رشد أنه كان مصادقا لأخي الخليفة، وتبين من تاريخ تلك الفترة أن المنافسة فيها على الملك كانت حربا ضروسا لا تنقطع في وقت من الأوقات، فلا يبعد أن ينكب الخليفة ابن رشد؛ اتهاما له بمشايعة أخيه، واتهاما لأخيه بمصاحبة الفلاسفة وإضمار الكفر والضلالة.
أما عفو الخليفة عن ابن رشد بعد ذلك فليس تفسيره بالعسير؛ فإنه قد عفا عنه عقب عودته من الأندلس إلى مراكش، وبعد زوال الغاشية ووضوح الحقيقة في ظنونه بأخيه وجلساء أخيه. وقد قيل إنه أقبل على الفلسفة التي تجنبها حينا فأكثر من الاطلاع على كتبها، فإذا وافق ذلك شفاعة الشافعين في الحكيم المغضوب عليه فقد وضح سر النكبة وسر العفو، ولم يكن فيه غريب غير مألوف من خلائق الملوك وخلائق الدهماء مع الحكماء والفضلاء.
هوامش
অজানা পৃষ্ঠা